سيرة ابن
هشام ت السقا خَبَرُ الْإِفْكِ فِي غَزْوَةِ بَنِي
الْمُصْطَلِقِ (سَنَةَ سِتٍّ) [1]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ
وَقَّاصٍ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ،
وَعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، قَالَ: كُلٌّ
قَدْ حَدَّثَنِي بَعْضَ هَذَا الْحَدِيثِ، وَبَعْضُ الْقَوْمِ كَانَ
أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضٍ، وَقَدْ جَمَعْتُ لَكَ الَّذِي حَدَّثَنِي
الْقَوْمُ.
(شَأْنُ الرَّسُولِ مَعَ نِسَائِهِ فِي سَفَرِهِ) :
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبَّادِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ، وَعَبْدُ
اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ
عَائِشَةَ، عَنْ نَفْسِهَا، حِينَ قَالَ فِيهَا أَهْلُ الْإِفْكِ مَا
قَالُوا، فَكُلٌّ قَدْ دَخَلَ فِي حَدِيثِهَا عَنْ هَؤُلَاءِ جَمِيعًا
يُحَدِّثُ بَعْضُهُمْ مَا لَمْ يُحَدِّثْ صَاحِبَهُ، وَكُلٌّ كَانَ عَنْهَا
ثِقَةً، فَكُلُّهُمْ حَدَّثَ عَنْهَا مَا سَمِعَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ
بَيْنَ نِسَائِهِ، فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ،
فَلَمَّا كَانَتْ غَزْوَةُ بَنِي الْمُصْطَلِقِ أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ،
كَمَا كَانَ يَصْنَعُ، فَخَرَجَ سَهْمِي عَلَيْهِنَّ مَعَهُ، فَخَرَجَ بِي
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(سُقُوطُ عِقْدِ عَائِشَةَ وَتَخَلُّفُهَا لِلْبَحْثِ عَنْهُ) :
قَالَتْ: وَكَانَ النِّسَاءُ إذْ ذَاكَ إنَّمَا يَأْكُلْنَ الْعُلَقَ [2]
لَمْ يَهِجْهُنَّ [3] اللَّحْمُ فَيَثْقُلْنَ، وَكُنْتُ إذَا رَحَلَ لِي
بَعِيرِي جَلَسْتُ فِي هَوْدَجِي، ثُمَّ يَأْتِي الْقَوْمُ الَّذِينَ
يُرَحِّلُونَ لِي وَيَحْمِلُونَنِي، فَيَأْخُذُونَ بِأَسْفَلَ الْهَوْدَجِ،
فَيَرْفَعُونَهُ، فَيَضَعُونَهُ عَلَى ظَهْرِ الْبَعِيرِ، فَيُشِدُّونَهُ
بِحِبَالِهِ، ثُمَّ يَأْخُذُونَ بِرَأْسِ الْبَعِيرِ، فَيَنْطَلِقُونَ
بِهِ. قَالَتْ: فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِنْ سَفَرِهِ ذَلِكَ، وَجَّهَ قَافِلًا، حَتَّى إذَا كَانَ
قَرِيبًا مِنْ الْمَدِينَةِ
__________
[1] زِيَادَة عَن أ.
[2] العلق بِضَم فَفتح: جمع علقَة، وَهِي مَا فِيهِ بلغَة من الطَّعَام
إِلَى وَقت الْغَدَاء.
[3] التهييج: كالورم فِي الْجَسَد.
(2/297)
نزل منزلا، فَبَاتَ بِهِ بَعْضَ اللَّيْلِ،
ثُمَّ أَذَّنَ فِي النَّاسِ بِالرَّحِيلِ، فَارْتَحَلَ النَّاسُ،
وَخَرَجْتُ لِبَعْضِ حَاجَتِي، وَفِي عُنُقِي عِقْدٌ لِي، فِيهِ جَزْعُ [1]
ظِفَارٍ، فَلَمَّا فَرَغْتُ انْسَلَّ مِنْ عُنُقِي وَلَا أَدْرِي، فَلَمَّا
رَجَعْتُ إلَى الرَّحْلِ ذَهَبْتُ أَلْتَمِسُهُ فِي عُنُقِي، فَلَمْ
أَجِدْهُ، وَقَدْ أَخَذَ النَّاسُ فِي الرَّحِيلِ، فَرَجَعْتُ إلَى
مَكَانِي الَّذِي ذَهَبْتُ إلَيْهِ، فَالْتَمَسْتُهُ حَتَّى وَجَدْتُهُ،
وَجَاءَ الْقَوْمُ خِلَافِي، الَّذِينَ كَانُوا يُرَحِّلُونَ لِي
الْبَعِيرَ، وَقَدْ فَرَغُوا مِنْ رِحْلَتِهِ، فَأَخَذُوا الْهَوْدَجَ،
وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنِّي فِيهِ، كَمَا كُنْتُ أَصْنَعُ، فَاحْتَمَلُوهُ،
فَشَدُّوهُ عَلَى الْبَعِيرِ، وَلَمْ يَشُكُّوا أَنِّي فِيهِ، ثُمَّ
أَخَذُوا بِرَأْسِ الْبَعِيرِ، فَانْطَلَقُوا بِهِ، فَرَجَعْتُ إلَى
الْعَسْكَرِ وَمَا فِيهِ مِنْ دَاعٍ وَلَا مُجِيبٍ، قَدْ انْطَلَقَ
النَّاسُ.
(مُرُورُ ابْنِ الْمُعَطَّلِ بِهَا وَاحْتِمَالُهُ إيَّاهَا عَلَى
بَعِيرِهِ) :
قَالَتْ: فَتَلَفَّفْتُ بِجِلْبَابِي، ثُمَّ اضْطَجَعْتُ فِي مَكَانِي،
وَعَرَفْتُ أَنْ لَوْ قَدْ اُفْتُقِدْتُ لَرُجِعَ إليّ. قَالَت: فو الله
إنِّي لَمُضْطَجِعَةٌ إذْ مَرَّ بِي صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ
السُّلَمِيُّ، وَقَدْ كَانَ تَخَلَّفَ عَنْ الْعَسْكَرِ لِبَعْضِ حَاجَتِهِ
[2] ، فَلَمْ يَبِتْ مَعَ النَّاسِ، فَرَأَى سَوَادِي، فَأَقْبَلَ حَتَّى
وَقَفَ عَلَيَّ، وَقَدْ كَانَ يَرَانِي قَبْلَ أَنْ يُضْرَبَ عَلَيْنَا
الْحِجَابُ، فَلَمَّا رَآنِي قَالَ: إنَّا للَّه وَإِنَّا إلَيْهِ
رَاجِعُونَ، ظَعِينَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ!
وَأَنَا مُتَلَفِّفَةٌ فِي ثِيَابِي، قَالَ: مَا خَلَّفَكَ يَرْحَمُكَ
اللَّهُ؟ قَالَتْ: فَمَا كَلَّمَتْهُ، ثُمَّ قَرَّبَ الْبَعِيرَ، فَقَالَ:
ارْكَبِي، وَاسْتَأْخَرَ عَنِّي. قَالَتْ: فَرَكِبْتُ، وَأَخَذَ بِرَأْسِ
الْبَعِيرِ، فَانْطَلَقَ سَرِيعًا، يطْلب النَّاس، فو الله مَا أَدْرَكْنَا
النَّاسَ، وَمَا افْتَقَدْتُ حَتَّى أَصْبَحْتُ، وَنَزَلَ النَّاسُ،
فَلَمَّا اطْمَأَنُّوا طَلَعَ الرَّجُلُ يَقُودُ بِي، فَقَالَ أَهْلُ
الْإِفْكِ مَا قَالُوا:
فارتعج [3] الْعَسْكَر، وو الله مَا أَعْلَمُ بِشَيْءِ مِنْ ذَلِكَ.
(إعْرَاضُ الرَّسُولِ عَنْهَا) :
ثُمَّ قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، فَلَمْ أَلْبَثَ أَنْ اشْتَكَيْتُ شَكْوَى
شَدِيدَةً، وَلَا يَبْلُغُنِي مِنْ ذَلِكَ
__________
[1] الْجزع: الخرز. وظفار: مَدِينَة بِالْيمن قرب صنعاء، وينسب إِلَيْهَا
الْجزع الظفاري.
[2] كَانَ صَفْوَان على ساقة الْعَسْكَر يلتقط مَا يسْقط من مَتَاع
الْمُسلمين، حَتَّى يَأْتِيهم بِهِ، وَلذَلِك تخلف.
(رَاجع الرَّوْض) .
[3] ارتعج الْعَسْكَر: تحرّك واضطرب. وَفِي ر: «ارتج» أَي اضْطربَ.
(2/298)
شَيْءٌ، وَقَدْ انْتَهَى الْحَدِيثُ إلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِلَى أَبَوَيَّ لَا
يَذْكُرُونَ لِي مِنْهُ قَلِيلًا وَلَا كثيرا، إِلَّا أَتَى قَدْ
أَنْكَرْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْضَ
لُطْفِهِ بِي، كُنْتُ إذَا اشْتَكَيْتُ رَحِمَنِي، وَلَطَفَ بِي، فَلَمْ
يَفْعَلْ ذَلِكَ بِي فِي شَكْوَايَ تِلْكَ، فَأَنْكَرْتُ ذَلِكَ مِنْهُ،
كَانَ إذَا دَخَلَ عَلَيَّ وَعِنْدِي أُمِّي تُمَرِّضُنِي- قَالَ ابْنُ
هِشَامٍ: وَهِيَ أُمُّ رُومَانَ، وَاسْمُهَا زَيْنَبُ بِنْتُ عَبْدِ
دُهْمَانَ، أَحَدُ بَنِي فِرَاسِ ابْن غَنَمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ كِنَانَةَ-
قَالَ: كَيْفَ تِيكُمْ، لَا يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ.
(انْتِقَالُهَا إلَى بَيْتِ أَبِيهَا وَعِلْمُهَا بِمَا قِيلَ فِيهَا) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: قَالَتْ: حَتَّى وَجَدْتُ فِي نَفْسِي، فَقُلْتُ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، حِينَ رَأَيْتُ مَا رَأَيْتُ مِنْ جَفَائِهِ لِي:
لَوْ أَذِنْتَ لِي، فَانْتَقَلْتُ إلَى أُمِّي، فَمَرَّضْتنِي؟ قَالَ:
لَا عَلَيْكَ. قَالَتْ: فَانْتَقَلْتُ إلَى أُمِّي، وَلَا عِلْمَ لِي
بِشَيْءِ مِمَّا كَانَ، حَتَّى نَقِهْتُ مِنْ وَجَعِي بَعْدَ بِضْعٍ
وَعَشْرَيْنِ لَيْلَةً، وَكُنَّا قَوْمًا عَرَبًا، لَا نَتَّخِذُ فِي
بُيُوتِنَا هَذِهِ الْكُنُفَ الَّتِي تَتَّخِذُهَا الْأَعَاجِمُ،
نَعَافُهَا وَنَكْرَهُهَا، إنَّمَا كُنَّا نَذْهَبُ فِي فُسَحِ
الْمَدِينَةِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ النِّسَاءُ يَخْرُجْنَ كُلَّ لَيْلَةٍ
فِي حَوَائِجِهِنَّ، فَخَرَجْتُ لَيْلَةً لِبَعْضِ حَاجَتِي وَمَعِي أُمُّ
مِسْطَحٍ بِنْتُ أَبِي رُهْمِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ،
وَكَانَتْ أُمُّهَا بِنْتَ صَخْرِ بْنِ عَامِرِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ
بْنِ تَيْمٍ، خَالَةَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ،
قَالَت:
فو الله إنَّهَا لَتَمْشِي مَعِي إذْ عَثَرْتُ فِي مِرْطِهَا [1] ،
فَقَالَتْ: تَعِسَ مِسْطَحٌ! وَمِسْطَحٌ لَقَبٌ وَاسْمُهُ عَوْفٌ، قَالَتْ:
قُلْتُ: بِئْسَ لَعَمْرُ اللَّهِ مَا قُلْتُ لِرَجُلٍ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ
قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، قَالَتْ: أَوْ مَا بَلَغَكَ الْخَبَرُ يَا بِنْتَ
أَبِي بَكْرٍ؟ قَالَتْ: قُلْتُ: وَمَا الْخَبَرُ؟ فَأَخْبَرَتْنِي
بِاَلَّذِي كَانَ مِنْ قَوْلِ أَهْلِ الْإِفْكِ، قَالَت: قلت: أوقد كَانَ
هَذَا؟ قَالَتْ: نَعَمْ وَاَللَّهِ لَقَدْ كَانَ. قَالَت: فو الله مَا
قَدَرْتُ عَلَى أَنْ أَقْضِيَ حَاجَتي، وَرجعت، فو الله مَا زِلْتُ أَبْكِي
حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّ الْبُكَاءَ سَيَصْدَعُ [2] كَبِدِي، قَالَتْ:
وَقُلْتُ لِأُمِّي: يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ، تَحَدَّثَ النَّاسُ بِمَا
تَحَدَّثُوا بِهِ، وَلَا تَذْكُرِينَ لِي مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا! قَالَتْ:
أَيْ بُنَيَّةُ، خَفِّضِي [3]
__________
[1] المرط: الكساء
[2] سيصدع: سيشق.
[3] خفضي عَلَيْك: هوني عَلَيْك.
(2/299)
عَلَيْك الشَّأْن، فو الله لَقَلَّمَا
كَانَتْ امْرَأَةٌ حَسْنَاءُ، عِنْدَ رَجُلٍ يُحِبُّهَا، لَهَا ضَرَائِرُ،
إلَّا كَثَّرْنَ وَكَثَّرَ النَّاسُ عَلَيْهَا.
(خُطْبَةُ الرَّسُولِ فِي النَّاسِ يُذَكِّرُ إيذَاءَ قَوْمٍ لَهُ فِي
عِرْضِهِ) :
قَالَتْ: وَقَدْ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي النَّاسِ يَخْطُبُهُمْ وَلَا أَعْلَمُ بِذَلِكَ، فَحَمِدَ اللَّهَ
وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، مَا بَالُ رِجَالٍ
يُؤْذُونَنِي فِي أَهْلِي، وَيَقُولُونَ عَلَيْهِمْ غَيْرَ الْحَقِّ،
وَاَللَّهِ مَا عَلِمْتُ مِنْهُمْ إلَّا خَيْرًا، وَيَقُولُونَ ذَلِكَ
لِرَجُلِ وَاَللَّهِ مَا عَلِمْتُ مِنْهُ إلَّا خَيْرًا، وَمَا يَدْخُلُ
بَيْتًا مِنْ بُيُوتِي إلَّا وَهُوَ مَعِي.
(أَثَرُ ابْنِ أُبَيٍّ وَحَمْنَةُ فِي إشَاعَةِ هَذَا الْحَدِيثِ) :
قَالَتْ: وَكَانَ كَبُرَ [1] ذَلِكَ عِنْدِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ بن
سَلُولَ فِي رِجَالٍ مِنْ الْخَزْرَجِ مَعَ الَّذِي قَالَ مِسْطَحٌ
وَحَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ، وَذَلِكَ أَنَّ أُخْتَهَا زَيْنَبَ بِنْتُ
جَحْشٍ كَانَتْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَلَمْ تَكُنْ مِنْ نِسَائِهِ امْرَأَةٌ تُنَاصِينِي [2] فِي الْمَنْزِلَةِ
عِنْدَهُ غَيْرُهَا، فَأَمَّا زَيْنَبُ فَعَصَمَهَا اللَّهُ تَعَالَى
بِدِينِهَا فَلَمْ تَقُلْ إلَّا خَيْرًا وَأَمَّا حَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ،
فَأَشَاعَتْ مِنْ ذَلِكَ مَا أَشَاعَتْ، تُضَادُّنِي لِأُخْتِهَا،
فَشَقِيَتْ بِذَلِكَ.
(مَا كَانَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ خُطْبَةِ الرَّسُولِ) :
فَلَمَّا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ
الْمَقَالَةَ، قَالَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنْ يَكُونُوا مِنْ الْأَوْسِ نَكْفِكَهُمْ، وَإِنْ
يَكُونُوا مِنْ إخْوَانِنَا مِنْ الْخَزْرَجِ، فمرنا بِأَمْرك، فو الله
إنَّهُمْ لَأَهْلٌ أَنْ تُضْرَبَ أَعْنَاقُهُمْ، قَالَتْ: فَقَامَ سَعْدُ
ابْن عُبَادَةَ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ يَرَى رَجُلًا صَالِحًا، فَقَالَ:
كَذَبْتُ لَعَمْرُ اللَّهِ، لَا نَضْرِبُ أَعْنَاقَهُمْ، أَمَا وَاَللَّهِ
مَا قُلْتَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ إلَّا أَنَّكَ قَدْ عَرَفْتُ أَنَّهُمْ
مِنْ الْخَزْرَجِ وَلَوْ كَانُوا مِنْ قَوْمِكَ مَا قُلْتَ هَذَا، فَقَالَ
أُسَيْدٌ: كَذَبْتُ لَعَمْرُ اللَّهِ، وَلَكِنَّكَ مُنَافِقٌ تُجَادِلُ
عَنْ الْمُنَافِقِينَ، قَالَتْ: وَتَسَاوَرَ [3] النَّاسُ، حَتَّى كَادَ
يَكُونُ بَيْنَ هَذَيْنِ
__________
[1] الْكبر بِالضَّمِّ وَالْكَسْر: الْإِثْم، ومعظم الشَّيْء.
[2] كَذَا فِي الرَّوْض. قَالَ السهيليّ: «وَقَول عَائِشَة: لم تكن
امْرَأَة تناصبنى فِي الْمنزلَة عِنْده غَيرهَا، هَكَذَا فِي الأَصْل
«تناصبنى» ، وَالْمَعْرُوف فِي الحَدِيث: تناصينى، من المناصاة وَهِي
الْمُسَاوَاة» .
[3] وتساور النَّاس: قَامَ بَعضهم إِلَى بعض، وَفِي بعض النّسخ: «تثاوروا»
.
(2/300)
الْحَيَّيْنِ مِنْ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ
شَرٌّ. وَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَدَخَلَ عَلَيَّ
(اسْتِشَارَةُ الرَّسُولِ لِعَلِيِّ وَأُسَامَةَ) :
(قَالَتْ [1] ) فَدَعَا عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللَّهِ
عَلَيْهِ، وَأُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، فَاسْتَشَارَهُمَا، فَأَمَّا أُسَامَةُ
فَأَثْنَى عَلَيَّ خَيْرًا وَقَالَهُ، ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،
أَهْلُكَ وَلَا نَعْلَمُ مِنْهُمْ إلَّا خَيْرًا، وَهَذَا الْكَذِبُ
وَالْبَاطِلُ، وَأَمَّا عَلِيٌّ فَإِنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ
النِّسَاءَ لَكَثِيرٌ، وَإِنَّكَ لَقَادِرٌ عَلَى أَنْ تَسْتَخْلِفَ،
وَسَلْ الْجَارِيَةَ، فَإِنَّهَا سَتُصْدِقُكَ.
فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَرِيرَةَ
لِيَسْأَلَهَا، قَالَتْ: فَقَامَ إلَيْهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ،
فَضَرَبَهَا ضَرْبًا شَدِيدًا، وَيَقُولُ: اُصْدُقِي رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ: فَتَقُولُ وَاَللَّهِ مَا
أَعْلَمُ إلَّا خَيْرًا، وَمَا كُنْتُ أَعِيبُ عَلَى عَائِشَةَ شَيْئًا،
إلَّا أَنِّي كُنْتُ أَعْجِنُ عَجِينِي، فَآمُرُهَا أَنْ تَحْفَظَهُ،
فَتَنَامُ عَنْهُ، فَتَأْتِي الشَّاةُ فَتَأْكُلُهُ.
(نُزُولُ الْقُرْآنِ بِبَرَاءَةِ عَائِشَةَ) :
قَالَتْ: ثُمَّ دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَعِنْدِي أَبَوَايَ، وَعِنْدِي امْرَأَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ،
وَأَنَا أَبْكِي، وَهِيَ تَبْكِي مَعِي، فَجَلَسَ، فَحَمِدَ اللَّهَ،
وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا عَائِشَةُ، إنَّهُ قَدْ كَانَ مَا
قَدْ بَلَغَكَ مِنْ قَوْلِ النَّاسِ، فَاتَّقِي اللَّهَ، وَإِنْ كُنْتُ
قَدْ قَارَفْتُ سُوءًا [2] ، مِمَّا يَقُولُ النَّاسُ فَتُوبِي إلَى
اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عباده، قَالَت: فو
الله مَا هُوَ إلَّا أَنْ قَالَ لِي ذَلِكَ، فَقَلَصَ [3] دَمْعِي، حَتَّى
مَا أُحِسَّ مِنْهُ شَيْئًا، وَانْتَظَرْتُ أَبَوَيَّ أَنْ يُجِيبَا عَنِّي
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يَتَكَلَّمَا
قَالَتْ: وَاَيْمُ اللَّهِ لَأَنَا كُنْتُ أَحْقَرَ فِي نَفْسِي،
وَأَصْغَرَ شَأْنًا مِنْ أَنْ يُنْزِلَ اللَّهُ فِيَّ قُرْآنًا يُقْرَأُ
بِهِ فِي الْمَسَاجِدِ، وَيُصَلَّى بِهِ، وَلَكِنِّي قَدْ كُنْتُ أَرْجُو
أَنْ يَرَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَوْمِهِ
شَيْئًا يُكَذِّبُ بِهِ اللَّهُ عَنِّي، لِمَا يَعْلَمُ مِنْ بَرَاءَتِي،
أَوْ يُخْبِرُ خَبَرًا، فَأَمَّا قُرْآنٌ ينزل فىّ، فو الله لَنَفْسِي
كَانَتْ أَحْقَرَ عِنْدِي مِنْ ذَلِكَ. قَالَتْ: فَلَمَّا لَمْ أَرَ
أَبَوَيَّ يَتَكَلَّمَانِ، قَالَتْ: قُلْتُ لَهُمَا: أَلَا تُجِيبَانِ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
__________
[1] زِيَادَة عَن أ.
[2] قارفت سوءا: دخلت فِيهِ.
[3] قلص: ارْتَفع.
(2/301)
قَالَتْ: فَقَالَا: وَاَللَّهِ مَا نَدْرِي
بِمَاذَا نجيبه، قَالَت: وو الله مَا أَعْلَمُ أَهْلَ بَيْتٍ دَخَلَ
عَلَيْهِمْ مَا دَخَلَ عَلَى آلِ أَبِي بَكْرٍ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ،
قَالَتْ: فَلَمَّا أَنْ اسْتَعْجَمَا عَلَيَّ، اسْتَعْبَرْتُ فَبَكَيْتُ،
ثُمَّ قُلْتُ: وَاَللَّهِ لَا أَتُوبُ إلَى اللَّهِ مِمَّا ذَكَرْتُ
أَبَدًا. وَاَللَّهِ إنِّي لَأَعْلَمُ لَئِنْ أَقْرَرْتُ بِمَا يَقُولُ
النَّاسُ، وَاَللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي مِنْهُ بَرِيئَةٌ، لَأَقُولَنَّ مَا
لَمْ يَكُنْ، وَلَئِنْ أَنَا أَنْكَرْتُ مَا يَقُولُونَ لَا
تُصَدِّقُونَنِي. قَالَتْ: ثُمَّ الْتَمَسْتُ اسْمَ يَعْقُوبَ فَمَا
أَذْكُرُهُ، فَقُلْتُ:
وَلَكِنْ سَأَقُولُ كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ: «فَصَبْرٌ جَمِيلٌ،
وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تصفون» . قَالَت: فو الله مَا بَرِحَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَجْلِسَهُ حَتَّى
تَغَشَّاهُ مِنْ اللَّهِ مَا كَانَ يَتَغَشَّاهُ، فَسُجِّيَ بِثَوْبِهِ
وَوُضِعَتْ لَهُ وِسَادَةُ مِنْ أَدَمٍ تَحْتُ رَأْسِهِ، فَأَمَّا أَنَا
حِينَ رَأَيْتُ مِنْ ذَلِكَ مَا رَأَيْت، فو الله مَا فَزِعْتُ وَلَا
بَالَيْتُ، قَدْ عَرَفْتُ أَنِّي بَرِيئَةٌ، وَأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ
غَيْرُ ظَالِمِي، وأمّا أبواي، فو الّذي نَفْسُ عَائِشَةَ بِيَدِهِ، مَا
سُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى
ظَنَنْتُ لَتَخْرُجَنَّ أَنَفْسُهُمَا، فَرَقًا مِنْ أَنْ يَأْتِيَ مِنْ
اللَّهِ تَحْقِيقُ مَا قَالَ النَّاسُ، قَالَتْ: ثُمَّ سُرِّيَ عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَلَسَ، وَإِنَّهُ
لَيَتَحَدَّرُ مِنْهُ مِثْلُ الْجُمَانِ [1] فِي يَوْمٍ شَاتٍ، فَجَعَلَ
يَمْسَحُ الْعَرَقَ عَنْ جَبِينِهِ، وَيَقُولُ: أَبْشِرِي يَا عَائِشَةُ،
فَقَدْ أَنَزَلَ اللَّهُ بَرَاءَتَكَ، قَالَتْ: قُلْتُ: بِحَمْدِ اللَّهِ
ثُمَّ خَرَجَ إلَى النَّاسِ، فَخَطَبَهُمْ، وَتَلَا عَلَيْهِمْ مَا
أَنَزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ الْقُرْآنِ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ أَمَرَ
بِمِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ، وَحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ، وَحَمْنَةَ بِنْتِ
جَحْشٍ، وَكَانُوا مِمَّنْ أَفْصَحَ بِالْفَاحِشَةِ، فَضُرِبُوا حَدَّهُمْ.
(أَبُو أَيُّوبَ وَذِكْرُهُ طُهْرَ عَائِشَةَ لِزَوْجِهِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي أَبِي إسْحَاقُ بْنُ يَسَارٍ عَنْ
بَعْضِ رِجَالِ بَنِي النَّجَّارِ:
أَنَّ أَبَا أَيُّوبٍ خَالِدَ بْنَ زَيْدٍ، قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ أُمُّ
أَيُّوبَ: يَا أَبَا أَيُّوبَ، أَلَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ النَّاسُ فِي
عَائِشَةَ؟ قَالَ: بَلَى، وَذَلِكَ الْكَذِبُ، أَكُنْتُ يَا أُمَّ أَيُّوبَ
فَاعِلَةٌ؟
قَالَتْ: لَا وَاَللَّهِ مَا كُنْتُ لِأَفْعَلَهُ، قَالَ: فَعَائِشَةُ
وَاَللَّهِ خَيْرٌ مِنْكَ.
(مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ فِي ذَلِكَ) :
قَالَتْ: فَلَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ بِذِكْرِ مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ
الْفَاحِشَةِ مَا قَالَ مِنْ أَهْلِ الْإِفْكِ
__________
[1] الجمان: حب من فضَّة يصنع فِي مثل الدّرّ.
(2/302)
فَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ
بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ، لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ
خَيْرٌ لَكُمْ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ،
وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ 24: 11،
وَذَلِكَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ وَأَصْحَابُهُ الَّذِينَ قَالُوا مَا
قَالُوا.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: وَذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ
وَأَصْحَابُهُ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَاَلَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
أُبَيٍّ، وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ إسْحَاقَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ قَبْلَ
هَذَا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ
الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً 24: 12: أَيْ
فَقَالُوا كَمَا قَالَ أَبُو أَيُّوبَ وَصَاحِبَتُهُ، ثُمَّ قَالَ: إِذْ
تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ، وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ مَا لَيْسَ
لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ، وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً، وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ
عَظِيمٌ 24: 15.
(هَمُّ أَبِي بَكْرٍ بِعَدِمِ الْإِنْفَاقِ عَلَى مِسْطَحٍ ثُمَّ
عُدُولُهُ) :
فَلَمَّا نَزَلَ هَذَا فِي عَائِشَةَ، وَفِيمَنْ قَالَ لَهَا مَا قَالَ،
قَالَ أَبُو بَكْرٍ، وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ لِقَرَابَتِهِ
وَحَاجَتِهِ: وَاَللَّهِ لَا أُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ شَيْئًا أَبَدًا،
وَلَا أَنْفَعُهُ بِنَفْعِ أَبَدًا بَعْدَ الَّذِي قَالَ لِعَائِشَةَ،
وَأَدْخَلَ عَلَيْنَا، قَالَتْ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ وَلا
يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي
الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ،
وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ
لَكُمْ، وَالله غَفُورٌ رَحِيمٌ 24: 22.
(تَفْسِيرُ ابْنِ هِشَامٍ بَعْضَ الْغَرِيبِ) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: يُقَالُ: كِبْره وكُبْره فِي الرِّوَايَةِ، وَأَمَّا
فِي الْقُرْآنِ فَكِبْرُهُ بِالْكَسْرِ [1] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: «وَلا
يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ 24: 22» وَلَا يَأْلُ أُولُو
الْفَضْلِ مِنْكُمْ.
قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ بْنُ حِجْرٍ الْكِنْدِي:
أَلَا رُبَّ خَصْمٌ فِيكَ أَلْوَى رَدَدْتُهُ ... نَصِيحٌ عَلَى
تَعْذَالِهِ غَيْرُ مُؤْتَلِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ، وَيُقَالُ: وَلا يَأْتَلِ أُولُوا
الْفَضْلِ 24: 22: وَلَا يَحْلِفُ أُولُو الْفَضْلِ، وَهُوَ قَوْلُ
الْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، فِيمَا بَلَغْنَا عَنْهُ.
__________
[1] هَذِه الْعبارَة من قَوْله «قَالَ ابْن هِشَام» إِلَى قَوْله
«بِالْكَسْرِ» سَاقِطَة فِي أ.
(2/303)
وَفِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى:
لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ 2: 226 وَهُوَ مِنْ الْأَلْيَةِ،
وَالْأَلْيَةُ: الْيَمِينُ. قَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ:
آلَيْتُ مَا فِي جَمِيعِ النَّاسِ مُجْتَهِدًا ... مِنِّي أَلِيَّةَ بِرٍّ
غَيْرَ إفْنَادِ [1]
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ، سَأَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ
فِي مَوْضِعِهَا. فَمَعْنَى: أَنْ يُؤْتَوْا فِي هَذَا الْمَذْهَبِ: أَنْ
لَا يُؤْتَوْا، وَفِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: يُبَيِّنُ اللَّهُ
لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا 4: 176 يُرِيدُ: أَنْ لَا تَضِلُّوا، وَيُمْسِكُ
السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ 22: 65 يُرِيدُ أَنْ لَا تَقَعَ
عَلَى الْأَرْضِ، وَقَالَ ابْنُ مُفَرَّغٍ الْحِمْيَرِيُّ:
لَا ذَعَرْتُ السَّوَامَ فِي وَضَحِ الصُّبْحِ ... مُغِيرًا وَلَا دُعِيتُ
يَزِيدَا [2]
يَوْمَ أُعْطَى مَخَافَةَ الْمَوْتِ ضَيْمًا ... وَالْمَنَايَا
يَرْصُدْنَنِي أَنْ أَحِيدَا [3]
يُرِيدُ: أَنْ لَا أحيد، وَهَذَا الْبَيْتَانِ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: قَالَتْ: فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: بَلَى وَاَللَّهِ،
إنِّي لَأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي، فَرَجَّعَ إلَى مِسْطَحٍ
نَفَقَتَهُ الَّتِي كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ، وَقَالَ: وَاَللَّهِ لَا
أَنْزِعُهَا مِنْهُ أَبَدًا
. (هَمُّ ابْنِ الْمُعَطَّلِ بِقَتْلِ حَسَّانَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ إنَّ صَفْوَانَ بْنَ الْمُعَطَّلِ اعْتَرَضَ
حَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ بِالسَّيْفِ، حِينَ بَلَغَهُ مَا كَانَ يَقُولُ
فِيهِ، وَقَدْ كَانَ حَسَّانُ قَالَ شِعْرًا مَعَ ذَلِكَ يُعَرِّضُ بِابْنِ
الْمُعَطَّلِ فِيهِ، وَبِمَنْ أَسْلَمَ مِنْ الْعَرَبِ مِنْ مُضَرَ،
فَقَالَ:
أَمْسَى الْجَلَابِيبُ قَدْ عَزُّوا وَقَدْ كَثُرُوا ... وَابْنُ
الْفُرَيْعَةَ أَمْسَى بَيْضَةَ الْبَلَدِ [4]
قَدْ ثَكِلَتْ أُمُّهُ مَنْ كُنْتَ صَاحِبَهُ ... أَوْ كَانَ مُنْتَشِبًا
فِي بُرْثُنِ الْأَسَدِ [5]
مَا لِقَتِيلِي الَّذِي أَغْدُو فَآخُذُهُ ... مِنْ دِيَةٍ فِيهِ
يُعْطَاهَا وَلَا قَوَدِ [6]
__________
[1] الإفناد: الْكَذِب.
[2] ذعرت: أفزعت. والسوام: المَال الْمُرْسل فِي المرعى. والوضح: الْبيَاض.
[3] الضيم: الذل. وأحيد: أعدل.
[4] الجلابيب: الغرباء. وبيضة الْبَلَد: أَي مُنْفَردا لَا يدانيه أحد،
قَالَ أَبُو ذَر: «وَهُوَ فِي هَذَا الْموضع مدح، وَقد يكون ذما، وَذَلِكَ
إِذا أُرِيد أَنه ذليل لَيْسَ مَعَه غَيره» .
[5] ثكلته أمه: فقدته. والبرثن: الْكَفّ مَعَ الْأَصَابِع، ومخلب الْأسد،
أَو هُوَ للسبع كالإصبع للْإنْسَان.
[6] الْقود: قتل النَّفس.
(2/304)
مَا الْبَحْرُ حِينَ تَهُبُّ الرِّيحُ
شَامِيَّةً ... فَيَغْطَئِلُ وَيَرْمِي الْعِبْرَ بِالزَّبَدِ [1]
يَوْمًا بِأَغْلَبَ مِنِّي حِينَ تُبْصِرُنِي ... مِلْغَيِظٍ أَفْرِي
كَفَرْيِ الْعَارِضِ الْبَرِدِ [2]
أُمَّا قُرَيْشٌ فَإِنِّي لَنْ أُسَالِمَهُمْ ... حَتَّى يُنِيبُوا مِنْ
الْغِيَّاتِ لِلرُّشْدِ [3]
وَيَتْرُكُوا اللَّاتَ وَالْعُزَّى بِمَعْزِلَةٍ ... وَيَسْجُدُوا
كُلُّهُمْ لِلْوَاحِدِ الصَّمَدِ
وَيَشْهَدُوا أَنَّ مَا قَالَ الرَّسُولُ لَهُمْ ... حَقٌّ وَيُوفُوا
بِعَهْدِ اللَّهِ وَالْوُكُدِ [4]
فَاعْتَرَضَهُ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ، فَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ، ثُمَّ
قَالَ: كَمَا حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عُتْبَةَ:
تَلَقَّ [5] ذُبَابُ السَّيْفِ عَنِّي فَإِنَّنِي ... غُلَام إِذا هُوَ جيت
لَسْتُ بِشَاعِرٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ
الْحَارِثِ التَّيْمِيُّ: أَنَّ ثَابت بن لَيْسَ بْنَ الشَّمَّاسِ وَثَبَ
عَلَى صَفْوَانَ بْنِ الْمُعَطَّلِ، حِينَ ضَرَبَ حَسَّانَ، فَجَمَعَ
يَدَيْهِ إلَى عُنُقِهِ بِحَبْلِ، ثُمَّ انْطَلَقَ بِهِ إلَى دَارِ بَنِي
الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، فَلَقِيَهُ عَبْدُ اللَّهِ ابْن رَوَاحَةَ،
فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَ: أَمَا أَعْجَبَكَ ضَرْبُ حَسَّانَ بِالسَّيْفِ!
وَاَللَّهِ مَا أَرَاهُ إلَّا قَدْ قَتَلَهُ، قَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ رَوَاحَةَ: هَلْ عَلِمَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ سلم بِشَيْءِ
مِمَّا صَنَعْتُ؟ قَالَ: لَا وَاَللَّهِ، قَالَ: لَقَدْ اجْتَرَأْتُ،
أَطْلِقْ الرَّجُلَ، فَأَطْلَقَهُ، ثُمَّ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ، فَدَعَا حَسَّانَ
وَصَفْوَانَ بْنَ الْمُعَطَّلِ، فَقَالَ ابْنُ الْمُعَطَّلِ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ: آذَانِي وَهَجَانِي، فَاحْتَمَلَنِي الْغَضَبُ، فَضَرَبْتُهُ،
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَسَّانَ:
أَحْسِنْ يَا حَسَّانُ [6] ، أَتَشَوَّهْتَ [7] عَلَى قَوْمِي أَنْ
هَدَاهُمْ اللَّهُ لِلْإِسْلَامِ، ثُمَّ قَالَ: أَحْسِنْ يَا حَسَّانُ فِي
الَّذِي أَصَابَكَ، قَالَ: هِيَ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ.
__________
[1] يغطئل: يجول ويتحرك. والعبر: جَانب النَّهر أَو الْبَحْر.
[2] أفرى: أقطع. والعارض: السَّحَاب. وَالْبرد (بِكَسْر الرَّاء) : الّذي
فِيهِ برد.
[3] ينيبوا: يرجِعوا. والغيات: جمع غية، من الغي، وَهُوَ خلاف الرشد.
[4] يُرِيد «بالوكد» العهود الْمُؤَكّدَة.
[5] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «تلْحق» .
[6] هَذِه الْعبارَة سَاقِطَة فِي.
[7] أتشوهت على قومِي: أقبحت ذَلِك من فعلهم حِين سميتهم بالجلابيب من أجل
هجرتهم إِلَى الله وَإِلَى رَسُوله.
20- سيرة ابْن هِشَام- 2
(2/305)
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: أَبَعْدَ
أَنْ هُدَاكُمْ اللَّهُ لِلْإِسْلَامِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ: أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَاهُ عِوَضًا
مِنْهَا بَيْرُحَاءَ [1] ، وَهِيَ قَصْرُ بَنِي حُدَيْلَةَ الْيَوْمَ
بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَتْ مَالًا لِأَبِي طَلْحَةَ بْنِ سَهْلٍ تَصَدَّقَ
بِهَا عَلَى آلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَأَعْطَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسَّانَ
فِي ضَرْبَتِهِ، وَأَعْطَاهُ سِيرِينَ، أَمَةً قبطيّة، فَولدت لَهُ عَبْدَ
الرَّحْمَنِ بْنَ حَسَّانَ، قَالَتْ: وَكَانَتْ عَائِشَةُ تَقُولُ: لَقَدْ
سُئِلَ عَنْ ابْنِ الْمُعَطَّلِ، فَوَجَدُوهُ رَجُلًا حَصُورًا، مَا
يَأْتِي النِّسَاءَ، ثُمَّ قُتِلَ بَعْدَ ذَلِكَ شَهِيدًا.
قَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ يَعْتَذِرُ مِنْ الَّذِي كَانَ قَالَ فِي
شَأْنِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا:
حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُزَنُّ بِرِيبَةٍ ... وَتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ
لُحُومِ الْغَوَافِلِ [2]
عَقِيلَةُ حَيٍّ مِنْ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ ... كِرَامِ الْمَسَاعِي
مَجْدُهُمْ غَيْرُ زَائِلِ [3]
مُهَذَّبَةٌ قَدْ طَيَّبَ اللَّهُ خِيمَهَا ... وَطَهَّرَهَا مِنْ كُلِّ
سُوءٍ وَبَاطِلِ [4]
فَإِنْ كُنْتُ قَدْ قُلْتُ الَّذِي قَدْ زَعَمْتُمْ ... فَلَا رَفَعَتْ
سَوْطِي إلَيَّ أَنَامِلِي [5]
وَكَيْفَ وَوُدِّي مَا حَيِيتُ وَنُصْرَتِي ... لِآلِ رَسُولِ اللَّهِ
زَيْنُ الْمَحَافِلِ
لَهُ رَتَبٌ عَالٍ عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ ... تَقَاصَرَ عَنْهُ سَوْرَةُ
الْمُتَطَاوِلِ [6]
فَإِنَّ الَّذِي قَدْ قِيلَ لَيْسَ بِلَائِطٍ ... وَلَكِنَّهُ قَوْلُ
امْرِئٍ بِي مَاحِلِ [7]
__________
[1] بيرحاء: بِكَسْر الْبَاء، وبإضافة الْبِئْر إِلَى حاء، وَهُوَ اسْم
رجل.
[2] الحصان: العفيفة. والرزان: الْمُلَازمَة موضعهَا، الَّتِي لَا تتصرف
كثيرا. وَمَا تزن: أَي مَا تتهم. وغرثى: جائعة. والغوافل: جمع غافلة، ويعنى
بهَا الغافلة الْقلب عَن الشَّرّ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ إِنَّ الَّذِينَ
يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ 24: 23 جَعلهنَّ غافلات
لِأَن الّذي رمين بِهِ من الشَّرّ لم يهممن بِهِ قطّ، وَلَا خطر على
قلوبهن، فهن فِي غَفلَة عَنهُ، وَهَذَا أبلغ مَا يكون من الْوَصْف بالعفاف.
وَيُرِيد بقوله «وتصبح غرثى من لُحُوم الغوافل» : أَي خميصة الْبَطن من
لُحُوم النَّاس، أَي اغتيابهم.
[3] العقيلة: الْكَرِيمَة. والمساعي: جمع مسعاة، وَهُوَ مَا يسْعَى فِيهِ
من طلب الْمجد والمكارم.
[4] الخيم: الطَّبْع.
[5] الأنامل: الْأَصَابِع.
[6] الرتب: مَا ارْتَفع من الأَرْض وَعلا. وَيُرِيد بِهِ هُنَا الشّرف
وَالْمجد. وَالسورَة (بِفَتْح السِّين) :
الوثبة. (وبضم السِّين) : الْمنزلَة.
[7] لائط: لاصق. والماحل: الْمَاشِي بالنميمة.
(2/306)
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: بَيْتُهُ: «عَقِيلَةُ
حَيٍّ» وَاَلَّذِي بَعْدَهُ، وَبَيْتُهُ: «لَهُ رَتَبٌ عَالٍ» عَنْ أَبِي
زَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدَّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ: أَنَّ امْرَأَةً
مَدَحَتْ بِنْتَ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ عِنْدَ عَائِشَةَ، فَقَالَتْ:
حَصَانٌ [1] رَزَانٌ مَا تُزَنُّ بِرِيبَةٍ ... وَتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ
لُحُومِ الْغَوَافِلِ [2]
فَقَالَتْ عَائِشَةُ: لَكِنْ أَبُوهَا [3] .
(شِعْرٌ فِي هِجَاءِ حَسَّانَ وَمِسْطَحٍ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ قَائِلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي ضَرْبِ
حَسَّانَ وَأَصْحَابِهِ فِي فِرْيَتِهِمْ عَلَى عَائِشَةَ- قَالَ ابْنُ
هِشَامٍ: فِي ضَرْبِ حَسَّانَ وَصَاحِبَيْهِ-:
لَقَدْ ذَاقَ حَسَّانُ الَّذِي كَانَ أَهْلَهُ ... وَحَمْنَةُ إذْ قَالُوا
هَجِيرًا وَمِسْطَحُ [4]
تَعَاطَوْا بِرَجْمِ الْغَيْبِ زَوْجَ نَبِيِّهِمْ ... وَسَخْطَةَ ذِي
الْعَرْشِ الْكَرِيمِ فَأُتْرِحُوا [5]
وَآذَوْا رَسُولَ اللَّهِ فِيهَا فَجُلِّلُوا ... مَخَازِيَ تَبْقَى
عُمِّمُوهَا وَفُضِّحُوا
وَصُبَّتْ عَلَيْهِمْ مُحْصَدَاتٌ كَأَنَّهَا ... شَآبِيبُ قَطْرٍ مِنْ
ذُرَا الْمُزْنِ تُسْفَحُ [6]
__________
[1] حصان: من الْحصن والتحصن، وَهُوَ الِامْتِنَاع عَن الرِّجَال من نظرهم
إِلَيْهَا. قَالَت جَارِيَة من الْعَرَب لأمها:
يَا أمتا أبصرنى رَاكب ... يسير فِي مسحنفر لاحب
جعلت أحثى الترب فِي وَجهه ... حصنا وأحمى حوزة الْغَائِب
فَقَالَت لَهَا أمهَا:
الْحصن أدنى لَو تآييته ... من حثيك الترب على الرَّاكِب
[2] الرزان: الثَّقِيلَة الْحَرَكَة. وغرثى من لُحُوم الغوافل: أَي خميصة
الْبَطن من لُحُوم النَّاس: أَي اغتيابهم. وَضرب الغرث مثلا، وَهُوَ عدم
الطّعْم وخلو الْجوف. وَيُرِيد بالغوافل: العفائف الغافلة قلوبهن عَن
الشَّرّ.
[3] قَالَ أَبُو ذَر: «يرْوى أَبوهَا وأباها. فَمن قَالَ «أَبوهَا:»
فَمَعْنَاه. لَكِن أَبوهَا لم يكن كَذَلِك، وَمن قَالَ «أَبَاهَا»
فَإِنَّهُ يعْنى أَن حسان أَبى هَذِه الْفَضِيلَة» .
[4] الهجير: الهجر وَقَول الْفَاحِش الْقَبِيح.
[5] الرَّجْم: الظَّن. وأترحوا: أحزنوا، من التَّرَحِ، وَهُوَ الْحزن.
ويروى «فأبرحوا» بِالْبَاء، وَهُوَ من البرح، أَي الْمَشَقَّة والشدة.
[6] محصدات: يعْنى سياطا محكمَة الفتل شديدات. والشآبيب: جمع شؤبوب، وَهُوَ
الدفعة من الْمَطَر.
والذرى: الأعالي. والمزن: السَّحَاب. وتسفح: تسيل.
(2/307)
أَمْرُ الْحُدَيْبِيَةِ فِي آخِرِ سَنَةِ
سِتٍّ، وَذِكْرُ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ وَالصُّلْحِ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو
(خُرُوجُ الرَّسُولِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ شَهْرَ رَمَضَانَ وَشَوَّالًا، وَخَرَجَ
فِي ذِي الْقَعْدَةِ مُعْتَمِرًا، لَا يُرِيدُ حَرْبًا.
(نُمَيْلَةُ عَلَى الْمَدِينَةِ) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ نُمَيْلَةُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ اللَّيْثِيُّ.
(اسْتِنْفَارُ الرَّسُولِ النَّاسَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَاسْتَنْفَرَ الْعَرَبَ وَمَنْ حَوْلَهُ مِنْ
أَهْلِ الْبَوَادِي مِنْ الْأَعْرَابِ لِيَخْرُجُوا مَعَهُ، وَهُوَ يَخْشَى
مِنْ قُرَيْشٍ الَّذِي صَنَعُوا، أَنْ يَعْرِضُوا لَهُ بِحَرْبِ أَوْ
يَصُدُّوهُ عَنْ الْبَيْتِ، فَأَبْطَأَ عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ
الْأَعْرَابِ، وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَمَنْ لَحِقَ بِهِ
مِنْ الْعَرَبِ، وَسَاقَ مَعَهُ الْهَدْيَ، وَأَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ
لِيَأْمَنَ النَّاسُ مِنْ حَرْبِهِ، وَلِيَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّهُ إنَّمَا
خَرَجَ زَائِرًا لِهَذَا الْبَيْتِ وَمُعَظِّمًا لَهُ.
(عِدَّةُ الرِّجَالِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ شِهَابٍ
الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ مِسْوَرِ بْنِ
مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ أَنَّهُمَا حَدَّثَاهُ قَالَا:
خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ
الْحُدَيْبِيَةِ [1] يُرِيدُ زِيَارَةَ الْبَيْتِ، لَا يُرِيدُ قِتَالًا،
وَسَاقَ مَعَهُ
__________
[1] الحديبيّة (بِضَم الْحَاء وَفتح الدَّال وياء سَاكِنة وباء مُوَحدَة
مَكْسُورَة وياء. وَقد اخْتلف فِيهَا، فَمنهمْ من شدد وَمِنْهُم من خفف) :
قَرْيَة متوسطة لَيست بالكبيرة، سميت ببئر هُنَاكَ عِنْد مَسْجِد
الشَّجَرَة الَّتِي بَايع رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
تحتهَا، بَينهَا وَبَين مَكَّة مرحلة، وَبَينهمَا وَبَين الْمَدِينَة تسع
مراحل.
(عَن مُعْجم الْبلدَانِ) .
(2/308)
الْهَدْيَ سَبْعِينَ بَدَنَةً، وَكَانَ
النَّاس سبع مائَة رَجُلٍ، فَكَانَتْ كُلُّ بَدَنَةٍ عَنْ عَشَرَةِ نَفَرٍ.
وَكَانَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فِيمَا بَلَغَنِي، يَقُولُ: كُنَّا
أَصْحَابَ الْحُدَيْبِيَةِ أَربع عشرَة مائَة.
(الرَّسُولُ وَبِشْرُ بْنُ سُفْيَانَ) :
قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، حَتَّى إذَا كَانَ بِعُسْفَانَ [1] لَقِيَهُ بِشْرُ بْنُ
سُفْيَانَ الْكَعْبِيُّ- قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ بُسْرٌ- فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ قُرَيْشٌ، قَدْ سَمِعْتُ بِمَسِيرِكَ،
فَخَرَجُوا مَعَهُمْ الْعُوذُ الْمَطَافِيلُ [2] ، قَدْ لَبِسُوا جُلُودَ
النُّمُورِ، وَقَدْ نَزَلُوا بِذِي طُوًى [3] ، يُعَاهِدُونَ اللَّهَ لَا
تَدْخُلُهَا عَلَيْهِمْ أَبَدًا، وَهَذَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فِي
خَيْلِهِمْ قَدْ قَدَّمُوهَا إلَى كُرَاعِ الْغَمِيمِ [4] ، قَالَ: فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا وَيْحَ قُرَيْشٍ!
لَقَدْ أَكَلَتْهُمْ الْحَرْبُ، مَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ خَلَّوْا بَيْنِي
وَبَيْنَ سَائِرِ الْعَرَبِ، فَإِنْ هُمْ أَصَابُونِي كَانَ الَّذِي
أَرَادُوا، وَإِنْ أَظْهَرَنِي اللَّهُ عَلَيْهِمْ دَخَلُوا فِي
الْإِسْلَامِ وَافِرِينَ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا قَاتَلُوا وَبِهِمْ
قُوَّةٌ، فَمَا تظنّ قُرَيْش، فو الله لَا أَزَالُ أُجَاهِدُ عَلَى الَّذِي
بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ حَتَّى يُظْهِرَهُ اللَّهُ أَوْ تَنْفَرِدَ هَذِهِ
السَّالِفَةُ [5] ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ رَجُلٌ يَخْرَجُ بِنَا عَلَى طَرِيقٍ
غَيْرِ طَرِيقِهِمْ الَّتِي هُمْ بِهَا؟
(تَجَنُّبُ الرَّسُولِ لِقَاءَ قُرَيْشٍ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ:
أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَسْلَمَ قَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ:
فَسَلَكَ بِهِمْ طَرِيقًا وَعْرًا أَجْرَلَ [6] بَيْنَ شِعَابٍ، فَلَمَّا
خَرَجُوا مِنْهُ، وَقَدْ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَأَفْضَوْا
إلَى أَرْضٍ سَهْلَةٍ عِنْدَ مُنْقَطِعِ الْوَادِي،
__________
[1] عسفان: منهلة من مناهل الطَّرِيق بَين الْجحْفَة وَمَكَّة، وَقيل: هِيَ
بَين المسجدين، وَهِي من مَكَّة على مرحلَتَيْنِ، وَقيل غير ذَلِك. (رَاجع
مُعْجم الْبلدَانِ) .
[2] العوذ: جمع عَائِذ، وَهِي من الْإِبِل الحديثة النِّتَاج، والمطافيل:
الَّتِي مَعهَا أَوْلَادهَا يُرِيد أَنهم خَرجُوا وَمَعَهُمْ النِّسَاء
وَالصبيان، وَهُوَ على الِاسْتِعَارَة.
[3] ذُو طوى (مثلث الطَّاء وينون) : مَوضِع قرب مَكَّة.
[4] كرَاع الغميم: مَوضِع بِنَاحِيَة الْحجاز بَين مَكَّة وَالْمَدينَة،
وَهُوَ وَاد أَمَام عسفان بِثمَانِيَة أَمْيَال.
(عَن مُعْجم الْبلدَانِ) .
[5] السالفة: صفحة الْعُنُق، وهما سالفتان من جانبيه، وكنى بانفرادها عَن
الْمَوْت.
[6] الأجرل: الْكثير الْحِجَارَة، ويروى: أجرد، أَي لَيْسَ فِيهِ نَبَات.
(2/309)
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلنَّاسِ: قُولُوا نَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَنَتُوبُ
إلَيْهِ. فَقَالُوا ذَلِكَ، فَقَالَ: وَاَللَّهِ إنَّهَا لَلْحِطَّةُ [1]
الَّتِي عُرِضَتْ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ. فَلَمْ يَقُولُوهَا. قَالَ
ابْنُ شِهَابٍ: فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
النَّاسَ فَقَالَ: اُسْلُكُوا ذَاتَ الْيَمِينِ بَيْنَ ظَهْرَيْ الْحَمْشِ،
فِي طَرِيقٍ (تُخْرِجُهُ [2] ) عَلَى ثَنِيَّةِ الْمُرَارِ مَهْبِطِ
الْحُدَيْبِيَةِ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ، قَالَ: فَسَلَكَ الْجَيْشُ ذَلِكَ
الطَّرِيقَ، فَلَمَّا رَأَتْ خَيْلُ قُرَيْشٍ قَتَرَةَ [3] الْجَيْشِ قَدْ
خَالَفُوا عَنْ طَرِيقِهِمْ، رَجَعُوا رَاكِضِينَ إلَى قُرَيْشٍ، وَخَرَجَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى إذَا سَلَكَ، فِي
ثَنِيَّةِ الْمُرَارِ بَرَكَتْ نَاقَتُهُ، فَقَالَتْ النَّاسُ: خَلَأَتْ
[4] النَّاقَةُ، قَالَ: مَا خَلَأَتْ وَمَا هُوَ لَهَا بِخُلُقٍ، وَلَكِنْ
حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ عَنْ مَكَّةَ. لَا تَدْعُونِي قُرَيْشٌ
الْيَوْمَ إلَى خُطَّةٍ يَسْأَلُونَنِي فِيهَا صِلَةَ الرَّحَمِ إلَّا
أَعْطَيْتُهُمْ إيَّاهَا. ثُمَّ قَالَ لِلنَّاسِ: انْزِلُوا، قِيلَ لَهُ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَا بِالْوَادِي مَاءٌ نَنْزِلُ عَلَيْهِ، فَأَخْرَجَ
سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ، فَأَعْطَاهُ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ، فَنَزَلَ
بِهِ فِي قَلِيبٍ [5] مِنْ تِلْكَ الْقُلُبِ. فَغَرَّزَهُ فِي جَوْفِهِ،
فَجَاشَ [6] بِالرَّوَّاءِ [7] حَتَّى ضَرَبَ النَّاسُ عَنْهُ بِعَطَنٍ [8]
.
(الَّذِي نَزَلَ بِسَهْمِ الرَّسُولِ فِي طَلَبِ الْمَاءِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَنْ رِجَالٍ
مِنْ أَسْلَمَ: أَنَّ الَّذِي نَزَلَ فِي الْقَلِيبِ بِسَهْمِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاجِيَةُ بْنُ جُنْدُبِ بْنِ
عُمَيْرِ بْنِ يَعْمُرَ ابْن دَارِمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ وَائِلَةَ بْنِ
سَهْمِ بْنِ مَازِنِ بْنِ سَلَامَانِ بْنِ أَسْلَمَ بْنِ أَفْصَى بْنِ
أَبِي حَارِثَةَ، وَهُوَ سَائِقُ بُدْنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
__________
[1] الحطة: يُرِيد قَول الله تَعَالَى لبني إِسْرَائِيل: «وَقُولُوا
حِطَّةٌ 2: 58» وَمَعْنَاهُ: اللَّهمّ حط عَنَّا ذنوبنا.
[2] زِيَادَة عَن أ. وَفِي رِوَايَة «تخرجهم» .
[3] قترة الْجَيْش: غباره.
[4] خلأت: بَركت. قَالَ أَبُو ذَر: «الْخَلَاء فِي الْإِبِل: بِمَنْزِلَة
الحران فِي الدَّوَابّ، وَقَالَ بَعضهم:
لَا يُقَال إِلَّا للناقة خَاصَّة.
[5] القليب: الْبِئْر.
[6] جاش: ارْتَفع.
[7] الرواء (بِفَتْح الرَّاء) : الْكثير.
[8] العطن: مبرك الْإِبِل حول المَاء.
(2/310)
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أَفْصَى بْنُ
حَارِثَةَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَدْ زَعَمَ لِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّ
الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ كَانَ يَقُولُ:
أَنَا الَّذِي نَزَلْتُ بِسَهْمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فاللَّه أَعْلَمُ أَيَّ ذَلِكَ كَانَ.
(شِعْرٌ لِنَاجِيَةَ يُثْبِتُ أَنَّهُ حَامِلٌ سَهْمَ الرَّسُولِ) :
وَقَدْ أَنْشَدَتْ أَسْلَمُ أَبْيَاتًا مِنْ شِعْرٍ قَالَهَا نَاجِيَةُ،
قَدْ ظَنَنَّا أَنَّهُ هُوَ الَّذِي نَزَلَ بِالسَّهْمِ، فَزَعَمَتْ
أَسْلَمُ أَنَّ جَارِيَةً مِنْ الْأَنْصَارِ أَقْبَلَتْ بِدَلْوِهَا،
وَنَاجِيَةُ فِي الْقَلِيبِ يَمِيحُ [1] عَلَى النَّاسِ، فَقَالَتْ:
يَا أَيُّهَا الْمَائِحُ دَلْوَى دُونَكَا ... إنِّي رَأَيْتُ النَّاسَ
يَحْمَدُونَكَا
يُثْنُونَ خَيْرًا وَيُمَجِّدُونَكَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُرْوَى:
إنِّي رَأَيْتُ النَّاسَ يَمْدَحُونَكَا
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَقَالَ نَاجِيَةُ، وَهُوَ فِي الْقَلِيبِ يَمِيحُ
عَلَى النَّاسِ:
قَدْ عَلِمَتْ جَارِيَةٌ يَمَانِيَهْ ... أَنِّي أَنَا الْمَائِحُ وَاسْمِي
نَاجِيَهْ
وَطَعْنَةٍ ذَاتِ رَشَاشٍ وَاهِيَهْ ... طَعَنْتُهَا عِنْدَ صُدُورِ
الْعَادِيَهْ [2]
(بُدَيْلٌ وَرِجَالُ خُزَاعَةَ بَيْنَ الرَّسُولِ وَقُرَيْشٍ) :
فَقَالَ الزُّهْرِيُّ فِي حَدِيثِهِ: فَلَمَّا اطْمَأَنَّ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَاهُ بُدَيْلُ ابْن وَرْقَاءَ
الْخُزَاعِيُّ، فِي رِجَالٍ مِنْ خُزَاعَةَ، فَكَلَّمُوهُ وَسَأَلُوهُ: مَا
الَّذِي جَاءَ بِهِ؟
فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ يُرِيدُ حَرْبًا، وَإِنَّمَا جَاءَ
زَائِرًا لِلْبَيْتِ، وَمُعَظِّمًا لِحُرْمَتِهِ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ
نَحْوًا مِمَّا قَالَ لِبِشْرِ بْنِ سُفْيَانَ، فَرَجَعُوا إلَى قُرَيْشٍ
فَقَالُوا: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إنَّكُمْ تَعْجَلُونَ عَلَى مُحَمَّدٍ،
إنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يَأْتِ لِقِتَالِ، وَإِنَّمَا جَاءَ زَائِرًا هَذَا
الْبَيْتَ، فَاتَّهَمُوهُمْ وَجَبَهُوهُمْ [3] وَقَالُوا: وَإِنْ كَانَ
جَاءَ وَلَا يُرِيدُ قِتَالًا، فَوَ اللَّهِ لَا يَدْخُلُهَا عَلَيْنَا
عَنْوَةً أَبَدًا، وَلَا تَحَدَّثَ بِذَلِكَ عَنَّا الْعَرَبُ.
__________
[1] يميح على النَّاس: يمْلَأ الدلاء.
[2] الْوَاهِيَة: المسترخية الواسعة الشق،. والعادية: الْقَوْم الَّذين
يعدون، أَي يسرعون الْعَدو.
[3] جبهوهم: خاطبوهم بِمَا يكْرهُونَ.
(2/311)
قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَكَانَتْ خُزَاعَةُ
عَيْبَةَ نُصْحِ [1] رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
مُسْلِمُهَا وَمُشْرِكُهَا، لَا يُخْفُونَ عَنْهُ شَيْئًا كَانَ بِمَكَّةَ.
(مِكْرَزٌ رَسُولُ قُرَيْشٍ إلَى الرَّسُولِ) :
قَالَ: ثُمَّ بَعَثُوا إلَيْهِ مِكْرَزَ بْنَ حَفْصِ بْنِ الْأَخْيَفِ،
أَخَا بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقْبِلًا قَالَ: هَذَا رَجُلٌ غَادِرٌ، فَلَمَّا
انْتَهَى إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَكَلَّمَهُ، قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
نَحْوًا مِمَّا قَالَ لِبُدَيْلٍ وَأَصْحَابِهِ، فَرَجَعَ إلَى قُرَيْشٍ
فَأَخْبَرَهُمْ بِمَا قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ.
(الْحُلَيْسُ رَسُولٌ مِنْ قُرَيْشٍ إلَى الرَّسُولِ) :
ثُمَّ بَعَثُوا إلَيْهِ الْحُلَيْسَ بْنَ عَلْقَمَةَ أَوْ ابْنَ زَبَّانَ،
وَكَانَ يَوْمَئِذٍ سَيِّدَ الْأَحَابِيشِ، وَهُوَ أَحَدُ بَنِي الْحَارِثِ
بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إنَّ هَذَا مِنْ قَوْمٍ
يَتَأَلَّهُونَ [2] ، فَابْعَثُوا الْهَدْيَ فِي وَجْهِهِ حَتَّى يَرَاهُ،
فَلَمَّا رَأَى الْهَدْيَ يَسِيلُ عَلَيْهِ مِنْ عُرْضِ [3] الْوَادِي فِي
قَلَائِدِهِ [4] ، وَقَدْ أَكَلَ أَوْبَارَهُ مِنْ طُولِ الْحَبْسِ عَنْ
مَحِلِّهِ [5] ، رَجَعَ إلَى قُرَيْشٍ، وَلَمْ يَصِلْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إعْظَامًا لَمَا رَأَى، فَقَالَ لَهُمْ
ذَلِكَ. قَالَ: فَقَالُوا لَهُ: اجْلِسْ، فَإِنَّمَا أَنْتَ أَعْرَابِيٌّ
لَا عِلْمَ لَكَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ:
أَنَّ الْحُلَيْسَ غَضِبَ عِنْدَ ذَلِكَ وَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ،
وَاَللَّهِ مَا عَلَى هَذَا حَالَفْنَاكُمْ، وَلَا عَلَى هَذَا
عَاقَدْنَاكُمْ.
أَيُصَدُّ عَنْ بَيْتِ اللَّهِ مَنْ جَاءَ مُعَظِّمًا لَهُ! وَاَلَّذِي
نَفْسُ الْحُلَيْسِ بِيَدِهِ، لَتُخَلُّنَّ بَيْنَ مُحَمَّدٍ وَبَيْنَ مَا
جَاءَ لَهُ، أَوْ لَأَنْفِرَنَّ بِالْأَحَابِيشِ نَفْرَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ.
قَالَ: فَقَالُوا لَهُ: مَهْ، كُفَّ عَنَّا يَا حُلَيْسُ حَتَّى نَأْخُذَ
لِأَنْفُسِنَا مَا نَرْضَى بِهِ.
__________
[1] عَيْبَة نصح الرَّسُول، أَي خاصته وَأَصْحَاب سره. وَلَيْسَ فِي أكلمة
«نصح» .
[2] يتألهون: يتعبدون ويعظمون أَمر الْإِلَه.
[3] عرض الْوَادي: جَانِبه.
[4] القلائد: مَا يعلق فِي أَعْنَاق الْهدى ليعلم أَنه هدى.
[5] مَحَله: مَوْضِعه الّذي ينْحَر فِيهِ من الْحرم.
(2/312)
(عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُود رَسُول الله مِنْ
قُرَيْشٍ إلَى الرَّسُولِ) :
قَالَ الزُّهْرِيُّ فِي حَدِيثِهِ: ثُمَّ بَعَثُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُرْوَةَ بْنَ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيَّ،
فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إنِّي قَدْ رَأَيْتُ مَا يَلْقَى مِنْكُمْ
مَنْ بَعَثْتُمُوهُ إلَى مُحَمَّدٍ إذْ جَاءَكُمْ مِنْ التَّعْنِيفِ
وَسُوءِ اللَّفْظِ، وَقَدْ عَرَفْتُمْ أَنَّكُمْ وَالِدٌ [1] وَإِنِّي
وَلَدٌ- وَكَانَ عُرْوَةُ لِسُبَيْعَةَ بِنْتِ عَبْدِ شَمْسٍ- وَقَدْ
سَمِعْتُ بِاَلَّذِي نَابَكُمْ، فَجَمَعْتُ مَنْ أَطَاعَنِي مِنْ قَوْمِي،
ثُمَّ جِئْتُكُمْ حَتَّى آسَيْتُكُمْ [2] بِنَفْسِي، قَالُوا: صَدَقْتُ،
مَا أَنْتَ عِنْدَنَا بِمُتَّهَمٍ. فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ:
يَا مُحَمَّد، أَجمعت أَو شَاب [3] النَّاسِ، ثُمَّ جِئْتَ بِهِمْ إلَى
بَيْضَتِكَ [4] لِتَفُضَّهَا [5] بِهِمْ، إنَّهَا قُرَيْشٌ قَدْ خَرَجَتْ
مَعَهَا الْعُوذُ الْمَطَافِيلُ. قَدْ لَبِسُوا جُلُودَ النُّمُورِ،
يُعَاهِدُونَ اللَّهَ لَا تَدْخُلُهَا عَلَيْهِمْ عَنْوَةً أَبَدًا.
وَاَيْمُ اللَّهِ، لِكَأَنِّي بِهَؤُلَاءِ قَدْ انْكَشَفُوا عَنْكَ غَدًا.
قَالَ: وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاعِدٌ، فَقَالَ: امصص بظر اللات، أَنَحْنُ نَنْكَشِفُ
عَنْهُ؟ قَالَ: مَنْ هَذَا يَا مُحَمَّدُ؟ قَالَ:
هَذَا ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ، قَالَ: أَمَا وَاَللَّهِ لَوْلَا يَدٌ
كَانَتْ لَكَ عِنْدِي لَكَافَأْتُكَ بِهَا، وَلَكِنْ هَذِهِ بِهَا، قَالَ:
ثُمَّ جَعَلَ يَتَنَاوَلُ لِحْيَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَهُوَ يُكَلِّمُهُ.
قَالَ: وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ وَاقِفٌ عَلَى رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيدِ.
قَالَ: فَجَعَلَ يَقْرَعُ يَدَهُ إذَا تَنَاوَلَ لِحْيَةَ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَقُولُ:
اُكْفُفْ يَدَكَ عَنْ وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ لَا تَصِلَ إلَيْكَ، قَالَ:
فَيَقُولُ عُرْوَةُ: وَيْحَكَ! مَا أَفَظَّكَ وَأَغْلَظَكَ! قَالَ:
فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ
لَهُ عُرْوَةُ: مَنْ هَذَا يَا مُحَمَّدُ؟ قَالَ: هَذَا ابْنُ أَخِيكَ
الْمُغِيرَةُ ابْن شُعْبَةَ، قَالَ: أَيْ غُدَرُ، وَهَلْ غَسَلْتُ
سَوْأَتَكَ إلَّا بِالْأَمْسِ. - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أَرَادَ عُرْوَةُ
بِقَوْلِهِ هَذَا أَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ قَبْلَ إسْلَامِهِ
قَتَلَ
__________
[1] وَالِد: أَي كل وَاحِد مِنْكُم كالوالد: وَقيل أَي أَنكُمْ حَيّ قد
ولدني لِأَنَّهُ كَانَ لسفيعة بنت عبد شمس.
[2] آسيتكم: عاونتكم.
[3] الأوشاب: الأخلاط.
[4] بَيْضَة الرجل: أَهله وقبيلته.
[5] تفضها: تكسرها.
(2/313)
ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ بَنِي
مَالِكٍ، مِنْ ثَقِيفٍ، فَتَهَايَجَ الْحَيَّانِ مِنْ ثَقِيفٍ: بَنُو
مَالِكٍ رَهْطُ الْمَقْتُولِينَ، وَالْأَحْلَافُ رَهْطُ الْمُغِيرَةِ،
فَوَدَى عُرْوَةُ الْمَقْتُولِينَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ دِيَةً، وَأَصْلَحَ
ذَلِكَ الْأَمْرَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَكَلَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوٍ مِمَّا كَلَّمَ بِهِ
أَصْحَابَهُ، وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ يُرِيدُ حَرْبًا.
فَقَامَ مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَقَدْ رَأَى مَا يَصْنَعُ بِهِ أَصْحَابُهُ، لَا يَتَوَضَّأُ إلَّا
ابْتَدَرُوا وُضُوءَهُ، وَلَا يَبْصُقُ بُصَاقًا إلَّا ابْتَدَرُوهُ. وَلَا
يَسْقُطُ مِنْ شَعْرِهِ شَيْءٌ إلَّا أَخَذُوهُ. فَرَجَعَ إلَى قُرَيْشٍ،
فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إنِّي قَدْ جِئْتُ كِسْرَى فِي مُلْكِهِ،
وَقَيْصَرَ فِي مُلْكِهِ. وَالنَّجَاشِيَّ فِي مُلْكِهِ. وَإِنِّي
وَاَللَّهِ مَا رَأَيْتُ مَلِكًا فِي قَوْمٍ قَطُّ مِثْلَ مُحَمَّدٍ فِي
أَصْحَابِهِ، وَلَقَدْ رَأَيْتُ قَوْمًا لَا يُسْلِمُونَهُ لِشَيْءِ
أَبَدًا، فَرَوْا رَأْيَكُمْ.
(خِرَاشٌ رَسُولُ الرَّسُولِ إلَى قُرَيْشٍ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا خِرَاشَ بْنَ
أُمَيَّةَ الْخُزَاعِيَّ، فَبَعَثَهُ إلَى قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ، وَحَمَلَهُ
عَلَى بَعِيرٍ لَهُ يُقَالُ لَهُ الثَّعْلَبُ، لِيُبَلِّغَ أَشْرَافَهُمْ
عَنْهُ مَا جَاءَ لَهُ، فَعَقَرُوا بِهِ جَمْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَرَادُوا قَتْلَهُ، فَمَنَعَتْهُ
الْأَحَابِيشُ، فَخَلَّوْا سَبِيلَهُ، حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(النَّفَرُ الْقُرَشِيُّونَ الَّذِينَ أَرْسَلَتْهُمْ قُرَيْشٌ
لِلْعُدْوَانِ ثُمَّ عَفَا عَنْهُمْ الرَّسُولُ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَدْ حَدَّثَنِي بَعْضُ مَنْ لَا أَتَّهِمُ عَنْ
عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ قُرَيْشًا
كَانُوا بَعَثُوا أَرْبَعِينَ رَجُلًا مِنْهُمْ أَوْ خَمْسِينَ رَجُلًا،
وَأَمَرُوهُمْ أَنْ يُطِيفُوا بِعَسْكَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِيُصِيبُوا لَهُمْ مِنْ أَصْحَابِهِ أَحَدًا،
فَأُخِذُوا أَخْذًا، فَأُتِيَ بِهِمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَفَا عَنْهُمْ، وَخَلَّى سَبِيلَهُمْ، وقَدْ
كَانُوا رَمَوْا فِي عَسْكَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِالْحِجَارَةِ وَالنَّبْلِ.
(2/314)
(عُثْمَانُ رَسُولُ مُحَمَّدٍ إلَى قُرَيْشٍ) :
ثُمَّ دَعَا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ لِيَبْعَثَهُ إلَى مَكَّةَ،
فَيُبَلِّغُ عَنْهُ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ مَا جَاءَ لَهُ، فَقَالَ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي أَخَافُ قُرَيْشًا عَلَى نَفْسِي، وَلَيْسَ
بِمَكَّةَ مِنْ بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ أَحَدٌ يَمْنَعُنِي، وَقَدْ
عَرَفَتْ قُرَيْشٌ عَدَاوَتِي إيَّاهَا، وَغِلْظَتِي عَلَيْهَا، وَلَكِنِّي
أَدُلُّكَ عَلَى رَجُلٍ أَعَزَّ بِهَا مِنِّي، عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ.
فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُثْمَانَ بْنَ
عَفَّانَ، فَبَعَثَهُ إلَى أَبِي سُفْيَانَ وَأَشْرَافِ قُرَيْشٍ،
يُخْبِرُهُمْ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ لِحَرْبِ، وَإِنَّهُ إنَّمَا جَاءَ
زَائِرًا لِهَذَا الْبَيْتِ، وَمُعَظِّمًا لِحُرْمَتِهِ.
(إشَاعَةُ مَقْتَلِ عُثْمَانَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَخَرَجَ عُثْمَانُ إلَى مَكَّةَ، فَلَقِيَهُ
أَبَانُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ حِينَ دَخَلَ مَكَّةَ، أَوْ قَبْلَ
أَنْ يَدْخُلَهَا، فَحَمَلَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ أَجَارَهُ حَتَّى
بَلَّغَ رِسَالَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَانْطَلَقَ عُثْمَانُ حَتَّى أَتَى أَبَا سُفْيَانَ وَعُظَمَاءَ قُرَيْشٍ،
فَبَلَّغَهُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا
أَرْسَلَهُ بِهِ، فَقَالُوا لِعُثْمَانِ حِينَ فَرَغَ مِنْ رِسَالَةِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهِمْ: إنْ شِئْتُ
أَنْ تَطُوفَ بِالْبَيْتِ فَطُفْ، فَقَالَ: مَا كُنْتُ لِأَفْعَلَ حَتَّى
يَطُوفَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَاحْتَبَسَتْهُ قُرَيْشٌ عِنْدَهَا، فَبَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ
قَدْ قُتِلَ. |