سيرة ابن هشام ت السقا

أَمْرُ الْهُدْنَةِ

(إرْسَالُ قُرَيْشٍ سُهَيْلًا إلَى الرَّسُولِ لِلصُّلْحِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: ثُمَّ بَعَثَتْ قُرَيْشٌ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو، أَخَا بَنِي عَامِرِ ابْن لُؤَيٍّ، إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالُوا لَهُ: ائْتِ مُحَمَّدًا فَصَالِحْهُ، وَلَا يَكُنْ فِي صُلْحِهِ إلَّا أَنْ يَرْجِعَ عَنَّا عَامه هَذَا، فو الله لَا تُحَدِّثُ الْعَرَبُ عَنَّا أَنَّهُ دَخَلَهَا عَلَيْنَا عَنْوَةً أَبَدًا. فَأَتَاهُ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقْبِلًا، قَالَ: قَدْ أَرَادَ الْقَوْمُ الصُّلْحَ حِينَ بَعَثُوا هَذَا الرَّجُلَ. فَلَمَّا انْتَهَى سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَكَلَّمَ فَأَطَالَ الْكَلَامَ، وَتَرَاجَعَا، ثُمَّ جَرَى بَيْنَهُمَا الصُّلْحُ.

(عُمَرُ يُنْكِرُ عَلَى الرَّسُولِ الصُّلْحَ) :
فَلَمَّا الْتَأَمَ الْأَمْرُ وَلَمْ يَبْقَ إلَّا الْكِتَابُ، وَثَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَأَتَى أَبَا بَكْرٍ،
__________
[1] ضبأ إِلَيْهَا: لصق بهَا واستتر.
[2] اخْتلف فِي اسْم أَبى سِنَان هَذَا، فَقيل: وهب بن عبد الله، وَقيل: عبد الله بن وهب، وَقيل عَامر، وَقيل بل اسْمه وهب بن مُحصن بن حرثان، أَخُو عكاشة بن مُحصن، وَهَذَا الرأى الْأَخير أصح الآراء.
وَكَانَت وَفَاته فِي سنة خمس من الْهِجْرَة وَهُوَ ابْن أَرْبَعِينَ سنة. (رَاجع الِاسْتِيعَاب) .

(2/316)


فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ، أَلَيْسَ بِرَسُولِ اللَّهِ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: أَوَ لَسْنَا بِالْمُسْلِمِينَ؟ قَالَ:
بَلَى، قَالَ: أَوَ لَيْسُوا بِالْمُشْرِكِينَ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَعَلَامَ نُعْطَى الدَّنِيَّةَ [1] فِي دِينِنَا؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا عُمَرُ، الْزَمْ غَرْزَهُ [2] ، فَأَنِّي أَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ عُمَرُ:
وَأَنَا أَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، ثُمَّ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَسْتَ بِرَسُولِ اللَّهِ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: أَوَ لَسْنَا بِالْمُسْلِمِينَ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ:
أَوَ لَيْسُوا بِالْمُشْرِكِينَ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَعَلَامَ نُعْطَى الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا؟ قَالَ:
أَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، لَنْ أُخَالِفَ أَمْرَهُ، وَلَنْ يُضَيِّعَنِي! قَالَ: فَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ:
مَا زِلْتُ أَتَصَدَّقُ وَأَصُومُ وَأُصَلِّي وَأُعْتِقُ، مِنْ الَّذِي صَنَعْتُ يَوْمَئِذٍ! مَخَافَةَ كَلَامِي الَّذِي تَكَلَّمْتُ بِهِ، حَتَّى رَجَوْتُ أَنْ يَكُونَ خَيْرًا.

(عَلِيٌّ يَكْتُبُ شُرُوطَ الصُّلْحِ) :
قَالَ: ثُمَّ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَقَالَ: اُكْتُبْ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، قَالَ: فَقَالَ سُهَيْلٌ: لَا أَعْرِفُ هَذَا، وَلَكِنْ اُكْتُبْ: بِاسْمِكَ اللَّهمّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اُكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهمّ، فَكَتَبَهَا، ثُمَّ قَالَ: اُكْتُبْ: هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولَ اللَّهِ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو، قَالَ: فَقَالَ سُهَيْلٌ: لَوْ شَهِدْتُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ لَمْ أُقَاتِلْكَ، وَلَكِنْ اُكْتُبْ اسْمَكَ وَاسْمَ أَبِيكَ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اُكْتُبْ:
هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو، اصْطَلَحَا عَلَى وَضْعِ الْحَرْبِ عَنْ النَّاسِ عَشْرَ سِنِينَ يَأْمَنُ فِيهِنَّ النَّاسُ وَيَكُفُّ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، عَلَى أَنَّهُ مَنْ أَتَى مُحَمَّدًا مِنْ قُرَيْشٍ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهِ رَدَّهُ عَلَيْهِمْ، وَمَنْ جَاءَ قُرَيْشًا مِمَّنْ مَعَ مُحَمَّدٍ لَمْ يَرُدُّوهُ عَلَيْهِ، وَإِنَّ بَيْنَنَا عَيْبَةً مَكْفُوفَةً [3] ، وَأَنَّهُ لَا إسْلَالَ وَلَا إغْلَالَ [4] ، وَأَنَّهُ مَنْ
__________
[1] الدنية: الذل وَالْأَمر الخسيس.
[2] الزم غرز. أَي الزم أمره. والغرز للرحل: بِمَنْزِلَة الركاب للسرج.
[3] أَي صُدُور منطوية على مَا فِيهَا، لَا تبدي عَدَاوَة، وَضرب العيبة مثلا.
[4] الْإِسْلَال: السّرقَة الْخفية. وَالْإِغْلَال: الْخِيَانَة.

(2/317)


أَحَبَّ أَنْ يَدْخُلَ فِي عَقْدِ مُحَمَّدٍ وَعَهْدِهِ دَخَلَ فِيهِ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَدْخُلَ فِي عَقْدِ قُرَيْشٍ وَعَهْدِهِمْ دَخَلَ فِيهِ.

(دُخُولُ خُزَاعَةَ فِي عَهْدِ مُحَمَّدٍ وَبَنِيَّ بَكْرٍ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ) :
فَتَوَاثَبَتْ خُزَاعَةُ فَقَالُوا: نَحْنُ فِي عَقْدِ مُحَمَّدٍ وَعَهْدِهِ، وَتَوَاثَبَتْ بَنُو بَكْرٍ، فَقَالُوا: نَحْنُ فِي عَقْدِ قُرَيْشٍ وَعَهْدِهِمْ، وَأَنَّكَ تَرْجِعُ عَنَّا عَامَكَ هَذَا، فَلَا تَدْخُلُ عَلَيْنَا مَكَّةَ، وَأَنَّهُ إذَا كَانَ عَامُ قَابِلٍ، خَرَجْنَا عَنْكَ فَدَخَلْتهَا بِأَصْحَابِكَ، فَأَقَمْتَ بِهَا ثَلَاثًا، مَعَكَ سِلَاحُ الرَّاكِبِ، السُّيُوفُ فِي الْقُرُبِ، لَا تَدْخُلُهَا بِغَيْرِهَا.

(مَا أَهَمَّ النَّاسَ مِنْ الصُّلْحِ وَمَجِيءُ أَبِي جَنْدَلٍ) :
فَبَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ هُوَ وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، إذْ جَاءَ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرِو يَرْسُفَ فِي الْحَدِيدِ، قَدْ انْفَلَتَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجُوا وَهُمْ لَا يَشُكُّونَ فِي الْفَتْحِ، لِرُؤْيَا رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا رَأَوْا مَا رَأَوْا مِنْ الصُّلْحِ وَالرُّجُوعِ، وَمَا تَحَمَّلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَفْسِهِ دَخَلَ عَلَى النَّاسِ مِنْ ذَلِكَ أَمْرٌ عَظِيمٌ، حَتَّى كَادُوا يُهْلِكُونَ، فَلَمَّا رَأَى سُهَيْلٌ أَبَا جَنْدَلٍ قَامَ إلَيْهِ فَضَرَبَ وَجْهَهُ، وَأَخَذَ بِتَلْبِيبِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، قَدْ لَجَّتْ [1] الْقَضِيَّةُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكَ هَذَا، قَالَ: صَدَقْتَ، فَجَعَلَ يَنْتُرُهُ [2] بِتَلْبِيبِهِ، وَيَجُرُّهُ لِيَرُدَّهُ إلَى قُرَيْشٍ، وَجَعَلَ أَبُو جَنْدَلٍ يَصْرُخُ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، أَأُرَدُّ إلَى الْمُشْرِكِينَ يَفْتِنُونِي فِي دِينِي؟ فَزَادَ ذَلِكَ النَّاسَ إلَى مَا بِهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا أَبَا جَنْدَلٍ، اصْبِرْ وَاحْتَسِبْ، فَإِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ لَكَ وَلِمَنْ مَعَكَ مِنْ الْمُسْتَضْعَفِينَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا، إنَّا قَدْ عَقَدْنَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ صُلْحًا، وَأَعْطَيْنَاهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَأَعْطَوْنَا عَهْدَ اللَّهِ، وَإِنَّا لَا نَغْدِرُ بِهِمْ، قَالَ: فَوَثَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مَعَ أَبِي جَنْدَلٍ يَمْشِي إلَى جَنْبِهِ، وَيَقُولُ: اصْبِرْ يَا أَبَا جَنْدَلٍ، فَإِنَّمَا هُمْ الْمُشْرِكُونَ، وَإِنَّمَا دَمُ أَحَدِهِمْ دَمُ كَلْبٍ. قَالَ: وَيُدْنِي قَائِمَ السَّيْفِ مِنْهُ. قَالَ: يَقُولُ عُمَرُ:
__________
[1] لجت الْقَضِيَّة: تمت.
[2] ينتره: يجذبه جذبا شَدِيدا.

(2/318)


رَجَوْتُ أَنْ يَأْخُذَ السَّيْفَ فَيَضْرِبُ بِهِ أَبَاهُ، قَالَ: فَضَنَّ الرَّجُلُ بِأَبِيهِ، وَنَفَذَتْ الْقَضِيَّةُ.

(مَنْ شَهِدُوا عَلَى الصُّلْحِ) :
فَلَمَّا فَرَغَ (رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) مِنْ الْكِتَابِ أَشْهَدَ عَلَى الصُّلْحِ رِجَالًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَرِجَالًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ: أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَمَحْمُودُ بْنُ مَسْلَمَةَ، وَمِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكٌ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَكَتَبَ، وَكَانَ هُوَ كَاتِبَ الصَّحِيفَةِ.

(نَحَرَ الرَّسُولُ وَحَلْقُ فَاقْتَدَى بِهِ النَّاسُ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُضْطَرَبًا فِي الْحِلِّ [1] ، وَكَانَ يُصَلِّي فِي الْحُرُمِ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الصُّلْحِ قَدِمَ إلَى هَدْيِهِ فَنَحَرَهُ، ثُمَّ جَلَسَ فَحَلَقَ رَأْسَهُ، وَكَانَ الَّذِي حَلَقَهُ، فِيمَا بَلَغَنِي، فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ خِرَاشَ بْنَ أُمَيَّةَ بْنِ الْفَضْلِ الْخُزَاعِيَّ، فَلَمَّا رَأَى النَّاسُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ نَحَرَ وَحَلَقَ تَوَاثَبُوا يَنْحَرُونَ وَيَحْلِقُونَ.

(دَعْوَةُ الرَّسُولِ لِلْمُحَلِّقِينَ ثُمَّ لِلْمُقَصِّرِينَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهَدٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: حَلَقَ رِجَالٌ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَقَصَّرَ آخَرُونَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَرْحَمُ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ، قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: يَرْحَمُ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ، قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: يَرْحَمُ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ، قَالُوا:
وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: وَالْمُقَصِّرِينَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: فَلِمَ ظَاهَرْتُ [2] التَّرْحِيمَ لِلْمُحَلِّقِينَ دُونَ الْمُقَصِّرِينَ؟ قَالَ: لَمْ يَشُكُّوا.
__________
[1] مضطربا فِي الْحل: أَي أَن أبنيته كَانَت مَضْرُوبَة فِي الْحل، وَكَانَت صلَاته فِي الْحرم، وَهَذَا لقرب الحديبيّة من الْحرم.
[2] ظَاهَرت الترحيم: أَي قويته وأكدته بتكريرك إِيَّاه، والمظاهرة: الْقُوَّة والمعاونة.

(2/319)


(أَهْدَى الرَّسُولُ جَمَلًا فِيهِ بَرَّةٌ مِنْ فِضَّةٍ) :
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ: حَدَّثَنِي مُجَاهِدٌ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْدَى عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي هَدَايَاهُ جَمَلًا لِأَبِي جَهْلٍ، فِي رَأْسِهِ بَرَّةٌ [1] مِنْ فِضَّةٍ، يَغِيظُ بِذَلِكَ الْمُشْرِكِينَ.

(نُزُولُ سُورَةِ الْفَتْحِ) :
قَالَ الزُّهْرِيُّ فِي حَدِيثِهِ: ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَجْهِهِ ذَلِكَ قَافِلًا، حَتَّى إذَا كَانَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، نَزَلَتْ سُورَةُ الْفَتْحِ: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ، وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ، وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً 48: 1- 2.

(ذِكْرُ الْبَيْعَةِ) :
ثُمَّ كَانَتْ الْقِصَّةُ فِيهِ وَفِي أَصْحَابِهِ، حَتَّى انْتَهَى إلَى ذِكْرِ الْبَيْعَةِ، فَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ:
إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ، يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ، فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ، وَمن أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ، فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً 48: 10.

(ذِكْرُ مَنْ تَخَلَّفَ) :
ثُمَّ ذَكَرَ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ مِنْ الْأَعْرَابِ، ثُمَّ قَالَ: حِينَ اسْتَفَزَّهُمْ لِلْخُرُوجِ مَعَهُ فَأَبْطَئُوا عَلَيْهِ: «سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا 48: 11» . ثُمَّ الْقِصَّةُ عَنْ خَبَرِهِمْ، حَتَّى انْتَهَى إلَى قَوْلِهِ: «سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ، يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ، قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ 48: 15» ... ثُمَّ الْقِصَّةُ عَنْ خَبَرِهِمْ وَمَا عَرَضَ عَلَيْهِمْ مِنْ جِهَادِ الْقَوْمِ أُولِي الْبَأْسِ الشَّدِيدِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ،
__________
[1] الْبرة: حَلقَة تجْعَل فِي أنف الْبَعِير ليذل ويرتاض، فَإِن كَانَت من شعر فَهِيَ خزامه، وَإِن كَانَت من خشب فَهِيَ خشَاش.

(2/320)


عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: فَارِسٌ. قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ، عَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: أُولُو الْبَأْسِ الشَّدِيدِ حَنِيفَةُ مَعَ الْكَذَّابِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ، فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ، وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً. وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها، وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً. وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ، وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ، وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً. وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها، وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً 48: 18- 21.

(ذِكْرُ كَفِّ الرَّسُولِ عَنْ الْقِتَالِ) :
ثُمَّ ذَكَرَ مَحْبِسَهُ وَكَفَّهُ إيَّاهُ عَنْ الْقِتَالِ، بَعْدَ الظَّفَرِ مِنْهُ بِهِمْ، يَعْنِي النَّفَرَ الَّذِينَ أَصَابَ مِنْهُمْ وَكَفَّهُمْ عَنْهُ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ، وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ. بَصِيراً 48: 24. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: هُمُ. الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ 48: 25.

(تَفْسِيرُ ابْنِ هِشَامٍ لِبَعْضِ الْغَرِيبِ) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الْمَعْكُوفُ: الْمَحْبُوسُ، قَالَ أَعْشَى بَنِي قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ:
وَكَأَنَّ السُّمُوطَ عَكَّفَهُ السِّلْكُ ... بِعِطْفِي جَيْدَاءَ أُمِّ غَزَالِ [1]
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ:
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: «وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ 48: 25» ، وَالْمَعَرَّةُ: الْغُرْمُ، أَيْ أَنْ تُصِيبُوا مِنْهُمْ (مَعَرَّةً) بِغَيْرِ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوا دِيَتَهُ، فَإِمَّا إثْمٌ فَلَمْ يُخَشِّهِ عَلَيْهِمْ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: بَلَغَنِي عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْوَلِيدِ
__________
[1] السموط: جمع سمط، وَهُوَ مَا يعلق من القلادة على الصَّدْر. والسلك: الْخَيط الّذي ينظم فِيهِ.
والجيداء: الطَّوِيلَة الْجيد.
21- سيرة ابْن هِشَام- 2

(2/321)


ابْن الْمُغِيرَةِ، وَسَلَمَةَ بْنِ هِشَامٍ، وَعَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، وَأَبِي جَنْدَلِ بْنِ سُهَيْلٍ، وَأَشْبَاهِهِمْ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ قَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ، حَمِيَّةَ، الْجاهِلِيَّةِ 48: 26 يَعْنِي سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو حِينَ حَمِيَ أَنْ يَكْتُبَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى 48: 26، وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا: أَيْ التَّوْحِيدُ، شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا 48: 27: أَيْ لِرُؤْيَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي رَأَى، أَنَّهُ سَيَدْخُلُ مَكَّةَ آمِنًا لَا يَخَافُ، يَقُولُ: مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ، وَمُقَصِّرِينَ مَعَهُ لَا تَخَافُونَ، فَعَلِمَ مِنْ ذَلِكَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا، فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا، صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ.
يَقُولُ الزُّهْرِيِّ: فَمَا فُتِحَ فِي الْإِسْلَامِ فَتْحٌ قَبْلَهُ كَانَ أَعْظَمَ مِنْهُ، إنَّمَا كَانَ الْقِتَالُ حَيْثُ الْتَقَى النَّاسُ، فَلَمَّا كَانَتْ الْهُدْنَةُ، وَوُضِعَتْ الْحَرْبُ، وَآمَنَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَالْتَقَوْا فَتَفَاوَضُوا فِي الْحَدِيثِ وَالْمُنَازَعَةِ، فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدٌ بِالْإِسْلَامِ يَعْقِلُ شَيْئًا إلَّا دَخَلَ فِيهِ، وَلَقَدْ دَخَلَ فِي تِينِكَ السَّنَتَيْنِ مِثْلُ مَنْ كَانَ فِي الْإِسْلَامِ قَبْلَ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرَ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَالدَّلِيلُ عَلَى قَوْلِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج إِلَى الحديبيّة فِي ألف وَأَرْبع مائَة، فِي قَوْلِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، ثُمَّ خَرَجَ عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ بَعْدَ ذَلِكَ بِسَنَتَيْنِ فِي عَشَرَةِ آلَافٍ.

(2/322)