سيرة ابن هشام ت السقا

غَزْوَةُ حُنَيْنٍ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ بَعْدَ الْفَتْحِ

(اجْتِمَاعُ هَوَازِنَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَلَمَّا سَمِعَتْ هَوَازِنُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ مَكَّةَ [3] ، جَمَعَهَا مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ النَّصْرِيُّ، فَاجْتَمَعَ إلَيْهِ مَعَ هَوَازِنَ ثَقِيفٌ كُلُّهَا، وَاجْتَمَعَتْ نَصْرٌ وَجُشَمٌ كُلُّهَا، وَسَعْدُ بْنُ بَكْرٍ، وَنَاسٌ مِنْ بَنِي هِلَالٍ، وَهُمْ قَلِيلٌ، وَلَمْ يَشْهَدْهَا مِنْ قَيْسِ عَيْلَانَ إلَّا هَؤُلَاءِ، وَغَابَ عَنْهَا فَلَمْ يَحْضُرْهَا مِنْ هَوَازِنَ كَعْبٌ وَلَا كِلَابٌ، وَلَمْ يَشْهَدْهَا مِنْهُمْ أَحَدٌ لَهُ اسْمٌ، وَفِي بَنِي جُشَمٍ دُرَيْدُ بْنُ الصِّمَّةِ شَيْخٌ كَبِيرٌ، لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ إلَّا التَّيَمُّنَ بِرَأْيِهِ وَمُعْرِفَتَهُ بِالْحَرْبِ، وَكَانَ شَيْخًا مُجَرِّبًا، وَفِي ثَقِيفٍ سَيِّدَانِ لَهُمْ، (و [4] ) فِي الْأَحْلَافِ قَارِبُ بْنُ الْأَسْوَدِ بْنِ مَسْعُودِ ابْن مُعَتِّبٍ، وَفِي بَنِي مَالِكٍ ذُو الْخِمَارِ سُبَيْعُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ مَالِكٍ، وَأَخُوهُ أَحْمَرُ بْنُ الْحَارِثِ، وَجِمَاعُ أَمْرِ النَّاسِ إلَى مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ النَّصْرِيِّ. فَلَمَّا أَجْمَعَ السَّيْرَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَطَّ مَعَ النَّاسِ أَمْوَالَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ، فَلَمَّا نَزَلَ بِأَوْطَاسٍ [5]
__________
[1] كَذَا فِي أ. وَمعنى لَا شوى لَهَا: أَنَّهَا لَا تبقى على شَيْء. وَفِي أ «لَا ثوى لَهَا» .
[2] بوئى: ارجعي، وَفِي الْبَيْت خرم.
[3] كَذَا فِي م، ر. وَفِي أ «من فتح مَكَّة» .
[4] زِيَادَة عَن أ.
[5] أَوْطَاس: راد فِي ديار هوَازن كَانَت فِيهِ وقْعَة حنين، وفيهَا قَالَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(2/437)


اجْتَمَعَ إلَيْهِ النَّاسُ، وَفِيهِمْ دُرَيْدُ بْنُ الصِّمَّةِ فِي شِجَارٍ [1] لَهُ يُقَادُ بِهِ، فَلَمَّا نَزَلَ قَالَ:
بِأَيِّ وَادٍ أَنْتُمْ؟ قَالُوا: بِأَوْطَاسٍ، قَالَ: نِعْمَ مَجَالُ الْخَيْلِ! لَا حَزْنٌ ضِرْسٌ [2] ، وَلَا سَهْلٌ دَهْسٌ [3] ، مَا لِي أَسْمَعُ رُغَاءَ الْبَعِيرِ، وَنُهَاقَ الْحَمِيرِ، وَبُكَاءَ الصَّغِيرِ، وَيُعَارَ الشَّاءِ [4] ؟ قَالُوا: سَاقَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ مَعَ النَّاسِ أَمْوَالَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ.
قَالَ: أَيْنَ مَالِكٌ؟ قِيلَ: هَذَا مَالِكٌ وَدُعِيَ لَهُ، فَقَالَ: يَا مَالِكُ، إنَّكَ قَدْ أَصْبَحْتَ رَئِيسَ قَوْمِكَ، وَإِنَّ هَذَا يَوْمٌ كَائِنٌ لَهُ مَا بَعْدَهُ من الأيّام. مَا لي أَسْمَعُ رُغَاءَ الْبَعِيرِ، وَنُهَاقَ الْحَمِيرِ، وَبُكَاءَ الصَّغِيرِ، وَيُعَارَ الشَّاءِ؟ قَالَ: سُقْتُ مَعَ النَّاسِ أَمْوَالَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ، قَالَ: وَلِمَ ذَاكَ؟ قَالَ: أَرَدْتُ أَنْ أَجْعَلَ خَلْفَ كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ أَهْلَهُ وَمَالَهُ، لِيُقَاتِلَ عَنْهُمْ، قَالَ: فَأَنْقَضَ بِهِ [5] . ثُمَّ قَالَ: رَاعِي ضَأْنٍ [6] وَاَللَّهِ! وَهَلْ يَرُدُّ الْمُنْهَزِمَ شَيْءٌ؟ إنَّهَا إنْ كَانَتْ لَكَ لَمْ يَنْفَعْكَ إلَّا رَجُلٌ بِسَيْفِهِ وَرُمْحِهِ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَيْكَ فُضِحْتُ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ، ثُمَّ قَالَ: مَا فَعَلَتْ كَعْبٌ وَكِلَابٌ؟
قَالُوا: لَمْ يَشْهَدْهَا مِنْهُمْ أَحَدٌ، قَالَ: غَابَ الْحَدُّ [7] وَالْجِدُّ، وَلَوْ كَانَ يَوْمَ عَلَاءٍ وَرِفْعَةٍ لَمْ تَغِبْ عَنْهُ كَعْبٌ وَلَا كِلَابٌ، وَلَوَدِدْتُ أَنَّكُمْ فَعَلْتُمْ مَا فَعَلَتْ كَعْبٌ وَكِلَابٌ، فَمَنْ شَهِدَهَا مِنْكُمْ؟ قَالُوا: عَمْرُو بْنُ عَامِرٍ، وَعَوْفُ بْنُ عَامِرٍ، قَالَ:
ذَانِكَ الْجَذَعَانِ [8] مِنْ عَامِرٍ، لَا يَنْفَعَانِ وَلَا يَضُرَّانِ، يَا مَالِكُ، إنَّكَ لَمْ تَصْنَعْ بِتَقْدِيمِ
__________
[ () ] الْآن حمى الْوَطِيس، وَذَلِكَ حِين استعرت الْحَرْب، وَهِي من الْكَلم الَّتِي لم يسْبق النَّبِي إِلَيْهَا. (رَاجع مُعْجم ياقوت والسهيليّ) .
[1] الشجار: شبه الهودج إِلَّا أَنه مَكْشُوف الْأَعْلَى. (عَن أَبى ذَر) .
[2] الْحزن: الْمُرْتَفع من الأَرْض. والضرس: الّذي فِيهِ حِجَارَة محددة.
[3] الدهس: اللين الْكثير التُّرَاب.
[4] يعار الشَّاء: صَوتهَا.
[5] أنقض بِهِ، أَي زَجره. من الإنقاض، وَهُوَ أَن تلصق لسَانك بالحنك الْأَعْلَى، ثمَّ تصوت فِي حافيته من غير أَن ترفع طرفه عَن مَوْضِعه. أَو هُوَ التصويت بالوسطى والإبهام كَأَنَّك تدفع بهما شَيْئا، وَذَلِكَ حِين تنكر على غَيْرك قولا أَو عملا.
[6] قَوْله «رَاعى ضَأْن» يجهله بذلك، كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
أَصبَحت هزاء لراعى الضَّأْن أعجبه ... مَاذَا يريبك منى رَاعى الضَّأْن؟
[7] غَابَ الْحَد: يُرِيد الشجَاعَة والحدة.
[8] الجذعان: يُرِيد أَنَّهُمَا ضعيفان فِي الْحَرْب، بِمَنْزِلَة الْجذع فِي سنه.

(2/438)


الْبَيْضَةِ بَيْضَةِ هَوَازِنَ [1] إلَى نُحُورِ الْخَيْلِ شَيْئًا، ارْفَعْهُمْ إلَى مُتَمَنَّعِ بِلَادِهِمْ وَعُلْيَا قَوْمِهِمْ، ثُمَّ الْقَ الصُّبَاءَ [2] عَلَى مُتُونِ الْخَيْلِ، فَإِنْ كَانَتْ لَكَ لَحِقَ بِكَ مَنْ وَرَاءَكَ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَيْكَ أَلْفَاكَ ذَلِكَ قَدْ أَحْرَزْتُ أَهْلَكَ وَمَالَكَ. قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَفْعَلُ ذَلِكَ، إنَّكَ قَدْ كَبِرْتُ وَكَبِرَ عقلك. وَالله لتطعينّنى يَا مَعْشَرَ هوَازن أَو لأتّكسئنّ عَلَى هَذَا السَّيْفِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ ظَهْرِي. وَكَرِهَ أَنْ يَكُونَ لِدُرَيْدِ بْنِ الصِّمَّةِ فِيهَا ذِكْرٌ أَوْ رَأْيٌ، فَقَالُوا: أَطَعْنَاكَ، فَقَالَ دُرَيْدُ بْنُ الصِّمَّةِ: هَذَا يَوْمٌ لَمْ أَشْهَدْهُ وَلَمْ يَفُتْنِي:
يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعْ ... أَخُبُّ فِيهَا وَأَضَعْ [3]
أَقُودُ وَطْفَاءَ الزَّمَعْ ... كَأَنَّهَا شَاةٌ صَدَعْ [4]
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أَنْشَدَنِي غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشِّعْرِ قَوْلَهُ:
«يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعْ
»

(الْمَلَائِكَةُ وَعُيُونُ مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ قَالَ مَالِكٌ لِلنَّاسِ: إذَا رَأَيْتُمُوهُمْ فَاكْسِرُوا جُفُونَ سُيُوفِكُمْ، ثُمَّ شُدُّوا شَدَّةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ.
قَالَ: وَحَدَّثَنِي أُمَيَّةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ أَنَّهُ حَدَّثَ: أَنَّ مَالِكَ بْنَ عَوْفٍ بَعَثَ عُيُونًا مِنْ رِجَالِهِ، فَأَتَوْهُ وَقَدْ تَفَرَّقَتْ أَوْصَالُهُمْ، فَقَالَ: وَيْلَكُمْ! مَا شَأْنُكُمْ؟ فَقَالُوا: رَأَيْنَا رِجَالًا بِيضًا عَلَى خيل بلق، فو الله مَا تَمَاسَكْنَا أَنْ أَصَابَنَا مَا ترى، فو الله مَا رَدَّهُ ذَلِكَ عَنْ وَجْهِهِ أَنْ مَضَى عَلَى مَا يُرِيدُ.

(بَعْثُ ابْنِ أَبِي حَدْرَدٍ عَيْنًا عَلَى هَوَازِنَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَلَمَّا سَمِعَ بِهِمْ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ إلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ
__________
[1] بَيْضَة هوَازن: جَمَاعَتهمْ.
[2] الصباء: جمع صابئ، وهم الْمُسلمُونَ عِنْدهم، كَانُوا يسمونهم بِهَذَا لأَنهم صبئوا من دينهم، أَي خَرجُوا من دين الْجَاهِلِيَّة إِلَى الْإِسْلَام.
[3] الْجذع: الشَّاب. والخبب والوضع: ضَرْبَان من السّير.
[4] الوطفاء: الطَّوِيلَة الشّعْر. والزمع: الشّعْر الّذي فَوق مربط قيد الدَّابَّة. يُرِيد فرسا صفتهَا هَكَذَا وَهُوَ مَحْمُود فِي وصف الْخَيل. وَالشَّاة هُنَا: الوعل. وصدع: أَي وعل بَين الوعلين، لَيْسَ بالعظيم وَلَا بالحقير.

(2/439)


ابْن أَبِي حَدْرَدٍ الْأَسْلَمِيَّ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْخُلَ فِي النَّاسِ، فَيُقِيمَ فِيهِمْ حَتَّى يَعْلَمَ عِلْمَهُمْ، ثُمَّ يَأْتِيَهُ بِخَبَرِهِمْ. فَانْطَلَقَ ابْنُ أَبِي حَدْرَدٍ، فَدَخَلَ فِيهِمْ، فَأَقَامَ فِيهِمْ، حَتَّى سَمِعَ وَعَلِمَ مَا قَدْ أَجْمَعُوا لَهُ مِنْ حَرْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسَمِعَ مِنْ مَالِكٍ وَأَمْرِ هَوَازِنَ مَا هُمْ عَلَيْهِ. ثُمَّ أَقْبَلَ حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، (فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ فَقَالَ عُمَرُ: كَذَبَ ابْنُ أَبِي حَدْرَدٍ. فَقَالَ ابْنُ أَبِي حَدْرَدٍ: إنْ كَذَّبْتنِي فَرُبَّمَا كَذَّبْتُ بِالْحَقِّ يَا عُمَرُ، فَقَدْ كَذَّبْتَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي. فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا تسمع مَا يَقُول ابْنُ أَبِي حَدْرَدٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كُنْتُ ضَالًّا فَهَدَاكَ اللَّهُ يَا عُمَرُ) [1] .

(سَأَلَ الرَّسُولُ صَفْوَانَ أَدْرَاعَهُ وَسِلَاحَهُ فَقَبِلَ) :
فَلَمَّا أَجْمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّيْرَ إلَى هَوَازِنَ لِيَلْقَاهُمْ، ذُكِرَ لَهُ أَنَّ عِنْدَ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ [2] أَدْرَاعًا لَهُ وَسِلَاحًا، فَأَرْسَلَ إلَيْهِ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكٌ.
فَقَالَ: يَا أَبَا أُمَيَّةَ، أَعِرْنَا سِلَاحَكَ هَذَا نَلْقَ فِيهِ عَدُوَّنَا غَدًا، فَقَالَ صَفْوَانُ:
أَغَصْبًا يَا مُحَمَّدُ؟ قَالَ: بَلْ عَارِيَةٌ وَمَضْمُونَةٌ حَتَّى نُؤَدِّيَهَا إلَيْكَ، قَالَ: لَيْسَ بِهَذَا بَأْس، فَأعْطَاهُ مائَة دِرْعٍ بِمَا يَكْفِيهَا مِنْ السِّلَاحِ، فَزَعَمُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَهُ [3] أَنْ يَكْفِيَهُمْ حَمْلَهَا، فَفَعَلَ.

(خُرُوجُ الرَّسُولِ بِجَيْشِهِ إلَى هَوَازِنَ) :
قَالَ: ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُ أَلْفَانِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ مَعَ عَشَرَةِ آلَافٍ مِنْ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ خَرَجُوا مَعَهُ، فَفَتَحَ اللَّهُ بِهِمْ مَكَّةَ، فَكَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، وَاسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَتَّابَ بْنَ أَسِيدِ بْنِ أَبِي الْعِيصِ بْنِ أُمَيَّةَ ابْن عَبْدِ شَمْسٍ عَلَى مَكَّةَ، أَمِيرًا عَلَى مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ مِنْ النَّاسِ، ثُمَّ مَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى وَجْهِهِ يُرِيدُ لِقَاءَ هَوَازِنَ.
__________
[1] مَا بَين القوسين أغفلته نُسْخَة أ. وَهُوَ مَذْكُور فِي شرح الزرقانى على الْمَوَاهِب من رِوَايَة الْوَاقِدِيّ.
[2] وَهُوَ يَوْمئِذٍ فِي الْمدَّة الَّتِي جعل لَهُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخِيَار فِيهَا. (رَاجع شرح الْمَوَاهِب) .
[3] كَذَا فِي أ. وَفِي م، ر: «طلب مِنْهُ أَن يكفيهم ... إِلَخ» .

(2/440)


(قَصِيدَةُ عَبَّاسِ ابْن مِرْدَاسٍ) :
فَقَالَ عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيُّ:
أَصَابَتْ الْعَامَ رِعْلًا غُولُ قَوْمِهِمْ ... وَسْطَ الْبُيُوتِ وَلَوْنُ الْغُولِ أَلْوَانُ [1]
يَا لَهْفَ أُمِّ كِلَابٍ إذْ تُبَيِّتُهُمْ ... خَيْلُ ابْنِ هَوْذَةَ لَا تُنْهَى وَإِنْسَانُ [2]
لَا تَلْفِظُوهَا وَشُدُّوا عَقْدَ ذِمَّتِكُمْ ... أَنَّ ابْنَ عَمِّكُمْ سَعْدٌ وَدُهْمَانُ [3]
لَنْ تَرْجِعُوهَا [4] وَإِنْ كَانَتْ مُجَلِّلَةً [5] ... مَا دَامَ فِي النَّعَمِ الْمَأْخُوذِ أَلْبَانُ
شَنْعَاءُ جلّل من سوءاتها حَضَنٌ ... وَسَالَ ذُو شَوْغَرٍ مِنْهَا وَسُلْوَانُ [6]
لَيْسَتْ بِأَطْيَبَ مِمَّا يَشْتَوِي حَذَفٌ ... إذْ قَالَ: كُلُّ شِوَاءِ الْعَيْرِ جُوفَانُ [7]
وَفِي هَوَازِنَ قَوْمٌ غَيْرَ أَنَّ بِهِمْ ... دَاءَ الْيَمَانِيِّ فَإِنْ لَمْ يَغْدِرُوا خَانُوا
فِيهِمْ أَخٌ لَوْ وَفَوْا أَوْ بَرَّ عَهْدُهُمْ ... وَلَوْ نَهَكْنَاهُمْ بِالطَّعْنِ قَدْ لَانُوا [8]
أَبْلِغْ هَوَازِنَ أَعْلَاهَا وَأَسْفَلَهَا ... مِنِّي رِسَالَةَ نُصْحٍ فِيهِ تِبْيَانُ
أَنِّي أَظُنُّ رَسُولَ اللَّهِ صَابِحَكُمْ ... جَيْشًا لَهُ فِي فَضَاءِ الْأَرْضِ أَرْكَانُ
فِيهِمْ أَخُوكُمْ سُلَيْمٌ غَيْرَ تَارِكِكُمْ ... وَالْمُسْلِمُونَ عِبَادَ اللَّهِ غَسَّانُ
وَفِي عِضَادَتِهِ الْيُمْنَى بَنُو أَسَدٍ ... وَالْأَجْرَبَانِ بَنُو عَبْسٍ وَذُبْيَانُ [9]
تَكَادُ تَرْجُفُ مِنْهُ الْأَرْضُ رَهْبَتَهُ ... وَفِي مُقَدَّمِهِ أَوْسٌ وَعُثْمَانُ
__________
[1] رعل: قَبيلَة من سليم. والغول: الداهية.
[2] إِنْسَان: قَبيلَة من قيس، ثمَّ من بنى نصر. قَالَه البرقي. وَقيل هم من بنى جشم بن بكر (انْظُر السهيليّ) . وَقَالَ أَبُو ذَر: إِنْسَان هُنَا اسْم قبيل فِي هوَازن.
[3] سعد ودهمان: ابْنا نصر بن مُعَاوِيَة بن بكر، من هوَازن.
[4] كَذَا فِي م، ر. وَفِي أ «لَا ترجعوها» .
[5] مُجَللَة: مغطية.
[6] حضن: جبل بِنَجْد. وَذُو شوغر، وسلوان: واديان.
[7] حذف هُنَا: اسْم رجل، وَهُوَ بِالْحَاء الْمُهْملَة والذال الْمُعْجَمَة. ويروى أَيْضا جدف بِالْجِيم وَالدَّال الْمُهْملَة، وَهِي رِوَايَة الخشى. وَالْعير: حمَار الْوَحْش. والجوفان: غرموله. يُرِيد أَن كل مَا يشوى من العير فَهُوَ كالغرمول لَا يستساغ.
[8] نهكناهم: أَي أذللناهم، وبالغنا فِي ضرهم.
[9] سميا الأجربين تَشْبِيها لَهما بالأجرب الّذي يفر النَّاس مِنْهُ.

(2/441)


قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: أَوْسٌ وَعُثْمَانُ: قَبِيلَا مُزَيْنَةَ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: مِنْ قَوْلِهِ «
أَبْلِغْ هَوَازِنَ أَعْلَاهَا وَأَسْفَلَهَا
» إلَى آخِرِهَا، فِي هَذَا الْيَوْمِ، وَمَا قَبْلَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْيَوْمِ، وَهُمَا مَفْصُولَتَانِ، وَلَكِنَّ ابْنَ إسْحَاقَ جَعَلَهُمَا وَاحِدَةً.

(أَمْرُ ذَاتِ أَنْوَاطٍ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ، عَنْ سِنَانِ بْنِ أَبِي سِنَانٍ الدُّؤَلِيِّ، عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ، أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ مَالِكٍ، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى حُنَيْنٍ وَنَحْنُ حَدِيثُو عَهْدٍ بِالْجَاهِلِيَّةِ، قَالَ: فَسِرْنَا مَعَهُ إلَى حُنَيْنٍ، قَالَ: وَكَانَتْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ وَمَنْ سِوَاهُمْ مِنْ الْعَرَبِ لَهُمْ شَجَرَةٌ عَظِيمَةٌ خَضْرَاءُ، يُقَالُ لَهَا ذَاتُ أَنْوَاطٍ، يَأْتُونَهَا كُلَّ سَنَةٍ، فَيُعَلِّقُونَ أَسْلِحَتَهُمْ عَلَيْهَا، وَيَذْبَحُونَ عِنْدَهَا، وَيَعْكُفُونَ عَلَيْهَا يَوْمًا. قَالَ: فَرَأَيْنَا وَنَحْنُ نَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِدْرَةً خَضْرَاءَ عَظِيمَةً، قَالَ: فَتَنَادَيْنَا مِنْ جَنَبَاتِ الطَّرِيقِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، قُلْتُمْ، وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى لِمُوسَى: «اجْعَلْ لَنَا إلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ، قَالَ إنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ» . إنَّهَا السُّنَنُ، لَتَرْكَبُنَّ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ.

(لِقَاءُ هَوَازِنَ وَثَبَاتُ الرَّسُولِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جَابِرٍ، عَنْ أَبِيهِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: لَمَّا اسْتَقْبَلْنَا وَادِيَ حُنَيْنٍ انْحَدَرْنَا فِي وَادٍ مِنْ أَوْدِيَةِ تِهَامَةَ أَجْوَفَ [1] حَطُوطٍ [2] ، إنَّمَا نَنْحَدِرُ فِيهِ انْحِدَارًا، قَالَ: وَفِي عَمَايَةِ الصُّبْحِ [3] ، وَكَانَ الْقَوْمُ قَدْ سَبَقُونَا إلَى الْوَادِي، فَكَمَنُوا لَنَا فِي شِعَابِهِ وَأَحْنَائِهِ [4] وَمَضَايِقِهِ،
__________
[1] تهَامَة: مَا انخفض من أَرض الْحجاز. وأجوف: متسع. وحطوط: منحدر.
[2] كَذَا فِي أ. وَفِي م، ر: «أجوف ذِي خطوط» .
[3] عماية الصُّبْح: ظلامة قبل أَن يتَبَيَّن.
[4] الشعاب هُنَا: الطّرق الْخفية. وأحناؤه: جوانبه. وَرِوَايَة الزرقانى: «وأجنابه» .

(2/442)


وَقَدْ أَجْمَعُوا وتهيّئوا وأعدّوا، فو الله مَا رَاعَنَا وَنَحْنُ مُنْحَطُّونَ إلَّا الْكَتَائِبُ قَدْ شَدُّوا عَلَيْنَا شَدَّةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَانْشَمَرَ [1] النَّاسُ رَاجِعِينَ، لَا يَلْوِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ.
وَانْحَازَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ الْيَمِينِ، ثُمَّ قَالَ: أَيْنَ أَيُّهَا النَّاسُ؟
هَلُمُّوا إلَيَّ، أَنَا رَسُولُ اللَّهِ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ. قَالَ: فَلَا شَيْءَ [2] ، حَمَلَتْ الْإِبِلُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، فَانْطَلَقَ النَّاسُ، إلَّا أَنَّهُ قَدْ بَقِيَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَرٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ.

(أَسمَاء من تبت مَعَ الرَّسُولِ) :
وَفِيمَنْ ثَبَتَ مَعَهُ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَمِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَالْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ، وَابْنُهُ، وَالْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ، وَرَبِيعَةُ بْنُ الْحَارِثِ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ. وَأَيْمَنُ بْنُ عُبَيْدٍ، قُتِلَ يَوْمَئِذٍ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: اسْمُ ابْنِ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ جَعْفَرٌ، وَاسْمُ أَبِي سُفْيَانَ الْمُغِيرَةُ، وَبَعْضُ النَّاسِ يَعُدُّ فِيهِمْ قُثَمَ بْنَ الْعَبَّاسِ، وَلَا يَعُدُّ ابْنَ أَبِي سُفْيَانَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جَابِرٍ، عَنْ أَبِيهِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: وَرَجُلٌ مِنْ هَوَازِنَ عَلَى جَمَلٍ لَهُ أَحْمَرَ، بِيَدِهِ رَايَةٌ سَوْدَاءُ فِي رَأْسِ رُمْحٍ لَهُ طَوِيلٍ، أَمَامَ هَوَازِنَ، وَهَوَازِنُ خَلْفَهُ، إذَا أَدْرَكَ طَعَنَ بِرُمْحِهِ، وَإِذَا فَاتَهُ النَّاسُ رَفَعَ رُمْحَهُ لِمَنْ وَرَاءَهُ فَاتَّبَعُوهُ.

(شَمَاتَةُ أَبِي سُفْيَانَ وَغَيْرِهِ بِالْمُسْلِمِينَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمَّا انْهَزَمَ النَّاسُ، وَرَأَى مَنْ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جُفَاةِ أَهْلِ مَكَّةَ الْهَزِيمَةَ، تَكَلَّمَ رِجَالٌ مِنْهُمْ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ الضِّغْنِ [3] ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ: لَا تَنْتَهِي هَزِيمَتُهُمْ دُونَ الْبَحْرِ، وَإِنَّ الْأَزْلَامَ لَمَعَهُ فِي كِنَانَتِهِ [4] . وَصَرَخَ جَبَلَةُ بْنُ الْحَنْبَلِ- قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: كَلَدَةُ بْنُ الْحَنْبَلِ- وَهُوَ
__________
[1] انشمر النَّاس: انْفَضُّوا وانهزموا.
[2] كَذَا فِي الْأُصُول. وَفِي شرح الْمَوَاهِب: «فلأي شَيْء» . يُرِيد: فلشيء عَظِيم.
[3] الضغن: الْعَدَاوَة.
[4] الضَّمِير رَاجع إِلَى أَبى سُفْيَان. والأزلام: السِّهَام الَّتِي يستقسمون بهَا.

(2/443)


مَعَ أَخِيهِ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ مُشْرِكٌ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي جَعَلَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَا بَطَلَ السِّحْرُ الْيَوْمَ! فَقَالَ لَهُ صَفْوَانُ: اُسْكُتْ فَضَّ الله فَاك [1] ، فو اللَّهُ لَأَنْ يَرُبَّنِي [2] رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ يَرُبَّنِي رَجُلٌ مِنْ هَوَازِنَ.

(شِعْرُ حَسَّانَ فِي هِجَاءِ كَلَدَةَ) :
[3] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ يَهْجُو كَلَدَةَ:
رَأَيْتُ سَوَادًا مِنْ بَعِيدٍ فَرَاعَنِي ... أَبُو حَنْبَلٍ يَنْزُو عَلَى أُمِّ حَنْبَلِ
كَأَنَّ الَّذِي يَنْزُو بِهِ فَوْقَ بَطْنِهَا ... ذِرَاعُ قَلُوصٍ مِنْ نِتَاجِ ابْنِ عِزْهِلِ
أَنْشَدَنَا أَبُو زَيْدٍ هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ، وَذَكَرَ لَنَا أَنَّهُ هَجَا بِهِمَا صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ، وَكَانَ أَخَا كَلَدَةَ لِأُمِّهِ.

(عَجْزُ شَيْبَةَ عَنْ قَتْلِ الرَّسُولِ وَقَدْ هَمَّ بِهِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ شَيْبَةُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، أَخُو بَنِي عَبْدِ الدَّارِ:
قُلْتُ: الْيَوْمَ أُدْرِكُ ثَأْرِي (مِنْ مُحَمَّدٍ) [4] ، وَكَانَ أَبُوهُ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، الْيَوْمَ أَقْتُلُ مُحَمَّدًا. قَالَ: فَأَدَرْتُ بِرَسُولِ اللَّهِ لِأَقْتُلَهُ، فَأَقْبَلَ شَيْءٌ حَتَّى تَغَشَّى فُؤَادِي، فَلَمْ أُطِقْ ذَاكَ، وَعَلِمْتُ أَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنِّي.
قَالُ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ مَكَّةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ حِينَ فَصَلَ مِنْ مَكَّةَ إلَى حُنَيْنٍ، وَرَأَى كَثْرَةَ مَنْ مَعَهُ مِنْ جُنُودِ اللَّهِ: لَنْ نُغْلَبَ الْيَوْمَ مِنْ قِلَّةٍ. قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَزَعَمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي بَكْرٍ قَالَهَا.

(رُجُوعُ النَّاسِ بِنِدَاءِ الْعَبَّاسِ وَالِانْتِصَارُ بَعْدَ الْهَزِيمَةِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ الْعَبَّاسِ، عَنْ أَبِيهِ الْعَبَّاسِ ابْن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، قَالَ: إنِّي لَمَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخِذٌ بِحَكَمَةِ
__________
[1] فض الله فَاه: أَي أسقط أَسْنَانه.
[2] يربنِي: يكون رَبًّا لي، أَي مَالِكًا على.
[3] من هُنَا إِلَى قَوْله: «وَكَانَ أَخا كلدة لأمه» سَاقِط فِي أ.
[4] زِيَادَة عَن أ.

(2/444)


بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ قَدْ شَجَرْتُهَا بِهَا [1] ، قَالَ: وَكُنْتُ امْرَأً جَسِيمًا شَدِيدَ الصَّوْتِ، قَالَ:
وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ حِينَ رَأَى مَا رَأَى مِنْ النَّاسِ: أَيْنَ أَيُّهَا النَّاسُ؟
فَلَمْ أَرَ النَّاسَ يَلْوُونَ عَلَى شَيْءٍ، فَقَالَ: يَا عَبَّاسُ، اُصْرُخْ، يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ:
يَا مَعْشَرَ أَصْحَابِ السَّمُرَةِ، قَالَ: فَأَجَابُوا: لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ! قَالَ: فَيَذْهَبُ الرَّجُلُ لِيُثْنِيَ بَعِيرَهُ، فَلَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، فَيَأْخُذُ دِرْعَهُ، فَيَقْذِفُهَا فِي عُنُقِهِ، وَيَأْخُذُ سَيْفَهُ وَتُرْسَهُ، وَيَقْتَحِمُ عَنْ بَعِيرِهِ، وَيُخَلِّي سَبِيلَهُ، فَيَؤُمُّ الصَّوْتَ، حَتَّى يَنْتَهِيَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حَتَّى إذَا اجْتَمَعَ إِلَيْهِ مِنْهُم مائَة، اسْتَقْبَلُوا النَّاسَ، فَاقْتَتَلُوا، وَكَانَتْ الدَّعْوَى أَوَّلَ مَا كَانَتْ: يَا لَلْأَنْصَارِ. ثُمَّ خَلَصَتْ أَخَيْرًا:
يَا لَلْخَزْرَجِ. وَكَانُوا صُبْرًا عِنْدَ الْحَرْبِ، فَأَشْرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَكَائِبِهِ. فَنَظَرَ إلَى مُجْتَلَدِ الْقَوْمِ [2] وَهُمْ يَجْتَلِدُونَ، فَقَالَ: الْآنَ حَمِيَ الْوَطِيسُ [3] .

(بَلَاءُ عَلِيٍّ وَأَنْصَارِيٍّ فِي هَذِهِ الْحَرْبِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جَابِرٍ، عَنْ أَبِيهِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: بَيْنَا ذَلِكَ الرَّجُلُ مِنْ هَوَازِنَ صَاحِبُ الرَّايَةِ عَلَى جَمَلِهِ يَصْنَعُ مَا يَصْنَعُ، إذْ هَوَى لَهُ [4] عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَرَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ يُرِيدَانِهِ، قَالَ: فَيَأْتِيهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ مِنْ خَلْفِهِ، فَضَرَبَ عُرْقُوبَيْ الْجَمَلِ، فَوَقَعَ عَلَى عَجُزِهِ [5] ، وَوَثَبَ الْأَنْصَارِيُّ عَلَى الرَّجُلِ، فَضَرَبَهُ ضَرْبَةً أَطَنَّ قَدَمَهُ [6] بِنِصْفِ سَاقِهِ، فَانْجَعَفَ [7] عَنْ رَحْلِهِ، قَالَ: واجتلد النَّاس، فو الله مَا رَجَعَتْ رَاجِعَةُ النَّاسِ مِنْ هَزِيمَتِهِمْ حَتَّى وَجَدُوا الْأُسَارَى مُكَتَّفِينَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
__________
[1] شجرتها بهَا: أَي وَضَعتهَا فِي شَجَرهَا، وَهُوَ مُجْتَمع اللحيين.
[2] مجتلد الْقَوْم: مَكَان جلادهم بِالسُّيُوفِ، وَهُوَ حَيْثُ تكون المعركة.
[3] رَاجع الْحَاشِيَة رقم 5 ص 437 من هَذَا الْجُزْء.
[4] يُقَال: هوى لَهُ وأهوى إِلَيْهِ: إِذا مَال عَلَيْهِ.
[5] عَجزه: مؤخره.
[6] أطن قدمه: أطارها، وَسمع لضربه طنين، أَي دوى.
[7] انجعف عَن رَحْله: سقط عَنهُ صَرِيعًا.

(2/445)


قَالَ: وَالْتَفَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى أَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَكَانَ مِمَّنْ صَبَرَ يَوْمَئِذٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ حَسَنَ الْإِسْلَامِ حِينَ أَسْلَمَ، وَهُوَ آخِذٌ بِثَفَرِ بَغْلَتِهِ [1] ، فَقَالَ مَنْ هَذَا؟ قَالَ: أَنَا ابْنُ أُمِّكَ [2] يَا رَسُولَ اللَّهِ.

(شَأْنُ أُمِّ سُلَيْمٍ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْتَفَتَ فَرَأَى أمّ سليم [3] بنت مِلْحَانَ، وَكَانَتْ مَعَ زَوْجِهَا أَبِي طَلْحَةَ [4] وَهِيَ حَازِمَةٌ وَسَطَهَا بِبُرْدٍ لَهَا، وَإِنَّهَا لَحَامِلٌ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، وَمَعَهَا جَمَلُ أَبِي طَلْحَةَ، وَقَدْ خَشِيَتْ أَنْ يَعُزَّهَا [5] الْجَمَلُ، فَأَدْنَتْ رَأْسَهُ مِنْهَا، فَأَدْخَلَتْ يَدَهَا فِي خِزَامَتِهِ [6] مَعَ الْخِطَامِ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُمُّ سُلَيْمٍ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، اُقْتُلْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَنْهَزِمُونَ عَنْكَ كَمَا تَقْتُلُ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكَ، فَإِنَّهُمْ لِذَلِكَ أَهْلٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوَ يَكْفِي اللَّهُ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ [7] ؟ قَالَ: وَمَعَهَا خِنْجَرٌ [8] ، فَقَالَ لَهَا أَبُو طَلْحَةَ: مَا هَذَا الْخِنْجَرُ مَعَكِ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ؟ قَالَتْ: خِنْجَرٌ أَخَذته، إِن- نَا مِنِّي أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ
__________
[1] الثفر بِالتَّحْرِيكِ: السّير فِي مُؤخر السرج.
[2] قَوْله: أَنا ابْن أمك: إِنَّمَا هُوَ ابْن عمك، لكنه أَرَادَ أَن يتَقرَّب إِلَيْهِ، لِأَن الْأُم الَّتِي هِيَ الْجدّة قد تجمعهما فِي النّسَب.
[3] فِي اسْمهَا خلاف، قيل هِيَ (مليكَة بنت ملْحَان) وَقيل (رميلة) ، وَيُقَال (سهيلة) . وتعرف بالغميصاء، لرمص كَانَ فِي عينيها.
[4] هُوَ زيد بن سهل بن الْأسود بن حرَام.
[5] يعزها: يغلبها.
[6] الخزامة: حَلقَة من شعر تجْعَل فِي أنف الْبَعِير.
[7] وَفِي رِوَايَة: إِن الله قد كفى وَأحسن. وَيُؤْخَذ من رد النَّبِي على أم سليم أَن فرار الْمُسلمين يَوْم حنين لم يكن من الْكَبَائِر، وَلم يجمع الْعلمَاء على أَن الْفِرَار مَعْدُود فِي الْكَبَائِر إِلَّا فِي يَوْم بدر، قَالَ تَعَالَى: وَمن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ 8: 16 فَيَوْمئِذٍ إِشَارَة إِلَى يَوْم بدر، أما الفارون يَوْم أحد فقد نزل فيهم: (وَلَقَد عَفا الله عَنْهُم) وَأما الفارون فِي يَوْم حنين فقد نزل فيهم أَيْضا (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ 9: 25) إِلَى قَوْله:
(غَفُورٌ رَحِيمٌ 9: 27) .
[8] الخنجر بِفَتْح الْخَاء- وَكسرهَا- السكين.

(2/446)


بَعَجْتُهُ [1] بِهِ قَالَ: يَقُولُ أَبُو طَلْحَةَ: أَلَا تَسْمَعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا تَقُولُ أُمُّ سُلَيْمٍ الرُّمَيْصَاءُ.

(شِعْرُ مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ فِي هَزِيمَةِ النَّاسِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِينَ وَجَّهَ إلَى حُنَيْنٍ، قَدْ ضَمَّ بَنِي سُلَيْمٍ الضَّحَّاكَ بْنَ سُفْيَانَ الْكِلَابِيَّ، فَكَانُوا إلَيْهِ وَمَعَهُ، وَلَمَّا انْهَزَمَ النَّاسُ قَالَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ يَرْتَجِزُ بِفَرَسِهِ:
أَقْدِمْ مُحَاجُ إنَّهُ يَوْمٌ نُكُرْ ... مِثْلِي عَلَى مِثْلِكَ يَحْمِي وَيَكُرْ [2]
إذَا أُضِيعَ الصَّفُّ يَوْمًا والدُّبُرْ ... ثُمَّ احْزَأَلَّتْ زُمَرٌ بَعْدَ زُمَرْ [3]
كَتَائِبٌ يَكِلُّ فِيهِنَّ الْبَصَرْ ... قَدْ أَطْعَنُ الطَّعْنَةَ تَقْذِي بِالسُّبُرْ [4]
حِينَ يُذَمُّ الْمُسْتَكِينُ الْمُنْجَحِرْ ... وَأَطْعَنُ النَّجْلَاءَ تَعْوِي وَتَهِرْ [5]
لَهَا مِنْ الْجَوْفِ رَشَاشٌ مُنْهَمِرْ ... تَفْهَقُ تَارَاتٍ وَحِينًا تَنْفَجِرْ [6]
وَثَعْلَبُ الْعَامِلِ فِيهَا مُنْكَسِرْ ... يَا زَيْدُ يَا بْنَ هَمْهَمٍ أَيْنَ تَفِرْ [7]
قَدْ نَفِدَ الضِّرْسُ وَقَدْ طَالَ الْعُمُرْ ... قَدْ عَلِمَ الْبِيضُ الطَّوِيلَاتُ الْخُمُرْ [8]
أَنِّي فِي أَمْثَالِهَا غَيْرُ غَمِرْ [9] ... إذْ تُخْرَجُ الْحَاصِنُ مِنْ تَحْتِ السُّتُرْ [10]
__________
[1] بعجته: يُقَال: بعج بَطْنه، إِذا شقَّه.
[2] محاج: اسْم فرس مَالك بن عَوْف.
[3] احزألت: ارْتَفَعت. وزمر جماعات.
[4] يكل فِيهِنَّ الْبَصَر: يعيا عَن إِدْرَاك نهايتها لِكَثْرَة عَددهَا. والسبر: جمع سبار، وَهُوَ الفتيل يسبر بِهِ الْجرْح. وتقذى يُقَال: قذت الْعين تقذى (من بَاب رمى) قذيا وقذيانا: قذفت بالغمص والرمص: وَمعنى تقذى بالسبر: تقذف بهَا لِكَثْرَة مَا يندفق مِنْهَا من دم وَنَحْوه.
[5] المستكين: الذَّلِيل الخانع. والمنجحر: المتستر فِي جُحْره، وَالْمرَاد من اعْتصمَ بمَكَان.
والنجلاء: الطعنة المتسعة. وتعوى وتهر: أَي الَّتِي يسمع لخُرُوج الدَّم مِنْهَا صَوت كالعواء والهرير.
[6] الرشاش: مَا يخرج من الدَّم مُتَفَرقًا. ومنهمر: منصب. وتفهق: تنفتح. وينفجر: يسيل مِنْهَا الدَّم.
[7] الثَّعْلَب: مَا دخل من عَصا الرمْح فِي السنان. وَالْعَامِل: أَعلَى الرمْح.
[8] نفد الضرس: يُرِيد أَنه كَبرت سنه حَتَّى ذهبت أَسْنَانه، فَهُوَ محتنك مجرب. وَالْخمر: جمع خمار، وَهُوَ ثوب تغطى بِهِ الْمَرْأَة رَأسهَا.
[9] الْغمر: بِفَتْح فَكسر: أَو بِفتْحَتَيْنِ (وَفِيه لُغَات أُخْرَى) الّذي لم يجرب الْأُمُور.
[10] كَذَا فِي أ. والحاصن: العفيفة الممتنعة. وَفِي م، ر: «الحاضن» (بالضاد الْمُعْجَمَة) وَهِي الَّتِي تحضن وَلَدهَا.

(2/447)


وَقَالَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ أَيْضًا:
أَقْدِمْ مُحَاجُ إنَّهَا الْأَسَاوِرَهْ ... وَلَا تَغُرَّنَّكَ رِجْلٌ نَادِرَهْ [1]
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ لِغَيْرِ مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ فِي غَيْرِ هَذَا الْيَوْمِ [2]

(شَأْنُ أَبِي قَتَادَةَ وَسَلَبُهُ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّهُ حُدِّثَ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: وَحَدَّثَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى بَنِي غِفَارٍ أَبِي مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ، قَالَا [3] : قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: رَأَيْتُ يَوْمَ حُنَيْنٍ رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ: مُسْلِمًا وَمُشْرِكًا، قَالَ: وَإِذَا رَجُلٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ يُرِيدُ أَنْ يُعِينَ صَاحِبَهُ الْمُشْرِكَ عَلَى الْمُسْلِمِ.
قَالَ: فَأَتَيْتُهُ، فَضَرَبْتُ يَدَهُ، فَقَطَعْتُهَا، وَاعْتَنَقَنِي بِيَدِهِ الْأُخْرَى، فو الله مَا أَرْسَلَنِي حَتَّى وَجَدْتُ رِيحَ الدَّمِ- وَيُرْوَى: رِيحَ الْمَوْتِ، فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ [4]- وَكَادَ يَقْتُلُنِي، فَلَوْلَا أَنَّ الدَّمَ نَزَفَهُ [5] لَقَتَلَنِي، فَسَقَطَ، فَضَرَبْتُهُ فَقَتَلْتُهُ، وَأَجْهَضَنِي عَنْهُ الْقِتَالُ [6] ، وَمَرَّ بِهِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فَسَلَبَهُ، فَلَمَّا وَضَعَتْ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا [7] وَفَرَغْنَا مِنْ الْقَوْمِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبَهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاَللَّهِ لَقَدْ قَتَلْتُ قَتِيلًا ذَا سَلَبٍ، فَأَجْهَضَنِي عَنْهُ الْقِتَالُ، فَمَا أَدْرِي مَنْ اسْتَلَبَهُ؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ: صَدَقَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَسَلَبُ ذَلِكَ الْقَتِيلِ عِنْدِي، فَأَرْضِهِ عَنِّي مِنْ سَلَبِهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
لَا وَاَللَّهِ، لَا يُرْضِيهِ مِنْهُ، تَعْمِدُ إلَى أَسَدٍ مِنْ أُسْدِ اللَّهِ، يُقَاتِلُ عَنْ دِينِ اللَّهِ، تُقَاسِمُهُ سَلَبَهُ! اُرْدُدْ عَلَيْهِ سَلَبَ قَتِيلِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَدَقَ
__________
[1] الأساورة: جمع أسوار (بِضَم الْهمزَة وَكسرهَا) وَهُوَ قَائِد الْفرس، وَقيل هُوَ الْجيد الرَّمْي بِالسِّهَامِ، وَقيل هُوَ الْجيد الثَّبَات على ظهر الْفرس. ونادرة: أَي قد ندرت وانقطعت وبعدت.
[2] فِي غير هَذَا الْيَوْم: يعْنى أَنَّهُمَا قيلا فِي يَوْم الْقَادِسِيَّة لَا فِي حنين.
[3] كَذَا فِي أ.
[4] كَذَا فِي م، ر وَفِي أ: «حَتَّى وجدت ريح الْمَوْت، ويروى ريح الدَّم، فِيمَا قَالَ ابْن هِشَام» .
[5] نزفه الدَّم: سَالَ مِنْهُ حَتَّى أضعفه، فَأَشْرَف على الْمَوْت.
[6] أجهضنى عَنهُ الْقِتَال: شغلني وضيق على وغلبني.
[7] أوزار الْحَرْب، أثقالها وآلاتها. وَهِي اسْتِعَارَة.

(2/448)


اُرْدُدْ عَلَيْهِ سَلَبَهُ. فَقَالَ أَبُو قَتَادَةَ: فَأَخَذْتُهُ مِنْهُ، فَبِعْتُهُ، فَاشْتَرَيْتُ بِثَمَنِهِ مَخْرَفًا [1] ، فَإِنَّهُ لَأَوَّلُ مَالٍ اعْتَقَدْتُهُ [2] . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ إسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ابْن أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: لَقَدْ اسْتَلَبَ أَبُو طَلْحَةَ يَوْمَ حُنَيْنٍ وَحْدَهُ عِشْرِينَ رَجُلًا.

(نُصْرَةُ الْمَلَائِكَةِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي أَبِي إسْحَاقُ بْنُ يَسَارٍ، (أَنَّهُ حُدِّثَ) [3] عَنْ جُبَيْرِ ابْن مُطْعِمٍ، قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ قَبْلَ هَزِيمَةِ الْقَوْمِ وَالنَّاسُ يَقْتَتِلُونَ مِثْلَ الْبِجَادِ [4] الْأَسْوَدِ، أَقْبَلَ مِنْ السَّمَاءِ حَتَّى سَقَطَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ، فَنَظَرْتُ، فَإِذَا نَمَلٌ أَسْوَدُ مَبْثُوثٌ [5] قَدْ مَلَأَ الْوَادِيَ، لَمْ أَشُكَّ أَنَّهَا الْمَلَائِكَةُ، ثُمَّ لَمْ يَكُنْ [6] إلَّا هَزِيمَةُ الْقَوْمِ.

(هَزِيمَةُ الْمُشْرِكِينَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَلَمَّا هَزَمَ اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ حُنَيْنٍ، وَأَمْكَنَ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ، قَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ:
قَدْ غَلَبَتْ خَيْلُ اللَّهِ خَيْلَ اللَّاتِ ... وَاَللَّهُ أَحَقُّ بِالثَّبَاتِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أَنْشَدَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالرِّوَايَةِ لِلشِّعْرِ:
غَلَبْتِ خَيْلُ اللَّهِ خَيْلَ اللَّاتِ ... وَخَيْلُهُ أَحَقُّ بِالثَّبَاتِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمَّا انْهَزَمَتْ هَوَازِنُ اسْتَحَرَّ [7] الْقَتْلُ مِنْ ثَقِيفٍ فِي بَنِي مَالِكٍ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ رَجُلًا تَحْتَ رَايَتِهِمْ، فِيهِمْ عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ
__________
[1] المخرف: نَخْلَة وَاحِدَة أَو نخلات يسيرَة إِلَى عشر، فَأَما مَا فَوق ذَلِك فَهُوَ بُسْتَان أَو حديقة.
(انْظُر السهيليّ) .
[2] اعتقدته: يُقَال: اعتقدت مَالِي: أَي اتَّخذت مِنْهُ عقدَة، كَمَا تَقول: نبذة أَو قِطْعَة وَالْأَصْل فِيهِ من العقد، وَأَن من ملك شَيْئا عقد عَلَيْهِ.
[3] زِيَادَة عَن أ.
[4] البجاد: الكساء.
[5] مبثوث: متفرق، يعْنى رَآهُ ينزل من السَّمَاء.
[6] كَذَا فِي م، ر. وَفِي ب أ «وَلم يكن» .
[7] استحر: اشْتَدَّ.
29- سيرة ابْن هِشَام- 2

(2/449)


ابْن حَبِيبٍ، وَكَانَتْ رَايَتُهُمْ مَعَ ذِي الْخِمَارِ [1] ، فَلَمَّا قُتِلَ أَخَذَهَا عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فَقَاتَلَ بِهَا حَتَّى قُتِلَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَأَخْبَرَنِي عَامِرُ بْنُ وَهْبِ بْنِ الْأَسْوَدِ، قَالَ: لَمَّا بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتْلُهُ، قَالَ: أَبْعَدَهُ اللَّهُ! فَإِنَّهُ كَانَ يُبْغِضُ قُرَيْشًا.

(الْغُلَامُ النَّصْرَانِيُّ الْأَغْرَلُ وَمَا كَادَ يَلْحَقُ ثَقِيفًا بِسَبَبِهِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ الْأَخْنَسِ: أَنَّهُ قُتِلَ مَعَ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ غُلَامٌ لَهُ نَصْرَانِيٌّ أَغْرَلُ [2] ، قَالَ: فَبَيْنَا رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ يَسْلُبُ قَتْلَى ثَقِيفٍ، إذْ كَشَفَ الْعَبْدَ يَسْلُبُهُ، فَوَجَدَهُ أَغْرَلَ. قَالَ: فَصَاحَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ: يَعْلَمُ اللَّهُ أَنَّ ثَقِيفًا غُرْلٌ. قَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ: فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ، وَخَشِيتُ أَنْ تَذْهَبَ عَنَّا فِي الْعَرَبِ، فَقُلْتُ: لَا تَقُلْ ذَاكَ، فَدَاكَ أَبِي وَأُمِّي، إنَّمَا هُوَ غُلَامٌ لَنَا نَصْرَانِيٌّ. قَالَ: ثُمَّ جَعَلْتُ أَكْشِفُ لَهُ عَنْ الْقَتْلَى، وَأَقُولُ لَهُ: أَلا تراهم مختّنين كَمَا تَرَى!

(فِرَارُ قَارِبٍ وَقَوْمِهِ وَشِعْرُ ابْنِ مِرْدَاسٍ فِي هِجَائِهِمْ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَتْ رَايَةُ الْأَحْلَافِ مَعَ قَارِبِ بْنِ الْأَسْوَدِ، فَلَمَّا انْهَزَمَ النَّاسُ أَسْنَدَ رَايَتَهُ إلَى شَجَرَةٍ، وَهَرَبَ هُوَ وَبَنُو عَمِّهِ وَقَوْمُهُ مِنْ الْأَحْلَافِ، فَلَمْ يُقْتَلْ مِنْ الْأَحْلَافِ غَيْرُ رَجُلَيْنِ: رَجُلٍ مِنْ غِيَرَةَ، يُقَالُ لَهُ وَهْبٌ، وَآخَرُ مِنْ بَنِي كُبَّةَ [3] ، يُقَالُ لَهُ الْجُلَاحُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ بَلَغَهُ قَتْلُ الْجُلَاحِ: قُتِلَ الْيَوْمَ سَيِّدُ شَبَابِ ثَقِيفٍ، إلَّا مَا كَانَ مِنْ ابْنِ هُنَيْدَةَ، يَعْنِي بِابْنِ هُنَيْدَةَ الْحَارِثَ بْنَ أُوَيْسٍ.

(قَصِيدَةٌ أُخْرَى لِابْنِ مِرْدَاسٍ) :
فَقَالَ عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيُّ يَذْكُرُ قَارِبَ بْنَ الْأَسْوَدِ وَفِرَارَهُ مِنْ بَنِي أَبِيهِ، وَذَا الْخِمَارِ وَحَبْسَهُ قَوْمَهُ لِلْمَوْتِ:
__________
[1] ذُو الْخمار: عَوْف بن الرّبيع.
[2] الأغرل: هُوَ الّذي لَيْسَ بمختتن. والغرلة: هِيَ الْجلْدَة الَّتِي يقطعهَا الخاتن.
[3] كَذَا فِي م، ر وَفِي أ «كنة» بالنُّون. قَالَ أَبُو ذَر: «.... وَرَوَاهُ الخشنيّ بِالْبَاء بِوَاحِدَة من أَسْفَل، وَهُوَ الصَّوَاب» .

(2/450)


أَلَا مِنْ مُبَلِّغٍ غَيْلَانَ عَنِّي ... وَسَوْفَ- إخَالُ- يَأْتِيهِ الْخَبِيرُ [1]
وَعُرْوَةَ إنَّمَا أُهْدِي جَوَابًا ... وَقَوْلًا غَيْرَ قَوْلِكُمَا يَسِيرُ
بِأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدٌ رَسُولٌ ... لِرَبٍّ لَا يَضِلُّ وَلَا يَجُورُ
وَجَدْنَاهُ نَبِيًّا مِثْلَ مُوسَى ... فَكُلُّ فَتَى يُخَايِرُهُ مَخِيرُ [2]
وَبِئْسَ الْأَمْرُ أَمْرُ بَنِي قَسِيٍّ ... بِوَجٍّ إذْ تُقُسِّمَتْ الْأُمُورُ [3]
أَضَاعُوا أَمْرَهُمْ وَلِكُلِّ قَوْمٍ ... أَمِيرٌ وَالدَّوَائِرُ قَدْ تَدُورُ
فَجِئْنَا أُسْدَ غَابَاتٍ إلَيْهِمْ ... جُنُودُ اللَّهِ ضَاحِيَةً تَسِيرُ [4]
يَؤُمُّ الْجَمْعَ جَمْعَ بَنِي قَسِيٍّ ... عَلَى حَنَقٍ نَكَادُ لَهُ نَطِيرُ [5]
وَأُقْسِمُ لَوْ هُمْ مَكَثُوا لَسِرْنَا ... إلَيْهِمْ بِالْجُنُودِ وَلَمْ يَغُورُوا [6]
فَكُنَّا أُسْدَ لِيَّةَ ثَمَّ حَتَّى ... أَبَحْنَاهَا وَأُسْلِمَتْ النُّصُورُ [7]
وَيَوْمٌ كَانَ قَبْلُ لَدَى حُنَيْنٍ ... فَأَقْلَعَ وَالدِّمَاءُ بِهِ تَمُورُ [8]
مِنْ الْأَيَّامِ لَمْ تَسْمَعْ كَيَوْمٍ ... وَلَمْ يَسْمَعْ بِهِ قَوْمٌ ذُكُورُ
قَتَلْنَا فِي الْغُبَارِ بَنِي حُطَيْطٍ ... عَلَى رَايَاتِهَا وَالْخَيْلُ زُورُ [9]
وَلَمْ يَكُ ذُو الْخِمَارِ رَئِيسَ قَوْمٍ ... لَهُمْ عَقْلٌ يُعَاقِبُ أَوْ مَكِيرُ
أَقَامَ بِهِمْ عَلَى سَنَنِ الْمَنَايَا ... وَقَدْ بَانَتْ لِمُبْصِرِهَا الْأُمُورُ [10]
__________
[1] الْفِعْل الْمُسْتَقْبل هُوَ يَأْتِيهِ، وَإِن كَانَ الْحَرْف «سَوف» دَاخِلا على إخال فِي اللَّفْظ، فَإِن مَا يدل عَلَيْهِ من الِاسْتِقْبَال إِنَّمَا هُوَ الْفِعْل الثَّانِي. وَهُوَ كَقَوْل زُهَيْر:
«وَمَا أدرى وسوف إخال أدرى
»
[2] يخايره: يَقُول لَهُ: أَنا خير مِنْك. ومخير: هُوَ اسْم مفعول أَي مغلوب فِي الْخَيْر.
[3] قسى: اسْم ثَقِيف. وَوَج: اسْم وَاد بِالطَّائِف قبل حنين.
[4] ضاحية: بارزة لَا تختفى.
[5] نَؤُم: نقصد. والحنق الْغَضَب.
[6] لم يغوروا: لم يذهبوا.
[7] لية «بِكَسْر اللَّام» : اسْم مَوضِع قريب من الطَّائِف. والنصور: من هوَازن، وهم رَهْط مَالك ابْن عَوْف النصري (انْظُر السهيليّ) .
[8] تمور: تسيل.
[9] بَنو حطيط: يرْوى هُنَا بِالْحَاء وَالْخَاء، وبالمهملة رَوَاهُ الخشنيّ. وزور: مائلة.
[10] سنَن المنايا: طريقها.

(2/451)


فَأَفْلَتَ مَنْ نجا مِنْهُم جيضا ... وَقُتِّلَ مِنْهُمْ بَشَرٌ كَثِيرُ [1]
وَلَا يُغْنِي الْأُمُورَ أَخُو الْتَوَانِي ... وَلَا الْغَلِقُ الصُّرَيِّرَةُ الْحَصُورُ [2]
أَحَانَهُمُ وَحَانَ وَمَلَّكُوهُ ... أُمُورَهُمْ وَأَفْلَتَتْ الصُّقُورُ [3]
بَنُو عَوْفٍ تَمِيحُ بِهِمْ جِيَادٌ ... أُهِينَ لَهَا الْفَصَافِصُ وَالشَّعِيرُ [4]
فَلَوْلَا قَارِبٌ. وَبَنُو أَبِيهِ ... تُقُسِّمتَ الْمَزَارِعُ والقصور
ولكنّ الرِّئَاسَة عُمِّمُوهَا ... عَلَى يُمْنٍ أَشَارَ بِهِ الْمُشِيرُ [5]
أَطَاعُوا قَارِبًا وَلَهُمْ جُدُودٌ ... وَأَحْلَامٌ إلَى عِزٍّ تَصِيرُ
فَإِنْ يُهْدَوْا إلَى الْإِسْلَامِ يُلْفَوْا ... أُنُوفَ النَّاسِ مَا سَمَرَ السَّمِيرُ [6]
وَإِنْ لَمْ يُسْلِمُوا فَهُمْ أَذَانٌ ... بِحَرْبِ اللَّهِ لَيْسَ لَهُمْ نَصِيرُ
كَمَا حَكَّتْ بَنِي سَعْدٍ وَحَرْبٌ ... بِرَهْطِ بَنِي غَزِيَّةَ عَنْقَفِيرُ [7]
كَأَنَّ بَنِي مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرٍ ... إلَى الْإِسْلَامِ ضَائِنَةٌ تَخُورُ [8]
فَقُلْنَا أَسْلِمُوا إنَّا أَخُوكُمْ ... وَقَدْ بَرَأَتْ مِنْ الْإِحَنِ [9] الصُّدُورُ
كَأَنَّ الْقَوْمَ إذْ جَاءُوا إلَيْنَا ... مِنْ الْبَغْضَاءِ بَعْدَ السِّلْمِ عُورُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: غَيْلَانُ: غَيْلَانُ بْنُ سَلَمَةَ الثَّقَفِيُّ، وَعُرْوَةُ: عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ.
__________
[1] الجريض: المختنق بريقه.
[2] الغلق: الْكثير الْجرْح، كَأَنَّهُ تنغلق عَلَيْهِ أُمُوره. والصريرة «بتَشْديد الْيَاء» تَصْغِير الصرورة، وَهُوَ الّذي لَا يأتى النِّسَاء. والحصور هُنَا: بِمَعْنى مَا قبله، وَيجوز أَن يكون مَعْنَاهُ: الهيوب المحجم عَن الشَّيْء.
[3] أحانهم: أهلكهم. وحان: هلك.
[4] تميح: تمشى مشيا حسنا. والفصافص: جمع فصفصة، وَهِي البقلة الَّتِي تأكلها الدَّوَابّ (البرسيم) .
[5] عموها: أسندت إِلَيْهِم وَقدمُوا لَهَا.
[6] أنوف النَّاس: أَشْرَافهم والمقدمون فيهم. وَالسير: جمَاعَة السمار وهم الَّذين يَجْتَمعُونَ للْحَدِيث بِاللَّيْلِ.
[7] العنقفير: الداهية.
[8] تخور: تصيح.
[9] كَذَا فِي م، ر. والإحن: جمع إحْنَة، وَهِي الْعَدَاوَة. وَفِي أ: «الترة» ، وَهِي بِمَعْنى الإحنة.

(2/452)


(مَقْتَلُ دُرَيْدِ بْنِ الصِّمَّةِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَلَمَّا انْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ، أَتَوْا الطَّائِفَ وَمَعَهُمْ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ، وَعَسْكَرَ بَعْضُهُمْ بِأَوْطَاسٍ، وَتَوَجَّهَ بَعْضُهُمْ نَحْوَ نَخْلَةَ، وَلَمْ يَكُنْ فِيمَنْ تَوَجَّهَ نَحْوَ نَخْلَةَ إلَّا بَنُو غِيَرَةَ مِنْ ثَقِيفٍ، وَتَبِعَتْ خَيْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ سَلَكَ فِي نَخْلَةَ مِنْ النَّاسِ، وَلَمْ تَتْبَعْ مَنْ سَلَكَ الثَّنَايَا.
فَأَدْرَكَ رَبِيعَةُ بْنُ رُفَيْعِ بْنِ أُهْبَانَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ يَرْبُوعِ بْنِ سَمَّالِ بْنِ عَوْفِ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ ابْنُ الدُّغُنَّةِ وَهِيَ أُمُّهُ، فَغَلَبَتْ عَلَى اسْمِهِ، وَيُقَالُ: ابْنُ لَذْعَةَ فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ- دُرَيْدَ بْنَ الصِّمَّةِ، فَأَخَذَ بِخِطَامِ جَمَلِهِ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ امْرَأَةٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ فِي شِجَارٍ لَهُ، فَإِذَا بِرَجُلِ، فَأَنَاخَ بِهِ، فَإِذَا شَيْخٌ كَبِيرٌ، وَإِذَا هُوَ دُرَيْدُ بْنُ الصِّمَّةِ وَلَا يَعْرِفُهُ الْغُلَامُ، فَقَالَ لَهُ دُرَيْدٌ: مَاذَا تُرِيدُ بِي؟ قَالَ:
أَقْتُلُكَ. قَالَ: وَمَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا رَبِيعَةُ بْنُ رُفَيْعٍ السُّلَمِيُّ، ثُمَّ ضَرَبَهُ بِسَيْفِهِ، فَلَمْ يُغْنِ شَيْئًا، فَقَالَ: بِئْسَ مَا سَلَّحَتْكَ أُمُّكَ! خُذْ سَيْفِي هَذَا مِنْ مُؤَخَّرِ الرَّحْلِ، وَكَانَ الرَّحْلُ فِي الشِّجَارِ، ثُمَّ اضْرِبْ بِهِ، وَارْفَعْ عَنْ الْعِظَامِ، وَاخْفِضْ عَنْ الدِّمَاغِ، فَإِنِّي كُنْتُ كَذَلِكَ أَضْرِبُ الرِّجَالَ، ثُمَّ إذَا أَتَيْتَ أُمَّكَ فَأَخْبِرْهَا أَنَّكَ قَتَلْتُ دُرَيْدَ ابْن الصِّمَّةِ، فَرُبَّ وَاَللَّهِ يَوْمٍ قَدْ مَنَعْتُ فِيهِ نِسَاءَكَ. فَزَعَمَ بَنُو سُلَيْمٍ أَنَّ رَبِيعَةَ لَمَّا ضَرَبَهُ فَوَقَعَ تَكَشَّفَ،، فَإِذَا عِجَانُهُ [1] وَبُطُونُ فَخِذَيْهِ مِثْلُ الْقِرْطَاسِ، مِنْ رُكُوبِ الْخَيْلِ أَعْرَاءً [2] ، فَلَمَّا رَجَعَ رَبِيعَةُ إلَى أُمِّهِ أَخْبَرَهَا بِقَتْلِهِ إيَّاهُ، فَقَالَتْ: أَمَا وَاَللَّهِ لَقَدْ أَعْتَقَ أُمَّهَاتٍ لَكَ ثَلَاثًا.
فَقَالَتْ عَمْرَةُ بِنْتُ دُرَيْدٍ فِي قَتْلِ رَبِيعَةَ دُرَيْدًا:
لَعَمْرُكَ مَا خَشِيتُ عَلَى دُرَيْدٍ ... بِبَطْنِ سُمَيْرَةَ [3] جَيْشَ الْعَنَاقِ [4]
__________
[1] عجانة: مَا بَين فرجيه.
[2] أعراء: جمع عرى (برزن قفل) وَهُوَ الْفرس الّذي لَا سرج لَهُ.
[3] سميرة: وَاد قرب حنين قتل فِيهِ دُرَيْد بن الصمَّة.
[4] العناق: الخيبة أَو الداهية، وَكِلَاهُمَا مُنَاسِب للمقام، لِأَنَّهَا إِذا قصدت «جَيش الخيبة» فَهُوَ على معنى الهجاء للجيش، وَإِذا قصدت «جَيش الداهية» فَهُوَ على معنى مدح دُرَيْد بشجاعته الَّتِي يقهر بهَا مثل هَذَا الْجَيْش.

(2/453)


جَزَى عَنْهُ الْإِلَهُ بَنِي سُلَيْمٍ ... وَعَقَّتْهُمْ بِمَا فَعَلُوا عَقَاقِ [1]
وَأَسْقَانَا إذَا قُدْنَا إلَيْهِمْ ... دِمَاءَ خِيَارِهِمْ عِنْدَ التَّلَاقِي
فَرُبَّ عَظِيمَةٍ دَافَعْتَ عَنْهُمْ ... وَقَدْ بَلَغَتْ نَفُوسُهُمْ التَّرَاقِي
وَرُبَّ كَرِيمَةٍ أَعْتَقْتَ مِنْهُمْ ... وَأُخْرَى قَدْ فَكَكْتَ مِنْ الْوَثَاقِ
وَرُبَّ مُنَوِّهٍ بِكَ مِنْ سُلَيْمٍ ... أَجَبْتَ وَقَدْ دَعَاكَ بِلَا رَمَاقِ [2] .
فَكَانَ جَزَاؤُنَا مِنْهُمْ عُقُوقًا ... وَهَمًّا مَاعَ مِنْهُ مُخُّ سَاقِي [3]
عَفَتْ آثَارُ خَيْلِكَ بَعْدَ أَيْنٍ ... بِذِي بَقَرٍ إلَى فَيْفِ النُّهَاقِ [4]
وَقَالَتْ عَمْرَةُ بِنْتُ دُرَيْدٍ أَيْضًا:
قَالُوا قَتَلْنَا دُرَيْدًا قُلْتُ قَدْ صَدَقُوا ... فَظَلَّ دَمْعِي عَلَى السِّربال يَنْحَدِرُ [5]
لَوْلَا الَّذِي قَهَرَ الْأَقْوَامَ كُلَّهُمْ ... رَأَتْ سُلَيْمٌ وَكَعْبٌ كَيْفَ تَأْتَمِرُ
إذَنْ لَصَبَّحَهُمْ غِبًّا وَظَاهِرَةً ... حَيْثُ اسْتَقَرَّتْ نَوَاهُمْ جَحْفَلٌ ذَفِرُ [6]
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ اسْمُ الَّذِي قَتَلَ دُرَيْدًا: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قُنَيْعِ بْنِ أُهْبَانَ ابْن ثَعْلَبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ.

(مَقْتَلُ أَبِي عَامِرٍ الْأَشْعَرِيِّ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آثَارِ مَنْ تَوَجَّهَ قِبَلَ أَوْطَاسٍ أَبَا عَامِرٍ الْأَشْعَرِيَّ، فَأَدْرَكَ مِنْ النَّاسِ بَعْضَ مَنْ انْهَزَمَ، فَنَاوَشُوهُ الْقِتَالَ [7] ، فَرُمِيَ أَبُو عَامِرٍ بِسَهْمِ فَقُتِلَ، فَأَخَذَ الرَّايَةَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّهِ،
__________
[1] عقاق: على وزن فعال بِكَسْر اللَّام، من العقوق.
[2] المنوه: الّذي يناديك بأشهر أسمائك نِدَاء ظَاهرا. والرماق، بِفَتْح الرَّاء وَكسرهَا: بَقِيَّة الْحَيَاة.
[3] ماع: ذاب، وكل سَائل مَائِع (عَن أَبى ذَر) .
[4] عفت: درست وتغيرت. وَذُو بقر: مَوضِع، ويروى بالنُّون وَالْفَاء. والفيف القفر. والنهاق هُنَا: مَوضِع. وَقَالَ ابْن سراج: أَيْن وَذُو نفر: موضعان.
[5] السربال الْقَمِيص.:
[6] أصل الغب: أَن ترد الْإِبِل المَاء يَوْمًا وتدعه يَوْمًا. وَالظَّاهِرَة: أَن ترده كل يَوْم، فَضَربهُ هَا هُنَا مثلا. والجحفل الْجَيْش الْكثير. وذفر (بِالدَّال والذال مَعًا) : كريه الرَّائِحَة من سهك السِّلَاح، وصدأ الْحَدِيد.
[7] يُقَال: تناوش الْقَوْم فِي الْقِتَال، إِذا تنَاول بَعضهم بَعْضًا بِالرِّمَاحِ، وَلم يتدانوا كل التداني.

(2/454)


فَقَاتَلَهُمْ، فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ وَهَزَمَهُمْ. فَيَزْعُمُونَ أَنَّ سَلَمَةَ بْنَ دُرَيْدٍ هُوَ الَّذِي رَمَى أَبَا عَامِرٍ الْأَشْعَرِيَّ بِسَهْمِ، فَأَصَابَ رُكْبَتَهُ، فَقَتَلَهُ، فَقَالَ:
إنْ تَسْأَلُوا عَنِّي فَإِنِّي سَلَمَهْ ... ابْنُ سَمَادِيرَ لِمَنْ تَوَسَّمَهْ [1]
أضْرِبُ بِالسَّيْفِ رُءُوسَ الْمُسْلِمَهْ

(دُعَاءُ الرَّسُولِ لِبَنِي رِئَابٍ) :
وَسَمَادِيرُ: أُمُّهُ.
وَاسْتَحَرَّ الْقَتْلُ مِنْ بَنِي نَصْرٍ فِي بَنِي رِئَابٍ، فَزَعَمُوا أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ- وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ ابْنُ الْعَوْرَاءِ، وَهُوَ أَحَدُ بَنِي وَهْبِ بْنِ رِئَابٍ- قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكَتْ بَنُو رِئَابٍ. فَزَعَمُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: اللَّهمّ اُجْبُرْ مُصِيبَتَهُمْ.

(وَصِيَّةُ مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ لِقَوْمِهِ وَلِقَاءُ الزُّبَيْرِ لَهُمْ) :
وَخَرَجَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ عِنْدَ الْهَزِيمَةِ، فَوَقَفَ فِي فَوَارِسَ مِنْ قَوْمِهِ، عَلَى ثَنِيَّةٍ [2] مِنْ الطَّرِيقِ، وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: قِفُوا حَتَّى تَمْضِيَ ضُعَفَاؤُكُمْ، وَتَلْحَقَ أُخْرَاكُمْ.
فَوَقَفَ هُنَاكَ حَتَّى مَضَى مَنْ كَانَ لَحِقَ بِهِمْ مِنْ مُنْهَزِمَةِ النَّاسِ، فَقَالَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ فِي ذَلِكَ:
وَلَوْلَا كَرَّتَانِ عَلَى مُحَاجٍ ... لَضَاقَ عَلَى الْعَضَارِيطِ الطَّرِيقُ [3]
وَلَوْلَا كَرُّ دُهْمَانَ بْنِ نَصْرٍ ... لَدَى النَّخَلَاتِ مُنْدَفَعَ الشَّدِيقِ [4]
لَآبَتْ جَعْفَرٌ وَبَنُو هِلَالٍ ... خَزَايَا مُحْقِبِينَ عَلَى شُقُوقِ [5]
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: هَذِهِ الْأَبْيَاتُ لِمَالِكِ بْنِ عَوْفٍ فِي غَيْرِ هَذَا الْيَوْمِ. وَمِمَّا يَدُلُّكَ
__________
[1] توسمه: اسْتدلَّ عَلَيْهِ وَنظر فِيهِ.
[2] الثَّنية: مَوضِع مُرْتَفع بَين جبلين.
[3] محاج: اسْم فرسه. والعضاريط: جمع عضروط (كعصفور) وَهُوَ الْخَادِم على طَعَام بَطْنه، والأجير. وَيجمع أَيْضا على عضارط وعضارطة.
[4] الشديق: وَاد بِأَرْض الطَّائِف، مخلاف من مخاليفها، ويروى بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة.
[5] محقبين: مُردفِينَ لمن انهزم مِنْهُم. قَالَ أَبُو ذَر: «وَمن رَوَاهُ محمقين، فَهُوَ من الْحمق. يُقَال:
حمقت خيل الرجل: إِذا لم تنجب. وَمن رَوَاهُ: مجلبين، فَمَعْنَاه مجتمعون» . وعَلى شقوق: أَي على مشقة.

(2/455)


عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ دُرَيْدِ بْنِ الصِّمَّةِ فِي صَدْرِ هَذَا الْحَدِيثِ: مَا فَعَلَتْ كَعْبٌ وَكِلَابٌ؟
فَقَالُوا لَهُ: لَمْ يَشْهَدْهَا مِنْهُمْ أَحَدٌ. وَجَعْفَرٌ بْنُ كِلَابٍ. وَقَالَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ فِي هَذِهِ الْأَبْيَاتِ: «
لَآبَتْ جَعْفَرٌ وَبَنُو هِلَالٍ
» .
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَبَلَغَنِي أَنَّ خَيْلًا طَلَعَتْ وَمَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ عَلَى الثَّنِيَّةِ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: مَاذَا تَرَوْنَ؟ فَقَالُوا: نَرَى قَوْمًا وَاضِعِي رِمَاحِهِمْ بَيْنَ آذَانِ خَيْلِهِمْ، طَوِيلَةً بَوَادُّهُمْ [1] ، فَقَالَ: هَؤُلَاءِ بَنُو سُلَيْمٍ، وَلَا بَأْسَ عَلَيْكُمْ مِنْهُمْ، فَلَمَّا أَقْبَلُوا سَلَكُوا بَطْنَ الْوَادِي. ثُمَّ طَلَعَتْ خَيْلٌ أُخْرَى تَتْبَعُهَا، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: مَاذَا تَرَوْنَ؟
قَالُوا: نَرَى قَوْمًا عَارِضِي [2] رِمَاحِهِمْ، أَغْفَالًا [3] عَلَى خَيْلِهِمْ، فَقَالَ: هَؤُلَاءِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ، وَلَا بَأْسَ عَلَيْكُمْ مِنْهُمْ. فَلَمَّا انْتَهَوْا إلَى أَصْلِ الثَّنِيَّةِ سَلَكُوا طَرِيقَ بَنِي سُلَيْمٍ. ثُمَّ طَلَعَ فَارِسٌ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: مَاذَا تَرَوْنَ؟ قَالُوا: نَرَى فَارِسًا طَوِيلَ الْبَادِّ، وَاضِعًا رُمْحَهُ عَلَى عَاتِقِهِ [4] ، عَاصِبًا رَأْسَهُ بِمُلَاءَةِ [5] حَمْرَاءَ فَقَالَ هَذَا الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ وَأَحْلِفُ بِاللَّاتِ لَيُخَالِطَنَّكُمْ، فَاثْبُتُوا لَهُ. فَلَمَّا انْتَهَى الزُّبَيْرُ إلَى أَصْلِ الثَّنِيَّةِ أَبْصَرَ الْقَوْمَ، فَصَمَدَ لَهُمْ [6] ، فَلَمْ يَزَلْ يُطَاعِنُهُمْ حَتَّى أَزَاحَهُمْ [7] عَنْهَا.

(شِعْرُ سَلَمَةَ فِي فِرَارِهِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ سَلَمَةُ بْنُ دُرَيْدٍ وَهُوَ يَسُوقُ بِامْرَأَتِهِ حَتَّى أَعْجَزَهُمْ:
نَسَّيْتِنِي مَا كُنْتِ غَيْرَ مُصَابَةٍ ... وَلَقَدْ عَرَفْتِ غَدَاةَ نَعْفِ الْأَظْرُبِ [8]
أَنِّي مَنَعْتُكِ وَالرُّكُوبُ مُحَبَّبٌ ... وَمَشَيْتُ خَلْفَكِ مِثْلَ مَشْيِ الْأَنْكَبِ [9]
__________
[1] البواد: جمع الباد، وَهُوَ بَاطِن الْفَخْذ.
[2] عارضى رماحهم: أَي واضعيها بِالْعرضِ وَهُوَ كِنَايَة عَن عدم مبالاتهم أعداءهم.
[3] أغفالا: جمع غفل، وَهُوَ الّذي لَا عَلامَة لَهُ. يُرِيد أَنهم لم يعلمُوا أنفسهم بِشَيْء يعْرفُونَ بِهِ.
[4] العاتق: مَا بَين الْمنْكب والعنق.
[5] الملاءة الملحفة صَغِيرَة كَانَت أَو كَبِيرَة.
[6] صَمد: قصد.
[7] أزاحهم عَنْهَا: أزالهم عَنْهَا ونحاهم.
[8] النعف: أَسْفَل الْجَبَل. والأظرب: مَوضِع. وَيحْتَمل أَن يكون جمع ظرب، وَهُوَ الْجَبَل الصَّغِير
[9] الأنكب: المائل إِلَى جِهَة.

(2/456)


إذْ فَرَّ كُلُّ مُهَذَّبٍ ذِي لِمَّةٍ ... عَنْ أُمِّهِ وَخَلِيلِهِ لَمْ يَعْقِبِ [1]

(بَقِيَّةُ حَدِيثِ مَقْتَلِ أَبِي عَامِرٍ) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدَّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشِّعْرِ، وَحَدِيثُهُ: أَنَّ أَبَا عَامِرٍ الْأَشْعَرِيَّ لَقِيَ يَوْمَ أَوْطَاسٍ عَشَرَةَ إخْوَةٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ أَحَدُهُمْ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ أَبُو عَامِرٍ وَهُوَ يَدْعُوهُ إلَى الْإِسْلَامِ وَيَقُولُ: اللَّهمّ اشْهَدْ عَلَيْهِ، فَقَتَلَهُ أَبُو عَامِرٍ، ثُمَّ حَمَلَ عَلَيْهِ آخَرُ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ أَبُو عَامِرٍ، وَهُوَ يَدْعُوهُ إلَى الْإِسْلَامِ وَيَقُولُ:
اللَّهمّ اشْهَدْ عَلَيْهِ، فَقَتَلَهُ أَبُو عَامِرٍ: ثُمَّ جَعَلُوا يَحْمِلُونَ عَلَيْهِ رَجُلًا رَجُلًا، وَيَحْمِلُ أَبُو عَامر وَهُوَ يَقُول ذَلِكَ، حَتَّى قَتَلَ تِسْعَةً، وَبَقِيَ الْعَاشِرُ، فَحَمَلَ عَلَى أَبِي عَامِرٍ، وَحَمَلَ عَلَيْهِ أَبُو عَامِرٍ، وَهُوَ يَدْعُوهُ إلَى الْإِسْلَامِ وَيَقُولُ: اللَّهمّ اشْهَدْ عَلَيْهِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: اللَّهمّ لَا تَشْهَدْ عَلَيَّ، فَكَفَّ عَنْهُ أَبُو عَامِرٍ، فَأَفْلَتْ، ثُمَّ أَسْلَمَ بَعْدُ فَحَسُنَ إسْلَامُهُ. فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا رَآهُ قَالَ: هَذَا شَرِيدُ أَبِي عَامِرٍ. وَرَمَى أَبَا عَامِرٍ أَخَوَانِ: الْعَلَاءُ وَأَوْفَى ابْنَا الْحَارِثِ، مِنْ بَنِي جُشَمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، فَأَصَابَ أَحَدُهُمَا قَلْبَهُ، وَالْآخَرُ رُكْبَتَهُ، فَقَتَلَاهُ. وَوَلِيَ النَّاسَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ فَحَمَلَ عَلَيْهِمَا فَقَتَلَهُمَا، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي جُشَمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ يَرْثِيهِمَا:
إنَّ الرَّزِيَّةَ قَتْلُ الْعَلَاءِ ... وَأَوْفَى جَمِيعًا وَلَمْ يُسْنَدَا [2]
هُمَا الْقَاتِلَانِ أَبَا عَامِرٍ ... وَقَدْ كَانَ ذَا هَبَّةٍ [3] أَرْبَدَا [4]
هُمَا تَرَكَاهُ لَدَى مَعْرَكٍ ... كَأَنَّ عَلَى عِطْفِهِ مُجْسَدَا [5]
فَلَمْ تَرَ فِي النَّاسِ مِثْلَيْهِمَا ... أَقَلَّ عِثَارًا وَأَرْمَى يَدَا

(نَهْيُ الرَّسُولِ عَنْ قَتْلِ الضُّعَفَاءِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ
__________
[1] الْمُهَذّب: الْخَالِص من الْعُيُوب، والمهذب (أَيْضا) : المسرع، من التَّهْذِيب فِي السّير، وَهُوَ الْإِسْرَاع. وخليله: صَاحبه. وَلم يعقب: لم يرجع.
[2] لم يسندا: أَي لم يدركا وَبِهِمَا رَمق، فيسندا إِلَى مَا يمسكهما.
[3] كَذَا فِي أ: وذاهبة: يعْنى سَيْفا ذَا هبة، وَهبة السَّيْف: اهتزازه، وَفِي م، ر «داهية» .
[4] الأربد: الّذي فِيهِ ربد، أَي طرائق من جَوْهَر.
[5] المعرك: مَوضِع الْحَرْب. والمجسد: الثَّوْب الْمَصْبُوغ بالجساد، وَهُوَ الزَّعْفَرَان.

(2/457)


يَوْمَئِذٍ بِامْرَأَةِ وَقَدْ قَتَلَهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَالنَّاسُ مُتَقَصِّفُونَ [1] عَلَيْهَا فَقَالَ:
مَا هَذَا؟ فَقَالُوا: امْرَأَةٌ قَتَلَهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَعْضِ مَنْ مَعَهُ: أَدْرِكْ خَالِدًا، فَقُلْ لَهُ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ يَنْهَاكَ أَنْ تَقْتُلَ وَلِيدًا أَوْ امْرَأَةً أَوْ عَسِيفًا [2]

(شَأْنُ بِجَادٍ وَالشَّيْمَاءِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ، وَحَدَّثَنِي بَعْضُ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَئِذٍ: إنْ قَدَرْتُمْ عَلَى بِجَادٍ، رَجُلٍ مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ، فَلَا يُفْلِتَنَّكُمْ، وَكَانَ قَدْ أَحْدَثَ حَدَثًا، فَلَمَّا ظَفِرَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ سَاقُوهُ وَأَهْلَهُ، وَسَاقُوا مَعَهُ الشَّيْمَاءَ، بِنْتَ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى أُخْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الرَّضَاعَةِ، فَعَنُفُوا عَلَيْهَا فِي السِّيَاقِ، فَقَالَتْ لِلْمُسْلِمِينَ: تَعَلَمُوا وَاَللَّهِ أَنِّي لَأُخْتُ صَاحِبِكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ، فَلَمْ يُصَدِّقُوهَا حَتَّى أَتَوْا بِهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ عُبَيْدٍ السَّعْدِيُّ، قَالَ: فَلَمَّا اُنْتُهِيَ بِهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي أُخْتُكَ مِنْ الرَّضَاعَةِ، قَالَ: وَمَا عَلَامَةُ ذَلِكَ؟ قَالَتْ: عَضَّةٌ عَضَضْتَنِيهَا فِي ظَهْرِي وَأَنَا مُتَوَرِّكَتُكَ [3] ، قَالَ: فَعَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَلَامَةَ، فَبَسَطَ لَهَا رِدَاءَهُ، فَأَجْلَسَهَا عَلَيْهِ، وخيَّرها، وَقَالَ: إنْ أَحْبَبْتِ فَعِنْدِي مُحَبَّةٌ مُكْرَمَةٌ، وَإِنْ أَحْبَبْت أَن أمعّك [4] وَتَرْجِعِي إلَى قَوْمِكَ فَعَلْتُ، فَقَالَتْ: بَلْ تُمَتِّعُنِي وَتَرُدُّنِي إلَى قَوْمِي.
فَمَتَّعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَدَّهَا إلَى قَوْمِهَا. فَزَعَمَتْ بَنُو سَعْدٍ أَنَّهُ أَعْطَاهَا غُلَامًا لَهُ يُقَالُ لَهُ مَكْحُولٌ، وَجَارِيَةً، فَزَوَّجَتْ أَحَدَهُمَا الْأُخْرَى، فَلَمْ يَزَلْ فِيهِمْ مِنْ نَسْلِهِمَا بَقِيَّةٌ.
__________
[1] مزدحمون منقصمون. ويروى: منقصفون (بالنُّون) وَهُوَ بِمَعْنَاهُ.
[2] الْأَجِير، وَالْعَبْد الْمُسْتَعَان بِهِ.
[3] متوركتك: حاملتك على وركي.
[4] أمتعك: أَي أُعْطِيك مَا يكون بِهِ الإمتاع، أَي الِانْتِفَاع.

(2/458)


قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي يَوْمِ حُنَيْنٍ: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ 9: 25 ... إلَى قَوْلِهِ وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ 9: 26.

(تَسْمِيَةُ مَنْ اُسْتُشْهِدَ يَوْمَ حُنَيْنٍ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَهَذِهِ تَسْمِيَةُ مَنْ اُسْتُشْهِدَ يَوْمَ حُنَيْنٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ.
مِنْ قُرَيْشٍ ثُمَّ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ: أَيْمَنُ بْنُ عُبَيْدٍ.
وَمِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى: يَزِيدُ بْنُ زَمَعَةَ بْنِ الْأَسْوَدِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَسَدٍ، جَمَحَ بِهِ فَرَسٌ لَهُ يُقَالُ لَهُ الْجَنَاحُ، فَقُتِلَ.
وَمِنْ الْأَنْصَارِ: سُرَاقَةُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَدِيٍّ، مِنْ بَنِي الْعَجْلَانِ.
وَمِنْ الْأَشْعَرِيِّينَ: أَبُو عَامِرٍ الْأَشْعَرِيُّ.

(جَمْعُ سَبَايَا حُنَيْنٍ) :
ثُمَّ جُمِعَتْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبَايَا حُنَيْنٍ وَأَمْوَالُهَا، وَكَانَ عَلَى الْمَغَانِمِ مَسْعُودُ بْنُ عَمْرٍو الْغِفَارِيُّ، وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسَّبَايَا وَالْأَمْوَالِ إلَى الْجِعْرَانَةِ، فَحُبِسَتْ بِهَا.

(شِعْرُ بُجَيْرٍ يَوْمَ حُنَيْنٍ) :
وَقَالَ بُجَيْرُ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى فِي يَوْمِ حُنَيْنٍ:
لَوْلَا الْإِلَهُ وَعَبْدُهُ وَلَّيْتُمْ ... حِينَ اسْتَخَفَّ الرُّعْبُ كُلَّ جَبَانِ [1]
بِالْجِزْعِ يَوْمَ حَبَا لَنَا أَقْرَانُنَا ... وَسَوَابِحٌ يَكْبُونَ لِلْأَذْقَانِ [2]
مِنْ بَيْنِ سَاعٍ ثَوْبُهُ فِي كَفِّهِ ... وَمُقَطَّرٍ بِسَنَابِكِ وَلَبَانِ [3]
وَاَللَّهُ أَكْرَمَنَا وَأَظْهَرَ دِينَنَا ... وَأَعَزَّنَا بِعِبَادَةِ الرَّحْمَنِ
وَاَللَّهُ أَهْلَكَهُمْ وَفَرَّقَ جَمْعَهُمْ ... وَأَذَلَّهُمْ بِعِبَادَةِ الشَّيْطَانِ
__________
[1] ويروى: «جنان» والجنان: الْقلب.
[2] الْجزع: مَا انعطف من الْوَادي. وخبا: اعْترض. والسوابح: خيل كَأَنَّهَا تسبح فِي جريها، أَي تعوم. ويكبون: يسقطن.
[3] مقطر: مرمى على قطره، وَهُوَ جنبه. والسنابك: جمع سنبك، وَهُوَ طرف مقدم الْحَافِر.
واللبان (بِفَتْح اللَّام) : الصَّدْر.

(2/459)


قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيَرْوِي فِيهَا بَعْضُ الرُّوَاةِ:
إذْ قَامَ عَمُّ نَبِيِّكُمْ وَوَلِيُّهُ ... يَدْعُونَ: يَا لَكَتِيبَةِ الْإِيمَانِ
أَيْنَ الَّذِينَ هُمْ أَجَابُوا رَبَّهُمْ ... يَوْمَ الْعُرَيْضِ وَبَيْعَةِ الرِّضْوَانِ [1]

(شِعْرٌ لِعَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ فِي يَوْمِ حُنَيْنٍ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ فِي يَوْمِ حُنَيْنٍ:
إنِّي وَالسَّوَابِحَ يَوْمَ جَمْعٍ ... وَمَا يَتْلُو الرَّسُولُ مِنْ الْكِتَابِ
لَقَدْ أَحْبَبْتُ مَا لَقِيَتْ ثَقِيفٌ ... بِجَنْبِ الشِّعْبِ أَمْسِ مِنْ الْعَذَابِ
هُمْ رَأْسُ الْعَدُوِّ مِنْ اهْلِ نَجْدٍ ... فَقَتْلُهُمْ أَلَذُّ مْنَ الشَّرَابِ
هَزَمْنَا الْجَمْعَ جَمْعَ بَنِي قَسِيٍّ ... وَحَكَّتْ بَرْكَهَا بِبَنِي رِئَابِ [2]
وَصِرْمًا مِنْ هِلَالٍ غَادَرَتْهُمْ ... بِأَوْطَاسٍ تُعَفَّرُ بِالتُّرَابِ [3]
وَلَوْ لَاقَيْنَ جَمْعَ بَنِي كِلَابٍ ... لَقَامَ نِسَاؤُهُمْ وَالنَّقْعُ كَابِي
رَكَضْنَا الْخَيْلَ فِيهِمْ بَيْنَ بُسٍّ ... إلَى الْأَوْرَالِ تنحط بالنّهاب [4]
بزِي لَجَبٍ رَسُولُ اللَّهِ فِيهِمْ ... كَتِيبَتُهُ تَعَرَّضُ لِلضِّرَابِ [5]
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: قَوْلُهُ «تُعَفَّرُ بِالتُّرَابِ» : عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ.

(شِعْرُ ابْنِ عُفَيِّفٍ فِي الرَّدِّ عَلَى ابْنِ مِرْدَاسٍ) :
فَأَجَابَهُ عَطِيَّةُ بْنُ عُفَيِّفٍ [6] النَّصْرِيُّ، فِيمَا حَدَّثَنَا ابْنُ هِشَامٍ، فَقَالَ:
أَفَاخِرَةٌ رِفَاعَةُ فِي حُنَيْنٍ ... وَعَبَّاسُ بْنُ رَاضِعَةِ اللِّجَابِ [7]
__________
[1] العريض: وَاد بِالْمَدِينَةِ.
[2] جمع: هِيَ مُزْدَلِفَة، وَهِي الْمشعر الْحَرَام أَيْضا. والبرك: الصَّدْر، وَيُرِيد بحك الْحَرْب بركها:
شدَّة وطأتها.
[3] الصرم: جمَاعَة بيُوت انْقَطَعت عَن الْحَيّ الْكَبِير. وأوطاس: مَوضِع.
[4] بس: مَوضِع فِي أَرض بنى جشم. والأورال: أجبل ثَلَاثَة سود، حذاءهن ماءة لبني عبد الله ابْن دارم. وتنحط.: تخرج أنفاسها عالية. والنهاب: جمع نهب، وَهُوَ مَا ينتهب ويغنم.
[5] بِذِي لجب: بِجَيْش كثير الْأَصْوَات.
[6] روى بِفَتْح الْعين وَبِضَمِّهَا مَعَ تَخْفيف الْيَاء، وبالضم مَعَ التَّشْدِيد قَيده الدَّار قطنى.
[7] اللجاب: جمع لجبة، وَهِي الشَّاة القليلة اللَّبن. وَقيل: هِيَ العنز خَاصَّة.

(2/460)


فَانَّكَ وَالْفِجَارَ كَذَاتِ مِرْطٍ ... لِرَبَّتِهَا وَتَرْفُلُ فِي الْإِهَابِ [1]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: قَالَ عَطِيَّةُ بْنُ عُفَيِّفٍ هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ لَمَّا أَكْثَرَ عَبَّاسٌ عَلَى هَوَازِنَ فِي يَوْمِ حُنَيْنٍ. وَرِفَاعَةُ مِنْ جُهَيْنَةَ.

(شِعْرٌ آخَرُ لِعَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ أَيْضًا:
يَا خَاتَمُ النُّبَآءِ إنَّكَ مُرْسَلٌ ... بِالْحَقِّ كُلُّ هُدَى السَّبِيلِ هُدَاكَا
إنَّ الْإِلَهَ بَنَى عَلَيْكَ مَحَبَّةً ... فِي خَلْقِهِ وَمُحَمَّدًا سَمَّاكَا
ثُمَّ الَّذِينَ وَفَوْا بِمَا عَاهَدْتَهُمْ ... جُنْدٌ بَعَثْتَ عَلَيْهِمْ الضَّحَّاكَا
رَجُلًا بِهِ ذَرَبُ السِّلَاحِ كَأَنَّهُ ... لَمَّا تَكَنَّفَهُ الْعَدُوُّ يَرَاكَا [2]
يَغْشَى ذَوِي النَّسَبِ الْقَرِيبِ وَإِنَّمَا ... يَبْغِي رِضَا الرَّحْمَنِ ثُمَّ رِضَاكَا
أُنْبِيكَ أَنِّي قَدْ رَأَيْتُ مَكَرَّهُ ... تَحْتَ الْعَجَاجَةِ يَدْمَغُ الْإِشْرَاكَا [3]
طَوْرًا يُعَانِقُ بِالْيَدَيْنِ وَتَارَةً ... يفرى الجماجم صَار مَا بَتَّاكَا [4]
يَغْشَى بِهِ هَامَ الْكُمَاةِ وَلَوْ تَرَى ... مِنْهُ الَّذِي عَايَنْتُ كَانَ شِفَاكَا [5]
وَبَنُو سُلَيْمٍ مُعْنِقُونَ أَمَامَهُ ... ضَرْبًا وَطَعْنًا فِي الْعَدُوِّ دِرَاكًا [6]
يَمْشُونَ تَحْتَ لِوَائِهِ وَكَأَنَّهُمْ ... أُسْدُ الْعَرِينِ أَرَدْنَ ثَمَّ عِرَاكَا [7]
مَا يَرْتَجُونَ مِنْ الْقَرِيبِ قَرَابَةً ... إلَّا لِطَاعَةِ رَبِّهِمْ وَهَوَاكَا
هَذِي مَشَاهِدُنَا الَّتِي كَانَتْ لَنَا ... مَعْرُوفَةً وَوَلِيُّنَا مَوْلَاكَا
__________
[1] الْفجار: الْمُفَاخَرَة. والمرط: كسَاء غير مخيط من خَز أَو صوف أَو كتَّان. وترفل: تمشى متبخترة، والإهاب: الْجلد، وَيُرِيد بِهِ الثَّوْب.
[2] ذرب السِّلَاح: حِدته ومضاؤه، وَمِنْه يُقَال: فلَان ذرب اللِّسَان، إِذا كَانَ حاد اللِّسَان.
[3] الْعَجَاجَة: الْغُبَار الْمُنْتَشِر. ويدمغ يقهر ويذل، وَهُوَ من الضَّرْب على الدِّمَاغ.
[4] يفرى: يقطع. ويروى «يقرى» بِالْقَافِ، أَي يقدم الجماجم قرى لسيفه. وبتاك: قَاطع.
[5] هَذَا الْبَيْت سَاقِط فِي أ. والهام: الرُّءُوس. والكماة: جمع كمي، وَهُوَ الشجاع الْمُسْتَتر فِي سلاحه.
[6] معنقون: مسرعون. يُقَال: أعنق يعنق: إِذا أسْرع. ودراك: متتابع.
[7] العرين: مَوضِع الْأسد. والعراك: المدافعة فِي الْحَرْب.

(2/461)


وَقَالَ عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ أَيْضًا:
إمَّا تَرَيْ يَا أُمَّ فَرْوَةَ خَيْلَنَا ... مِنْهَا مُعَطَّلَةٌ تُقَادُ وظُلَّعُ [1]
أَوْهَى مُقَارَعَةُ الْأَعَادِي دَمَّهَا ... فِيهَا نَوَافِذُ مِنْ جِرَاحٍ تَنْبَعُ [2]
فَلَرُبَّ قَائِلَةٍ كَفَاهَا وَقْعُنَا ... أزم الحروب فسر بهَا لَا يُفْزَعُ [3]
لَا وَفْدَ كَالْوَفْدِ الْأُلَى عَقَدُوا لَنَا ... سَبَبًا بِحَبْلِ مُحَمَّدٍ لَا يُقْطَعُ
وَفْدٌ أَبُو قَطَنٍ حُزَابَةُ مِنْهُمْ ... وَأَبُو الْغُيُوثِ وَوَاسِعٌ وَالْمقنع
والقائد الْمِائَة الَّتِي وَفَّى بِهَا ... تِسْعَ الْمِئِينَ فَتَمَّ [4] أَلْفٌ أَقْرَعُ [5]
جَمَعَتْ بَنُو عَوْفٍ وَرَهْطُ مُخَاشِنٍ ... سِتًّا وَأَحْلُبُ [6] مِنْ خُفَافٍ أَرْبَعُ [7]
فَهُنَاكَ إذْ نُصِرَ النَّبِيُّ بِأَلْفِنَا ... عَقَدَ النَّبِيُّ لَنَا لِوَاءً يَلْمَعُ
فُزْنَا بِرَايَتِهِ وَأَوْرَثَ عَقْدُهُ ... مَجْدَ الْحَيَاةِ وسُودَدًا لَا يُنْزَعُ
وَغَدَاةَ نَحْنُ مَعَ النَّبِيِّ جَنَاحُهُ ... بِبِطَاحِ مَكَّةَ وَالْقَنَا يَتَهَزَّعُ [8]
كَانَتْ إجَابَتُنَا لِدَاعِي رَبِّنَا ... بِالْحَقِّ مِنَّا حَاسِرٌ وَمُقَنَّعُ [9]
فِي كُلِّ سَابِغَةٍ تَخَيَّرَ سَرْدَهَا ... دَاوُدُ إذْ نَسَجَ الْحَدِيدَ وَتُبَّعُ [10]
وَلَنَا عَلَى بِئْرَيْ حُنَيْنٍ مَوْكِبٌ ... دَمَغَ النِّفَاقَ وَهَضْبَةٌ مَا تُقْلَعُ [11]
__________
[1] كَذَا فِي م، ر. والظلع: العرج. وَفِي أ «ضلع» بالضاد، والظلع والضلع بِمَعْنى.
[2] أَو هِيَ: أَضْعَف. ودمها (بِالدَّال) : تسويتها بالعلف والصنعة لَهَا حَتَّى اسْتَوَى لَحمهَا، يُقَال:
دممت الأَرْض، إِذا سويتها. وروى «رمها» (بالراء) ، وَالْمعْنَى على الرِّوَايَتَيْنِ وَاحِد. وتنبع: تسيل بِالدَّمِ.
[3] أزم الحروب: شدتها. وسربها: أَي نَفسهَا، وَقيل أَهلهَا.
[4] كَذَا فِي م، ر. وَفِي أ «فثم» بالثاء الْمُثَلَّثَة.
[5] ألف أَقرع: أَي تَامّ لَا ينقص مِنْهُ شَيْء.
[6] كَذَا فِي م، ر. و «أحلب» بِالْحَاء الْمُهْملَة: جمع. وَفِي أ: «أجلب» بِالْجِيم، وَهِي بمعناها، إِلَّا أَن الإجلاب جمع مَعَ حَرَكَة وَصَوت.
[7] خفاف (بِضَم الْخَاء) : اسْم رجل تنْسب إِلَيْهِ الْقَبِيلَة.
[8] يتهزع: مَعْنَاهُ يضطرب ويتحرك. وروى بالراء، وَمَعْنَاهُ: يسْرع إِلَى الطعْن، من قَوْلك: أهرعت إِذا أسرعت.
[9] الحاسر الّذي لَا درع عَلَيْهِ. وَالْمقنع: الّذي على رَأسه مغفر.
[10] السابغة: الدرْع الْكَامِلَة. وسردها: نسجها. وَتبع: ملك من مُلُوك الْيمن.
[11] دمغ النِّفَاق: أَصَابَهُ فِي دماغه، وَهِي اسْتِعَارَة هُنَا. والهضبة: الرابية، يصف جَيْشه بالثبات وَالْقُوَّة فَلَا يزحزح عَن مَكَانَهُ.

(2/462)


نُصِرَ النَّبِيُّ بِنَا وَكُنَّا مَعْشَرًا ... فِي كُلِّ نَائِبَةٍ نَضُرُّ وَنَنْفَعُ
ذُدْنَا [1] غَدَاتَئِذٍ هَوَازِنَ بِالْقَنَا ... وَالْخَيْلُ يَغْمُرُهَا عَجَاجٌ يَسْطَعُ [2]
إذْ خَافَ حَدَّهُمْ النَّبِيُّ وَأَسْنَدُوا ... جَمْعًا تَكَادُ الشَّمْسُ مِنْهُ تَخْشَعُ [3]
تُدْعَى بَنُو جُشَمٍ وَتُدْعَى وَسْطَهُ ... أَفْنَاءُ نَصْرٍ وَالْأَسِنَّةُ شُرَّعُ [4]
حَتَّى إذَا قَالَ الرَّسُولُ مُحَمَّدٌ ... أَبَنِي سُلَيْمٍ قَدْ وَفَيْتُمْ فَارْفَعُوا [5]
رُحْنَا وَلَوْلَا نَحْنُ أَجْحَفَ بَأْسُهُمْ ... بِالْمُؤْمِنِينَ وَأَحْرَزُوا ماَ جَمَّعُوا [6]
وَقَالَ عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ أَيْضًا فِي يَوْمِ حُنَيْنٍ:
عَفَا مِجْدَلٌ مِنْ أَهْلِهِ فَمُتَالِعُ ... فَمِطْلَا أَرِيكٍ قَدْ خَلَا فَالْمَصَانِعُ [7]
دِيَارٌ لَنَا يَا جُمْلُ إذْ جُلُّ عَيْشِنَا ... رَخِيٌّ وَصَرْفُ الدَّارِ لِلْحَيِّ جَامِعُ [8]
حُبَيِّبَةٌ أَلْوَتْ بِهَا غُرْبَةُ النَّوَى ... لِبَيْنِ فَهَلْ مَاضٍ مِنْ الْعَيْشِ رَاجِعُ [9]
فَإِنْ تَبْتَغِي الْكُفَّارَ غَيْرَ مَلُومَةٍ ... فَإِنِّي وَزِيرٌ لِلنَّبِيِّ وَتَابِعُ
دَعَانَا إلَيْهِمْ خَيْرُ وَفْدٍ عَلِمْتُهُمْ ... خُزَيْمَةُ وَالْمَرَّارُ مِنْهُمْ وَوَاسِعُ
فَجِئْنَا بِأَلْفِ مِنْ سُلَيْمٍ عَلَيْهِمْ ... لَبُوسٌ لَهُمْ مِنْ نَسْجِ دَاوُدَ رَائِعُ [10]
نُبَايِعُهُ بِالْأَخْشَبَيْنِ وَإِنَّمَا ... يَدَ اللَّهِ بَيْنَ الْأَخْشَبَيْنِ نُبَايِعُ [11]
__________
[1] كَذَا فِي أ. وذدنا: دافعنا. وَفِي م، ر: «زرنا» .
[2] العجاج: الْغُبَار: ويسطع: يَعْلُو ويتفرق.
[3] تخشع: ينقص ضياؤها.
[4] الأفناء (بِالْفَاءِ) : جمَاعَة مجتمعة من قبائل شَتَّى. وَشرع: مائلة إِلَى الطعْن.
[5] ارْفَعُوا: أَي كفوا أَيْدِيكُم عَن الْقَتْل، ويروى: اربعوا (بِالْبَاء) وَهُوَ بِمَعْنَاهُ.
[6] أجحف: نقص وأضر. وأحرزوا مَا جمعُوا: اجتووه.
[7] عَفا: درس وَتغَير. ومجدل: مَوضِع، وأصل المجدل: الْقصر، وَيُقَال: الْحصن. ومتالع:
جبل بِنَجْد. والمطلاء (بِكَسْر الْمِيم، يمد وَيقصر) : أَي أَرض سهلة لينَة تنْبت الْعضَاة. (رَاجع اللِّسَان مَادَّة: طلى) . وأريك: مَوضِع. والمصانع: مَوَاضِع تصنع للْمَاء مثل الصهاريج.
[8] جمل: اسْم امْرَأَة. وَجل الْعَيْش: أَكْثَره. وعيش رخي: ناعم. وَصرف الدَّار: الْخطب النَّازِل بهَا.
[9] كَذَا فِي م، ر. وَهُوَ تَصْغِير حَبِيبَة، وَفِي أ: «حبيبية» وَهُوَ تَصْغِير ترخيم مَعَ النّسَب إِلَى بنى حبيب. وألوت بهَا: غيرتها. والنوى: الْبعد والفراق.
[10] رائع: معجب.
[11] الأخشبان: جبلان بِمَكَّة.

(2/463)


فَجُسْنَا مَعَ الْمَهْدِيِّ مَكَّةَ عَنْوَةً ... بِأَسْيَافِنَا وَالنَّقْعُ كَابٍ وَسَاطِعُ [1]
عَدَنِيَّةً وَالْخَيْلُ يَغْشَى مُتُونَهَا ... حَمِيمٌ وَآنٍ مِنْ دَمِ الْجَوْفِ نَاقِعُ [2]
وَيَوْمَ حُنَيْنٍ حِينَ سَارَتْ هَوَازِنُ ... إلَيْنَا وَضَاقَتْ بِالنُّفُوسِ الْأَضَالِعُ
صَبَرْنَا مَعَ الضَّحَّاكِ لَا يَسْتَفِزُّنَا ... قِرَاعُ الْأَعَادِي مِنْهُمْ وَالْوَقَائِعُ [3]
أَمَامَ رَسُولِ اللَّهِ يَخْفِقُ فَوْقَنَا ... لِوَاءٌ كَخُذْرُوفِ السَّحَابَةِ لَامِعُ [4]
عَشِيَّةَ ضَحَّاكُ بْنُ سُفْيَانَ مُعْتَصٍ ... بِسَيْفِ رَسُولِ اللَّهِ وَالْمَوْتُ كَانِعُ [5]
نَذُودُ أَخَانَا عَنْ أَخِينَا وَلَوْ نَرَى ... مَصَالًا لَكُنَّا الْأَقْرَبِينَ نُتَابِعُ [6]
وَلَكِنَّ دِينَ اللَّهِ دِينُ مُحَمَّدٍ ... رَضِينَا بِهِ فِيهِ الْهُدَى وَالشَّرَائِعُ
أَقَامَ بِهِ بَعْدَ الضَّلَالَةِ أَمْرَنَا ... وَلَيْسَ لِأَمْرٍ حَمَّهُ اللَّهُ دَافِعُ [7]
وَقَالَ عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ أَيْضًا فِي يَوْمِ حُنَيْنٍ:
تَقَطَّعَ بَاقِي وَصْلِ أُمِّ مُؤَمَّلٍ ... بِعَاقِبَةِ وَاسْتَبْدَلَتْ نِيَّةً خُلْفَا [8]
وَقَدْ حَلَفَتْ باللَّه لَا تَقْطَعُ الْقُوَى ... فَمَا صَدَقَتْ فِيهِ وَلَا بَرَّتْ الْحَلْفَا [9]
__________
[1] جسنا: وطئنا. وَالْمهْدِي: النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وعنوة: قهرا. وَالنَّقْع: الْغُبَار. وكاب:
مُرْتَفع، وساطع: متفرق.
[2] متونها: ظُهُورهَا. وَالْحَمِيم (هُنَا) : الْعرق. وآن: حَار. وَنَافِع: كثير.
[3] لَا يستفزنا: لَا يستخفا.
[4] خذروف السحابة: طرفها. وَأَرَادَ بِهِ هُنَا سرعَة تحرّك هَذَا اللِّوَاء واضطرابه.
[5] معتص: ضَارب. يُقَال: اعتصوا بِالسُّيُوفِ: إِذا ضاربوا بهَا. وكانع: دَان، يُقَال: كنع مِنْهُ الْمَوْت، إِذا دنا.
[6] نذود: ندفع. وأخانا عَن أخينا: يُرِيد أَنه من بنى سليم، وسليم من قيس، كَمَا أَن هوَازن من قيس، كِلَاهُمَا ابْن مَنْصُور بن عِكْرِمَة بن خصفة بن قيس، فَمَعْنَى الْبَيْت: نُقَاتِل إخوتنا هوَازن، ونذودهم عَن إخوتنا من سليم، وَلَو نرى فِي حكم الدَّين مصالا وتطاولا على النَّاس، لَكنا مَعَ الْأَقْرَبين هوَازن.
[7] حمه الله: قدره.
[8] النِّيَّة: مَا ينويه الْإِنْسَان من وَجه ويقصده. وخلفا (بِضَم الْخَاء) : من خلف الْوَعْد وَمن رَوَاهُ (بِفَتْح الْخَاء) ، فَهُوَ من الْمُخَالفَة. وَقَالَ السهيليّ: «النِّيَّة من النَّوَى، وَهُوَ الْبعد، وخلفا: يجوز أَن يكون مَفْعُولا من أَجله، أَي فعلت ذَلِك من أجل الْخلف، وَيجوز أَن يكون مصدرا مؤكدا للاستبدال، لِأَن استبدالها خلف مِنْهَا لما وعدته بِهِ. ويقوى هَذَا الْبَيْت الْبَيْت الّذي بعده» .
[9] القوى هُنَا: قوى الْحَبل، وَالْحَبل (هُنَا) : هُوَ الْعَهْد. وَالْحلف: الْيَمين وَالْقسم.

(2/464)


خُفَافِيَّةٌ بَطْنُ الْعَقِيقِ مَصِيفُهَا ... وَتَحْتَلُّ فِي الْبَادِينَ وَجْرَةَ فَالْعُرْفَا [1]
فَإِنْ تَتْبَعْ الْكُفَّارَ أُمُّ مُؤَمَّلٍ ... فَقَدْ زَوَّدَتْ قَلْبِي عَلَى نَأْيِهَا شَغْفَا [2]
وَسَوْفَ يُنَبِّيهَا الْخَبِيرُ بِأَنَّنَا ... أَبَيْنَا وَلَمْ نَطْلُبْ سِوَى رَبِّنَا حِلْفَا [3]
وَأَنَّا مَعَ الْهَادِي النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ ... وَفَيْنَا وَلَمْ يَسْتَوْفِهَا مَعْشَرٌ أَلْفَا
بِفِتْيَانِ صِدْقٍ مِنْ سُلَيْمٍ أَعِزَّةٍ ... أَطَاعُوا فَمَا يَعْصُونَ مِنْ أَمْرِهِ حَرْفَا
خُفَافٌ وذَكْوَانٌ وَعَوْفٌ تَخَالُهُمْ ... مَصَاعِبَ زَافَتْ فِي طَرُوقَتِهَا كُلْفَا [4]
كَأَنَّ النَّسِيجَ الشُهْبَ وَالْبِيضَ مُلْبَسٌ ... أُسُودًا تَلَاقَتْ فِي مَرَاصِدِهَا غُضْفَا [5]
بِنَا عَزَّ دِينُ اللَّهِ غَيْرَ تَنَحُّلٍ ... وَزِدْنَا عَلَى الْحَيِّ الَّذِي مَعَهُ ضِعْفَا [6]
بِمَكَّةَ إذْ جِئْنَا كَأَنَّ لِوَاءَنَا ... عُقَابٌ أَرَادَتْ بَعْدَ تَحْلِيقِهَا خَطْفَا
عَلَى شُخَّصِ الْأَبْصَارِ تَحْسِبُ بَيْنَهَا ... إذَا هِيَ جَالَتْ فِي مَرَاوِدِهَا عَزْفَا [7]
غَدَاةَ وَطِئْنَا الْمُشْرِكِينَ وَلَمْ نَجِدْ ... لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ عَدْلًا وَلَا صَرْفَا [8]
بِمُعْتَرَكٍ لَا يَسْمَعُ الْقَوْمُ وَسْطَهُ ... لَنَا زَجْمَةٌ إلَّا التَّذَامُرَ وَالنَّقْفَا [9]
__________
[1] خفافية: نِسْبَة إِلَى بنى خفاف، حَيّ من سليم. والعقيق: وَاد بالحجاز. ووجرة وَالْعرْف:
موضعان.
[2] كَذَا فِي م، ر. والشغف (بالغين) الْمُعْجَمَة: أَن يبلغ الْحبّ شغَاف الْقلب، وَهُوَ حجابه.
وَفِي أ: «شعفا» بِالْعينِ الْمُهْملَة، وَمَعْنَاهُ أَن يحرق الْحبّ الْقلب مَعَ لَذَّة يجدهَا الْمُحب.
[3] الْحلف: المحالفة، وَهُوَ أَن يحالف الْقَبِيل على أَن يَكُونُوا يدا وَاحِدَة فِي جمع أُمُورهم.
[4] مصاعب: جمع مُصعب، وَهُوَ الْفَحْل. وزافت: مشت. والطروقة: النوق الَّتِي يطرقها الْفَحْل.
وكلف: سود، الْوَاحِد: أكلف.
[5] النسيج: الدروع. والشهب: جمع شهباء، وَهِي الَّتِي يخالط بياضها حمرَة. ومراصدها: حَيْثُ يرصد بَعْضهَا بَعْضًا، وغضف: مسترخية الآذان.
[6] غير تنْحَل: غير كذب.
[7] شخص: جمع شاخص، وَهُوَ الّذي يفتح عينه وَلَا يطرف. والمراود: جمع مرود، وَهُوَ الوتد، قَالَ السهيليّ: «وَيجوز أَن يكون جمع مُرَاد، وَهُوَ حَيْثُ ترود الْخَيل، أَي تذْهب وتجيء» والعزف:
الصَّوْت وَالْحَرَكَة.
[8] الْعدْل: الْفِدْيَة وَالصرْف: التَّوْبَة.
[9] المعترك: مَوضِع الْحَرْب. وزجمة: أَي صَوت. والتذامر: أَن يحض بَعضهم بَعْضًا على الْقِتَال.
والنقف: كسر الرُّءُوس، وَمِنْه ناقف الحنظلة، وَهُوَ كاسرها ومستخرج مَا فِيهَا.
30- سيرة ابْن هِشَام- 2

(2/465)


بِبِيضٍ نُطِيرُ الْهَامَ عَنْ مُسْتَقَرِّهَا ... وَنَقْطِفُ أَعْنَاقَ الْكُمَاةِ بِهَا قَطْفَا [1]
فَكَائِنْ تَرَكْنَا مِنْ قَتِيلٍ مُلَحَّبٍ ... وَأَرْمَلَةٍ تَدْعُو عَلَى بَعْلِهَا لَهْفَا [2]
رِضَا اللَّهِ نَنْوِي لَا رِضَا النَّاسِ نَبْتَغِي ... وللَّه مَا يَبْدُو جَمِيعًا وَمَا يَخْفَى
وَقَالَ عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ أَيْضًا:
مَا بَالُ عَيْنِكَ فِيهَا عَائِرٌ سَهِرٌ ... مِثْلُ الْحَمَاطَةِ أَغْضَى فَوْقَهَا الشُّفُرُ [3]
عَيْنٌ تَأَوَّبَهَا مِنْ شَجْوِهَا أَرَقٌ ... فَالْمَاءُ يَغْمُرُهَا طَوْرًا وَيَنْحَدِرُ [4]
كَأَنَّهُ نَظْمُ دُرٍّ عِنْدَ نَاظِمَةٍ ... تَقَطَّعُ السِّلْكُ مِنْهُ فَهُوَ منتثر [5]
يَا بُعْدَ مَنْزِلِ مَنْ تَرْجُو مَوَدَّتَهُ ... وَمَنْ أَتَى دُونَهُ الصَّمَّانُ فَالْحَفَرُ [6]
دَعْ مَا تَقَدَّمَ مِنْ عَهْدِ الشَّبَابِ فَقَدْ ... وَلَّى الشَّبَابُ وَزَارَ الشَّيْبُ وَالزَّعَرُ [7]
وَاذْكُرْ بَلَاءَ سُلَيْمٍ فِي مَوَاطِنِهَا ... وَفِي سُلَيْمٍ لِأَهْلِ الْفَخْرِ مُفْتَخَرُ
قَوْمٌ هُمْ نَصَرُوا الرَّحْمَنَ وَاتَّبَعُوا ... دِينَ الرَّسُولِ وَأَمْرُ النَّاسِ مُشْتَجِرُ [8]
لَا يَغْرِسُونَ فَسِيلَ النَّخْلِ وَسْطَهُمْ ... وَلَا تَخَاوَرُ فِي مَشْتَاهُمْ الْبَقَرُ [9]
إلَّا سَوَابِحَ كَالْعِقْبَانِ مَقْرَبَةً ... فِي دَارَةٍ حَوْلَهَا الْأَخْطَارُ وَالْعَكَرُ [10]
__________
[1] الْهَام: الرُّءُوس، الْوَاحِدَة: هَامة. ونقطف: نقطع.
[2] ملحب: مقطع اللَّحْم.
[3] العائر: كل مَا أعل الْعين من رمد أَو قذى يتنخس فِي الْعين كَأَنَّهُ يعورها، وسهر: من السهر، وَهُوَ امْتنَاع النّوم. وَجعله سهرا، وَإِنَّمَا السهر الرجل، لِأَنَّهُ لم يفتر عَنهُ، فَكَأَنَّهُ سهر وَلم ينم، والحماطة (فِي الأَصْل) : تبن الذّرة إِذا ذريت، وَله أكال فِي الْجلد، وَيُرِيد بِهِ مَا يَقع مِنْهُ فِي الْعين فتقذى بِهِ.
وأغضى فَوْقهَا: أغمض جفْنه عَلَيْهَا. والشفر (أَصله بِسُكُون الْفَاء، وحركت بِالضَّمِّ إتباعا) : أصل منبت الشّعْر فِي الجفن.
[4] تأوبها: جاءها مَعَ اللَّيْل. والشجو: الْحزن. وَالْمَاء: الدمع. ويغمرها: يغطيها.
[5] السلك: الْخَيط الّذي ينظم فِيهِ، ومنتثر: متفرق.
[6] الصمان والحفر: موضعان.
[7] الزعر: قلَّة الشّعْر.
[8] مشتجر: مُخْتَلف، من الاشتجار: وَهُوَ الِاخْتِلَاف وتداخل الْحجَج بَعْضهَا فِي بعض.
[9] الفسيل: صغَار النّخل. وتخاور: من الخوار، وَهُوَ أصوات الْبَقر. يُرِيد أَنهم لَيْسُوا أهل زرع وتربية نعم، وَإِنَّمَا هم أهل حَرْب وانتقال.
[10] السوابح (هُنَا) : الْخَيل الَّتِي كَأَنَّهَا تسبح فِي جريها. والعقبان: جمع عِقَاب. ومقربة (كَمَا

(2/466)


تُدْعَى خُفَافٌ وَعَوْفٌ فِي جَوَانِبِهَا ... وَحَيُّ ذَكْوَانَ لَا مِيلٌ وَلَا ضُجُرُ [1]
الضَّارِبُونَ جُنُودَ الشِّرْكِ ضَاحِيَةً ... بِبَطْنِ مَكَّةَ وَالْأَرْوَاحُ تَبْتَدِرُ [2]
حَتَّى دَفَعْنَا وَقَتْلَاهُمْ كَأَنَّهُمْ ... نَخْلٌ بِظَاهِرَةِ الْبَطْحَاءِ مُنْقَعِرُ [3]
وَنَحْنُ يَوْمَ حُنَيْنٍ كَانَ مَشْهَدُنَا ... لِلدِّينِ عِزًّا وَعِنْدَ اللَّهِ مُدَّخَرُ
إذْ نَرْكَبُ الْمَوْتَ مُخْضَرًّا بَطَائِنُهُ ... وَالْخَيْلُ يَنْجَابُ عَنْهَا سَاطِعٌ كَدِرُ [4]
تَحْتَ اللِّوَاءِ مَعَ الضَّحَّاكِ يَقْدُمُنَا ... كَمَا مَشَى اللَّيْثُ فِي غَابَاتِهِ الْخَدِرُ [5]
فِي مَأْزِقٍ مِنْ مَجَرِّ الْحَرْبِ كَلْكَلُهَا ... تَكَادُ تَأْفِلُ مِنْهُ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ [6]
وَقَدْ صَبَرْنَا بِأَوْطَاسٍ أَسِنَّتَنَا ... للَّه نَنْصُرُ مَنْ شِئْنَا وَنَنْتَصِرُ
حَتَّى تَأَوَّبَ أَقْوَامٌ مَنَازِلَهُمْ ... لَوْلَا الْمَلِيكُ وَلَوْلَا نَحْنُ مَا صَدَرُوا [7]
فَمَا تَرَى مَعْشَرًا قَلُّوا وَلَا كَثُرُوا ... إلَّا قَدَ اصْبَحَ مِنَّا فِيهِمْ أَثَرُ
وَقَالَ عَبَّاسُ بْنُ مرداس أَيْضا:
يَا أيّها الرَّجُلُ الَّذِي تَهْوِي بِهِ ... وَجْنَاءُ مُجْمَرَةُ الْمَنَاسِمِ عِرْمِسُ [8]
إمَّا أَتَيْتَ عَلَى النَّبِيِّ فَقُلْ لَهُ ... حَقًّا عَلْيَكَ إذَا اطْمَأَنَّ الْمَجْلِسُ
يَا خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطِيَّ وَمَنْ مَشَى ... فَوْقَ التُّرَابِ إذَا تُعَدُّ الْأَنْفُسُ
__________
[ () ] فِي م، ر) : قريبَة من الْبيُوت، لركوبها إِذا حدث مَا يَدْعُو إِلَى النجدة وَنَحْوهَا: وَفِي أ: «مقرنة» .
والدارة: كل مَا أحَاط بِشَيْء. والأخطار: الْجَمَاعَات من الْإِبِل. والعكر: الْإِبِل الْكَثِيرَة.
[1] خفاف، وعَوْف، وذكوان: قبائل. والميل: جمع أميل، وَهُوَ الّذي لَا سلَاح لَهُ. والضجر (بِضَم الضَّاد وَالْجِيم) : جمع ضجور، من الضجر وَهُوَ الْحَرج وَسُوء الِاحْتِمَال
[2] ضاحية: منكشفة بارزة فِي أشعة الشَّمْس.
[3] منقعر، منقلع من أَصله.
[4] سَاطِع: غُبَار متفرق. وكدر: متغير إِلَى السوَاد.
[5] الخدر: الدَّاخِل فِي خدره. والخدر (هُنَا) : غابة الْأسد.
[6] مأزق: مَكَان ضيق فِي الْحَرْب. والكلكل: الصَّدْر. وتأفل: تغيب.
[7] تأوب: رَجَعَ.
[8] تهوى بِهِ: تسرع. والوجناء: النَّاقة الضخمة، أَو هِيَ الغليظة الوجنات البارزتها، وَذَلِكَ يدل على غئور عينيها، وهم يصفونَ الْإِبِل بغئور الْعَينَيْنِ عِنْد طول السفار. والمجمرة: المجتمعة المنضمة، وَذَلِكَ أقوى لَهَا. والمناسم: جمع منسم، وَهُوَ مقدم طرف خف الْبَعِير. وعرمس: شَدِيدَة، وأصل العرمس: الصَّخْرَة الصلدة، وتشبه بهَا النَّاقة الْجلْدَة القوية.

(2/467)


إنَّا وَفَيْنَا بِاَلَّذِي عَاهَدْتَنَا ... وَالْخَيْلُ تُقْدَعُ بِالْكُمَاةِ وَتُضْرَسُ [1]
إذَا سَالَ مِنْ أَفْنَاءِ بُهْثَةَ كُلِّهَا ... جَمْعٌ تَظَلُّ بِهِ الْمَخَارِمُ تَرْجُسُ [2]
حَتَّى صَبَحْنَا أَهْلَ مَكَّةَ فَيْلَقًا ... شَهْبَاءَ يَقْدُمُهَا الْهُمَامُ الْأَشْوَسُ [3]
مِنْ كُلِّ أَغْلَبَ مِنْ سُلَيْمٍ فَوْقَهُ ... بَيْضَاءُ مُحْكَمَةُ الدِّخَالِ وَقَوْنَسُ [4]
يُرْوِي الْقَنَاةَ إذَا تَجَاسَرَ فِي الْوَغَى ... وَتَخَالُهُ أَسَدًا إذَا مَا يَعْبِسُ
يَغْشَى الْكَتِيبَةَ مُعْلِمًا وَبِكَفِّهِ ... عَضْبٌ يَقُدُّ بِهِ وَلَدْنٌ مِدْعَسُ [5]
وَعَلَى حُنَيْنٍ قَدْ وَفَى مِنْ جَمْعِنَا ... أَلْفٌ أُمِدَّ بِهِ الرَّسُولُ عَرَنْدَسُ [6]
كَانُوا أَمَامَ الْمُؤْمِنِينَ دَرِيئَةً ... وَالشَّمْسُ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهِمْ أَشْمُسُ [7]
نَمْضِي وَيَحْرُسُنَا الْإِلَهُ بِحِفْظِهِ ... وَاَللَّهُ لَيْسَ بِضَائِعِ مَنْ يَحْرُسُ
وَلَقَدْ حُبِسْنَا بِالْمَنَاقِبِ مَحْبِسًا ... رَضِىَ الْإِلَهُ بِهِ فَنِعْمَ الْمَحْبِسُ [8]
وَغَدَاةَ أَوْطَاسٍ شَدَدْنَا شَدَّةً ... كَفَتْ الْعَدُوَّ وَقِيلَ مِنْهَا: يَا احْبِسُوا
تَدْعُو هَوَازِنُ بِالْإِخَاوَةِ بَيْنَنَا ... ثَدْيٌ تَمُدُّ بِهِ هَوَازِنُ أَيْبَسُ
حَتَّى تَرَكْنَا جَمْعَهُمْ وَكَأَنَّهُ ... عَيْرٌ تَعَاقَبَهُ السِّبَاعُ مُفَرَّسُ [9]
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أَنْشَدَنِي خَلَفٌ الْأَحْمَرُ قَوْلَهُ: «وَقِيلَ مِنْهَا يَا احْبِسُوا» .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ أَيْضًا:
نَصَرْنَا رَسُولَ اللَّهِ مِنْ غَضَبٍ لَهُ ... بِأَلْفِ كَمِيٍّ لَا تُعَدُّ حَوَاسِرُهْ [10]
__________
[1] تقدع: تكف. وتضرس: تجرح.
[2] سَالَ: ارْتَفع. وبهثة: حَيّ من سليم. والمخارم: الطّرق فِي الْجبَال. وترجس: تهتز وتتحرك.
[3] صبحنا أهل مَكَّة فيلقا: أتيناهم بفيلق عِنْد الصُّبْح. وشهباء: لَهَا بريق من كَثْرَة السِّلَاح. والهمام:
السَّيِّد. والأشوس: الّذي ينظر نظر المتكبر.
[4] الْأَغْلَب: الشَّديد الغليظ. ومحكمة الدخال: يُرِيد قُوَّة نسج الدرْع. والقونس: أَعلَى بَيْضَة الْحَدِيد
[5] عضب: سيف قَاطع. ولدن: لين، يقْصد بِهِ الرمْح. ومدعس: طعان.
[6] عرندس: شَدِيد.
[7] دريئة: مدافعة. وأشمس: جمع شمس. يُرِيد لمعان الشَّمْس فِي كل درع وَسيف وبيضة وَسنَان، فَكَأَنَّهَا شموس.
[8] المناقب: اسْم طَرِيق الطَّائِف من مَكَّة.
[9] العير: حمَار الْوَحْش. ومفرس: معقور، افترسه السبَاع.
[10] حواسره: جموعه الَّذين لَا دروع عَلَيْهِم، يُقَال،: رجل حاسر، إِذا لم يكن عَلَيْهِ درع.

(2/468)


حَمَلْنَا لَهُ فِي عَامِلِ الرُّمْحِ رَايَةً ... يَذُودُ بِهَا فِي حَوْمَةِ الْمَوْتِ نَاصِرُهْ [1]
وَنَحْنُ خَضَبْنَاهَا دَمًا فَهْوَ لَوْنُهَا ... غَدَاةَ حُنَيْنٍ يَوْمَ صَفْوَانُ شَاجِرُهْ [2]
وَكُنَّا عَلَى الْإِسْلَامِ مَيْمَنَةً لَهُ ... وَكَانَ لَنَا عَقْدُ اللِّوَاءِ وَشَاهِرُهْ
وَكُنَّا لَهُ دُونَ الْجُنُودِ بِطَانَةً ... يُشَاوِرُنَا فِي أَمْرِهِ وَنُشَاوِرُهْ
دَعَانَا فَسَمَّانَا الشِّعَارَ مُقَدَّمًا ... وَكُنَّا لَهُ عَوْنًا عَلَى مَنْ يُنَاكِرُهْ [3]
جَزَى اللَّهُ خَيْرًا مِنْ نَبِيٍّ مُحَمَّدًا ... وَأَيَّدَهُ بِالنَّصْرِ وَاَللَّهُ نَاصِرُهْ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أَنْشَدَنِي مِنْ قَوْلِهِ: «وَكُنَّا عَلَى الْإِسْلَامِ» إِلَى آخرهَا، بَعْص أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشِّعْرِ، وَلَمْ يَعْرِفْ الْبَيْتَ الَّذِي أَوَّلُهُ: «
حَمَلْنَا لَهُ فِي عَامِلِ الرُّمْحِ رَايَةً
» .
وَأَنْشَدَنِي بَعْدَ قَوْلِهِ: «
وَكَانَ لَنَا عَقْدُ اللِّوَاءِ وَشَاهِرُهْ
» ، «
وَنَحْنُ خَضَبْنَاهُ دَمًا فَهُوَ لَوْنُهُ
» .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ أَيْضًا:
مَنْ مُبْلِغُ الْأَقْوَامِ أَنَّ مُحَمَّدًا ... رَسُولَ الْإِلَهِ رَاشِدٌ حَيْثُ يَمَّمَا [4]
دَعَا رَبَّهُ وَاسْتَنْصَرَ اللَّهَ وَحْدَهُ ... فَأَصْبَحَ قَدْ وَفَّى إلَيْهِ وَأَنْعَمَا
سَرَيْنَا وَوَاعَدْنَا قُدَيْدًا مُحَمَّدًا ... يَؤُمُّ بِنَا أَمْرًا مِنْ اللَّهِ مُحْكَمَا
تَمَارَوْا بِنَا فِي الْفَجْرِ حَتَّى تَبَيَّنُوا ... مَعَ الْفَجْرِ فِتْيَانًا وَغَابًا مُقَوَّمًا [5]
عَلَى الْخَيْلِ مَشْدُودًا عَلَيْنَا دُرُوعُنَا ... وَرَجْلًا كَدُفَّاعِ الْأَتِيِّ عَرَمْرَمَا [6]
فَإِنَّ سَرَاةَ الْحَيِّ إنْ كُنْتَ سَائِلًا ... سُلَيْمٌ وَفِيهِمْ مِنْهُمْ مَنْ تَسَلَّمَا [7]
وَجُنْدٌ مِنْ الْأَنْصَارِ لَا يَخْذُلُونَهُ ... أَطَاعُوا فَمَا يَعْصُونَهُ مَا تَكَلَّمَا
__________
[1] عَامل الرمْح: مَا يَلِي السنان، وَهُوَ دون الثَّعْلَب.
[2] شاجره: أَي مخالطه بِالرُّمْحِ، يُقَال: شجرته بِالرُّمْحِ، إِذا طعنته بِهِ، وشجرت الرماح: إِذا دخل بَعْضهَا على بعض.
[3] الشعار: مَا ولى جَسَد الْإِنْسَان من الثِّيَاب، فاستعاره هُنَا لبطانته وخاصته.
[4] فِي هَذَا الْبَيْت خرم.
[5] تماروا بِنَا: شكوا فِينَا. والغاب (هُنَا) : الرماح.
[6] رجلا: مشَاة. والأتى: السَّيْل يأتى من بلد إِلَى بلد. ودفاعه: مَا يَدْفَعهُ أَمَامه. والعرمرم:
الْكثير الشَّديد.
[7] تسلم: انتسب إِلَى سليم، كَمَا تَقول: تقيس الرجل، إِذا اعتزى إِلَى قيس.

(2/469)


فَإِنْ تَكُ قَدْ أَمَّرْتَ فِي الْقَوْمِ خَالِدًا ... وَقَدَّمْتَهُ فَإِنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَا
بِجُنْدٍ هَدَاهُ اللَّهُ أَنْتَ أَمِيرُهُ ... تُصِيبُ بِهِ فِي الْحَقِّ مَنْ كَانَ أَظْلَمَا
حَلَفْتُ يَمِينًا بَرَّةً لِمُحَمَّدٍ ... فَأَكْمَلْتُهَا أَلْفًا مِنْ الْخَيْلِ مُلْجَمَا
وَقَالَ نَبِيُّ الْمُؤْمِنِينَ تَقَدَّمُوا ... وَحُبَّ إلَيْنَا أَنْ نَكُونَ الْمُقَدَّمَا
وَبِتْنَا بِنَهْيِ الْمُسْتَدِيرِ وَلَمْ يَكُنْ ... بِنَا الْخَوْفُ إلَّا رَغْبَةً وتحزّما
أَطَعْنَاكَ حَتَّى أَسْلَمَ النَّاسُ كُلُّهُمْ ... وَحَتَّى صَبَحْنَا الْجَمْعَ أَهْلَ يَلَمْلَمَا [1]
يَضِلُّ الْحِصَانُ الْأَبْلَقُ الْوَرْدُ وَسْطَهُ ... وَلَا يَطْمَئِنُّ الشَّيْخُ حَتَّى يُسَوَّمَا [2]
سَمَوْنَا لَهُمْ وِرْدَ الْقَطَا زَفَّهُ ضُحَى ... وَكُلٌّ تَرَاهُ عَنْ أَخِيهِ قَدَ احْجَمَا [3]
لَدُنْ غُدْوَةً حَتَّى تَرَكْنَا عَشِيَّةً ... حُنَيْنًا وَقَدْ سَالَتْ دَوَافِعُهُ دَمَا [4]
إذَا شِئْتَ مِنْ كُلٍّ رَأَيْتَ طِمِرَّةً ... وَفَارِسَهَا يَهْوِى وَرُمْحًا مُحَطَّمَا [5]
وَقَدْ أَحْرَزَتْ مِنَّا هَوَازِنُ سَرْبَهَا ... وَحُبَّ إلَيْهَا أَنْ نَخِيبَ وَنُحْرَمَا [6]

(شِعْرُ ضَمْضَمٍ فِي يَوْمِ حُنَيْنٍ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ ضَمْضَمُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ جُشَمِ بْنِ عَبْدِ بْنِ حَبِيبِ ابْن مَالِكِ بْنِ عَوْفِ بْنِ يَقَظَةَ بْنِ عُصَيَّةَ السُّلَمِيُّ فِي يَوْمِ حُنَيْنٍ، وَكَانَتْ ثَقِيفٌ أَصَابَتْ كِنَانَةَ بْنَ الْحَكَمِ بْنِ خَالِدِ بْنِ الشَّرِيدِ، فَقَتَلَ بِهِ مِحْجَنًا وَابْنَ عَمٍّ لَهُ، وَهُمَا مِنْ ثَقِيفٍ:
نَحْنُ جَلَبْنَا الْخَيْلَ مِنْ غَيْرِ مَجْلَبٍ ... إلَى جُرَشٍ [7] مِنْ أَهْلِ زيّان [8] والفم [9]
__________
[1] يَلَمْلَم، أَو ألملم: مِيقَات الْحَاج القادم من جِهَة الْيمن، وَهُوَ جبل على مرحلَتَيْنِ من مَكَّة.
[2] الأبلق: الّذي فِيهِ بَيَاض مَعَ سَواد. والورد: المشرب حمرَة. واجتماع هَذِه الألوان فِي الحصان مِمَّا يزِيدهُ ظهورا، وَهُوَ مَعَ ذَلِك يغيب فِي غمرة هَذَا الْموضع وزحمته. ويشوم: يعلم نَفسه أَو حصانه بعلامة يعرف بهَا.
[3] سمونا لَهُم: نهضنا لقتالهم. والقطا: طَائِر مَعْرُوف، وزفه الضُّحَى: أسْرع بِهِ الضُّحَى وَسَاقه سوقا شَدِيدا. وأحجم عَن أَخِيه: شغل عَنهُ.
[4] دوافعه: مجاري السُّيُول فِيهِ.
[5] طمرة: فرس سريعة وثابة. ومحطم: مكسر.
[6] السرب (بِفَتْح السِّين) : المَال الرَّاعِي.
[7] جرش: من مخاليف الْيمن من جِهَة مَكَّة.
[8] كَذَا فِي أ. وَهُوَ اسْم جبل. وَفِي م، ر: «رَيَّان» بالراء الْمُهْملَة.
[9] الْفَم: مَوضِع.

(2/470)


تقتّل أَشْبَالَ الْأُسُودِ وَنَبْتَغِي ... طَوَاغِيَ كَانَتْ قَبْلَنَا لَمْ تُهَدَّمْ [1]
فَإِنْ تَفْخَرُوا بِابْنِ الشَّرِيدِ فَإِنَّنِي ... تَرَكْتُ بِوَجٍّ مَأْتَمًا بَعْدَ مَأْتَمِ [2]
أَبَأْتُهُمَا بِابْنِ الشَّرِيدِ وَغَرَّهُ ... جِوَارُكُمْ وَكَانَ غَيْرَ مُذَمَّمِ [3]
تُصِيبُ رِجَالًا مِنْ ثَقِيفٍ رِمَاحُنَا ... وَأَسْيَافُنَا يَكْلِمْنَهُمْ كُلَّ مَكْلَمِ [4]
وَقَالَ ضَمْضَمُ بْنُ الْحَارِثِ أَيْضًا:
أَبْلِغْ لَدَيْكَ ذَوِي الْحَلَائِلِ آيَةً ... لَا تَأْمَنَنَّ الدَّهْرَ ذَاتَ خِمَارِ [5]
بَعْدَ الَّتِي قَالَتْ لِجَارَةِ بَيْتِهَا ... قَدْ كُنْتُ لَوْ لَبِثَ الْغَزِيُّ بِدَارِ [6]
لَمَّا رَأَتْ رَجُلًا تَسَفَّعَ لَوْنَهُ ... وَغْرُ الْمَصِيفَةِ وَالْعِظَامُ عَوَارِي [7]
مُشُطَ الْعِظَامِ تَرَاهُ آخِرَ لَيْلِهِ ... مُتَسَرْبِلًا فِي دِرْعِهِ لِغِوَارِ [8]
إذْ لَا أَزَالُ عَلَى رِحَالَةِ نَهْدَةٍ ... جَرْدَاءَ تُلْحِقُ بِالنِّجَادِ إزَارِي [9]
يَوْمًا عَلَى أَثَرِ النِّهَابِ وَتَارَةً ... كُتِبَتْ مُجَاهِدَةً مَعَ الْأَنْصَارِ [10]
وَزُهَاءَ كُلِّ خَمِيلَةٍ أَزْهَقْتهَا ... مَهَلًا تَمَهَّلُهُ وَكُلِّ خَبَارِ [11]
كَيْمَا أُغَيِّرَ مَا بِهَا مِنْ حَاجَةٍ ... وَتَوَدُّ أَنِّي لَا أَؤُوبُ فَجَارِ [12]
__________
[1] طواغى: جمع طاغية، وَأَرَادَ بهما هَا هُنَا الْبيُوت الَّتِي كَانُوا يتعبدون فِيهَا فِي الْجَاهِلِيَّة ويعظمونها سوى الْبَيْت الْحَرَام
[2] وَج: مَوضِع بِالطَّائِف. والمأتم: جمَاعَة النِّسَاء يجتمعن فِي الْخَيْر وَالشَّر، وَأَرَادَ بِهِ هُنَا اجتماعهن فِي الْحزن.
[3] أبأتهما بِابْن الشريد: جعلتهما بَوَاء، أَو سَوَاء بِهِ، أَي قتلتهما بِهِ.
[4] يكلمنهم: يجرحنهم.
[5] الحلائل: جمع خَلِيلَة، وَهِي الزَّوْجَة. وَآيَة: عَلامَة.
[6] الغزى: جمَاعَة الْقَوْم الَّذين يغزون.
[7] تسفع لَونه: أَي غَيره إِلَى السفعة، وَهِي سَواد بحمرة. والوغر: شدَّة الْحر. والمصيفة:
الأَرْض اشْتَدَّ حرهَا.
[8] مشط الْعِظَام: قَلِيل اللَّحْم الّذي على الْعِظَام. ولغوار: أَي للإغارة.
[9] الرحالة: هُنَا: السرج. ونهدة: غَلِيظَة، يعْنى فرسا. وجرداء: قَصِيرَة الشّعْر. والنجاد:
حمائل السَّيْف.
[10] النهاب: جمع نهب، وَهُوَ مَا يغم وينهب.
[11] خميلة: رَملَة طيبَة ينْبت فِيهَا شجر. يُرِيد أَرضًا مزروعة لينَة. والخبار: أَرض لينَة التُّرَاب.
[12] لَا أؤوب: لَا أرجع. وفجار: بِمَعْنى الْفَاجِرَة، وَهُوَ معدول عَنهُ، وَأكْثر مَا يسْتَعْمل فِي النداء.

(2/471)


(شِعْرُ أَبِي خِرَاشٍ فِي رِثَاءِ ابْنِ الْعَجْوَةِ) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: حَدَّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ، قَالَ: أُسِرَ زُهَيْرُ بْنُ الْعَجْوَةِ الْهُذَلِيُّ يَوْمَ حُنَيْنٍ، فَكُتِّفَ، فَرَآهُ جَمِيلُ [1] بْنُ مَعْمَرٍ الْجُمَحِيُّ، فَقَالَ لَهُ: أَأَنْتَ الْمَاشِي لَنَا بِالْمَغَايِظِ؟ فَضَرَبَ عُنُقَهُ، فَقَالَ أَبُو خِرَاشٍ [2] الْهُذَلِيُّ يَرْثِيهِ، وَكَانَ ابْنَ عَمِّهِ:
عَجَّفَ [3] أَضْيَافِي جَمِيلُ بْنُ مَعْمَرٍ ... بِذِي فَجَرٍ تَأْوِي إلَيْهِ الْأَرَامِلُ [4]
طَوِيلِ نِجَادِ [5] السَّيْفِ [6] لَيْسَ بِجَيْدَرٍ [7] ... إذَا اهْتَزَّ وَاسْتَرْخَتْ عَلَيْهِ الْحَمَائِلُ [8]
تَكَادُ يَدَاهُ تُسْلِمَانِ إزَارَهُ [9] ... مِنْ الْجُودِ لَمَّا أَذْلَقَتْهُ [10] الشَّمَائِلُ [11]
إلَى بَيْتِهِ يَأْوِي الضَّرِيكُ [12] إذَا شَتَا ... وَمُسْتَنْبِحٌ [13] بَالِي الدَّرِيسَيْنِ عَائِلُ [14]
__________
[1] هُوَ غير جميل بن معمر العذري، صَاحب بثينة، الشَّاعِر الْمَعْرُوف.
[2] اسْمه خويلد بن مرّة، وَكَانَ شَاعِرًا إسلاميا. مَاتَ فِي خلَافَة عمر من حَيَّة نهشته.
[3] كَذَا فِي الْأُصُول. وعجف (بالتضعيف) : أَضْعَف وهزل. وَفِي ديوَان أشعار الهذليين (المخطوط الْمَحْفُوظ بدار الْكتب المصرية برقم 6 أدب ش) : «فجع» .
[4] الْفجْر (بتحريك الْجِيم) : الْجُود وَالْكَرم. والأرامل: المحتاجون، الْوَاحِد: أرمل وأرملة
[5] النجاد: حمائل السَّيْف.
[6] فِي ديوَان الهذليين: «الْبَز» وَهُوَ السِّلَاح. وَيُرِيد بِهِ هُنَا السَّيْف خَاصَّة.
[7] كَذَا فِي الدِّيوَان. والجيدر: الْقصير. وَفِي م، ر: «بحيدر» بِالْحَاء الْمُهْملَة.
وَفِي أ: «بخيذر» ، (بخاء وذال معجمتين) ، وهما تَصْحِيف.
[8] الحمائل: جمع حمالَة، وَهِي علاقَة السَّيْف، ويكنى بِطُولِهَا عَن طول الْقَامَة.
[9] فِي الدِّيوَان: «رِدَاءَهُ» .
[10] كَذَا فِي الْأُصُول. وَالشَّمَائِل: ريَاح الشمَال الْبَارِدَة، وَمَعَهَا الْقَحْط. وأذلقته: جهدته وأمحلته.
يصفه بالجود مَعَ الجدب وَذَلِكَ حِين تهيج الشمَال شتاء. وَفِي الدِّيوَان: «لما استقبلته الشَّمَائِل» . وَهِي بمعناها. وَمَوْضِع هَذَا الْبَيْت فِي الدِّيوَان بعد بَيته: «تروح مقرورا» .
[11] قَالَ السهيليّ: «يُرِيد أَنه من سخائه يُرِيد أَن يتجرد من إزَاره لسائله، فيسلمه إِلَيْهِ. وألفيت بِخَط أَبى الْوَلِيد الوقشى: «الْجُود (هَا هُنَا) ، وعَلى هَذِه الرِّوَايَة، وبهذه الرُّتْبَة: السخاء، وَكَذَلِكَ فسر الْأَصْمَعِي والطوسي. وَأما على مَا وَقع فِي شعر الْهُذلِيّ، فسره فِي الْغَرِيب المُصَنّف، فَهُوَ الْجُوع» . وَلم نجد هَذِه الرِّوَايَة فِي ديوَان الهذليين الّذي أَشَرنَا إِلَيْهِ.
[12] كَذَا فِي الْأُصُول. والضريك: الْفَقِير. وَفِي الدِّيوَان: «الْغَرِيب» .
[13] كَذَا فِي الْأُصُول. والمستنبح: الطارق لَيْلًا، يَقع فِي حيرة فينبح، فتنبحه الْكلاب، فيقصد موضعهَا. وَفِي الدِّيوَان: «ومهتلك» وَهُوَ بِمَعْنى المستنبح» .
[14] الدريسان: الثوبان الخلقان، يُرِيد رِدَاءَهُ وَإِزَاره. والعائل: الْفَقِير.

(2/472)


تَرَوَّحَ مَقْرُورًا [1] وَهَبَّتْ عَشِيَّةً [2] ... لَهَا حدب تحتشّه فَيُوَائِلُ [3]
فَمَا بَالُ أَهْلِ الدَّارِ لَمْ يَتَصَدَّعُوا [4] ... وَقَدْ بَانَ مِنْهَا اللَّوْذَعِيُّ الْحُلَاحِلُ [5]
فَأُقْسِمُ لَوْ لَاقَيْتَهُ غَيْرَ مُوثَقٍ ... لَآبَكَ بِالنَّعْفِ الضِّبَاعُ الْجَيَائِلُ [6]
وَإِنَّكَ لَوْ وَاجَهْتَهُ إذْ [7] لَقِيتَهُ ... فَنَازَلْتُهُ أَوْ كُنْتَ مِمَّنْ يُنَازِلُ
لَظَلَّ جَمِيلٌ [8] أَفْحَشَ الْقَوْمِ صِرْعَةً [9] ... وَلَكِنَّ قِرْنَ الظَّهْرِ لِلْمَرْءِ شَاغِلُ [10]
فَلَيْسَ كَعَهْدِ الدَّارِ يَا أُمَّ ثَابِتٍ [11] ... وَلَكِنْ أَحَاطَتْ بِالرِّقَابِ السَّلَاسِلُ [12]
وَعَادَ الْفَتَى كَالشَّيْخِ لَيْسَ بِفَاعِلِ [13] ... سِوَى الْحَقِّ شَيْئًا وَاسْتَرَاحَ الْعَوَاذِلُ [14]
__________
[1] المقرور: الّذي أَصَابَهُ القر، وَهُوَ الْبرد.
[2] فِي الدِّيوَان: «وراحت عَشِيَّة» .
[3] الحدب: تراكب الرّيح فِي هبوبها كَمَا يتراكب المَاء فِي جريه، وَذَلِكَ إِذا اشتدت. قَالَ السهيليّ:
«والخدب (بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة) أشبه بِمَعْنى الْبَيْت، لأَنهم يَقُولُونَ ريح خدباء، كَأَن بهَا خدبا، وَهُوَ الهوج» .
وتحتثه: تسوقه سوقا سَرِيعا. ويروى: «تجتثه» بِالْجِيم، أَي تقتلعه من الأَرْض. ويوائل: يطْلب موئلا، وَهُوَ الملجأ.
[4] لم يتصدعوا: لم يتفرقوا. وَفِي الدِّيوَان: «لم يتحملوا» . والتحمل: الرحيل.
[5] اللوذعي: الْحَدِيد الْبَين اللِّسَان. والحلاحل: السَّيِّد.
[6] كَذَا فِي الْأُصُول. وآبك: رَجَعَ إِلَيْك وزارك. والنعف: أَسْفَل الْجَبَل. والضباع جمع ضبع، وَهِي من السبَاع. والجيائل: من أَسمَاء الضباع، الْوَاحِد: جيئل. وَرِوَايَة هَذَا الْبَيْت فِي الدِّيوَان:
فو الله لَو لاقيته غير موثق ... لآبك بالجزع الضباع النواهل
والجزع: منعطف الْوَادي. والنواهل: المشتهيات للْأَكْل كَمَا تشْتَهي الْإِبِل المَاء.
[7] كَذَا فِي الدِّيوَان، وَفِي الْأُصُول: «أَو» .
[8] فِي الدِّيوَان: «أُسْوَة» .
[9] كَذَا فِي الْأُصُول. والصرعة (بِكَسْر الصَّاد الْمُهْملَة) : هَيْئَة الصرع. وَفِي الدِّيوَان: «تلة» ، وَهِي أَيْضا اسْم للهيئة، من تله يتله: إِذا صرعة.
[10] قرن الظّهْر: هُوَ الّذي يَأْتِيهِ من وَرَاء ظَهره من حَيْثُ لَا يرَاهُ. قَالَ السهيليّ: «قرن (بِالْقَافِ) جمعه أَقْرَان، ويروى: (وَلَكِن أَقْرَان الظُّهُور مقَاتل) . وَمُقَاتِل: جمع مقتل (بِكَسْر الْمِيم، مثل محرب من الْحَرْب) ، أَي من كَانَ قرن ظهر فَإِنَّهُ قَاتل وغالب» .
[11] فِي الدِّيوَان: «يَا أم مَالك» .
[12] يُرِيد أَن الْإِسْلَام أحَاط برقابنا، فَلَا نستطيع أَن نعمل شَيْئا.
[13] فِي الدِّيوَان: «كالكهل لَيْسَ بقائل» . يَقُول: رَجَعَ الْفَتى عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ من فتوته وَصَارَ كَأَنَّهُ كهل.
[14] العواذل: اللوائم من النِّسَاء. واستراح العواذل، لِأَنَّهُنَّ لَا يجدن مِمَّا يعذلن فِيهِ سوى الْعدْل، أَي سوى الْحق.

(2/473)


وَأَصْبَحَ إخْوَانُ الصَّفَاءِ كَأَنَّمَا ... أَهَالَ عَلَيْهِمْ جَانِبَ التُّرْبِ هَائِلُ [1]
فَلَا تَحْسَبِي أَنِّي نَسِيتُ لَيَالِيَا ... بِمَكَّةَ إذْ لَمْ نَعْدُ عَمَّا نُحَاوِلُ [2]
إذْ النَّاسُ نَاسٌ وَالْبِلَادُ بِغِرَّةٍ [3] ... وَإِذْ نَحن لَا تشنى عَلَيْنَا الْمَدَاخِلُ [4]

(شِعْرُ ابْنِ عَوْفٍ فِي الِاعْتِذَارِ مِنْ فِرَارِهِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ وَهُوَ يَعْتَذِرُ يَوْمَئِذٍ مِنْ فِرَارِهِ:
مَنَعَ الرُّقَادَ فَمَا أُغَمِّضُ سَاعَةً ... نَعَمٌ بِأَجْزَاعِ الطَّرِيقِ مُخَضْرَمُ [5]
سَائِلْ هَوَازِنَ هَلْ أَضُرُّ عَدُوَّهَا ... وَأُعِينُ غَارِمَهَا إذَا مَا يَغْرَمُ
وَكَتِيبَةٍ لَبَّسْتُهَا بِكَتِيبَةٍ ... فِئَتَيْنِ مِنْهَا حَاسِرٌ وَمُلَأَّمُ [6]
وَمُقَدَّمٍ تَعْيَا النُّفُوسُ لِضِيقِهِ ... قَدَّمْتُهُ وَشُهُودُ قَوْمِي أَعْلَمُ [7]
فَوَرَدْتُهُ وَتَرَكْتُ إخْوَانًا لَهُ ... يَرِدُونَ غَمْرَتَهُ وَغَمْرَتُهُ الدَّمُ [8]
فَإِذَا انْجَلَتْ غَمَرَاتُهُ أَوْرَثْنَنِي ... مَجْدَ الْحَيَاةِ وَمَجْدَ غُنْمٍ يُقْسَمُ
كَلَّفْتُمُونِي ذَنْبَ آلِ مُحَمَّدٍ ... وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَنْ أَعَقُّ وَأَظْلَمُ
وَخَذَلْتُمُونِي إذْ أُقَاتِلُ وَاحِدًا ... وَخَذَلْتُمُونِي إِذْ تقَاتل خشعم
وَإِذَا بَنَيْتُ الْمَجْدَ يَهْدِمُ بَعْضُكُمْ ... لَا يَسْتَوِي بَانٍ وَآخَرُ يَهْدِمُ
وَأَقَبَّ مِخْمَاصِ الشِّتَاءِ مُسَارِعٍ ... فِي الْمَجْدِ يَنْمِي لِلْعُلَى مُتَكَرِّمُ [9]
__________
[1] أهال: صب.
[2] لم نعد: لم يمنعنا شَيْء. وَرِوَايَة هَذَا الْبَيْت فِي الدِّيوَان:
وَلم أنس أَيَّامًا لنا ولياليا ... بحلية إِذا نلقى بهَا من نحاول
[3] كَذَا فِي أ. والغرة: الْغَفْلَة. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «بعزة» .
[4] لَا تثنى: لَا تعطف (بِالْبِنَاءِ للْمَجْهُول فيهمَا) . ويروى: «لَا تبنى» . وَلم يرد هَذَا الْبَيْت فِي ديوَان أشعار الهذليين.
[5] النعم: الْإِبِل. أَو كل مَاشِيَة أَكْثَرهَا الْإِبِل. وأجزاع الطَّرِيق: جمع جزع، وَهُوَ مَا انعطف مِنْهُ. ومخضرم: صفة النعم، وَهُوَ الّذي قطع من أُذُنه، ليَكُون ذَلِك عَلامَة لَهُ.
[6] الكتيبة: الْجَيْش الْمُجْتَمع. والحاسر: الّذي لَا درع عَلَيْهِ. والملأم: الّذي لبس اللامة، وَهِي الدرْع
[7] مقدم: يعْنى موضعا لَا يتَقَدَّم فِيهِ إِلَّا الشجعان.
[8] الغمرة: الشدَّة، وَالْمَاء الْكثير يغمر.
[9] الأقب: الضامر الخصر. المخامص: الضامر الْبَطن.

(2/474)


أَكْرَهْتُ فِيهِ أَلَّةً يَزَنِيَّةً ... سَحْمَاءَ يَقْدُمُهَا سِنَانٌ سَلْجَمُ [1]
وَتَرَكْتُ حَنَّتَهُ تَرُدُّ وَلِيَّهُ ... وَتَقُولُ لَيْسَ عَلَى فُلَانَةَ مَقْدَمُ [2]
وَنَصَبْتُ نَفْسِي لِلرِّمَاحِ مُدَجَّجًا ... مِثْلَ الدَّرِيَّةِ تُسْتَحَلُّ وَتُشْرَمُ [3]

(شِعْرٌ لِهَوَازِنِيٍّ يَذْكُرُ إسْلَامَ قَوْمِهِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ قَائِلٌ فِي هَوَازِنَ أَيْضًا، يَذْكُرُ مَسِيرَهُمْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ بَعْدَ إسْلَامِهِ:
أَذْكُرْ مَسِيرَهُمْ لِلنَّاسِ إذْ جَمَعُوا ... وَمَالِكٌ فَوْقَهُ الرَّايَاتُ تَخْتَفِقُ
وَمَالِكُ مَالِكٌ مَا فَوْقَهُ أَحَدٌ ... يَوْمَ حُنَيْنٍ عَلَيْهِ التَّاجُ يَأْتَلِقُ [4]
حَتَّى لَقُوا الْبَاسَ حِينَ الْبَاسُ يَقْدُمُهُمْ ... عَلَيْهِمْ الْبِيضُ وَالْأَبْدَانُ وَالدَّرَقُ [5]
فَضَارَبُوا النَّاسَ حَتَّى لَمْ يَرَوْا أَحَدًا ... حَوْلَ النَّبِيِّ وَحَتَّى جَنَّهُ الْغَسَقُ [6]
ثُمَّتَ نُزِّلَ جِبْرِيلُ بِنَصْرِهِمْ ... مِنْ السَّمَاءِ فَمَهْزُومٌ وَمُعْتَنَقُ [7]
مِنَّا وَلَوْ غَيْرُ جِبْرِيلِ يُقَاتِلُنَا ... لَمَنَّعَتْنَا إذَنْ أَسْيَافُنَا الْعُتُقُ [8]
وَفَاتَنَا [9] عُمَرُ الْفَارُوقُ إذْ هُزِمُوا ... بِطَعْنَةٍ بَلَّ مِنْهَا سَرْجَهُ الْعَلَقُ [10]
__________
[1] الألة: الحربة. ويزنية، المنسوبة إِلَى ذِي يزن، وَهُوَ ملك من مُلُوك حمير. وسحماء: سَوْدَاء الْعَصَا. وَسنَان سلجم: أَي طَوِيل.
[2] حنته: يعْنى زَوجته، سميت بذلك لِأَنَّهَا تحن إِلَيْهِ ويحن إِلَيْهَا.
[3] المدجج: الْكَامِل السِّلَاح. والدرية: الْحلقَة الَّتِي تنصب فيتعلم عَلَيْهَا الطعْن، أَصله: دريئة سهلت الْهمزَة، ثمَّ أدغمت الْيَاء فِي الْيَاء. وتستحل: من الْحل، ويروى: تستخل (بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة) ، وَهُوَ من الْخلال، وَهُوَ أظهر فِي الْمَعْنى. وتشرم: تقطع (رَاجع السهيليّ) .
[4] يأتلق: يلمع.
[5] الْبَأْس: الشدَّة والشجاعة. وَالْبيض: جمع بَيْضَة، وَهِي المغفر. والأبدان (هُنَا) : جمع بدن، وَهِي الدرْع. والدرق: جمع درقة، وَهِي الترس من جلد بِلَا خشب وَلَا عقب.
[6] جنه: ستره. والغسق: الظلمَة، يعْنى ظلمَة الْغُبَار.
[7] معتنق: أَسِير.
[8] الْعتْق (بِوَزْن عنق) : جمع عَتيق، وَهُوَ النفيس.
[9] كَذَا فِي م، ر. وَفِي أ: «وفاتني» .
[10] العلق (بِالتَّحْرِيكِ) : الدَّم.

(2/475)


(شِعْرُ جُشَمِيَّةٍ فِي رِثَاءِ أَخَوَيْهَا) :
وَقَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي جُشَمٍ تَرْثِي أَخَوَيْنِ لَهَا أُصِيبَا يَوْمَ حُنَيْنٍ:
أَعَيْنَيَّ جُودَا عَلَى مَالِكٍ ... مَعًا وَالْعَلَاءِ وَلَا تَجْمُدَا [1]
هُمَا الْقَاتِلَانِ أَبَا عَامِرٍ ... وَقَدْ كَانَ ذَا هَبَّةٍ أَرْبَدَا
هُمَا تَرَكَاهُ لَدَى مُجْسَدٍ ... يَنُوءُ نَزِيفًا وَمَا وُسِّدَا [2]

(شِعْرُ أَبِي ثَوَابٍ فِي هِجَاءِ قُرَيْشٍ) :
وَقَالَ أَبُو ثَوَابٍ زَيْدُ بْنُ صُحَارٍ، أَحَدُ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ:
أَلَا هَلْ أَتَاكَ أَنْ غَلَبَتْ قُرَيْشٌ ... هَوَازِنَ وَالْخُطُوبُ لَهَا شُرُوطُ
وَكُنَّا يَا قُرَيْشُ إذَا غَضِبْنَا ... يَجِيءُ مِنْ الْغِضَابِ دَمٌ عَبِيطُ [3]
وَكُنَّا يَا قُرَيْشُ إذَا غَضِبْنَا ... كَأَنَّ أُنُوفَنَا فِيهَا سَعُوطُ [4]
فَأَصْبَحْنَا تَسَوَّقُنَا قُرَيْشٌ ... سِيَاقَ الْعِيرِ يَحْدُوهَا النَّبِيطُ [5]
فَلَا أَنَا إنْ سُئِلْتُ الْخَسْفَ آبٍ ... وَلَا أَنَا أَنْ أَلِينَ لَهُمْ نَشِيطُ [6]
سَيُنْقَلُ لَحْمُهَا فِي كُلِّ فَجٍّ ... وَتُكْتَبُ فِي مَسَامِعِهَا الْقُطُوطُ [7]
وَيُرْوَى «الْخُطُوطُ» ، وَهَذَا الْبَيْتُ فِي رِوَايَةِ أَبِي سَعْدٍ [8] .
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: أَبُو ثَوَابٍ زِيَادُ بْنُ ثَوَابٍ. وَأَنْشَدَنِي خَلَفٌ الْأَحْمَرُ
__________
[1] لَا تجمدا: لَا تبخلا بالدموع.
[2] المجسد: الّذي صبغ بالجساد، وَهُوَ الزَّعْفَرَان، وَالْمرَاد أَن دَمه صبغ ثَوْبه بِمثل لون الزَّعْفَرَان.
وينوء: ينْهض متثاقلا لإعيائه، والنزيف: الّذي سَالَ دَمه حَتَّى ضعف. وَقد سبقت هَذِه الأبيات بِشَيْء.
من الْخلاف فِي صفحة (457) من هَذَا الْجُزْء. منسوبة إِلَى رجل من جثم لَا امْرَأَة.
[3] الدَّم العبيط: الطري.
[4] السعوط (بِفَتْح السِّين) : الدَّوَاء يوضع فِي الْأنف فيهيجه. يُرِيد: تحمى أنوفنا.
[5] النبيط: جيل من النَّاس كَانُوا ينزلون سَواد الْعرَاق، ثمَّ اسْتعْمل فِي أخلاط. النَّاس وعوامهم.
(عَن الْمِصْبَاح)
[6] الْخَسْف: الذل. وآب: اسْم فَاعل، من أَبى الْخَسْف: إِذا امْتنع من قبُوله.
[7] القطوط: جمع قطّ، وَهُوَ الصَّك، أَو الْكتاب الّذي تحصى فِيهِ الْأَعْمَال. وَهَذَا الْبَيْت سَاقِط من (أ) .
[8] هَذِه الْعبارَة سَاقِطَة من أ.

(2/476)


قَوْلُهُ: «
يَجِيءُ مِنْ الْغِضَابِ دَمٌ عَبِيطُ
» ، وَآخِرَهَا بَيْتًا عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ.

(شِعْرُ ابْنِ وَهْبٍ فِي الرَّدِّ عَلَى ابْنِ أَبِي ثَوَابٍ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَأَجَابَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، ثُمَّ مِنْ بَنِي أُسَيِّدٍ، فَقَالَ:
بِشَرْطِ اللَّهِ نَضْرِبُ مَنْ لَقِينَا ... كَأَفْضَلِ مَا رَأَيْتَ مِنْ الشُّرُوطِ
وَكُنَّا يَا هَوَازِنُ حِينَ نَلْقَى ... نَبُلُّ الْهَامَ مِنْ عَلَقٍ عَبِيطِ [1]
بِجَمْعِكُمْ وَجَمْعِ بَنِي قَسِيٍّ ... نَحُكُّ الْبَرْكَ كَالْوَرَقِ الْخَبِيطِ [2]
أَصَبْنَا مِنْ سَرَاتِكُمْ وَمِلْنَا ... بِقَتْلٍ فِي الْمُبَايِنِ وَالْخَلِيطِ [3]
بِهِ الْمُلْتَاثُ مُفْتَرِشٌ يَدَيْهِ ... يَمُجُّ الْمَوْتَ كَالْبَكْرِ النَّحِيطِ [4]
فَإِنْ تَكُ قَيْسُ عَيْلَانٍ غِضَابًا ... فَلَا يَنْفَكُّ يُرْغِمُهُمْ سَعُوطِي

(شِعْرُ خَدِيجٍ فِي يَوْمِ حُنَيْنٍ) :
وَقَالَ خَدِيجُ بْنُ الْعَوْجَاءِ النَّصْرِيُّ:
لَمَّا دَنَوْنَا مِنْ حُنَيْنٍ وَمَائِهِ ... رَأَيْنَا سَوَادًا مُنْكَرَ اللَّوْنِ أَخْصَفَا [5]
بِمَلْمُومَةٍ شَهْبَاءَ لَوْ قَذَفُوا بِهَا ... شَمَارِيخَ [6] مِنْ عُزْوَى [7] إذَنْ عَادَ صَفْصَفَا [8]
__________
[1] الْهَام: الرُّءُوس، والعلق: الدَّم. والعبيط: الطري.
[2] بَنو قسى: يعْنى ثقيفا أهل الطَّائِف. والبرك: كلكل الْبَعِير وصدره الّذي يدوك بِهِ الشَّيْء تَحْتَهُ.
يُقَال: حكه وَكله، وداكه يبركه، وَهَذَا على تَشْبِيه شدَّة الْحَرْب بحك الْبَعِير صَدره بِمَا تَحْتَهُ. وَالْوَرق الخبيط:
الّذي يضْرب بالعصا ليسقط، فتأكله الْمَاشِيَة.
[3] سراتكم: أشرافكم، وأصل السراة أَوسط الْقَوْم نسبا. والمباين: المفارق، وَهُوَ المنهزم. والخليط الّذي لَا يزَال فِي المعركة يخالط الأقران.
[4] الملتاث (هُنَا) : اسْم رجل. وَالْبكْر: الْفَتى من الْإِبِل. والنحيط: الّذي يردد النَّفس فِي صَدره حَتَّى يسمع لَهُ دوى.
[5] سوادا: يعْنى أشخاصا على الْبعد. والأخصف: الّذي فِيهِ ألوان.
[6] ملمومة: أَي كَتِيبَة مجتمعة، وشهباء: عَظِيمَة كَثِيرَة السِّلَاح. والشماريخ: أعالى الْجبَال، وَاحِدهَا: شِمْرَاخ.
[7] كَذَا فِي الْأُصُول. قَالَ أَبُو ذَر: «وعروى (هُنَا) اسْم رجل، يرْوى بِالدَّال وَالرَّاء» .
[8] الصفصف: المستوى من الأَرْض.

(2/477)


وَلَوْ أَنَّ قَوْمِي طَاوَعَتْنِي سَرَاتُهُمْ ... إذَنْ مَا لَقِينَا الْعَارِضَ الْمُتَكَشِّفَا [1]
إذَنْ مَا لَقِينَا جُنْدَ آلِ مُحَمَّدٍ ... ثَمَانِينَ أَلْفًا وَاسْتَمَدُّوا بِخِنْدِفَا [2]

ذِكْرُ غَزْوَةِ الطَّائِفِ بَعْدَ حُنَيْنٍ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ

(فُلُولُ ثَقِيفٍ) :
وَلَمَّا قَدِمَ فَلُّ [3] ثَقِيفٍ الطَّائِفَ أَغْلَقُوا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ مَدِينَتِهَا، وَصَنَعُوا الصَّنَائِعَ لِلْقِتَالِ.

(الْمُتَخَلِّفُونَ عَنْ حُنَيْنٍ وَالطَّائِفِ) :
وَلَمْ يَشْهَدْ حُنَيْنًا وَلَا حِصَارَ الطَّائِفِ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ، وَلَا غَيْدَنُ بْنُ سَلَمَةَ، كَانَا بِجُرَشَ [4] يَتَعَلَّمَانِ صَنْعَةَ الدَّبَّابَاتِ [5] وَالْمَجَانِيقِ [6] وَالضُّبُورِ [7] .

(مَسِيرُ الرَّسُولِ إلَى الطَّائِفِ وَشِعْرُ كَعْبٍ) :
ثُمَّ سَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الطَّائِفِ حِينَ فَرَغَ مِنْ حُنَيْنٍ، فَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، حِينَ أَجْمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّيْرَ إلَى الطَّائِفِ:
__________
[1] الْعَارِض (هُنَا) : السَّحَاب. والمتكشف: الظَّاهِر.
[2] خندف: قَبيلَة.
[3] الفل: الْجَمَاعَة المنهزمون من الْجَيْش.
[4] جرش: من مخاليف الْيمن من جِهَة مَكَّة.
[5] قَالَ السهيليّ: «الدبابة: آلَة من آلَات الْحَرْب، يدْخل فِيهَا الرِّجَال فيدبون بهَا إِلَى الأسوار لينقبوها» . وَقَالَ أَبُو ذَر: «الدبابات: آلَات تصنع من خشب، وتغشى بجلود، وَيدخل فِيهَا الرِّجَال، ويتصلون بحائط الْحصن» .
[6] المجانيق: جمع منجنيق (بِفَتْح الْمِيم وَكسرهَا) ، وَهِي من آلَات الْحصار يرْمى بهَا الْحِجَارَة الثَّقِيلَة وَنَحْوهَا.
[7] الضبور: مثل رُءُوس الأسفاط، يتّقى بهَا فِي الْحَرْب عِنْد الِانْصِرَاف. وَفِي كتاب الْعين الضبور جُلُود يغشى بهَا خشبا، تبقى بهَا فِي الْحَرْب (عَن السهيليّ) وَفِي اللِّسَان: الضبر: جَاءَ يحشى خشبا فِيهَا رجال تقرب إِلَى الْحُصُون لقِتَال أَهلهَا. وَالْجمع ضبور، قَالَ: وَهِي الدبابات الَّتِي تقرب للحصون، لتنقب من تحتهَا.

(2/478)


قَضَيْنَا مِنْ تِهَامَةَ كُلَّ رَيْبٍ ... وخيبر ثمَّ أجممنا السُّيُوفَا [1]
نُخَيِّرُهَا وَلَوْ نَطَقَتْ لَقَالَتْ ... قَوَاطِعُهُنَّ: دَوْسًا أَوْ ثَقِيفًا [2]
فَلَسْتُ لِحَاضِنٍ إنْ لَمْ تَرَوْهَا ... بِسَاحَة داركم منّا أُلُوفَا [3]
وَنَنْتَزِعُ الْعُرُوشَ بِبَطْنِ وَجٍّ ... وَتُصْبِحُ دُورُكُمْ مِنْكُمْ خُلُوفَا [4]
وَيَأْتِيكُمْ لَنَا سَرَعَانُ خَيْلٍ ... يُغَادِرُ خَلْفَهُ جَمْعًا كَثِيفَا [5]
إذَا نَزَلُوا بِسَاحَتِكُمْ سَمِعْتُمْ ... لَهَا مِمَّا أَنَاخَ بِهَا رَجِيفَا [6]
بِأَيْدِيهِمْ قَوَاضِبُ مُرْهَفَاتٌ ... يُزِرْنَ الْمُصْطَلِينَ بِهَا الْحُتُوفَا [7]
كَأَمْثَالِ الْعَقَائِقِ أَخْلَصَتْهَا ... قُيُونُ الْهِنْدِ لَمْ تُضْرَبْ كَتِيفَا [8]
تَخَالُ جَدِيَّةَ الْأَبْطَالِ فِيهَا ... غَدَاةَ الزَّحْفِ جَادِيًّا مَدُوفَا [9]
أَجِدَّهُمْ أَلَيْسَ لَهُمْ نَصِيحٌ ... مِنْ الْأَقْوَامِ كَانَ بِنَا عَرِيفَا [10]
يُخَبِّرُهُمْ بِأَنَّا قَدْ جَمَعْنَا ... عِتَاقَ الْخَيْلِ وَالنُّجُبَ الطُّرُوفَا [11]
__________
[1] تهَامَة: مَا انخفض من أَرض الْحجاز. والريب: الشَّك. وأجممنا: أَي أَرحْنَا.
[2] نخيرها: نعطيها الْخيرَة، وَلَو نطقت لاختارت أَن نحارب دوسا أَو ثقيفا.
[3] الحاضن: الْمَرْأَة الَّتِي تحضن وَلَدهَا، كَذَا قَالَ أَبُو ذَر. وَلَعَلَّه: الحاصن، وَهِي الْمَرْأَة العفيفة، كَأَنَّهُ يَقُول: «لست لرشدة إِن لم تَرَوْهَا ... إِلَخ» وَهُوَ تهديد لَهُم. وساحة الدَّار: وَسطهَا، أَو فناؤها.
[4] العروش (هُنَا) : سقوف الْبيُوت. وَوَج: مَوضِع بِالطَّائِف أَو هُوَ من أسمائها. وخلوف: يُرِيد:
دورا تغيب عَنْهَا أَهلهَا.
[5] السرعان: المتقدمون. والكثيف: الملتف. ويروى: «كشيفا» بالشين بدل الثَّاء أَي ظَاهرا،
[6] «رجيفا» يرْوى بالراء، يعْنى بِهِ الصَّوْت الشَّديد مَعَ اضْطِرَاب، مَأْخُوذ من الرجفة. ويروى:
«وجيفا» بِالْوَاو بدل الرَّاء، فَمَعْنَاه سريع يسمع صَوت سرعته.
[7] القواضب: السيوف القواطع، جمع قاضب. والمرهفات: القاطعة (أَيْضا) . والمصطلون:
المباشرون لَهَا من أعدائهم. والحتوف: جمع حتف، وَهُوَ الْمَوْت.
[8] العقائق: جمع عقيقة، هِيَ شُعَاع الْبَرْق (هُنَا) . وكتيف، جمع كتيفة وَهِي الصفائح الْحَدِيد الَّتِي تضرب للأبواب وَغَيرهَا. قَالَ السهيليّ: «وَهِي صفيحة صَغِيرَة، وأصل الكتيف: الضّيق من كل شَيْء» .
[9] الجدية: الطَّرِيقَة من الدَّم. والزحف: دنو المتجاربين بَعضهم من بعض، والجادى: الزَّعْفَرَان.
ومدوف: (اسْم مفعول من دافه يدوفه) وَمَعْنَاهُ مخلوط بِغَيْرِهِ.
[10] أجدهم، أَي أجد مِنْهُم:، وَهُوَ مَنْصُوب على الْمصدر. وعريفا (هُنَا) : عَارِفًا.
[11] عتاق: جمع عَتيق، والنجيب: جمع النجيب، والطروف: جمع طرف (بِكَسْر الطَّاء) ، وَكلهَا بِمَعْنى الْكَرِيمَة الأَصْل من الْخَيل.

(2/479)


وَأَنَّا قد أتيناهم يزحف ... يُحِيطُ بِسُورِ حِصْنِهِمْ صُفُوفَا [1]
رَئِيسُهُمْ النَّبِيُّ وَكَانَ صُلْبًا ... نَقِيَّ الْقَلْبِ مُصْطَبِرًا عَزُوفَا [2]
رَشِيدُ الْأَمْرِ ذُو حُكْمٍ وَعِلْمٍ ... وَحِلْمٍ لَمْ يَكُنْ نَزِقًا خَفِيفَا [3]
نُطِيعُ نَبِيَّنَا وَنُطِيعُ رَبًّا ... هُوَ الرَّحْمَنُ كَانَ بِنَا رَءُوفَا
فَإِنْ تُلْقُوا إلَيْنَا السِّلْمَ نَقْبَلْ ... وَنَجْعَلْكُمْ لَنَا عَضُدًا وَرِيفَا [4]
وَإِنْ تَأْبَوْا نُجَاهِدْكُمْ وَنَصْبِرْ ... وَلَا يَكُ أَمْرُنَا رَعِشًا ضَعِيفَا [5]
نُجَالِدُ مَا بَقِينَا أَوْ تُنِيبُوا ... إلَى الْإِسْلَامِ إذْعَانًا مُضِيفَا [6]
نُجَاهِدُ لَا نُبَالِي مَنْ لَقِينَا ... أَأَهْلَكْنَا التِّلَادَ أَمْ الطَّرِيفَا [7]
وَكَمْ مِنْ مَعْشَرٍ أَلَبُوا عَلَيْنَا ... صَمِيمَ الْجِذْمِ مِنْهُمْ وَالْحَلِيفَا [8]
أَتَوْنَا لَا يَرَوْنَ لَهُمْ كِفَاء ... فَجَدَّعْنَا الْمَسَامِعَ وَالْأُنُوفَا [9]
بِكُلِّ مُهَنَّدٍ لَيْنٍ صَقِيلٍ ... يَسُوقُهُمْ بِهَا سَوْقًا عَنِيفَا [10]
لِأَمْرِ اللَّهِ وَالْإِسْلَامِ حَتَّى ... يَقُومَ الدِّينُ مُعْتَدِلًا حَنِيفَا
وَتُنْسَى اللَّاتُ وَالْعُزَّى وَوَدٌّ ... وَنَسْلُبُهَا الْقَلَائِدَ وَالشُّنُوفَا [11]
فَأَمْسَوْا قَدْ أَقَرُّوا وَاطْمَأَنُّوا ... وَمَنْ لَا يَمْتَنِعْ يَقْبَلْ [12] خُسُوفَا [13]
__________
[1] زحف: أَي جَيش.
[2] كَذَا فِي الْأُصُول: والعزوف: المنصرف عَن الشَّيْء زهدا فِيهِ مَعَ إعجابه بِهِ، وَفِي شرح السِّيرَة لأبي ذَر: «عروفا» . والعروف: الصابر.
[3] النزق: الْكثير الطيش والخفة.
[4] الرِّيف: الْمَوَاضِع المخصبة الَّتِي على الْمِيَاه: يُرِيد نتخذكم أعوانا على الْحَرْب ونستمد من ريفكم الْعَيْش.
[5] رعشا: متقلبا غير ثَابت.
[6] نجالد: نحارب بِالسُّيُوفِ. والإذعان: الخضوع والانقياد. ومضيفا: ملجئا.
[7] التلاد: المَال الْقَدِيم، والطريف: المَال المستحدث.
[8] ألبوا علينا: جمعُوا علينا. والصميم: الْخَالِص. والجذم: الأَصْل.
[9] جدعنا: قَطعنَا، وَأكْثر مَا يسْتَعْمل فِي قطع الأنوف.
[10] لين: مخفف من لين (بتَشْديد الْيَاء) كَمَا يُقَال: هَين وهين، وميت وميت. والعنيف: الّذي لَيْسَ فِيهِ رفق.
[11] الشنوف: جمع شنف، وَهُوَ القرط الّذي يكون فِي أَعلَى الْأذن.
[12] كَذَا فِي م، ر. وَفِي أ: «يقتل» .
[13] الخسوف: الذل.

(2/480)


(شِعْرُ كِنَانَةَ فِي الرَّدِّ عَلَى كَعْبٍ) :
فَأَجَابَهُ كِنَانَةُ بْنُ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ، فَقَالَ:
مَنْ كَانَ يَبْغِينَا يُرِيدُ قِتَالَنَا ... فَإِنَّا بِدَارٍ مَعْلَمٍ لَا نَرِيمُهَا [1]
وَجَدْنَا بِهَا الْآبَاءَ مِنْ قَبْلِ مَا تَرَى ... وَكَانَتْ لَنَا أَطْوَاؤُهَا وَكُرُومُهَا [2]
وَقَدْ جَرَّبَتْنَا قَبْلُ عَمْرُو بْنُ عَامِرٍ ... فَأَخْبَرَهَا ذُو رَأْيِهَا وَحَلِيمُهَا [3]
وَقَدْ عَلِمَتْ إنْ قَالَتْ الْحَقَّ أَنَّنَا ... إذَا مَا أَبَتْ صُعْرُ الْخُدُودِ نُقِيمُهَا [4]
نُقَوِّمُهَا حَتَّى يَلِينَ شَرِيسُهَا ... وَيُعْرَفُ لِلْحَقِّ الْمُبِينِ ظَلُومُهَا [5]
عَلَيْنَا دِلَاصٌ مِنْ تُرَاثِ مُحَرَّقٍ ... كَلَوْنِ السَّمَاءِ زَيَّنَتْهَا نُجُومُهَا [6]
نُرَفِّهُهَا عَنَّا بِبِيضٍ صَوَارِمٍ ... إذَا جُرِّدَتْ فِي غَمْرَةٍ لَا نَشيِمُها [7]

(شِعْرُ شَدَّادٍ فِي الْمَسِيرِ إلَى الطَّائِفِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ شَدَّادُ بْنُ عَارِضٍ الْجُشَمِيُّ فِي مَسِيرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الطَّائِفِ:
لَا تَنْصُرُوا اللَّاتَ إنَّ اللَّهَ مُهْلِكُهَا ... وَكَيْفَ يُنْصَرُ مَنْ هُوَ لَيْسَ يَنْتَصِرُ
__________
[1] معلم: مَشْهُورَة. وَلَا نريمها: لَا نَبْرَح مِنْهَا وَلَا نزُول. وَفِي الْبَيْت خرم.
[2] الأطواء: جمع طوى، وَهِي الْبِئْر، جمعت على غير قِيَاس: ويروى «أطوادها» . (بِالدَّال) ، يعْنى بهَا الْجبَال.
[3] وَقد جربتنا قبل عَمْرو بن عَامر: قَالَ هَذَا جَوَابا للْأَنْصَار، لأَنهم بَنو حَارِثَة بن ثَعْلَبَة بن عَمْرو ابْن عَامر. وَلم يرد أَن الْأَنْصَار جربتهم قبل ذَلِك، وَإِنَّمَا أَرَادَ إِخْوَتهم وهم خُزَاعَة، لأَنهم بَنو ربيعَة ابْن حَارِثَة بن عَمْرو بن عَامر، وَقد كَانُوا حاربوهم عِنْد نزولهم مَكَّة.
وَقَالَ الْبكْرِيّ: إِنَّمَا أَرَادَ بنى عَمْرو بن عَامر بن صعصعة، وَكَانُوا مجاورين لثقيف، وَكَانَت ثَقِيف قد أنزلت بنى عَمْرو بن عَامر فِي أَرضهم ليعملوا فِيهَا وَيكون لَهُم النّصْف فِي الزَّرْع وَالثَّمَر. ثمَّ إِن ثقيفا منعتهم ذَلِك، وتحصنوا بِالْحَائِطِ الّذي بنوه حول حاضرهم، فحاربتهم بَنو عَمْرو بن عَامر، فَلم يظفروا مِنْهُم بِشَيْء، وجلوا عَن تِلْكَ الْبِلَاد (رَاجع السهيليّ) .
[4] صعر الخدود: هِيَ المائلة إِلَى جِهَة تكبرا وعجبا.
[5] شريسها: شديدها.
[6] دلاص: دروع لينَة. ومحرق (هُنَا) هُوَ عَمْرو بن عَامر، وَهُوَ أول من حرق الْعَرَب بالنَّار.
(عَن السهيليّ) .
[7] لَا نشيمها: أَي لَا نغمدها. يُقَال: شمت السَّيْف، إِذا أغمدته، وشمته إِذا سللته، فَهُوَ من الأضداد.
31 سيرة ابْن هِشَام- 2

(2/481)


إنَّ الَّتِي حُرِّقَتْ بِالسُّدِّ فَاشْتَعَلَتْ ... وَلَمْ يُقَاتَلْ لَدَى أَحْجَارِهَا هَدَرُ [1]
إنَّ الرَّسُولَ مَتَى يَنْزِلْ بِلَادَكُمْ ... يَظْعَنْ وَلَيْسَ بِهَا مِنْ أَهْلِهَا بَشَرُ [2]

(الطَّرِيقُ إلَى الطَّائِفِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَسَلَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى نَخْلَةَ الْيَمَانِيَةِ، ثُمَّ عَلَى قَرْنٍ، ثُمَّ عَلَى الْمُلَيْحِ، ثُمَّ عَلَى بُحْرَةِ الرُّغَاءِ مِنْ لِيَّةَ [3] ، فَابْتَنَى بِهَا مَسْجِدًا فَصَلَّى فِيهِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ: أَنَّهُ أَقَادَ يَوْمَئِذٍ بِبُحْرَةِ الرُّغَاءِ، حِينَ نَزَلَهَا، بِدَمِ، وَهُوَ أَوَّلُ دَمٍ أُقِيدَ بِهِ فِي الْإِسْلَامِ، رَجُلٌ مِنْ بَنِي لَيْثٍ قَتَلَ رَجُلًا مِنْ هُذَيْلٍ، فَقَتَلَهُ بِهِ، وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ بِلِيَّةَ، بِحِصْنِ مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ فَهُدِمَ، ثُمَّ سَلَكَ فِي طَرِيقٍ يُقَالُ لَهَا الضَّيْقَةُ، فَلَمَّا تَوَجَّهَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ عَنْ اسْمِهَا، فَقَالَ: مَا اسْمُ هَذِهِ الطَّرِيقِ؟ فَقِيلَ لَهُ الضَّيْقَةُ، فَقَالَ: بَلْ هِيَ الْيُسْرَى، ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا عَلَى نَخْبٍ، حَتَّى نَزَلَ تَحْتَ سِدْرَةٍ يُقَالُ لَهَا الصَّادِرَةُ، قَرِيبًا مِنْ مَالِ رَجُلٍ مِنْ ثَقِيفٍ، فَأَرْسَلَ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إمَّا أَنْ تَخْرُجَ، وَإِمَّا أَنْ نُخْرِبَ عَلَيْكَ حَائِطَكَ، فَأَبَى أَنْ يَخْرُجَ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِخْرَابِهِ. ثُمَّ مَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى نَزَلَ قَرِيبًا مِنْ الطَّائِفِ، فَضَرَبَ بِهِ عَسْكَرَهُ، فَقُتِلَ بِهِ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ بِالنَّبْلِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَسْكَرَ اقْتَرَبَ مِنْ حَائِطِ الطَّائِفِ، فَكَانَتْ النَّبْلُ تَنَالُهُمْ، وَلَمْ يَقْدِرْ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنْ يَدْخُلُوا حَائِطَهُمْ، أَغْلَقُوهُ دُونَهُمْ، فَلَمَّا أُصِيبَ أُولَئِكَ النَّفَرُ مِنْ أَصْحَابِهِ بِالنَّبْلِ وَضَعَ عَسْكَرَهُ عِنْدَ مَسْجِدِهِ الَّذِي بِالطَّائِفِ الْيَوْمَ، فَحَاصَرَهُمْ بِضْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ سَبْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَمَعَهُ امْرَأَتَانِ مِنْ نِسَائِهِ، إحْدَاهُمَا أُمُّ سَلَمَةَ بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ.
__________
[1] هدر: اى بَاطِل لَا يُؤْخَذ بثأره.
[2] يظعن: يرحل.
[3] قرن، ومليح، وبحرة الرُّغَاء، ولية: مَوَاضِع بِالطَّائِف.

(2/482)


فَضَرَبَ لَهُمَا قُبَّتَيْنِ، ثُمَّ صَلَّى بَيْنَ الْقُبَّتَيْنِ. ثُمَّ أَقَامَ، فَلَمَّا أَسْلَمَتْ ثَقِيفٌ بَنَى عَلَى مُصَلَّى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ بْنِ وَهْبِ بْنِ مُعَتِّبِ بْنِ مَالِكٍ مَسْجِدًا، وَكَانَتْ فِي ذَلِكَ الْمَسْجِدِ سَارِيَةٌ، فِيمَا يَزْعُمُونَ، لَا تَطْلُعُ الشَّمْسُ عَلَيْهَا يَوْمًا مِنْ الدَّهْرِ إلَّا سُمِعَ لَهَا [1] نَقِيضٌ [2] ، فَحَاصَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَاتَلَهُمْ قِتَالًا شَدِيدًا، وَتَرَامَوْا بِالنَّبْلِ.

(الرَّسُولُ أَوَّلُ مَنْ رَمَى بِالْمَنْجَنِيقِ) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَرَمَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَنْجَنِيقِ. حَدَّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلُ مَنْ رَمَى فِي الْإِسْلَامِ بِالْمَنْجَنِيقِ، رَمَى أَهْلَ الطَّائِفِ.

(يَوْمُ الشَّدْخَةِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَتَّى إذَا كَانَ يَوْمُ الشَّدْخَةِ عِنْدَ جِدَارِ الطّائف، دخل تَفِر مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ دَبَّابَةٍ، ثُمَّ زَحَفُوا بِهَا إلَى جِدَارِ الطَّائِفِ لِيَخْرِقُوهُ، فَأَرْسَلَتْ عَلَيْهِمْ ثَقِيفٌ سِكَكَ الْحَدِيدِ مُحْمَاةً بِالنَّارِ، فَخَرَجُوا مِنْ تَحْتِهَا، فَرَمَتْهُمْ ثَقِيفٌ بِالنَّبْلِ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ رِجَالًا، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَطْعِ أَعْنَابِ ثَقِيفٍ، فَوَقَعَ النَّاسُ فِيهَا يَقْطَعُونَ.

(الْمُفَاوَضَةُ مَعَ ثَقِيفٍ) :
وَتَقَدَّمَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ إلَى الطَّائِفِ، فَنَادَ يَا ثَقِيفًا: أَنْ أَمِّنُونَا حَتَّى نُكَلِّمَكُمْ فَأَمَّنُوهُمَا، فَدَعَوْا نِسَاءً مِنْ نِسَاءٍ مِنْ قُرَيْشٍ وَبَنِيَّ كِنَانَةَ لِيَخْرُجْنَ إلَيْهِمَا، وَهُمَا يَخَافَانِ عَلَيْهِنَّ السِّبَاءَ، فَأَبَيْنَ، مِنْهُنَّ آمِنَةُ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ، كَانَتْ عِنْدَ عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، لَهُ مِنْهَا دَاوُدُ بْنُ عُرْوَةَ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ إنَّ أُمَّ دَاوُدَ مَيْمُونَةَ بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ، وَكَانَتْ عِنْدَ أَبِي مُرَّةَ بْنِ عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، فَوَلَدَتْ لَهُ دَاوُدَ بْنَ أَبِي مُرَّةَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَالْفِرَاسِيَّةُ بِنْتُ سُوَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ ثَعْلَبَةَ، لَهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ
__________
[1] كَذَا فِي م، ر. وَفِي أ: «عَلَيْهَا» .
[2] النقيض: الصَّوْت.

(2/483)


ابْن قَارِبٍ، وَالْفُقَيْمِيَّةُ أُمَيْمَة بنت الناسئ أُمَيَّةَ بْنِ قَلْعٍ، فَلَمَّا أَبَيْنَ عَلَيْهِمَا، قَالَ لَهُمَا ابْنُ الْأَسْوَدِ بْنِ مَسْعُودٍ: يَا أَبَا سُفْيَانَ وَيَا مُغِيرَةُ، أَلَا أَدُلُّكُمَا عَلَى خَيْرٍ مِمَّا جِئْتُمَا لَهُ، إنَّ مَالَ بَنِي الْأَسْوَدِ بْنِ مَسْعُودٍ حَيْثُ قَدْ عَلِمْتُمَا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطَّائِفِ، نَازِلًا بِوَادٍ يُقَالُ لَهُ الْعَقِيقُ، إنَّهُ لَيْسَ بِالطَّائِفِ مَالٌ أَبْعَدُ رِشَاءً، وَلَا أَشَدُّ مُؤْنَةً، وَلَا أَبْعَدُ عِمَارَةً مِنْ مَالِ بَنِي الْأَسْوَدِ، وَإِنَّ مُحَمَّدًا إنْ قَطَعَهُ لَمْ يُعْمَرْ أَبَدًا، فَكَلِّمَاهُ فَلْيَأْخُذْ لِنَفْسِهِ، أَوْ لِيَدَعْهُ للَّه وَالرَّحِمِ، فَإِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ مِنْ الْقَرَابَةِ مَا لَا يُجْهَلُ، فَزَعَمُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَهُ لَهُمْ.

(رُؤْيَا الرَّسُولِ وَتَفْسِيرُ أَبِي بَكْرٍ لَهَا) :
وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَهُوَ مُحَاصِرٌ ثَقِيفًا: يَا أَبَا بَكْرٍ، إنِّي رَأَيْتُ أَنِّي أُهْدِيَتْ لِي قَعْبَةٌ [1] مَمْلُوءَةٌ زُبْدًا، فَنَقَرَهَا دِيكٌ، فَهَرَاقَ مَا فِيهَا. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا أَظُنُّ أَنْ تُدْرِكَ مِنْهُمْ يَوْمَكَ هَذَا مَا تُرِيدُ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَأَنَا لَا أَرَى ذَلِكَ.

(ارْتِحَالُ الْمُسْلِمِينَ وَسَبَبُ ذَلِكَ) :
ثُمَّ إنَّ خُوَيْلَةَ بِنْتَ حَكِيمِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ الْأَوْقَصِ السُّلَمِيَّةَ، وَهِيَ امْرَأَةُ عُثْمَانَ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَعْطِنِي إنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكَ الطَّائِفَ حُلِيَّ بَادِيَةَ بِنْتِ غَيْلَانَ بْنِ مَظْعُونِ بْنِ سَلَمَةَ، أَوْ حُلِيَّ الْفَارِعَةِ بِنْتِ عُقَيْلٍ، وَكَانَتَا مِنْ أَحْلَى نِسَاءِ ثَقِيفٍ.
فَذُكِرَ لِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا: وَإِنْ كَانَ لَمْ يُؤْذَنْ لِي فِي ثَقِيفٍ يَا خُوَيْلَةُ؟ فَخَرَجَتْ خُوَيْلَةُ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَدَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ (يَا رَسُولَ اللَّهِ) [2] : مَا حَدِيثٌ حَدَّثَتْنِيهِ خُوَيْلَةُ، زَعَمَتْ أَنَّكَ قُلْتَهُ؟ قَالَ: قَدْ قُلْتَهُ، قَالَ: أَوَمَا أُذِنَ لَكَ فِيهِمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟
قَالَ: لَا. قَالَ: أَفَلَا أُؤَذِّنُ بِالرَّحِيلِ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَأَذَّنَ عُمَرُ بِالرَّحِيلِ.
__________
[1] القعبة: الْقدح.
[2] زِيَادَة عَن أ.

(2/484)


(عُيَيْنَةُ وَمَا كَانَ يُخْفِي مِنْ نِيَّتِهِ) :
فَلَمَّا اسْتَقَلَّ النَّاسُ نَادَى سَعِيدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ أُسَيْدِ بْنِ أَبِي عَمْرِو بْنِ عِلَاجٍ: أَلَا إنَّ الْحَيَّ مُقِيمٌ. قَالَ: يَقُولُ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ: أَجَلْ، وَاَللَّهِ مَجَدَةً كِرَامًا، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ: قَاتَلَكَ اللَّهُ يَا عُيَيْنَةُ، أَتَمْدَحُ الْمُشْرِكِينَ بِالِامْتِنَاعِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ جِئْتُ تَنْصُرُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! فَقَالَ:
إنِّي وَاَللَّهِ مَا جِئْتُ لِأُقَاتِلَ ثَقِيفًا مَعَكُمْ، وَلَكِنِّي أَرَدْتُ أَنْ يَفْتَحَ مُحَمَّدٌ الطَّائِفَ، فَأُصِيبَ مِنْ ثَقِيفٍ جَارِيَةً أَتَّطِئُهَا، لَعَلَّهَا تَلِدُ لِي رَجُلًا، فَإِنَّ ثَقِيفًا قَوْمٌ مَنَاكِيرُ [1] .
وَنَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إقَامَتِهِ مِمَّنْ كَانَ مُحَاصَرًا بِالطَّائِفِ عَبِيدٌ، فَأَسْلَمُوا، فَأَعْتَقَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

(عُتَقَاءُ ثَقِيفٍ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُكَدَّمٍ، عَنْ رِجَالٍ مِنْ ثَقِيفٍ، قَالُوا: لَمَّا أَسْلَمَ أَهْلُ الطَّائِفِ تَكَلَّمَ نَفَرٌ مِنْهُمْ فِي أُولَئِكَ الْعَبِيدِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا، أُولَئِكَ عُتَقَاءُ اللَّهِ، وَكَانَ مِمَّنْ تَكَلَّمَ فِيهِمْ الْحَارِثُ بْنُ كَلَدَةَ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَقَدْ سَمَّى ابْنُ إسْحَاقَ مَنْ نَزَلَ مِنْ أُولَئِكَ الْعَبِيدِ.

(إطْلَاقُ أُبَيِّ بْنِ مَالِكٍ مِنْ يَدِ مَرْوَانَ وَشِعْرُ الضَّحَّاكِ فِي ذَلِكَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَدْ كَانَتْ ثَقِيفٌ أَصَابَتْ أَهْلًا لِمَرْوَانَ بْنِ قَيْسٍ الدَّوْسِيِّ، وَكَانَ قَدْ أَسْلَمَ، وَظَاهَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ثَقِيفٍ، فَزَعَمَتْ ثَقِيفٌ، وَهُوَ الَّذِي تَزْعُمُ بِهِ ثَقِيفٌ أَنَّهَا مِنْ قَيْسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِمَرْوَانَ بْنِ قَيْسٍ: خُذْ يَا مَرْوَانُ بِأَهْلِكَ أَوَّلَ رَجُلٍ مِنْ قَيْسٍ تَلْقَاهُ، فَلَقِيَ أُبَيَّ بْنَ مَالِكٍ الْقُشَيْرِيَّ، فَأَخَذَهُ حَتَّى يُؤَدُّوا إلَيْهِ أَهْلَهُ، فَقَامَ فِي ذَلِكَ الضَّحَّاكُ بْنُ سُفْيَانَ الْكِلَابِيُّ، فَكَلَّمَ ثَقِيفًا حَتَّى أَرْسَلُوا أَهْلَ مَرْوَانَ، وَأَطْلَقَ لَهُمْ أُبَيَّ بْنَ مَالِكٍ، فَقَالَ الضَّحَّاكُ بْنُ سُفْيَانَ فِي شَيْءٍ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أُبَيِّ بْنِ مَالِكٍ:
__________
[1] مَنَاكِير: ذوى دهاء وفطنة.

(2/485)


أَتَنْسَى بَلَائِي يَا أُبَيَّ بْنَ مَالِكٍ ... غَدَاةَ الرَّسُولُ مُعْرِضٌ عَنْكَ أَشْوَسُ [1]
يَقُودُكَ مَرْوَانُ بْنُ قَيْسٍ بِحَبْلِهِ ... ذَلِيلًا كَمَا قِيدَ الذَّلُولُ الْمُخَيَّسُ [2]
فَعَادَتْ عَلَيْكَ مِنْ ثَقِيفٍ عِصَابَةٌ ... مَتَى يَأْتِهِمْ مُستَقْبِسُ الشَّرِّ يُقْبِسُوا [3]
فَكَانُوا هُمْ الْمَوْلَى فَعَادَتْ حُلُومُهُمْ ... عَلَيْكَ وَقَدْ كَادَتْ بِكَ النَّفْسُ تَيْأَسُ [4]
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: «يُقْبِسُوا» عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ.

(شُهَدَاءُ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ الطَّائِفِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَهَذِهِ تَسْمِيَةُ مَنْ اُسْتُشْهِدَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الطَّائِفِ.

(مِنْ قُرَيْشٍ) :
مِنْ قُرَيْشٍ، ثُمَّ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ: سَعِيدُ بْنُ سَعِيدٍ بْنِ الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ، وَعُرْفُطَةُ بْنُ جَنَّابٍ، حَلِيفٌ لَهُمْ، مِنْ الْأُسْدِ بْنِ الْغَوْثِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: ابْنُ حُبَابٍ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَمِنْ بَنِي تَيْمِ بْنِ مُرَّةَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، رُمِيَ بِسَهْمِ، فَمَاتَ مِنْهُ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَمِنْ بَنِي مَخْزُومٍ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، مِنْ رَمْيَةٍ رُمِيَهَا يَوْمَئِذٍ.
وَمِنْ بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، حَلِيفٌ لَهُمْ.
وَمِنْ بَنِي سَهْمِ بْنِ عَمْرٍو: السَّائِبُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيٍّ، وَأَخُوهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ.
وَمِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ لَيْثٍ: جُلَيْحَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ.

(مِنَ الْأَنْصَارِ) :
وَاسْتُشْهِدَ مِنْ الْأَنْصَارِ: مِنْ بَنِي سَلِمَةَ: ثَابِتُ بْنُ الْجَذَعِ.
__________
[1] الْبلَاء (هُنَا) : النِّعْمَة، والأشوس: الّذي يعرض بنظره إِلَى جِهَة أُخْرَى
[2] الذلول: المرتاض. والمخيس: الْمُذَلل.
[3] مستقبس الشَّرّ: طَالبه.
[4] الحلوم: الْعُقُول.

(2/486)


وَمِنْ بَنِي مَازِنِ بْنِ النَّجَّارِ: الْحَارِثُ بْنُ سَهْلِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ.
وَمِنْ بَنِي سَاعِدَةَ: الْمُنْذِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ.
وَمِنْ الْأَوْسِ: رُقَيْمُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ لَوْذَانَ بْنِ مُعَاوِيَةَ.
فَجَمِيعُ مَنْ اُسْتُشْهِدَ بِالطَّائِفِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، سَبْعَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ، وَأَرْبَعَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ، وَرَجُلٌ مِنْ بَنِي لَيْثٍ.

(شِعْرُ بُجَيْرٍ فِي حُنَيْنٍ وَالطَّائِفِ) :
فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الطَّائِفِ بَعْدَ الْقِتَالِ وَالْحِصَارِ، قَالُ بُجَيْرُ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى يَذْكُرُ حُنَيْنًا وَالطَّائِفَ:
كَانَتْ عُلَالَةَ يَوْمَ بَطْنِ حُنَيْنٍ ... وَغَدَاةَ أَوْطَاسٍ وَيَوْمَ الْأَبْرَقِ [1]
جَمَعَتْ بِإِغْوَاءِ هَوَازِنُ جَمْعَهَا ... فَتَبَدَّدُوا كَالطَّائِرِ الْمُتَمَزِّقِ [2]
لَمْ يَمْنَعُوا مِنَّا مَقَامًا وَاحِدًا ... إلَّا جِدَارَهُمْ وَبَطْنَ الْخَنْدَقِ
وَلَقَدْ تَعَرَّضْنَا لِكَيْمَا يَخْرُجُوا ... فَتَحَصَّنُوا مِنَّا بِبَابٍ مُغْلَقِ
تَرْتَدُّ حَسْرَانًا إلَى رَجْرَاجَةٍ ... شَهْبَاءَ تَلْمَعُ بِالْمَنَايَا فَيْلَقِ [3]
مَلْمُومَةٍ خَضْرَاءَ لَوْ قَذَفُوا بِهَا ... حَضَنًا لَظَلَّ كَأَنَّهُ لَمْ يُخْلَقْ [4]
مَشْيَ الضِّرَاءِ عَلَى الْهَرَاسِ كَأَنَّنَا ... قُدْرٌ تَفَرَّقُ فِي الْقِيَادِ وَتَلْتَقِي [5]
__________
[1] العلالة: جرى بعد جرى، أَو قتال بعد قتال. وَهِي من الْعِلَل، وَهُوَ الشّرْب بعد الشّرْب، وَأَرَادَ بِهِ هُنَا التّكْرَار. وَحذف التَّنْوِين من «علالة» ضَرُورَة. وأضمر فِي كَانَت اسْمهَا، وَهُوَ الْقِصَّة. قَالَ السهيليّ: وَإِن كَانَت الرِّوَايَة بخفض «يَوْم» فَهُوَ أولى من الضَّرُورَة القبيحة بِالنّصب، وَلَكِن ألفيته فِي النُّسْخَة الْمقيدَة. وحنين: رَوَاهُ أَبُو ذَر مُصَغرًا ليستقيم الْوَزْن، وَرَوَاهُ السهيليّ على الأَصْل، وَقَالَ: إِن فِيهِ إقواء، وَهُوَ أَن ينقص حرفا من آخر الْقسم الأول من الْكَامِل، وَكَانَ الْأَصْمَعِي يُسَمِّيه المقعد. وأوطاس:
وَاد فِي ديار بنى هوَازن، كَانَت فِيهِ وقْعَة حنين. والأبرق: مَوضِع، وَأَصله الْجَبَل الّذي فِيهِ ألوان من الْحِجَارَة. والرمل.
[2] بإغواء: هُوَ الغي الّذي هُوَ خلاف الرشد.
[3] حسرى: جمع حسير، وَهُوَ المعيى الكليل. وَيجوز أَن يكون: جمع حاسر، وَهُوَ الّذي لَا درع عَلَيْهِ. والرجراجة: الكتيبة الضخمة، الَّتِي يموج بَعْضهَا فِي بعض، وَهِي من الرجرجة، أَي شدَّة الْحَرَكَة وَالِاضْطِرَاب. وَالْفَيْلَق: الْجَيْش الْكثير الشَّديد، من الفلق، وَهِي الداهية.
[4] ملمومة: مجتمعة. وخضراء: يعْنى من لون السِّلَاح. وحضن (بِالْحَاء وَالضَّاد) : اسْم جبل بِأَعْلَى نجد.
[5] الضراء (هُنَا) : الْكلاب، أَو الْأسود الضارية. والهراس: نَبَات لَهُ شوك. (وَقدر بِضَم الْقَاف

(2/487)


فِي كُلِّ سَابِغَةٍ إذَا مَا اسْتَحْصَنَتْ ... كَالنِّهْيِ هَبَّتْ رِيحُهُ الْمُتَرَقْرِقِ [1]
جُدُلٌ تَمَسُّ فُضُولُهُنَّ نِعَالَنَا ... مِنْ نَسْجِ دَاوُدٍ وَآلِ مُحَرِّقِ [2]