سيرة ابن هشام ت طه عبد الرؤوف سعد – الجزء الأول: المتن

ج / 1 ص -3-           بسم الله الرحمن الرحيم
{وَبِهِ نَسْتَعِين}
الحمد للّه رب العالمين، وصلواته على سيدنا محمد وعلى آله أجمعين
ذكر سرد النسب الزكي
من محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى آدم عليه السلام
قال أبو محمد عبدُ الملك بنُ هشام: هذا كتابُ سيرة رسول اللّه -صلى اللّه عليه وآله وسلم -محمد بن عبد اللّه بن عبد المطلب. واسم عبد المطلب: شَيْبَة1 بن هاشم. واسم هاشم: عمرو2 بن عبد مناف، واسم عبد مناف: المغيرة3 بن قصي4، بن كلاب5

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هكذا ذكر ابن إسحاق: أن اسمه شيبة -وهو الصحيح- وسمي بذلك لأنه ولد في رأسه شيبة. وأما غيره من العرب ممن اسمه شيبة، فإنما قصد في تسميتهم بهذا الاسم التفاؤل لهم ببلوغ سن الحنكة والرأي، كما سموا بهرم وكبير.
وعاش عبد المطلب مائة وأربعين سنة وكان لدى عبيد بن الأبرص الشاعر المشهور.
ويقال: إنه أول من خضب بالسواد. وقد ذكر أن اسمه عامر، "انظر الروض الأنف بتحقيقنا طبعة عباس شقرون ص7 ج1".
2 عمرو: وهو اسم منقول من أحد أربعة أشياء: من العَمر الذي هو العُمر. أو العَمر: الذي هو من عمور الأسنان. أو العُمر الذي هو طرف الكم. أو العَمر الذي هو القُرط.
3 المغيرة: وهو منقول من الوصف، والهاء فيه للمبالغة، أي أنه مُغير على الأعداء، أو مغير من: أغار الحبل إذا أحكمه.
4 قُصى واسمه زيد، وهو تصغير قَصيّ أي بعيد؛ لأنه بعد عن عشيرته في بلاد قُضاعة، حين احتملته أمه فاطمة مع ربيعة بن حرام.
5 كلاب: وهو منقول إما من المصدر الذى هو معنى المكالبة، وإما من الكلاب جمع كلب؛ لأنهم يريدون الكثرة وقد قيل لأبي الرقيش الأعرابى: لم تسمون أبناءكم بشر الأسماء نحو: كلب وذئب، وعبيدكم بأحسن الأسماء نحو: مرزوق ورباح، فقال: إنما نسمي أبناءنا لأعدائنا، وعبيدنا لأنفسنا: يريد أن الأبناء عدة الأعداء وسهام في نحورهم؛ فاختاروا لهم هذه الأسماء.

 

ج / 1 ص -4-           ابن مرة1، بن كعب2 بن لؤي3، بن غالب، بن فهر4، بن النضر بن كنانة، بن خزيمة5، بن مدركة، واسم مدركة: عامر، بن الياس6، بن مضر7،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مرة: منقول من وصف الحنظلة والعلقمة، ويجوز أن تكون الهاء للمبالغة، فيكون منقولًا من وصف الرجل بالمرارة. أو قد يكون من المسمين بالنبات فقد ذكر: أن المرة بقلة تقع فتؤكل بالخل والزيت.
2 كعب: وهو منقول من الكعب الذي هو قطعة من السمن، أو من كعب القدم، يقولون: ثبت ثبوت الكعب، وكعب هو أول من جمع يوم العروبة، ولم تسم العروبة إلا مذ جاء الإسلام وقيل: هو أول من سماه الجمعة؛ فكان يجمع قريش في هذا اليوم ويذكرهم بمبعث النبي –صلى الله عليه وسلم– ويعلمهم أنه ولده، ويأمرهم باتباعه.
3 لؤي: هو تصغير اللأى، وهو الثور الوحشي كما ذكر ابن الأنباري.
4 فهر: قيل: إنه لقب، والفهر من الحجارة الطويل، واسمه قريش وقيل: بل اسمه فهر، وقريش لقب له.
5 خزيمة: تصغير خزمة، وهي المرة الواحدة من الخزم، وهو شد الشيء وإصلاحه.
6 الياس. قال فيه ابن الأنباري: إلياس بكسر الهمزة وجعله موافقًا لاسم إلياس النبي، وقيل في اشتقاقه: إنه إفعال، من قولهم: رجل أليْس وهو الشجاع الذي لا يفر. قال العجاج:
أليْس عن حوبائه سخى
أما غير ابن الأنباري فقال: إنه إلياس، سمي بضد الرجاء، واللام فيه للتعريف والهمزة همزة وصل.
7 مضر: قال فيه القتبى. هو من المضيرة وهي شيء يصنع من اللبن فسمي مضر لبياضه، فقيل: مضر الحمراء؛ لأن العرب تسمي الأبيض أحمر.

 

ج / 1 ص -5-           ابن نزار1، بن مَعَد2 بن عدنان3، بن أدّ4.
ويقال أدَد، بن مُقَوِّم، بن ناحور، بن تَيْرَح، بن يَعْرُب، بن يَشْجُب5، بن نابت، بن إسماعيل6، بن إبراهيم7 -خليل الرحمن- ابن تارح -وهو آزر8- بن ناحور، بن ساروغ، بن داعو، بن فالخ9، بن عَيْبر10، بن شالخ11، بن أرْفَخْشَذ12، بن سام، ابن نوح13، بن لمك، بن متوشلخ14، بن أخنوخ وهو إدريس النبي -فيما يزعمون- والله أعلم. وكان أول بني آدم أعطي النبوة، وخط بالقلم -ابن يرد15 بن مهليل16،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 نزار: واشتقاقه من النزر وهو القليل، وكان أبوه حين ولد له ونظر إلى النور بين عينيه وهو نور النبوة نحر وأطعم وقال: إن هذا كله نزر لحق هذا المولود.
2 معد: أخذ من المعد وهو القوة.
3 عدنان: فعلان من عدن إذا أقام.
4 أد: ويقال: أدد. قال ابن السراج: هو من الود وانصرف.
5 ناحور: من النحر، وتبرح: من الترحة. ويشجب: من الشجب.
6 إسماعيل: تفسيره: مطيع الله.
7 إبراهيم: معناه: أب راحم.
8 قيل معناه: يا أعوج.
9 ويقال فيه: فالغ.
10 عيبر: ويقال فيه عابر، وذكر الطبري: أن بين فالغ وعابر أبا اسمه قينن أسقط اسمه من التوراة؛ لأنه كان ساحرًا.
11 شالخ: معناه الرسول أو الوكيل.
12 أرفخشذ: تفسيره المصباح مضيء.
13 نوح: واسمه عبد الغفار ويقال: إنه سمي "نوحا" لنوحه على ذنبه.
14 متوشلخ: وتفسيره مات الرسول؛ لأن أباه كان رسولًا ومات، ومتوشلخ في بطن أمه.
15 يرد: وتفسيره الضابط.
16 مهليل: وقيل مهلائيل: وتفسيره: الممدح.

 

ج / 1 ص -6-           ابن قينن1، بن يانش2، بن شيث3، بن آدم4، صلى الله عليه وسلم.
قال أبو محمد عبد الملك بن هشام: حدثنا زياد بن عبد اللّه البَكَّائى5، عن محمد بن إسحاق المطلبي6، بهذا الذي ذكرت من نسب محمد رسول اللّه -صلى اللّه عليه وآله وسلم- إلى آدم عليه السلام، وما فيه من حديث إدريس وغيره. قال ابن هشام: وحدثني خلاد بن قُرَّة بن خالد السَّدومي، عن شَيْبان ابن زُهَيْر بن شقيق بن ثَوْر، عن قتَادة بن دِعامة، أنه قال:
إسماعيل بن إبراهيم -خليل الرحمن- ابن تارِح -وهو آزر- ابن ناحور بن أسرغ بن أرغو بن فالخ بن عابر بن شالخ بن أرْفَخْشَذ بن سام بن نوح بن لَمْك بن متُّوشلخ بن أخنوخ بن يرد بن مهلائيل بن قَاين ابن أنُوش بن شيث بن آدم -صلى الله عليه وسلم.
منهج ابن هشام في عرضه للسيرة: قال ابن هشام: وأنا -إن شاء اللّه- مبتدئٌ هذا الكتاب بذكر إسماعيل بن إبراهيم ومن وَلد رسول اللّه -صلى اللّه عليه وسلم- من ولدِه، وأولادِهم لأصلابهم، الأولَ فالأولَ، من إسماعيل إلى رسول اللّه -صلى اللّه عليه وسلم- وما يَعْرِض من حديثهم، وتاركٌ ذكْرَ غيرهم مِن ولد إسماعيل على هذه الجهة، للاختصار، إلى حديث سيرة رسول الله -صلى اللّه عليه وسلم- وتاركٌ بعضَ ما ذكره ابنُ إسحاق في هذا الكتاب، مما ليس لرسول اللّه -صلى اللّه عليه وسلم- فيه ذكر. ولا نزل فيه من القرآن شيء، وليس سببًا لشيء من هذا الكتاب، ولا تفسيرًا له، ولا شاهدًا عليه، لما ذكرت من الاختصار، وأشعارًا ذكرها لم أر أحدًا من أهل العلم بالشعر يعرفها، وأشياء بعضُها يَشْنُعُ الحديث به، وبعض يسوء بعضَ الناس ذِكْره، وبعض لم يُقرّ لنا البَكَّائى بروايته، ومستقصٍ -إن شاء اللّه تعالى- ما سوى ذلك منه بمبلغ الرواية له، والعلم به.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قينن: وقيل: قينان، وتفسيره المستوى.
2 يانش: وقيل: أنوش، وتفسيره الصادق.
3 شيث: وهو بالسريانية: شاث، وتفسيره: عطية الله.
4 آدم: وفيه ثلاثة أقوال: أنه اسم سرياني، أو هو أفعل من الأدمة وهي السمرة، أو أخذ من لفظ الأديم؛ لأنه خلق من أديم الأرض.
5 هو: أبو محمد زياد بن عبد الله البكائي الكوفي وهو محدث مشهور.
6 هو أبو بكر محمد بن إسحاق بن يسار من المحدثين خاصة في المغازى والسير، توفي ببغداد سنة إحدى وخمسين ومائة هجرية. انظر تاريخه مفصلًا هو وابن هشام في مقدمة الكتاب.

 

ج / 1 ص -7-           سياقة النسب من ولد إسماعيل عليه السلام
أولاد إسماعيل عليه السلام: قال ابن هشام: حدثنا زياد بن عبد اللّه البَكَّائى، عن محمد بن إسحاق المُطَّلِبي قال:
ولدَ إسماعيلُ بنُ إبراهيم -عليهما السلام- اثني عشر رجلًا: نابتا -وكان أكبرهم- وقيْذَر وأذْبُل، ومنْشا ومِسْمَعًا، وماشى، ودمَّا، وأذر، وطيما، ويَطُورا، ونَبِش، وقَيْذُما، وأمهم: بنت مُضاض بن عَمر الجُرْهُمي. قال ابن هشام: ويقال: مضاض، وجُرهم بن قحطان –وقحطان أبو اليمن كلها، وإليه يجتمع نسبها- ابن عامر بن شالخ بن أرْفَخْشَذ بن سام بن نوح.
قال ابن إسحاق: جُرْهُم بن يَقْطن بن شالخ، ويَقْطن هو: قحطان ابن عَيْبر بن شالخ.
عمر إسماعيل وموطن أمه ووفاته: قال ابن إسحاق: وكان عمر إسماعيل -فيما يذكرون- مائة سنة وثلاثين سنة، ثم مات -رحمة اللّه وبركاته عليه- ودفن في الحِجْر1 مع أمه هاجر -رحمهما اللّه تعالى.
قال ابن هشام: تقول العرب: هاجر وآجر، فيبدلون الألف من الهاء، كما قالوا: هراق الماء، وأراق الماء، وغيره. وهاجر من أهل مصر.
حديث الوصاة بأهل مصر وسببها: قال ابن هشام: حدثنا عبد اللّه بن وهب عن عبد اللّه بن لَهيعَة، عن عُمر مولى غَفْرَة2 أن رسول اللّه -صلى اللّه عليه وسلم- قال:
"اللّه اللّه في أهل الذمة. أهل المدَرَة السوداء، السُّحْم الجِعاد3، فإن لهم نسبًا وصهرًا".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الحجر: هو حجر الكعبة وهو ما تركت قريش في بنائها من أساس إبراهيم عليه السلام حينما ضافت بهم النفقة وحجرت على الموضع ليعرف أنه من الكعبة.
2 غفرة: أخت أو بنت بلال رضي الله عنه.
3 المدرة: البلدة. والسحم: السود. والجعاد: يقال فلان جعد الشعر إذا كان فيه تكسير.

 

ج / 1 ص -8-           قال عمر مولى غُفْرَة: نسبُهم: أن أمَّ إسماعيل النبي -صلى اللّه عليه وسلم-منهم. وصهرُهم أن رسول اللّه -صلى اللّه عليه وسلم- تسرَّر فيهم1.
قال ابن لَهِيعَة: أم إسماعيل: هاجر، من: "أم العَرَب" قرية كانت أمام الفَرَما2 من مصر.
وأم إبراهيم3: مارية4 سُرِّيَّة النبى -صلى اللّه عليه وسلم- التي أهداها له المقوقس من حفن5، من كورة أنصِنا6.
قال ابن إسحاق: حدثني محمد بن مسلم بن عُبَيْد اللّه بن شهاب الزهري: أن عبد الرحمن بن عبد اللّه بن كعب بن مالك الأنصاري، ثم السُّلَمي، حدثه: أن رسول اللّه -صلى اللّه عليه وسلم- قال:
"إذا فتحتم مصر، فاستوصُوا بأهلها خيرًا فإن لهم ذِمة ورحِمًا". فقلت لمحمد بن مسلم الزهري: ما الرحم التي ذَكر رسول الله -صلى اللّه عليه وسلم- لهم؟ فقال: كانت هاجَر أم إسماعيل منهم.
أصل العرب: قال ابن هشام: فالعرب كلها من ولد إسماعيل وقحطان، وبعض أهل اليمن يقول: قحطان من ولد إسماعيل، ويقول: إسماعيل أبو العرب كلها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تسرر الرجل: اتخذ أمة لفراشه.
2 الفرما: مدينة شرق مصر كانت ميناء كبيرًا، وتعرف الآن بتل الفرما.
3 هو إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
4 مارية ومعناها: البقرة الفتية إذا كان اللفظ مخففًا، والملساء إذا كان اللفظ مشددًا وهي التي أهداها إلى النبي -صلى اللّه عليه وسلم المقوقس- واسمه جُرَيج بن ميناء. وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد أرسل إليه حاطب بن أبي بلتعة وجبرًا مولى أبي رُهْم الغفاري، فقارب الإسلام وأهدى معهما أيضًا بغلته التي يقال لها: دلدل -القنفذ العظيم- وأهدى إليه قدحًا من قوارير كان يشرب فيها. انظر: "الروض الأنف بتحقيقنا ج1 ص17".
5 حفن: قرية بصعيد مصر وهي التي رفع عنها معاوية الخراج بوساطة الحسن بن علي -رضي الله عنه- حفظًا لوصية رسول الله ورعاية لحرمة صهره صلى الله عليه وسلم.
6 أنصنا: قرية بصعيد مصر، يقال: إنها كانت مدينة السحرة وشهرتها قائمة على وجود شجر اللبخ بها.

 

ج / 1 ص -9-           قال ابن إسحاق: عاد بن عَوْص بن إرَم بن سام بن نوح، وثمود وجَديس ابنا عابر بن إرم بن سام بن نوح، وطَسْم وعِمْلاق وأمَيم بنو لاوِذ بن سام بنِ نوح. عربٌ كلُّهم. فولد نابتُ بنُ إسماعيلَ: يشْجُبَ بن نابت، فولَدَ يشجبُ: يعرُبَ بن يشجب: فولدَ يعرب: تَيْرح بن يعرب، فولد تيرحُ: ناحورَ بن تيرح، فولَدَ ناحور: مُقَوّم بن ناحور، فولد مقوم: أدَدَ بنَ مقوم، فولد أددُ: عدنانَ بن اُدَد.
قال ابنُ هشامٍ: ويقالُ: عدنانُ بن أدّ.
قال ابن إسحاق: فمن عدنان تفرقت القبائل من ولد إسماعيل بن إبراهيم -عليهما السلام- فولد عدنان رجلين: معدّ بن عدنان، وعَكّ بن عدنان.
قال ابن هشام: فصارت عكّ في دار اليمن، وذلك أن عكا تزوج في الأشعريين، فأقام فيهم؛ فصارت الدار واللغة واحدة. والأشعريون: بنو أشعر بن نَبْت بن أدَد بن زيد بن هَمَيْسع بن عمرو بن عريب بن يَشْجُب بن زَيْد بن كَهْلان بن سبأ بن يَشْجُب بن يَعْرب بن قحطان ويقال: أشعرُ: نَبْت بن أدَد. ويقال: أشعر: ابنُ مالك، ومالك: مَذْحج بن أدَد بن زيد بن هَمَيْسع. ويقال: أشعر: ابن سبأ بن يشجُب.
وأنشدنى أبو مُحْرِز خَلف الأحمر، وأبو عُبَيْدة، لعباس بن مِرْداس، أحد بني سُلَيْم بن منصور بن عِكْرِمة بن خَصَفة بن قيس بن عَيْلان بن مُضَر بن نزار بن معد بن عدنان، يفخر بعك:

وعك بن عدنان الذين تلقَّبوا                   بغسان حتى طُرِّدوا كلَّ مَطْرِد

ِ وهذا البيت في قصيدة له: وغسان: ماء بسد مأرب باليمن، كان شِرْبًا لولد مازن بن الأسْد1 بن الغَوْث، فسُموا به. ويقال: غسان2: ماء بالمُشَلَّل قريب من الجُحْفَة، والذين شربوا منه تحزبوا فسُموا به قبائل من ولد مازن بن الأسد، بن الغَوْث، بن نَبْت، بن مالك، بن زَيْد، بن كَهْلان، بن سبأ، بن يَشْجُب، بن يَعْرُب، بن قَحْطان.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ويقال فيه الأزد أيضًا.
2 واشتقاق غسان -اسم ذلك الماء- من الغس والضعيف وبعد هذا البيت:
يا أخت آل فراس إنني رجل
من معشر لهم في المجد بنيان

 

ج / 1 ص -10-        قال حسانُ بن ثابت الأنصاري، والأنصار بنو الأوس والخزرج، ابنَىْ حارثة، بن ثَعْلبة، بن عمرو، بن عامر، بن حارثة، بن امرئ القيس، بن ثعلبة، بن مازن، بن الأسْد، بن الغوث:

إمَّا سألْتِ فإنا مَعْشرٌ نُجُبٌ                     الأسْدُ نسبتُنا والماُء غسانُ

وهذا البيت في أبيات له.
فقالت اليمن، وبعض عك، وهم الذين بخراسان منهم: عك بن عدنان بن عبد اللّه بن الأسد بن الغوث. ويقال: عُدْنان بن الديث بن عبد الله بن الأسْد بن الغوْث.
قال ابنُ إسحاق: فوَلَدَ معدُّ بن عدنان أربعةَ نفر: نزار بن معد، وقضاعة، بن معد، وكان قضاعة بِكْر معد الذي به يُكْنَى -فيما يزعمون- وقُنُص بن معد، وإياد بن معد.
فأما قُضاعة فتيامنت إلى حِمْير بن سبأ -وكان اسم سبأ: عبد شمس، وإنما سُمِّيَ سبأ؛ لأنه أول من سَبَى في العرب– ابن يشجب بن يَعْرُب بن قحطان.
قال ابن هشام: فقالت اليمن وقضاعة: قضاعة بن مالك بن حِمْير. وقال عمرو بن مرة الجهنى1، وجُهَينة بن زيد، بن لَيْث، بن سَوْد، بن أسلم، بن الحاف، بن قُضاعة:

نحن بنو الشيخ الهِجان الأزْهَر               قضاعة بن مالك بن حِمْيَرِ

النسب المعروف غير المنْكَـر                 في الحَجَرالمنقوش تحتَ المِنْبرِ2

قنص بن معد ونسب النعمان بن المنذر: قال ابنُ إسحاق: وأما قُنُص بن معد فهلكت بقيتهم -فيما يزعمُ نُسَّاب معد- وكان منهم النعمان بن المنذر ملك الحيرة. قال ابن إسحاق:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
له حديثان أحدهما في أعلام النبوة، والآخر: "من ولي أمر الناس، فسد بابه دون ذوي الحاجة والخلة والمسكنة، سد الله بابه دون حاجته وخلته ومسكنته يوم القيامة". انظر: "الروض الأنف بتحقيقنا ج1 ص23".
2 الهجان الكريم. الأزهر: المشهور، ويقال: إن هذا الشعر لأفلح بن اليعبوب كما ذكر ذلك ذو الحسبين عن الزبير. ويقال أول هذا الرجز قوله:

يا أيها الداعي أدعنا وأبشر                              وكن قضاعيًّا ولا تنزر

 

ج / 1 ص -11-        قال ابن إسحاق: حدثني محمد بن مسلم بن عُبَيد اللّه بن شهاب الزُّهْري: أن النعمان بن المنذر كان من ولد قُنُص بن معد. قال ابن هشام: ويُقال: قَنَص.
قال ابن إسحاق: وحدثني يعقوب بن عُتْبة بن المغيرة بن الأخْنَس، عن شيخ من الأنصار من بني زُرَيْق أنه حدثه: أن عمر بن الخطاب -رضي اللّه عنه- حين أتى بسيف النعمان بن المنذر1، دعا جُبَيْر بن مُطْعِم بن عَدِي بن نَوْفَل بن عبد مناف بن قُصَى -وكان جُبَيْر من أنسب قريش لقريش، وللعرب قاطبة، وكان يقول: إنما أخذت النسبَ من أبى بكر الصديق رضي اللّه عنه وكان أبو بكر الصديق أنسب العرب- فسلحه إياه، ثم قال: ممن كان، يا جُبَيْر النعمان بن المنذر؟ فقال: كان من أشلاء قُنُص بن معدّ.
قال ابن إسحاق: فأما سائر العرب فيزعمون أنه كان رجلا من لَخْم، من ولد ربيعة بن نصر، فاللّه أعلم أي ذلك كان.
لخم بن عدي: قال ابنُ هشام: لَخْم: ابن عدي بن الحارث بن مرة بن أدد بن زيد بن هَمَيْسَع بن عمرو بن عَرِيب بن يَشْجُب بن زيد بن كهلان بن سبأ. ويقال: لَخْم: ابن عدي بن عمرو بن سبأ. ويقال: ربيعة بن نصر2 بن أبي حارثة بن عمرو بن عامر، وكان تخلف باليمن بعد خروج عمرو بن عامر من اليمن.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وإنما أتى بهذا السيف حين افتتحت المدائن، وكانت بها خرائب كسرى وذخائره فأخذت نفائسه ومن جملتها خمسة أسياف. أحدها: سيف كسرى أبرويز، والثاني سيف كسرى أنوشروان وثالثها: سيف النعمان بن المنذر كان استلبه منه حين غضب عليه وقتله، ورابعها: سيف خاقان ملك الترك، وخامسها: سيف هرقل وكان تصير إلى كسرى أيام غلبته على الروم.
2 ويقال فيه: نصر بن ربيعة: وهو في قول نساب اليمن ربيعة بن نصر بن الحارث بن نمارة بن لخم، وقال الزبير: نصر بن مالك بن شعوذ بن مالك بن عجم بن عمرو بن نمارة بن لخم.

 

ج / 1 ص -12-        أمر عمرو بن عامر في خروجه من اليمن: وقصة سد مارب
وكان سبب خروج عمرو بن عامر من اليمن، فيما حدثني أبو زَيْد الأنصاري، أنه رأى جُرَذًا يحفر في سد مأرِب الذي كان يحبس عليهم الماء فيصرفونه حيث شاءوا من أرضهم، فعلم أنه لا بقاءَ للسد على ذلك، فاعتزم على النُّقْلة من اليمن، فكاد قومه، فأمر أصغر ولده إذا أغلظ له ولطمه، أن يقوم إليه فيلطمه، ففعل ابنه ما أمره به، فقال عمرو: لا أقيم ببلد لطم وجهي فيه أصغرُ ولدي، وعرض أموالَه، فقال أشراف من أشراف اليمن: اغتنموا غضبةَ عَمرو، فاشتروا منه أمواله، وانتقل في ولده وولد ولده. وقال الأزد: لا نتخلف عن عمرو بن عامر، فباعوا أموالَهم، وخرجوا معه، فساروا حتى نزلوا بلاد عك مجتازين يرتادون البلدان. فحاربتهم عَك، فكانت حربهم سِجالًا، ففي ذلك قال عباس بن مرداس البيت الذي كتبنا1. ثم ارتحلوا عنهم، فتفرقوا في البلدان، فنزل آل جفنة بن عمرو بن عامر: الشامَ، ونزلت الأوس والخزرج: يثرب، ونزلت خزاعة: مَرًّا، ونزلت أزدُ السراةَ: السراة. ونزلت أزدُ عُمان: عمان. ثم أرسل اللهّ تعالى على السدِّ السيلَ فهدمه، ففيه أنزل اللّه -تبارك وتعالى- على رسوله محمد -صلى اللّه عليه وسلم:
{لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ، فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ}.[سبأ: 15].
والعَرِم: السد، واحدته: عَرِمَة، فيما حدثنى أبو عُبَيْدة.
قال الأعشى: أعشى بني قيس، ابن ثعلبة، بن عُكابة، بن صَعْب، بن على، بن بكر، بن وائل بن هِنْب، بن أفْصَي، بن جَديلة، بن أسَد، بن ربيعة، بن نِزار، بن مَعَدّ.
قال ابن هشام: ويقال: أفصى بن دُعْمِيّ بن جديلة، واسم الأعشى: ميمون بن قَيْس، بن جندل، بن شراحيل، بن عوف، بن سعد، بن ضُبَيْعة، بن قيس، بن ثعلبة:

وفى ذاك للمؤتسى أسوة                      ومأربُ عفَّى عليها العَرِمْ

رُخام بنته لهم حمير                             إذا جاء مَوَّارُه لم يَرِمْ

فأروى الزروعَ وأعنابَها                             على سَعةٍ ماؤهم إذ قُسِمْ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو قوله:
وعك بن عدنان الذين تلقبوا
بغسان حتى طردوا كل مطرد

 

ج / 1 ص -13-                                فصاروا أيادى ما يقدرو        ن منه على شرب طفل فطم

وهذه الأبيات في قصيدة له.
وقال أميةُ بنُ أبي الصلت الثَّقَفي -واسم ثَقيف: قَسِيُّ بنُ مُنَبِّه، بن بكر، بن هوازن، بن منصور، بن عِكرمة، بن خَصَفة، بن قيس، بن عَيْلان، بن مُضَر، بن نِزَار، بن مَعَدّ، بن عدنان:

من سبأ الحاضرين مأرب إذ                     يبنون من دون سيله العرما

وهذا البيت في قصيدة له، وتروى للنابغة الجَعْدي، واسمه: قيس بن عبد اللّه، أحد بنى جَعْدة، بن كعب، بن ربيعة، بن عامر، بن صَعْصَعة، بن معاوية، بن بكر، بن هَوَازن.
وهو حديث طويل، منعنى من استقصائه ما ذكرت من الاختصار.
حديث ربيعة بن نصر ورؤياه
رؤيا ربيعة: قال ابنُ إسحاق: وكان ربيعة بن نصر ملك اليمن بين أضْعَاف ملوك التبابعة، فرأى رؤيا هالته، وفظع بها، فلم يَدَعْ كاهنًا، ولا ساحرًا، ولا عائفًا1، ولا منجِّما من أهل مملكته إلا جمعه إليه، فقال لهم: إني قد رأيت رؤيا هالتني، وفَظِعْت بها؛ فأخْبروني بها وبتأويلها، قالوا له: اقصصها علينا نخبرْك بتأويلها، قال: إنى إن أخبرتكم بها لم أطمئن إلى خبرِكم عن تأويلها، فإنه لا يعرف تأويلها إلا من عرفها قبل أن أخبره بها، فقال له رجل منهم: فإن كان الملك يريد هذا فليبعث إلى سَطيحٍ2 وشِقٍّ3، فإنه ليس أحد أعلم منهما، فهما يخبرانه بما سأل عنه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 العائف: من يزجر الطير.
2 وسمي سطيحا: لأنه كان جسما ملقى لا جوارح له ولا يقدر على الجلوس، إلا إذا غضب انتفح فجلس. ويذكر أن وجهه في صدره ولم يكن له رأس ولا عنق ويذكر عن وهب ابن منبه أنه قال: قيل لسطيح: أنى لك هذا العلم؟ فقال: لي صاحب من الجن استمع أخبار السماء من طور سيناء حين كلم الله تعالى موسى -عليه السلام- فهو يؤدى إلي من ذلك ما يؤديه.
3 وسمي بذلك؛ لأنه كان نصف إنسان، له يد واحدة؟ ورجل واحدة، وعين واحدة. وولد شق وسطيح في اليوم الذي ماتت فيه طريفة الكاهنة وهي بنت الخير الحميرية امرأة عمر بن عامر فدعت بشق وسطيح قبل أن تموت فتفلت في فيهما وأخبرت أنهما سيخلفانها في كهانتها.

 

ج / 1 ص -14-        واسم سطيح: ربيع بن ربيعة، بن مسعود، بن مازن، بن ذئب، بن عدي، بن مازن غسان، وشق: بن صَعْب، بن يَشْكُر، بن رُهْم، بن أفْرَك، بن قَسْر، بن عَقْبَر، بن أنمار، بن نزار: وأنمار أبو بجيلة وخثعم.
نسب بجيلة: قال ابن هشام: وقالت اليمن: وبجيلة بنو أنمار، بن إراش بن لَحْيان، بن عمرو، بن الغَوْث، بن نَبْت، بن مالك، بن زيد، بن كهلان، بن سبأ: ويقال: إراش بن عمرو، بن لحْيان، بن الغَوْث. ودار بجيلة وخثعم يمانية.
قال ابن إسحاق: فبعث إليهما، فقدم عليه سَطيح قبلَ شِقٍّ، فقال له: إني رأيت رؤيا هالتنى، وفظِعْت بها، فأخبرْنى بها، فإنك إن أصبتَها أصبتَ تأويلَها.
قال: أفعلُ. "رأيتَ حُمَمَة، خرجت من ظُلُمة، فوقعت بأرض تَهَمة، فأكلت منها كلُّ ذاتِ جُمْجُمة"1.
فقال له الملك: ما أخطأتَ منها شيئا يا سطيحُ؛ فما عندَك في تأويلها؟ فقال: أحلف بما بين الحَرَّتَيْن من حَنَش، ليهبِطنَّ أرضَكم الحبش، فليملكن ما بين أبيَن إلى جُرَش2، فقال له الملك: وأبيك يا سطيح، إن هذا لنا لغائظ موجع، فمتى هو كائن، أفي زماني هذا؛ أم بعده؟ قال: لا، بل بعده بحين، أكثر من ستين أو سبعين، يمضين من السنين، قال: أفيدوم ذلك من ملكهم أم ينقطع؟ قال: لا، بل ينقطع لبضع وسبعين من السنين، ثم يُقتلون ويخرجون منها هاربين. قال: ومن يلي ذلك من قتْلِهم وإخراجهم؟ قال: يليه إرَمُ ذي يَزن3، يخرج

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الحممة: الفحمة المحرقة، والظلمة: الظلام يريد خروج عسكر الحبشة من أرض السودان. وأرض تهمة أي منخفضة وقوله: أكلت منها كل ذات جمجمة" ولم يقل: كل ذي جمجمة لأن القصد إلى النفس والنسمة فهو أعم، ويدخل فيه جميع ذوات الأرواح.
2 بنو حبش بن حام بن نوح وبه سميت الحبشة، وأبين هكذا رويت بفتح الهمزة وذكرها سيبويه بكسر الهمزة على مثل إصبع. وقال ابن ماكولا هو أبين بن زهير بن أيمن بن الهميسع من حمير، أو من ابن حمير سميت به البلدة، وذكر الطبري: أن أبين وعدن ابنا عدنان سميت بهما البلدتان، وجرش: مدينة باليمن.
3 المعروف أن اسمه: سيف بن ذي يزن، ولكن جعل إرما، إما لأن الإرم هو العلم فمدحه بذلك، وإما شبهه بعاد إرم في عظم الخلقة، قال الله تبارك وتعالى:
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ، إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ}.

 

ج / 1 ص -15-        عليهم من عدن، فلا يترك أحدًا منهم باليمن.
قال: أفيدوم ذلك من سلطانه، أم يقطع؟
قال: لا، بل ينقطع.
قال: ومن يقطعه؟
قال: نبيّ زكي، يأتيه الوحي، من قِبَلِ العلي. قال: وممن هذا النبي؟ قال: رجل من ولد غالب بن فهْر بن مالك بن النَّضْر، يكون المُلك في قومه إلى آخر الدهر. قال: وهل للدهر من آخر؟ قال: نعم، يومٌ يُجْمَع فيه الأولون والآخرون، يسعد فيه المحسنون، ويشقى فيه المسيئون. قال: أحق ما تخبرني؟ قال: نعم. والشَّفق والغَسق، والفَلَق إذا اتَّسق، إن ما أنبأتك به لحق.
ثم قدم عليه شِق، فقال له كقوله لسطيح، وكتمه ما قال سطيح، لينظر أيتفقان أم يختلفان. فقال: نعم، رأيت حُمُمة، خرجت من ظُلُمة، فوقعت بين رَوْضة وأكمة، فأكلت منها كل ذات نسمة.
قال: فلما قال له ذلك، عرف أنهما قد اتفقا، وأن قولهما واحد.
إلا أن سطيحًا قال: "وقعت بأرض تَهَمة، فأكلت منها كل ذات جُمْجُمة".
وقال شِق: "وقعت بينَ روضة وأكمة، فأكلتْ منها كلُّ ذات نسمة".
فقال له الملك: ما أخطأت يا شق منها شيئًا، فما عندك في تأويلها؟
قال: أحلف بما بين الحَرَّتين من إنسان، لينزلن أرضَكم السودان، فليغلبن على كل طَفْلة1 البنان، وليملكُن ما بين أبيَن إلى نَجْران.
فقال له الملك: وأبيك يا شِقُّ، إن هذا لنا لغائظ موجع، فمتى هو كائن؟ أفي زماني، أم بعده؟ قال: لا، بل بعده بزمان، ثم يستنقذكم منهم عظيم ذو شان، ويذيقهم أشد الهوان.
قال: ومن هذا العظيم الشأن؟ قال: غلام، ليس بدَنِيّ، ولا مُدَنّ2، يخرج عليهم من بيت ذي يَزَن، فلا يترك أحدًا منهم باليمن.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الطفلة: الناعمة الرخصة. والبنان. الأصبع.
2 المدن: الذي جمع الضعف مع الدناءة.

 

ج / 1 ص -16-        قال: أفيدوم سلطانه أم ينقطع؟ قال: بل ينقطع برسول مُرْسَل يأتي بالحق والعدل، بين أهل الدين والفضل، يكون الملك في قومه إلى يوم الفصل؟ قال: وما يوم الفصل؟ قال: يومٌ تُجْزَى فيه الولاةُ ويُدْعى فيه من السماء بدعوات، يسمع منها الأحياء والأموات، ويُجمع فيه بين الناس للميقات، يكون فيه لمن اتقى الفوزُ والخيرات.
قال: أحق ما تقول؟ قال: إي وربِّ السماء والأرض، وما بينهما من رَفْعٍ وخَفض، إن ما أنبأتك به لحق، ما فيه أمض.
قال ابن هشام: أمض. يعني شكًّا: هذا بلغة حمير: وقال أبو عمرو. أمض أي: باطل. فوقع في نفس ربيعة بن نصر ما قالا، فجهز بنيه، وأهل بيته إلى العراق بما يصلحهم، وكتب لهم إلى ملك من ملوك فارس يقال له: سابور بن خرَّزاد فأسكنهم الحيرة.
رأي آخر في نسب النعمان بن المنذر: فمن بقية ولد ربيعة بن نصر: النعمان بن المنذر، فهو في نسب اليمن وعِلْمِهم: النعمانُ بنُ المنذر بن عَمرو بن عَدِي بن ربيعة بن نَصْر، ذلك الملك. قال ابن هشام: النعمان بن المنذر، بن المنذر، فيما أخبرني خلف الأحمر.
قال ابن إسحاق: فلما هلك ربيعة بن نصر، رجع مُلك اليمن كلِّه إلى حسان بن تُبان أسعد1 أبى كرب -وتُبان أسعد هو: تُبَّع الآخر، ابن كَلْكى كرَب بن زيد، وزيد هو تُبَّع الأول بن عمرو ذي الأذعار2 ابن أبرهة ذي المنار3 ابن الرّيْش -قال ابن هشام: ويقال: الرائش. قال ابن إسحاق: ابن عدي بن صيفي بن سبأ الأصغر، بن كَعْب، كَهْف الظُّلم، ابن زَيْد

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 اسمان جعلا اسما واحدا، ويصح جعل الإعراب في الجزء الأول من الاسم وإضافة الاسم الثاني إليه ويجوز الإعراب في الجزء الثاني من الاسم. وتبان: من التبانة وهي الذكاء والفطنة. يقال. رجل تبن وطبن.
2 وسمي ذا الأذعار؛ لأنه أوغر في ديار المغرب وسبا أمة ذات شكل غريب؛ فذعر الناس منهم فسمي بذلك.
3 وسمي بذلك؛ لأنه رفع نيرانًا في جبال ليهتدى بها في إحدى غزواته.

 

ج / 1 ص -17-        ابن سَهْل، بن عَمرو، بن قَيْس، بن معاوية، بن جُشَم، بن عبد شمس، بن وائل، بن الغَوْث، بن قَطَن، بن عَرِيب، بن زهير، بن أيمن، بن الهَمَيْسَع، بن العَرَنْجَج. والعَرَنْجَج: حِمْيَر بن سبأ الأكبر بن يَعْرُب، بن يَشْجُب، بن قحطان.
قال ابن هشام: يَشْجُب: بن يَعْرُب بن قَحْطان.
قال ابن إسحاق: وتُبان أسعد: أبو كَرِب الذي قدم المدينة، وساق الحَبْرَيْن من يهود المدينة إلى اليمن، وعثر البيت الحرام وكساه، وكان مُلكه قبل مُلك ربيعة بن نصر.
قال ابن هشام: وهو الذي يُقال له:

ليت حظي من أبى كَرِب                             أن يسدّ خيرُه خبلَهْ1

تبان يغضب على أهل المدينة: قال ابن إسحاق: وكان قد جعل طريقه -حين أقبل من المشرق- على المدينة، وكان قد مَرَّ بها فى بدأته، فلم يهج أهلَها، وخلف بين أظهرهم ابنًا له، فقُتل غِيلةً، فقدمها، وهو مُجمع لإخرابها، واستئصال أهلها، وقطع نخلها2، فجمع له هذا الحيُّ من الأنصار، ورئيسهم عمرو بن طَلَّة أخو بني النجار، ثم أحد بني عمرو بن مبذول، واسم مبذول: عامر، بن مالك بن النجار، واسم النجار: تيم اللّه بن ثعلبة، بن عمرو، بن الخزرج، بن حارثة، بن ثعلبة، بن عمرو، بن عامر.
عمرو بن طلة ونسبه: قال ابن هشام: عمرو بن طَلَّة: عمرو بن معاوية، بن عمرو بن عامر، بن مالك بن النجار، وطَلَّة: أمه: وهىِ بنت عامر بن زُرَيق، بن عامر بن زُرَيق، بن عبد حارثة بن مالك، بن غضْب، بن جُشَم، بن الخزرج.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الخيل: الفساد. وقد نسب هذا البيت إلى الأعشى ولكن البرقى نسبه إلى عجوز من بني سالم، قالته حين جاء مالك بن العجلان بخبر تتبع. فدخل سرا، فقال لقومه: قد جاء تبع فقالت العجوز البيت.
2 يذكر القتبى أنه لم يقصد غزوها، وإنما قصد قتل اليهود الذين كانوا فيها، وذلك أن الأوس والخزرج كانوا نزولها معهم، حين خرجوا من اليمن على شروط وعهود كانت بينهم فلم يفِ بذلك يهود واستضاموهم، فاستغاثوا بتبع، فعند ذلك قدمها.

 

ج / 1 ص -18-        قصة مقاتلة تبان لأهل المدينة: قال ابن إسحاق: وقد كان رجل من بني عدي بن النجار يقال له: أحمر، عدا على رجال من أصحاب تُبَّع في نزل بهم فقتله. وذلك أنه وجده في عَذْق له يَجُدُّه1 فضربه بمنجله فقتله، وقال: إنما التمر لمن أبره2، فزاد ذلك تُبعًا حنقا عليهم، قال: فاقتتلوا، فتزعُم الأنْصار أنهم كانوا يقاتلونه بالنهار، ويقرونه بالليل، فيعجبه ذلك منهم، ويقول: واللّه إن قومَنا لكرام!!.
فبينا تُبع على ذلك من قتالهم؛ إذا جاءه حَبران من أحبار اليهود، من بني قُرَيظة، وقريظة والنضير والنَّحَّام وعمرو -وهو هَدَل3- بنو الخزرج بن الصريح بن التَّوْمان4، بن السِّبط بن اليسع، بن سعد، بن لاوي، بن خير، بن النحام، بن تنحوم، بن عازر، عِزرى، بن هارون بن عمران، بن يصهر، بن قاهث، بن لَاويّ بن يعقوب: وهو إسرائيل -ابن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن -صلى اللّه عليهم- عالمان راسخان في العلم، حين سمعا بما يريد من إهلاك المدينة وأهلها، فقالا له: أيها الملك، لا تفعل، فإنك إن أبيت إلا ما تريد حيل بينك وبينها، ولم نأمن عليك عاجلَ العقوبة، فقال لهما: ولم ذلك؟ فقالا: هي مهاجَر نبي يخرج من هذا الحرم من قريش في آخر الزمان، تكون دارَه وقرارَه، فتناهى عن ذلك، ورأى أن لهما علمًا، وأعجبه ما سمع منهما، فانصرف عن المدينة، واتبعهما على دينهما، فقال خالد بن عبد العُزَّى بن غَزِيَّة بن عمرو بن عبد بن عوف بن غُنْم بن مالك بن النجار يفخر بعمرو بن طَلَّة:

أصحا أم قد نهى ذُكَرَهْ                         أم قضى من لذةٍ وسرهْ5


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 العذق: النخل، ويجده: يقطعه.
2 أبر النخل: لقحه وأصلحه.
3 هدل: بفتح الدال والهاء، كأنه مصدر: هدل هدلا إذا استرخت شفته، وذكره الأمير بن ماكولا عن أبي عبدة النسابة فقال فيه: هدل بسكون الدال.
4 التومان: على وزن فعلان. كأنه من لفظ التوم، وهو الدر.
5 الذكر: جمع ذكره. والمستعمل في هذا المعنى ذكرى بالألف وقلما يجمع فعلى على فُعَل وإنما يجمع على فعال، فإن كان أراد في هذا البيت جمع ذكرى، وشبه ألف التأنيث بهاء التأنيث، فله وجه: قد يحملون على الشيء إذا كان في معناه.

 

ج / 1 ص -19-                                         أم تذكرْتَ الشبابَ، وما         ذِكرُك الشباب أو عُصُرَهْ1

إنها حرب رباعِيةٌ                                    مثلُها آتي الفتى عِبَره2

فاسألا عمرانَ أو أسدا                             إذ أتت عَدْوًا مع الزُّهَرَة3

فَيْلَقٌ فيها أبو كَرِبٍ                                 سُبَّغ أبدانُها ذَفِرَهْ4

ثم قالوا: من نؤم بها                               أبنى عوف، أم النجرَه؟5

بل بني النجار إنَّ لنا                               فيهم قتلى، وإنَّ تِرَهْ6

فتلقَّتهم مُسايفة                                  مَدُّها كالغيبةِ النَّثِرهْ7

فيهم عَمْرُو بنُ طَلَّةَ مَلّى                         الإلهُ قومه عُمُرَهْ8


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أو عصره، أراد أو عصره وهما لغتان كما قال ابن جني ليس شيء على وزن فَعْل يمتنع فيه فُعَل. انظر: "الروض الأنف بتحقيقنا ج1 ص37".
2 حرب رباعية: مثل: أي ليست بصغيرة ولا جذعة، بل هي فوق ذلك، وضرب سن الرباعية مثلا، كما يقال: حرب عوان؛ لأن العوان أقوى من الفتية وأدرب.
3 يريد صبحهم بغلس: وهي ظلمة آخر الليل قبل مغيب الزهرة: وهي نجم معروف شديد اللمعان.
4 سبغ: كاملة. والأبدان: الدروع. وذفرة من الذفر وهي سطوع الرائحة طيبة كانت أو كريهة، وأما الدفر، فإنه فيما كره من الروائح، ومنه قيل للدنيا أم دفر.
5 النجرة جمع ناجر، والناجر والنجار: بمعنى واحد، وهذا كما قيل المناذرة في بني المنذر، والنجار، وهم: تيم الله بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج، وسمي النجار؛ لأنه نجر وجه رجل بقدوم فيما ذكر بعض أهل النسب.
6 فيهم قتلى وإنَّ تره: أظهر إن بعد الواو. أراد: إن لها قتلى وترة، والترة: الوتر. انظر تفصيل ذلك في: "الروض الأنف بتحقيقنا ج1 ص38".
7 مسايفة: أي كتيبة مسايفة. والغيبة: الدفعة من المطر. والنثرة: المنتثرة، وهي التي لا تمسك الماء.
8 ملى. من قولهم: تمليته حينا. أي عشت معه حينًا وهو مأخوذ من الملاوة والملوين وفي القاموس. ملاك الله حبيبك تملية: متعك به، وتملى عمره. استمتع فيه، والملأ: الصحراء والملوان: الليل والنهار.

ج / 1 ص -20-                                           سَيْد سام الملوكَ ومن       رام عَمرًا لا يكنْ قَدَرَهْ

وهذا الحي من الأنصار يزعمون أنه إنما كان حنق تُبع على هذا الحي من يهود الذين كانوا بين أظهرهم، وإنما أراد هلاكهم، فمنعوهم منه، حتى انصرف عنهم، ولذلك قال في شعره:

حَنقًا على سِبْطين حلَّا يثربا                   أوْلى لهم بعقاب يوم مفسد

قال ابن هشام: الشعر الذي فيه هذا البيت مصنوع، فذلك الذي منعنا من إثباته1.
تبَّع يذهب إلى مكة ويطوف بالكعبة: قال ابن إسحاق: وكان تبع وقومه أصحاب أوثان يعبدونها، فتوجه إلى مكّة، وهي طريقهُ إلى اليمن، حتى إذا كان بين عسْفان، وأمَج أتاه نفر من هُذيل بن مُدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد؛ فقالوا له: أيها الملك ألا ندلك على بيت مال دائر، أغفلته الملوك قَبْلك، فيه اللؤلؤ والزبرجد والياقوت والذهب والفضة؟ قال: بلى قالوا: بيت بمكة يعبده أهله، ويصلون عنده. وإنما أراد الهذليون هلاكه بذلك، لما عرفوا من هلاك من أراده من الملوك وبغَى عنده. فلما أجمع لما قالوا، أرسل إلى الحبرين، فسألهما عن ذلك فقالا له: ما أراد القوم إلا هلاكَك وهلاك جندك. ما نعلم بيتًا للّه اتخذه في الأرض لنفسه غيره، ولئن فعلت ما دعوك إليه، لتهلكن وليهلكن من معك جميعًا، قال: فماذا تأمرانني أن أصنع إذا أنا قدمت إليه قالا: تصنع عنده ما يصنع أهله: تطوف به وتعظمه وتكرِّمه، وتحلق رأسك عنده وتذِل له، حتى تخرج من عنده، قال: فما يمنعكما أنتما من ذلك، قالا: أما واللّه إنه لبيت أبينا إبراهيم، وإنه لكما أخبرناك، ولكن أهله حالوا بيننا وبينه بالأوثان التي نصبوها حولَه، وبالدماء التي يُهْرقون عنده، وهم نَجِس أهلُ شرك –أو كما قالا له– فعرف نصحَهما وصدق حديثهما فقرب النفر من هُذيل، فقطع أيديهم وأرجلهم، ثم مضى حتى قدم مكة، فطاف بالبيت، ونحر عنده، وحلق رأسه وأقام بمكة ستة أيام –فيما يذكرون– ينحر بها للناس

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 على الرغم من زعم ابن هشام أن هذا البيت مصنوع فقد ذكره ضمن قصيد مطول في كتاب التيجان. أوله:
ما بال عينك لا تنام، كأنما
كحلت مآقيها بسم الأسود

 

ج / 1 ص -21-        ويطعم أهلها، ويسقيهم العسل، وأرِيَ فى المنام أن يكسو البيت، فكساه الخَصَف1 ثم أرِيَ أن يكسوه أحسنَ من ذلك فكساه المَعافرَ2، ثم أري أن يكسوه أحسنَ من ذلك فكساه المُلاء والوصائل3، فكان تُبع -فيما يزعُمون-أول من كسا البيت4، وأوصى به ولاته من جرهم، وأمرهم بتطهيره وألا يقربوه دما، ولا ميتة، ولا مئلاتا -وهى المحايض5- وجعل له بابًا ومفتاحًا، وقالت سُبَيْعة بنت الأحَبِّ، بن زَبينة، بن جذيمة، بن عوف، بن معاوية، بن بكر، بن هوازن، بن منصور، بن عِكرمة، بن خَصَفة، بن قيس، بن عيلان، وكانت عند عبد مناف بن كعب، بن سعد، بن تَيْم، بن مُرة، بن كعب، بن لُؤَي، بن غالب، بن فِهْر، بن مالك، بن النضر، بن كنانة، لابن لها منه يقال له: خالد: تعظِّم عليه حرمة مكة، تنهاه عن البغي فيها، وتذكر تُبَّعا وتُذَلِّلُهُ له، وما صنع بها:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الخصف: جمع خصفة وهي شيء ينسج من الخوص والليف، والخصف أيضًا: الثياب الغليظة.
2 المعافر: ثياب يمنية.
3 الملاء: جميع ملاءة، وهي الملحفة. والوصائل: ثياب موصلة من ثياب اليمن.
ويروى أن تبعًا لَمّا كسا البيت المسوح والأنطاع انتفض البيت فزال ذلك عنه، وفعل ذلك حين كساه الخصف، فلما كساه الملاء والوصائل قبلها.
4 قال ابن إسحاق: أو من كسا الكعبة الديباج: الحجاج، وذكر الدارقطنى: أنها نتيلة بنت جناب أم العباس بن عبد المطلب، كانت قد أضلت العباس صغيرًا. فنذرت: إن وجدته أن تكسو الكعبة الديباج ففعلت ذلك حين وجدته. وقال الزبير النسابة: بل أول من كساها الديباج عبد الله بن الزبير.
5 لم يرد النساء الحيض: لأن حائضا لا يجمع على محائض: وإنما هي جمع محيضة، وهي خرقة المحيض. ويقال للخرقة أيضًا: مثلاة؛ وجمعها: المآلي.
6 وقال أبو عبيدة: بنت الأجب -بالجيم- وقد قالت هذا الشعر في حرب كانت بين بني السبقا بن عبد الدار، وبين بني علي بن سعد بن تميم حتى تفانوا.

 

ج / 1 ص -22-                                       أبنيَّ: لاتَظْلم بمكـ     ـة لا الصغيرَ ولا الكبيرْ

واحفظْ محارمَها بنيَّ                            ولا يغرَّنْك الغَرورْ

أبُنَيَّ: من يَظلم بمكـ                            ـةَ يُلقَ أطرافَ الشرورْ

أبنَىَّ: يُضْرب وجهُه                               وَيلُحْ بخديْه السعيرْ

أبنى: قد جربتُها                                  فوجدتُ ظالمها يبورْ1

اللّه أمَّنها، وما                                    بُنيت بعرْصَتها قصورْ

واللّه آمنَ طيرَها                                  والعُصْم تأمن فى ثَبيرْ2

ولقد غزاها تُبعٌ                                    فكسا بنيتَها الحبيرْ3

وأذلَّ ربي مُلكَهُ                                   فيها فأوفى بالنُّذورْ

يمشى إليها حافيًا                               بفنائِها ألفَا بعير

ويظل يُطْعِمُ أهلَها                                لحمَ المهاري والجَزُور4

يسقيهم العسلَ المصفّـ                        ـى والرَّحيضَ من الشعير5

والفيلُ أهلك جيشُه                             يرمون فيها بالصخورْ

والملْكُ في أقصى البلاد                        وفى الأعاجِم والخَزِير6

فاسمعْ إذا حُدِّثت، وافهمْ                       كيف عاقبةُ الأمورْ

قال ابن هشام: يوقف على قوافيها لا تعرب.
أصل اليهودية باليمن: ثم خرج منها متوجهًا إلى اليمن بمن معه من جنوده وبالحَبْرين حتى إذا دخل اليمن دعا قومه إلى الدخول فيما دخل فيه، فأبَوْا عليه، حتى يحاكموه إلى النار التي كانت باليمن.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يبور: يهلك.
2 العصم: الوعول تعتصم في الجبال. وثبير: جبل بمكة.
3 بنيتها: الكعبة. والحبير: نوع موشى من ثياب اليمن.
4 المهارى: الإبل النجيبة.
5 الرحيض: المنقى والمصفى.
6 الخزير: يريد الخزر وهم أمة من العجم.

 

ج / 1 ص -23-        قال ابن إسحاق: حدثني أبو مالك بن ثعلبة بن أبي مالك القُرظي، قال: سمعت إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيد اللّه يحدث: أن تُبعًا لما دنا من اليمن ليدخلها حالت حِمْيَر بينه وبين ذلك وقالوا: لا تدخلها علينا، وقد فارقت ديننا، فدعاهم إلى دينه وقال: "إنه خير من دينكم"، فقالوا: فحاكمنا إلى النار قال: نعم. قال: وكانت باليمن -فيما يزعم أهل اليمن- نار تحكم بينهم فيما يختلفون فيه، تأكل الظالم ولا تضر المظلوم، فخرج قومه بأوثانهم وما يتقرَّبون به في دينهم، وخرج الحَبْران بمصاحفهما في أعناقهما متقلديها، حتى قعدوا للنار عند مخرجها الذي تخرج منه فخرجت النار إليهم فلما أقبلت نحوهم حادوا عنها وهابوها، فذَمَرهم1 من حضرهم من الناس، وأمروهم بالصبر لها فصبروا حتى غشيتهم، فأكلت الأوثان وما قربوا معها، ومن حمل ذلك من رجال حمير، وخرج الحبران بمصاحفهما فى أعناقهما تعرق جباههما لم تضرّهما، فأصفقَتْ عند ذلك حمير على دينه، فمن هنالك، وعن ذلك، كان أصل اليهودية باليمن.
قال ابن إسحاق: وقد حدثني محدِّث أن الحَبْرين، ومن خرج من حمير، إنما اتبعوا النار ليردوها، وقالوا: من ردها فهو أولى بالحق، فدنا منها رجال من حِمْير بأوثانهم ليردوها، فدنت منهم لتأكلهم، فحادوا عنها ولم يستطيعوا ردها، ودنا منها الحبران بعد ذلك، وجعلا يتلوان التوراة وتنكص عنهما، حتى ردَّاها إلى مخرجها الذي خرجت منه، فأصفَقَتْ2 عند ذلك حمير على دينهما. واللهّ أعلم أي ذلك كان.
هدم البيت المسمى رئام3: قال ابن إسحاق: وكان رئام بيتًا لهم يعظمونه، وينحرون عنده، ويُكَلَّمون منه، إذ كانوا على شركهم، فقال الحبران لتُبع: إنما هو شيطان يفتنهم بذلك فخلِّ بيننا وبينه، فاستخرجا منه -فيما يزعم أهل اليمن- كلبا أسود فذبحاه ثم هدما ذلك البيت، فبقاياه اليوم -كما ذكر لي- بها آثار الدماء التي كانت تهراق عليه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذمرهم: شجعهم وحصنهم ليجدوا.
2 أصفقت: اجتمعت.
3 رئام: فعال من رئمت الأنثى ولدها ترأمه رئما ورئامًا إذا عطفت عليه ورحمته، فاشتقوا لهذا البيت اسما لموضع الرحمة التي كانوا يلتمسون في عبادته.

 

ج / 1 ص -24-        مُلك حسان بن تبان وقتله على يد أخيه عمرو
فلما ملك ابنه حسان بن تُبان أسعد أبى كَرِب، سار بأهل اليمن، يريد أن يطأ بهم أرض العرب وأرض الأعاجم، حتى إذا كانوا ببعض أرض العراق -قال ابن هشام: بالبحرين، فيما ذكر لي بعض أهل العلم- كرهت حِمْير وقبائل اليمن المسير معه، وأرادوا الرجعة إلى بلادهم وأهلهم، فكلموا أخًا له يقال له عمرو، وكان معه في جيشه، فقالوا له: اقتل أخاك حسان، ونُملِّكْكَ علينا، وترجعْ بنا إلى بلادنا، فأجابهم، فاجتمعوا على ذلك إلا ذا رُعَيْن الحِمْيري فإنه نهاه عن ذلك فلم يقبل منه. فقال ذو رعَيْن1:

ألا من يشتري سهرًا بنوم                      سعيدٌ من يبيتُ قريرَ عينِ2

فإما حِمْير غدرتْ، وخانت                       فمعذرةُ الِإله لذي رُعَيْن

ثم كتبهما في رقعة، وختم عليها، ثم أتى بها عَمرًا، فقال له: ضع لي هذا الكتاب عندك ففعل ثم قَتل عمرو أخاه حسان، ورجع بمن معه إلى اليمن. فقال رجل من حِمْير:

لاهِ عينا الذي رأى مثلي                حسان قتيلًا في سالف الأحقابِ3

قتلته مقاول خشيةَ الحبس غداةَ قالوا: لَبَاب لَبابِ4

ميتُكم خيرُنا وحيُّكم ربٌّ علينا، وكلُّكم أربابي


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذو رعين: تصغير رعمن، والرعن: أنف الجبل، ورعين: جبل باليمن وإليه ينسب ذو رعين.
2 معناه: أمن يشتري، وحسن حذف ألف الاستفهام لتقديم همزة ألا. وفي البيت حذف تقديره: بل من يبيت قرير عين هو السعيد، فحذف الخبر لدلالة أول الكلام عليه.
3 لاه: أراد الله وحذف لام الجر واللام الأخرى مع ألف الوصل، وهذا حذف كثير. ولكنه جاز في هذا الاسم خاصة لكثرة دوره على الألسنة. مثل قول الفراء:
لهنك من برق على كريم
أراد: والله إنك. انظر هذا الموضوع مفصلا في: "الروض الأنف بتحقيقنا ج1 ص43".
4 المقاول: يريد الأقيال، وهم الذين دون التبابعة واحدهم قيل وأصله قيل مثل سيد واستعمل بالياء في إفراده وجمعه، وإن كان أصله الواو؛ لأن معناه: الذي يقول ويسمع قوله.

 

ج / 1 ص -25-        قال ابن إسحاق: وقوله: لَبَابِ لَبَابِ: لا بأس لا بأس بلغة حِمْير. قال ابن هشام: ويروى: لِبابِ لِباب.
هلاك عمرو وتفرق حِمير:
قال ابن إسحاق: فلما نزل عمرو ابن تُبان اليمن مُنع منه النوم، وسُلط عليه السهر، فلما جهده ذلك سأل الأطباء والحُزاة من الكهان والعرافين عما به فقال له قائل منهم: إنه ما قتل رجل قط أخاه، أو ذا رَحمه بغيًا على مثل ما قَتلت أخاك عليه، إلا ذهب نومه، وسُلط عليه السهر، فلما قيل له ذلك جعل يقتل كل من أمره بقتل أخيه حسان من أشراف اليمن، حتى خلص إلى ذي رُعَيْن، فقال له ذو رُعَيْن: إن لي عندك براءة، فقال وما هي؟ قال: الكتاب الذي دفعتُ إليك، فأخرجه فإذا البيتان، فتركه، ورأى أنه قد نصحه وهلك عمرو، فمرج2 أمْر حمير عند ذلك وتفرقوا.
خبر لَخنيعة وذي نواس:
فوثب عليهم رجل من حِمْير لم يكن من بيوت المملكة، يقال له: لَخْنيعة3 ينوف ذو شَنَاتر4، فقتل خيارهم، وعبث ببيوت أهل المملكة منهم، فقال قائل من حمير للَخْنيعة:

تُقَتِّل أبنَاها وتنفى سَراتَها                     وتبني بأيديها لها الذلّ حميرُ

تُدَمِّر دنياها بطيشِ حلومِها                    وما ضَيَّعَتْ من دينها فَهْوَ أكثرُ

كذاك القرونُ قبلَ ذاك بظلمِها                  وإسرافِها تأتي الشرورَ فتخسَرُ

فسوق لخنيعة: وكان لَخْنيعة امرءًا فاسقًا يعمل عمل قوم لوط، فكان يرسل إلى الغلام من أبناء الملوك، فيقع عليه في مَشْرَبة له قد صنعها لذلك، لئلا يُمَلَّك بعدَ ذلك، ثم يَطْلُع من مشربته تلك إلى حرسه ومن حضر من جنده، قد أخذ مِسواكًا، فجعله في فيه، أي: فيعلمهم أنه قد فرغ منه، حتى بعث إلى زُرْعة ذي نُواس بن تُبان أسعد أخي حسان، وكان صبيًّا صغيرًا حين قُتل حسان، ثم شب غلامًا جميلًا وسيمًا ذا هيئة وعقل، فلما أتاه رسوله،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الحزاة: المنجمون.
2 مرج: اختلط.
3 قال ابن دريد: هو اللخع، وهو استرخاء الجسم.
4 الشناتر، الأصابع واحدها شُنتر.

 

ج / 1 ص -26-        عرف ما يريد منه، فأخذ سكينًا جديدًا لطيفًا، فخبأه بين قدمه ونعله، ثم أتاه، فلما خلا معه وثب إليه فواثبه ذو نُواس، فوجأه1 حتى قتله، ثم حزَّ رأسه، فوضعه في الكُوَّة التي كان يُشرف منها، ووضع مسواكه في فيه، ثم خرج على الناس، فقالوا له: ذا نواس أرطْب أم يَباس فقال: "سَلْ نَحْماس اسْترطُبان ذو نواس اسْترطُبان لا باس".
قال ابن هشام: هذا كلام حمير. ونحماس: الرأس. فنظروا إلى الكوة فإذا رأس لخنيعة مقطوع، فخرجوا في إثر ذي نواس حتى أدركوه، فقالوا: ما ينبغي أن يملكنا غيرك، إذ أرحتنا من هذا الخبيث.
ملك ذي نواس: فملَّكوه، واجتمعت عليه حمير وقبائل اليمن، فكان آخر ملوك حمير، وهو صاحب الأخدود، وتسمى: يوسف، فأقام في ملكه زمانًا.
سبب وجود النصرانية بنجران: وبنجران بقايا من أهل دين عيسى ابن مريم عليه السلام على الإنجيل. أهل فضل واستقامة من أهل دينهم، لهم رأس يقال له: عبد الله بن الثامر.
وكان موقع أصل ذلك الدين بنجران، وهي بأوسط أرض العرب في ذلك الزمان، وأهلها وسائر العرب كلها أهل أوثان يعبدونها، وذلك أن رجلا من بقايا أهل ذلك الدين يقال له: فَيْمِيون، وقع بين أظهرهم، فحملهم عليه، فدانوا به.
حديث فَيْمِيون2: قال ابن إسحاق: حدثني المغيرة بن أبي لبيد مولى الأخنس، عن وهب بن مُنَبِّه اليماني أنه حدثهم: أن موقع ذلك الدين بنجران كان أن رجلا من بقايا أهل ديِن عيسى ابن مريم يقال له فَيْمِيون، وكان رجلًا صالِحًا مجتهدًا زاهدًا في الدنيا، مُجاب الدعوة، وكان سائحًا ينزل بين القرى، لا يعرف بقرية إلا خرج منها إلى قرية لا يُعرف بها، وكان لا يأكل إلا من كسب يديه، وكان بنَّاء يعمل الطين، وكان يعظم الأحد، فإذا كان يوم الأحد لم يعمل فيه شيئًا. وخرج إلى فلاة من الأرض يصلي بها حتى يمسي. قال: وكان في قرية من قرى الشام

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وجأه: ضربه.
2 فيميون. وقال عنه السهيلي في الروض الأنف فيمثون. وذكر أن النقاش قال: إن اسمه يحيى، وكان أبوه ملكًا فتوفي، وأراد قومه أن يملكوه بعد أبيه، فنفر من الملك ولزم السياحة.

 

ج / 1 ص -27-        يعمل عمله ذلك مستخفيًا، ففطن لشأنه رجل من أهلها يقال له: صالح، فأحبه صالح حُبًّا لم يحبه شيئًا كان قبله. فكان يتبعه حيث ذهب، ولا يفطن له فَيْميون، حتى خرج مرة في يوم الأحد إلى فلاة من الأرض -كما كان يصنع-وقد أتبعه صالح، وفَيْمِيون لا يدري؛ فجلس صالح منه منظرَ العين مستخفيًا منه، لا يحب أن يُعلم بمكانه، وقام فيميون يصلي فبينما هو يصلي إذ أقبل نحوه التنين –الحية ذات الرءوس السبعة1– فلما رآها فَيْمِيون دعا عليها فماتت، ورآها صالح ولم يدر ما أصابها، فخافها عليه، فَعِيل عَوْلَه فصرخ: يا فَيْمِيون! التنين قد أقبل نحوك، فلم يلتفت إليه، وأقبل على صلاته حتى فرغ منها، وأمسى، فانصرف، وعرف أنه قد عُرف، وعَرف صالح أنه قد رأى مكانه، فقال له: يا فَيْمِيون! تعلم والله ما أحببت شيئًا قطُّ حبَّك وقد أردت صحبتك، والكينونة معك حيث كنت، فقال: ما شئتُ، أمري كما ترى، فإن علمت أنك تقوى عليه فنعم، فلزمه صالح، وقد كاد أهل القرية يفطنون لشأنه، وكان إذا فاجأه العبد به الضرُّ دعا له فشفي، وإذا دُعي إلى أحد به ضر لم يأته، وكان لرجل من أهل القرية ابن ضرير، فسأل عن شأن فَيْمِيون، فقيل له: إنه لا يأتى أحدًا دعاه، ولكنه رجل يعمل للناس البنيان بالأجْر، فعمد الرجل إلى ابنه ذلك، فوضعه في حجرته، وألقى عليه ثوبًا ثم جاءه فقال له: يا فيميون، إنى قد أردت أن أعمل في بيتي عملًا، فانطلق معي إليه حتى تنظر إليه فأشارطك عليه، فانطلق معه حتى دخل حجرته، ثم قال له: ما تريد أن تعمل في بيتك هذا؟ قال: كذا وكذا، ثم انتشط الرجلُ الثوبَ عن الصبى2، ثم قال له: يا فَيْمِيون، عبد من عباد الله أصابه ما ترى، فادعُ الله له؟ فدعا له فَيْمِيون؛ فقام الصبي ليس به بأس.
وعَرف فيميون أنه قد عُرِف، فخرج من القرية، واتبعه صالح، فبينما هو يمشي في بعض الشام إذ مر بشجرة عظيمة، فناداه منها رجل، فقال: يا فَيْمِيون! قال نعم. قال: ما زلت أنظرك، وأقول: متى هو جاء؟ حتى سمعت صوتك، فعرفت أنك هو، لا تبرحْ حتى تقوم عليَّ فإني ميت الآن. قال: فمات، وقام عليه حتى واراه، ثم انصرف، وتبعه صالح، حتى وطئا بعض أرض العرب، فعدُوا عليهما، فاختطفتهما سَيَّارةٌ من بعض العرب، فخرجوا بهما، حتى

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي القرون السبعة.
2 انتشط الثوب: رفعه بسرعة.

 

ج / 1 ص -28-        باعوهما بنجران، وأهل نجران يومئذ على دين العرب، يعبدون نخلةً طويلة بين أظهرِهم لها عيد في كل سنة، إذا كان ذلك العيد علقوا عليها كل ثوب حسن وجدوه، وحُليّ النساء، ثم خرجوا إليها، فعكفوا عليها يومًا.
فابتاع فَيْمِيونَ رجلٌ من أشرافهم، وابتاع صالحًا آخرُ، فكان فيمِيون إذا قام من الليل -يتهجد في بيت له أسكنه إياه سيده- يصلي، استسرج له البيتُ نورًا حتى يصبح من غير مصباح، فرأى ذلك سيده، فأعجبه ما يرى منه، فسأله عن دينه فأخبره به، وقال له فيميون: إنما أنتم في باطل، إن هذه النخلة لا تضر ولا تنفع، ولو دعوت عليها إلهي الذي أعبده، لأهلكها وهو الله وحده لا شريك له، قال: فقال له سيده: فافعل، فإنك إن فعلت دخلنا في دينك، وتركنا ما نحن عليه. قال فقام فَيْمِيون، فتطهر وصلى ركعتين، ثم دعا الله عليها، فأرسل الله عليها ريحًا فَجَعَفَتْها1 من أصلها فألقتها، فاتَّبعه عند ذلك أهل نجران على دينه، فحملهم على الشريعة من دين عيسى ابن مريم عليه السلام، ثم دخلت عليهم الأحداث التي دخلت على أهل دينهم بكل أرض، فمن هنالك كانت النصرانية بنجران في أرض العرب.
قال ابن إسحاق: فهذا حديث وهب بن مُنَبِّه عن أهل نجران.
خبر عبد الله بن الثامر
عبد الله بن الثامر والاسم الأعظم: قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي، وحدثني أيضًا بعض أهل نجران عن أهلها: أن أهل نجران كانوا أهل شرك يعبدون الأوثان، وكان في قرية من قراها قريبًا من نجران -ونجران: القرية العظمى التي إليها جماع أهل تلك البلاد- ساحر يعلم غلمان أهل نجران السحر، فلما نزلها فَيْمِيون -ولم يسموه لي باسمه الذي سماه به وهب بن منبه، قالوا: رجل نزلها- ابتنى خيمة بين نجران، وبين تلك القرية التي بها الساحر، فجعل أهل نجران يرسلون غلمانهم إلى ذلك الساحر، يعلمهم السحر، فبعث إليه الثامرُ ابنَه عبدَ الله بن الثامر مع غلمان أهل نجران، فكان إذا مر بصاحب الخيمة أعجبه ما يرى منه من صلاته وعبادته، فجعل يجلس إليه، ويسمع منه حتى أسلم فوحَّد

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جعفتها: أسقطتها.

 

ج / 1 ص -29-        الله وعبده، وجعل يسأله عن شرائع الإسلام حتى إذا فقه فيه، جعل يسأله عن الاسم الأعظم -وكان يعْلمُه- فكتمه إياه وقال له: يابن أخي! إنك لن تحملَه، أخشى عليك ضعفَك عنه. والثامر أبو عبد الله لا يظن إلا أن ابنَه يختلف إلى الساحر كما يختلف الغلمانُ، فلما رأى عبدُ الله أن صاحبَه قد ضَنَّ به عنه، وتخوَّف ضَعْفَه فيه، عمد إلى قِداح1 فجمعها، ثم لم يُبق للّه اسمًا يعلمه إلا كتبه في قِدْح، لكلِّ اسم قِدْح، حتى إذا أحصاها أوقد لها نارًا، ثم جعل يقذفها فيها قِدْحًا قِدْحًا، حتى إذا مر بالاسم الأعظم قذف فيها بِقدْحه، فوثب القِدْح حتى خرج منها لم تضره شيئًا، فأخذه ثم أتى صاحبه، فأخبره بأنه قد علم الاسم الذي كتمه، فقال: وما هو؟ قال: هو كذا وكذا، قال: وكيف علمته؟ فأخبره بما صنع، قال: أي ابنَ أخي! قد أصبته فأمسكْ على نفسِك، وما أظنُّ أن تفعلَ.
عبد الله بن الثامر يدعو إلى التوحيد: فجعل عبد الله بن الثامر إذا دخل نجران لم يلق أحدًا به ضر إلا قال: يا عبد الله، أتوحِّدُ الله، وتدخل في ديني، وأدعو الله، فيعافيك مما أنت فيه من البلاء؟ فيقول: نعم، فيوحد الله ويُسْلم، ويدعو له فيُشْفَى، حتى لم يبق بنجران أحد به ضُر إلا أتاه فاتَّبعه على أمره، ودعا له فعوفِيَ، حتى رفع شأنه إلى مَلك نجران، فدعاه فقال له: أفسدت عليَّ أهل قريتي، وخالفت ديني ودين آبائي، لأمثلنَّ بك. قال: لا تقدر على ذلك. قال: فجعل يُرسل به إلى الجبل الطويل، فيُطرَح على رأسه، فيقع إلى الأرض ليس به بأس، وجعل يبعث به إلى مياه بنجران، بحورٍ لا يقع فيها شيء إلا هلك، فيُلْقَى فيها، فيخرج ليس به بأس، فلما غلبه، قال له عبد الله بن الثامر: إنك والله لن تقدر على قتلي حتى توحد الله فتؤمن بما آمنتُ به، فإنك إن فعلت ذلك، سُلِّطْتَ عليَّ فقتلتنى، قال: فوحَّد الله تعالى ذلك الملك، وشهد شهادة عبد الله بن الثامر، ثم ضربه بعصا في يده، فشجه شجة غير كبيرة، فقتله ثم هلك الملك مكانه، واستجمع أهل نجران على دين عبد الله بن الثامر، وكان على ما جاء به عيسى ابن مريم من الإنجيل وحُكمه، ثم أصابهم مثل ما أصاب أهل دينهم من الأحداث، فمن هنالك كان أصل النصرانية بنجران -والله أعلم بذلك.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 القداح: السهام.

 

ج / 1 ص -30-        قال ابن إسحاق: فهذا حديث محمد بن كعب القُرَظيّ، وبعض أهل نجران عن عبد الله بن الثامر -والله أعلم أي ذلك كان.
ذو نواس يدعو أهل نجران إلى اليهودية: فسار إليهم ذو نواس بجنوده، فدعاهم إلى اليهودية، وخيرهم بين ذلك والقتل، فاختاروا القتل، فخدَّ لهم الأخدود1، فحرق من حرق بالنار، وقتل من قتل بالسيف، ومثَّل بهم، حتى قتل منهم قريبًا من عشرين ألفًا، ففي ذي نُواس وجنده تلك أنزل الله تعالى على رسوله سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم:
{قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ، النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ، إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ، وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ، وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}. [البروج: 4-8]
تفسير الأخدود: قال ابن هشام: الأخدود: الحَفْر المستطيل في الأرض، كالخندق والجدول ونحوه، وجمعه: أخاديد. قال ذو الرمة -واسمه: غَيْلان بن عُقبة، أحد بنى عَدِيِّ بن عبد مناف بن أد بن طابخة بن إلياس بن مُضر:

من العراقِيَّةِ اللاتي يُحيلُ لها                    بين الفَلَاةِ وبينَ النخلِ أخدودُ

يعنى: جدولا. وهذا البيت في قصيدة له. قال: ويقال لأثر السيف والسكين في الجلد، وأثر السوط ونحوه: أخدود، وجمعه أخاديد.
نهاية عبد الله بن الثامر: قال ابن إسحاق: ويقال: كان فيمن قَتَلَ ذو نواس، عبدَ الله بن الثامر رأسهم وإمامهم.
قال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عَمرو بن حزم أنه حُدث: أن رجلا من أهل نجران كان في زمان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حفرَ خَرِبة من خَرِب نجران لبعض حاجته، فوجدوا عبدَ الله بن الثامر تحت دَفْنٍ منها قاعدًا، واضعًا يده على

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 روى ابن سنجر عن جبير بن نفير قال: الذين خددوا الأخدود ثلاثة: تبع صاحب اليمن، وقسطنطين بن هلانى -وهي أمه- حين صرف النصارى عن التوحيد ودين المسيح إلى عبادة الصليب، وبختنصر من أهل بابل حين أمر الناس أن يسجدوا له، فامتنع دانيال وأصحابه، فألقاهم في النار، فكانت بردًا وسلامًا عليهم.

 

ج / 1 ص -31-        ضربة في رأسه، مُمسكا عليها بيده، فإن أخِّرت يدَه عنها تنبعث دما، وإذا أرسلت يده ردَّها عليها، فأمسكت دمَها، وفي يده خاتم مكتوب فيه: "ربي الله" فكتب فيه إلى عمر بن الخطاب يخبر بأمره فكتب إليهم عمرُ رضي الله عنه: أن أقروه على حاله وردوا عليه الدَّفْن الذي كان عليه، ففعلوا1.
فرار دوس ذي ثعلبان من ذي نواس واستنجاده بقيصر:
قال ابن إسحاق: وأفلت منهم رجل من سبأ. يقال له دَوْس ذو ثَعْلبان على فرس له، فسلك الرمل فأعجزهم، فمضى على وجهه ذلك، حتى أتى قيصر ملك الروم، فاستنصره على ذي نواس وجنوده، وأخبره بما بلغ منهم، فقال له: بعدت بلادك منا، ولكن سأكتب لك إلى ملك الحبشة فإنه على هذا الدين، وهو أقرب إلى بلادك، وكتب إليه يأمره بنصره والطلب بثأره.
النجاشي ينصر دوسًا: فقدم دوسٌ على النجاشي بكتاب قيصر، فبعث معه سبعين ألفًا من الحبشة وأمَّر عليهم رجلًا منهم يقال له: أرياط -ومعه في جنده أبرهة الأشرم- فركب أرياط البحر حتى نزل بساحل اليمن، ومعه دَوْس ذو ثَعْلبان.
نهاية ذي نواس: وسار إليه ذو نُواس في حِمْير، ومن أطاعه من قبائل اليمن، فلما التقوا انهزم ذو نواس وأصحابه، فلما رأى ذو نواس ما نزل به وبقومه، وجه فرسه في البحر، ثم ضربه، فدخل به فخاض به ضَحْضَاح2 البحر، حتى أفضى به إلى غَمْرِه3، فأدخله فيه،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يصدق ذلك قوله تعالى:
{وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ...} وما وجد من شهداء أحد وغيرهم على هذه الصورة لم يتغيروا بعد الدهور الطويلة، كحمزة بن عبد المطلب -رضي الله عنه- فإنه وجد حين حفر معاوية العين صحيحًا لم يتغير وأصابت الفأس أصبعه، فدميت. وكذلك أبو جابر عبد الله بن حرام، وعمرو بن الجموح. وطلحة بن عبيد الله، استخرجته بنته عائشة من قبره حين أمرها في المنام بنقله فاستخرجته من موضعه بعد ثلاثين سنة لم يتغير. وحدثني من لا أشك في قوله أنه رأى كثيرًا من الشهداء في حرب فلسطين لم يتغيروا بعد السنين الطويلة.
2 الضحضاح من الماء: الذي يظهر قعره.
3 الغمر: الماء الكثير.

 

ج / 1 ص -33-        وكان آخر العهد به. ودخل أرياط اليمن، فملكها1.
فقال رجل من أهل اليمن -وهو يذكر ما ساق إليهم دوس من أمر الحبشة:
"لا كَدَوْس ولا كأعلاقَ رَحْله"2.
فهي مثل باليمن إلى هذا اليوم.
قول ذي جدن الحميري في هذه القصة: وقال ذو جدن الحميري:

هونكِ3 ليس يردُّ الدمعَ ما فاتا               لا تهلكي أسفًا في إثْر من ماتَا

أبعدَ بَيْنون لا عين ولا أثرٌ                      وبعدَ سَلْحِين يبني الناسُ أبياتَا؟!

بينون وسلحين وغمدان: من حصون اليمن التي هدمها أرياط، ولم يكن في الناس مثلُها. وقال ذو جدن أيضًا:

دعينى-لا أبا لكِ -لن تطيقي4                 لحاكِ الله! قد أنزفْتِ ريقي5

لَدَى عَزفِ القيانِ إذ انتشينا                    وإذْ نُسقى من الخمرِ الرحيق6


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا ما ذكره ابن إسحاق وهناك رواية أخرى: أن ذا نواس أدخل الحبشة: صنعاء اليمن، حين رأى أن لا قبل له بهم، بعد أن استنفر جميع المقاول ليكونوا معه يدا واحدة عليهم فأبو إلا أن يحمي كل واحد منهم حوزته على حدته، فخرج إليهم ومعه مفاتيح خزانته وأمواله على أن يسالموه ومن معه، فكتبوا إلى النجاشي بذلك فقبل، ثم كتب ذو النواس إلى كل موضع ببلاده أن اقتلوا كل ثور أسود فقتل أكثر الحبشة فوجه النجاشي جيشًا إلى أبرهة وعليهم أرياط وأمره أن يقتل ذا نواس، ويخرب ثلث بلاده ويسبي ثلث النساء والذرية ففعل ذلك أبرهة.
2 الأعلاق: النفائس.
3 هونك: ترفقى، وقد روى عن ابن إسحاق من غير رواية ابن هشام: هونكما لن يرد. وهو من باب قول العرب للواحد: افعلا.
4 أي لن تطبقى صرفي بالعدل عن شأني.
5 أي أيبست ريقى في فمى، وقلة الريق من الحصر، وكثرته من قوة النفس وثبات الجأش.
6 الرحيق: الخالص.

 

ج / 1 ص -34-                                         فأصبح بعد جِدَّته رمادا          وغيَّر حسنَه لهبُ الحريق

وأسلَمَ ذو نُواس مُسْتَكينا                       وحذَّر قومَه ضَنْك المضيق

قول ربيعة ابن الذئبة الثقفي في هذه القصة: وقال عبد الله ابن الذئبة الثقفي في ذلك -قال ابن هشام: الذئبة أمه، واسمه: ربيعة ابن عَبْد ياليل بن سالم بن مالك بن حُطَيْط بن جُشَم بن قَسِيّ:

لَعَمْرك ما للفتى من مقر                   مع الموت يلحقه والكِبَر

لعَمرك ما للفتى صُحْرة                     لعمرك ما إنْ له من وزَر1

أبعْدَ قبائلَ مِنْ حِمْيَر                         أبيدوا صباحًا بذات العبَر2

بألفِ ألوفٍ وحُرَّابة                             كمثلِ السماء قُبَيْلِ المطر3

يُصِمُّ صياحُهم المقْربَات                     وينفون من قاتلوا بالذّفرْ4

سَعَالِيَ مثلُ عديد الترا                     ب تَيْبس منهم رطابُ الشجرْ5


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الصُّحرة: المتسع، أخذ من لفظ الصحراء. والوزر: الملجأ، ومنه اشتق الوزير لأن الملك يلجأ إلى رأيه. وقد قيل من الوزر؛ لأنه يحمل عن الملك أثقالا؛ لأن الوزر: الثقل.
2 ذات العَبَر: أي ذات الحزن، يقال: عَبَر الرجل إذا حزن، ويقال: لأمه العبر، كما يقال: لأمه الثُّكل.
3 الحُرَّابة: ذوو الحراب. وتوله كمثل السماء أي كسحاب لاسوداد السحاب وظلمته قبيل المطهر.
4 المقربات. الخيل العتاق التي لا تسرح في المراعي ولكن تحبس قرب البيوت معدة للعدو. والدفر: الرائحة الشديدة، أي ينفون من قاتلوا بريحهم وأنفاسهم، وهذا إفراط في وصفهم بالكثرة وقيل غير ذلك. انظر: "الروض الأنف بتحقيقنا ج1 ص 60".
5 سعالِيَ: الجن، والمفرد سِعلاة ويقال: بل هي الساحرة من الجن.

ج / 1 ص -35-        قول عمرو بن معدي كرب الزبيدي في هذه القصة: وقال عمرو بن مَعْدي كرب الزُّبيْدي1 في شيء كان بينه وبين قيس بن مكشوح المرَاديّ2، فبلغه أنه يتوعده، فقال يذكر حِمْير وعزها، وما زال من ملكها عنها:

أتوعِدني كأنك ذو رعين                          بأفضل عِيشةٍ أو ذو نُوَاس

وكائن كان قبلَك من نعيمٍ                       ومُلكٍ ثابتٍ في الناس راسي

قديمٍ عهده من عهد عاد                        عظيم قاهر الجبروت قاسي

فأمسى أهلُه بادوا، وأمسى                   يُحوَّل من أناسٍ

نسب زبيد ومراد: قال ابن هشام: زُبَيْد بن سلمة بن مازن بن مُنَبِّه بن صعب بن سعد العشيرة بن مَذْحِج. ويقال: زُبيد بن منبِّه بن صعب بن سعد العشيرة، ويقال: زُبيد بن صعب بن سعد. ومراد: يُحابِر بن مُذْحج.
لماذا قال عمرو بن معدي كرب هذا الشعر: قال ابن هشام: وحدثني أبو عبيدة قال: كتب عُمر بن الخطاب -رضي الله عنه- إلى سلْمان بن ربيعة الباهلي، وباهلة بن يعصر بن سعد بن قيس بن عيلان. وهو بأرْمينية يأمره أن يفضل أصحاب الخيل العِراب على أصحاب

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 عمرو بن معدي كرب -رضى الله عنه- صحابي، يكنى: أبا ثور تُضرب الأمثال بفروسيته وبسالته. ومعدي كرب بالحميرية: وجه الفَلَّاح، المعدي هو: الوجه بلغتهم، والكرب هو: الفلاح.
2 ليس من مراد، إنما هو حليف لها، واسم مراد: يحابر بن سعد للعشيرة بن مذحج، ونسبُه في بجيلة ثم في بني أحمس، وأبوه مكشوح اسمه: هبيرة بن هلال. ويقال: عبد يغوث بن هبيرة بن الحارث بن عمرو بن عامر بن علي بن أسلم بن أحمس بن الغوث بن أنمار، وأنمار هو: والد بجيلة وخثعم، وسُمي أبوه مكشوحًا؛ لأنه ضُرب بسيف على كَشْحه "وهو ما بين الخاصرة إلى الضلع الخلف"، ويكنى قيس: أبا شداد، وهو قاتل الأسود العنسي الكذاب هو وذَدَوَيه وفيروز، وكان قيس بطلا شجاعًا، قُتل مع علي -رضى الله عنه- يوم صفين، وله في ذلك اليوم مواقف لم يُسمع بمثلها، وكذلك له في حروب الشام مع الروم وقائع ومواقف لم يسمع بمثلها عن أحد بعد خالد بن الوليد.

 

ج / 1 ص -36-        الخيل المقارف1 في العطاء فعرض الخيل، فمر به فرس عمرو بن معدي كرب، فقال له سلمان: فرسك هذا مُقْرف، فغضب عمرو، وقال: هجين عرف هجينًا مثله، فوثب إليه قيس فتوعده، فقال عمرو هذه الأبيات.
تصديق قول شق وسطيح: قال ابن هشام: فهذا الذي عنى سطيح الكاهن بقوله: "ليهبطن أرْضَكُم الحبش، فليملُكُنَّ ما بين أبْيَن إلى جُرَش" والذي عنى شق الكاهن بقوله: "لينزلن أرضكم السودان، فليغلُبن على كل طَفلة البنان وليملُكن ما بين أبْيَن إلى نجران".
النزاع على اليمن بين أبرهة وأرياط:
قال ابن إسحاق: فأقام أرْيَاط بأرض اليمن سنين في سلطانه ذلك، ثم نازعه في أمر الحبشة باليمن أبرهة الحبشي، حتى تفرقت الحبشة عليهما، فانحاز إلى كل واحد منهما طائفة منهم، ثم سار أحدُهما إلى الآخر، فلما تقارب الناس أرسل أبرهةُ إلى أرياطَ: إنك لا تصنع بأن تلقى الحبشة بعضها ببعض، حتى تفنيها شيئًا، فابرز إليَّ، وأبرز إليك، فأينا أصاب صاحبَه انصرف إليه جندُه، فأرسل إليه أرياط: أنصفتَ؛ فخرج إليه أبرهة -وكان رجلًا قصيرًا لحيمًا، وكان ذا دين النصرانية -وخرج إليه أرياط وكان رجلًا جميلًا عظيمًا طويلًا، وفي يده حربة له وخلف أبرهة غلام له، يقال له: عَتْودَة2، يمنع ظهره، فرفع أرياطُ الحربة، فضرب أبرهة يريد يأفوخه، فوقعت الحربة على جبهة أبرهة، فشرمت حاجبه وأنفه وعينه وشفته، فبذلك سُمى: أبرهة الأشرم، وحمل عَتْوَدة على أرياط من خلف أبرهة فقتله، وانصرف جندُ أرياط إلى أبرهة فاجتمعت عليه الحبشة باليمن، وَوَدَى3 أبرهةُ أرياطَ.
غضب النجاشي على أبرهة: فلما بلغ النجاشي غضب غضبًا شديدًا وقال: عدا على أميري فقتله بغير أمري، ثم حلف: لا يدع أبرهة حتى يطأ بلاده، ويجز ناصيته. فحلق أبرهة رأسَه

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المقارف: جمع مقرف الذى دانى الهجنة، وهو الذي أمه عربية وأبوه ليس بعربي فالإقراف من جهة الأب والهجنة من جهة الأم. انظر ذلك مفصلًا في الصحاح للجوهري مادة قرف.
2 العتودة: الشدة في الحرب.
3 وداه: تحمل ديته.

 

ج / 1 ص -37-        وملأ جرابًا من تراب اليمن، ثم بعث به إلى النجاشي، ثم كتب إليه:
"أيها الملك، إنما كان أرْياطُ عبدَك، وأنا عبدُك، فاختلفنا في أمرِك، وكل طاعتُه لك، إلا أني كنت أقوى على أمر الحبشة وأضبط لها، وأسوس منه، وقد حلقت رأسي كله حين بلغني قسم الملك، وبعثت إليه بجراب تراب من أرض، ليضعه تحت قدميه، فيبرّ قسمَه فيَّ".
فلما انتهى ذلك إلى النجاشي رضي عنه، وكتب إليه: أن اثبت بأرض اليمن حتى يأتيك أمري، فأقام أبرهة باليمن.
"القليس" أو كنيسة أبرهة: ثم إن أبرهة بنى القُلَّيْسَ1 بصنعاء، فبنى كنيسة لم يُر مثلُها في زمانها بشيء من الأرض، ثم كتب إلى النجاشي: أني قد بنيت لك أيها الملك كنيسةً لم يُبْنَ مثلُها لملك كان قبلك، ولست بمنتهٍ حتى أصرفَ إليها حج العرب، فلما تحدثت العرب بكتاب أبرهة ذلك إلى النجاشي، غضب رجل من النَّسأة، أحد بني فُقَيْم بن عديّ بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة بن خُزَيمة بن مُدْرِكة بن إلياس بن مضر.
النسأة: والنسأة: الذين كانوا ينسئون الشهور على العرب في الجاهلية، فيحلُّون الشهر من الأشهر الحرم، ويحرمون مكانَه الشهرَ من أشهرِ الحل، ليواطئوا عدةَ ما حرَّم الله. ويؤخرون ذلك الشهر، ففيه أنزل الله تبارك وتعالى:
{إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ}.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهي الكنيسة التي أراد أبرهة أن يصرف حج العرب إليها وسميت بهذا الاسم لارتفاع بنائها وعلوها، ومنه أخذت القلانس لأنها تعلو الرأس، ويقال: تقلنس الرجل إذا لبس القلنسوة، وقلس طعامًا أي: ارتفع من معدته إلى فيه، وكان أبرهة قد استذل أهل اليمن في بنيان هذه الكنيسة وجشمهم أنواعًا من السخر، وكان ينقل إليها العدد من الرخام المجزع والحجارة المنقوشة بالذب من قصر بلقيس صاحبة سليمان -عليه السلام- وكان من موضع الكنيسة على فراسخ وكان فيه بقايا من آثار مُلكها، وكان أراد أن يرفع في بنائها حتى يَشرُف منها على عدن، ونصب فيها صلبانًا من الذهب والفضة ومنابر من العاج والأبنوس. وكان حكمه في العامل إذا طلعت عليه الشمس قبل أن يأخذ في عمله أن يقطع يده، فنام رجل منهم ذات يوم، حتى طلعت الشمس، فجاءت معه أمه، وهي امرأة عجوز، فتضرعت إليه تستشفع لابنها، فأبى إلا أن يقطع يده، فقالت: اضرب بمعولك اليوم، فاليوم لك، وغدًا لغيرك. انظر قصة هذه الكنيسة مفصلة في: "الروض الأنف بتحقيقنا جـ1 ص 63".

 

ج / 1 ص -38-        قال ابن هشام: ليوافقوا، والمواطأة: الموافقة، تقول العرب: واطأتُك على هذا الأمر، أي وافقتك عليه، والإيطاء في الشعر: الموافقة، وهو اتفاق القافيتين من لفظ واحد وجنس واحد، نحو قول العَجّاج -واسم العَجاج1: عبد الله بن رُؤبة أحد بني سعد بن زيد مَناة بن تميم ابن مُر بن أدّ بن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار.

في أثْعبان المَنْجَنون المرسَل2

ثم قال:

مدّ الخليجِ في الخليجِ المرْسَل

وهذان البيتان في أرجوزة له.
أول من ابتدع النسيء: قال ابن إسحاق: وكان أول من نسأ الشهور على العرب، فأحلت منها ما أحلّ، وحرمت منها ما حرم القَلمس3، وهو حُذَيفة بن عبد بن فُقَيْم بن عدى بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة بن خُزَيمة، ثم قام بعده على ذلك ابنه عباد بن حذيفة، ثم قام بعد عباد: قَلَع بن عبَّاد، ثم قام بعد قَلَع: أمية بن قلع، ثم قام بعد أمية: عَوف بن أمية، ثم قام بعد عَوْف: أبو ثُمامة، جُنَادة بن. عَوْف، وكان آخرهم، وعليه قام الإسلام4، وكانت العرب إذا فرغت من حجها اجتمعت إليه، فحرم الأشهر الحرم الأربعة: رجبًا، وذا القعدة، وذا الحجة، والمحرم. فإذا أراد أن يحل شيئًا أحلَّ المحرم فأحلوه وحرم مكانه صفر

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وكنيته: أبو الشعثاء وسُمي العجاج بقوله: "حتى يعج عندها من عججا" المرجع السابق ص 65.
2 الأثعبان: ما يندفع من الماء من مثعبه، والمثعب: المجرى. والمنجنون: الدولاب التي يستقى عليها، نفس المرجع هامش صفحة62.
3 وسمي القلمس لجوده، إذ إنه من أسماء البحر.
4 وجد السهيلي خبرًا عن إسلام أبي ثمامة فقد حضر الحج في زمن عمر، فرأى الناس يزدحمون على الحج فنادى: أيها الناس، إني قد أجرته منكم فخفقه عمر بالدرة وقال: ويحك، إن الله أبطل أمر الجاهلية.

 

ج / 1 ص -39-        فحرَّموه؛ ليواطئوا عدَّةَ الأربعة الأشهر الحُرُم. فإذا أرادوا الصَّدَر1 قام فيهم فقال: "اللهم إني قد أحللت لك أحد الصَّفرَيْن، الصفر الأول، ونسأت الآخرَ للعام المقبل2" فقال في ذلك عُمَيْر بن قَيْس، جِذْل الطَّعان3، أحدُ بني فراس بن غَنْم بن ثعلبة بن بالك بن كنانة، يفخر بالنَّسأة على العرب:

لقد علمتْ مَعَد أن قومي                       كرامُ الناسِ أنّ لهم كِرَامَا4

فأيّ الناسِ فاتونا بوِتْر                            وأيّ الناسِ لم نُعْلِكْ لجاما5

ألسْنا النَّاسئين على مَعد                     شهورَ الحِلِّ نجعلها حَرامًا؟


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الصدر هنا: الرجوع من الحج.
2 وأما نَسَؤُهُم فكان على ضربين، أحدهما: ما ذكر ابن إسحاق من تأخير شهر المحرم إلى صفر لحاجتهم إلى شن الغارات وطلب الثارات. والثاني: تأخيرهم الحج عن وقته تحريًا منهم للسنة الشمسية، فكانوا يؤخرونه في كل عام أحد عشر يومًا أو أكثر قليلا، حتى يدور الدور إلى ثلاث وثلاثين سنة، فيعود إلى وقته، ولذلك قال عليه السلام في حجة الوداع:
"إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السمواتِ والأرض" وكانت حجة الوداع في السنة التي عاد فيها الحج إلى وقته، ولم يحج رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- من المدينة إلى مكة غير تلك الحجة، وذلك لإخراج الكفار الحج عن وقته، ولطوافهم بالبيت عراة -والله أعلم- إذ كانت مكة بحكمهم، حتى فتحها الله على نبيه -صلى الله عليه وسلم.
3 وكان عُمير من أطول الناس، وسمي جذل الطعان لثباته في الحرب كأنه جذل شجرة واقف، وقيل: لأنه كان يُستَشفَى برأيه، ويُسْتَراح إليه، كما تستريح البهيمة الجرباء إلى الجذل "وهو عود ينصب للبُهم الجرباء لتحتك به".
4 أي: آباءً كرامًا وأخلاقًا كرامًا.
5 أي: لم نقدعهم ونكفهم، كما يقدع الفرس باللجام. تقول: أعلكت الفرس لجامه: إذا رددته عن تنزعه، فمضغ اللجام كالعلك من نشاطه، فهو مقدوع.

 

ج / 1 ص -40-        قال ابن هشام: أول الأشهر الحرم: المحرَّم1.
الكناني يحدث في القليس: قال ابن إسحاق: فخرج الكنانيُّ حتى أتى القلَّيْس فقعد2 فيها -قال ابن هشام: يعني أحدث فيها- قال ابن إسحاق: ثم خرج فلحق بأرضه، فأخبر بذلك أبرهة فقال: من صنع هذا؟ فقيل له: صنع هذا رجل من العرب من أهل هذا البيت الذي تحج العربُ إليه بمكة لما سمع قولك: "أصرف إليها حج العرب" غضب فجاء، فقعد فيها، أي أنها ليست لذلك بأهْل.
خروج أبرهة لهدم الكعبة: فغضب عند ذلك أبرهة وحلف: ليسيرنَّ إلى البيت حتى يهدمَه، ثم أمر الحبشة فتهيأت وتجهَّزت، ثم سار وخرج معه بالفيل، وسمعت بذلك العرب فأعظموه وفَظِعوا به، ورأوا جهاده حقا عليهم، حين سمعوا بأنه يريد هدم الكعبة، بيت الله الحرام.
أشراف اليمن يدافعون عن البيت: فخرج إليه رجل من أشراف أهل اليمن وملوكهم يقال له: ذو نَفْر، فدعا قومه، ومن أجابه من سائر العرب إلى حرب أبرهة، وجهاده عن بيت الله الحرام، وما يريد من هدمه وإخرابه، فأجابه إلى ذلك من أجابه، ثم عرض له فقاتله، فَهُزم ذو نَفْر وأصحابه، وأخذ له ذو نَفْر، فأتى به أسيرًا، فلما أراد قتله، قال له ذو نَفْر: أيها الملك، لا تقتلني فإنه عسى أن يكون بقائي معك خيرًا لك من قتلي، فتركه من القتل، وحبسه عنده في وثاق، وكان أبرهة رجلًا حليمًا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وقال غير ابن هشام: إن أولها ذو القعدة لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بدأ به حين ذكر الأشهر الحُرم، ومن قال المحرم أولها، احتج بأنه أول السنة. وتظهر فائدة هذا الخلاف فيمن نذر صيام الأشهر الحرم. فيقال له على الأول: ابدأ بالمحرم، ثم رجب، ثم ذي القعدة، وذي الحجة. وعلى القول الآخر: يبدأ بذي القعدة حتى يكون آخر صيامه في رجب من العام الثاني.
2 قعد: أي أحدث فيها -وهذا شاهد لقول مالك وغيره من الفقهاء في تفسير القعود على المقابر المنهي عنه.

 

ج / 1 ص -41-        خثعم تجاهد أبرهة: ثم مضى أبرهة على وجهه ذلك يريد ما خرج له، حتى إذا كان بأرض خَثْعَم1 عَرَض له نُفَيْل بن حبيب الخَثْعمي في قَبيلَيْ خَثْعَم: شَهْران ونَاهِس2، ومن تبعه من قبائل العرب، فقاتله فهزمه أبرهة، وأخذ له نُفَيْل أسيرًا، فأتى به، فلما همَّ بقتله قال له نُفَيْل: أيها الملك، لا تقتلني فإني دليلك بأرض العرب، وهاتان يداي لك على قبيلي خَثْعم: شَهْران وناهس بالسمع والطاعة، فخلى سبيلَه.
وخرج به معه يدلُّه، حتى إذا مرّ بالطائف خرج إليه مسعود بن مُعَتِّب بن مالك بن كعب بن عَمرو بن سعد بن عَوْف بن ثقيف في رجال ثقيف.
نسب ثقيف3: واسم ثَقِيف: قَسِيُّ بنُ النَّبيت بن منبه بن منصور بن يَقْدُم بن أفْصَى بن دُعْمىّ بن إياد بن نزار بن معدّ بن عدنان.
قال أمية بن أبى الصَّلْت الثقفي4:

قومى إياد لو أنهمْ أمَم                          أو لو أقاموا فتُهْزَل النَّعَمُ5

قوم لهم ساحةُ العراقِ إذا                     ساروا جميعًا والقطّ والقَلم6


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 خثعم: اسم جبل سمي به بنو عِفرس بن خلف بن أفتل بن أنمار؛ لأنهم نزلوا عنده، وقيل: إنهم تخثعموا بالدم عند حلف عقدوه بينهم أي تلطخوا.
2 يقال إن خثعم ثلاث: شهران وناهس وأكلب غير أن أكلب عند أهل النسب هو: ابن ربيعة بن نزار، ولكنهم دخلوا في خثعم، وانتسبوا إليهم.
3 اختلف النسابون في نسب ثقيف فبعضهم ينسبهم إلى إياد، والبعض إلى قيس وقد نسبوهم إلى ثمود أيضًا. وفي حديث رواه معمر بن راشد في جامعه: "أن أبا رغال من ثمود". انظر: "الروض الأنف من تحقيقنا ج1 ص 66، 67".
4 واسم أبي الصلت: ربيعة بن وهب.
5 الأمم: القريب. أو لو أقاموا: أي بالحجاز لأنهم انتقلوا عنها حين ضاقت عن مسارحهم فصاروا إلى ريف العراق.
6 القط: ما قُط من الكاغد والرق -الكاغد: القرطاس، والرق: جلد رقيق يُكتب فيه. وما قط: أي ما قطع– ونحوه؛ وذلك أن الكتابة كانت في تلك البلاد التي ساروا إليها وقد قيل لقريش: ممن تعلمتم القط؟ فقالوا: تعلمناه من أهل الحيرة، وتعلمه أهل الحيرة من أهل الأنبار.

 

ج / 1 ص -42-        وقال أمية بن أبى الصَّلْت أيضًا:

فإمَّا تَسْألي عني لُبَيْنَى                       وعن نسبي أخَبِّرْك اليقينا

فإنا للنَّبيتِ أبي قَسِي                          لمنصورِ بنِ يَقْدُمَ الأقدمينا

قال ابن هشام: ثقيف: قَسِيُّ بن مُنبه بن بكر بن هَوازن بن منصور بن عِكرمة بن خَصَفَة بن قَيْس بن عَيْلان بن مُضَر بن نزار بن معد بن عدنان، والبيتان الأوَّلان والآخران في قصيدتين لأمية.
ثقيف تهادن أبرهة: قال ابن إسحاق، فقالوا له: أيها الملك، إنما نحن عبيدُك سامعون لك مطيعون، ليس عندنا لك خلاف، وليس بيتنا هذا البيت الذي تريد -يعنون اللات- إنما نريد البيت الذي بمكة، ونحن نبعث معك من يدلك عليه، فتجاوز عنهم.
اللات: واللات: بيت لهم بالطائف كانوا يعظمونه نحو تعظيم الكعبة.
قال ابن هشام: أنشدني أبو عبيدة النحوي لضرار بن الخطاب الفِهْرِي:

وفَرَّت ثقيف إلي لأنها                          بمُنْقَلَب الخائبِ الخاسِر

وهذا البيت في أبيات له.
أبو رغال ورجم قبره: قال ابن إسحاق: فبعثوا معه أبا رغال يدلُّه على الطريق إلى مكة فخرج أبرهة ومعه أبو رغال حتى أنزله المُغَمِّس1، فلما أنزله به مات أبو رغال هناك، فرجمت قبرَه العربُ، فهو القبر الذي يرجم الناس بالمغمِّس.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المغمس: هكذا ألفيته في نسخة الشيخ أبي بحر المقيدة على أبي الوليد القاضي بفتح الميم الآخرة من المغَمس. وذكر البكري في كتاب المعجم أنه المُغمس بكسر الميم الآخرة، وأنه أصح ما قيل فيه، وذكر أيضًا أنه يُروَى بالفتح، فعلى رواية الكسر هو: مغمِّس مفعل من غمست، كأنه اشتق من الغميس وهو الغمير، وهو النبات الأخضر الذي ينبت في الخريف تحت اليابس، يقال: غمس المكان وغمر إذا نبت فيه ذلك، وأما على رواية الفتح، فكأنه من غمست الشيء. إذا غطيته، وذلك أنه مكان مستور إما بهضاب وإما بعضاه -كل شجر له شوك- وإنما قلنا هذا؛ لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "إذا كان بمكة، كان إذا أراد حاجة الإنسان خرج إلى المغمس"، وهو على ثلث فرسخ من مكة.
أما على رواية كسر الميم الثانية بزنة اسم الفاعل فهو مشتق من الغميس وهو الغمير "نبات أخضر ينبت في الخريف".

 

ج / 1 ص -43-        الأسْود بن مقصود يهاجم مكة: فلما نزل أبرهة المغَمَّس، بعث رجلا من الحبشة يقال له: الأسْوَد بن مقصود1 على خيل له، حتى انتهى إلى مكة، فساق إليه أموالَ تِهامة من قريش وغيرهم وأصاب فيها مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم، وهو يومئذ كبير قريش وسيدها، فهمت قريش وكنانة وهُذَيل ومن كان بذلك الحرم بقتاله، ثم عرفوا أنهم لا طاقة لهم به، فتركوا ذلك.
رسول أبرهة إلى مكة: وبعث أبرهة حباطة الحميريّ إلى مكة، وقال له: سَلْ عن سيد أهل هذا البلد وشريفها، ثم قل له: إن الملك يقول لك: إني لم آت لحربكم، إنما جئت لهدم هذا البيت، فإن لم تتعرضوا دونه بحرب، فلا حاجة لي بدمائكم، فإن هو لم يُرِدْ حربي فأتني به؛ فلما دخل حباطة مكة، سال عن سيد قريش وشريفها، فقيل له: عبد المطلب بن هاشم، فجاءه. فقال له ما أمره به أبرهة، فقال له عبد المطلب: والله ما نريد حربه، وما لنا بذلك من طاقة، هذا بيت الله الحرام وبيت خليله إبراهيم عليه السلام -أو كما قال– فإن يمنعه منه، فهو بيته وحرمه، وإن يخل بينه وبينه، فوالله ما عندنا دَفْع عنه. فقال له حباطة: فانطلق معي إليه، فإنه قد أمرني أن آتيه بك.
أنيس يشفع لعبد المطلب: فانطلق معه عبد المطلب، ومعه بعض بنيه، حتى أتى العسكر، فسأل عن ذي نَفر، وكان له صديقا، حتى دخل عليه وهو في محبسه، فقال له: يا ذا نَفْر هل عندك من غَناء فيما نزل بنا؟ فقال له ذو نَفْر: وما غَناء رجل أسير بيدَيْ ملك ينتظر أن يقتله غُدوًّا أو عشيًّا؟! ما عندنا غَناء في شيء مما نزل بك، إلا أن أنَيْسا سائس الفيل صديق لي، وسأرسل إليه فأوصيه بك، وأعْظم عليه حقك، وأسأله أن يستأذن لك على الملك، فتكلمه بما بدا لك، ويشبع لك عنده بخير إن قدر على ذلك. فقال: حسبي. فبعث ذو نَفْر إلى أنَيْس، فقال له: إن عبد المطلب سيد قريش، وصاحب عِير مكة، يطعم الناس بالسَّهل، والوحوش في رءوس

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو الأسود بن مقصود بن الحارث بن منبه بن مالك بن كعب بن الحارث بن كعب بن عمرو بن علة. ويقال فيه: عُلَة على وزن عمر -ابن خالد بن مذحج بعثه النجاشى مع الفيلة والجيش، وكانت الفيلة ثلاثة عشر فيلًا هلكت كلها إلا "محمود" فيل النجاشي لامتناعه عن التوجه إلى الكعبة.

 

ج / 1 ص -44-                                                                                                                            الجبال، وقد أصاب له الملك مائتي بعير، فاستأذن عليه، وانفعه عنده بما استطعت، فقال: أفعل.
فكلّم أنَيْس أبرهةَ، فقال له: أيها الملك: هذا سيد قريش ببابك يستأذن عليك، وهو صاحب عير مكة، وهو يُطعم الناس في السهل، والوحوش في رءوس الجبال، فأذنْ له عليك فيكلمْك في حاجته، قال: فأذن له أبرهة.
الِإبل لي والبيت له رب يحميه: قال: وكان عبد المطلب أوسمَ الناسِ وأجملهم وأعظمهم فلما رآه أبرهة أجلَّه وأعظمه وأكرمه عن أن يجلسه تحتَه، وكره أن تراه الحبشةُ يجلس معه على سرير ملكه، فنزل أبرهةُ عن سريره، فجلس على بساطه، وأجلسه معه عليه إلى جنبه، ثم قال لترجمانه: قل له: حاجتك؟ فقال له ذلك الترجمان. فقال: حاجتي أن يرد عليَّ الملك مائتي بعير أصابها لي، فلما قال به ذلك، قال أبرهةُ لترجمانه: قل له: قد كنت أعجبتني حين رأيتُك، ثم زهدتُ فيك حين كلمتني، أتكلمني في مائتي بعير أصبتُها لك، وتترك بيتًا هو دينُك ودينُ آبائك قد جئتُ لهدمه، لا تكلمني فيه؟! قال له عبد المطلب: إني أنا رب الإبل وإن للبيت ربًّا سيمنعه، قال: ما كان ليمتنع مني، قال: أنت وذاك.
الوفد المرافق لعبد المطلب: وكان -فيما يزعمُ بعضُ أهل العلم- قد ذهب مع عبد المطلب إلى أبرهة، حين بعث إليه حباطة، يَعْمَر بنُ نُفاثة بن عدي بن الدُّئل بن بكر بن مناة بن كنانة -وهو يومئذ سيد بني بكر- وخُوَيلد بن واثلة الهذلي -وهو يومئذ سيد هذيل- فعرضوا على أبرهة ثلثَ أموالِ تهامة، على أن يرجع عنهم، ولا يهدم البيت، فأبى عليهم. والله أعلم أكان ذلك، أم لا. فردَّ أبرهةُ على عبد المطلب الِإبلَ التي أصاب له.
قريش تستنصر الله على أبرهة: فلما انصرفوا عنه، انصرف عبد المطلب إلى قريش، فأخبرهم الخبر، وأمرهم بالخروج من مكة، والتحرُّز1 في شَعَفِ الجبال2 والشِّعاب3

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 التحرر: التمنع.
2 شعف الجبال: رءوسها.
3 الشعاب: المواضع الخفية بين الجبال.

ج / 1 ص -45-        تخوفا عليهم من مَعَرَّة1 الجيش، ثم قام عبد المطلب، فأخذ بحلْقة باب الكعبة، وقام معه نفر من قريش يدعون الله، ويستنصرونه على أبرهة وجندِه، فقال عبد المطلب وهو آخذ بحلقة باب الكعبة:

لاهُمَّ إن العبدَ يمـ                             ـنعُ رحلَه فامنعْ حلالَكْ2

لا يَغْلِبَنَّ صليبُهم                              ومِحَالُهم غَدْوًا مِحَالَكْ3

إن كنتَ تاركَهم وقِبـ                          ـلتنا فأمْر مَا بَدَا لَكْ4

قال ابن هشام: هذا ما صح له منها.
عكرمة بن عامر يدعو على الأسود: قال ابنُ إسحاق: وقال عِكْرمة بنُ عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قُصَي:

لاهُمَّ أخزِ الأسوَدَ بنَ مقصودْ                     الآخذَ الهجْمةَ فيها التقليد5


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 معرة الجيش: شدته.
2 لاهمّ: أصلها: اللهم. والعرب تحذف منها الألف واللام. وكذلك تقول في: والله إنك: "لاهنك" وذلك لكثرة دور هذا الاسم على الألسنة. بل قد قالوا فيما هو دونه في الاستعمال. "أجنك" أي: "من أجل أنك". والحلال في هذا البيت: الحلول في المكان والحلال مركب من مراكب النساء والحلال أيضًا: متاع البيت وجائز أن يستعيره منها.
3 غدوًا: غدا، والمحال: القوة والشدة.
4 روى السهيلى بعد هذا البيت بيتًا آخر هو:

وانصر على آلِ الصليبِ                                   وعابديه اليومَ آلك

5 الهجمة: هو ما بين التسعين إلى المائة من الإبل، والمائة منها: هُنَيد، والمائتان: هِند. والثلاثمائة أمامة. وأنشدوا:

تبين رويدًا ما أمامة من هند

وكان اشتقاق الهجمة من الهجيمة، وهو الثخين من اللبن؛ لأنه لما كثر لبنها لكثرتها، لم يمزج بماء، وشُرب صرفًا ثخينًا، ويقال للقدح الذي يحلب فيه إذا كان كبيرًا: هجم. والتقليد: أي أن القلائد في أعناقها.

 

ج / 1 ص -46-                                    بينَ حِراءَ وثبير فالْبِيدْ     يَحْبِسها وهي أولاتُ التّطْريدْ1

فضَمَّها إلى طماطِمٍ سودْ                   أخْفِره يا ربِّ وأنت محمود2

قال ابن هشام: هذا ما صح له منها، والطماطم: الأعلاج3.
قال ابن إسحاق. ثم أرسل عبد المطلب حلقة باب الكعبة، وانطلق هو ومن معه من قريش إلى شَعَف الجبال فتحرَّزوا فيها ينتظرون ما أبرهة فاعل بمكة إذا دخلها.
أبرهة يهاجم الكعبة: فلما أصبح أبرهة تهيَّأ لدخول مكة، وهيأ فيلَه، وعبَّى4 جيشَه -وكان اسمُ الفيل محمودًا- وأبرهة مُجْمِع لهدم البيت، ثم الانصراف إلى اليمن. فلما وجهوا الفيل إلى مكة، أقبل نُفَيل بن حبيب5 حتى قام إلى جنب الفيل ثم أخذه بأذنه، فقال: ابركْ6 محمود، أو ارجع راشدًا من حيث جئت، فإنك في بلد الله الحرام، ثم أرسل أذنه. فبرك الفيل، وخرج نُفَيْل بن حبيب يشتد حتى أصْعَد في الجبل، وضربوا الفيل ليقوم فأبى، فضربوا في رأسه بالطَّبَرْزين7،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 حراء وثبير: جبلان بالحجاز.
2 أخْفِرْه: أي انقض عزمه وعهده فلا تؤمنه.
3 الأعلاج: جمع علج -الرجل من كفار العجم.
4 يقال: عبّى الجيش بغير همزة وعبأ المتاع بالهمزة، وقد حكي عبات الجيش بالهمز وهو قليل.
5 وقيل هو نفيل بن عبد الله بن جَزء بن عامر بن مالك بن واهب بن جليحة بن أكلب بن ربيعة بن عفرس بن جلف بن أفتل، وهو: خثعم، كذلك نسبه البرقي. ونفيل من المسمين بالنبات وهو تصغير نفل وهو نبت منبسط على الأرض.
6 الفيل لا يبرك، فيحتمل أن يكون بروكه: سقوطه إلى الأرض، لما جاءه من أمر الله سبحانه، ويحتمل أن يكون فَعَل فِعل البارك الذي يلزم موضعه، ولا يبرح، فعبر بالبروك عن ذلك، وقد سمعت من يقول: إن في الفيلة صنفًا منها يبرك كما يبرك الجمل.
7 الطبرزين: آلة من الحديد.

ج / 1 ص -47-        ليقوم فأبى، فأدخلوا محاجَن1 لهم في مَرَاقِّه2 فبزغوه3 بها ليقوم فأبى، فوجهوه راجعًا إلى اليمن فقام يهرول، ووجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى مكة فبرك.
عقاب الله لأبرهة وجنده: فأرسل الله تعالى عليهم طيرًا من البحر أمثال الخطاطيف والبَلَسان4: مع كل طائر منها ثلاثة أحجار يحملها: حجر في منقاره، وحجران في رجليه، أمثال الحمص والعَدَس5 لا تصيب منهم أحدًا إلا هلك، -وليس كلهم أصابت- وخرجوا هاربين يبتدرون الطريق الذي منه جاءوا، ويسألون عن نُفَيْل بن حَبيب، ليدلهم على الطريق إلى اليمن، فقال نُفَيل حين رأى ما أنزل الله بهم من نقمته:
أين المفرُّ والِإلهُ الطالبُ
والأشرمُ المغلوبُ ليس الغالب
قال ابن هشام: قوله: "ليس الغالب" عن غير ابن إسحاق.
قال ابن إسحاق: وقال نفيل أيضًا:

ألا حُيِّيتِ عنا يا رُدَيْنَا                            نعمناكم مع الِإصباحِ عينَا6

رُدَيْنةُ لو رأيتِ -ولا ترَيْه                          لذي جَنْب المُحصَّبِ ما رأينا

إذًا لعذرتِني وحمدْتِ أمري                     ولم تأسَيْ على ما فات بَيْنا

حَمِدْت الله إذ أبصرتُ طيرًا                      وخِفْتُ حجارةً تُلْقَى علينا

وكلّ القوم يسأل عن نُفَيل                     كأن عَلَيّ للحُبْشانِ دَيْنَا


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المحاجن: جمع محجن -عصا معوجٌة.
2 المراق: أسفل البطن.
3 بزغوه: أدموه.
4 الخطاطيف والبلسان: نوعان من الطيور.
5 في الشكل فقط وليس في المقدار إذ ذكر البرقي أن ابن عباس قال: أصغر الحجارة كرأس الإنسان، وكبارها كالإبل. وهذا الذي ذكره البرقي ذكره ابن إسحاق في رواية يونس عنه، وكانت قصة الفيل أول محرم من سنة اثنتين وثمانين وثمانمائة من تاريخ ذي القرنين.
6 ردينا: اسم امرأة، كأنها سميت بتصغير ردنة وهي القطعة من الردن "الحرير" نعمناكم: أن نعمنا بكم.

 

ج / 1 ص -48-        فخرجوا يتساقطون بكل طريق، ويهلِكون بكلِّ مَهْلِك على كل مَنْهل، وأصيب أبرهة في جسده، وخرجوا به معهمٍ يسقط أنْملة أنْملة1: كلما سقطت أنْملة، أتبعتها منه مده تَمُثُّ2 قيحًا ودمًا، حتى قدموا به صنعاء وهو مثل فَرْخ الطائر، فما مات حتى انصدع صدرهُ عن قلبه، فيما يزعُمون.
قال ابن إسحاق: حدثني يعقوب بن عُتبة أنه حُدِّث: أن أولَ ما رُؤيت الحصبةُ والجُدَرِي بأرض العرب ذلك العام، وأنه أول ما رُؤي بها مرائر الشجر: الحرمل والحنظل والعُشَر ذلك العام.
الله -جل جلاله- يذكر حادثة الفيل ويمتن على قريش:
قال ابن إسحاق: فلما بعث الله تعالى محمدًا -صلى الله عليه وسلم- كان مما يَعُدُّ الله على قريش من نعمته عليهم وفضله، ما رد عنهم من أمر الحبشة لبقاء أمرهم ومدتهم، فقال الله تبارك وتعالى:
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ، أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ، وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ، تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ، فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل: 1-5] وقال: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ، إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ، الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش: 1-4] أي لئلا يغير شيئًا من حالهم التي كانوا عليها، لما أراد الله بهم من الخير لو قبلوه.
تفسير مفردات سورتي الفيل وقريش: قال ابن، هشام: الأبابيل الجماعات، ولم تتكلم لها العرب بواحد علمناه3 وأما السِّجِّيل، فأخبرني يونس النحوي وأبو عُبَيْدة أنه عند العرب: الشديد الصلب، قال رُؤبة بن العَجَّاج:

ومسَّهم ما مسَّ أصحابَ الفيلْ                     ترميهمُ حجارة من سِجِّيلْ

ولعبتْ طير بهم أبابيل


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الأنملة: طرف الإصبع، ولكن قد يعبر بها عن طرف غير الإصبع، أى ينتثر جسمه قطعة قطعة.
2 تمث: ترشح.
3 ذكر ابن هشام أنها لا واحد لها من لفظها: وقال غيره: واحدها: إبالة، وأبول: وزاد ابن عزيز: وإِبّيل.

 

ج / 1 ص -49-        وهذه الأبيات في أرجوزة له.
ذكر بعض المفسرين أنهما كلمتان بالفارسية، جعلتهما العرب كلمة واحدة، وإنما هو سَنْج وجِلّ يعني بالسنج: الحجر، وبالجل: الطين، يعني الحجارة من هذين الجنسين: الحجر والطين. والعَصْف: ورق الزرع الذي لم يُقَصَّب، وواحدته عَصْفَة. قال: وأخبرنى أبو عُبَيدة النحوي أنه يقال له العُصافة والعَصيفة. وأنشدنى لعَلْقَمة بن عَبَدَة أحد بني ربيعة بن مالك بن زيد مناة بن تميم:

تَسقى مَذانبَ قد مالت عَصيفتُها               حَدُورُها من أتِيِّ الماءِ مَطْمومُ1

وهذا البيت في قصيدة له. وقال الراجز:

فَصُيِّروا مثلَ كعصْف مأكول

قال ابن هشام: ولهذا البيت تفسير في النحو2.
وإيلاف قريش: إلفهم الخروج إلى الشام في تجارتهم، وكانت لهم خَرْجتان: خَرْجة في الشتاء، وخَرْجة في الصيف. أخبرنى أبو زيد الأنصاري: أن العرب تقول: ألفت الشيء إلْفًا، وآلفته إيلافًا، معنى واحد: وأنشدني لذي الرُّمَّة:

من المؤْلِفات الرملَ أدماءُ حُرَّة                شُعاعُ الضُّحَى في لونِها يتوضَّحُ

وهذا البيت في قصيدة له. وقال مطرود بن كعب الخُزاعى:

المُنْعَمين إذا النجومُ تغيَّرت                        والظاعنين لرحلةِ الإيلاف

وهذا البيت في أبيات له، سأذكرها في موضعها إن شاء الله تعالى. والإيلاف أيضًا: أن يكون للإنسان ألف من الإبل؛ أو البقر، أو الغنم، أو غير ذلك. يقال: آلف فلان إيلافًا. قال الكُمَيْت بن زيد، أحد بني أسد بن خُزَيمة بن مُدْرِكة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معدّ:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مذانب: مسايل، حدورها: ما انحدر منها، ويروى جدورها: أي الحواجز التي تحبس الماء. والأتي: الماء يأتي من بعيد. والمطموم: الماء المرتفع.
2 تفسيره: أن الكاف تكون حرف جر، وتكون اسْمًا بمعنى: مثل، وبذلك أنها حرف: انظر ذلك مفصلًا في: "الروض الأنف للسهيلي بتحقيقنا ج1 ص75".

 

ج / 1 ص -50-                                 بعامِ يقول له المؤْلِفو       نَ هذا المُعيم لنا المُرْجلُ1

وهذا البيت في قصيدة له. والإيلاف أيضًا: أن يصير القوم ألفا، يقال: آلف القوم إيلافًا. قال الكُمَيْت بن زيد:

وآل مُزيْقياء غَدَاةَ لاقَوْا                       بني سَعْدِ بْنِ ضَبةَ مُؤْلفينا

وهذا البيت في قصيدة له. والإيلاف أيضًا: أن تؤلف الشيء إلى الشيء فيألفه ويلزمه، يقال: ألفته إياه إيلافا. والإيلاف أيضًا: أن تصيِّر ما دون الألف ألفًا، يقال: ألفته إيلافًا.
مصير قائد الفيل وسائسه: قال ابنُ إسحاق: حدثني عبد الله بن أبى بكر، عن عَمْرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زُرارة، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "لقد رأيت قائد الفيل وسائسَه بمكة أعميين مُقعَدَيْن يستطعمان الناس".
ما قيل في قصة الفيل من الشعر:
قال ابن إسحاق: فلما رد الله الحبشة عن مكة، وأصابهم بما أصابهم به من النقمة، أعظمت العرب قريشًا، وقالوا: هم أهل الله، قاتل الله عنهم وكفاهم مئونةَ عدوِّهم، فقالوا في ذلك أشعارًا يذكرون فيها ما صنع الله بالحبشةِ، وما ردَّ عن قريش من كيدِهم.
شعر عبد الله بن الزِّبَعْرَى: فقال عبد الله بن الزِّبَعْرَى بن عدي بن قيس بن عدي بن سعيد2 بن سهم بن عَمرو بن هُصَيْص بن كعب بن لُؤي بن غالب بن فِهْر:

تنكَّلوا عن بطنِ مكةَ إنها                              كانت قديما لا يُرامُ حريمُها

لم تخلق الشعْرى لَيَاليَ حُرِّمَتْ                    إذ لا عزيزَ من الأنامِ يرومُها


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المؤلِفون: جمع مؤلف. والمؤلف صاحب الألف من الإبل والمُعِيم بالميم: من العيمة أى: تجعل تلك السنة صاحب الألف من الإبل يعام "يشتاق ويشتهي" إلى اللبن. وترجله: فيمشي راجلًا، لعجف الدواب وهُزَالها.
2 نسب ابن إسحاق عبد الله بن الزَّبَعْرى إلى عدي بن سُعيد بن سهم. وهو خطأ، والصواب، سَعد بن سهم، وإنما سُعيد: أخو سعد.

ج / 1 ص -51-                                        سائلْ أميرَ الجيشِ عنها ما رأى           ولسوفَ يُنْبِي الجاهلين عليمُها

ستونَ ألفا لم يَئُوبوا أرضَهم                     ولم يعش بعدَ الإياب سقيمُها

كانت بها عادٌ وجُرْهم قبلَهم                    والله من فوقِ العبادِ يقيمُها

قال ابنُ إسحاق: يعني ابن الزِّبَعْرَى بقوله:

........ بعد الإيابِ سقيمُها

أبرهة، إذ حملوه معهم حين أصابه ما أصابه، حتى مات بصنعاء.
شعر ابن الأسْلَت: وقال أبو قَيْس بن الأسْلَت الأنصاري ثم الْخَطميّ، واسمه: صَيْفي قال ابن هشام: أبو قيس: صَيْفيُّ بنُ الأسْلَت ابن جُشَم بن وائل بن زَيْد بن قيس بن عامر بن مُرة بن مالك بن الأوس:

ومن صُنْعِه يومَ فيل الحبُو                        شِ إذ كلما بعثوه رَزَمْ1

محاجنُهم تحتَ أَقرابِه                             وقد شَرَّموا أنفَه فانخرَمْ2

وقد جعلوا سَوْطَه مِغْوَلًا                           إذا يمَّمُوهُ قَفاه كُلِم3

فولَّى وأدبرَ أدراجَه                                  وقد باءَ بالظلمِ من كان ثَمْ

فأرسلَ من فوقِهم حاصبًا                         فلفَّهُمُ مثلَ لفِّ القُزُمْ4

تحُضُّ على الصبرِ أحبارُهم                       وقد ثأجُوا كَثُؤَاجِ الغَنَمْ5

قال ابن هشام: وهذه الأبيات في قصيدة له. والقصيدة أيضًا تروى لأمية بن أبى الصَّلْت.
قال ابن إسحاق: وقال أبو قيس بن الأسلت:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رزم: ثبت في مكانه ولزمه لا يبرحه.
2 المحاجن: جمع محجن. عصا معوجة. والأقراب: جمع قرب. الخصر. شرموا أنفه: شقوه.
3 المغول: سكين كبير. وكلم: جرح.
4 القزم: صغار الغنم، ويقال: رذال المال.
5 ثأج: صاح.

ج / 1 ص -53-        شعر أبي الصلت الثقفي: قال ابن إسحاق: وقال أبو الصَّلْت1 بن أبى ربيعة الثَّقفي في شأن الفيل، ويذكر الحنيفيَّة دينَ إبراهيم عليه السلام. قال ابن هشام: تروى لأمية بن أبي الصلت بن أبي ربيعة الثقفي:

إن آياتِ ربِّنا ثَاقبات                                 لا يُمارِي فيهن إلا الكفورُ

خلقَ الليلَ والنهارَ فكل                            مستبين حسابُه مقدورُ

ثم يجلو النهارَ ربُّ رحيم                          بمَهاةٍ شُعاعُها منشورُ2

حُبِس الفيلُ بالمُغمَّس، حتى                   ظلَّ يحبو كأنه معقورُ

لازمًا حَلْقةَ الجِرانِ كما قُطِّـ                       ـرمن صخر كَبْكَب محدور3

حوله من ملوك كِندةَ أبطا                         ل ملاوِيث في الحروبِ صُقور

خَلَّفوه ثم ابذعَرُّوا جميعًا                          كلهم عظمُ ساقِه مكسورُ

كلُّ دينٍ يومَ القيامةِ عندَ الله                     إلا دين الحنيفةِ بورُ4

شعر الفرزدق: قال ابن هشام: وقال الفرزدق -واسمه همّام بن غالب أحد بني مُجَاشع بن دَارم بن مالك بن حَنْظلة بن مالك بن زيد مَناة بن تميم-يمدح سليمان بن عبد الملك بن مروان ويهجو الحجاجَ بن يوسف، ويذكر الفيلَ وجيشه:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 واسم أبي الصلت: ربيعة بن وهب بن علاج.
2 المهاة: اسم من أسماء الشمس؛ سميت بذلك لصفائها. والمها من الأجسام: الصافي الذي يرى باطنه من ظاهره. والمها: البلورة. والمهاة: الظبية.
3 الجران: العنق. وقطّر: رمى على قطره وهو الجانب. وكبكب: اسم جبل. والمحدور: الذي حدر من جبل أي وقع.
4 الحنيفة: الأمة الحنيفة، أي: المسلمة التي على دين إبراهيم الحنيف -صلى الله عليه وسلم- وذلك أنه حنف عن اليهودية والنصرانية، أي: عدل عنهما. فسمي حنيفًا. أو حنف عما كان يعبد آباؤه وقومه.

 

ج / 1 ص -54-                                       فلما طغى الحجاجُ حين طغى به          غنيَ قال: إني مُرْتق في السلالم1

فكان كما قال ابنُ نوح: سأرتقى              إلى جبل من خَشْيةِ الماءِ عاصم2

رمى اللّه في جثمانِه مثلَ ما رمى          عن القبلةِ البيضاءِ ذاتِ المحارم

جنودًا تسوق الفيلَ حتى أعادهم            هَباءً، وكانوا مُطْرَخِمي الطرَاخم

نُصِرْتَ كنصر البيتِ إذ ساق فيلَه              إليه عظيمُ المشركين الأعاجم

وهذه الأبيات في قصيدة له.
شعر ابن قيس الرقيات: قال ابن هشام: وقال عبدُ اللّه بن قَيْس الرقيَّات. أحدُ بني عامر بن لؤي بن غالب يذكر أبرهةَ -وهو الأشرم- والفيل:

كاده الأشرمُ الذي جاء بالفيـ                 ـل فولَّى وجيشُه مهزومُ

واستَهلَّتْ عليهمُ الطيرَ بالجنـ               ـدلِ حتى كأنه مَرْجومُ4

ذاك من يَغْزُهُ من الناسِ يَر                    جعْ، وهو فَل من الجيوش ذميمُ5

وهذه الأبيات في قصيدة له.
ولدا أبرهة: قال ابن إسحاق: فلما هلك أبرهة، ملك الحبشَةَ ابنُهُ يكسوم بنُ أبرهة، وبه كان يُكْنَى، فلما هلك يكسوم بن أبرهة، ملك اليمَن في الحبشة أخوه مسروقُ بن أبرهة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 غني: أي استغناء.
2 ابن نوح: واسمه: يام. وقيل كنعان.
3 المطرخم: الممتلئ كبرًا. والطرخم جمع: المُطِرخم.
4 قوله: "حتى كأنه مرجوم" وهو قد رُجم، فكيف شبهه بالمرجوم وهو مرجوم بالحجارة، وهل يجوز أن يقال في مقتول: كأنه مقتول؟ فنقول: لما ذكر استهلال الطير، وجعلها كالسحاب يستهل بالمطر، والمطر ليس برجم، وإنما الرجم بالأكف ونحوها، شبه بالمرجوم الذي يرجمه الآدميون، أو من يعقل ويتعمد الرجم من عدو ونحوه، فعند ذلك يكون المقتول بالحجارة مرجومًا على الحقيقة، ولما لم يكن جيش الحبشة كذلك، وإنما أمطروا حجارة فمن ثم قال: كأنه مرجوم. انظر: "الروض الأنف بتحقيقنا ج1 ص81".
5 الفل: المنهزم.

ج / 1 ص -55-        خروج سيف بن ذي يزن ومُلك وهرز على اليمن:
سيف يشكو لقيصر: فلما طال البلاءُ على أهل اليمن، خرج سيفُ بن ذي يَزن الحميريُّ وكان يُكْنَى بأبي مُرَّة، حتى قدم على قيصر ملك الروم، فشكا إليه ما هم فيه، وسأله أن يخرجهم عنه، وَيليَهم هو، ويبعث إليهم من شاء من الروم، فيكون له ملك اليمن، فلم يُشْكِه.
النعمان يتشفع لسيف عند كسرى: فخرج حتى أتى النعمانَ بنَ المنذِر2 -وهو عامل كسرى3 على الحِيرة، وما يليها من أرض العراق- فشكا إليه أمر الحبشة، فقال له النعمان: إن لي على كسرى وِفادةً في كلِّ عام، فأقمْ حتى يكونَ ذلك، ففعل، ثم خرج معه فأدخله على كسرى، وكان كسرى يجلس في إيوان مجلِسه الذي فيه تاجُه، وكان تاجه، مثل الْقَنْقَل العظيم4

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو سيف بن ذي يزن بن ذي أصبح بن مالك بن زيد بن سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن فطن بن عريب بن زهير بن أيمن بن الهميسع بن العرنجج وهو: حِمير بن سبأ.
2 النعمان: اسم منقول من النعمان الذي هو الدم.
3 وكسرى هذا هو: أنوشروان بن هباذ، ومعناه مُجدد الملك؛ لأنه جمع مُلك فارس بعد شتات.
4 القَنْقَل الذي شبه به التاج هو مكيال عظيم. قال الراجز يصف الكماة:

مالك لا تجرفها بالقنقل                    لا خير في الكمأة إن لم تفعل

وفى الغريبين للهروي: القنقل: مكيال يسع ثلاثة وثلاثين منًّا، والمن وزن رطلين، وهذا التاج قد أتى به عمر بن الخطاب -رضى الله عنه- حين استلب من يزدجرد بن شهريار، تصيَّر إليه من قبل جده أنوشروان المذكور، فلما أتى به عمر -رضي اللّه عنه- دعا سراقة بن مالك المُذلِجي، فحلاه بأسورة كسرى، وجعل التاج على رأسه، وقال له: "قل: الحمد للّه الذي نزع تاج كسرى، ملك الأملاك من رأسه، ووضعه في رأس أعرابي من بني مُدلج، وذلك بعز الإسلام وبركته لا بقوتنا"، وإِنما خص عُمر سُراقة بهذا؛ لأن رسول الله –صلى الله عليه وسلم– كان قال له: "يا سراقُ كيف بك إذا وضع تاج كسرى على رأسك وإسواره في يديك"، أو كما قال: -صلى الله عليه وسلم.

 

ج / 1 ص -56-        -فيما يزعمُون- يُضرَبُ فيه الياقوت واللؤلؤ والزبرجد بالذهب والفضة، معلقًا بسلسلة من ذهب في رأس طاقة في مجلسه ذلك، وكانت عنقُه لا تحمل تاجَه، إنما يُستَر بالثياب حتى يجلس في مجلسه ذلك، ثم يُدْخِل رأسَه في تاجِه، فإذا استوى في مجلسه كُشفت عنه الثيابُ، فلا يراه رجل لم يره قبلَ ذلك، إلا برك هَيبة له، فلما دخل عليه سيف بن ذي يزن برك.
معاونة كسرى لسيف: قال ابن هشام: حدثني أبو عُبيدة: أن سيفا لما دخل عليه طأطأ رأسه، فقال الملك: إن هذا الأحمقُ يدخل عليَّ من هذا الباب الطويل، ثم يطأطئ رأسه؟! فقيل ذلك لسيف، فقال: إنما فعلت هذا لهمِّي، لأنه يضيقُ عنه كلُّ شيء.
قال ابن إسحاق: ثم قال له: أيها الملك، غَلَبَتْنا على بلادِنا الأغربةُ. فقال له كسرى: أي الأغربة: الحبشة أم السند؟ فقال: بل الحبشة، فجئتك لتنصرني، ويكون مُلك بلادي لك، قال: بَعُدَتْ بلادُك مع قلة خيرِها، فلم أكن لأورِّط جيشًا من فارس بأرض العرب، لا حاجة لي بذلك، ثم أجازه بعشرة آلاف درهم واف، وكساه كسوةً حسنة، فلما قبض ذلك منه سيف خرج؛ فجعل ينثر ذلك الوَرِقَ للناس، فبلغ ذلك الملك، فقال: إن لهذا لشأنا، ثم بعث إليه، فقال: عمدت إلى حباء الملك ثَنثُره للناسِ، فقال: وما أصنعُ بهذا؟ ما جبالُ أرضي التي جئتُ منها إلا ذهب وفضة -يرغِّبه فيها- فجمع كسرى مَرَازِبته1، فقال لهم: ماذا تَرَوْن في أمر هذا الرجل، وما جاء له؟ فقال قائل: أيها الملك، إن في سجونك رجالا قد حبستَهم للقتل، فلو أنك بعثتهم معه، فإن يُهْلَكوا كان ذلك الذي أردت بهم، وإن ظفروا كان مُلكًا ازدَدْته، فبعث معه كسرى من كان في سجونه، وكانوا ثمانمائةَ رجلٍ.
انتصار سيف: واستعمل عليهم رجلًا يقال له وَهْرِز، وكان ذا سِنّ فيهم، وأفضلهم حسبًا وبيتًا، فخرجوا في ثمانِ سفائن، فغرقت سفينتان، ووصل إلى ساحل عدن ستُّ سفائن2، فجمع سيف إلى وَهْرِز من استطاع من قومه، وقال له: رِجْلي مع رِجْلك حتى نموت جميعًا، أو نظفر جميعًا. قال له وَهْرِز: أنصفتَ. وخرج إليه مسروق بن أبرهة ملك اليمن، وجمع إليه جنده، فأرسل إليهم وَهْرِز ابنا له؟ ليقاتلهم، فيختبر قتالهم، فقُتل ابنُ وَهْرِز، فزاده ذلك

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مرازبته: وزراؤه.
2 وذكر ابن قتيبة أنهم كانوا سبعة آلاف وخمسمائة، وانضافت إليهم قبائل من العرب.

 

ج / 1 ص -57-        حنقًا عليهم، فلما توافق الناس على مَصَافِّهم، قال وَهْرِز: أروني ملكَهم، فقالوا له: أترى رجلًا على الفيل عاقدًا تاجَه على رأسه، بين عينيه ياقوتة حمراء؟ قال: نعم، قالوا: ذاك مَلِكُهم، فقال: اتركوه، قال: فوقفوا طويلا، ثم قال: علامَ هو؟ قالوا: قد تحول على الفرس، قال: اتركوه. فوقفوا طويلا، ثم قال: علامَ هو؟ قالوا: قد تحول على البغلة. قال وهرز: بنتُ الحمار؟! ذُلَّ وذُلَّ مُلْكُه، إني سأرميه، فإن رأيتم أصحابَه لم يتحركوا، فاثبتوا حتى أوذِنَكم، فإني قد أخطأت الرجلَ، وإن رأيتم القومَ قد استداروا ولاثوا به، فقد أصبتُ الرجل، فاحملوا عليهم. ثم وتر قوْسَه، وكانت فيما يزعمون لا يُوترها غيرُه من شدتها، وأمر بحاجبيه، فعُصبا له، ثم رماه، فصك الياقوتةَ التي بين عينيه، فتغلغلت النُشَّابةُ في رأسه حتى خرجت من قفاه، ونُكِس عن دابته، واستدارت الحبشةُ ولاثتْ به، وحملت عليهم الفرسُ، وانهزموا، فقُتلوا وهَربوا في كل وجهٍ، وأقبل وَهْرِز، ليدخل صنعاء1، حتى إذا أتى بابها، قال: لا تدخل رايتي منكسة أبدًا، اهدموا البابَ، فهُدم، ثم دخلها ناصبًا رايته.
شعر سيف بن ذي يزن في هذه القصة: فقال سيف بن ذي يزن الحميري:

يظنُّ الناسُ بالْمَلكيـ                                ـنِ أنهما قد التأما2


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وإنما كانت تسمى قبل ذلك أوال بفتح الهمزة وكسرها.
قال ابن الكلبي: وسميت: صنعاء لقول وهرز حين دخلها. صنْعَة صنعة، يريد أن الحبشة أحكمت صنعها، قال ابن مقبل يذكر أوالًا:

عهد الحداة بها لعارض قرية                        وكأنها سفن بسيف أوال

والعارضة هنا: ما اعترض في الأفق من سحاب.
وقال جرير:

وشبهت الحدوج غداة قَوٍّ                        سفين الهند رَوَّحَ من أوالا

والحدوج: هنا بمعنى مراكب للنساء كالمحفة وقوّ: منزل للقاصد إلى المدينة من البصرة، ويقال أنها واد بين اليمامة وهجر.
وقال الأخطل:

خوص كأن شكيمهن معلق                        بقنا ردينة، أو جذوع أوال

وقد قيل إن صنعاء اسم الذى بناها، وهو: صنعاء بن أوال بن عيبر بن عابر بن شالخ، فكانت تعرف تارة بأوال، وتارة بصنعاء.
2 التأما: اصطلحا.

 

ج / 1 ص -58-                                       ومن يسمعْ بلأمهما   فإن الخطبَ قد فقما1

قتلنا القَيْل مسروقًا                              وروَّينا الكثيبَ دَمَا2

وإن القَيْل قَيْل النا                                سِ وَهْرِزَ مُقْسِم قَسَمَا

يذوق مُشَعْشَعًا حتى                           يُفيء السبيُ والنَّعَما3

قال ابن هشام: وهذه الأبيات في أبيات له. وأنشدني خلاد بن قُرة السّدُوسي آخرَها بيتًا لأعْشَى بنى قَيْس بن ثعلبة في قصيدة له، وغيرُه من أهل العلم بالشعر يُنْكِرها له.
شعر أبي الصلت: قال ابن إسحاق، وقال أبو الصلْت بن أبي ربيعهَ الثقفىُّ، قال ابن هشام: وتُروى لأميَّة بْن أبي الصَّلْت:

ليطلب الوِتْر أمثالُ ابن ذي يزن                  رَيَّمَ في البحر للأعداء أحوالَا4

يمَّمَ قَيْصَر لما حان رحلتهُ                        فلم يجدْ عندَه بعضَ الذي سالَا

ثم انثنى نحوَ كِسرى بعدَ عاشرةٍ               من السنين يُهين النفسَ والمالَا

حتى أتى ببنى الأحرارِ يحملهم                إنَّك عَمْرِي لقد أسرعتَ قِلْقَالَا5

للّهِ دَرهُمُ من عُصبةٍ خرجوا                      ما إن أرى لهم في الناسِ أمثالاَ


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فقم: ازداد واشتد.
2 القيل: الملك.
3 المشعشع: الخمر الممزوجة بالماء.
4 ريم في البحر: أي: أقام فيه، ومنه الروايم، وهي الأثافي، كذلك وجدته في حاشية الشيخ التي عارضها بكتابي "أبي الوليد الوقشي"، وهو عندي غلط؛ لأن الروايم من رأمت إذا عطفت، وريم ليس من رأم، وإنما هو من الريم، وهو الدرج، أو من الريم الذي هو الزيادة والفضل، أو من رأم يريم إذا برح، كأنه يريد: غاب زمانا وأحوالا، ثم رجع للأعداء، وارتقى في درجات المجد أحوالا إن كان من الريم الذي هو الدرج، ووجدته في غير هذا الكتاب: خيم مكان ريم، فهذا معناه: أقام. عن الروض الأنف بتحقيقنا ج1، ص84.
5 عمري. أراد: لعمري وقد قال الطائي:

عمري لقد نصح الزمانُ، وإنه                   لمن العجائب ناصح لا يشفق

وقوله: أسرعت قلقالا بفتح القاف وكسرها، وكقول الآخر: "وقلقل يبغي العز كل مقلقل" وهي شدة الحركة.

ج / 1 ص -59-                                              بِيضًا مَرَاذبةً، غُلْبًا أساورةً  أسدًا تُربب في الغَيْضاتِ أشبالَا1

يَرمون عن شُدُفٍ كأنها غُبُط                          بِزَمْخَر يُعْجل المرمِيَّ إعجالا2

أرْسَلْتَ أسْدًا على سودِ الكلاب فقد               أضحَى شريدُهُمُ في الأرضِ فُلَّالَا

فاشربْ هنيئًا عليك التاجُ مُرْتَفِقًا                    في رأس غُمدَانَ دارا منك مِحْلالاَ3

واشربْ هنيئا فقد شالتْ نعامتُهم                  وأسبِل اليومَ في بُرديْكَ إسْبالاَ4

تلك المكارمُ لا قَعْبان من لبنٍ                        شِيبا بماءٍ فعادَا بعدُ أبوالَا

قال ابن هشام: هذا ما صح له مما روى ابن إسحاق منها، إلا آخرها بيتًا قوله:

تلك المكارمُ لا قَعْبانَ من لبن

فإنه للنابغة الجعدي. واسمه: حِبَّان بن عبد اللّه بن قَيْس5، أحد بنى جَعْدة بن كعب

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 غُلبًا: شدادًا. والأساورة: الرماة، والغيضات: جمع غيضة الشجر الكثير الملتف.
2 "يرمون عن شدف كأنها غبط" الشُّدَف: الشخص، ويجمع على شُدُف، ولم يرد هنا إلا القسي، وليس شدف جمعًا لشدف، وإنما هو جمع شدوف، وهو النشيط المرح يقال: شدف فهو شدف، ثم تقول: شدوف، كما نقول مروح، وقد يستعار المرح والنشاط للقسي لحسن تأتيها وجودة رميها وإصابتها، فيرمون عن شدف أي: يدفعون عنها بالرمي، ويكون الزمخر: القسي، أو النبل، والغبط: الهوادج، والزمخر: القصب الفارسي.
3 غمدان أسسه: يعرب بن قحطان، وأكمله بعده، واحتله: وائل بن حمير بن سبأ، وكان ملكًا متوجًا كأبيه وجده.
4 شالت نعامتهم: أي هلكوا، والنعامة: باطن القدم، وشالت: ارتفعت، ومن هلك ارتفعت رجلاه، وانتكس رأسه، فظهرت نعامة قدمه تقول العرب: تنعمت إذا مشيت حافيًا، قال الشاعر:

تنعمت لما جاءني سوء فعلهم                        ألا إنما البأساء للمتنعم

5 ويروى أن اسمه: قيس بن عبد اللّه، وقيل: إن اسمه حبان بن قيس بن عبد الله بن وحوح، والوحوح فى اللغة: وسط الوادى، قاله أبو عبيد وأبو حنيفة الدينوري، وهو أحد النوابغ وهم ثمانية ذكرهم البكري. والنابغة شاعر معمر عاش مائتين وأربعين سنة أكثرها في الجاهلية وقدومه على رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم- وإنشاده إياه، ودعاء النبي -صلى الله عليه وسلم: "ألا يفض الله فاه مشهور".

ج / 1 ص -60-        ابن ربيعة بن عامر بن صَعْصَعة بن معاوية بن بَكر بن هوازن، في قصيدة له.
شعر عدي بن زيد: قال ابن إسحاق: وقال عدي بن زيد الحيري، وكان أحد بني تميم. قال ابن هشام: ثم أحد بني امرئ القيس بن زَيد مناة بن تميم، ويقال: عدي من العباد من أهل الحيرة1:

ما بعدَ صنعاءَ كان يَعْمُرها                            ولاةُ مُلك جَزْلٍ مواهبُها

رفَّعها مَنْ بَنَى لدى قَزَع الـ                          ـمُزْنِ وتَنْدَى مِسْكا مَحاربُها2

مَحفوفةٌ بالجبالِ دونَ عُرَى الْـ                       ـكائدِ ما تُرْتَقى غواربُها3

يأنسُ فيها صوتُ النُّهــامِ إذا                         جاوبَها بالعشيِّ قاصِبُها4

ساقت إليه الأسبابُ جندَ بني الـ                 ـأحرارِ فرسانُها مواكبُها


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 العباد، وهم من عبد القيس بن أفصى بن دُعمِيّ بن جديلة بن أسد بن ربيعة، قيل: إنهم انتسلوا من أربعة: عبد المسيح، وعبد كُلال، وعبد اللّه، وعبد ياليل، وكذلك سائرهم في اسم كل واحد منهم: عبد، وكانوا قدموا على ملك فتسموا له، فقال: أنتم العِبَاد فسُموا بذلك، وقد قيل غير هذا. وفي الحديث المسند: "أبعد الناس عن الإسلام الروم والعباد"، وأحسبهم هؤلاء؛ لأنهم تنصروا، وهم من ربيعة، ثم من بني عبد القيس، والله أعلم. والذي ذكره الطبري في نسب عدي بن زيد أنه ابن زيد بن حماد بن أيوب بن مجروف بن عامر بن عصَية بن امرئ القيس بن زيد مناة بن تميم. وقد دخل بنو امرئ القيس بن زيد مناة في العباد. فلذلك ينسب عدي إليهم.
2 قزع المزن: السحاب المتفرق.
3 دون عرى الكائد، يريد: عرى السماء وأسبابها، ووقع في نسخة الشيخ: عرى بفتح العين، وهي الناحية، وأضافها إلى الكائد، وهو الذي كادهم، والباري -سبحانه وتعالى- كيده متين.
4 صوت النهام، يريد ذكر البوم، وقاصبها: الذى يزمر في القصب.

 

ج / 1 ص -61-                                           وفوزت بالبغالِ تُوسَقُ بالـ     ـحَتْفِ وتَسْعَى بها توالبُها1

حتى رآها الأقْوالُ من طرفِ الـ                     ـمَنقلِ مُخْضَرَّة كتائبُها2

يوم يُنادون آل بَرْبر والـ                               ـيكْسوم لا يُفْلَحنَّ هاربُها3

وكان يوم باقي الحديث وزا                         لت إمَّةٌ ثابت مراتبُها4

وبُدِّل الفَيْج بالزرافةِ والأيا                           م جُونٌ جَم عجائبها5

بعدَ بني تُبَّع نَخاوِرة                                  قد اطمأنَّت بها مرازُبها6

قال ابن هشام: وهذه الأبيات في قصيدة له، وأنشدني أبو زيد الأنصاري، ورواه لي عن المفضَّل الضبي، قوله:

يوم ينادون آل بربر واليكسوم


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فَوّزَت بالبغال أي: ركبت المفاوز. تُوسق بالحتف، أي: أوسق البغال الحتوف، وتوالبها: جمع تولب، وهو ولد الحمار، والتاء في تولب بدل من واو، كما هي في توءم وتولج وفي توراة على أحد القولين؛ لأن اشتقاق التولب من الوالبة، وهي ما يولده الزرع، وجمعه: أوالب.
2 من طرف المَنْقَل: أي: من أعالى حصونها، والمنقال: الخِرج ينقل إلى الملوك من قرية إلى قرية، فكأن المنقل من هذا، والله أعلم. وقوله: مخضرة كتائبها. يعني من الحديد، ومنه الكتيبة الخضراء.
3 ينادون آل بربر: لأن البربر والحبشة من ولد حام. وقد قيل إنهم من ولد جالوت من العماليق.
وقد قيل في جالوت إنه من الخزر، وان أفريقس لما خرج من أرض كنعان سمع لهم بربرة، وهي اختلاط الأصوات، فقال: ما أكثر بربرتهم! فسُمُّوا بذلك، وقيل غير هذا.
4 الإمة: النعمة.
5 الفيج: المنفرد في مشيته، والزرافة الجماعة من الناس.
6 النخاوة: الكرام. والمرازبة: الوزراء.

 

ج / 1 ص -62-        وهذا الذي عنى سَطيح بقوله: "يليه إرم ذى يزن، يخرج عليهم من عدن، فلا يترك أحدًا منهم باليمن". والذي عنى شق بقوله: "غلام ليس بِدَني ولا مُدَنْ، يخرج عليهم من بيت ذي يَزَنْ".
ذكر ما انتهى إليه أمر الفُرس باليمن:
مدة مكث الحبشة باليمن: قال ابن إسحاق: فأقام وَهْرِز والفرس باليمن، فمن بقية ذلك الجيش من الفرس: الأبناء الذين باليمن اليوم. وكان مُلْك الحبشة باليمن، فيما بين أن دخلها أرياط إلى أن قتلت الفرس مسروق بن أبرهة وأخرجت من الحبشة، اثنتين وسبعين سنة، توارث ذلك منهم أربعة: أرياط، ثم أبرهة، ثم يكسوم بن أبرهة، ثم مسروق بن أبرهة.
أمراء الفرس باليمن: قال ابن هشام: ثم مات وَهْرِز، فأمَّر كسرى1 ابنه المرْزُبان بن وهرز على اليمن، ثم مات المرْزُبان، فأمّر كسرى ابنه التينُجان بن المرزبان على اليمن، ثم مات التينُجان، فأمر كسرى ابن التينجان على اليمن، ثم عزله وأمَّر باذان، فلم يزل باذان عليها حتى بعث اللّه محمدًا النبي صلى الله عليه وسلم.
محمد -صلى الله عليه وسلم- يتنبأ بموت كسرى: فبلغني عن الزهري أنه قال:
كتب كسرى إلى باذان: أنه بلغني أن رجلًا من قُريش خرج بمكة، يزعُم أنه نبي فَسِرْ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كسرى هذا هو: أبرويز بن هرمز بن أنوشروان، ومعنى أبرويز بالعربية: المظفر، وهو الذي غلب الروم حين أنزل اللّه:
{الم، غُلِبَتِ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ} [الروم: 1-3] وهو الذي عُرض على اللّه فى المنام، فقال له: سلِّم ما في يديك إلى صاحب الهراوة، فلم يزل مذعورًا من تلك، حتى كتب إليه النعمان بن المنذر بظهور النبي –صلى الله عليه وسلم– بتهامة؛ فعلم أن الأمر سيصير إليه حتى كان من أمره ما كان، وهو الذي كتب إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وحفيده: يزدجرد بن شهريار بن أبرويز، وهو آخر ملوك الفرس، وكان سُلب ملكه، وهُدم سلطانه على يدى عمر بن الخطاب، ثم قُتل هو في أول خلافة عثمان، وجد مستخفيًا فى رحى فقتل وطرح في قناة الرحى، وذلك بمرو من أرض فارس.

 

ج / 1 ص -63-        إليه فَاسْتَتِبْهُ، فإن تاب، وإلا فابعث إليَّ برأسه، فبعث باذان بكتاب كسرى إلي رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم- فكتب إليه رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم: "إن اللّه قد وعدني أن يُقتل كسرى في يوم كذا من شهر كذا"1 فلما أتى باذانَ الكتابُ توقف لينظر، وقال: إن كان نبيًّا، فسيكون ما قال، فقتلَ اللّه كسرى في اليوم الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن هشام: قُتل على يدَيْ ابنه شَيْرَويه، وقال خالد بن حِق الشيبانيُّ:

وكسرى إذ تَقَسَّمه بنوه                      بأسيافٍ كما اقتُسِم اللَّحامُ

تمخضتِ المنونُ له بيومٍ                      أنى، ولكلِّ حاملةٍ تمام2

إسلام باذان: قال الزهري: فلما بلغ ذلك باذان بعث بإسلامه، وإسلام من معه من الفُرس إلى رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم- فقالت الرسلُ من الفرس لرسول اللّه -صلى الله عليه وسلم- إلى من نحن يا رسول اللّه؟ قال: "أنتم منا وإلينا أهلَ البيت".
قال ابن هشام: فبلغني عن الزهريِّ أنه قال: فمن ثَمَّ قال رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم: "سَلْمانُ منا أهل البيت".
قال ابن هشام: فهو الذي عنى سطيح بقوله: "نبيّ زكي، يأتيه الوحي من قبل العليّ"، والذي عنى شق بقوله: بل ينقطع برسول مُرْسَل، يأتي بالحق والعدل، من أهل الدين والفضل، يكون المُلك في قومه إلى يوم الفصْل".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وكان مقتل كسرى حين قتله بنوه ليلة الثلاثاء لعشر من جمادى الأولى سنة سبع من الهجرة، وأسلم باذان باليمن في سنة عشر، وفيها بعث رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم- إلى أبناء الفرس الذين استوطنوا اليمن يدعوهم إلى الإسلام، فمن الأبناء: وهب بن مُنبه بن سَيج ابن ذُكبار، وطاوس وذادَوَيْه وفيروز اللذان قتلا الأسود العنسي الكذاب، وقد قيل فى طاوس: إنه ليس من الأبناء، وإنه من حمير، وقد قيل: من فارس، واسمه: ذكوان بن كيسان، وهو مولى بجير بن ريسان؛ وقد قيل: مولَى الجَعد، وكان يقال له طاوس القُراء لجماله.
2 تمخضت: حملت، والمنون: المنية، وهو أيضًا من أسماء الدهر، وهو من منت الحبل إذا قطعته، وأني: أي حان.

 

ج / 1 ص -64-        كتاب الحجر الذي في اليمن: قال ابن إسحاق: وكان في حَجَر باليمن -فيما يزعُمون- كتاب بالزَّبور كُتب في الزمان الأول: "لمن مُلك ذِمَار1؟ لِحمْير الأخيار2، ولمن ملك ذِمار؟ للحبشة الأشرار3، لمن ملك ذِمار؟ لفارس الأحرار4، لمن ملك ذِمار؟ لقريش التجار".
وذِمار: اليمن أو صنعاء، قال ابن هشام: ذَمار: بالفتح، فيما أخبرني يونس.
الأعشى يذكر نبوءة شق وسطيح: قال ابن إسحاق: وقال الأعشى، أعشى بني قيس بن ثعلبة في وقوع ما قال سطيح وصاحبه:

ما نظرتْ ذاتُ أشفارٍ5 كنظرتها                حقًّا كما صدقَ الذئبيُّ إذ سجعا

وكانت العرب تقول لسطيح: الذئبي؟ لأنه سطيح بن ربيعة بن مسعود بن مازن بن ذئب قال ابن هشام: وهذا البيت في قصيدة له.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 حكى ابن هشام عن يونس ذَمار بفتح الذال، فدل على أن رواية ابن إسحاق بالكسر، فإذا كان بكسر الذال فهو غير مصروف؛ لأنه اسم لمدينة، والغالب عليه التأنيث، ويجوز صرفه أيضًا؛ لأنه اسم بلد، وإذا فتحت الذال، فهو مبني مثل: رَقاش وحَذام.
2 وقوله: لحمير الأخيار لأنهم كانوا أهل دين، كما تقدم في حديث فيميون وابن الثامر.
3 وأما قوله للحبشة الأشرار: فلما أحدثوا في اليمن من العيث والفساد وإخراب البلاد، حتى هموا بهدم بيت اللّه الحرام، وسيهدمونه في آخر الزمان إذا رَفع القرآن؛ وذهب من الصدور الإيمان. يشير بذلك إلى حديث: "اتركوا الحبشة ما تركوكم، فإنه لا يستخرج كنز الكعبة إلا ذو السويقتين من الحبشة". وقد رواه أبو داود بسند ضعيف.
4 وقوله: لفارس الأحرار؛ فلأن الملك فيهم متوارث من أول الدنيا من عهد جيومرت في زعمهم إلى أن جاء الإسلام، لم يدينوا لملك من غيرهم، ولا أدوا الإتاوة لذي سلطان من سواهم فكانوا أحرارًا لذلك.
5 يريد: زرقاء اليمامة، وكانت تبصر على مسيرة ثلاثة أيام، وقبل البيت:
قالت:

أرى رجلا في كفه كَتِف                    أو يخصف النعل لهفي أيَة صنعا

فكذبوها بما قالت، فصبحهم              ذو آل حسان يُزجِي الموتَ والسَّلعا

 

ج / 1 ص -65-        قصة ملك الحضر:
قال ابن هشام: وحدثنى خلَّادُ بن قُرَّة بن خالد السَّدُوسي عن جَنَّاد، أو عن بعض علماء أهل الكوفة بالنسب: أنه يقال: إن النعمان بن المنذر من ولد سَاطِرون1 ملك الحَضْر. والحَضْر: حصن عظيم كالمدينة، كان على شاطئ الفرات، وهو الذي ذكر عَدي بن زيد في قوله:

وأخو الحَضْر إذ بناه وإذ دِجْـ                         ـلة يُجْبَى إليه والخابورْ

شاده مرمرًا وجلَّله كِلْـ                              ـسا فللطَّيْرِ في ذُراه وُكورْ

لم يَهَبْه ريبُ المنون فبان الْـ                      ـمُلْكُ عنه فبابُه مهجورْ

قال ابن هشام: وهذه الأبيات في قصيدة له.
والذي ذكره أبو دواد الإياديُّ2 في قوله:

وأرى الموتَ قد تدلى من الحَضـ                  ـر على رب أهله السَّاطُرون3

وهذا البيت في قصيدة له، ويقال: إنها لخلَف الأحمر، ويقال: لحماد الرَّاوية.
سابور يستولي على الحضر: وكان كسرى سابور ذو الأكتاف غزا ساطِرون ملكَ الحَضْر، فحصره سنتين، فأشرفت بنت ساطِرون4 يومًا، فنظرت إلى سابور، وعليه ثياب ديباج، وعلى رأسه تاج من ذهب مكلل بالزبرجد والياقوت واللؤلؤ، وكان جميلا، فدست إليه، أتتزوجني

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الساطرون بالسريانية: هو الملك، واسم السَّاطرون: الضيزَن بن معاوية. قال الطبري: هو جُرمُقانى، وقال ابن الكلبى: هو قُضَاعي من العرب الذين تنخُوا بالسواد، فُسموا: تنوخ، أي: أقاموا بها، وهم قبائل شتى، ونسبه ابن الكلبي، فقال: هو ابن معاوية بن عبيد، ووجدته بخط أبي بحر: عُبَيد بضم العين بن أجْرَم من بني سَليح بن حُلوان بن الحاف بن قضاعة، وأمه: جَيهَلَة، وبها كان يُعرف، وهي أيضًا قضاعية من بني تزيد الذين تنسب إليهم الثياب التزيدية.
2 واسم أبى داود: جارية بن حجاج، وقيل: حنظلة بن شَرقي.
3 وبعد هذا البيت:

صرعته الأيامُ من مُلك                              ونعيم وجوهر مكنون

4 وتسمى النضيرة.

 

ج / 1 ص -66-        إن فتحت لك باب الحَضْر؟ فقال: نعم. فلما أمسى ساطِرون شرب حتى سكر، وكان لا يبيت إلا سكران، فأخذت مفاتيح باب الحَضْر من تحتِ رأسه، فبعثت بها مع مولَى لها ففتح الباب، فدخل سابور، فقتل ساطِرون، واستباح الحَضْر وخرَّبه1، و سار بها معه فتزوجها؟ فبينا هي نائمة على فراشها ليلا إذا جعلت تتململ لا تنام، فدعا لها بشمْع، ففتش فراشَها، فوجد عليه ورقة آس؛ فقال لها سابور: أهذا الذي أسهرَك؟! قالت: نعم، قال: فما كان أبوك يصنع بك؟ قالت: كان يفرش لي الديباج، ويلبسني الحريرَ، ويطعمني المخَّ، ويسقيني الخمر، قال: أفكان جزاءُ أبيك ما صنعتِ به؟! أنت إليَّ بذلك أسرعُ، ثم أمر بها، فرُبطت قرون رأسها بذنَبِ فرس، ثم ركض الفرس، حتى قتلها2، ففيه يقول أعشى بني قَيس بن ثَعْلبة:
قول أعشى قيس في قصة الحضر:

ألم ترَ للحَضْر إذ أهلُه                       بنُعْمَى، وهَل خالدٌ مَنْ نعمْ

أقام به شاهبورُ الجنو                      دَ حولين تضرب فيه القُدُم3


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وقال المسعودى: دلته على نهر واسع كان يدخل منه الماء إلى الحَضر، فقطع لهم الماء، ودخلوا منه.
وقال الطبري: دلته على طلسم كان في الحَضر، وكان في علمهم أنه لا يفتح حتى تؤخذ حمامة ورقاء، وتخضب رجلاها بحيض جارية بكر زرقاء، ثم ترسل الحمامة، فتنزل على سور الحضر، فيقع الطلسم، فيفتح الحَضر.
2 قال ابن إسحاق: المستبيح للحضر سابور ذو الأكتاف، وجعله غيره سابور بن أزدشير بن بابك، وقد تقدم أن أزدشير هو أول من جَمع ملك فارس، وأذل ملوك الطوائف، حتى دان الملك له، والضيزن: كان من ملوك الطوائف، فيبعد أن تكون هذه القصة لسابور ذي الأكتاف، وهو سابور هرمز، وهو ذو الأكتاف؛ لأنه كان بعد سابور الأكبر بدهر طويل، وبينهم ملوك مَسمون في كتب التاريخ، وهم: هرمز بن سابور، وبهرام بن هرمز، وبهرام بن بهرام، وبهرام الثالث، ونرسي بن بهرام، وبعده كان ابنه سابور ذو الأكتاف والله أعلم.
3 شاهبور: معناه ابن الملك.

 

ج / 1 ص -67-                                       فلما دعا ربَّه دعوة      أناب إليه فلم ينتقمْ

وهذه الأبيات في قصيدة له.
قول عدي بن زيد: وقال عدي بن زيد في ذلك:

والحَضْر صابت عليه داهية                      من فوقِه أيد مناكبها1

رَبِيّة لم تُوَقِّ والدَها                              لحَيْنها إذ أضاع راقبها2

إذ غَبَقَتْه صَهْباءَ صافيةً                          والخمرُ وَهْلٌ يَهيم شاربُها3

فأسْلمتْ أهلَها بليلتِها                          تظنُّ أن الرئيسَ خاطبُها

فكان حَظ العَروسِ إذ جَشَر الصبْحُ دماءً تجري سَبَائِبها4

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أيد: شديدة.
2 رَبِيَّة لم تُوَق والدَها: يحتمل أن تكون فعيلة من ربيت، إلا أن القياس في فعيلة بمعنى مفعولة أن تكون بغير هاء، ويحتمل أنه أراد معنى الربو والنماء، لأنها ربت في نعمة فتكون بمعنى فاعلة، ويكون البناء موافقًا للقياس، وأصح من هذين الوجهين أن يكون أراد: ربيئة بالهمز، وسهل الهمزة فصارت ياء، وجعلها ربيئة؛ لأنها كانت طليعة حيث اطلعت، حيث رأت سابور وجنوده، ويقال للطليعة ذكرًا كان أو أنثى: ربيئة، ويقال له: رباء على وزن فِعال وأنشدوا:

رباء شماء لا يأوي لقلتها                   إلا السحاب وإلا الأوب والسبل

وقوله: أضاع راقبها: أي أضاع المربأة الذى يرقبها ويحرسها، ويحتمل أن تكون الهاء عائدة على الجارية أي: أضاعها حافظها.
3 والخمر وهل. يقال: وهل الرجل وهلًا وَوهَلًا إذا أراد شيئًا، فذهب وهمه إلى غيره. ويقال فيه: وهَم أيضًا بفتح الهاء، وأما وهم بالكسر، فمعناه: غلط وأرهم بالألف معناه: أسقط.
4 جشر: ظهر ووضح. سبائبها جمع: سبيبة، وهي كالعمامة أو نحوها، ومنها السب وهو: الخمار.

ج / 1 ص -68-                                        وخُرِّب الحَضْر، واستبيحَ، وقدْ    أحْرِق في خدرِها مشاجبُها1

وهذه الأبيات في قصيدة له.
ذكر ولد نِزار بن معد:
قال ابن إسحاق: فولد نِزارُ بن معد ثلاثةَ نفر: مُضر2 بن نِزار، وربيعةَ بن نِزار، وأنمار بن نِزار.
قال ابن هشام: وإياد بن نزار. قال الحارث بن دَوْس الإيادي، ويروى لأبي دُواد الإيادي، واسمه: جارية بن الحجاج:

وفُتُوٌّ حسن أوجُهم                           من إياد بن نِزار بن معد

وهذا البيت في أبيات له.
فأم مضر وإياد: سَوْدَة بنتُ عَكّ بن عدنان. وأم ربيعة وأنمار: شُقَيْقَة بنت عَك بن عدنان، ويقال: جُمْعَة بنت عك بن عدنان.
أولاد أنمار: قال ابن إسحاق: فأنمار3 أبو خَثْعَم وبجيلة، قال جرير بن عبد اللّه البَجَلي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مشاجبها. المشاجب: جمع مشجب، وهو ما تعلق منه الثياب.
2 فأما مضر فقد تقدم ذكره في عمود نسب النبي -صلى الله عليه وسلم- وذكرنا أنه أول من سن حداء الإبل، وسببه -فيما ذكروا- أنه سقط عن بعير، فوثبت يده، وكان أحسن الناس صوتًا، فكان يمشي خلف الإبل، ويقول: وايدياه وايدياه، يترنم بذلك فأعنقت الإبل، وذهب كلالها؛ فكان ذاك أصل الحداء عند العرب،وذلك أنها تنشط بحدائها الإبل، فتسرع.
3 وأما أنمار فسمى: بالأنمار جمع نَمِر، كما سموا بسباع وكلاب، وأم بنيه: بجيلة بنت صعب بن سعد العشيرة ولد له من غيرها أفتل وهو:خثعم، وولدت له عبقر فى خمسة عشر، سماهم أبو الفرج، عنهم تناسلت قبائل بجيلة وهم: وداعة وخزيمة وصهيبة والحارث ومالك وشيبة وطريفة وفَهم والغَوث وسهل وعبقر وأشهل كلهم بنو أنمار، ويقال: إن بجيلة حبشية حضنت أولاد أنمار الذين سَمينا، ولم تحضن أفتل، وهو: خثعم. فلم ينسب إليها.

ج / 1 ص -69-        وكان سيد بجيلة، وهو الذي يقول له القائل:

لولا جرير هلكت بجيله                    نعم الفتى، وبئست القبيلهْ1

وهو ينافر2 الفُرافِصة3 الكلبي إلى الأقرع بن حابس التميمى:

يا أقرعَ بن حابس يا أقرعُ                        إنك إن تَصْرعْ أخاك تُصرع4

قال:

ابْنَيْ نزارٍ انصُرا أخاكما                        إن أبى وجدْتُه أباكما

لن يُغلبَ اليومَ أخ وإلاكُما                     وقد تيامنت، فلحقت باليمن.

قال ابن هشام: قالت اليمن: وبجيلة: أنمار بن إراش بن لحْيان بن عمرو بن الغَوْث بن نَبْت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ. ويقال: إراش بن عمرو بن لِحْيان بن الغوث. ودار بجيلة وخَثْعَم: يمانية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال لما سمع هذا: ما مُدح رجل هُجي قومه: وجرير هذا هو: ابن عبد اللّه بن جابر، وهو، الشليل بن مالك بن نضر بن ثعلبة بن جشم بن عويف بن جذيمة.
2 ينافر: أي يحاكم. قال قاسم بن ثابت: لفظ المنافرة مأخوذ من النَّفر، وكانوا إذا تنازع الرجلان، وادعى كل واحد منهم أنه أعز نفرًا من صاحبه، تحاكموا إلى العلَّامة، فمن فضَل منهما قيل: نفره عليه أى: فضل نفره على نفرِ الآخر. فمن هذا أخذت المنافرة. وقال زهير:

فإن الحق مقطعُه ثلاث                               يمين أو نفار أو جلاء

3 الفُرافصة بالضم: اسم أسد، والفتح اسم الرجل، وقد قيل: كل فرافصة في العرب بالضم إلا الفَرافصة أبا نائلة صهر عثمان بن عفان فإنه بالفتح.
4 الأشهر فى الرواية: "إن يُصرع أخوك"، وإنما لم ينجزم الفعل الآخر على جواب الشرط؛ لأنه في نية التقديم عند سيبويه، وهو على إضمار الفاء عند المبرد.

 

ج / 1 ص -70-        ولدا مضر: قال ابن إسحاق: فولد مضر بن نزار رجلين: إلياس بن مُضَر، وعَيْلان1 بن مضر. قال ابن هشام: وأمهما جرهمية2.
أولاد إلياس: قال ابن إسحاق: فولد إلياس بن مضر ثلاثة نفر: مُدْرِكة بن إلياس، وطابخة بن إلياس، وقَمَعَة بن إلياس، وأمهم: خِنْدف3، امرأة من اليمن.
قال ابن هشام: خِنْدف بنت عمران بن الحاف بن قضاعة.
قال ابن إسحاق: وكان اسم مُدركة عامرًا، واسم طابخة عَمْرًا، وزعموا أنهما كانا في إبل لهما يرعيانها، فاقتنصا صيدًا، فقعدا عليه يطبخانه؟ وعَدَتْ عادية على إبلهما، فقال عامر لعمرو: أتدرك الإبل، أم تطبخ هذا الصيد؟ فقال عمرو: بل أطبخ، فلحق عامر بالإبل فجاء بها، فلما راحا على أبيهما حدثاه بشأنهما، فقال لعامر: أنت مُدْرِكة، وقال لعمرو: وأنت طابخة4.
وأما قَمَعَة فيزعم نُساب مضر: أن خزاعة من ولد عَمرو بن لُحَيّ بن قَمَعة بن إلياس.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وأما عَيلان أخو الياس، فقد قيل: إنه قيس نفسه لا أبوه، وسمي بفرس له اسمه: عيلان، وكان يجاوره قيس كُبة من بجيلة عرف بكبة اسم فرسه، فرق بينهما بهذه الإضافة، وقيل: عيلان اسم كلب له.
2 وذكر ابن إسحاق أم إلياس، وقال فيها: امرأة من جرهم، ولم يسمها، وليست من جرهم، وإنما هى الرباب بنت حَيْدة بن معد بن عدنان -فيما ذكر الطبرى- وقد قدمنا ذلك فى نسب النبي -صلى الله عليه وسلم.
3 وخِنْدف التى عُرف بها بنو إلياس. وهي التي ضُربت الأمثال بحزنها على إلياس، وذلك أنها تركت بنيها، وساحت في الأرض تبكيه: حتى ماتت كمدًا، وكان مات يوم خميس، وكانت إذا جاء الخميس بكت من أول النهار إلى آخره.
قال الزبير: وإنما نسب بنو إلياس لأمهم؛ لأنها. حين تركتهم شغلا لحزنها على أبيهم، رحمهم الناس، فقالوا: هؤلاء أولاد خندف الذين تركتهم، وهم صغار أيتام، حتى عُرفوا ببني خندف.
4 وفي الخبر زيادة وهو أن إلياس قال لأمهم، واسمها ليلى، وأمها: ضَرِية بنت ربيعة بن نزار التي ينسب إليها: حمى ضرية؛ وقد أقبلت تُخَندف في مشيتها: ما لك تخندفين؟ فسميت: خندف، والخندفة: سرعة في مشي، وقال لمدركة:

وأنت قد أدركت ما طلبتا

وقال لطابخة:

وأنت قد أنضجت ما طبختا

وقال لقمعة وهو عمير:

وأنت قد قعدت فانقمعتا

 

ج / 1 ص -71-        حديث عمرو بن لحيّ وذكر أصنام العرب:
عمرو بن لحيّ يجر قصبه في النار: قال ابن إسحاق: وحدثني عبد اللّه بن أبي بكر بن محمد بن عَمرو بن حَزْم عن أبيه قال: حُدثتُ أن رسولَ اللّه -صلى الله عليه وسلم- قال:
"رأيت عَمْرو بن لُحَي يجرُّ قصْبه1 في النار فسألته عمن بيني وبينه من الناس، فقال: هلكوا".
قال ابن إسحاق. وحدثني محمد بن إبراهيم الحارث التَيمِي أن أبا صالح السمان حدثه أنه سمع أبا هريرة. قال ابن هشام: واسم أبي هريرة: عبد اللّه بن عامر، ويقال اسمه: عبد الرحمن بن صخر يقول: سمعتُ رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم- يقول لأكثم بن الجَوْن الخُزاعي:
"يا أكثمُ، رأيت عمرو بن لُحَيّ بن قَمَعة بن خنْدِف يجر قصبه في النار، فما رأيت رجلًا أشبه برجل منك به، ولا بك منه". فقال أكثم: عسى أن يضرني شبهه يا رسولَ اللّه؟ قال: "لا، إنك مؤمنٌ وهو كافر، إنه كان أول من غيَّر دين إسماعيل، فنصب الأوثان، وبَحَر البحِيرة2 وسيبَ السائبة، ووصل الوَصِيلة، وحمى الحَامِي".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قصبه: أمعاؤه.
2 وقد رُوي أيضًا أن أول من بحَّر البحيرة: رجل من بني مدلج كانت له ناقتان، فجدع آذانهما، وحرم ألبانهما. قال رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم:
"فرأيته في النار يخبطانه بأخفافهما، ويعضانه بأفواههما". وقال عليه السلام: "قد عرفت أول من سيَّب السائبة ونصب النصب: عمرو بن لحي رأيته يؤذي الناسَ بريح قصبه". رواه ابن إسحاق عن عبد اللّه بن أبى بكر مرسلًا.

 

ج / 1 ص -72-        أصل عبادة الأصنام في أرض العرب:
قال ابن هشام: حدثني بعض أهل العلم أن عَمرو بن لحيّ خرج من مكة إلى الشام في بعض أموره، فلما قدم مآبَ من أرض البلقاء، وبها يومئذ العماليق، وهم ولد عِمْلاق. ويقال: عِمْليق بن لَاوذ بن سام بن نوح، رآهم يعبدون الأصنام، فقال لهم: ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدون؟ قالوا له: هذه أصنام نعبدها فنستَمْطرها فتُمطرنا، ونستَنْصرها فتنصُرنا، فقال لهم: ألا تعطونني منها صنمًا، فأسير به إلى أرض العرب، فيعبدوه؟ فأعطوه صنمًا يقال له: هُبَل، فقدم به مكة، فنصبه، وأمر الناس بعبادته وتعظيمه1.
سبب عبادة الأصنام:
قال ابن إسحاق: ويزعمون أن أول ما كانت عبادة الحجارة في بني إسماعيل، أنه كان لا يظعن من مكة ظاعن منهم، حين ضاقت عليهم، والتمسوا الفُسَح في البلاد، إلا حمل معه حجرًا من حجارة الحرم تعظيمًا للحرم، فحيثما نزلوا وضعوه، فطافوا به كطوافهم بالكعبة، حتى سلخ ذلك بهم إلى أن كانوا يعبدون ما استحسنوا من الحجارة وأعجبهم، حتى خلف الخُلوف، ونسوا ما كانوا عليه، واستبدلوا بدين إبراهيم وإسماعيل غيره، فعبدوا الأوثان، وصاروا إلى ما كانت عليه الأمم قبلهم من الضلالات، وفيهم على

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وكان عمرو بن لحي حين غلبت خزاعة على البيت، ونفت جرهم عن مكة، قد جعلته العرب ربًّا لا يبتدع لهم بدعة إلا اتخذوها شرعة؛ لأنه كان يطعم الناس، ويكسو فى الموسم، فربما نحر في الموسم عشرة آلاف بدنة، وكسا عشرة آلاف حلّة، حتى ليقال: إنه اللاتُ الذي: يلتُّ السويق -وهو طعام يصنع من الحنطة والشعير المدقوق– للحجيج على صخرة معروفة تسمى: صخرة اللات، ويقال إن الذى يلت كان من ثقيف، فلما مات قال لهم عمرو، إنه لم يمت، ولكن دخل فى الصخرة، ثم أمرهم بعبادتها، وأن يبنوا عليها بيتًا يُسمى: اللات، ويقال: دام أمره وأمر ولده على هذا بمكة ثلاثمائة سنة؛ فلما هلك سميت تلك الصخرة: اللات مخففة التاء، واتُّخذ صنمًا يُعبد، وقد ذكر ابن إسحاق، أنه أول من أدخل الأصنام الحرم، وحمل الناس على عبادتها.

 

ج / 1 ص -73-        ذلك بقايا من عهد إبراهيم يتمسكون بها: من تعظيم البيت، والطواف به، والحج والعمرة والوقوف على عرفة والمزدلفة، وهَدْي البُدْن، والإهلال بالحَج والعمرة، مع إدخالهم فيه ما ليس منه. فكانت كنانةُ وقريش إذا أهلُّوا قالوا: "لَبَّيك اللهمَّ لبيك، لَبيك لا شريك لك، إلا شريك هو لك، تملكُه وما مَلَكَ". فيوحدونه بالتلبية، ثم يُدخلون معه أصنامَهم، ويجعلون مِلْكَها بيده. يقول اللّه تبارك وتعالى لمحمد –صلى الله عليه وسلم: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106] أي ما يوحدونَني لمعرفة حقِّي إلا جعلوا معي شريكًا في خلقي1.
أصنام قوم نوح: وقد كانت لقوم نوح أصنامٌ قد عَكفوا عليها، قَصَّ اللّه -تبارك وتعالى- خبَرها على رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم-فقال:
{وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا، وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا}2 [نوح: 23، 24]

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وكانت التلبية من عهد إبراهيم: لبيك، لا شريك لك لبيك، حتى كان عمرو بن لحي، فبينما هو يلبي تمثَّل له الشيطان فى صورة شيخ يلبي معه، فقال عمرو: لبيك لا شريك لك، فقال الشيخ: إلا شريكا هو لك، فأنكر ذلك عمرو، وقال: وما هذا؟ فقال الشيخ قل: تملكه وما ملك، فإنه لا بأس بهذا، فقال عمرو، فدانت بها العرب.
2 وتلك هى الجاهلية الأولى التي ذكر الله في القرآن في قوله:
{وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب: 33] وكان بدء ذلك في عهد مهلايل بن قَينان فيما ذكروا. وقد ذكر البخاري عن ابن عباس قال: "صارت الأوثان التى كانت فى قوم نوح في العرب بعدُ، وهي أسماء قوم صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا في مجالسهم التي كانوا يجلسونها أنصابًا، وسموها بأسمائهم، ففعلوا؛ فلم تُعبد حتى إذا هلك أولئك وتُنُوسخ العلم عبدت".
وذكر الطبري هذا المعنى وزاد: أن سواعًا كان: ابن شيث، وأن يغوث كان ابن:سواع، وكذلك يعوق ونَسْر، كلما هلك الأول صُورت صورته، وعظمت لموضعه من الدين، ولما عهدوا في دعائه من الإجابة، فلم يزالوا هكذا حتى خلفت الخلوف، وقالوا: ما عظم هؤلاء آباؤنا إلا لأنها ترزق وتنفع وتضر، واتخذوها آلهة. وهذه أسماء سريانية وقعت إلى الهند فسموا بها أصنامهم التى زعموا أنها صور الدراري السبعة، وربما كلمتهم الجن من جوفها ففتنتهم، ثم أدخلها إلى العرب عمرو بن لحي وعلمهم تلك الأسماء، وألقاها الشيطان على ألسنتهم موافقة لما كانوا فى عهد نوح.

 

ج / 1 ص -74-        القبائل العربية وأصنامها: فكان الذين اتخذوا تلك الأصنام من ولد إسماعيل وغيرهم، وسمّوا بأسمائهم حين فارقوا دين إسماعيل: هُذَيْلَ بنَ مُدْركة بن إلياس بن مُضَر، اتخذوا سُواعًا فكان لهم بِرُهاط1. وكلب بن وَبْرة من قضاعة اتخذوا وَدًّا بدومة الجندل2.
قال ابن إسحاق: وقال كعب بن مالك الأنصاري:

وننسى اللَّاتَ والعُزَّى وودًّا                      ونسلُبها القَلائد والشُّنوفا3

قال ابن هشام: وهذا البيت في قصيدة له سأذكرها في موضعها -إن شاء اللّه.
قال ابن هشام: وكَلب بنُ وَبزةَ بن تغلب بن حُلْوَان بن عِمران بن الحاف بن قضاعة.
عباد يغوث: قال ابن إسحاق: وأنعُم من طيِّئ، وأهل جُرَش من مَذْحج اتخذوا يغوث بجُرش.
قال ابن هشام. ويقال: أنْعَم. وطيّئ بن أدَد بن مالك، ومالك: مَذْحج بن أدَد، ويقال طيِّئ بن أدد بن زيد بن كهلان بن سبأ.
عباد يعوق: قال ابن إسحاق: وخَيْوان بطن همدان، اتخذوا يعوق بأرض همدان من أرض اليمن.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رهاط: من أرض ينبع.
2 ودومة هذه -بضم الدال- ذكروا أنها سميت بدومي بن إسماعيل كان نزلها، ودُومة أخرى بضم الدال عند الكوفة، ودَومة -بفتح الدال- أخرى مذكورة في أخبار الردة،كذا وجدته للبكري مقيدا في أسماء هذه المواضع. راجع: "الروض الأنف بتحقيقنا ج1 ص103".
3 الشنوفا. مفردة شنف: القرط.

 

ج / 1 ص -75-        قال ابن هشام: وقال مالك بن نَمَط الهَمْداني.

يَريش اللّه في الدنيا ويَبْرى                       ولا يبرى يَعوقُ ولا يَرِيشُ2

وهذا البيت في أبيات له.
قال ابن هشام: اسم همدان: أوْسَلة بن مالك بن زيد بن ربيعة بن أوْسَلة بن الخِيار بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ. ويقال: أوسلة بن زيد بن أوسلة بن الخِيار. ويقال: همدان بن أوسلة بن ربيعة بن مالك بن الخيار بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ.
عباد نسر: قال ابن إسحاق: وذو الكُلَاعِ من حِمْير، اتخذوا نَسْرًا بأرضِ حِمْير.
عباد عميانس: وكانَ لخَوْلان صنم يقال له: عُمْيَانِس بأرض خَوْلان يقسمون له من أنعامهم وحروثهم قَسَمًا بينه وبين اللّه بزعمهم، فما دخل في حق عُمْيانس من حق اللّه تعالى الذي سموه له تركوه له، وما دخل في حق اللّه تعالى من حق عُمْيانس ردوه عليه. وهم في من خَوْلان، يقال لهم: الأديم، وفيهم أنزل اللّه -تبارك وتعالى- فيما يذكرون:
{وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الأنعام: 136]
قال ابن هشام: خَوْلان بن عمرو بن الحاف بن قضاعة، ويقال: خَوْلان بن عَمرو بن مُرة بن أدَد بن زَيد بن مِهْسَع بن عَمرو بن عَرِيب بن زَيد بن كهلان بن سبأ، ويقال: خَوْلان بن عمرو بن سعد العشيرة بن مَذْحِج.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو: أبو ثور، يلقب: ذا الْمِشْعَار، وهو من بني خارف، وقد قيل إنه من يام بن أصي، وكلاهما من همدان.
2 هو من رشتُ السهم وبريته، استعير في النفع والضر قال سويد:

فرشْنِي بخير طالما قد بَرَيتني               وخير الموالي من يريش ولا يبري

 

ج / 1 ص -76-        عباد سعد: قال ابن إسحاق: وكان لبني مِلْكَان1 -بن كنانة بن خُزَيمة بن مُدْرِكة بن إلياس بن مُضر- صنم، يقال له: سعد: صخرة بفَلاة من أرضهم طويلة، فأقبل رجل من بني مِلكَان بإبل له مُؤَبلة؛ ليقفها عليه، التماسَ بركته –فيما يزعُم– فلما رأته الإبل وكانت مَرْعيَّة لا تُركب، وكان يُهْراق عليه الدماء نفرت منه، فذهبت في كل وجه، وغضب ربُّها المِلْكاني، فأخذ حجرًا فرماه به، ثم قال: لا بارك اللّه فيك، نفَّرت عليَّ إبلي، ثم خرج في طلبها حتى جمعها، فلما اجتمعت له قال:

أتينا إلى سعدٍ، ليجمعَ شملَنا             فشتتنا سعد، فلا نحنُ من سعدِ2

وهل سعدُ إلا صخرة بتَنُوفةٍ                  من الأرض لا تدعو لِغَي ولا رُشْد3

دوس وصنمهم: وكان في دوس صنم لعمرو بن حُمَمة الدَّوْسي.
قال ابن هشام: سأذكر حديثه في موضعه -إن شاء اللّه.
ودَوْسُ بنُ عُدْثان بن عبد الله بن زهران بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأسْد بن الغوث. ويقال: دوس بن عبد الله بن زهران بنِ الأسْد بن الغوْث.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ملكان بن كنانة بكسر الميم. قال أبو جعفر بن حبيب النسابة: كل شيء في العرب فهو مِلْكان بكسر الميم ساكن اللام، غير ملكان في قضاعة، وملكان في السَّكُون، فإنهما بفتح الميم واللام فملكان قضاعة: هو: ابن جَرم بن زبان بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة، وملكان السّكون هو: ابن عياد بن عياض بن عقبة بن السكون بن أشرس من كندة.
2 ويمتنع في العربية دخول "لا" على الابتداء المعرفة والخبر إلا مع تكرار: "لا" مثل: أن تقول لا زيد في الدار ولا عمرو، وذكر سيبويه قولهم: لا نَوْلُك أن تفعل، وقال: وإنما جاز هذا؛ لأن معناه معنى الفعل. أي: لا ينبغي لك أن تفعل، وكذلك ينبغي أن يقال في بيت الملكانى: أي: لم يقلها على جهة الخبر، ولكن على قصد التبري منه، فكان معنى الكلام: فلا نتولى سعدًا، ولا ندين به، فهذا المعنى حَسَّن دخول "لا" على الابتداء.
3 بتنوفة: بأرض جرداء.

 

ج / 1 ص -77-        عباد هبل: قال ابن إسحاق: وكانت قريش قد اتخذت صنمًا على بئر في جوف الكعبة يقال له: هُبَل1.
قال ابن هشام: سأذكر حديثَه -إن شاء اللّه في موضعه.
إساف ونائلة: قال ابن إسحاق: واتخذوا إسافًا ونائلة، على موضع زمزم ينحرون عندهما، وكان إساف ونائلة رجلًا وامرأة من جرهم، هو: إساف بن بَغْي ونائلة بنت دِيك، فوقع إساف على نائلةَ في الكعبة: فمسخهما اللّه حجَرَيْن2.
حديث عائشة عن إساف ونائلة: قال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عَمرو بن حَزْم. عن عَمْرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زُرارة أنها قالت: سمعت عائشة -رضي اللّه عنها- تقول: ما زلنا نسمع أن إسافًا ونائلة كانا رجلا وامرأة من جُرْهم، أحدثا3 في الكعبة: فمسخهما اللّه تعالى حجَريْن -واللّه أعلم.
قال ابن إسحاق: وقال أبو طالب:

وحيث يُنيخُ الأشْعرون رِكابَهم               بمُفْضَ السيولِ من إسافٍ ونائِل4

قال ابن هشام: وهذا البيت في قصيدة له؛ سأذكرها في موضعها إن شاء الله تعالى.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وأما هُبل فإن عمرو بن لحي جاء به من هيت، وهي من أرض الجزيرة حتى وضعه في الكعبة.
2 أخرج رزين فى فضائل مكة عن بعض السلف: ما أمهلهما الله إلى أن يفجرا فيها، ولكنه قَبَّلها، فمسخا حجرين، فأخرجا إلى الصفا والمروة فنصبا عليهما، ليكونا عبرة، وموعظة، فلما كان عمرو بن لحي نقلهما إلى الكعبة، ونصبهما على زمزم، فطاف الناس بالكعبة وبهما، حتى عُبدا من دون الله.
3 أرادت الحديث الذي هو الفجور كما قال -عليه السلام:
"من أحدث حدثا، أو آوى محدثا، فعليه لعنة الله"، وقال عمر -حين كانت الزلزلة بالمدينة: "أحدثتم، والله لئن عادت لأخرجن من بين أظهركم".
4 هو ترخيم في غير النداء لضرورة الوزن في البيت.

 

ج / 1 ص -78-        فعل العرب مع أصنامهم: قال ابن إسحاق: واتخذ أهلُ كلِّ دار في دارهم صنمًا يعبدونه، فإذا أراد الرجل منهم سفرًا تمسَّح به حين يركب، فكان ذلك آخر ما يصنع حين يتوجه إلى سفره، وإذا قدم من سفره تمسَّح به، فكان ذلك أول ما يبدأ به قبل أن يدخل على أهله، فلما بعث الله رسوله محمدًا -صلى الله عليه وسلم- بالتوحيد، قالت قريش: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [سورة ص: 5].
الطواغيت: وكانت العرب قد اتخذت مع الكعبة طَواغيت، وهي بيوتٌ تعظمها كتعظيم الكعبة، لها سَدَنَة وحُجَّاب، وتُهْدي لها كما تُهْدي للكعبة، وتطوف بها كطوافها بها، وتنحر عندها، وهي تَعْرف فضل الكعبة عليها؛ لأنها كانت قد عَرَفت أنها بيت إبراهيم الخليل ومسجده.
العُزَّى وسدنتها وحجابها: فكانت لقريش وبني كنانة: العُزَّى بنَخْلة، وكان سَدنَتَها وحُجابَها بنو شيبان من سُلَيْم، حلفاء بني هاشم. قال ابن هشام: حلفاء بنى أبيِ طالب خاصة، وسُلَيْم: سُلَيْم بن منصور بن عكرمة بن خَصَفة بن قيْس بن عَيْلان.
قال ابن إسحاق: فقال شاعر من العرب:

لقد أنْكِحَتْ أسماءُ رأسَ بُقَيْرةٍ              من الأدْم أهداها امرؤ من بني غَنْم

رأى قَدَعًا في عينها إذْ يسوقُها             إلى غَبْغَبِ العُزى فوسَّع في القَسْم1


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والقدع: ضعف البصر من إدمان النظر.
وقوله في الغبغب: وهو المنحر ومراق الدم، كأنه سمي بحكاية صوت الدم عند انبعاثه، ويجوز أن يكون مقلوبًا من قولهم: بئر بُغبغ وبغيبغ إذا كانت كثيرة الماء. قال الراجز:
بُغيبغ قصيرة الرشاء
ومنه قيل لعين أبي نَيْزَر: البغيبغة. ومعنى هذا البيت: الذم وتشبيه هذا المهجو برأس بقرة قد قربت أن يذهب بصرها، فلا تصلح إلا للذبح والقسم.

 

ج / 1 ص -79-        وكذلك كانوا يصنعون إذا نحروا هديًا قسَّموه فيمن حضرهم. والغَبْغَب: المنحَر، ومُهراق الدماء.
قال ابن هشام: وهذان البيتان لأبي خراش الهذليّ واسمه: خُوَيلد ابن مُرة في أبيات له.
من هم السدنة: والسدنةُ: الذين يقومون بأمر الكعبة. قال رُؤبة بن العجاج:

فلا وربِّ الآمناتِ القطَّنِ                       يَعْمرن أمنًا بالحرامِ المأمن

بمحبسِ الهدْي وبيتِ المَسْدَنِ

وهذان البيتان في أرجوزة له، وسأذكر حديثها إن شاء اللّه تعالى في موضعه.
اللات وسدنتها: قال ابن إسحاق: وكانت اللاتُ لثقيف بالطائف، وكان سَدنتَها وحجابها بنو مُعَتِّب من ثقيف.
قال ابن هشام: وسأذكر حديثها إن شاء اللّه تعالى في موضعه.
مناة وسدنتها: قال ابن إسحاق: وكانت مُناة للأوْس والخزرج، ومن دان بدينهم من أهل يثرب، على ساحل البحر من ناحية المُشَلَّلِ بقُدَيْد.
قال ابن هشام: وقال الكُمَيْت بن زيد أحد بني أسد بن مدركة:

وقد آلتْ قبائلُ لا تُولِّي                            مناةَ ظهورَها مُتَحرِّفينا

وهذا البيت في قصيدة له.
هدم مناة: قال ابن هشام: فبعث رسولُ اللّه -صلى الله عليه وسلم-إليها أبا سفيان بن حرب فهدمها، ويقال: علي بن أبى طالب.
ذو الخلَصة وعبَّاده وهدمه: قال ابن إسحاق: وكان ذو الْخَلَصة لدَوْس وخَثْعم وبجِيلة، ومن كان ببلادهم من العرب بتَبَالة.
قال ابن هشام: ويقال: ذو الخُلُصة. قال رجل من العرب:

لو كنتَ يا ذا الخُلص الموتورا                    مثلي وكان شيخُك المقبورا

لم تنهَ عن قتلِ العُداة زورَا

 

ج / 1 ص -80-        قال: وكان أبوه قُتل، فأراد الطلب بثأره، فأتى ذا الخلَصة، فاستقسم عنده بالأزلام. فخرج السهم بنهيه عن ذلك، فقال هذه الأبيات. ومن الناس من ينحلها امرأ القيس بن حُجْر الكِنْدي، فبعث إليه رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم- جريَر بنَ عبد الله البجْلي، فهدمه1.
فلس وعباده وهدمه: قال ابن إسحاق: وكانت فِلْس2 لطيّئ ومن يليها بجبلىْ طيئ، يعني سَلْمى وأجأ.
قال ابن هشام: فحدثني بعضُ أهل العلم أن رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم- بعث إليها عليُّ بن أبى طالب فهدمها، فوجد فيها سيفيْن، يقال لأحدهما: الرَّسُوب، وللآخر: المِخْذَم. فأتى بهما رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم-فوهبهما له، فهما سيفا علي رضى اللّه عنه.
رئام: قال ابن إسحاق: وكان لحميَر وأهل اليمن بيت بصنعاء يقال له: رِئام.
قال ابن هشام: قد ذكرت حديثه فيما مضى.
رُضاء وعباده وهدمه: قال ابن إسحاق: وكانت رُضَاء بيتًا لبني ربيعة بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم. ولها يقول المُسْتَوْغِر3 بن ربيعة بن كعب بن سعد حين هدمها في الإسلام:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وذلك قبل وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- بشهرين أو نحوهما، قال جرير: بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مائة وخمسين راكبًا من أحمس إلى ذي الخلَصة، فقلت: يا رسول الله إني لا أثبت على الخيل، فدعا لي، وقال:
"اللهم ثبته واجعله هاديًا مهديًّا..".
2 هكذا وجدته مضبوطا فى القاموس. وضبطه ابن الكلبي بفتح فسكون، وضبطه ياقوت بضم الفاء واللام. وتروى في بعض المراجع: قلسا، ويذكر عن ابن الكلبي أو غيره أن أجأ اسم رجل بعينه، وهو: أجأ بن عبد الحي، وكان فجر بسلمى بنت حام، أو اتهم بذلك -فيما ذكر- وكانت السفير بينهما وبين أجأ فصلبت في الجبل الثالث، فسمي بها.
3 واسمه.كعب قال ابن دريد. سمي مستوغرًا بقوله: =

 

ج / 1 ص -81-                                             ولقد شَدَدْتُ على رُضَاءٍ شَدَّةً         فتركتُها قفرًا بقاعٍ أسْحَما

قال ابن هشام: قوله:

فتركتُها قفرًا بقاعٍ أسْحَمَا                         عن رجل من بني سعد.

عُمْر المستوغر: ويقال: إن المستوغر عُمِّر ثلاثمائة سنة وثلاثين سنة، وكان أطولَ مُضَر كلها عمرًا، وهو الذي يقول:

ولقد سئمتُ من الحياةِ وطولها                وعَمَرْتُ من عددِ السنين مئينا

مائة حَدَتْها بعدها مئتان لي                    وازددتُ من عدد الشهورِ سنينا

هل ما بقي إلا كما قد فاتنا                     يوم يمرُّ وليلة تحدونا

وبعض الناس يروي هذه الأبيات لزُهير بن جَناب الكلبيِّ1.
ذو الكعبات وعُبَّاده: قال ابن إسحاق: وكان ذو الكَعَبات لبكر وتغلب ابني وائل وإياد بِسِنْدَاد، وله يقول أعشى بني قيس بن ثَعلبة:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
=

ينش الماء في الربلات منه                 نشيش الرضف في اللبن الوغير

والوغير: فعيل من وغرة الحر وهي شدته. وذكر القتبي أن المستوغر حضر سوق عكاظ، ومعه ابن ابنه، وقد هرم، والجد يقوده، فقال له رجل: ارفق بهذا الشيخ، فقد طال ما رفق بك فقال: ومن تراه؟ فقال: هو أبوك أو جدك، فقال: ما هو إلا ابن ابني، فقال ما رأيت كاليوم ولا المستوغر بن ربيعة! فقال: أنا المستوغر.
1 وهو زُهَير بن جَناب بن هُبل بن عبد الله بن كِنانة بن بكر بن عَوف بن غدرة أو عذرة بن زيد اللات بن رفيدة بن ثور بن كلب بن وبرة. وزهير هذا من المعمرين وهو الذى يقول:

ابُني إن أهلك فإني                                    قد بنيت لكم بنيَّه

وتركتكم أولاد سادا                                     ت زنادهم وريه

من كل ما نال الفتى                                  قد نلته إلا التحيه

 

ج / 1 ص -82-                                     بينَ الخَوَرْنق والسَّديرِ وبارقٍ       والبيتِ ذي الكَعَبات من سَنْداد1

قال ابن هشام: وهذا البيت للأسود بن يَعْفر النهْشَليّ: نهشل بن دارم بن مالك بن زيد بن مناة بن تميم، في قصيدة له، وأنشدنيه أبو مُحْرز خلف الأحمر:

أهل الخَوَرْنَقِ والسَّديرِ وبارقٍ                والبيتِ ذي الشُّرفات من سِنْدات

البَحيرة والسائبة والوصيلة والحَامِي:
رأي ابن إسحاق فيها: قال ابن إسحاق: فأما البَحيرة فهي: بنت السائبة، والسائبة: الناقة إذا تابعت بين عشر إناث ليس بينهن ذكر، سُيبت فلم يُركب ظهرُها، ولم يُجزّ وبرُها، ولم يُشرب لبنُها إلا ضيف، فما نتجت بعد ذلك من أنثى شُقَّت أذنُها، ثم خُلِّى سبيلُها مع أمها، فلم يُركب ظهرُها، ولم يُجز وبرُها، ولم يُشرب لبنُها إلا ضيف، كما فُعل بأمِّها، فهي البَحيرةُ بنت السائبة، والوَصِيلة: الشاة إذا أتأمَتْ2 عشرَ إناثٍ متتابعات في خمسة أبطن، ليس بينهن ذكرٌ، جُعلت وصيلة. قالوا: قد وَصَلتْ، فكان ما وَلَدت بعد ذلك للذكور منهم دون إناثهم، إلا أن يموت منها شيء، فيشتركوا في أكله، ذكورُهم وإناثُهم.
قال ابن هشام: ويروى: فكان ما ولدت بعد ذلك لذكور بنيهم دون بناتهم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الخورنق: قصر بناه النعمان الأكبر ملك الحيرة لسابور، ليكون ولده فيه عنده، وبناه بنيانًا عجيبًا لم تر العرب مثله، واسم الذي بناه له: سنمار، وهو الذى رُدي من أعلاه، حتى قالت العرب: جزاني جزاء سنمار، وذلك أنه لما تم الخورنق، وعجب الناس من حسنه، قال سنمار: أما والله لو شئت حين بنيته جعلته يدور مع الشمس حيث دارت، فقال له الملك: إنك لتحسن أن تبني أجمل من هذا؟ وغارت نفسه أن يبتني لغيره مثله، وأمر به فطرح من أعلاه، وكان بناه في عشرين سنة.
ومعنى السَّدير بالفارسية: بيت الملك. يقولون له: "سهدلي" أي: له ثلاث شعب، وقال البكري: سمي السدير؛ لأن الأعراب كانوا يرفعون أبصارهم إليه، فتسدر من علوه، يقال: سدر بصره إذا تحير. والكعبات: المربعة، وكل بناء مربع فهو كعبة.
2 أتأمت: جاءت باثنين في بطن واحد.

ج / 1 ص -83-        قال ابن إسحاق: والحامي: الفحل إذا نُتج له عشرُ إناث متتابعات ليس بينهنَّ ذكر، حُمِي ظهره فلم يُركب، ولم يُجز وبره، وخُلِّي في إبله يضرب فيها، لا ينتفع منه بغير ذلك.
ابن هشام يخالف ابن إسحاق: قال ابن هشام: وهذا عند العرب على غير هذا إلا الحامي، فإنه عندهم على ما قال ابن إسحاق. فالبَحيرة عندهم: الناقة تُشق أذنُها فلا يُركب ظهرُها، ولا يُجز وبرُها، ولا يَشربُ لبَنَها إلا ضيف، أو يُتصدق به، وتهمل لآلهتهم. والسائبة: التي ينذر الرجل أن يُسيبَها إن برئ من مرضه أو إن أصاب أمرًا يطلبه. فإذا كان أساب ناقة من إبله، أو جملًا لبعض آلهتهم، فسابت فرعتْ لا يُنتفع بها. والوصيلةُ: التي تلد أمُّها اثنين في كل بطن، فيجعل صاحبهما لآلهته الإناث منها، ولنفسه الذكورَ: فتلدُها أُمُّها ومعها ذكرٌ في بطن، فيقولون: وصلت أخاها، فُيسيَّب أخوها معها، فلا يُنتفع به.
قال ابن هشام: حدثني به يونس بن حبيب النحوي وغيره. وروي بعض ما لم يرو بعض.
قال ابن إسحاق: فلما بعث الله تبارك وتعالى رسولَه محمدًا -صلى الله عليه وسلم- أنزل عليه:
{مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [المائدة: 103] وأنزل الله تعالى: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 139].
وأنزل الله تعالى:
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59]
وأنزل عليه:
{ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، وَمِنَ الْإبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 144].

 

ج / 1 ص -84-        البحيرة والوصيلة والحامي لغة: قال ابن هشام: قال الشاعر:

حُولُ الوصائِل في شُرَيفٍ حِقَّة                    والحامياتُ ظهورَها والسيبُ

وقال تميم بن أبيّ بن مُقْبِل أحد بني عامر بن صعصعة:

فيه من الأخرج المِرْباع قَرقَرة               هَدْرَ الدِّيافيِّ وسط الهَجْمة البُحُر1

وهذا البيت في قصيدة له. وجمع بحيرة: بحائر وبُحر. وجمع وصيلة: وصائل ووُصل. وجمع سائبة الأكثر: سوائب وسُيَّب، وجمع حام الأكثر: حوَّم.
عود إلى النسب
نسب خزاعة: قال ابن إسحاق: وخُزاعة تقول: نحن بنو عَمرو بن عامر من اليمن.
قال ابن هشام: وتقول خزاعة: نحن بنو عمرو بن ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأسْد بن الغَوْث، وخِنْدف أمنا، فيما حدثني أبو عبَيْدة وغيره من أهل العلم. ويقال: خزاعة: بنو حارثة بن عمرو بن عامر. وإنّما

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يصف في هذا البيت حمار وحش يقول: فيه من الأخرج، وهو: الظليم الذي فيه بياض وسواد، أي: فيه منه قَرقَرَة أي صوت وهدر مثل هدر الدِّيافي أي: الفحل المنسوب إلى -دياف بلد بالشام-، والهجمة من الإبل: دون المائة، وجعلها بُحرًا؛ لأنها تأمن من الغارات، ويصفها بالمنعة والحماية، كما تأمن البحيرة من أن تذبح أو تنحر. ورأيت في شعر ابن مقبل: من الأخرج المرياع بالياء أخت الواو، وفسره في الشرح من راع يريع إذا أسرع الإجابة. كما قال طرفة:

تريع إلى صوت المهيب وتتقى

وقبل البيت في وصف روض:

بعازب النبت يرتاح الفؤاد له                      رأد النهاد لأصوات من النُّغَر

وبعد البيت الواقع في السيرة:

والأزرق الأخضر السربال منتصب                 قيد العصا فوق ذيَّال من الزهْر

 

ج / 1 ص -85-        سُميت خزاعة؛ لأنهم تخزَّعوا1 من ولد عمرو بن عامر حين أقبلوا من اليمن يريدون الشام، فنزلوا بمرِّ الظهْران، فأقاموا بها. قال عَوْف بن أيوب الأنصاري أحد بني عمرو بن سَواد بن غنْم بن كعب بن سلمة من الخزرج في الإسلام:

فلما هبطنا بطنَ مَرٍّ2 تخزَّعت                       خُزاعةُ منا في خيول كراكِرِ3

حمت كل وادِ من تهامة واحتمتْ                   بِصُمِّ القَنَا والمرْهفاتِ البواتِر

وهذان البيتان في قصيدة له.
وقال أبو المطهّر إسماعيلُ بنُ رافع الأنصاري، أحد بني حارثة بن الحارث بن الخزرج بن عَمرو بن مالك بن الأوس:

فلما هبطنا بطنَ مكةَ أحمدَتْ                     خُزاعةُ دار الآكل المتحاملِ

فحلَّت أكاريسا، وشنَّت قنابلا                     على كلِّ حي بين نجدٍ وساحلِ

نَفَوْا جُرهما عن بطن مكةَ، واحتبَوْا              بِعزّ خُزاعيٍّ شديدِ الكواهلِ

قال ابن هشام: وهذه الأبيات في قصيدة له -وأنا إن شاء الله أذكر نفيها جرهما في موضعه.
أولاد مدركة وخزيمة: قال ابن إسحاق: فولد مُدرِكة بن إلياس رجلين: خُزيمة بن مُدركة، وهُذَيل بن مُدركة، وأمهما: امرأة من قُضاعة. فولد خُزَيمة بن مدركة أربعة نفر: كِنانة بن خُزَيمة، وأسد بن خُزَيمة، وأسَدَة بن خُزَيمة، والْهُون بن خُزيمة. فأم كنانة عُوانة بنت سعد بن قيس عَيْلان بن مضر.
قال ابن هشام: ويقال: الْهَوْن بن خزيمة.
أولاد كنانة وأمهاتهم: قال ابن إسحاق: فولد كنانة بن خُزيمة أربعة نفر: النضر

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تخزعوا: تأخروا وانقطعوا.
2 يريد: مر الظهران، وسُمي: مرًّا؛ لأن فيه عرقًا من الوادي من غير لون الأرض شبه "الميم" الممدودة، وبعدها "راء" خلقت كذلك، ويذكر عن كثير أنه قال: سميت: مرًا لمرارتها.
3 الخيول الكراكر: المجتمعة.

 

ج / 1 ص -86-        ابن كنانة، ومالك بن كنانة، وعبد مناة بن كِنانة، ومِلْكان بن كنانة1. فأم النضر: بَرَّة بنت مُر بن أدّ بن طابخة بن إلياس بن مضر، وسائر بنيه لامرأة أخرى.
قال ابن هشام: أم النضر ومالك ومِلْكان: بَرَّة بنت مر، وأم عبد مناة: هالة بنت سُوَيد بن الغِطْريف من أزد شَنوءة. وشَنوءَة: عبد الله بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نضر بن الأسْد بن الغوْث: وإنما سُموا شنوءة، لشنآن كان بينهم. والشنآن: البغض.
من يطلق عليه لقب قرشي: قال ابن هشام: النضر: قريش، فمن كان من ولده فهو قرشي، ومن لم يكن من ولده فليس بقرشي؛ قال جرير بن عطية أحد بني كليب بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زَيد مناة بن تميم يمدح هشام بن عبد الملك بن مروان:

فما الأمُّ التي ولدتْ قريشًا                        بمُقْرِفة النَّجارِ ولا عقيم2

وما قَرْم بأنجبِ من أبيكم                          وما خال بأكرم من تميم3

يعنى بَرَّةَ بنتَ مُر، أخت تميم بن مر، أم النضر. وهذَان البيتان في قصيدة له.
لماذا سمُيت قريش باسمها: ويقال فِهر بن مالك: قريش، فمن كان من ولده فهو قرشي، ومن لم يكن من ولده فليس بقرشي، وإنما سُميت قريش قريشًا من التقرش. والتقرش: التجارة والاكتساب. قال رُؤبة بن العجَّاج:

قد كان يغنيهم عن الشغُّوشِ                   والخَشْلِ من تساقُطِ القروش

شَحمٌ ومحض ليس بالمغشوشِ

قال ابن هشام: والشُّغوش، قمح يسمى: الشَّغوش. والخشل: رءوس الخلاخيل والأسورة ونحوه4. والقروش: التجارة والاكتساب، يقول: قد كان يغنيهم عن هذا شحم ومحض، والمحض: اللبن الحليب الخالص.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وزاد الطبري في ولد كنانة. عامرًا والحارث والنضير وغنمًا وسعدًا وعوفًا وجرول والحدال وغزوان. انظر: "الروض الأنف بتحقيقنا ج1 ص115".
2 المقرفة: اللئيمة. والنجار: الأصل.
3 القرم هنا: السيد من الرجال.
4 ويقال الخشل: حمل شجر الدوم. والقروش: ما تساقط، من حتاته وتقشر منه.

 

ج / 1 ص -87-        وهذه الأبيات في أرجوزة له. وقال أبو جِلْدة اليشكريّ، ويشْكُر: ابن بكر بن وائل:

إخوة قرشوا الذنوبَ عَلينَا                     في حديثٍ من عُمرِنا وقديم

وهذا البيت في أبيات له.
قال ابن إسحاق: ويقال: إنما سُميت قريش قريشًا: لتجمعها من بعد تفرقها.
ويقال للتجمع: التقرش1.
أولاد النضر وأمهاتهم: فولد النضرُ بن كنانة رجلين: مالكَ بنَ النضر، ويَخْلد بن النضر، فأم مالك: عاتكة بنت عَدْوان بن عمرو بن قيس بن عَيْلان، ولا أدري أهي أم يَخْلُد أم لا.
قال ابن هشام: والصَّلْت بن النضر -فيما قال أبو عمرو المدني- وأمهم جميعًا: بنت سعد بن ظَرِب العَدْواني، وعَدْوان: ابن عمر بن قيس بن عيلان. قال كُثَيِّر بن عبد الرحمن -وهو كُثَيِّر عزة أحد بني مُلَيح بن عَمرو، من خزاعة:

أليس أبى بالصَّلْت أمْ ليس إخوتي                 لكلِّ هِجانٍ من بني النضر أزهرَا2

رأيت ثيابَ العَصْبِ مختلط السَّدَى                   بنا وبهم والحَضْرَمِيّ المخصَّرا3

فإن لم تكونوا من بني النضر، فاتركوا               أراكًا بأذنابِ الفوائج أخضرَا4

قال: وهذه الأبيات في قصيدة له.
والذين يُعْزَوْنَ إلى الصلْتِ بن النضر من خزاعة: بنو مُلَيْح بن عَمرو رهط كُثَيِّر عزة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر ما قيل في قريش مفصلا فى: "الروض الأنف" بتحقيقنا ج1 من صفحة 115- 117".
2 الهجان: الكريم. والأزهر: المشهور.
3 والعَصب: برود اليمن؛ لأنها تصبغ بالعصب، ولا ينبت العصب ولا الورس إلا باليمن، وكذلك اللبان. قاله أبو حنيفة الدينوري. يريد: إن قدودنا من قدودهم، فسدَى أثوابنا، مختلط بسدى أثوابهم. والحضرمي: النعال المخصرة التي تضيق من جانبيها كأنها ناقصة الخصرين.
4 الفوائج: رءوس الأدوية.

 

ج / 1 ص -88-        أولاد مالك وفهر وأمهاتهم: قال ابن إسحاق: فولد مالكُ بن النضر: فِهْر بن مالك. وأمه: جَنْدلة بنتُ الحارث بن مُضاض الجرهمي.
قال ابن هشام: وليس بابن مُضاض الأكبر.
قال ابن إسحاق: فولدَ فهر بن مالك أربعة نفر: غالبَ بن فهر، ومُحاربَ بن فهر، والحارث بن فهر، وأسَد بن فهر، وأمُّهم: ليلى بنت سعد بن هُذَيل بن مدركة.
قال ابن هشام: وجَنْدلة بنت فهر، وهي أم يَرْبوع بن حنظلة بن مالك بن زَيد مناة بن تميم. وأمها: ليلى بنت سعد. قال جَرِير بن عطية بن الخطفَى. واسم الخَطَفى: حذيفة بن بدر بن سَلَمَة بن عوف بن كُلَيْب بن يربوع بن حنظلة.

وإذا غَضبتُ رمَى ورائي بالحَصَى                      أبناءُ جَنْدلةٍ كخيرِ الجندَلِ

وهذا البيت في قصيدة له.
أولاد غالب وأمهاتهم: قال ابن إسحاق: فولد غالبُ بنُ فِهر رجلين: لؤيَّ بن غالب، وتيْمَ بنَ غالب، وأمهما: سَلْمى بنت عمرو الخزاعى -وتيْم بن غالب الذين يقال لهم: بنو الأدْرَم1.
قال ابن هشام: وقَيْس بن غالب، وأمه: سَلْمى بنت كعب بن عَمرو الخُزاعي، وهى أم لُؤَيّ وتَيْم ابنيْ غالب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الأدرم: المدفون الكعبين من اللحم يقال: امرأة درماء وكعب أدرم. قال الراجز:
قامت تريه خشية أن تُصْرما
ساقًا بَخَنْداه وكعبًا أدرما
وكَفَلا مثل النقا أو أعظَما
والأدرم أيضًا: المنقوض الذقن، وكان تيم بن غالب كذلك، فسمى: الأدرم، قاله الزبير. وبنو الأدرم هؤلاء هم: أعراب مكة، وهم من قريش الظواهر "النازلون بظهر مكة"، لا من قريش البطاح، "هم قبائل عبد مناف" وكذلك بنو محارب من فهر، وبنو معِيص بن عامر.

 

ج / 1 ص -89-        أولاد لؤيّ وأمهاتهم: قال ابن إسحاق: فولد لُؤيُّ بنُ غالب أربعة نفر: كعبَ بنَ لؤيّ، وعامر بنَ لؤيّ، وسامةَ بنَ لؤيّ، وعوف بن لؤيّ، فأم كعب وعامر وسامة: مَاوية1 بنتُ كَعْب بن القَيْن بن جَسْر، من قُضاعة.
قال ابن هشام: ويقال: والحارث بن لُؤيّ، وهم: جُشم بن الحارث، في هِزَّان من ربيعة. قال جرير:

بني جُشَمٍ لستم لِهزَّان، فانتَمَوْا            لأعلى الروابي من لُؤيِّ بنِ غالب

ولا تُنكحوا في آلِ ضَوْر نساءَكم               ولا في شُكَيْس بئسَ مثوى الغرائب2

وسعد بن لُؤيّ، وهم بُنانة: في شَيْبان بن ثعلبة بن عُكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل، من ربيعة.
وبنانة: حاضنة لهم من بني القَيْن بن جَسر بن شَيْع الله -ويقال: سَيْع الله- بن الأسْد بن وَبَرة بن ثعلبة بن حُلْوان بن عِمران بن الحاف بن قضاعة. ويقال: بنت النَّمِر بن قاسط، من ربيعة. ويقال: بنت جَرْم بن رَبَّان بن حُلْوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة.
وخزيمة بن لؤيّ بن غالب، وهم عائذة في شَيْبان بن ثعلبة، وعائذة امرأة من اليمن3 وهي أم بني عبيدة بن خُزيمة بن لؤي.
وأم بني لؤيّ كلهم -إلا عامر بن لؤيّ: ماوَيَّة بنت كعب بن القَيْن بن جَسْر. وأم عامر بن لؤيّ: مخْشِيَّة بنت شَيْبان بن محارب بن فِهْر، ويقال: ليلى بنت شيبان بن محارب بن فهر.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سميت بالماوية، وهي المرآة، كأنها نسبت إلى الماء لصفائها، وقلب همزة الماء واوًا.
2 يقال إنهم أعطوا جريرًا على هذا الشعر ألف عير ربَّى، وكانوا ينتسبون إلى ربيعة فما انتسبوا بعد إلا لقريش.
3 وقال غيره: هي بنت الخمس بن قحافة من خثعم ولدت لعبيد بن خزيمة مالكًا وحارثًا، فهم بنو خزيمة عائذة ومن بني خزيمة أيضًا: بنو حرب بن خزيمة، قتلتهم المسودة في قريتهم بالشام، وهم يحسبونهم بني حرب بن أمية.

 

ج / 1 ص -90-        أمر سامة بن لؤيّ:
هروبه من أخيه وموته: قال ابن إسحاق: فأما سامة بن لؤيّ فخرج إلى عُمَان، وكان بها. ويزعُمون أن عامر بن لؤي أخرجه، وذلك أنه كان بينهما شيء، ففقأ سامةُ عينَ عامر، فأخافه عامرٌ، فخرج إلى عُمَان. فيزعُمون أن سامَة بن لؤيّ بينا هو يسير على ناقته، إذ وضعت رأسها ترتع، فأخذت حية بمشفرِها، فهصرتها حتى وقعت الناقة لشقِّها ثم نهشت سامةَ فقتلته. فقال سامة حين أحس بالموت فيما يزعُمون:

عين فابكي لسامةَ بنِ لؤيّ                      عَلِقت ساقَ سامةِ العلَّاقهْ

لا أَرى مثلَ سامة بن لؤيّ                        يومَ حُلُّوا به قتيلا لناقهْ

بَلِّغَا عَامِرًا وَكَعْبًا رَسُولًا                             أَنَّ نَفْسِي إِلَيْهِمَا مُشْتَاقَهْ1

إن تكنْ في عُمان داري، فإني                   غالبي، خرجت من غير فاقهْ

رُبَّ كأسٍ هَرَقْتَ يابنَ لؤيّ                         حَذَرَ الموتِ لم تكن مُهرَاقهْ

رُمْتَ دفعَ الحُتوفِ يابنَ لُؤَيّ                       ما لِمَنْ رام ذاك بالحتف طاقهْ

وخَرُوسَ السَّرى تركْتَ رَديًّا                        بعدَ جِد وجِدةٍ ورشاقهْ2

قال ابن هشام: وبلغني أن بعضَ ولده أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فانتسب إلى سامة بن لؤيّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الشاعر؟" فقال له بعض أصحابه: كأنك يا رسول الله أردت قوله:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بلغا عامرًا وكعبًا رسولا: يجوز أن يكون "رسولا" مفعولا: ببلغا إذا جعلت الرسول بمعنى: الرسالة، كما قال الشاعر:

لقد كذب الواشون ما بحتُ عندهم                 بليلى، ولا أرسلتهم برسول

أى: برسالة، وإنما سموا الرسالة: رسولا إذا كانت كتابا، أو ما يقوم مقام الكتاب من شعر منظوم.
2 قوله: وخَرُوسِ السرى تركت رديًا يريد: ناقة صموتا صبورًا على السرى، لا تضجر منه: فسراها كالأخرس، والردى التي سقطت من الإعياء.

 

ج / 1 ص -91-                                       رُبَّ كأسٍ هَرَقْتَ يابن لؤيّ        حَذَرَ الموتِ لم تكن مُهْراقهْ

قال: أجل.
أمر عوف بن لُؤَيّ ونقلته:
سبب انتمائه إلى غطفان: قال ابن إسحاق: وأما عوف بن لؤيّ فإنه خرج -فيما يزعمون- في ركب من قريش، حتى إذا كان بأرض غَطفان بن سعد بن قيس بن عَيْلان، أبْطأ به فانطلق من كان معه من قومه، فأتاه ثعلبةُ بن سَعْد، وهو أخوه في نسب بني ذُبيان -ثعلبة بن سعد بن ذبيان بن بَغيض بن رَيْث بن غطفان. وعوف بن سعد بن ذُبيان بن بغيض بن رَيْث بن غطفان-فحبسه وزوجه والتاطه1 وآخاه، فشاع نسبه في بني ذُبيان. وثعلبة -فيما يزعمون- الذي يقول لعوف حين أبْطأ به، فتركه قومه:

احبس علي ابنَ لؤيّ جملَك                        تركك القومُ ولا مترَكَ لك

مكانة مرة: قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، أو محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن حُصَين، أن عمر بن الخطاب قال: لو كنت مُدَّعِيًا حيًّا من العرب، أو مُلْحقهم بنا، لادعيتُ بني مُرة بن عوف، إنا لنعرف فيهم الأشباه مع ما نعرف من موقع ذلك الرجل حيث وقع، يعنى: عوف بن لؤي.
نسب مُرة: قال ابن إسحاق: فهو في نسب غطفان: مُرة بن عوف بن سعد بن ذُبيان بن بَغيض بن رَيْث بن غَطَفان وهم يقولون إذا ذُكر لهم هذا النسب: ما ننكره، وما نجحده، وإنه لأحبُّ النسب إلينا.
وقال الحارث بن ظالم بن جَذِيمة بن يَرْبوع -قال ابن هشام: أحد بني مُرة بن عَوْف- حين هرب من النعمان بن المنذر، فلحق بقريش:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
التاطه: ألصقه به وألحقه بنسبه.

ج / 1 ص -92-                                            فما قومي بثعلبةَ بنِ سعدٍ  ولا بفَزارة الشُّعْر الرِّقَابَا

وقومي –إن سألتِ– بنو لؤيّ                       بمكةَ علَّموا مُضَرَ الضِّرابَا

سفهنا باتباع بني بغيضٍ                            وترْكِ الأقربين لنا انتسابَا

سفاهةَ مُخْلِفٍ لَمَّا تروَّى                            هَراقَ الماءَ، واتَّبعَ السَّرَابَا1

فلو طوّعتَ -عَمْرَك -كنتَ فيهم                     وما ألفيتُ أنتجِعُ السحابَا2

وخَشّ رَوَاحةُ القرشي رَحْلي                      بناجيةٍ ولم يطلبْ ثَوابَا3

قال ابن هشام، هذا ما أنشدني أبو عُبَيدة منها.
قال ابن إسحاق: فقال الحصين بن الحُمام المُرِّيّ، ثم أحد بني سهم بن مُرة يرد على الحارث بن ظالم، وينتمي إلى غطفان:

ألا لستمُ منا، ولسنا إليكمُ                  بَرئْنا إليكم من لؤيِّ بنِ غالبِ

أقمنا على عِزِّ الحجازِ، وأنتمُ                 بمُعْتَلج البطحاء بينَ الأخاشبِ4

يعني: قريشًا، ثم ندم الحُصَيْن على ما قال، وعرف ما قال الحارث بن ظالم، فانتمى إلى قريش، وأكذب نفسه، فقال:

نَدِمْتُ على قولٍ مضى كنت قلتُه                      تبيَّنتُ فيه أنه قول كاذب


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المخلف: المستقى للماء.
2 وما ألفيت أنتجع السحابا: أي: كانوا يغنونني بسببهم ومعروفهم عن انتجاع السحاب، وارتياد المراعي في البلاد.
3 وخشَ رَوَاحة القرشي رحلي بناجية. أي: بناقة سريعة يقال: خش السهم بالريش، إذا راشه به، فأراد: راشني وأصلح رحلي بناجية، ولم يطلب ثوابًا بمدحه بذلك ورواحة هذا: هو رواحة بن منقذ بن معيص بن عامر كان قد ربع فى الجاهلية- كانوا في الجاهلية إذا غزا بعضهم بعضًا، وغنموا، أخذ الرئيس ربع الغنيمة.
4 بمعتلج البطحاء: أي حيث تعتلج السيول، والاعتلاج عمل بقوة. والأخاشب: جبال مكة وقد يقال لكل جبل: أخشب.

ج / 1 ص -93-                                        فليتَ لساني كان نصفين منهما          بكَيم، ونصف عندَ مجرَى الكواكبِ

أبونا كناني بمكةَ قبرُه                           بمعتلِج البطحاءِ بينَ الأخاشبِ

لنا الرُّبعُ من بيتِ الحرامِ وِراثةً                  وربعُ البطاحِ عندَ دارِ ابن حاطب1

أي أن بني لؤي كانوا أربعة: كعبًا، وعامرًا، وسامة، وعوفًا.
قال ابن إسحاق: وحدثنى من لا أتهم أن عمرَ بنَ الخطاب رضي الله عنه قال لرجال من بني مُرة: إن شئتم أن ترجعوا إلى نسبكم، فارجعوا إليه.
أشراف مرة: قال ابن إسحاق: وكان القوم أشرافًا في غطفَان، هم سادتهم وقادتُهم. منهم: هَرِم بن سنان بن أبي حارثة، وخارجة2 بن سنان بن أبي حارثة، والحارث بن عَوْف والحُصَيْن بن الحُمام، وهاشم بن حرملة الذي يقول له القائل:

أحيا أباه هاشمُ بنُ حرملة3                  يوم الهباءات ويوم اليَعْمَلة

ترى الملوكَ عندَه مغربلهْ4                    يقتل ذا الذنب، ومن لا ذنبَ لهْ


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قوله: لنا الرُّبع بضم الراء، يريد: أن بني لؤي كانوا أربعة: أحدهم: أبوهم، وهو عوف، وبنو لؤي هم: أهل الحرم، ولهم وراثة البيت.
2 خارجة بن سنان الذي تزعم قيس أن الجن اختطفته لتستفحله نساءها لبراعته ونجدته، ونجابة نسله.
3 هاشم بن حرملة هو: جد منظور بن زبان بن يسار الذي كانت بنته زجلة عند ابن الزبير، فهو جد منظور لأمه، واسمها: قهطِم بنت هاشم. كانت قهطم قد حملت بمنظور أربع سنين، وولدته بأضراسه، فسمي منظورًا لطول انتظارهم إياه.
4 قيل معناه: منتفخة، وذكروا أنه يقال: غربل القتيل إذا انتفخ، وهذا غير معروف وإن كان أبو عبيد قد ذكره في الغريب المصنّف، وأيضًا: فإن الرواية بفتح الباء من مغربلة، وقال بعضهم: معناه: يتخير الملوك فيقتلهم، والذي أراه فى ذلك أنه يريد بالغربلة استقصاءهم وتتبُّعهم.

ج / 1 ص -94-        قال ابن هشام: أنشدني أبو عُبَيدة هذه الأبيات لعامر الخَصَفِيِّ: خَصَفَة بن قيس بن عَيْلان:

أحيا أباه هاشمُ بنُ حرملهْ                   يومَ الهباءات ويومَ اليَعْملهْ

ترى الملوكَ عندَه مُغربلهْ                     يقتلُ ذا الذنب ومن لا ذنب له

ورمحُه للوالداتِ مُشْكِلَهْ

قال ابن هشام: وحدثني أن هاشِمًا قال لعامر: قُلْ فيَّ بيتًا جيدًا أثبْك عليه، فقال عامر البيت الأول، فلم يعجب هاشمًا، ثم قال الثاني، فلم يعجبه، ثم قال الثالث، فلم يعجبه، فلما قال الرابع:

يقتل ذا الذنب ومن لا ذنبَ له                           أعجبه، فأثابه عليه1.

قال ابن هشام: وذلك الذي أراد الكُميْت بن زيد في قوله:

وهاشم مُرَّة المُفنِى ملوكًا                             بلا ذنب إليه ومُذْنبينا

وهذا البيت في قصيدة له. وقول عامر: يوم الهباءات، عن غير أبى عبيدة.
قال ابن إسحاق: قوم لهم صيت وذكر في غطفان وقيس كلها، فأقاموا على نسبهم، وفيهم كان البَسْل2.
أمر البَسْل:
تعريف البَسْل: والبَسْل2 -فيما يزعمون- نسيئُهم ثمانية أشهر حُرُم، لهم من كل

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إنما أعجب هاشما هذا البيت؛ لأنه وصفه فيه بالعز والامتناع، وأنه لا يخاف حاكمًا يُعْدِي عليه ولا تِرَة من طالب ثأر.
2 البَسل وهو الحرام، والبسل أيضًا: الحلال، فهو من الأضداد ومنه: بسلة الراقي، أى ما يحل له أن يأخذه على الرقية، وبسل في الدعاء بمعنى: آمين: قال الراجز:

لا خاب مِن نفعك من رجاك                    بسلا، وعادى الله من عاداك

كان عمر بن الخطاب يقول في إثر الدعاء: آمين وبسلا، أي: استجابة.

 

ج / 1 ص -95-        سنة من بين العرب، قد عرفت ذلك لهم العرب لا ينكرونه، ولا يدفعونه، يسيرون به إلى أي بلاد العرب شاءوا، لا يخافون منهم شيئًا، قال زهير بن أبي سلمى، يعني بني مرة.
نسب زهير بن أبي سلمى: قال ابن هشام: زهير أحد بني مُزَيْنة بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر. ويقال: زُهَير بن أبي سُلْمى من غطفان، ويقال: حليف في غطفان.

تأمل، فإن تُقْوِ المْرَوْرَاة1 منهم                  وداراتها لا تُقْويا منهم إذا نَخل

بلاد بها نادمتُهم وألِفْتُهم                         فإن تُقْويا منهم فإنهُم بَسْل

أي:حرام. يقول: ساروا في حرمهم.
قال ابن هشام: وهذان البيتان في قصيدة له.
قال ابن إسحاق: وقال أعشى بني قيس بن ثعلبة:

أجارتُكم بَسْل علينا مُحَرَّمٌ                        وجارتُنا حِل لكم وحليلُها

قال ابن هشام: وهذا البيت في قصيدة له.
أولاد كعب وأمهم: قال ابن إسحاق: فولد كعبُ بنُ لؤي ثلاثة نفر: مُرَّة بن كعب، وعديَّ بن كعب، وهُصَيْص بن كعب. وأمُّهم: وَحْشِيَّةُ بنت شَيْبان بن محارب بن فِهر بن مالك بن النضر.
أولاد مرة وأمهاتهم: فولد مرةُ بنُ كعب ثلاثة نفر: كلابَ بن مرة، وتَيْمَ بن مرة، وَيَقظة2 بن مرة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وقع في بعض النسخ المرورات بتاء ممدودة، كأنه جمع مرور، وليس فى الكلام مثل هذا البناء، وإنما هو المروراة بهاء مما ضوعفت فيه العين واللام، فهو فَعَلْعَلَة مثل صَمَحمَحَة، والألف فيه منقلبة عن واو أصلية، وهذا قول سيبوبه جعله مثل: شجوجاه. والمروراة اسم مكان كان فيه هذا اليوم.
2 يقظة بن مرة بفتح القاف، وقد وجدته بسكون القاف في أشعار مدح بها خالد بن الوليد، فمنها قول الشاعر:

وأنت لمخزوم بن يقظة جُنة               كلا اسميك فيها ماجد وابن ماجد

وأم مخزوم بن يقظة جد بني مخزوم: كلبة بنت عامر بن لؤي.

 

ج / 1 ص -96-        فأم كلاب: هِند بنتُ سُرَير بن ثعلبة بن الحارث بن فِهر بن مالك بن كنانة بن خُزَيمة. وأم يقظة: البارقية، امرأة من بارق، من الأسْد من اليمن. ويقال: هى أم تَيْم. ويقال: تَيْم لهند بنتُ سرَير أم كلاب.
نسب بارق: قال ابن هشام: بارق1: بنو عَدِي بن حارثة بن عمرو بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأسْد بن الغَوْث، وهم في شَنُوءة. قال الكُمَيْت بن زيد2:

وأزْد شَنوءة اندرءوا علينا                         بِجُم يحسبون لها قرونا3

فما قلنا لبارقَ قد أسأتم                         وما قلنا لبارقَ أعْتِبونا

قال: وهذان البيتان في قصيدة له: وإنما سُموا ببارق؛ لأنهم تبعوا البرقَ.
ولدا كلاب وأمهما: قال ابن إسحاق: فولد كلابُ بنُ مرة رجلين: قُصَيَّ بن كلاب، وزُهْرةَ بن كلاب. وأمهما: فاطمةُ بنت سَعد بن سَيَل أحد بني الجَدرَة، من جُعْثُمَة الأزد، من اليمن، حلفاء في بني الدَّيْل بن بكر بن عبد مناف بن كنانة.
نسب جُعثْمة: قال ابن هشام: ويقال: جعثمة الأسْد، وجعثمة الأزْد، وهو جُعْثُمة بن يَشْكُر بن مُبَشِّر بن صعب دُهْمان بن نصر بن زَهران بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأسْد بن الغَوْث. ويقال: جُعْئُمة بن يشكر بن مُبَشِّر بن صَعْب بن نصر بن زَهْران بن الأسْد بن الغَوْث.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سُموا: بارق؛ لأنهم اتبعوا البرق، وقد قيل: إنهم نزلوا عند جبل يقال له: بارق، فسُموا به.
2 هو ابن زيد أبو المستهل من بني أسد.
3 أي: يناطحون بلا عُدة ولا قوة كالكباش الجم التي لا قرون لها، ويحسبون أن لهم قوة.

ج / 1 ص -97-        وإنما سُموا الجَدَرَة؛ لأن عامر بن عمرو بن جُعْثمة1 تزوج بنت الحارث بن مضاض الجُرْهمي. وكانت جُرهم أصحاب الكعبة. فبنى للكعبة جدارًا. فسمي عامر بذلك: الجادر. فقيل لولده: الجَدَرَة لذلك2.
قال ابن إسحاق: ولسعد بن سَيَل يقول الشاعر:

ما نرى في الناس شخصًا واحدًا                  من علمناه كسعدِ بن سَيَلْ

فارسا أضبطَ، فيه عُسْرةٌ                            وإذا ما واقف القِرْن نزلْ3

فارسا يستدرجُ الخيلَ كما اسـ                    ـتدرج الحرُّ القطاميُّ الحَجَلْ4

قال ابن إسحاق: قوله: كما استدرج الحر. عن بعض أهل العلم بالشعر.
نعْم بنت كلاب وأمها وولداها: قال ابن هشام: ونُعْم بنت كلاب، وهي أم سعد وسعيد ابني سهم بن عمرو بن هُصَيْص بن كعب بن لؤيّ، وأمها: فاطمة بنت سعد بن سَيَل.
أولاد قُصي وأمهم: قال ابن إسحاق: فولد قُصيُّ بن كلاب أربعة نفر وامرأتين: عبدَ مناف بن قصي، وعبدَ الدار بن قصي، وعبدَ العزى بن قصي، وعبدَ قصي بن قصي، وتَخْمُر بنت قصي، وبرة بنت قصي، وأمهم: حُبَّى بنت حُلَيْل بن حَبَشِيَّة بن سلول بن كعب بن عمرو الخزاعي.
قال ابن هشام: ويقال: حُبْشِيَّة بن سلول.
أولاد عبد مناف وأمهاتهم: قال ابن إسحاق: فولد عبدُ مناف -واسمه: المغيرة بن قُصي- أربعةَ نفر: هاشمَ بن عبد مناف، وعبد شمس5 بن عبد مناف، والمطلب

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بعض النسخ زيادة خزيمة خطأ إنما هو: عمرو بن جعثمة.
2 يروى أن السيل ذات مرة دخل الكعبة، وصدع بنيانها، ففزعت لذلك قريش، وخافوا تهدادها إن جاء سيل آخر، وأن يذهب شرفهم ودينهم، فبنى عامر لها جدارًا.
3 الأضبط الذي يعمل بكلتا يديه، والعسرة: الشدة، والقرن: الشديد في الحرب.
4 الحر القطامي: الصقر.
5 وكان تلوا لهاشم، ويقال: كانا توأمين، فولد هاشم، ورجله في جبهة عبد شمس ملتصقة، فلم يقدر على نزعها إلا بدم، فكانوا يقولون: سيكون بين ولدهما دماء، فكانت تلك الدماء ما وقع بين بني هاشم، وبين بني أمية بن عبد شمس.

 

ج / 1 ص -98-        ابن عبد مناف، وأمُّهم: عاتكة بنت مُرة بن هلال بن فالج بن ذَكْوان بن ثعلبة بن بُهْثة بن سُلَيْم بن منصور بن عِكرمة، ونَوفل بن عبد مناف، وأمه: واقدة بنت عمرو المازنية. مازن: ابن منصور بن عِكرمة.
قال ابن هشام: فبهذا النسب خالفهم عتبة بن غَزْوان بن جابر بن وهب بن نُسَيْب بن مالك بن الحارث بن مازن بن منصور بن عِكرمة.
قال ابن هشام: وأبو عمرو، وتُماضر، وقلابة، وحَيَّة، ورَيْطة، وأم الأخْثَم، وأم سفيان: بنو عبد مناف.
فأمُّ أبى عمرو: رَيْطة، امرأة من ثقيف، وأم سائر النساء: عاتكة بنت مرة بن هلال أم هاشم بن عبد مناف، وأمها صفية بنت حَوْزة بن عمرو بن سلول بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هَوازِن. وأم صفية: بنت عائذ الله بن سعد العشيرة1 بن مَذْحج.
أولاد هاشم وأمهاتهم: قال ابن هشام: فولد هاشم بن عبد مناف أربعة نفر، وخمسَة نسوة: عبدَ المطلب بن هاشم، وأسدَ بن هاشم، وأبا صَيْفي بن هاشم، ونَضْلة بن هاشم، والشِّفاء، وخالدة، وضعيفة، ورُقَية، وحَيَّة. فأم عبد المطلب ورقية: سَلمَى2 بنت عمرو بن زيد بن لَبيد بن خداش بن عامر بن غَنْم بن عدي بن النجار. واسم النجار: تَيْم الله بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر.
وأمها: عَمِيرَة بنت صخر بن حبيب بن الحارث بن ثعلبة بن مازن بن النجار. وأم عَمِيرة: سلمى بنت عبد الأشْهل النجَّارية. وأم أسد: قَيْلة بنت عامر بن مالك الخزاعى. وأم أبي صيفي وَحَيَّة: هند بنت عمرو بن ثعلبة الخزرجية. وأم نَضْلة والشفاء: امرأة من قضاعة. وأم خالدة وضعيفة: واقدة بنت أبي عديّ المازنية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في هذا الكلام وهم؛ لأن سعد العشيرة بن مذحج هو أبو القبائل المنسوبة إلى مذحج إلا أقلها، فيستحيل أن يكون في عصر هاشم من هو ابن له لصلبه، ولكن هكذا رواه البرقي عن ابن هشام، ورواه غيره: بنت عبد الله من سعد العشيرة، وهي رواية الغساني.
2 وأمها: عُميرة بنت صخر المازنية، وابنها عمرو بن أحَيحة بن الجُلاح، وأخوه: معبد، ولدتهما لأحيحة بعد هاشم.

 

ج / 1 ص -99-        أولاد عبد المطلب بن هاشم:
أولاد عبد المطلب وأمهاتهم: قال ابن هشام: فولد عبدُ المطلب بن هاشم عشرةَ نفر، وست نسوة: العباس، وحمزة وعبد الله، وأبا طالب -واسمه: عبد مناف1- والزبير2، والحارث، وحَجْلا3، والمقوم4، وضِرارا، وأبا لهب5 -واسمه عبد العُزَّى- وصفية، وأم حكيم البيضاء، وعاتكة، وأمَيْمة، وأرْوَى، وَبرَّة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وله يقول عبد المطلب:

أوصيك يا عبد مناف بعدي                      بمؤتِم بعد أبيه فرد

مات أبوه وهو حلف المهد

2 الزبير، وهو أكبر أعمام النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو الذي كان يُرْقِص النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو طفل ويقول:
محمد بن عَبْدَمِ
عشت بعيش أنعَم
في دولة ومغنم
دام سجيس الأزلم
وبنته: ضباعة كانت تحت المقداد. وعبد الله ابنه: مذكور في الصحابة -رضي الله عنهم- وكان الزبير -رضي الله عنه- يكنى أبا الطاهر بابنه: الطاهر، وكان من أظرف فتيان قريش، وبه سمى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ابنه الطاهر. وأخبر الزبير عن ظالم كان بمكة أنه مات فقال: بأى عقوبة كان موته؟ فقيل: مات حتف أنفه، فقال: وإن، فلا بد من يوم ينصف الله فيه المظلومين، ففي هذا دليل على إقراره بالبعث.
3 جحلًا: بتقديم الجيم على الحاء، هكذا رواية الكتاب. وقال الدارقطني: هو حَجْل بتقديم الحاء.
4 المقوم لم يعقب إلا بنتًا اسمها: هند.
5 واسمه: عبد العُزَّى، وكني: أبا لهب لإشراق وجهه وكان تقدِمة من الله تعالى لما صار إليه من اللهب، وأمه: لُبنى بنت هاجِر بكسر الجيم من بني ضاطرة بضاد منقوطة

 

ج / 1 ص -100-     فأمُّ العباس وضرار: نُتَيْلةُ بنت جَناب بن كُليب بن مالك بن عمرو بن عامر بن زيد مناة بن عامر -وهو الضَّحْيان-بن سعد بن الخزرج بن تَيْم اللات بن النَّمِر بن قاسط بن هِنْب بن أفْصَى بن جَديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار. ويقال: أفصى بن دُعْمِيِّ بن جديلة.
وأم حمزة والمقوَّم وجَحْل -وكان يلقب بالغَيْداق لكثرة خيره، وسعة ماله- وصفية: هالة بنت أهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤيّ.
وأم عبدِ الله، وأبي طالب، والزبير، وجميع النساء غير صفية: فاطمةُ بنت عَمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم بن يَقَظة بن مُرة بن كعب بن لُؤيّ بن غالب بن فِهْر بن مالك بن النَّضْر.
وأمها: صخرةُ بنت عَبْد بن عِمران بن مخزوم بن يَقَظة بن مُرة بن كعب بن لؤيّ بن غالب بن فِهر بن مالك بن النَّضْر.
وأم صخرة: تَخْمر بنت عبد بن قُصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤيّ بن غالب بن فِهر بن مالك بن النضر.
وأم الحارث بن عبد المطلب: سمراء بنت جُنْدب بن جُحَيْر بن رِئاب بن حبيب بن سُوَاءَة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة.
وأم أبي لهب: لبنى بنت هاجر بن عبد مناف بن ضاطر بن حُبْشِيَّة بن سلول بن كعب بن عمرو الخزاعي.
أم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأمهاتها: قال ابن هشام: فولد عبدُ الله بن عبد المطلب: رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم- سيد ولد آدم، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، صلوات الله وسلامه ورحمته وبركاته عليه وعلى آله.
وأمه: آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زُهْرة1 بن كلاب بن مُرة بن كعب بن لؤيّ بن غالب بن فِهْر بن مالك بن النضر.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في المعارف لابن قتيبة: أن زُهرة اسم امرأة عرف بها بنو زُهرة، وهذا منكر غير معروف، وإنما هو اسم جدهم. كما قال ابن إسحاق: والزهرة في اللغة: إشراق في اللون، أيّ لون كان من بياض أو غيره.

 

 

ج / 1 ص -101-     وأمها: بَرّة بنت عبد العُزّى بن عثمان بن عبد الدار بن قُصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لُؤيّ بن غالب بن فِهْر بن مالك بن النضر. وأم برة: أم حبيب بنت أسَد بن عبد العُزى بن قُصيّ بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر.
وأم أم حبيب: بَرَّة1 بنت عَوْف بن عُبَيد بن عُوَيْج بن عَدي بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر.
قال ابن هشام: فرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أشرف ولد آدم حسبًا، وأفضلهم نسبًا من قِبل أبيه وأمه -صلى الله عليه وسلم.
حديث مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم:
احتفار زمزم: قال: حدثنا أبو محمد عبد الملك بن هشام: قال: وكان من حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم- ما حدثنا به زياد بن عبد الله البَكَّائي، عن محمد بن إسحاق المطلبي: بينما عبد المطلب بن هاشم نائم في الحِجْر، إذ أتى؟ فأمر بحفر زمزم، وهي دَفْن بين صنَمَيْ قريش: إسَاف ونائلة، عند منحر قريش. وكانت جُرهم دفنتها حين ظعنوا من مكة، وهي: بئر إسماعيل بن إبراهيم، عليهما السلام، التي سقاه الله حين ظمئ وهو صغير، فالتمست له أمه ماءً فلم تجدْه، فقامت إلى الصفا تدعو الله، وتستغيثه لإسماعيل، ثم أتت

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذكر في آخر أمهاته -صلى الله عليه وسلم- برة بنت عوف بن عُبَيد بن عُوَيج بن عدي وهن كلهن قرشيات؛ ولذلك وقف في بَرَّة، وإن كان قد ذكر أهل النسب بعد هذا: أم برة، وأم أمها، وأم أم الأم، ولكنهن من غير قريش، قال محمد بن حبيب النسابة: وأم برة: قِلابة بنت الحارث بن مالك بن طابخة بن صعصعة بن غادية بن كعب بن طابخة بن لحيان بن هُذيل، وأم قلابة: أميمة بنت كهف الظلم من ثقيف، وذكر الزبير قلابة بنت الحارث، وزعم أن أباها الحارث كان يكنى: أبا قلابة، وأنه أقدم شعراء هُذَيل.

 

ج / 1 ص -102-     المروة ففعلت مثل ذلك. وبعث الله تعالى جبريلَ عليه السلام، فهمز له بِعَقِبه1 في الأرض، فظهر الماء، وسمعت أمُّه أصواتَ السباع فخافتها عليه، فجاءت تشتد نحوه، فوجدته يفحص بيدِه عن الماء من تحت خده ويشرب، فجعلته حِسْيًا2.
أمر جُرْهم ودفن زمزم:
ولاة البيت من ولد إسماعيل: قال ابن هشام: وكان من حديث جُرْهُم، ودفنها زمزم، وخروجها من مكة، ومن ولي أمر مكة بعدها إلى أن حفر عبدُ المطلب زمزم، ما حدثنا به زيادُ بن عبد الله البَكَّائي عن محمد بن إسحاق المطلبي، قال: لما توفي إسماعيل بن إبراهيم وَلِيَ البيتَ بعده ابنُه نابت بن إسماعيل -ما شاء الله أن يليَه- ثم ولي البيت بعده: مُضاض بن عَمرو الجَرْهمي.
قال ابن هشام: ويقال: مِضاض بن عمرو الجرْهمي.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ولذلك تسمى: هَمزَة جبريل بتقديم الميم على الزاي، ويقال فيها أيضًا: هزمة جبريل؛ لأنها هَزْمَة -أي: نقرة، وهزمت البئر: حفرتها- في الأرض، وحكي فى اسمها: زُمَازِمُ وزَمزم: حكي ذلك عن المُطرز، وتسمى أيضًا: طعام طعم، وشِفاء سُقم.
وقال الجُرْبِي: سميت زمزم، بزمزمة الماء، وهي صوته، وقال المسعودى: سميت زمزم؛ لأن الفُرس كانت تحج إليها في الزمن الأول، فزمزمت عليها. والزمزمة: صوت يخرجه الفُرس من خياشيمها عند شرب الماء: وقد كتب عمر –رضي الله عنه– إلى عماله: أن انهوا الفرس عن الزمزمة، وأنشد المسعودي:

زمزمت الفُرس على زمزم                         وذاك فى سالفها الأقدم

وذكر البرقي عن ابن عباس -رضي الله عنه- أنها سميت: زمزم؛ لأنها زُمَّتْ بالتراب؛ لئلا يأخذ الماء يمينًا وشمالًا، ولو تركت لساحت على الأرض حتى تملأ كل شيء. وقال ابن هشام: والزمزمة عند العرب: الكثرة والاجتماع.
2 الحسي: الحفيرة الصغيرة، أو هو ما يختفي في الرمل، فإذا نبش ظهر.

 

ج / 1 ص -103-     بغي جرهم وقطوراء: قال ابن إسحاق: وبنو إسماعيل وبنو نابت مع جدِّهم: مُضَاض بن عمرو وأخوالهم من جُرْهم1، وجرهم وقَطُوراء2 يومئذ أهل مكة، وهما ابنا عَم، وكانا ظَعنا من اليمن، فأقبلا سيَّارةً، وعلى جُرْهم: مُضَاض بن عمرو، وعلى قطوراء: السَّمَيْدع3 رجل منهم. وكانوا إذا خرجوا من اليمن لم يخرجوا إلا ولهم مَلك يقيم أمرهم. فلما نزلا مكة رأيا بلدًا ذا ماء وشجر، فأعجبهما فنزلا به. فنزل مُضاض بن عمرو بمن معه من جرهم بأعلى مكة بقُعَيْقعَان، فما حاز. ونزل السَّمَيْدع بقطوراء، أسفل مكة بأجياد، فما حاز: فكان مُضاض يعشِّر من دخل مكة من أعلاها، وكان السَّمَيدع يعشِّر من دخل مكة من أسفلها، وكل في قومه لا يدخل واحد منهما على صاحبه. ثم إن جُرهم وقطوراء بغى بعضُهم على بعض، وتنافسوا الملك بها، ومع مُضاض يومئذ: بنو إسماعيل وبنو نابت، وإليه ولاية البيت دون السَّمَيدع فصار بعضهم إلى بعض، فخرج مُضاض بن عمرو بن قُعَيْقعان في كتيبته سائرًا إلى السَّمَيدع، ومع كتيبته عدتها من الرماح والدَّرَق والسيوف والجعاب، يُقَعقع بذلك معه، فيقال: ما سمي قُعَيقعان: بقعيقعان إلا لذلك4. وخرج السَّميدع من أجياد، ومعه الخيل والرجال،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو قحطان بن عامر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح، ويقال: جرهم بن عابر، وقد قيل: إنه كان مع نوح -عليه السلام- في السفينة، ذلك أنه من ولد ولده، وهم من العرب العاربة، ومنهم تعلم إسماعيل العربية. وقيل إن الله تعالى أنطقه بها إنطاقًا، وهو ابن أربع عشرة سنة.
2 هو قطوراء: بن كَركر.
3 هو السميدع بن هوثر "بثاء مثلثة" -قيدها البكري- ابن لاي بن قطورا بن كركر بن عِملاق، ويقال: إن الزباء الملكة كانت من ذريته، وهي بنت عمرو بن أذَيْنة بن ظَرِب بن حسان، وبين حسان وبين السميدع آباء كثيرة، ولا يصح قول من قال: إن حسان ابنه لصلبه، لبعد زمن الزباء من السميدع.
4 وقيل إنما سمي بهذا الاسم حين نزل تبع مكة، ونحر عندها وأطعم، ووضع سلاحه وأسلحة جنده بهذا المكان، فسمي: قعيقعان بقعقعة السلاح فيه.

 

ج / 1 ص -104-     فيقال: ما سمي أجْياد: إلا لخروج الجياد1 من الخيل مع السَّمَيدع منه فالتقوْا بفاضح، واقتتلوا قتالا شديدًا، فقُتل السَّمَيْدع، وفضحت قطوراء: فيقال ما سمي فاضح: فاضحًا إلا لذاك. ثم إن القوم تداعَوا إلى الصلح، فساروا حتى نزلوا المطابخ: شِعْبا بأعلى مكة، واصطلحوا به، وأسلموا الأمر إلى مُضَاض. فلما جُمع إليه أمر مكة، فصار ملكهَا نحر للناس فأطعمهم، فاطَّبخ الناس وأكلوا، فيقال: ما سُميت المطابخ إلا لذلك. وبعض أهل العلم يزعم أنها إنما سميت المطابخ، لما كان تُبع نحر بها، وأطعم، وكانت منزله. فكان الذي كان بين مُضاض والسَّميدع أول بَغْي كان بمكة فيما يزعمون.
انتشار ولد إسماعيل: ثم نشر الله ولدَ إسماعيل بمكة، وأخوالهم من جرهم ولاة البيت والحكام بمكة، لا ينازعهم ولدُ إسماعيل في ذلك لخئولتهم وقرابتهم، وإعظامًا للحرمة أن يكون بها بغي أو قتال. فلما ضاقت مكة على ولد إسماعيل انتشروا في البلاد، فلا يناوئون قومًا إلا أظهرهم الله عليهم -بدينهم-فوطِئوهم.
بغي جرهم ونفيهم عن مكة:
بنو بكر وغبشان يطردون جرهما: ثم إن جُرْهما بغوا بمكة، واستحلوا خلالًا من الحرمة، فظلموا من دخلها من غير أهلها، وأكلوا مال الكعبة الذي يُهدَى لها2، فرقَّ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لم يسم بأجياد من أجل جياد الخيل؛ لأن جياد الخيل لا يقال فيها: أجياد، وإنما أجياد: جمع جيد.
وذكر أصحاب الأخبار أن مُضاضًا ضرب فى ذلك أجياد مائة رجل من العمالقة، فسمي الموضع: بأجياد، وهكذا ذكر ابن هشام، ومن شعب أجياد تخرج دابة الأرض التي تكلم الناس قبل يوم القيامة، كذلك روي عن صالح مولى التوأمة. عن عبد الله بن عمرو بن العاص.
2 فمن ذلك أن إبراهيم عليه السلام، كان احتفر بئرًا قريبة القعر عند باب الكعبة، كان يلقي فيها ما يهدى إليها، فلما فسد أمر جرهم سرقوا مال الكعبة مرة بعد مرة، فيذكر أن رجلًا منهم دخل البئر ليسرق مال الكعبة، فسقط عليه حجر من شَفير البئر فحبسه فيها، ثم أرسلت على البئر حية لها رأس كرأس الجدي، سوداء الْمَتْن، بيضاء البطن، فكانت تهيب مَنْ دنا من بئر الكعبة، وقامت في البئر -فيما ذكروا- نحوًا من خمسمائة عام.

 

ج / 1 ص -105-     أمرهم. فلما رأت بنو بكر بن عبد مناة بن كنانة وغُبشان من خُزاعة ذلك، أجمعوا لحربهم وإخراجهم من مكة؛ فآذنوهم بالحرب فاقتتلوا، فغلبتهم بنو بكر وغُبْشان، فنفَوْهم من مكة. وكانت مكة في الجاهلية لا تُقر فيها ظلمًا ولا بغيًا، ولا يبغي فيها أحدٌ إلا أخرجته، فكانت تسمى: الناسَّة، ولا يريدها ملك يستحل حرمتَها إلا هلك مكانَه، فقال: إنها ما سميت ببكة إلا أنها كانت تبك1 أعناق الجبابرة إذا أحدثوا فيها شيئًا.
معنى بكة: قال ابن هشام: أخبرني أبو عبيدة: أن بكَّة اسم لبطن مكة؛ لأنهم يتباكون فيها، أي: يزدحمون، وأنشدنى:

إذا الشَّريبُ أخذتُه أكَّه                               فَخَلِّه حتى يبكَّ بكَّه

أي: فدعه حتى يبك إبلَه، أي يخليها إلى الماء، فتزدحم عليه، وهو موضع البيت والمسجد، وهذان البيتان لعامان بن كعب بن عمرو بن سعد بن زَيد مَناة بن تميم.
قال ابن إسحاق: فخرج عَمرو بن الحارث بن مُضاض الجرهمي بغزالي الكعبة وبحجر الركن، فدفنهما في زمزم وانطلق هو ومن معه من جُرهم إلى اليمن، فحزنوا على ما فارقوا من أمر مكة وملكها حزنًا شديدًا فقال عَمرو بن الحارث بن مُضاض في ذلك2، وليس بمُضاض الأكبر:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي تكسرهم وتقعدهم، وقيل: من التباك، وهو: الازدحام، ومكة من تمككت العظم، إذا اجتذبت ما فيه من المخ، وتمكك الفصيل ما في ضرع الناقة، فكأنها تجتذب إلى نفسها ما في البلاد من الناس والأقوات التي تأتيها في المواسم.
وقيل: لما كانت في بطن واد، فهى تمكك الماء من جبالها وأخاشبها عند نزول المطر وتنجذب إليها السيول. ومن أسماء مكة أيضًا: الرأس، وصلاح، وأم رحم، وكُوثي.
2 وكان الحارث بن مضاض بن عمرو بن سعد بن الرقيب بن هيّ بن نبت بن جرهم الجرهمي قد نزل بقنوني من أرض الحجاز، فضلت له إبل، فبغاها حتى أتى الحرم، فأراد دخوله، ليأخذ إبله، فنادى عمرو بن لحي: من وجد جرهميا، فلم يقتله، قطعت يده. فسمع بذلك الحارث، وأشرف على جبل من جبال مكة، فرأى إبله تنحر، ويتوزع لحمها، فانصرف بائسًا خائفًا ذليلا، وأبعد في الأرض، وهي غربة الحارث بن مضاض التي تضرب بها المثل.

 

ج / 1 ص -106-                                          وقائلةٍ والدمعُ سكْت مُبادرُ وقد شَرِقَتْ بالدمعِ منها المحاجرُ

كأن لم يكن بين الحَجُون إلى الصَّفا               أنيس ولم يَسْمُر بمكةَ سامرُ1

فقلتُ لها والقلبُ مني كأنما                        يُلَجْلجه بين الجناحين طائرُ

بلى نحن كنا أهلَها، فأزالَنا                          صروفُ الليالى، والجدودُ العواثرُ

وكنا ولاةَ البيت من بعدِ نابتٍ                        نطوفُ بذاك البيتِ، والخيرُ ظاهرُ

ونحن ولينا البيتَ من بعد نابتٍ                     بعز، فما يحْظَى لدينا المكاثِرُ

مَلَكْنا فعزَّزْنا فأعْظمْ بمُلكنا                          فليس لحي غيرنا ثَمَّ فاخِرُ

ألم تُنكحوا من خيرِ شخصٍ علمتُه                فأبناؤه منا، ونحنُ الأصاهرُ2

فإن تَنْثنِ الدنيا علينا بحالِها                         فإن لها حالًا، وفيها التشَاجُرُ

فأخرجنا منها المليكُ بقُدرةٍ                          كذلك -يا لَلناس-تجري المقادِرُ

أقول إذا نام الخليُّ -ولم أنَمْ                         إذا العرش لا يبعد سُهيل وعامرُ3

وبدلت منها أوْجُهًا لا أحبُّها                           قبائلُ منها حِمْيَر ويُحابرُ

وصِرنا أحاديثًا وكنا بغبْطةٍ                             بذلك عضتنا السُّنون الغوابرُ

فسَحَّت دموعُ العينِ تبكي لبلدةٍ                   بها حَرم أمْنٌ، وفيها المشاعرُ4

وتبكي لبيت ليس يُؤذَى حَمامُه                   يظلُّ به أمْنا، وفيه العصافرُ5

وفيه وُحوش لا تُرامُ أنيسةٌ                          إذا خرجَتْ منه فليستْ تُغادرُ6

قال ابن هشام: "فأبناؤه منا" عن غير ابن إسحاق.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الحجون: بفتح الحاء كانت على فرسخ وثلث من مكة.
2 خير شخص: هو إسماعيل عليه السلام.
3 عامر: جبل من جبال مكة، يدل على ذلك قول بلال رضي الله عنه. وهل يبدُوَنَّ لي عامر وطفَيل.
4 المشاعر: أماكن التعبد في الحج.
5 أراد: العصافير، وحذف الياء ضرورة، ورفع العصافير على المعنى، أي: وتأمن فيه العصافير، وتظل به أمنًا، أي: ذات أمن، ويجوز أن يكون أمنا جمع أمن مثل: ركب جمع: راكب.
6 وبعد هذا البيت:

ولم يتربع واسطًا وجَنُوبه                  إلى السر من وادى الأراكة حاضر

وأبدلني ربي بها دار غربة                بها الجوع باد، والعدو المحاصر

 

ج / 1 ص -107-     قال ابن إسحاق: وقال عَمرو بن الحارث أيضًا يذكر بكرًا وغُبْشان وساكني مكة الذين خَلَفوا فيها بعدهم:

يا أيها الناس سيروا إن قصْرَكم                 أن تُصْبحوا ذاتَ يوم لا تَسيرونا1

حُثوا المطي، وأرخوا من أزمَّتِها                قبلَ المماتِ، وقَضُّوا ما تقضُّونا

كنا أناسًا كما كنتم، فغيرنا                      دهر، فأنتم كما كنا تكونونا

قال ابن هشام: هذا ما يصح له منها، وحدثني بعض أهل العلم بالشعر: أن هذه الأبيات أول شعر قيل في العرب، وأنها وُجدت مكتوبة في حَجَر باليمن2، ولم يُسم لي قائلها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قصركم: نهايتكم.
2 ذكر السهيلي هذه الأبيات وقال: وألفيت فى كتاب أبي بحر سفيان بن العاص خبرًا لهذه الأبيات، وأسنده أبو الحارث محمد بن أحمد الجعفي عن عبد الله بن عبد السلام البصري، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن سليمان التمار، قال أخبرني ثقة عن رجل من أهل اليمامة، قال: وُجد في بئر باليمامة ثلاثة أحجار، وهي بئر طسم وجَديس فى قرية يقال لها: مُعْنِق، بينها وبين الحجر ميل، وهم من بقايا عاد، غزاهم تبع، فقتلهم، فوجدوا في حجر من الثلاثة الأحجار مكتوبًا:

يأيها الملك الذي                                    بالمُلك ساعده زمانهْ

ما أنت أول من علا                                 وعلا شئون الناس شانُه

ًأقصر عليك مراقبًا                                   فالدهر مخذول أمانُه

كم من أشَم مُعَصب                               بالتاج مرهوب مكانُه

قد كان ساعده الزمان                             وكان ذا خَفْض جنانُه

تجري الجداول حوله                               للجند مُتْرَعة جِفانُه

قد فاجأته منيةٌ                                     لم يُنجه منها اكتنانُه

وتفرقت أجناده                                      عنه، وناح به قيانُه

والدهر من يَعْلِق به                                يطحنْه، مُفترشًا جرانه

والناس شتى في الهوى                         كالمرء مختلف بنانُه

والصدق أفضل شيمة                              والمرء يقتله لسانه

والصمت أسعد للفتى                             ولقد يُشَرفه بيانُه

ووجد في الحجر الثاني مكتوبًا أبيات: =

 

ج / 1 ص -108-     استبداد قوم من خزاعة بولاية البيت:
قال ابن إسحاق: ثم إن غُبْشان من خُزاعة وَلِيَتْ البيتَ دون بني بكر بن عبد مناة، وكان الذي يليه منهم: عمرو بن الحارث الغُبْشاني، وقريش إذ ذاك حُلول وصِرَم، وبيوتات، متفرقون في قومهم من بني كنانة، فوليت خُزاعة البيت يتوارثون ذلك كابرًا عن كابر، حتى كان آخرهُم حُلَيْل بن حَبَشية بن سَلول بن كعب بن عَمرو الخُزاعي.
قال ابن هشام: يقال حُبْشية بن سلول.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
=

كل عيش تَعِله                                               ليس للدهر خَلهْ

يوم بُؤسَى ونُعْمَى                                         واجتماع وقلهْ

جنا العيش والتكاثرَ                                         جهل وضلَّهْ

بينما المرءُ ناعم                                             في قصور مُظِله

في ظلال ونعمة                                             ساحبا ذيلَ حُلهْ

لا يرى الشمس ملِغضا                                    رة إذا زل زلهْ

لم يُقلها وبَدَّلَتْ                                              عِزة المرء ذله

آفة العيش والنعـ                                             ـيم كُرور الأهِلَّه

وصل يوم بليلة                                               واعتراض بِعِلهْ

والمنايا جواثم                                                كالصقور المدلهْ

بالذي تكره النفو                                             س عليها مُطلهْ

وفي الحجر الثالث مكتوبًا:

يأيها الناس سيروا إن قصدكم                   أن تصبحوا ذات يوم لا تسيرونا

حُثُّوا المَطِيَّ، وأرخوا من أزمتها                 قبل الممات وقَضُّوا ما تقضونا

كنا أناسًا كما كنتم فغيرنا                        دهر فأنتم كما كنا تكونونا

 

ج / 1 ص -109-     تزوج قُصيّ بن كلاب حُبَّى بنت حليل:
أولاد قُصيّ وحُبَّى: قال ابن إسحاق: ثم إن قُصي بن كلاب خَطب إلى حُليل بن حُبْشية بنته حُبَّى، فرغب فيه حُليل فزوجه، فولدت له عبدَ الدار، وعبدَ مناف، وعبد العُزَّى، وعبدًا. فلما انتشر ولد قُصيّ، وكثر مالُه، وعظم شرفه هلك حُلَيل.
مساعدة رزاح لقصيّ في تولي أمر البيت: فرأى قصيّ أنه أوْلَى بالكعبة وبأمر مكة من خُزاعة وبني بكر، وأن قُريشًا قُرْعةُ1 إسماعيل بن إبراهيم وصريحُ ولده. فكلم رجالا من قريش، وبني كنانة، ودعاهم إلى إخراج خُزاعة وبني بكر من مكة، فأجابوه. وكان ربيعة بن حرام من عُذْرة بن سعد بن زيد قد قدم مكة بعدما هلك كلاب، فتزوج فاطمة بنت سعد بن سَيَل، وزُهْرة يومئذ رجل، وقُصي فطيم، فاحتملها إلى بلاده، فحملت قُصيا معها، وأقام زُهرة، فولدت لربيعة رِزاحًا. فلما بلغ قُصي وصار رجلا أتى مكة2، فأقام بها، فلما أجابه قومه إلى ما دعاهم إليه، كتب إلى أخيه من أمه، رِزاح بن ربيعة، يدعوه إلى نصرته، والقيام معه، فخرج رِزاح بن ربيعة، ومعه: إخوته حُنُّ بن ربيعة، ومحمود بن ربيعة، وجُلْهُمة بن ربيعة، وهم لغير أمه فاطمة، فيمن تبعهم من قضاعة في حاجِّ العرب، وهم مجمعون لنصرة قُصيّ. وخزاعة تزعم أن حُلَيل بن حُبْشية أوصى بذلك قُصيًّا وأمره به حين انتشر له من ابنته من الولد ما انتشر. وقال: أنت أولى بالكعبة، وبالقيام عليها،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هكذا بالقاف، وهي الرواية الصحيحة وفي بعض النسخ: فرعة بالفاء، والقُرعة بالقاف هي، نخبة الشيء، وخياره، وقريع القبيلة: سيدها، ومنه اشتق الأقرع بن حابس وغيره ممن سُمِّي من العرب بالأقرع.
2 كان قصيّ رضيعًا حين احتملته أمه مع بعلها ربيعة، فنشأ ولا يعلم لنفسه أبا إلا ربيعة، ولا يدعى إلا له، فلما كان غلامًا يفعة أو حَزَوّرًا "دون البلوغ" سابه رجل من قضاعة، فعيره بالدعوة، وقال: لست منا، وإنما أنت فينا مُلصق، فدخل على أمه وقد وجم لذلك فقالت له: يا بني صدق، إنك لست منهم، ولكن رهطك خير من رهطه، وآباؤك أشرف من آبائه، وإنما أنت قرشي، وأخوك وبنو عمك بمكة، وهم جيران بيت الله الحرام، فدخل في سيارة حتى أتى مكة، والمعروف أن اسمه: زيد، وإنما كان قصيًّا أي بعيدًا عن بلده فسمِّيَ: قصيًّا.

 

ج / 1 ص -110-     وبأمر مكة من خزاعة، فعند ذلك طلب قُصيّ ما طلب1، ولم نسمع ذلك من غيرهم، فالله أعلم أي ذلك كان.
ما كان يليه الغوث بن مر من الِإجازة للناس بالحج:
وكان الغوث بن مر بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر يلي الإجازة للناس بالحج من عرفة، وولده من بعده، وكان يقال له ولولده: صُوفة2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وذكر المؤرخون أسبابًا لانتقال ولاية البيت إلى قصي وهو أن حليلا كان يعطى مفاتيح البيت ابنته حبى، حين كبر وضعف، فكانت بيدها، وكان قصي ربما أخذها في بعض الأحيان، ففتح البيت للناس وأغلقه، ولما هلك حليل أوصى بولاية البيت إلى قصي، قأبت خزاعة أن تمضي ذلك لقصي، فعند ذلك هاجت الحرب بينه وبين حزاعة. وأرسل إلى رزاح أخيه يستنجد عليهم.
ويذكر أيضًا أن أبا غبشان من خزاعة، واسمه: سليم -وكانت له ولاية الكعبة- باع مفاتيح الكعبة من قصي بزق خمر، فقيل: أخسر من صفقة أبي غبشان. ذكره المسعودي والأصبهاني في الأمثال.
وكان الأصل في انتقال ولاية البيت من ولد مضر إلى خزاعة أن الحرم حين ضاق عن ولد نزار، وبغت فيه أياد أخرجتهم بنو مضر بن نزار، وأجلوهم عن مكة، فعمدوا في الليل إلى الحجر الأسود، فاقتلعوه، واحتملوه على بعير فرزح البعير به، وسقط إلى الأرض، وجعلوه على آخر، فرزح أيضًا، وعلى الثالث ففعل مثل ذلك، فلما رأوا ذلك دفنوه وذهبوا فلما أصبح أهل مكة، ولم يروه، وقعوا في كرب عظيم، وكانت امرأة من خزاعة قد بصرت به حين دفن، فأعلمت قومها بذلك، فحينئذ أخذت خزاعة على ولاة البيت أن يتخلوا لهم عن ولاية البيت، ويدلوهم على الحجر، ففعلوا ذلك، فمن هنالك صارت ولاية البيت لخزاعة إلى أن صيرها أبو غبشان إلى عبد مناف، هذا معنى قول الزبير. "عن الروض الأنف".
2 قال أبو عبيدة: وصوفة وصوفات يقال لكل من ولي من البيت شيئًا من غير أهله. أو قام بشيء من خدمة البيت، أو بشيء من أمر المناسك يقال لهم: صوفة وصوفات. قال أبو عبيدة: لأنه بمنزلة الصوف، فيهم القصير والطويل والأسود والأحمر ليسوا من قبيلة واحدة.
وذكر أبو عبد الله أنه حدثه أبو الحسن الأثرم عن هشام بن محمد بن السائب الكلبي =

 

ج / 1 ص -111-     وإنما وَليَ ذلك الغوثُ بن مُر؛ لأن أمه كانت امرأة من جُرهم، وكانت لا تلد، فنذرت للّه إن هي ولدت رجلا: أن تَصَّدَّق به على الكعبة عبدًا لها يخدمها، ويقوم عليها، فولدت، فكان يقوم على الكعبة الدهر الأول مع أخواله من جُرهم، فوَلىَ الإجازة بالناس من عرفة؛ لمكانه الذي كان به من الكعبة، وولدُه من بعده حتى انقرضوا. فقال مُرُّ بن أدّ لوفاء نذر أمه:

إني جعلتُ ربِّ من بَنيَّهْ                     ربيطةً بمكةَ العليَّهْ

فبارِكنَّ لي بها أليَّه                           واجعلْه لي من صالح البريَّهْ

وكان الغوْثُ بن مُرّ -فيما زعموا- إذا دفع بالناس قال:

لَاهُمَّ إني تابع تَبَاعهْ                       إن كان إثم فعلى قُضَاعَهْ1

صوفة ورمي بالجمار: قال ابن إسحاق: حدثني يحيى بن عبَّاد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال:
كانت صوفة تدفع بالناس من عرفة، وتجيز بهم إذا نَفَروا من منى فإذا كان يوم النفر أتوا لرمي الجمار، ورجل من صُوفة يرمى للناس، لا يرمون حتى يرمي. فكان ذوو الحاجات المتعجِّلون يأتونه، فيقولون له: قم فارم حتى نرمي معك، فيقول لا والله، حتى تميل الشمس، فيظل ذوُو الحاجات الذين يحبون التعجلَ يرمونه بالحجارة، ويستعجلونه بذلك، ويقولون

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= قال: إنما سمي الغوث بن مرة: صوفة؛ لأنه كان لا يعيش لأمه ولد، فنذرت: لئن عاش لتعلقن برأسه صوفة، ولتجعلنه -ربيطًا للكعبة، ففعلت فقيل له: صوفة، ولولده من بعده، وهو الربيط.
وحدث إبراهيم بن المنذر عن عمر بن عبد العزيز بن عمران، قال: أخبرنى عقال بن شبة قال: قالت أم تميم بن مر -وولدت نسوة- فقالت: للّه علي لئن ولدت غلامًا لأعبدنه للبيت، فولدت الغوث، وهو أكبر ولد مر، فلما ربطته عند البيت أصابه الحر، فمرت وقد سقط وذوى واسترخى فقالت: ما صار ابني إلا صوفة، فسُمي صوفة.
2 سبب قوله: إن كان إثما فعلى قضاعة. إنما خص قضاعة بهذا؛ لأن منهم محلين يستحلون الأشهر الحرم، كما كانت خثعم وطيّئ تفعل، وكذلك كانت النسأة تقول إذا حرمت صفرًا أو غيره من الأشهر بدلا من الشهر الحرام يقول قائلهم: قد حرمت عليكم الدماء إلا دماء المُحِلين.

 

ج / 1 ص -112-     له: ويلك! قمْ فارمِ، فيأبَى عليهم، حتى إذا مالت الشمس، قام فرمى ورمى الناس معه.
قال ابن إسحاق: فإذا فرغوا من رمْي الجمار، وأرادوا النَّفْر من مِنى، أخذت صوفة بجانبي العقبة، فحبسوا الناسَ وقالوا: أجيزي صوفة، فلم يجز أحد من الناس حتى يمروا، فإذا نفرت صوفة ومضت، على سبيل الناس، فانطلقوا بعدَهم، فكانوا كذلك، حتى انقرضوا، فورثهم ذلك من بعدهم بالقُعْدد1 بنو سعد بن زيد مناة بن تميم، وكانت من بني سعد في آل صفوان بن الحارث بن شجْنَة.
نسب صفوان بن جناب: قال ابن هشام: صفوان بن جُناب بن شِجْنَة بن عُطارد بن عَوْف بن كعب بن سعد بن زيد مُناة بن تميم.
صفوان وبنوه وإجازتهم للناس بالحج: قال ابن إسحاق: وكان صفوان هو الذي يجيز للناس بالحج من عرفة ثم بنوه من بعدِه، حتى كان آخرهم الذي قام عليه الإسلام: كَرِب بن صفوان. وقال أوْس بن تميم بن مِغراء السعديُّ:

لا يبرح الناسُ ما حجوا مُعَرَّفَهم                   حتى يقال: أجيزوا آل صفوانا

قال ابن هشام: هذا البيت في قصيدة لأوس بن مِغْراء.
ما كانت عليه عَدْوان من إفاضة المزدلفة:
ذو الِإصبع يذكر هذه الإفاضة: وأما قول ذي الإصْبع العَدْواني، واسمه حُرْثان بن عَمرو، وإنما سُمي ذا الإصبع؛ لأنه كان له إصبع فقطعها:

عذيرَ الحي من عَدْوا                               نَ كانوا حَيَّةَ الأرض2


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي بالقرابة، وذلك أن سعدًا هو: ابن زيد مناة بن تميم بن عامر.
2 يقال فلان حية الأرض، وحية الوادي؛ إذا كان مهيبًا يُذعر منه، كما قيل:

يا مُحكم بن طفيل قد أتيح لكم                       للّه در أبيكم حية الوادي

يعني بحية الوادى: خالد بن الوليد رضي الله عنه.
وعذير الحي من عدوان. نصب عذيرًا على الفعل المتروك إظهاره، كأنه يقول: هاتوا عذيره، أى: من يعذره، فيكون العذير بمعنى: العاذر، ويكون أيضًا بمعنى: العذر مصدرًا كالحديث ونحوه.

 

ج / 1 ص -113-                                         بغَى بعضُهم ظلمًا فلم يُرْعِ على بعضِ

ومنهم كانت السادا                                  تُ والموفون بالقَرْضِ

ومنهم من يجيزُ الناسَ                              بالسُّنةِ والفَرضِ

ومنهم حَكْمٌ يقضي                                   فلا يُنقَضُ ما يَقْضِي

أبو سيارة يفيض بالناس: وهذه الأبيات في قصيدة له؛ فلأن الِإفاضة من المُزدلفَة كانت في عَدوانس -فيما حدثني زياد بن عبد الله البكَّائي عن محمد بن إسحاق- يتوارثون ذلك كابرًا عن كابر، حتى كان آخرهم الذي قام عليه الإسلام أبو سيَّارة، عُمَيْلة بن الأعزَل1، ففيه يقول شاعر من العرب:

نحن دفعنا عن أبي سياره                      وعن مواليه بني فزارهْ

حتى إجاز سالما حِمارهْ                         مستقبِل القبلة يدعو جارَهْ

قال: وكان أبو سيارة يدفع بالناس على أتان له، فلذلك يقول: "سالما حماره"2.
أمر عامر بن ظَرِب بن عمرو بن عياذ بن يشكر بن عدوان
ابن الظرب حاكم العرب: قال ابن إسحاق: وقوله: "حكم يقضي" يعني عامر بن ظَرِب بن عمرو بن عياذ بن يشكر بن عدوان العدواني. وكانت العرب لا يكون بينها نائرة3،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وقال غير ابن إسحاق: اسمه: العاصي. قاله الخطابي: واسم الأعزل: خالد، ذكره الأصبهاني.
2 كانت له أتان عوراء، خطامها ليف، يقال: إنه دفع عليها في الموقف أربعين سنة. ويعني الراجز في قوله:

حتى يجيز سالِمًا حماره

وكانت تلك الأتان سوداء؛ ولذلك يقول:

لاهُم مالي في الحمار الأسود                  أصبحتُ بين العالمين أُحْسد

فَقِ أبا سيارة المُحَسَّد                            من شر كل حاسد إذا يحسد

3 النائرة: الكائنة الشنيعة بين القوم.

ج / 1 ص -114-     ولا عُضْلَة في قضاء إلا أسندوا ذلك إليه، ثم رَضُوا بما قضى فيه، فاختصم إليه في بعض ما كانوا يختلفون فيه، في رجل خُنْثى، له ما للرجل، وله ما للمرأة، فقالوا: أتجعله رجلًا أو امرأة؟ ولم يأتوه بأمر كان أعضل منه. فقال: حتى أنظر في أمركم، فوالله ما نزل بي مثل هذه منكم يا معشر العرب! فاستأخروا عنه؛ فبات ليلته ساهرًا يقلِّب أمره، وينظر في شأنه، لا يتوجه له منه وجه وكانت له جارية يقال لها: سُخَيْلة ترعى عليه غنمه، وكان يعاتبها إذا سرحت فيقول: صبَّحت والله يا سُخَيل! وإذا أراحت عليه، قال: مسيت والله يا سُخَيل! وذلك أنها كانت تؤخر السرح حتى يسبقها بعض الناس، وتؤخر الإراحة حتى يسبقها بعض الناس. فلما رأت سهره وقلقه، وقلة قراره على فراشه قالت: ما لك، لا أبا لك! ما عراك في ليلتك هذه! قال: ويلك! دعيني، أمر ليس من شأنك، ثم عادت له بمثل قولها، فقال في نفسه: عسى أن تأتيَ مما أنا فيه بفرج، فقال: ويحَكِ! اختُصم إليَّ في ميراث خنثى، أأجعله رجلا أو امرأة؟ فوالله ما أدري ما أصنع، وما يتوجَّه لي فيه وجه، قال: فقالت: سبحان الله! لا أبا لك! أتبع القضاءَ المَبالَ، أقعدْه، فإن بال من حيث يبول الرجل فهو رجل، وإن بال من حيث تبول المرأة؛ فهي امرأة. قال: مسِّي سخيل بعدها أو صَبِّحي، فرّجْتِها والله! ثم خرج على الناس حين أصبح، فقضى بالذي أشارت عليه به1.
غلب قصي بن كلاب على أمر مكة وجمعه أمر قريش ومعونة قضاعة له
قصي يتغلب على صوفة: قال ابن إسحاق: فلما كان ذلك العام، فعلت صوفة كما كانت تفعل، وقد عرفت ذلك لها العرب وهو دِين في أنفسهم في عهد جرهم وخزاعة وولايتهم. فأتاهم قصي بن كلاب بمن معه من قومه من قريش وكنانة وقضاعة عند العقبة، فقال: لنحن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وذكر عامر بن الظرب وحكمه في الخنثى، وما أفتته به جاريته سُخَيلة، وهو حكم معمول في الشرع، وهو من باب الاستدلال بالأمارات والعلامات، وله أصل في الشريعة، قال الله سبحانه:
{وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} [يوسف: 18] وجه الدلالة على كذب في الدم أن القميص المُدَمَّى لم يكن فيه خرق ولا أثر لأنياب الذئب، وكذلك قوله: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ} [يوسف: 26] الآية، وقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في المولود: "إن جاءت به أورق جعدًا جُمَالِيًا فهو للذي رُميت به".

 

ج / 1 ص -115-     أولى بهذا منكم، فقاتلوه، فاقتتل الناس قتالا شديدًا، ثم انهزمت صوفة، وغلبهم قُصي على ما كان بأيديهم من ذلك.
قصي يقاتل خزاعة وبني بكر: وانحازت عند ذلك خزاعة وبنو بكر عن قصي، وعرفوا أنه سيمنعهم كما منع صوفة، وأنه سيحول بينهم وبين الكعبة وأمر مكة. فلما انحازوا عنه باداهم، وأجمع لحربهم، وخرجت له خُزاعة وبنو بكر فالتَقَوْا، فاقتتلوا قتالا شديدًا، حتى كثرت القتلى في الفريقين جميعًا، ثم إنهم تداعَوْا إلى الصلح، وإلى أن يحكِّموا بينهم رجلًا من العرب؛ فحكَّموا يَعْمر بن عوف بن كعب بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، فقضى بينهم بأن قُصيًّا أولى بالكعبة وأمر مكة من خزاعة، وأن كل دم أصابه قصي من خزاعة وبني بكر: موضوع يَشْدخه تحت قدميه، وأن ما أصابت خزاعة وبنو بكر من قريش وكنانة وقضاعة، ففيه الدية مؤدَّاة، وأن يُخلَّى بين قصي وبين الكعبة ومكة.
فسُمي يعمر بن عوف يومئذ: الشدَّاخ1 لِمَا شَدَخ من الدماء ووضع منها.
قصي يتولى أمر مكة: قال ابن إسحاق: فولي قصي البيت وأمر مكة وجمع قومه في منازلهم إلى مكة وتملك على قومه وأهل مكة فملَّكوه، إلا أنه قد أقر للعرب ما كانوا عليه وذلك أنه كان يراه دِينًا في نفسه لا ينبغي تغييره، فأقر آل صفوان وعدوان والنسأة ومُرة بن عوف على ما كانوا عليه، حتى جاء الإسلام؛ فهدم الله به ذلك كله. فكان قُصي أول بني كعب بن لؤيّ أصاب مُلكا أطاع له به قومه، فكانت إليه الحجابة، والسقاية، والرِّفادة، والندْوَة2، واللواء، فحاز شرف مكة كلَّه، وقطع مكة رباعًا بين قومه، فأنزل كل قوم من قريش منازلهم من مكة التي أصبحوا عليها ويزعم الناس أن قريشًا هابوا قطع شجر الحرم في

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يعمر الشداخ بن عوف: وأنه سمي بالشداخ لما شدخ من دماء خزاعة. ويعمر الشداخ هو جد بني دأب الذين أخذ عنهم كثير من علم الأخبار والأنساب وهم: عيسى بن يزيد بن بكر بن دأب، وأبوه: يزيد. وحذيفة بن دأب، ودأب هو: ابن كرز بن أحمر من بني يعمر بن عوف الذي شدخ دماء خزاعة، أي: أبطلها، وأصل الشدخ: الكسر والفضخ، ومنه العَزة الشادخة، شبهت بالضربة الواسعة.
2 وهي الدار التي كانوا يجتمعون فيها للتشاور، ولفظها مأخوذ من لفظ النديِّ والنادي والمنتدى: وهو مجلس القوم الذي يندون حوله، أي: يذهبون قريبًا منه، ثم يرجعون =

 

ج / 1 ص -116-     منازلهم، فقطعها قصي بيده وأعوانه1 فسمته قريش: مُجَمِّعًا لما جمع من أمرها، وتيمنت بأمره، فما تُنكح امرأة، ولا يتزوج رجل من قريش، وما يتشاورون في أمر نزل بهم، ولا يعقدون لواءً لحرب قوم من غيرهم إلا في داره، يعقده لهم بعض ولده، وما تدَّرِع جارية إذا بلغت أن تَدَّرِع من قريش إلا في داره، يشق عليها فيها درعها ثم تَدَّرِعُه، ثم يُنطَلق بها إلى أهلها. فكان أمره في قومه من قريش في حياته، ومن بعد موته، كالدِّين المتبع لا يُعمل بغيره. واتخذ لنفسه دار الندوة، وجعل بابها إلى مسجد الكعبة، ففيها كانت قريش تقضي أمورَها.
قال ابن هشام: وقال الشاعر:

قُصَي لعمري كان يُدعَى مُجمعًا                    به جمع الله القبائلَ من فِهْر


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= إليه، والتندية في الخيل: أن تصرف عن الورد إلى المرعى قرييًا، ثم تعاد إلى الشرب، وهو المندّى، وهذه الدار تصيرت بعد بني عبد الدار إلى حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي، فباعها في الإسلام بمائة ألف درهم، وذلك في زمن معاوية، فلامه معاوية في ذلك، وقال: أبعتَ مكرمة آبائك وشرفهم؟ فقال حكيم: ذهبت المكارم إلا التقوى. واللَه: لقد اشتريتها في الجاهلية بزق خمر، وقد بعتها بمائة ألف درهم، وأشهدكم أن ثمنها في سبيل الله، فأينا المغبون؟ ذكر خبر حكيم هذا: الدارقطني في أسماء رجال الموطأ له.
1 قال الواقدي. الأصح في هذا الخبر أن قريشًا حين أرادوا البنيان قالوا لقصي: كيف نصنع في شجر الحرم؟ فحذرهم قطعها وخوفهم العقوبة فى ذلك، فكان أحدهم يجوف بالبنيان حول الشجرة، حين تكون في منزله. قال: فأول من ترخص في قطع شجر الحرم للبنيان عبد الله بن الزبير حتى ابتنى دورًا بقعيقعان؛ لكنه جعل دية كل شجرة: بقرة وكذاك يروى عن عمر -رضي الله عنه- أنه قطع دوحة كانت فى دار أسد بن عبد العزى، كانت تنال أطرافها ثياب الطائفين بالكعبة، وذلك قبل أن يوسع المسجد، فقطعها عمر -رضي الله عنه- ووداها ببقرة، ومذهب مالك -رحمه الله- فى ذلك: ألا دية في شجر الحرم. قال: ولم يبلغني فى ذلك شيء. وقد أساء من فعل ذلك، وأما الشافعي -رحمه الله- فقال إن كانت الشجرة التي فى الحرم مما يغرسها الناس، ويستنبتونها، فلا فدية على من قطع شيئًا منها، وإن كان من غيرها، ففيه القيمة بالغة ما بلغت.

 

ج / 1 ص -117-     قال ابن إسحاق: حدثني عبد الملك بن راشد عن أبيه، قال: سمعت السائب بن حَبَّاب صاحب المقصورة يُحدِّث، أنه سمع رجلا يُحدِّث عمرَ بن الخطاب -وهو خليفة- حديث قصي بن كلاب، وما جَمَع من أمر قومه وإخراجه خزاعة وبني بكر من مكة، وولايته البيت وأمر مكة، فلم يرد ذلك عليه ولم يُنكره.
شعر رزاح بن ربيعة في هذه القصة: قال ابن إسحاق: فلما فرغ قُصيّ من حربه، انصرف أخوه رِزَاح بن ربيعة إلى بلاده بمن معه من قومه، وقال رِزاح في إجابته قُصيًّا:

لمَّا أتى من قصي رسول                        فقال الرسولُ: أجيبوا الخليلَا

نهضنا إليه نقودُ الجيادَ                           ونطرح عنَّا المَلولَ الثقيلاَ

نسير بها الليلَ حتى الصباح                    ونكمي النهارَ؛ لئلا تزولا1

فهن سراعٌ كَورْد القَطا                            يُجِبْن بنا من قُصيّ رسولَا

جمعنا من السرِّ من أشمذَيْن                  ومن كلِّ حي جمعنا قبيلَا2

فيا لكِ حُلْبة ما ليلة                              تزيد على الألف سَيْبًا رَسيلَا3

فلما مررنَ على عَسْجَر                          وأسْهلن من مُستناخ سبيلَا4

وجاوزْنَ بالركن من وَرِقان                        وجاوزن بالعَرْج حَيًّا حُلولَا5

مررْن على الحَيْل ما ذقنه                       وعالجنَ من مَرِّ ليلًا طويلَا6


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 نكمي النهار، أي: نكمن ونستتر، والكَمِيُّ من الفرسان، الذي تَكَمى بالحديد. وقيل: الذي يكمِي شجاعته، أي: يسترها، حتى يظهرها عند الوغى.
2 الأشمذان: جبلان، ويقال اسم قبيلتين.
3 الحُلبة: الجماعة من الخيل. والسيب: المشي السريع. والرسيل: الذي فيه تمهل: أي تمشي سراعًا ولكن في رفق كما تزحف الحية.
4 عسجر: اسم موضع.
5 العرج: واد ناحية الطائف. وفيه جبل من أعظم الجبال: وذكروا أن فيه أوشالًا وعيونًا عذابًا، وكان سكانه: بنو أوس بن مزينة.
6 الحَيْل: هو الماء المستنقع فى بطن واد، ووجدت في غير أصل الكتاب روايتين، إحداهما: مررن على الحِلِّ والأخرى: مررن على الحِلى، فأما الحل: فجمع حلة، وهي بقلة شاكة. ذكره ابن دريد في الجمهرة. وأما الحلى، فيقال: إنه ثمر الْقُلقُلان وهو نبت.

 

ج / 1 ص -118-                                    تَدنى من العُوذ أفلاءَها            إرادةَ أن يسترقْن الصهيلَا1

فلما انتهينا إلى مكةَ                           أبحنا الرجالَ قبيلًا قبيلَا

نعاورُهم ثَمَّ حدِّ السيوفِ                       وفي كلِّ أوْبٍ خَلسْنا العقولَا

نُخَبِّزهم بصلابِ النسو                          رِ خَبْزَ القويِّ العزيزِ الذليلا2

قتلنا خزاعةَ في دارِها                          وبكرًا قتلنا وجيلًا فجيلَا

نفيناهمُ من بلادِ المليك                       كما لا يَحِلُّون أرضًا سُهولا

فأصبح سبيُهم في الحديدِ                     ومن كلِّ حي شَفَيْنا الغليلا

شعر ثعلبة القضاعي في هذه القصة: وقال ثعلبة بن عبد الله بن ذُبيان بن الحارث بن سعد بن هُذَيْم القُضاعي في ذلك من أمر قُصي حين دعاهم فأجابوه:

جلبنا الخيلَ مُضْمرةً تَغالَى                   من الأعرافِ أعراف الجِنابِ3

إلى غَوْرَىْ تِهامةَ، فالتقينا                    من الفَيْفاءِ في قاعٍ يبابِ

فأما صوفةُ الخنثَى، فخَلَّوْا                    منازلَهم محاذرَة الضِّرابِ

وقام بنو علي إذ رأونا                          إلى الأسياف كالإبل الطرابِ4

شعر قصي: وقال قصى:

أنا ابن العاصمين بني لؤيّ                    بمكةَ منزلي، وبها رَبيتُ

إلى البَطحاءِ قد علمت معد                   ومَرْوتُها رضيتُ بها رضيتُ

فلستُ لغالبٍ إن لم تأثَّل                      بها أولادُ قَيْذر، والنبيتُ

رِزاحٌ ناصري، وبه أُسامي                      فلستُ..أخافُ ضيْمًا ما حَييتُ


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 العُوذ: الفرس التي لها أولاد. والأفلاء: جمع فلو المهر العظيم.
2 نخَبزهم: أي نسوقهم سوقًا شديدًا.
3 تغالى: ترتفع في سيرها. والأعراف: الرمل المرتفع. والجِناب: بكسر الجيم، هو موضع من بلاد قضاعة.
4 بنو علي، وهم بنو كنانة، وإنما سموا ببني علي؛ لأن عبد مناة بن كنانة كان ربيبا لعليِّ بن مازن من الأزْد جد سطيح الكاهن، فقيل لبني كنانة: بنو علي، وأحسبه أراد فى هذا البيت بني بكر بن عبد مناة؛ لأنهم قاموا مع خزاعة.

ج / 1 ص -119-     فلما استقر رِزاح بن ربيعة في بلاده، نشره الله ونشر حُنًّا، فهما قبيلا عُذْرَة1 اليوم. ومد كان بين رزاح بن ربيعة، حين قدم بلاده، وبين نَهْد بن زيد وحَوْتَكة بن أسْلُم2، وهما بطنان من قُضاعة شيء، فأخافهم حتى لحقوا باليمن، وأجْلَوْا من بلاد قُضاعة، فهم اليوم باليمن، فقال قُصي بن كلاب، وكان يحب قُضاعة ونماءها واجتماعها ببلادها، لما بينه وبين رزاح من الرحم، ولبلائهم عنده إذا أجابوه إذ دعاهم إلى نصرته، وكره ما صنع بهم رِزاح:

ألا من مُبْلغ عني رِزاحًا                         فإني قد لَحَيتك في اثنتين

لحيتُك في بني نَهْد بن زيد                    كما فرقْتَ بينهُمُ وبيْني

وحَوْتكة بنُ أسلمَ إن قومًا                      عَنَوْهم بالمَساءة قد عَنَوْني

قال ابن هشام: وتروى هذه الأبيات لزُهير بن جَناب الكلبي.
قصي يفضل عبد الدار على سائر ولده: قال ابن إسحاق: فلما كبر قصي ورق عظمه، وكان عبد الدار بِكْرَه، وكان عبد مناف قد شَرُف في زمان أبيه، وذهب كل مذهَب، وعبد العزى وعبد. قال قصي لعبد الدار: أما والله يا بُنَيَّ لألحقنَّك بالقوم، وإن كانوا قد شرفوا عليك: لا يدخل رجل منهم الكعبة، حتى تكون أنت تفتحها له، ولا يُعقد لقريش لواء لحربها إلا أنت بيدك، ولا يشرب أحد بمكة إلا من سقايتك، ولا يأكل أحد من أهل الموسم طعامًا إلا من طعامك، ولا تقطع قريشٌ أمرًا من أمورها إلا في دارك، فأعطاه دارَه دارَ الندوة، التى لا تُقضي قريش أمرًا من أمورها إلا فيها، وأعطاه الحجابة واللواء والسقاية والرفادة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في قضاعة: عُذْرَتان: عذرة بن رُفَيدة، وهم من بني كلب بن وبرة. وعُذرة بن سعد بن سوُدِ بن أسلم بن الحاف بن قضاعة، وأسلُم هذا هو بضم اللام من ولد حن بن ربيعة أخي رزاح بن ربيعة.
2 وليس في العرب أسلم بضم اللام إلا ثلاثة اثنان منهم فى قضاعة، وهما: أسلُم بن الحاف هذا، وأسلُم بن تَدُول بن تَيم اللات بن رُفَيدَة بن ثور بن كلب، والثالث فى عك: أسلُم بن القياتة بن غابن بن الشاهد بن عك، وما عدا هؤلاء فأسلَم بفتح اللام، ذكره ابن حبيب في المؤتلف والمختلف. انظر: "الروض الأنف بتحقيقنا ج1 ص153".

 

ج / 1 ص -120-     الرِّفادة: وكانت الرِّفادة خَرْجا تخرجه قريش في كل موسم من أموالها إلى قُصي بن كلاب، فيصنع به طعامًا للحاج، فيأكله من لم يكن له سعةٌ ولا زاد، وذلك أن قُصيًّا فرضه على قريش، فقال لهم حين أمرهم به: يا معشر قريش، إنكم جيرانُ الله، وأهل بيته، وأهل الحرم، وإن الحاج ضَيْفُ الله وزوَّار بيته، وهم أحق الضيف بالكرامة، فاجعلوا لهم طعامًا وشرابًا أيام الحج، حتى يَصْدُروا عنكم، فكانوا يخرجون لذلك كل عام من أموالهم خَرْجًا، فيدفعونه إليه، فيصنعه طعامًا للناس أيام مِنى، فجرى ذلك من أمره في الجاهلية على قومه حتى قام الإسلام، ثم جرى في الإسلام إلى يومك هذا، فهو الطعام الذي يصنعه السلطان كل عام بمنى للناس حتى ينقضي الحج.
قال ابن إسحاق: حدثني بهذا من أمر قُصَي بن كلاب، وما قال لعبد الدار فيما دفع إليه مما كان بيده: أبو إسحاق بن يسار، عن الحسن بن محمد بن علي بن أبى طالب رضي الله عنهم، قال: سمعته يقول ذلك لرجل من بني عبد الدار يقال له: نُبَيْه بن وهب بن عامر بن عِكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي.
قال الحسن: فجعل إليه قُصي كل ما كان بيده من أمر قومه، وكان قُصي لا يُخَالفَ، ولا يُردّ عليه شيء صنعه.
ذكر ما جرى من اختلاف قريش بعد قُصي وحلف المطيبين:
النزاع بين بني عبد الدار وبني أعمامهم: قال ابن إسحاق:
ثم إن قصي بن كلاب هلك، فأقام أمره في قومه وفي غيرهم بنوه من بعده. فاختطوا مكة رباعًا -بعد الذي كان قطع لقومه بها فكانوا يقطعونها في قومهم، وفي غيرهم: من حلفائهم ويبيعونها. فأقامت على ذلك قريش معهم ليس بينهم اختلاف ولا تنازع، ثم إن بني عبد مناف بن قصي: عبد شمس وهاشِمًا والمطلب ونوفلا، أجمعوا على أن يأخذوا ما بأيدي بني عبد الدار بن قُصي مما كان قصي جعل إلى عبد الدار، من الحجابة واللواء والسقاية والرِّفادة، ورأوا أنهم أولى بذلك منهم لشرفهم عليهم وفضلهم في قومهم، فتفرقت عند ذلك قريش، فكانت طائفة مع بني عبد مناف على رأيهم؛

 

ج / 1 ص -122-     يَرَوْن أنهم أحق به من بني عبد الدار لمكانهم في قومهم، وكانت طائفة مع بني عبد الدار، يَرَوْن ألا يُنزع منهم ما كان قصي جعل إليهم.
فكان صاحب أمر بني عبد مناف: عبد شمس بن عبد مناف، وذلك أنه كان أسن بني عبد مناف.
وكان صاحب أمر بني عبد الدار: عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار.
حلفاء بني عبد الدار وحلفاء بني أعمامهم: فكان بنو أسد بن عبد العُزَّى بن قصي وبنو زُهرة بن كلاب، وبنو تَيْم بن مُرة بن كعب، وبنو الحارث بن فِهر بن مالك بن النضر، مع بني عبد مناف.
وكان بنو مخزوم بن يَقَظَة بن مرة، وبنو سَهْم بن عمرو بن هُصَيْص بن كعب، وبنو جمَح بن عمرو بن هُصَيْص بن كعب، وبنو عدي بن كعب، مع بني عبد الدار، وخرجت عامر بن لؤي ومحارب بن فِهر، فلم يكونوا مع واحد من الفريقين.
فعقد كل قوم على أمرهم حلفًا مؤكدًا على أن لا يتخاذلوا، ولا يسْلم بعضهم بعضًا ما بلَّ بحر صوفةً.
فأخرج بنو عبد مناف جفنة مملوءة طيبًا، فيزعمون أن بعض نساء بني عبد مناف1، أخرجتها لهم، فوضعوها لأحلافهم في المسجد عند الكعبة، ثم غمس القومُ أيديَهم فيها، فتعاقدوا وتعاهدوا هم وحلفاؤهم، ثم مسحوا الكعبة بأيديهم توكيدًا على أنفسهم فسُمُّوا المطيَّبين.
وتعاقد بنو عبد الدار، وتعاهدوا هم وحلفاؤهم عند الكعبة حلفًا مؤكدًا، على أن لا يتخاذلوا، ولا يُسلم بعضُهم بعضًا، فسُموا الأحلاف.
تقسيم القبائل في هذه الحرب: ثم سُوند2 بين القبائل، ولُزَّ3 بعضُها ببعض فعُبيّتَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وقد سماها الزبير في موضعين من كتابه، فقال: هي أم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب عمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتوأمة أبيه.
2 سوند: من السناد، وهى المقابلة في الحرب بين كل فريق، وما يليه من عدوه، ومنه أخذ سناد الشعر، وهو أن يتقابل المصراعان من البيت، فيكون قبل حرف الروي حرف مدّ ولين، ويكون فى آخر البيت الثاني قبل حرف الروي حرف لين، وهى ياء أو واو مفتوح ما قبلها.
3 لُزَّ: شدُ.

 

ج / 1 ص -123-     جُدْعَان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تَيْم بن مرة بن كعب بن لؤي، لشرفه وسنه، فكان حلفُهم عنده: بنو هاشم، وبنو المطلب، وأسد بن عبد العزى، وزُهرة بن كلاب، وتَيْم بن مرة، فتعاقدوا وتعاهدوا على أن لا يجدوا بمكة مظلومًا من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا قاموا معه وكانوا على مَن ظَلَمَهُ حتى تُردَّ عليه مظلمته، فسمت قريش ذلك الحلف: حلف الفُضول.
حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيه: قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن زيد بن المهاجر بن قُنْفُذ التيمي أنه سمع طلحة بن عبد الله بن عَوْف الزُّهرى يقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الفضول في ذي القعدة قبل المبعث بعشرين سنة.
وكان حلف الفضول أكرم حلف سُمع به، وأشرفه في العرب، وكان أول من تكلم به ودعا إليه: الزبير بن عبد المطلب، وكان سببه أن رجلًا من زُبيد قدم مكة ببضاعة، فاشتراها منه العاصي بن وائل، وكان ذا قدر بمكة وشرف، فحبس عنه حقه، فاستعدى عليه الزبيدي الأحلاف: عبد الدار ومخزومًا وجُمَح وسَهْمًا وعَدِيّ بن كعب، فأبوا أن يعينوه على العاصي بن وائل، فلما رأى الزبيدي الشر، أوفى على أبي قُبَيْس -جبل بمكة- عند طلوع الشمس، وقريش فى أنديتهم حول الكعبة، فصاح بأعلى صوته:

يا آل فِهر لمظلوم بضاعته                         ببطن مكة نائي الدار والنفر

ومُحرم أشعث لم يقض عمرته                   يا لَلرجال وبين الحِجر والحجَر

إن الحرام لمن تمَّت كرامته                       ولا حرام لثوب الفاجر الغُدرِ

فقام في ذلك الزبير بن عبد المطلب، وقال: ما لهذا متبرك، فاجتمعت هاشم وزهرة وتَيم بن مرة في دار ابن جُدعان، فصنع لهم طعامًا، وتحالفوا في ذى القعدة في شهر حرام قيامًا، فتعاقدوا، وتعاهدوا بالله: ليكونُن يدًا واحدة مع المظلوم على الظالم، حتى يؤدي إليه حقه ما بلَّ بحر صوفة، وما رسا حراء وثبير مكانهما، وعلى التأسي في المعاش، فسمت قريش ذلك الحلف؛ حلف الفضول، وقالوا: لقد دخل هؤلاء في فضل من الأمر، ثم مشوا إلى العاصي بن وائل، فانتزعوا منه سلعة الزبيدي فدفعوها إليه.

ج / 1 ص -124-     "لقد شهدتُ في دار عبدِ اللهِ بنِ جُدْعان1 حلفًا، ما أحب أن لي به حُمْر النَّعَم، ولو أدعَى به في الإسلام لأجبتُ".
الحسين يهدد الوليد بالدعوة إلى إحياء الحلف: قال ابن إسحاق: وحدثني يزيدُ بن عبد الله بن أسامة بن الهادي الليْثي أن محمد بن إبراهيم بن الحارث التَّيمي حدثه: أنه كان بين الحسين بن على بن أبي طالب رضي الله عنهما، وبين الوليد بن عُتبة بن أبي سفيان -والوليد يومئذ أمير على المدينة، أمَّره عليها عمه معاوية بن أبي سفيان- منازعة في مال كان بينهما بذي المرْوَة، فكان الوليدُ تحامل على الحسين في حقّه -لسلطانه- فقال له الحسين: أحلف بالله لتنصفني من حقي، أو لآخذن سيفي، ثم لأقومن في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم لأدعونَّ بحلف الفُضول قال: فقال عبد الله بن الزبير، وهو عند الوليد حين قال الحسين -رضي الله عنه- ما قال: وأنا أحلف بالله لئن دعا به لآخذنَّ سيفي، ثم لأقومن معه، حتى يُنصَف من حقه أو نموت جميعًا قال: فبلغت المسْوَر بن مخرمة بن نوفل الزهري، فقال مثلَ ذلك، وبلغت عبد الرحمن بن عثمان بن عُبَيد الله التيمي، فقال مثل ذلك، فلما بلغ ذلك الوليد بن عتبة أنصف الحسين من حقه حتى رَضِيَ.
خروج بني عبد شمس وبني نوفل من الحلف: قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهادي الليثي عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التَّيمي قال: قدم محمد بن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وعبد الله بن جُدعان هذا تيمي هو: ابن جُدعان بن عمر بن كعب بن سعد بن تَنم، يكنى: أبا زُهير ابن عم عائشة -رضي الله عنها- ولذلك قالت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم: إن ابن جُدعان كان يسم الطعام، ويقري الضيف، فهل ينفعه ذلك يوم القيامة؟ فقال:
"لا إنه لم يقل يومًا: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين" أخرجه مسلم.
قال ابن قتيبة: وكانت جفنته يأكل منها الراكب على البعير، وسقط فيها صبي، فغرق فيها ومدحه أمية بن أبي الصلت فقال:

له داع بمكة مُشمَعِل                                 وآخر فوق كعبتها ينادي

إلى ردح من الشيزَى عليها                         لُباب البر يلبك بالشهاد

 

ج / 1 ص -125-     جُبَيْر بن مُطْعِم بن عَدي بن نَوْفل بن عبد مناف -وكان محمد بن جُبَيْر أعلم قريش- فدخل على عبد الملك بن مروان بن الحكم حين قُتل ابن الزبير واجتمع الناس على عبد الملك فلما دخل عليه قال له: يا أبا سعيد، ألم نكن نحن وأنتم، يعني بني عبد شمس بن عبد مناف وبني نوفل بن عبد مناف في حلف الفُضول؟ قال: أنت أعلم، قال عبد الملك: لتخبرني يا أبا سعيد بالحقِّ من ذلك، فقال: لا والله لقد خرجنا نحن وأنتم منه، قال: صدقْتَ.
هاشم يتولى الرفادة والسقاية: قال ابن إسحاق: فوليَ الرفادة والسقاية: هاشم بن عبد مناف، وذلك أن عبد شمس كان رجلًا سفَّارًا قَلَّما يقيم بمكة، وكان مُقِلًا ذا ولد، وكان هاشم مُوسرًا فكان -فيما يزعمون- إذا حضر الحج، قام في قريش فقال: "يا معشر قريش، إنكم جيرانُ الله، وأهل بيته، وإنه يأتيكم في هذا الموسم زوارُ الله وحُجاج بيته، وهم ضَيْف الله، وأحق الضيف بالكرامة: ضيفُه، فاجمعوا لهم ما تصنعون لهم به طعامًا أيامَهم هذه التي لا بد لهم من الإقامة بها؛ فإنه والله لو كان مالي يسع لذلك ما كلفتكموه" فيخرجون لذلك خَرْجًا من أموالهم، كل امرئ بقدر ما عنده، فيُصنع به للحجاج طعامٌ، حتى يَصْدُروا منها.
أفضال هاشم على قومه: وكان هاشم -فيما يزعمون- أولَ من سَنَّ الرحلتين لقريش: رحلتي الشتاء والصيف، وأول من أطعم الثريد للحجاج بمكة، وإنما كان اسمه: عَمرًا، فما سُمي هاشمًا إلا بهشمه الخبز بمكة لقومه1، فقال شاعر من قريش أو من العرب2:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سمي هاشمًا لهشمه الثريد لقومه، والمعروف في اللغة أن يقال: ثردت الخبز، فهو ثريد ومثرود، فلم يُسم: ثاردًا وسمي هاشمًا، وكان القياس -كما لا يسمى الثريد هشيمًا، بل يقال فيه: ثريد ومثرود، أن يقال في اسم الفاعل أيضًا كذلك، ولكن سبب هذه التسمية يحتاج إلى زيادة بيان. ذكر أصحاب الأخبار أن هاشمًا كان يستعين على إطعام الحاج بقريش، فيرفدونه بأموالهم، ويعينونه، ثم جاءت أزمة شديدة فكره أن يكلف قريشًا أمر الرفادة، فاحتمل إلى الشام بجميع ماله، واشترى به أجمع كعكًا ودقيقًا، ثم أتى الموسم فهشم ذلك الكعك كله هشيمًا، ودقه دقًا ثم صنع للحجاج طعامًا شبه الثريد، فبذلك سمي هاشِمًا؛ لأن الكعك اليابس لا يثرد، وإنما يهشم هشمًا.
2 هو ابن الزَّبَعْرى وسبب هذا المدح، وهو سهمي -أي من بني سعد بن سهم- لبني عبد مناف -فيما ذكره ابن إسحاق في رواية يونس- أنه كان قد هجا قصيًّا بشعر كتبه في أستار الكعبة، أوله:

ألهى قصيًّا عن المجد الأساطير              ومشية مثل ما تمشى الشقارير

فاستعدوا عليه بني سهم، فأسلموه إليهم، فضربوه وحلقوا شعره، وربطوه إلى صخرة بالحجون، فاستغاث قومه فلم يغيثوه، فجعل يمدح قصيًّا ويسترضيهم، فأطلقه بنو عبد مناف منهم وأكرموه فمدحهم بهذا الشعر، وبأشعار كثيرة.

 

ج / 1 ص -126-                                         عَمْرو الذي هشم الثريدَ لقومِه         قوم بمكة مُسنتين عجاف

سُنَّت إليه الرحلتان كلاهما                        سفرُ الشتاء، ورحلةُ الإيلاف

قال ابن هشام: أنشدني بعض أهل العلم بالشعر من أهل الحجاز:

قوم بمكة مسنتين عجاف

المطلب يلي الرفادة والسقاية: قال ابن إسحاق: ثم هلك هاشم بن عبد مناف بغزة من أرض الشام تاجرًا، فولي السقاية والرِّفادة من بعده المطلبُ بن عبد مناف، وكان أصغر من عبد شمس وهاشم، وكان ذا شرف في قومه وفضل، وكانت قريش إنما تسميه: الفَيْضَ؛ لسماحته وفضله.
زواج هاشم بن عبد مناف: وكان هاشم بن عبد مناف قَدِم المدينة، فتزوج سَلْمى بنت عمرو أحد بني عدي بن النجار1، وكانت قبله عند أحَيْحة بن الجُلاح بن الحَرِيش2.
قال ابن هشام: ويقال: الحريس بن جَحْجبيّ بن كُلْفة بن عَوْف بن عمرو بن عَوْف بن مالك بن الأوْس، فولدت له عمرو بن أحَيْحة، وكانت لا تنكح الرجال لشرفها في قومها، حتى يشترطوا لها أن أمرها بيدها، إذا كرهت رجلًا فارقته.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ومن أجل هذا النسب قال سيف بن ذي يزن أو ابنه معدي كرب بن سيف ملك اليمن لعبد المطلب حين وفد عليه في ركب من قريش: مرحبًا بابن أختنا؛ لأن سلمى من الخزرج، وهم من اليمن من سبأ، وسيف من حمير بن سبأ.
2 قال الدارقطني عن الزبير بن أبي بكر: إن كل ما في الأنصار فهو: حريس بالسين غير معجمة إلا هذا.

ج / 1 ص -127-     سبب تسمية عبد المطلب باسمه: فولدت لهاشم: عبد المطلب، فسمته شَيْبة، فتركه هاشم عندها حتى كان وَصيفًا1 أو فَوْق ذلك، ثم خرج إليه عمه المطلب؛ ليقبضه، فيُلحقه ببلده وقومه فقالت له سَلْمى: لستُ بمرسلته معك، فقال لها المطلب: إنى غير مُنصرف حتى أخرج به معي إن ابن أخي قد بلغ، وهو غريب في غير قومه، ونحن أهل بيت شرف في قومنا؛ نلي كثيرًا من أمرهم؛ وقومه وبلده وعشيرته خير له من الإقامة في غيرهم، أو كما قال. وقال شَيْبة لعمه المطلب -فيما يزعمون- لست بمفارقها إلا أن تأذنَ لي، فأذنت له، ودفعته إليه، فاحتمله، فدخل به مكة مُرْدِفه معه على بعيره، فقالت قريش: عبد المطلب ابتاعه، فبها سُمي شَيْبة: عبد المطلب. فقال المطلب: ويحكم! إنما هو ابن أخي هاشم، قَدِمْتُ به من المدينة.
وفاة المطلب: ثم هلك المطلب برَدْمان من أرض اليمن، فقال رجل من العرب يبكيه:

 

 

قد ظمئ الحجيجُ بعدَ المطلب                  بعدَ الجفانِ والشراب المُنْثَغِبْ

ليت قريشًا بعده على نَصَبْ

مطرود يبكي المطلب وبني عبد مناف: وقال مطرود بن كعب الخزاعي، يبكي المطلب وبني عبد مناف جميعًا حين أتاه نعي نَوْفل بن عبد مناف، وكان نوفل آخرهم هُلكًا:

يا ليلة هَيَّجْتِ ليلاتي                                إحدى لياليَّ القَسِيَّاتِ2

وما أقاسي من هموم، وما                         عالجتُ من رُزْءِ المنيَّاتِ

إنما تذكرتُ أخي نوفلًا                                ذكَّرني بالأوَّليَّاتِ

ذكرني بالأزْرِ الحمر والـ                               ـأردية الصُّفر القشيباتِ

أربعةٌ كلهمُ سيد                                      أبناءُ ساداتٍ لساداتِ


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الوصيف: الغلام دون المراهقة.
2 القسيات: فعيلات من القسوة: أي: لا لين عندهن، ولا رأفة فيهن، ويجوز أن يكون عندهم من الدرهم القسي، وهو الزائف، وقد قيل في الدرهم القسي: إنه أعجمي معرب، وقيل: هو من القساوة؛ لأن الدرهم الطيب ألين من الزائف، والزائف أصلب منه. ونصب ليلة على التمييز.

 

ج / 1 ص -128-                                      مَيْت برَدْمان ومَيْت بسلْـ        ـمانَ ومَيْت بين غَزَّاتِ1

ومَيْتٌ أسكن لحدًا لدى الـ                       ـمَحْجوب شَرْقيّ البنياتِ2

أخلصهُمُ عبدُ منافِ فهم                          من لومِ من لامَ بمَنْجاة

إن المُغيراتِ وأبناءَها                              من خيرِ أحياءٍ وأمواتِ3

اسم عبد مناف وترتيب أولاده موتًا: وكان اسم عبد مناف: المغيرة، وكان أول بني عبد مناف هُلْكا: هاشم، بغزة من أرض الشام، ثم عبد شمس بمكة، ثم المطلب برَدْمان من أرض اليمن، ثم نوفلًا بسَلمان من ناحية العراق.
شعر آخر لمطرود: فقيل لمطرود -فيما يزعمون- لقد قلت فأحسنت، ولو كان أفحل مما قلتَ كان أحسن، فقال: أنظروني لياليَ، فمكث أيامًا، ثم قال:

يا عين جُودي، وأذرِي الدمعَ وانهمري               وابكي على السر من كعبِ المُغيراتِ

يا عين، واسْحَنْفري بالدمعِ واحتفلى               وابكي خبيئةَ نفسي في الملماتِ4

وابكي على كلِّ فيَّاضٍ أخِي ثقة                     ضَخْمِ الدَّسيعة وهَّاب الجَزيلاتِ5

محضُ الضَّريبةِ، عالي الهمِّ، مختلق                جَلْدُ النَّجيزةِ، ناءٍ بالعظيماتِ6


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بغزات. هي: غزة، ولكنهم يجعلون لكل ناحية أو لكل ربض من البلدة اسم البلدة، فيقولون: غزات في غزة، ويقولون في بغداد: بغادين، كما قال بعض المحدثين:

شربنا في بغادين                                على تلك الميادين

2 البنيات يعني: البنية، وهي: الكعبة، وهو نحو مما تقدم في غزات.
3 المغيرات: بنو المغيرة، وهو عبد مناف، كما قالوا: المناذرة في المنذر، والأشعرون فى بني أشعر بن أدَد.
4 اسحنفري: أديمي.
5 ضخم الدسيعة: كثير العطاء.
6 الضريبة: الطبيعة أي عظيم الخلق. ناء بالعظيمات. ليس قوله: ناء من النأي، فتكون الهمزة فيه عين الفعل، وإنما هو من ناء ينوء إذا نهض فالهمزة فيه لام الفعل، كما هو في جاء عند الخليل، فإنه عنده مقلوب، ووزنه: فاعل، والياء التي بعد الهمزة هي: عين الفعل في جاء يجيء.

ج / 1 ص -129-                                        صعبُ البديهةِ لا نِكْس ولا وَكِلٍ          ماضي العزيمة، متلاف الكريماتِ1

صقر توسط من كعب إذا نُسبوا                   بُحبوحة المجدِ والشُّم الرفيعاتِ

ثم اندبي الفيضَ والفياضَ مُطَّلبا                 واستخرطي بعدَ فيْضاتٍ بجماتِ2

أمسي برَدْمان عنا اليومَ مغتربًا                   يا لهفَ نفسي عليه بينَ أموات

وابكي -لك الويلُ- إمَّا كنتِ باقي                  لعبدِ شمسٍ بشرْقيِّ الثنيَّاتِ

وهاشم في ضريحٍ وَسْط بَلْقَعَةٍ                   تَسْفي الرياح عليه بين غَزَّاتِ

ونَوْفل كان دونَ القومِ خالصتى                    أمسى بسَلمَان في رَمس بمَوْماةِ3

لم ألقَ مثلَهمُ عُجمًا ولا عربًا                      إذا استقلَّت بهم أدمُ المطيات4

أمستْ ديارُهُم منهم معطَّلةً                      وقد يكونون زَيْنا في السَّريات5

                                                          

أفناهمُ الدهرُ، أم كلَّتْ سيوفُهمُ                  أم كلَّ من عاش أزوادُ المنيَّات

أصبحتُ أرْضَى من الأقوام بعدَهمُ                بَسْطَ الوجوهِ وإلقاءَ التحياتِ

يا عين فابكي أبا الشُّعْثِ الشَّجيَّاتِ             يَبْكينَه حُسَّرًا مثلَ البليَّاتِ6


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 النكس: الدنيء.
2 استخرطي: استكثري.
3 الموماة: القفر.
4 الأدم: الإبل الكرام.
5 السريات: جمع سرية. الجماعة من الجيش.
6 شدد ياء الشجيات، وإن كان أهل اللغة قد قالوا: ياء الشجي مخففة، وياء الخليّ مشددة، وقد اعترض ابن قتيبة على أبي تمام الطائي في قوله:

أيا ويح الشِّجيِّ من الخليِّ                      وويح الدمع من إحدى بَليّ

واحتج بقول يعقوب في ذلك، فقال له الطائي: ومن أفصح عندك: ابن الجرمُقانية يعقوب، أم أبو الأسود الدؤلي حيث يقول:

ويل الشجي من الخلي فإنه                    وصب الفؤاد بشجوه مغموم

وبيت مطرود أقوى في الحجة من بيت أبي الأسود الدؤلي، لأنه جاهلي محكك، وأبو الأسود الدؤلي: أول من صنع النحو، فشعره قريب من التوليد، ولا يمتنع فى القياس أيضًا أن يقال: شَجيّ وشَجٍ؛ لأنه في معنى: حزن وحزين، وقد قيل: من شدد الياء، فهو فعيل بمعنى مفعول. والبليَّات مفردها البلية: الناقة التي كانت تُعقل عند قبر صاحبها إذا مات، حتى تموت جرعًا وعطشًا =

ج / 1 ص -130-                                      يبكين أكرمَ من يمشي على قدمٍ       يُعْوِلْنَه بدموعٍ بعد عَبْرات

يبكين شخصًا طويلَ الباع ذا فَجَر               آبى الهضيمة، فَرَّاج الجليلاتِ1

يبكين عَمْرَو العُلا إذ حان مصرعُه               سَمح السَّجيةِ، بسَّام العشياتِ2

يبكينه مُستكيناتٍ على حَزنٍ                   يا طولَ ذلك من حزنٍ وعَوْلاتِ

يبكين لما جلاهنَّ الزمانُ له                     خُضْر الخدودِ كأمثالِ الحَمياتِ3

مُحتزمات على أوساطهن لما                   جرَّ الزمانُ مِنَ أحداث المصيبات

أبيت ليلي أراعي النجمَ من ألمٍ               أبكي، وتبكي معي شَجْوى بُنَياتي

ما في القُروم لهم عِدْل ولا خَطَرٌ                ولا لمن تركوا شَرْوَى بقياتِ


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= ويقولون: إنه يحشر راكبًا عليها، ومن لم يفعل معه هذا حشر راجلًا، وهذا على مذهب من كان منهم يقول بالبعث، وهم الأقل، ومنهم زهير فإنه قال:

يؤخر فيوضع في كتاب فيُدَّخَرْ                  ليوم الحساب، أو يُعجل فَيَنقَم

وقال الشاعر في البلية:

والبلايا رءوسها في الولايا                      مانحات السَّموم حُر الخُدود

والولايا: هي البراذع، وكانوا يثقبون البرذعة، فيجعلونها في عنق البلية، وهى معقولة، حتى تموت، وأوصى رجل ابنه عند الموت بهذا:

لا تتركن أباك يحشر مرة                     عَدوا يخر على اليدين ويَنكبُ

1 الفجر: الجود، شُبه بانفجار الماء. ويروى ذا فَنَع، والفنع: كثرة المال، وقد قال أبو محجن الثقفي:

وقد أجود وما مالي بذي فنع                    وأكتم السر فيه ضَرْبةُ العنق

2 بَسَام العشيات: يعني: أنه يضحك للأضياف، ويبسم عند لقائهم، كما قال الآخر، وهو حاتم الطائي:

أضاحك ضيفي قبل إنزال رحله                     ويَخصب عندي، والْمَحَل جديب

وما الخصب للأضياف أن يَكثُر القرى               ولكنما وجه الكريم خصيب

3 كأمثال الحميات. أي: محترقات الأكباد كالبقر أو الظباء التي حميت الماء وهي عاطشة فحمية بمعنى محمية. لكنها جاءت كذلك؛ لأنها أجريت مجرى الأسماء كالرمية والضجة والطريدة.

ج / 1 ص -131-                                             أبناؤهم خيرُ أبناءٍ، وأنفُسهم        خيرُ النفوسِ لدى جَهْد الألِيَّاتِ

كم وهبوا من طِمِر سايح أرِنٍ                           ومن طِمِرَّةِ نَهْبٍ في طِمَرَّاتِ1

ومن سيوفٍ من الهِنديِّ مُخْلَصَة                      ومن رماح كأشْطانِ الركياتِ2

ومن توابع مما يُفْضِلون بها                             عند المسائِل من بذْل العطيّاتِ

فلو حَسنتُ وأحصى الحاسبون معي                لم أقضِ أفعالَهم تلك الهنيَّاتِ

هم المدِلون إمَّا معشر فخروا                           عندَ الفخارِ بأنسابٍ نَقِيَّاتِ

زَيْنُ البيوتِ التي حَلُّوا مساكنها                       فأصبحت منهمُ وَحْشًا خَليَّاتِ

أقول والعينُ لا ترقا مدامعُها                             لا يُبْعد الله أصحابَ الرزيَّاتِ

قال ابن هشام: الفَجر: العطاء. قال أبو خِرَاش الهُذَلي:

عَجَّف أضيافي جميلُ بنُ معمر                     بذي فَجَر تأوى إليه الأراملُ

قال ابن إسحاق: أبو الشُّعث الشجيات: هاشم بن عبد مناف.
عبد المطلب يلي السقاية والرفادة: قال: ثم وَلِيَ عبدُ المطلب ابن هاشم السقاية والرِّفادة بعد عمه المطلب، فأقامها للناس، وأقام لقومه ما كان آباؤه يقيمون قبله لقومهم من أمرهم، وشَرُف في قومه شرفًا لم يبلغْه أحدٌ من آبائه، وأحبه قومُه وعَظُم خطره فيهم.
ذكر حفر زمزم وما جرى من الخلف فيها:
سبب حفر زمزم: ثم إن عبد المطلب بينما هو نائم في الحجر إذ أتي، فأمر بحفر زمزم.
قال ابن إسحاق: وكان أول ما ابتُدئ به عبد المطلب من حفرها، كما حدثني يزيد بن أبي حبيب المصري عن مرثد بن عبد الله اليزني عن عبد الله بن زُرَيْر الغَافِقِي: أنه سمع علي بن أبى طالب رضي الله تعالى عنه يحدِّث حديثَ زمزم حين أمر عبد المطلب بحفرها، قال:
قال عبد المطلب: إني لنائم في الحِجْر إذا أتاني آتٍ فقال: احفر طيبة. قال: قلت: وما طيبة؟ قال: ثم ذهب عني. فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه، فجاءني فقال: احفر بَرَّة. قال: فقلت: وما بَرَّة؟ قال: ثم ذهب عني، فلما كان. الغد رجعت إلى مضجعي فنمت

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الطمر: الفرس الخفيف السريع.
2 أشطان الركيات: حبال الآبار.

ج / 1 ص -132-     فيه، فجاءني فقال: احفر المضنونة. فقال: فقلت: وما المضنونة؟ قال: ثم ذهب عني، فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي، فنمت فيه، فجاءنيِ فقال: احفر زَمْزَمَ. قال: قلت: وما زمزم؟ قال لا تَنْزِفُ أبدًا ولا تُذمُّ1، تسقي الحجيج الأعظم، وهى بين الفَرْث والدم، عند نُقْرة الغراب الأعْصم، عند قرية النمل2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لا تنزف أبدًا: وهذا برهان عظيم؛ لأنها لم تنزف من ذلك الحين إلى اليوم قط، وقد وقع فيها حبشي فنزحت من أجله، فوجدوا ماءها يثور من ثلاثة أعين، أقواها وأكثرها ماء من ناحية الحجر الأسود، وذكر هذا الحديث الدارقطني. وقوله: ولا تُذم، فيه نظر، وليس هو على ما يبدو من ظاهر اللفظ من أنها لا يذمها أحد ولو كان من الذم لكان ماؤها أعذب المياه، ولتضلع منه كل من يشربه، وقد ورد في الحديث أنه لا يتضلع منها منافق، فماؤها إذا مذموم عندهم، وقد كان خالد بن عبد الله القسري أمير العراق يذمها، ويسميها: أم جعلان، واحتفر بئرًا خارج مكة باسم الوليد بن عبد الملك، وجعل يفضلها على زمزم، ويحمل الناس على التبرك بها دون زمزم جرأة منه على الله -عز وجل- وقلة حياء منه، وهو الذي يعلن ويفصح بلعن علي بن أبي طالب -رضوان الله عليه- على المنبر، وإنما ذكرنا هذا، أنها قد ذمت، فقوله إذا: لا نذم، من قول العرب: بئر ذمة أي: قليلة الماء، فهو من أذممت البئر إذا وجدتها ذمة: كما تقول: أجبنتُ الرجل: إذا وجدته جبانًا، وأكذبته إذا وجدته كاذبًا، وفي التنزيل:
{فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ} [الأنعام: 33] وقد فسر أبو عبيد فى غريب الحديث قوله حتى مررنا ببئر ذمة. وأنشد:

مُخَيِّسَةُ خُزْرًا كأن عيونها                      ذمام الركايا أنكرتها الموائح

فهذا أولى ما حمل عليه معنى قوله: ولا تذم؛ لأنه نفي مطلق، وخبر صادق –والله أعلم–
2 فسميت طيبة: لأنها للطيبين والطيبات من ولد إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام- وقيل له: احتفر برة، وهو اسم صادق عليها أيضًا؛ لأنها فاضت للأبرار، وغاضت عن الفجار، وقيل له: احفر المضنونة. وقال وهب بن منبه: سميت زمزم: المضنونة؛ لأنها ضُنَّ بها على غير المؤمنين، فلا يتضلع منها منافق، وروى الدارقطني ما يقوي ذلك سندًا عن النبي صلى الله عليه وسلم:
"من شرب من زمزم فليتضلع" فإنه فرق ما بيننا =

 

ج / 1 ص -133-     قريش تنازع عبد المطلب في زمزم: قال ابن إسحاق: فلما بين له شأنها، ودل على موضعها، وعرف أنه قد صُدِّقَ، غدا بمعْوَله ومعه ابنه الحارث بن عبد المطلب، ليس له يومئذ ولد غيره فحفر فيها فلما بدا لعبد المطلب الطي، كَبَّر.
التحاكم في بئر زمزم: فعرفت قريش أنه قد أدرك حاجته، فقاموا إليه، فقالوا: يا عبد المطلب، إنها بئر أبينا إسماعيل، وإن لنا فيها حقًّا فأشركنا معك فيها. قال: ما أنا بفاعل إن هذا الأمر قد خُصصتُ به دونَكم، وأعطيته من بينكم، فقالوا له: فأنصفنا، فإنا غيرُ تاركيك حتى نخاصمك فيها، قال: فاجملوا بيني وبينكم من شئتم أحاكمْكم إليه، قالوا: كاهنة بني سعد

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وبين المنافقين، لا يستطيعون أن يتضلعوا منها، أو كما قال صلى الله عليه وسلم، وفى تسميتها بالمضنونة رواية أخرى، رواها الزبير: أن عبد المطلب قيل له: احفر المضنونة ضننت بها على الناس إلا عليك.
أما الفرث والدم، فإن ماءها طعام طُعم، وشفاء سُقم، وهي لما شُربت له، وقد تقوَت من مائها أبو ذر -رضي الله عنه- ثلاثين بين يوم وليلة، فسمن حتى تكسرت عكنه.
أما الغراب الأعصم، فقال العَتبي: الأعصم من الغربان الذي في جناحيه بياض فالغراب في التأويل: فاسق، وهو أسود، فدلت نقرته عند الكعبة على نقرة الأسود الحبشي بمعوله فى أساس الكعبة يهدمها في آخر الزمان، فكان نقر الغراب في ذلك المكان يؤذن بما يفعله الفاسق الأسود في آخر الزمان بقبلة الرحمن، وسُقيا أهل الإيمان، وذلك عندما يُرفع القران، وتحيا عبادة الأوثان، وفى الصحيح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ليخربنَّ الكعبة ذو السويقتين من الحبشة" وفى الصحيح أيضًا من صفته: أنه "أفجج" وهذا أيضًا ينظر إلى كون الغراب أعصم إذ الفجج تباعد في الرجلين، كما أن العَصَم اختلاف فيهما، والاختلاف: تباعد. راجع فتح الباري لابن حجر بتحقيقنا.
وأما قرية النمل؛ ففيها من المشاكلة أيضًا، والمناسبة: أن زمزم هي عين مكة التي يردها الحجيج والعمار من كل جانب، فيحملون إليها البر والشعير، وغير ذلك وهي لا تحرث ولا تزرع كما قال سبحانه خبرًا عن إبراهيم عليه السلام:
{رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} [إبراهيم: 37] إلى قوله: {وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [إبراهيم: 37] وقرية النمل لا تحرث ولا تبذر، وتجلب الحبوب إلى تربتها من كل جانب، وفى مكة قال الله سبحانه: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} [النحل: 112]

 

ج / 1 ص -134-     هُذَيْم، قال. نعم قال: وكانت بأشراف الشام، فركب عبد المطلب ومعه نفر من بني أبيه من بني عبد مناف، وركب من كل قبيلة من قريش نفر. قال: والأرض إذ ذاك مفاوز. قال: فخرجوا حتى إذا كانوا ببعض تلك المفاوز بين الحجاز والشام، فَنِيَ ماء عبد المطلب وأصحابه، فظمِئُوا حتى أيقنوا بالهلكة، فاستسقَوْا من معهم من قبائل قريش، فأبَوْا عليهم، وقالوا: إنَّا بمفازة، ونحن نخشى على أنفسنا مثل ما أصابكم، فلما رأى عبد المطلب ما صنع القوم، وما يتخوَّف على نفسه وأصحابه، قال: ما تَرَوْن؟ قالوا: ما رأينا إلا تبع لرأيك فمرنا بما شئت، قال: فإنىّ أرى أن يحفر كل رجل منكم حفرته لنفسه بما بكم الآن من القوة، فكلما مات رجل دفعه أصحابه في حفرته ثم واروه، حتى يكون آخركم رجلا واحدا، فضَيْعَةُ رجل واحد أيسر من ضَيْعة رَكْب جميعًا قالوا: نِعْم ما أمرت به فقام كل واحد منهم فحفر حفرته، ثم قعدوا ينتظرون الموت عطشًا، ثم إن عبد المطلب قال لأصحابه: والله إن إلقاءَنا بأيدينا هكذا للموت، لا نضرب في الأرض، ولا نبتغى لأنفسنا، لعجز فعسى الله أن يرزقنا ماءً ببعض البلاد، ارتحِلوا، فارتحَلوا حتى إذا فرغوا، ومن معهم من قبائل قريش ينظرون إليهم ما هم فاعلون، تقدم عبد المطلب إلى راحلته فركبها فلما انبعثت به انفجرت من تحت خفها عين ماء عذب، فكبَّر عبد المطلب وكبَّر أصحابه، ثم نزل فشرِب، وشرب أصحابه، واستَقَوْا حتى ملئوا أسقيَتهم، ثم دعا القبائل من قريش، فقال: هلُمّ إلى الماء، فقد سقانا الله، فاشربوا واستقوا. ثم قالوا: قد – والله– قضى لك علينا يا عبد المطلب والله لا نخاصمك في زمزم أبدًا، إن الذي سقاك هذا الماء بهذه الفَلاة لهو الذي سقاك زمزم، فارجع إلى سقايتك راشدًا. فرجع ورجعوا معه، ولم يصلوا إلى الكاهنة وخلَّوْا بينه وبينها.
قال ابن إسحاق: فهذا الذي بلغني من حديث علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- في زمزم، وقد سمعت من يحدث عن عبد المطلب أنه قيل له حين أمر بحفر زمزم:

ثم ادعُ بالماء الرَّوِيِّ غيرِ الكَدِرْ                يسقي حجيجَ الله في كل مَبَرْ1

ليس يُخافُ منه شيء ما عَمَر

فخرج عبد المطلب حين قيل له ذلك إلى قريش فقال: تعلَّموا أني قد أمرت أن أحفر لكم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وقوله: ماء روى بالكسر والقصر، ورواء بالفتح والمد. وفيه: مبر: هو مفعل من البر يريد: في مناسك الحج ومواضع الطاعة.

 

ج / 1 ص -135-     زمزم، فقالوا: فهل بُيِّن لك أين هي؟ قال: لا. قالوا: فارجع إلى مضجعك الذي رأيت فيه ما رأيت؟ فإن يك حقًّا من الله يُبيَّن لك، وإن يكن من الشيطان فلن يعودَ إليك. فرجع عبد المطلب إلى مضجعه، فنام فيه، فأتي فقيل له: احفر زمزم، إنك إن حفرتها لم تندمْ، وهى تراث من أبيك الأعظم، لا تنزِف أبدًا ولا تُذَم، تسقي الحجيجَ الأعظم، مثل نعام جافل لم يُقْسَم، ينذر فيها ناذر لمنعم، تكون ميراثا وعَقْدًا مُحْكَم؟ ليست كبعضِ ما قد تعلم، وهي بين الفَرْثِ والدم.
قال ابن هشام: هذا الكلام، والكلام الذي قبله، من حديث عَلي في حفر زمزم من قوله: "لا تنزف أبدا ولا تُذَم" إلى قوله: "عند قرية النمل" عندنا سجع وليس شعرًا.
قال ابن إسحاق: فزعموا أنه حين قيل له ذلك، قال: وأين هي؟ قيل له عند قرية النمل، حيث ينقر الغرابُ غدًا. والله أعلم أي ذلك كان.
عبد المطلب يحفر زمزم: فغدا عبد المطلب ومعه ابنهُ الحارث، وليس له يومئذ ولد غيره، فوجد قريةَ النمل ووجد الغرابَ ينقر عندها بين الوثنين:إساف ونائلة، اللذيْن كانت قريش تنحر عندهما ذبائحها فجاء بالمِعْوَل وقام ليحفر حيث أمر، فقامت إليه قريش حين رأوا جِدَّه، فقالوا: والله لا نتركك تحفر بين وثَنَيْنا هذين اللَّذيْن ننحر عندهما، فقال عبد المطلب لابنه الحارث: ذُدْ عني حتى أحفر، فوالله لأمضينَّ لما أمرت به، فلما عرفوا أنه غيرُ نازع خَلَّوا بينه وبين الحفر، وكفوا عنه، فلم يحفر إلا يسيرًا. حتى بدا له الطي، فكبر وعَرِف أنه قد صُدق فلما تمادى به الحفر وجد فيها غزاليْن من ذهب، وهما الغزالان اللَّذان دَفنت جُرْهم فيها حين خرجت من مكة، ووجد فيها أسيافا قَلْعية وأدراعًا فقالت له قريش: يا عبد المطلب، لنا معك في هذا شِرْك وحقّ، قال: لا، ولكن هَلُمّ إلى أمر نَصَفٍ بيني وبينكم، نضرب عليها بالقِداح، قالوا: وكيف تصنع؟ قال: أجعل للكعبة قِدْحَيْن، ولي قِدْحَيْن ولكم قِدْحَيْن فمن خرج له قِدْحاه على شيء كان له، ومن تخلَّف قدحاه فلا شيء له قالوا: أنصَفْت، فجعل قِدْحين أصفرين للكَعبة، وقِدْحَيْن أسودين لعبد المطلب، وقِدْحَيْن أبيضين لقريش، ثم أعطوا القداحَ صاحبَ القداحِ الذي يُضرب بها عند هُبل، وهُبل: صنم في جوف الكعبة، وهو أعظم أصنامهم، وهو الذي يعني أبو سفيان بن حرب يوم أحد حين قال: أعْلِ هُبَل أي أظهرْ دينك، وقام عبد المطلب

 

ج / 1 ص -136-     يدعو الله عز وجل، فضرب صاحب القداحِ القداحَ، فخرج الأصْفران على الغزالين للكعبة، وخرج الأسودان في الأسياف، والأدراع لعبد المطلب، وتخلف قَدَحَا قريش. فضرب عبد المطلب الأسياف بابًا للكعبة، وضرب في الباب الغزالين من ذهب، فكان أول ذهب حُلِّيته الكعبة -فيما يزعمون- ثم إن عبد المطلب أقام سقاية زمزم للحجاج.
ذكر بئار قبائل قريش:
قال ابن هشام: وكانت قريش قبل حفر زمزم قد احتفرت بئارًا بمكة1، فيما حدثنا زياد بن عبد الله البكائي عن محمد بن إسحاق، قال:
عبد شمس يحفر الطَّوِي: حفر عبد شمس بن عبد مناف الطَّوِيَّ، وهى البئر التي بأعلى مكة عند البيضاء، دار محمد بن يوسف.
هاشم يحفر بذَّر2: وحفر هاشم بن عبد مناف بَذَّر2، وهى البئر التي عند المسْتَنْذَر، خَطْم الخَنْدمة على فم شِعْب أبي طالب، وزعموا أنه قال حين حفرها: لأجعلنَّها بلاغًا للناس.
قال ابن هشام: وقال الشاعر:

سقى الله أمواهًا عرفتُ مكانَها                     جُرَابًا ومَلْكوما وبَذَّرَ والغَمْرا


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذكروا أن قصيًّا كان يسقي الحجيج في حياض من أدم، وكان ينقل الماء إليها من آبار خارجة من مكة منها: بئر ميمون الحضرمي، وكان ينبذ لهم الزبيب. ثم احتفر قصي العَجُول في دار أم هانئ بنت أبي طالب، وهي أول سقاية احتُفرت بمكة، وكانت العرب إذا استقوا منها ارتجزوا، فقالوا:

نُروى على العَجُول، ثم ننطق                     إن قُصيًّا قد وفى وقد صدق

فلم تزل العجول قائمة حياةَ قصي، وبعد موته، حتى كبر عبد مناف بن قصي، فسقط فيها رجل من بني جُعَيل، فعطلوا العجول، واندفنت. انظر: "الروض الأنف، بتحقيقنا ج1 ص172".
2 لفظ بَذَّر مأخوذ من التبذير، وهو التفريق، ولعل ماءها كان يخرج متفرقًا من غير مكان واحد.

 

ج / 1 ص -137-     سَجْلَة والاختلاف فيمن حفرها: قال ابن إسحاق: وحفر سَجْلَة، وهي بئر المُطْعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف التي يَسْقون عليها اليوم. ويزعم بنو نوفل أن المُطْعِم ابتاعها من أسد بن هاشم، ويزعم بنو هاشم أنه وهبها له حين ظهرت زمزم، فاستغنوا بها عن تلك الآبار1.
أمية بن عبد شمس يحفر الحفر: وحفر أمية بن عبد شمس الحَفْر لنفسه.
بنو أسد تحفر سقية: وحفرت بنو أسد بن عبد العزى: سُقَيَّة، وهي بئر بني أسد2.
بنو عبد الدار تحفر أم أحْرَاد: وحفرت بنو عبد الدار: أمَّ أحْرَاد3.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 واحتفرت كل قبيلة بئرا، واحتفر قصي سجلة، وقال حين حفرها:

أنا قصي، وحفرتُ سجلهْ                       تروي الحجيج زُغْلة فزغْلة

وقيل: بل حفرها هاشم، ووهبها أسد بن هاشم لعدي بن نوفل، وفي ذلك تقول خالدة بنت هاشم:

نحن وهبنا لعدي سجلة                       تروي الحجيج زغلةً فزغلة

2 وهذه البئر تسمى أيضًا شفية بئر بني أسد، فقال فيها الحويرث بن أسد:

ماء شفية كماء المزن                         وليس ماؤها بطرق أجن

3 وأما أم أحراد، فأحراد: جمع حِرد، وهى قطعة من السنام، فكأنها سميت بهذا؛ لأنها تنبت الشحم، أو تُسَمن الإبل، أو نحو هذا والحُرد: القطا الواردة للماء، فكأنها تردها القطا والطير، فيكون أحراد جمع: حُرد بالضم على هذا. وقالت أمية بنت عُمَيْلة بن السبَاق بن عبد الدار امرأة العوام بن خويلد حين حفرت بنو عبد الدار أم أحراد:

نحن حفرنا البحر أم أحراد                        ليست كَبَذَّر البرور الجماد

فأجابتها ضرتها: صفية بنت عبد المطلب أم الزبير بن العوام رضي الله عنه:

نحن حفرنا بذر                            نسقي الحجيج الأكبرْ

من مُقبل ومُدبر                           وأم أحراد شَرّ

 

ج / 1 ص -138-     بنو جمح تحفر السُنبُلة: وحفرت بنو جُمَح: السُّنْبُلة، وهي بئر خَلَف بن وَهْب1.
بنو سهم تحفر الغمْر: وحفرت بنو سهم: الغَمْر، وهي بئر بني سَهْم2.
أصحاب رُم وخم والحفْر: وكانت آبار حفائر خارجًا من مكة قديمة من عهد مرة بن كعب، وكلاب بن مُرة، وكبراء قريش الأوائل منها يشربون، وهى رُمّ3، ورُمّ: بئر مرة بن كعب بن لؤيّ. وخُمّ4، وخُمّ: بئر بني كلاب بن مرة، والحَفْر. قال حذيفة بن غانم أخو بني عدي بن كعب بن لؤيّ:
قال ابن هشام: وهو أبو أبي جَهْم بن حُذَيفة:

وقِدْمًا غَنَينا قبل ذلك حِقْبة                    ولا نستقي إلا بخَم أو الحَفْرِ

قال ابن هشام: وهذا البيت في قصيدة له، وسأذكرها إن شاء الله في موضعها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وأما سُنْبُلَة: بئر بني جمح، وهى بئر بني خلف بن وهب فقال فيها شاعرهم:

نحن حفرنا للحجيج سنبلة                   صوب سحاب ذو الجلال أنزلهْ

ثم تركناهما برأس القُنْبُلَة                     تصب ماءً مثل ماء المعبلهْ

نحن سقينا الناس قبل المسئله

2 وقال فيها بعضهم:

نحن حفرنا الغمر للحجيج                                  تثج ماء أيما ثجيج

3 رم بئر بني كلاب بن مرة فهي من رممت الشيء إذا أجمعته وأصلحته، ومنه الحديث: "كنا أهل ثُمة ورُمة"، ومنه: الرمان في قول سيبويه؛ لأنه عنده فعلان، وأما الأخفش فيقول فيه: فعال، فيجعل فيه النون أصلية، ويقول: إن سميت به رجلا صرفته. ومنه قول عبد شمس بن قصي:

حفرت رُمُّا، وحفرت خَما                     حتى ترى المجد بها قد تمَّا

4 وأما خُم، وهي بئر مرة، فهي من خممت البيت إذا كنسته، ويقال: فلان مخموم القلب أى: نقيه، فكأنها سميت بذلك لنقائها.

 

ج / 1 ص -139-     فضل زمزم على سائر المياه: قال ابن إسحاق: فعفَّت زمزم على المياه التي كانت قبلها يَسْقي عليها الحاجُّ وانصرف الناس إليها لمكانها من المسجد الحرام؛ ولفضلها على ما سواها من المياه؛ ولأنها بئر إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام.
بنو عبد مناف يفتخرون بزمزم: وافتخرت بها بنو عبد مناف على قريش كلِّها، وعلى سائر العرب، فقال مسافر بن أبي عمرو1 بن أمية بن عبد مناف، وهو يفخر على قريش بما ولوا عليهم من السِّقاية والرفادة، وما أقاموا للناس من ذلك، وبزمزم حين ظهرت لهم، وإنما كان بنو عبد مناف أهل بيت واحد، شَرَفُ بعضهم لبعض شَرَف وفضْلُ بعضهم لبعضٍ فضل:

ورثنا المجدَ من آبا                                ئنا فَنَمَى بنا صعُدَا

ألم نَسْق الحجيجَ وننـ                           ـحر الدلافة الرُّفدَا2

ونلقى عندَ تصريف الـ                            ـمنايا شُدَّدا رُفُدَا3

فإن نَهْلِكْ، فلم                                     نُمْلَك ومن ذا خالد أبدا

وزمزم في أرومتِنا                                 ونفقأ عينَ من حَسَدَا

قال ابن هشام: وهذه الأبيات في قصيدة له.
قال ابن إسحاق: وقال حذيفة بن غانم أخو بني عَدي بن كعب بن لؤي:

وساقي الحجيج، ثم للخبْز هاشمٌ               وعبد مناف ذلك السيد الفِهْري

طوى زمزمًا عندَ المقام فأصبحتْ                سقايتُه فخرًا على كلِّ ذي فَخْرِ


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 واسم أبي عمرو: ذكوان، وهو الذي يقول فيه أبو سفيان:

ليت شعري مسافر بن أبي                     عمرو، وليتٌ يقولها المحزون

بورك الميت الغريب كما بو                      رك نضح الرمان والزيتون

في شعر يرثيه به، وكان مات من حب صعبة بنت الحضرمي.
2 الرُّفد: جمع رفود من الرفد، وهي التي تملأ إناءين عند الحلب.
3 هو جمع رفود أيضًا من الرفد وهو: العون.

 

ج / 1 ص -140-     قال ابن هشام: يعني عبدَ المطلب بن هاشم. وهذان البيتان في قصيدة لحذيفة بن غانم سأذكرها في موضعها -إن شاء الله تعالى.
ذكر نذْر عبد المطلب ذبحَ ولده:
قال ابن إسحاق: وكان عبد المطلب بن هاشم -فيما يزعُمون والله أعلم- قد نذر حين لقي من قريش ما لقي عند حفر زمزم: لئن وُلد له عَشرةُ نَفَر ثم بلغوا معه حتى يمنعوه؛ لينحرنَّ أحدَهم لله عند الكعبة. فلما توافى بنوه عشرةً، وعرف أنهم سيمنعونه، جَمَعهم. ثم أخبرهم بنذره، ودعاهم إلى الوفاء لله بذلك، فأطاعوه وقالوا: كيف نصنع؟ قال: ليأخذ كل رجل منكم قِدْحا ثم يكتب فيه اسمه ثم ائتوني، ففعلوا، ثم أتَوْه، فدخل بهم على هُبل في جوف الكعبة، وكان هبل على بئر في جَوْف الكعبة، وكانت تلك البئر هي التي يُجمع فيها ما يُهْدَى للكعبة.
قداح هبلُ السبعة: وكان عند هبل قِداح سبعة، كل قِدْح منها فيه كتاب. قِدْح فيه "العَقْل"، إذا اختلفوا في العقل من يحمله منهم، ضربوا بالقداح السبعة، فإن خرج العقل فعلى من خرج حمله. وقدح فيه "نَعَم" للأمر إذ أرادوه يُضرب به القداح، فإن خرج قدح نعم، عملوا به. وقدح فيه "لا" إذا أرادوا أمرًا ضربوا به القِداح، فإن خرج ذلك القدح لم يفعلوا ذلك الأمر، وقِدْح فيه "منكم" وقدح فيه "مُلصَق"، وقدح فيه "من غيركم"، وقدح فيه "المياه"، إذا أرادوا أن يحفروا الماء ضربوا بالقداح، وفيها ذلك القِدْح، فحيثما خرج عملوا به.
وكانوا إذا أرادوا أن يختنوا غلاما، أو يُنكحوا مَنْكحا، أو يدفنوا مَيْتًا، أو شَكوا في نسب أحدهم، ذهبوا به إلى هُبَل وبمائة درهم وجزور، فأعطوها صاحب القداح الذي يَضْرب بها، ثم قرَّبوا صاحبهم الذي يريدون به ما يريدون، ثم قالوا: يا إلهنا هذا فلان ابن فلان قد أردنا به كذا، فأخرج الحقَّ فيه. ثم يقولون لصاحب القِداح: اضرب: فإن خرج عليه: "منكم" كان منهم وسيطًا، وإن خرج عليه: "من غيركم" كان حليفًا، وإن خرج عليه: "مُلْصَق" كان على منزلته فيهم، لا نسب له، ولا حِلف، وإن خرج فيه شيء مما سوى هذا مما يعملون به "نعم" عملوا به، وإن خرج: "لا" أخروه عامه، وذلك حتى يأتوه به مرة أخرى، ينتهون في أمورهم إلى ذلك مما خرجت به القِداح.

 

ج / 1 ص -141-     عبد المطلب يحتكم إلى القداح: فقال عبدُ المطلب لصاحب القِداح: اضرب على بَنيَّ هؤلاء بقداحهم هذه، وأخبره بنذره الذي نذر، فأعطاه كل رجل منهم قِدْحه الذي فيه اسمه، وكان عبد الله بن عبد المطلب أصغر بني أبيه1، كان هو والزبير وأبو طالب لفاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم بن يَقَظَة بن مُرة بن كعب بن لُؤَيّ بن غالب بن فِهْر.
قال ابن هشام: عائذ بن عمران بن مخزوم2.
خروج القداح على عبد الله: قال ابن إسحاق: وكان عبد الله فيما يزعمون: أحب ولد عبد المطلب إليه، فكان عبد المطلب يرى أن السهم إذا أخطأه فقد أشْوَى. وهو أبو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما أخذ صاحب القِداحِ القداحَ، يضرب بها، قام عبد المطلب عند هُبل يدعو الله، ثم ضرب صاحب القداح، فخرج القِدْح على عبد الله.
عبد المطلب يحاول ذبح ابنه ومنع قريش له: فأخذه عبد المطلب بيده وأخذ الشَّفْرة ثم أقبل به إلى إِسَاف ونائلة ليذبحه، فقامت إليه قريش من أنديتها، فقالوا: ماذا تريد يا عبد المطلب؟ قال: أذبحه، فقالت له قريش وبنوه: والله لا تذبحه أبدًا، حتى تُعْذر فيه. لئن فعلت هذا لا يزال الرجلُ يأتي بابنه حتى يذبحه، فما بقاءُ الناس على هذا؟!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهذا غير معروف، ولعل الرواية: أصغر بني أمه، وإلا فحمزة كان أصغر من عبد الله، والعباس: أصغر من حمزة، وروي عن العباس -رضي الله عنه- أنه قال: أذكر مولد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا ابن ثلاثة أعوام أو نحوها، فجيء بي حتى نظرت إليه، وجعل النسوة يقلن لي: قبل أخاك، قبِّل أخاك، فقبلته، فكيف يصح أن يكون عبد الله هو الأصغر مع هذا؟! ولكن رواه البكائي كما تقدم، ولروايته وجه، وهو أن يكون أصغر ولد أبيه حين أراد نحره، ثم وُلد له بعد ذلك حمزة والعباس.
2 والصحيح ما قاله ابن هشام؛ لأن الزبيريين ذكروا أن عبدًا هو أخو عائذ بن عمران، وأن بنت عبد هي: صخرة امرأة عمرو بن عائذ على قول ابن إسحاق؛ لأنها كانت له عمة، لا بنت عم، فقد تكرر هذا النسب في السيرة مرارًا، وفى كل ذلك يقول ابن إسحاق: عائذ بن عبد بن عمران، ويخالفه ابن هشام، وصخرة بنت عبد أم فاطمة أمها تخمر بنت عبد بن قصي، وأم تخمر سلمى بنت عميرة بن وديعة بن الحارث بن فهر.

 

ج / 1 ص -142-     وقال له المغيرة بن عبد الله بن عَمرو بن مخزوم بن يَقَظة، وكان عبد الله ابن أخت القوم: والله لا تذبحه أبدًا، حتى تُعْذر فيه، فإن كان فداؤه بأموالنا فديناه. وقالت له قريش وبنوه: لا تفعل، وانطلقْ به إلى الحجاز فإن به عَرَّافة1 لها تابع، فسلْها، ثم أنت على رأس أمرك، إن أمرتك بذبحه ذبحته، وإن أمرتك بأمر لك وله في فرج قبلته.
ما أشارت به عَرَّافة الحجاز: فانطلقوا حتى قدموا المدينة، فوجدوها -فيما يزعمون- بخيبر. فركبوا حتى جاءوها، فسألوها، وقص عليها عبد المطلب خبره وخبر ابنه، وما أراد به ونذرَه فيه، فقالت لهم: ارجعوا عني اليوم حتى يأتيني تابعي فأسأله. فرجعوا من عندها، فلما خرجوا عنها قام عبد المطلب يدعو الله، ثم غدوا عليها فقالت لهم: قد جاءني الخبر، كم الدية فيكم؟ قالوا: عشرٌ من الإبل، وكانت كذلك. قالت: فارجعوا إلى بلادكم، ثم قربوا صاحبكم، وقربوا عشرًا من الإبل، ثم اضربوا عليها وعليه بالقِدَاح، فإن خرجت على صاحبكم، فزيدوا من الإبل حتى يرضى ربكم، وإن خرجتْ على الإبل فانحروها عنه، فقد رضيَ ربُّكم، ونجا صاحبُكم2.
تنفيذ وصية العرافة ونجاة عبد الله: فخرجوا حتى قدموا مكة، فلما أجمعوا على ذلك من الأمر، قام عبد المطلب يدعو الله، ثم قربوا عبد الله وعشرًا من الإبل، وعبد المطلب قائم عند هبل يدعو الله عز وجل!! ثم ضربوا فخرج القِدْح على عبد الله، فزادوا عشرًا من الإبل، فبلغت الإبل عشرين، وقام عبد المطلب يدعو الله عز وجل، ثم ضربوا فخرج القِدْح على عبد الله، فزادوا عشرًا من الإبل، فبلغت الإبل ثلاثين، وقام عبد المطلب يدعو الله ثم ضربوا، فخرج القِدْح على عبد الله، فزادوا عشرًا من الِإبل، فبلغت الإبل أربعين، وقام عبد المطلب يدعو الله، ثم ضربوا، فخرج القِدْح على عبد الله، فزادوا عشرًا من الإبل، فبلغت الإبل خمسين، وقام عبد المطلب يدعو الله عز وجل، ثم ضربوا فخرج القِدْح على عبد الله، فزادوا عشرًا من الإبل، فبلغت الإبل ستين، وقام عبد المطلب يدعو الله ثم ضربوا، فخرج القِدْح على عبد الله، فزادوا عشرًا من الإبل،.فبلغت الإبل سبعين، وقام

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 اسمها: قُطبة. ذكرها عبد الغني في كتاب الغوامض والمبهمات. وذكر ابن إسحاق في رواية يونس أن اسمها: سَجاح.
2 ومن هنا يعلم أن الدية كانت بعشر من الإبل قبل هذه القصة: وأول من وُدي بالمائة إذن: عبد الله. وقد ذكر الأصبهاني عن أبي اليقظان أن أبا سيارة هو أول من جعل الدية مائة من الإبل، وأما أول من وُدي بالإبل من العرب: زيد بن بكر بن هوازن قتله أخوه معاوية جد بني عامر بن صعصعة.

 

ج / 1 ص -143-     عبد المطلب يدعو الله، ثم ضربوا، فخرج القِدْح على عبد الله، فزادوا عشرًا من الإبل، فبلغت الإبل ثمانين، وقام عبد المطلب يدعو الله عز وجل، ثم ضربوا فخرج القِدْح على عبد الله، فزادوا عشرًا من الإبل، فبلغت الإبل تسعين، وقام عبد المطلب يدعو الله ثم ضربوا، فخرج القِدْح على عبد الله، فزادوا عشرًا من الإبل، فبلغت الإبل مائة، وقام عبد المطلب يدعو الله، ثم ضربوا، فخرج القِدْح على الإبل، فقالت قريش ومن حضر: قد انتهى رضا ربِّك يا عبد المطلب، فزعموا أن عبد المطلب قال: لا والله حتى أضربَ عليها ثلاثَ مرات، فضربوا على عبد الله، وعلى الإبل، وقام عبد المطلب يدعو الله، فخرج القدح على الإبل، ثم عادوا الثانية، وعبد المطلب قائم يدعو الله، فضربوا، فخرج القِدْح على الإبل، ثم عادوا الثالثة، وعبد المطلب قائم يدعو الله، فضربوا، فخرج القِدْح على الإبل، فنُحرت، ثم تُركت لا يُصَدُّ عنها إنسان ولا يُمْنَع.
قال ابن هشام: ويقال: إنسان ولا سَبُعٌ.
قال ابن هشام: وبين أضعاف هذا الحديث رجز لم يصح عندنا عن أحد من أهل العلم بالشعر.
ذكر المرأة المتعرضة لنكاح عبد الله بن عبد المطلب:
عبد الله يرفضها: قال ابن إسحاق: ثم انصرف عبد المطلب آخذًا بيد عبد الله، فمر به -فيما يزعمون- على امرأة من بني أسَد1 بن عبد العزى بن قصي بن كلاب

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ويروى أن عبد الله بن عبد المطلب حين دعته المرأة الأسدية إلى نفسها لما رأت في وجهه من نور النبوة، ورجت أن تحمل بهذا النبي، فتكون أمه دون غيرها، فقال عبد الله حينئذ فيما ذكروا:

أما الحرام فالحمِام دونه                     والحل لا حِلَّ فأستبينه

فكيف بالأمر الذي تبغينه                    يحمي الكريم عرضه ودينه؟!

واسم هذه المرأة: رقية بنت نوفل أخت ورقة بن نوفل، تكنى: أم قتال، وبهذه الكنية =

 

ج / 1 ص -144-     ابن مرة بن كعب بن لُؤَيّ بن غالب بن فِهر: وهي أخت ورقة بن نَوْفل بن أسد بن عبد العُزَّى، وهى عند الكعبة. فقالت له حين نظرت إلى وجهه: أين تذهب يا عبد الله؟ قال: مع أبي. قالت: لك مثلُ الإبل التى نُحرت عنك، وقَعْ عَليَّ الآن. قال: أنا مع أبي، ولا أستطيع خلافه، ولا فراقه.
عبد الله يتزوج آمنة بنت وهب: فخرج به عبدُ المطلب حتى أتى به وهب بن عبد مَناف بن زُهْرة بن كلاب بن مُرة بن كعب بن لُؤيّ بن غالب بن فِهْر -وهو يومئذ سيد بني زُهرة نسبًا وشرفًا– فزوجه ابنته آمنة بنت وهب وهي يومئذ- أفضلُ امرأة في قريش نَسبًا وموضعًا.
أمهات آمنة: وهى لبرَّة بنت عبد العُزَّى بن عثمان بن عبد الدار بن قُصيّ بن كلاب بن مُرة بن كعب بن لؤيّ بن غالب بن فهر. وبَرَّة لأم حبيب بنت أسَد بن عبد العُزّى بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤيّ بن غالب بن فهر. وأم حبيب: لبرة بنت عَوْف بن عُبيد بن عُوَيْج بن عدي بن كعب بن لؤيّ بن غالب بن فِهر.
سبب زهد المرأة المعترضة لعبد الله فيه: فزعموا أنه دخل عليها حين أمْلِكها مكانه، فوقع عليها، فحملت برسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم خرج من عندها، فأتى المرأة التي عرضت عليه ما عرضت، فقال لها: ما لك لا تعرضين علي اليوم ما كنت عرضت علي بالأمس؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وقع ذكرها فى رواية يونس عن ابن إسحاق، وذكر البرقي عن هشام بن الكلبي، قال:
إنما مر على امرأة اسمها: فاطمة بنت مر، كانت من أجمل النساء وأعفهن، وكانت قرأت الكتب، فرأت نور النبوة في وجهه، فدعته إلى نكاحها، فأبى، فلما أبى قالت:

إني رأيت مُخِيلهً نشأت                    فتلألأت بحناتم القطر

فَلَمَأتهُا نورًا يضيء به                       ما حوله كإضاءة الفجر

ورأيت سُقياها حيا بلد                     وَقَعَت به وعِمارة القفر

ورأيته شرفا أبوء به                          ما كل قادح زنده يوري

لله ما زهرية سلبت                         منك الذي استَلَبَتْ وما تدري

وفي غريب ابن قتيبة: أن التي عرضت نفسها عليه هي: ليلى العدوية.

 

ج / 1 ص -145-     قالت له: فارقك النورُ الذي كان معك بالأمس، فليس لي بك اليوم حاجة. وقد كانت تسمع من أخيها ورقة بن نوفل -وكان قد تنصَّر واتبع الكتب: أنه كائن في هذه الأمة نبي.
قصة حمل آمنة برسول الله -صلى الله عليه وسلم: قال ابن إسحاق: وحدثني أبي: إسحاقُ بن يسار: أنه حُدِّث، أن عبد الله إنما دخل على امرأة. كانت له مع آمنة بنت وهب، وقد عمل في طين له، وبه آثار من الطين، فدعاها إلى نفسه، فأبطأت عليه لما رأت به أثر الطين، فخرج من عندها فتوضأ وغسل ما كان به من ذلك الطين، ثم خرج عامدًا إلى آمنة، فمرَّ بها، فدعته إلى نفسها، فأبى عليها، وعمد إلى آمنة، فدخل عليها فأصابها، فحملت بمحمد -صلى الله عليه وسلم- ثم مر بامرأته تلك: فقال لها: هل لك؟ قالت: لا، مررتَ بي وبين عينيك غُرةٌ بيضاء، فدعوتُك فأبيْت علي، ودخلت على آمنة فذهَبَتْ بها.
قال ابن إسحاق: فزعموا أن امرأته تلك كانت تُحدث: أنه مر بها وبين عينيه غرة مثل غرة الفرس، قالت: فدعوتُه رجاءَ أن تكون تلك بي، فأبى عليّ، ودخل على آمنة، فأصابها، فحملت برسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكان رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- أوسطَ قومه نسبًا، وأعظمهم شرفًا من قِبل أبيه وأمِّه -صلى الله عليه وسلم.
ذكر ما قيل لآمنة عند حملها برسول الله -صلى الله عليه وسلم
رؤيا آمنة: ويزعمون -فيما يتحدث الناسُ -والله أعلم- أن آمنة ابنة وهب أم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كانت تُحدِّثُ:
أنها أتيت حين حَملت برسول الله -صلى الله عليه وسلم-فقيل لها: إنك قد حملت بسيد هذه الأمة، فإذا وقع إلى الأرض، فقولي: أعيذه بالواحد، من شرّ كل حاسد، ثم سميه: محمدًا1.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لا يعرف في العرب من تسمى بهذا الاسم قبله -صلى الله عليه وسلم- إلا ثلاثة طمع آباؤهم -حين سمعوا بذكر محمد -صلى الله عليه وسلم- وبقرب زمانه، وأنه يُبعث في الحجاز، أن يكون ولدًا لهم. وذكرهم ابن فورك فى كتاب الفصول، وهم محمد بن سفيان بن مجاشع جد جد الفرزدق الشاعر. والآخر: محمد بن أحيحة بن الجلاح بن الحريش بن جمحي بن كُلفة بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس، والآخر: محمد بن حمران بن ربيعة وكان آباء هؤلاء الثلاثة قد وفدوا على بعض الملوك، وكان عنده علم من الكتاب الأول، فأخبرهم بمبعث النبي -صلى الله عليه وسلم- وباسمه، وكان كل واحد منهم قد خلف امرأته حاملًا، فنذر كل واحد منهم: إن وُلد له ذكر أن يسميه محمدًا، ففعلوا ذلك.
وهذا الاسم منقول من الصفة، فالمحمد فى اللغة هو الذي يحمد حمدًا بعد حمد، ولا يكون مفعل مثل: مضرب وممدح إلا لمن تكرر فيه الفعل مرة بعد مرة.

 

ج / 1 ص -146-     ورأت حين حملت به أنه خرج منها نور رأت به قصور بُصْرَى، من أرض الشام.
وفاة عبد الله: ثم لم يلبثْ عبدُ الله بن عبد المطلب، أبو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن هلك، وأمُّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حامل به1.
ولادة رسول الله -صلى الله عليه وسلم:
ابن إسحاق يحدد الميلاد: قال حدثنا أبو محمد عبد الملك بن هشام قال: حدثنا زياد بن عبد الله البكَّائي عن محمد بن إسحاق قال: وُلد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم الاثنين، لاثنتيْ عشرة ليلةً خلت من شهر ربيع الأول، عامَ الفيل2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أكثر العلماء على أنه كان في المهد. ذكره الدولابي وغيره، وقيل: ابن شهرين ذكره ابن أبي خيثمة، وقيل: أكثر من ذلك، ومات أبوه عند أخواله بني النجار، ذهب ليمتار لأهله تمرًا، وقد قيل، مات أبوه، وهو ابن ثمانٍ وعشرين شهرًا.
2 ذكر أن مولده عليه السلام كان في ربيع الأول، وهو المعروف وقال الزبير: كان مولده في رمضان، وهذا القول موافق لقول من قال: إن أمه حملت به فى أيام التشريق، والله أعلم.
وذكروا أن الفيل جاء مكة في المحرم، وأنه -صلى الله عليه وسلم- وُلد بعد مجيء الفيل بخمسين يومًا. وهو الأكثر والأشهر، وأهل الحساب يقولون: وافق مولده من الشهور الشمسية نيسان "أبريل"، فكانت لعشرين مضت منه، وولد بالغَفْر من المنازل؛ وهو مولد النبيين، ولذلك قيل: خير منزلتين فى الأبد بين الزنابا، والأسد؛ لأن النفر يليه من العقرب ذناباها، ولا ضرر في الذنابا إنما تضر العقرب بذنبها، ويليه من الأسد أليته، وهو السماك، والأسد لا يضر بأليته إنما يضر بمخلبه ونابه.
وولد بالشعب، وقيل بالدار التي عند الصفا، وكانت بعدُ لمحمد بن يوسف أخي الحجاج، ثم بنتها زبيدة مسجدًا حين حجت.

 

ج / 1 ص -147-     قال ابن إسحاق: وحدثني المطَّلب بن عبد الله بن قيس بن مَخْرَمة عن أبيه عن جَده قَيْس بن مَخْرمة. قال:
وُلدت أنا ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- عام الفيل: فنحن لِدَتَانِ.
قال ابن إسحاق: وحدثني صالحُ بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، عن يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سعد بن زُرَارة الأنصاري. قال: حدثني من شئت من رجال قومي عن حسان بن ثابت، قال: والله إني لغلام يفعَة، ابن سبع سنين أو ثمان، أعقل كل ما سمعت، إذ سمعت يهوديًّا يصرخ بأعلى صوته على أطَمَة بيثْرب: يا معشرَ يهود! حتى إذا اجتمعوا إليه، قالوا له: ويلك ما لك؟! قال: طلع الليلةُ نَجمُ أحمد الذي وُلد به.
قال ابن إسحاق: فسألت سعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت، فقلت: ابن كم كان حسان بن ثابت مَقْدَم رسول الله –صلى الله عليه وسلم- المدينة؟ فقال: ابن ستين، وقدمها رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وهو ابن ثلاث وخمسين سنة، فسمع حسان ما سمع، وهو ابن سبع سنين.
إعلام جده لولادته وما فعله به: قال ابن إسحاق: فلما وضعته أمه -صلى الله عليه وسلم- أرسلت إلى جَدِّه عبد المطلب: أنه قد وُلد لك غلام، فأته فانظرْ إليه، فأتاه فنظر إليه، وحَدَّثَتْه بما رأت حين حملت به، وما قيل لها فيه، وما أمرت به أن تسمِّيَه.
فيزعمون أن عبد المطلب أخذه، فدخل به الكعبة فقام يدعو الله، ويشكر له ما أعطاه1.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فى غير رواية ابن هشام أن عبد المطلب قال وهو يعوذه:

الحمد للّه الذي أعطاني                               هذا الغلام الطيب الأردان

قد ساد فى المهد على الغلمان                     أعيذه بالبيت ذي الأركان

حين يكون بلغة الفتيان                                حين أراه بالغ البنيان

أعيذه من كل ذي شنآن                               من حاسد مضطرب العِنان

ذي همة ليس له عينان                               حتى أراه رافع اللسان

أنت الذي سُميت في القرآن                          في كتب ثابتة المثاني

أحمد مكتوب على البيان

 

ج / 1 ص -148-     ثم خرج به إلى أمه فدفعه إليها، والتُمس لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- الرُّضعاءُ1.
قال ابن هشام: المراضع. وفي كتاب الله تبارك وتعالى في قصة موسى عليه السلام:
{وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ}2 [القصص: 12].
مرضعته حليمة: قال ابن إسحاق: فاسترضع له امرأة من بني سعد بن بكر. يقال لها: حليمة ابنة أبي ذُؤيْب.
نسب مرضعته: وأبو ذُؤيْب: عبد الله بن الحارث بن شِجْنَة بن جابر بن رِزام بن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وسبب دفع قريش وغيرهم من أشراف العرب أولادهم إلى المراضع، فقد يكون ذلك لوجوه. أحدها: تفريغ النساء إلى الأزواج، كما قال عمار بن ياسر لأم سلمة -رضي الله عنها- وكان أخاها من الرضاعة، حين انتزع من حجرها زينب بنت أبي سلمة، فقال: "دعي هذه المقبوحة المشقوحة التي آذيت بها رسول الله، صلى الله عليه وسلم"، وقد يكون ذلك منهم أيضًا لينشأ الطفل في الأعراب، فيكون أفصح للسانه، وأجلد لجسمه، وأجدر ألا يفارق الهيئة المعدية، كما قال عمر رضي الله عنه: تمعددوا وتمعززوا واخشوشنوا. وقد قال عليه السلام لأبي بكر رضي الله عنه حين قال له: ما رأيت أفصح منك يا رسول الله، فقال: "وما يمنعني، وأنا من قريش، وأرضعت في بني سعد؟" فهذا ونحوه كان يحملهم على دفع الرضعاء إلى المراضع الأعرابيات.
وقد ذُكر أن عبد الملك بن مروان كان يقول: أضرَ بنا حب الوليد؛ لأن الوليد كان لحَّانًا وكان سليمان فصيحًا؛ لأن الوليد أقام مع أمه، وسليمان وغيره من إخوته سكنوا البادية، فتعربوا، ثم أدبوا فتأدبوا. وكان من قريش أعراب، ومنهم حفر، فالأعراب منهم: بنو الأدرم وبنو محارب، وأحسب بني عامر بن لؤيّ كذلك؛ لأنهم من أهل الظواهر؛ وليسوا من أهل البطاح.
2 الذي قاله ابن هشام ظاهر؛ لأن المراضع جمع مُرْضِع، والرضعاء: جمع رضيع؛ ولكن لرواية ابن إسحاق مخرج من وجهين: أحدهما حذف المضاف كأنه قال، ذوات الرضعاء والثانى: أن يكون أراد بالرضعاء: الأطفال على حقيقة اللفظ؛ لأنهم إذا وجدوا له مرضعة ترضعه، فقد وجدوا له رضيعًا، يرضع معه، فلا يبعد أن يقال: التمسوا له رضيعًا علمًا بأن الرضيع لا بد له من المرضع.

 

ج / 1 ص -149-     ناصرة بن فُصَيَّة بن نصر بن سعد بن بكر بن هوازن بن منصور بن عِكرمة بن خَصَفة بن قَيْس بن عَيْلان.
زوج حليمة ونسبه: واسم أبيه الذي أرضعه -صلى الله عليه وسلم– الحارث بن عبد العُزَّى بن رفاعة بن مَلان بن ناصرة بن فُصَيَّة بن نصر بن سعد بن بكر بن هوازن1.
قال ابن هشام ويقال: هلال بن ناصرة.
أولاد حليمة: قال ابن إسحاق: وإخوته من الرضاعة: عبد الله بن الحارث، وأنَيْسة بنت الحارث، وخِذامة2 بنت الحارث، وهي الشيماء، غلب ذلك على اسمها فلا تُعرف في قومها إلا به. وهم لحليمة بنت أبي ذؤيب، عبد الله بن الحارث، أم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويذكرون أن الشيماء كانت تحضنه مع أمها إذْ كان عندهم.
قال ابن إسحاق: وحدثني جَهْم بن أبي جَهْم مولى الحارث بن حاطب الجُمحي، عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، أو عمن حدثه عنه قال:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لم يذكر له إسلامًا، ولا ذكره كثير ممن ألف في الصحابة، وقد ذكره يونس بن بُكير فى روايته، فقال: حدثنا ابن إسحاق قال: حدثني والدي: إسحاق بن يسار، عن رجال من بني سعد بن بكر قال: قدم الحارث بن عبد العُزَّى، أبو رسول اللَه -صلى الله عليه وسلم- من الرضاعة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمكة حين أنزل عليه القرآن، فقالت له قريش: ألا تسمع يا حارِ -ترخيم لحارث- ما يقول ابنك هذا؟ فقال: وما يقول؟ قالوا: يزعم أن الله يَبعث بعد الموت، وأن لله دارين يعذب فيهما من عصاه، ويكرم فيهما من أطاعه، فقد شتت أمرنا وفرق جماعتنا. فأتاه، فقال: أي بني ما لك، ولقومك يشكونك، ويزعمون أنك تقول: إن الناس يُبعثون بعد الموت، ثم يصيرون إلى جنة ونار؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: نعم أنا أزعم ذلك ولو قد كان ذلك يا أبت، لقد أخذت بيدك، حتى أعرِّفك حديثَك اليوم، فأسلم الحارث بعد ذلك، وحسن إسلامه، وكان يقول حين أسلم: لو قد أخذ ابني بيدي، فعرفني ما قال، لم يرسلني إن شاء الله حتى يُدخلني الجنة.
2 خذامة بكسر الخاء المنقوطة، وتال غيره: حُذافة بالحاء المضمومة وبالفاء مكان الميم، وذكره يونس في روايته عن ابن إسحاق، وكذلك ذكره عمر بن عبد البر في كتاب النساء.

 

ج / 1 ص -150-     حديث حليمة: كانت حليمة بنت أبي ذُؤيب السَّعْدية، أم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التي أرضعته1، تُحدِّث: أنها خرجت من بلدها مع زوجها، وابن لها صغير ترضعه في نسوة من بني سعد بن بكر، تلتمس الرضعاء، قالت: وذلك في سنة شهباء، لم تُبقِ لنا شيئًا: قالت: فخرجت على أتان لي قمْراء، معنا شارف لنا، والله ما تَبِضُّ بقطرة، وما ننام لَيلَنا أجمعَ من صبينا الذي معنا، من بكائه من الجوع، ما في ثديي ما يغنيه، وما في شارفنا ما يغدِّيه -قال ابن هشام: ويقال: يغذِّيه2- ولكنا كنا نرجو الغَيْث والفرج، فخرجت على أتاني تلك، فلقد أدَمْتُ3 بالرَّكْب، حتى شقَّ ذلك عليهم ضعفًا وعَجَفًا، حتى قدمنا مكة نلتمس الرضعاء، فما منا امرأة إلا وقد عُرض عليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتأباه، إذا قيل لها

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وأرضعته -عليه السلام- ثُوَيبَة قبل حليمة. أرضعته، وعمه حمزة، وعبد الله بن جحش، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعرف ذلك لثويبة، ويصلها من المدينة، فلما افتتح مكة سأل عنها وعن ابنها مسروح، فأخبر أنهما ماتا، وسأل عن قرابتها، فلم يجد أحدًا منهم حيًّا. وثويبة كانت جارية لأبي لهب.
2 وقول ابن هشام: ما يغذِّيه بالذال المنقوطة، وهو أتم في المعنى من الاقتصار على ذكر الغذاء دون العشاء، وليس في أصل الشيخ رواية ثالثة، وعند بعض الناس رواية غير هاتين وهي يُعذِبه بعين مهملة وذال منقوطة وباء معجمة بواحدة، ومعناها عندهم: ما يقنعه حتى برفع رأسه، وينقطع عن الرضاع، يقال منه: عذبته وأعذبته: إذا قطعته عن الشرب ونحوه، والعَذُوب: الرافع رأسه عن الماء، وجمعه: عُذوب بالضم، ولا يعرف فَعُولا جمع على فعول غيره: قاله أبو عبيد والذي في الأصل أصح في المعنى والنقل.
3 أي أطلت عليهم المسافة، وتروى أذْمَمْتُ بالركب، تريد: أنها حبستهم، وكأنه من الماء الدائم، وهو الواقف، ويروى: حتى أذَمّت. أى: أذمت الأتان، أي: جاءت بما تذم عليه، أو يكون من قولهم: بر ذَمَّة، أي: قليلة الماء، وليست هذه عند أبي الوليد، ولا في أصل الشيخ أبي بحر، وقد ذكرها قاسم فى الدلائل، ولم يذكر رواية أخرى، وذكر تفسيرها عن أبي عبيدة: أذم بالركب: إذا أبطأ، حتى حبستهم: من البئر الذَّفَةِ، وهى القليلة الماء.

 

ج / 1 ص -151-     إنه يتيم، وذلك: أنا إنما كنا نرجو المعروف من أبي الصبي، فكنا نقول: يتيم؟! وما عسى أن تصنع أمه وجَدُّه؟ فكنا نكرهه لذلك، فما بقيت امرأة قدمت معي إلا أخذت رضيعًا غيري، فلما أجمعنا الانطلاق قلتُ لصاحبي: والله إني لأكره أن أرجع من بين صواحبي ولم آخذ رضيعًا، والله لأذهبن إلى ذلك اليتيم، فلآخذنَّه، قال: لا عليكِ أن تفعلي، عسى الله أن يجعلَ لنا فيه بركةً. قالت: فذهبتُ إليه فأخذتُه، وما حملني على أخذِه إلا أنى لم أجد غيرَه.
الخير الذي أصاب حليمة: قالت: فلما أخذتُه، رجعتُ به إلى رحلي فلما وضعته في حِجْري أقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن2، فشرب حتى روي، وشرب معه أخوه حتى روي، ثم ناما، وما كنا ننام معه قبل ذلك، وقام زوجي إلى شارفنا تلك، فإذا إنها لحافل، فحلب منها ما شَرِب، وشربتُ معه حتى انتهينا رِيًّا وشبعًا، فبتنا بخير ليلة. قالت: يقول صاحبي حين أصبحنا: تعلَّمي والله يا حليمةُ، لقد أخذتِ نَسمةً مباركة، قالت: فقلت: والله إني لأرجو ذلك. قالت: ثم خرجنا وركبتُ أتاني، وحملته عليها معي، فوالله لقطعتْ بالرَّكْبِ ما يقدر عليها شيء من حُمُرِهم، حتى إن صواحبي ليقلن لي: يا ابنة أبي ذُؤيْب، ويحكِ! أربعي علينا، أليستْ هذه أتانَك التي كنتِ خرجت عليها؟ فأقول لهن: بلى والله. إنها لهي هي فيقلْنَ: والله إن لها لشأَنًا. قالت: ثم قدمنا منازلنا من بلاد بني سعد. وما أعلم أرضًا من أرض الله أجدبَ منها، فكانت غنمي تروح عليَّ حين قدمنا به معنا شِبَاعًا لُبَّنا. فنحلب ونشرب. وما يحلب إنسان قطرة لبن، ولا يجدها في ضَرْع. حتى كان الحاضرون من قومنا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 والتماس الأجر على الرضاع لم يكن محمودًا عند أكثر نساء العرب، حتى جرى المثل: "تجوع المرأة ولا تأكل بثدييها" وكان عند بعضهن لا بأس به، فقد كانت حليمة وسيط في بني سعد، كريمة من كرائم قومها، بدليل اختيار الله تعالى إياها لرضاع نبيه -صلى الله عليه وسلم- كما اختار له أشرف البطون والأصلاب والرضاع كالنسب؛ لأنه يغير الطباع.
وفي المسند عن عائشة –رضي اللَه عنها– ترفعه: "لا تسترضعوا الحمقى، فإن اللبن يورث" ويحتمل أن تكون حليمة ونساء قومها طلبن الرضعاء اضطرارًا للأزمة التي أصابتهم، والسنة الشهباء التي اقتحمتهم.
2 وذكر غير ابن إسحاق أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان لا يقبل إلا على ثديها الواحد، وكانت تعرض عليه الثدي الآخر، فيأباه كأنه قد أشعر -عليه السلام- أن معه شريكًا في لبانها، وكان مفطورًا على العدل، مجبولا على المشاركة والفضل -صلى الله عليه وسلم.

 

ج / 1 ص -152-     يقولون لرعيانهم: ويلكم أسرحوا حيث يسرحُ راعي بنت أبي ذُؤيب فتروح أغنامُهم جياعًا ما تَبِضُّ بقطرة لبن، وتروح غنمي شِباعا لُبَّنًا، فلم نزل نتعرف من الله الزيادة والخير حتى مضت سنتاه وفصلتُه؛ وكان يشِبُّ شبابًا لا يشبُّه الغلمان، فلم يبلغ سنتيه حتى كان غلامًا جَفرًا.
رجوع حليمة به إلى مكة أول مرة: قالت: فقدمنا به على أمه ونحن أحرصُ شيء على مكثه فينا؛ لما كنا نرى من بركته؛ فكلمنا أمَّه، وقلتُ لها: لو تركت بُنَيَّ عندي حتى يغلُظَ، فإني أخشى عليه وباء مكة قالت: فلم نزل بها حتى ردته معنا.
حديث الملكين اللذين شقا بطنه: قالت: فرجعنا به، فوالله إنه بعد مقدمنا بشهر مع أخيه لفي بَهْم لنا خلف بيوتنا، إذ أتانا أخوه يشتد، فقال لي ولأبيه: ذاك أخي القرشى قد أخذه رجلان عليهما ثياب بيض، فأضجعاه، فشقا بطنه، فهما يَسُوطانه1، قالت: فخرجت أنا وأبوه نحوه فوجدناه قائما منتقعًا وجْهُه. قالت: فالتزمته والتزمه أبوه، فقلنا له: ما لك يا بُنَيّ، قال: جاءني رجلان عليهما ثياب بيض، فأضجعانى وشقَّا بطني، فالتمسا شيئا لا أدري ما هو. قالت: فرجعنا إلى خِبائنا.
حليمة ترد محمدًا -صلى الله عليه وسلم- إلى أمه: قالت: وقال لي أبوه: يا حليمة، لقد خشيت أن يكون هذا الغلام قد أصيب، فألحقيه بأهله قبل أن يظهر ذلك به، قالت: فاحتملناه، فقدمنا به على أمّه، فقالت: ما أقدمك به يا ظِئْرُ، وقد كنتِ حريصة عليه، وعلى مكثه عندك؟ قالت: فقلت: فقد بلغ الله بابني وقضيت الذي عليَّ، وتخوفتُ الأحداث عليه، فأديته إليك كما تحبين. قالت: ما هذا شأنك، فأصدُقيني خبرك. قالت: فلم تَدَعْني حتى أخبرتُها. قالت: أفتخوفتِ عليه الشيطانَ؟ قالت: قلت: نعم، قالت: كلا. والله ما للشيطان عليه من

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يقال: سِطت اللبن أو الدم، أو غيرها، أسوطه: إذا ضربت بعضه ببعض. والمسْوَط:عود يُضْرَب به.
وفى رواية أخرى، عن ابن إسحاق أنه نزل عليه كُرْكيان، فشق أحدهما بمنقاره جوفَه، ومج الآخر بمنقاره فيه ثلجًا، أو بردًا، أو نحو هذا، وهي رواية غريبة ذكرها يونس عنه، واختصر ابن إسحاق حديث نزول الملكين عليه، وهو أطول من هذا.

 

ج / 1 ص -153-     سبيل، وإن لِبُنَيّ لشأنا، أفلا أخبرك خبره. قالت: قلت: بلى. قالت: رأيت حين حملتُ به: أنه خرج مني نور أضاء قصور بُصْرَى من أرض الشام. ثم حملت به، فوالله ما رأيت: من حمل قطُّ كان أخفَّ ولا أيسر منه، ووقع حين ولدته وإنه لواضع يديه بالأرضِ، رافع رأسه إلى السماء. دعيه عنك، وانطلقي راشدة.
الرسول يُسأل عن نفسه وإجابته –صلى الله عليه وسلم: قال ابن إسحاق: وحدثني ثَوْر بن يزيد عن بعض أهل العلم، ولا أحسبه إلا عن خالد بن مَعْدان الكَلاعي: أن نفرًا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالوا له: يا رسول الله، أخبرنا عن نفسك؟ قال: "نعم، أنا دعوةُ أبي إبراهيم، وبُشْرى أخي عيسى، ورأت أمي حين حملت بي أنه خرج منها نور أضاء لها قصورَ الشام1، واسْتُرضِعْتُ في بني سعد بن بكر. فبينا أنا مع أخ لي خلف بيوتنا نرعى بَهْما لنا: إذ أتاني رجلان عليهما ثياب بيض بطَسْت من ذهب مملوءة ثلجًا. ثم أخذاني فشقا بطني، واستخرجا قلبي، فشقَّاه فاستخرجا منه عَلَقَةً سوداء فطرحاها. ثم غسلا قلبي وبطني بذلك الثلج حتى أنقياه2، ثم قال أحدُهُما لصاحبه: زنه بعشرة من أمته، فوزنني بهم فوزنتُهم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وذلك بما فتح الله عليه من تلك البلاد، حتى كانت الخلافة فيها مدة بني أمية، واستضاءت تلك البلاد وغيرها بنوره -صلى الله عليه وسلم- وكذلك رأى خالد بن سعيد بن العاص قبل المبعث بيسير نورًا يخرج من زمزم، حتى ظهرت له البُسر فى نخيل يثرب، فقصها على أخيه عمرو، فقال له: إنها حفيرة عبد المطلب، وإن هذا النور منهم، فكان ذلك سبب مبادرته إلى الإسلام.
2 كان هذا التقديس وهذا التطهير مرتين.
الأولى: في حال الطفولية لينقى قلبه من مغمز الشيطان، وليطهر ويُقدس من كل خلق ذميم، حتى لا يتلبس بشيء مما يعاب على الرجال، وحتى لا يكون في قلبه شيء إلا التوحيد؛ ولذلك قال: "فوليا عني"، يعني: الملكين، وكأني أعاين الأمر معاينة.
والثانية: في حال الاكتهال، وبعد ما نُبئ، وعندما أراد الله أن يرفعه إلى الحفرة المقدَّسة التي لا يصعد إليها إلا مقدس.
وعرج به هناك ليفرض عليه الصلاة، وليصلي بملائكة السموات، من شأن الصلاة: الطهور؛ فقُدس ظاهرًا وباطنًا، وغُسل بماء زمزم.

 

ج / 1 ص -154-     ثم قال: زنه بمائة من أمته. فوزنني بهم فوزنتهم، ثم قال: زنه بألف من أمته، فوزننى بهم فوزنتهم. فقال: دعه عنك، فوالله لو وزنته بأمته لوزنها".
رعيه -صلى الله عليه وسلم- الغنم وافتخاره بقرشيته: قال ابن إسحاق: وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما من نبي إلا وقد رعَى الغنم"، قيل: وأنت يا رسول الله؟ قال: "وأنا"1.
قال ابن إسحاق: وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول لأصحابه:
"أنا أعربكم، أنا قرشي، واستُرضعت في بني سعد بن بكر".
افتقاد حليمة له صلى الله عليه وسلم: قال ابن إسحاق: وزعم الناس فيما يتحدثون -والله أعلم- أن أمه السعدية لما قدمت به مكة أضلَّها في الناس، وهي مُقبلة به نحو أهله، فالتمسته فلم تجده، فأتت عبد المطلب، فقالت له: إني قد قدمت بمحمد هذه الليلة، فلما كنت بأعلى مكة أضلَّني، فوالله ما أدري أين هو، فقام عبد المطلب عند الكعبة يدعو الله أن يرده، فيزعمون أنه وجده ورقة بن نوفل بن أسد، ورجل آخر من قريش، فأتيا به عبد المطلب، فقالا له: هذا ابنك وجدناه بأعلى مكة، فأخذه عبد المطلب، فجعله على عنقه، وهو يطوف بالكعبة يُعَوِّذه ويدعو له، ثم أرسل به إلى أمه آمنة.
سبب آخر لرجوع حليمة به صلى الله عليه وسلم إلى مكة: قال ابن إسحاق: وحدثنى بعضُ أهل العلم، أن مما هاج أمه السعدية على رده إلى أمه، مع ما ذكرت لأمه مما أخبرتها عنه، أن نفرًا من الحبشة نصارى رأوه معها حين رجعت به بعد فطامه، فنظروا إليه، وسألوها عنه وقلبوه، ثم قالوا لها: لنأخذن هذا الغلام، فلنذهبن به إلى مَلِكنا وبلدنا؛ فإن هذا غلام كائن له شأن نحن نعرف أمره، فزعم الذي حدثني أنها لم تكد تنفلت به منهم2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وإنما أراد ابن إسحاق بهذا الحديث رعايته الغنم في بني سعد مع أخيه من الرضاعة، وقد ثبت في الصحيح أنه رعاها بمكة أيضًا على قراريط لأهل مكة، ذكره البخاري.
2 وكان رد حليمة إياه إلى أمه وهو ابن خمس سنين وشهرًا، فيما ذكر أبو عمر بن عبد البر، ثم لم تره بعد ذلك إلا مرتين:
إحداهما بعد تزويجه خديجة -رضي الله عنها- جاءته تشكو إليه السنة، وأن قومها قد أسنتوا -أجدبوا- فكلم لها خديجة، فأعطتها عشرين رأسًا من غنم وبكرات، والمرة الثانية: يوم حُنَين وسيأتي ذكرها -إن شاء الله.

 

ج / 1 ص -155-     وفاة آمنة: وحال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع جده عبد المطلب بعدها
وفاة أمه صلى الله عليه وسلم: قال ابن إسحاق: وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع أمه آمنة بنت وهب، وجدِّه عبد المطلب بن هاشم في كلاءة الله وحفظه، ينبته الله نباتًا حسنًا، لما يريد به من كرامته، فلما بلغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ستَّ سنين، تُوفيت أمه آمنة بنت وهب.
عمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين وفاة أمه: قال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم:
أن أم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- آمنة تُوفيت ورسول الله -صلى الله عليه وسلم– ابنُ ستِّ سنين بالأبواء، بين مكة، والمدينة، وكانت قد قدمت به على أخواله، من بني عدي بن النجار تُزيره إياهم، فماتت، وهى راجعة به إلى مكة1.
قال ابن هشام: أم عبد المطلب بن هاشم: سَلْمى بنت عَمرو النَّجَّارية، فهذه الخئولة التى ذكرها ابن إسحاق لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيهم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال القرطبي في كتابه التذكرة فى أحوال الموتى وأمور الآخرة: جزم أبو بكر الخطيب في كتاب: السابق واللاحق، وأبو حفص عمر بن شاهين في كتاب: الناسخ والمنسوخ، له في الحديث بإسناديهما عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: حج بنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حجة الوداع، فمر على قبر أمه، وهو باك حزين مغتم، فبكيت لبكائه -صلى الله عليه وسلم- ثم نزل فقال: يا حميراء استمسكي، فاستندت إلى جانب البعير، فمكث عني طويلا مليًّا، ثم إنه عاد إلي، وهو فرح مبتسم، فقلت له: بأبي أنت وأمي يا رسول الله نزلت من عندي، وأنت باك حزين مغتم؛ فبكيت لبكائك، ثم عدت إليَّ، وأنت فرح مبتسم، فمم ذا يا رسول الله، فقال: "ذهبت لقبر آمنة أمي، فسألت أن يحييها، فأحياها فأمنت بي"، أو قال: "فآمنت. وردها الله عز وجل".

 

ج / 1 ص -156-     إجلال عبد المطلب له "صلى الله عليه وسلم": قال ابن إسحاق: وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع جده عبد المطلب بن هاشم، وكان يُوضعَ لعبد المطلب فِراش في ظلِّ الكعبة، فكان بنوه يجلسون حول فِراشه ذلك، حتى يخرج إليه، لا يجلس عليه أحد من بنيه إجلالًا له، قال: فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأتى، وهو غلام جَفْر، حتى يجلس عليه، فيأخذه أعمامه، ليؤخروه عنه، فيقول عبد المطلب، إذا رأى ذلك منهم: دعوا ابني، فوالله إن له لشأنًا، ثم يجلسه معه على الفراش ويمسح ظهره بيده، ويسره ما يراه يصنع.
وفاة عبد المطلب وما رُثي به من الشعر:
فلما بلغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثماني سنين هلك عبد المطلب بن هاشم، وذلك بعد الفيل بثماني سنين.
قال ابن إسحاق: وحدثني العباس بن عبد الله بن مَعْبد بن عباس، عن بعض أهله: أن عبد المطلب توفي ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- ابن ثماني سنين.
عبد المطلب يطلب من بناته أن يرثينه: قال ابن إسحاق: حدثني محمد بن سعيد بن المسيب: أن عبد المطلب لما حضرته الوفاة، وعرف أنه ميت جمع بناته، وكُنَّ ستَّ نسوة: صَفية، وبَرَّة، وعاتكة، وأم حكيم البيضاء، وأمَيْمة، وأرْوَى، فقال لهن: ابكين عليَّ حتى أسمع ما تقلن قبل أن أموت.
قال ابن هشام: ولم أر أحدًا من أهل العلم بالشعر يعرف هذا الشعر، إلا أنه لما رواه عن محمد بن سعيد بن المسيب، كتبناه:
رثاء صفية بنت عبد المطلب لأبيها: فقالت صفية بنت عبد المطلب تبكي أباها:

أرِقتُ لصوتِ نائحةٍ بليلٍ                         على رَجلٍ بقارعة الصَّعيدِ

ففاضت عندَ ذلكُمُ دموعي                     على خدي كَمُنْحَدِر الفريدِ1


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يروى: كمنحدر بكسر الدال أي: كالدر المنحدر، ومنحدر بفتح الدال فيكون التشبيه راجعًا للفيض، فعلى رواية الكسر: شبهت الدمع بالدر الفريد، وعلى رواية الفتح شبهت الفيض بالانحدار.

 

ج / 1 ص -157-                                       على رجلٍ كريمٍ غيرِ وَغْلٍ      له الفضلُ المُبينُ على العبيدِ

على الفيَّاض شَيْبَةَ ذي المعالي                أبيكِ الخيرِ وارثِ كلَّ جودِ1

صدوقٍ في المواطِن غير نِكْسٍ                   ولا سَخْت المقامِ ولا سَنيد2

طويلِ الباع، أرْوَعِ شَيْظَمِىٍّ                        مُطَاعٍ في عشيرته حميدِ

رفيعِ البيت أبلَج ذي فُضول                        وغيثِ الناس في الزمن الحَرودِ

كريمِ الجدِّ ليس بذي وُصُومٍ                       يروقُ على المُسوَّد والْمَسُودِ

عظيم الحِلمِ من نفرٍ كرام                         خَضَارِمة مَلَاوِثَةٍ أسودِ3

فلو خَلَد امرؤ لقديم مجد                          ولكن لا سبيل إلى الخلودِ

لكان مُخَلَّدًا أخرى الليالى                         لفضلِ المجدِ والحسبِ التليدِ

رثاء بَرَّة بنت عبد المطلب لأبيها: وقالت بَرَّة بنت عبد المطلب تبكي أباها:

أعَيْنيَّ جودا بدمعٍ درر                                 على طَيِّب الخِيم والمعتصرْ

على ماجد الجَدِّ واري الزنادِ                         جميل المُحَيَّا عظيم الخطرْ

على شَيْبةِ الحمدِ ذي المَكْرُمات                  وذي المجد والعزِّ والمفتخرْ

وذي الحلمِ والفصْلِ في النائبات                    كثيرِ المكارَمِ، جَمِّ الفَخَرْ

له فَضْلُ مجدٍ على قومِه                             مُنير، يلوحُ كضوءِ القمرْ

أتته المنايا، فلم تُشْوِه                               بصرْفِ الليالى، ورَيْب القدَرْ4


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قولها: أبيك الخيْر. أرادت: الخيِّر فخففت، كما يقال: هيْن وهيِّن، وفى التنزيل:
{خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} [الرحمن: 70].
2 الشخت: ضد الضخم، تقول: ليس كذلك، ولكنه ضخم المقام ظاهره. والسنيد: الضعيف الذي لا يستقل بنفسه، حتى يسند رأيه إلى غيره.
3 ملاوثة: جمع ملواث من اللوثة، وهي القوة، كما قال المُكَعْبَر:

عند الحفيظة إن ذو لوثة لاثا

وقد قيل: إن اسم الليث منه أخذ، إلا أن واوه انقلبت ياء؛ لأنه فيعل، فخفف.
4 لم تشوه: أي لم تصب الشوى -ما لا تقتل الإصابة فيه كاليدين والرجلين- بل أصابت المقتل، وقد تقدم في حديث عبد المطلب وضربه بالقداح على عبد الله، وكان يرى أن السهم إذا خرج على غيره أنه قد أشوي، أي: قد أخطأ مقتله، أي: مقتل عبد المطلب وابنه، ومن رواه: أشوَى بفتح الواو فالسهم هو الذي أشوى وأخطأ، وبكلا الضبطين وجدته، ويقال أيضًا: أشوى الزرع: إذا أفرك فالأول من الشوى، وهذا من الشي بالنار، قاله أبو حنيفة.

ج / 1 ص -158-     رثاء عاتكة بنت عبد المطلب لأبيها: وقالت عاتكة بنت عبد المطلب تبكي أباها:

أعَيْنيَّ جودَا، ولا تَبْخَلا                            بدمعِكما بعدَ نَوْم النيام

أعَيْنيَّ واسحَنْفرا واسكُبا                        وشوبا بكاءَكما بالْتِدام

أعَيْنيَّ، واستخرطا واسجُما                     على رَجُلٍ غير نِكْس كَهام

كريم المساعي، وفيّ الذمام1                 على شَيْبةِ الحمد، واري الزناد

وذي مَصْدَق بعدُ ثَبْت المُقام                    وسيْفٍ لدى الحرب صَمْصامة

ومُرْدِي المخاصمَ عند الخصام2                 وسهل الخليقة طَلْق اليديْن

وفٍ عُدْمِلىٍّ صميم لُهَام3                        تَبَنَّك في باذخ بيته

رفيع الذؤابةِ صَعْب المرام

رثاء أم حكيم بنت عبد المطلب لأبيها: وقالت أم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب تبكي أباها:

ألا يا عينُ جودي واستهلِّي                      وبَكِّي ذا النَّدَى والمَكْرُماتِ

ألا يا عينُ ويْحَك أسعفيني                       بدمعٍ من دموعٍ هاطلاتِ

وبَكِّي خَيرَ من رَكبَ المطايا                       أباكِ الخيرَ تيَّار الفُراتِ


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 على الجحفل. جعلته كالجحفل، أي: يقوم وحده مقامه، والجحفل: لفظ منحوت من أصلين، من: جحف وجفل: وذلك أنه يجحف ما يمر عليه أي: يقشره، ويجفل: أي يقلع ونظيره نهشل للذئب، هو عندهم منحوت من أصلين أيضًا، من نهشت اللحم ونشلته.
2 المردى: مُفْعَل من الردى، وهو الحجر الذي يقتل من أصيب به، وفى المثل "كل ضب عنده مرداته".
3 قولها: وَف. أي: وَفيّ، وخفف للضرورة، وقولها: عُدْمُلِيّ. العدملي: الشديد. واللهام: فعال من لهمت الشيء. ألهمه: إذا ابتلعته، قال الراجز:

كالحوت لا يرويه شيء يلهمه                 يصبح عطشانًا وفي البحر فمه

ومنه سمي الجيش: لُهامًا.

 

ج / 1 ص -159-                                      طويلَ الباع شَيْبة ذا المعالي  كريمَ الْخَيم محمودَ الهِباتِ

وَصُولًا للقرابة هِبْرِزِيّا                              وغَيْثا في السنين المُمْحِلاتِ

ولَيْثًا حين تَشْتجرُ العَوالي                       تروق له عيونُ الناظرات

عَقيلَ بني كِنانةَ والمُرَجَّى                      إذا ما الدهرُ أقبلَ بالهِناتِ

ومَفْزَعَها إذا ما هاج هَيْج                         بِداهيةٍ، وخَصْمَ المُعْضِلاتِ

فبكِّيه ولا تَسَمِي بحُزْنٍ                          وبكِّي ما بقيتِ الباكياتِ

رثاء أميمة بنت عبد المطلب لأبيها: وقالت أميمة بنت عبد المطلب تبكي أباها:

ألا هلك الراعي العشيرةَ ذو الفَقْدِ                 وساقي الحجيجَ، والمحامي عن المجدِ

ومن يُؤْلف الضيفَ الغريبَ بيوتَه                    إذا ما سماءُ الناسِ تبخلُ بالرعدِ

كسبتَ وليدًا خير ما يكسبُ الفتى               فلم تَنْفكك تزدادُ يا شَيْبةَ الحمدِ

أبو الحارث الفياض، خلَّى مكانَه                   فلا تبعدنْ، فكلُّ حي إلى بُعْدِ

فإني لباك ما بقيتُ ومُوجع                          وكان له أهلًا لما كان من وَجْدِي

سقاك وليّ الناس في القبر مُمطرًا               فسوف أبَكِّيه، وإن كان في اللحْدِ

فقد كان زَيْنا للعشيرةِ كلِّها                         وكان حميدًا حيثُ ما كان مِنْ حَمْدِ

رثاء أروى بنت عبد المطلب لأبيها: وقالت أروى بنت عبد المطلب تبكي أباها:

بكت عيني، وحُقَّ لها البكاءُ                         على سَمْحٍ، سجيتُه الحياءُ

على سَهلِ الخليقةِ أبطَحي                         كريم الخيم، نيته العَلاءُ

على الفياضِ شيبةَ ذي المعالي                   أبيك الخير ليس له كِفاء

طويلِ الباع أمْلس، شَيْظميّ                        أغرّ كأن غرتَه ضياءُ

أقب الكَشْحِ، أروعَ ذي فُضولٍ                         له المجدُ المقدَّمُ والسناءُ

أبيِّ الضيْمِ، أبلج هِبْرِزيّ                              قديم المجد ليس له خَفاءُ

ومَعْقَلِ مالكٍ، وربيعِ فِهْرٍ                               وفاصِلِها إذا التُمِس القَضَاءُ1


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ومعقل مالك وربيع فهد. تريد: بني مالك بن النضر بن كنانة.

ج / 1 ص -160-                                        وكان هو الفتى كرمًا وجودا   وبأسًا حين تنسَكب الدماءُ

إذا هاب الكُماةُ الموتَ حتى                       كأن قلوبَ أكثرهم هواءُ

مضى قُدُمًا بذي رُبَدٍ خَشيب                      عليه حين تُبْصره البهاءُ1

إعجاب عبد المطلب بالرثاء: قال ابن إسحاق: فزعم لي محمد بن سعيد بن المسيّب أنه أشار برأسه، وقد أصمت: أن هكذا فابكينني.
نسب المسيِّب بن حَزْن: قال ابن هشام: المسيِّب بن حَزْن بن أبى وَهْب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم.
رثاء حذيفة بن غانم لعبد المطلب: قال ابن إسحاق: وقال حذيفة2 بن غانم أخو بني عدي بن كعب بن لؤيّ يبكي عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، ويذكر فضله، وفضل قُصي على قريش، وفضل ولده من بعده عليهم، وذلك أنه أخذ بغرم أربعة آلاف درهم بمكة، فوقف بها فمر به أبو لهب: عبد العزى بن عبد المطلب، فافتكه:

أعينيّ جودا بالدموع على الصدر             ولا تسأما أسْقِيتُما سَبَل القَطر

وجودا بدمع، واسفحا كل شارق              بكاء امرئ لم يُشْوِه نائب الدهر

وسُحَّا، وجُمَّا، واسجما ما بقيتما             على ذي حياء من قريش، وذي سِتر


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قولها: بذي ربد: تريد: سيفًا ذا طرائق، والربد: الطرائق. وقال صخر الغي:

وصارم أخلصت خشبته                          أبيض فهو في متنه ربد

2 وهو والد أبي جَهْم بن حُذيفة، واسم أبي جهم: عبيد، وهو الذي أهدى الخميصة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنظر إلى علمها". الحديث. وقد روي أيضًا هذا الحديث على وجه آخر، وهو أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أتى بخميصتين، فأعطى إحداهما أبا جهم، وأمسك الأخرى، وفيها علم، فلما نظر إلى علمها في الصلاة أرسلها إلى أبي جهم، وأخذ الأخرى بدلا منها، هكذا رواه الزبير: وأم أبي جهم: يُسيرة بنت عبد الله بن أذاة بن رباح، وابن أذاة: هو خال أبي قحافة، وسيأتي نسب أمه، وقد قيل: إن الشعر لحذافة بن غانم، وهو أخو حذيفة والد خارجة بن حذافة.

ج / 1 ص -161-                                               على رجل جَلْدِ القُوى، ذي حفيظة         جميل المحيَّا غير نِكْس ولا هذْرِ1

على الماجدِ البُهلول ذي الباع واللهى                 ربيع لُؤيّ في القُحُوط وفي العُسْر

على خير حافٍ من مَعَد وناعل                           كريم المساعي، طيّب الخِيم والنحْرِ

وخيرهمُ أصلًا وفرعًا ومعدنا                                وأحظاهم بالمُكرمات وبالذكر

وأولاهمُ بالمجدِ والحلمِ والنُّهى                          وبالفضْل عند المُجْحِفات من الغُبْر

على شيبةِ الحمدِ الذي كان وجهُه                     يضيءُ سوادَ الليل كالقمر البدْرِ

وساقي الحجيجَ ثم للخُبز هاشمٌ                       وعبد مناف، ذلك السيد الفِهْري

طوى زمزمًا عند المقام، فأصبحتْ                       سقايتُه فخرًا على كلِّ ذي فَخْر

لِيَبْكِ عليه كلُّ عانٍ بكرُبةٍ                                  آل قُصي من مُقلّ وذي وَفْرِ

بنوه سَراة، كهلُهم وشبابُهم                              تفيَّق عنهمْ بيضةُ الطائر الصقر

قُصَي الذي عادى كنانةَ كلَّها                             ورابط بيتَ الله في العُسر واليسر

فإن تكُ غالته المنايا وصرفُها                              فقد عاش ميمونَ النقيبةِ والأمرِ

وأبقى رجالًا سادةً غيرَ عُزَّلٍ                               مصاليتَ، أمثالَ الرُّدَيْنيَّة السُّمْرِ

أبو عتبة الملقَى إليَّ حباؤه                              أغرُّ، هِجانُ اللونِ من نَفر غُرِّ

وحمزةُ مثلُ البدرِ، يهتز للنَّدَى                            نقيُّ الثيابِ والذّمامِ من الغَدْرِ

وعبدُ منافٍ ماجد ذو حَفيظةٍ                              وَصولٌ لذي القربى رحيم بذي الصهرِ

كهولُهم خيرُ الكهولِ، ونسلُهم                            كنسلِ الملوكِ، لا تبورُ ولا تحرى2

متى ما تُلاقي منهمُ الدهرَ ناشئًا                       تجدْه بإجْريَّا أوائله يَجْري

هُمُ ملئوا البطحَاء مجدًا وعزَّةً                             إذا استُبق الخيراتُ في سالف العصر

وفيهم بناة للعُلا وعِمارة                                    وعبدُ مناف جَدُّهمْ، جابرُ الكسر


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 النكس من السهام: الذي نكس فى الكنانة ليميزه الرامي، فلا يأخذه لرداءته. وقيل: الذي انكسر أعلاه؛ فنكس ورُد أعلاه أسفله، وهو غير جيد للرمي.
2 لا تبور ولا تحرى، أي: لا تهلك ولا تنقص، ويقال للأفعى: حارية لرقتها. وفي المأثور: ما زال جسم أبي بكر يحرى حزنًا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أي: ينقص لحمه، حتى مات.

ج / 1 ص -162-                                        بإنكاحِ عوفي بنتَه ليجيرَنا    من أعدائنا إذ أسلمتنا بنو فِهر

فسرنا تِهامِي البلادِ ونجدَها                       بأمنِه حتى خاضت العيرُ في البحر

وهم حضروا والناسُ بادٍ فريقُهم                   وليس بها إلا شيوخ بني عمرو1

بنوْها ديارًا جَمةً، وطَوَوْا بها                        بئارًا تسُحُّ الماءَ من ثَبَجِ البحرِ

لكي يشربُ الحجاجُ منها، وغيرُهم              إذا ابتدروها صُبح تابعة النحر

ثلاثة أيام تظلُّ ركابهُمُ                               مُخيسةً بين الأخاشبِ والحِجْرِ

وقِدْما غَنِينا قبلَ ذلك حِقبةً                        ولا نستَقي إلا بخُمَّ أو الحَفْرِ

وهم يغفرون الذنبَ يُنقَم دونَه                     ويعفون عن قولِ السفاهةِ والهُجْرِ

وهم جمعوا حلفَ الأحابيش كلِّها                 وهم نكَّلوا عنا غُواةَ بني بكرِ

فخارجَ إما أهلكنَّ، فلا تزل                          لهم شاكرًا حتى تُغيَّب في القبرِ

ولا تنس ما أسدَى ابنُ لُبنى؛ فإنه               قد أسدى يدًا محقوقةً منك بالشكرِ

وأنت ابن لبنى من قصي إذا انتموا               بحيث انتهى قصد الفؤاد من الصدر

وأنت تناولت العُلا، فجمعتها                        إلى مَحتدٍ للمجدِ ذي ثَبَج جَسْرِ

سبقتَ وفُتَّ القومَ بَذْلًا ونائلًا                      وسُدْتَ وليدًا كلَّ ذي سؤددٍ غَمْرِ

وأمُّك سِر من خُزاعة جوهرٌ                         إذا حَصَّل الأنسابَ يوما ذوو الخُبْرِ

إلى سبأ الأبطال تُنْمَى، وتنتمى                 فأكرمْ بها منسوبةً في ذُرا الزُّهرِ

أبو شَمِر منهم، وعمرُو بنُ مالك                   وذو جَدَنٍ من قومها وأبو الجبر2

وأسعدُ قادَ الناسَ عشرين حِجةً                  يؤيدُ في تلك المواطنِ بالنصر3


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يريد: بني هاشم؛ لأن اسمه عمرو.
2 أبو شمر، وهو شمر الذي بنى سمرقند، وأبوه: مالك، يقال له: الأملوك، ويحتمل أن يكون أراد أبا شمر الغساني والد الحارث بن أبي شمر.
وعمرو بن مالك الذي ذكر: أحسبه عمرًا ذا الأذعار، وقد تقدم في التبابعة، وهم من ملوك اليمن، وإنما جعلهم مفخرًا لأبي لهب؛ لأن أمه خزاعية من سبأ، والتبابعة كلهم من حمير بن سبأ.
وأبو جبر الذي ذكره في هذا الشعر: ملك من ملوك اليمن، ذكر القتبي أن سمية أم زياد، كانت لأبي جبر من ملوك اليمن، دفعها إلى الحارث بن كلدة المتطبب من طب طبه.
3 أسعد أبو حسان بن أسعد، وقد تقدم في التبابعة.

ج / 1 ص -163-     قال ابن هشام: "أمك سِرٌّ من خُزاعة"، يعني أبا لهب، أمه: لبنى بنت هاجر الخزاعي، وقوله: "بإجريا أوائله" عن غير ابن إسحاق.
رثاء مطرود الخزاعي لعبد المطلب: قال ابن إسحاق: وقال مطرود بن كعب الخزاعي يبكي عبد المطلب وبني عبد مناف:

يا أيها الرجلُ المُحَوِّل رحلَه                  هلا سألتَ عن آلِ عبد منافِ

هَبَلَتْكَ أمُّك، لو حَللتَ بدارِهم              ضَمِنُوك من جُرْم ومن إقْرافِ1

الخالطين غنيَّهم بفقيرِهمً                  حتى يعودَ فقيرُهم كالكافي

المنعِمين إذا النجوم تغيَّرت                 والظاعنين لرحلةِ الِإيلافِ

والمطعمينَ إذا الرياحُ تناوحتْ               حتى تغيبَ الشمسُ في الرّجَّاف2

إمَّا هَلَكْتَ أبا الفِعالِ فما جرى              من فوقِ مثلك عَقْد ذاتِ نطافِ3

إلا أبيك أخي المكارم وحدَه                 وَالفيض مُطَّلب أبي الأضيافِ4

قال ابن إسحاق: فلما هلك عبد المطلب بن هاشم ولي زمزم والسقاية عليها بعده العباس

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: منعوك من أن تنُكح بناتك أو أخواتك من لئيم، فيكون الابن مقرفًا للؤم أبيه، وكرم أمه، فيلحقك وصم من ذلك، ونحو منه قول مهلهل:

أنكحها فقدُها الأراقم في                       جنب، وكان الحباء من أدم

أي: أنكحت لغربتها من غير كفء.
2 يعني البحر لأنه يرجف. ومن أسمائه أيضًا: خضارة، والدأماء وأبو خالد.
3 النطف: اللؤلؤ الصافي. ووصيفة منطفة أي: مقرطة بتوأمتين والنطف في غير هذا: التلطخ بالعيب، وكلاهما من أصل واحد، وإن كانا في الظاهر متضادين في المعنى؛ لأن النطفة هي الماء القليل، وقد يكون الكثير، وكأن اللؤلؤ الصافي أخذ من صفاء النطفة. والنطف الذي هو العيب: أخذ من نطفة الإنسان، وهي ماؤه، أي: كأنه لطخ بها.
4 والفيض مطلب أي الأضياف.يريد: أنه كان لأضيافه كالأب. والعرب تقول لكل جواد: أبو الأضياف: كما قال مرة بن محكان:

أدعى أباهم، ولم أقرِف بأمهم                 وقد عَمِرْتُ ولم أعرف لهم نسبًا

 

ج / 1 ص -164-     ابن عبد المطلب، وهو يومئذ من أحدث إخوته سنًّا1، فلم تزل إليه، حتى قام الإسلام وهي بيده. فأقرها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- له على ما مضى من ولايته، فهي إلى آل العباس، بولاية العباس إياها، إلى اليوم.
كفالة أبي طالب رسول الله صلى الله عليه وسلم:
وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد عبد المطلب مع عمه أبي طالب، وكان عبد المطلب -فيما يزعمون- يوصي به عمَّه أبا طالب؛ وذلك لأن عبد الله أبا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبا طالب أخوان لأبٍ وأم. أمهما: فاطمة بنت عَمرو بن عائذ بن عَبْد بن عمران بن مخزوم.
قال ابن هشام: عائذ بن عمران بن مخزوم.
قال ابن إسحاق: وكان أبو طالب هو الذي يلي أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد جده، فكان إليه ومعه.
اللهبي العائف: قال ابن إسحاق: وحدثني يحيى بن عبَّاد بن عبد الله بن الزبير، أن أباه حدثه: أن رجلاً من لِهْبٍ قال ابن هشام: ولهْب: من أزد شَنُوءة2، كان عائفًا، فكان إذا قَدِم مكة أتاه رجال قريش بغلمانهم ينظر إليهم، ويعتافُ3 لهم فيهم. قال: فأتى به

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يقول السهيلي مما منعه النحويون أن يقال: زيد أفضل إخوته، وليس بممتنع، وهو موجود في مواضع كثيرة من هذا الكتاب، وغيره، وحسن؛ لأن المعنى: زيد يفضل إخوته، أو يفضل قومه؛ ولذلك ساغ فيه التنكير، وإنما الذي يمتنع بإجماع: إضافة أفعل إلى التثنية مثل أن تقول: هو أكرم أخويه، إلا أن تقول: الأخوين، بغير إضافة.
2 وقال غيره: وهو لهب بن أحجن بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزد. وهي القبيلة التي تُعرف بالعيافة والزجر.
3 يعتاف لهم: هو يفتعل من العيْف. يقال: عفت الطير. واعتفتها عيافة واعتيافًا: وعفت الطعام أعافه عَيْفًا. وعافت الطير الماء عيافًا.

 

ج / 1 ص -165-     أبو طالب، وهو غلام مع من يأتيه، فنظر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم شغله عنه شيء، فلما فرغ قال: الغلام. عليَّ به فلما رأى أبو طالب حرصَه عليه غيَّبه عنه، فجعل يقول: ويلكم! رُدوا عليَّ الغلامَ الذي رأيت آنفًا، فوالله ليكوننَّ له شأن. قال: فانطلق أبو طالب.
قصة بحيرى:
محمد -صلى الله عليه وسلم- يخرج مع عمه إلى الشام: قال ابن إسحاق: ثم إن أبا طالب خرج في رَكْب تاجرًا إلى الشام، فلما تهيأ للرحيل، وأجمع المسير صَبَّ1 به رسول الله صلى الله عليه وسلم -فيما يزعمون- فرقَّ له، وقال: والله لأخرجن به معي، ولا يفارقني، ولا أفارقه أبدًا، أو كما قال. فخرج به معه2.
بحيرى يحتفي بتجار قريش: فلما نزل الركب بُصْرَى من أرض الشام، وبها راهب يقال له: بَحيرَى3 في صومعة له، وكان إليه علم أهل النصرانية، ولم يزل في تلك الصومعة منذ قطُّ راهب، إليه يصير علمهم عن كتاب فيها -فيما يزعمون- يتوارثونه كابرًا عن كابر. فلما نزلوا ذلك العام ببحِيرى، وكانوا كثيرًا ما يمرون به قبل ذلك، فلا يكلمهم، ولا يَعْرِض لهم،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الصبابة: رقة الشوق، يقال: صَبِبْت -بكسر الباء-أصَبُّ، ويذكر عن بعض السلف أنه قرأ: "أصَبُّ إليهن وأكن من الجاهلين" وفي غير رواية أبي بحر: ضبث به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أي: لزمه. قال الشاعر:

كأن فؤادي في يد ضَبَثَتْ به                  مُحاذِرة أن يَقضِب الحبل قاضبه

2 كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ ذاك ابن تسع سنين فيما ذكر بعض من ألَّف السير، وقال الطبري: ابن اثنتي عشرة سنةً.
3 وقع في سيرة الزهري أن بَحِيرَى كان حبرًا من يهود تيماء، وفي المسعودي: أنه كان من عبد القيس، واسمه: سَرجِس، وفى المعارف لابن قتيبة، قال: سُمِع قبل الإسلام بقليل هاتف يهتف: ألا إن خير أهل الأرض ثلاثة: بحيرى، ورباب بن البراء الشِّني، والثالث: المنتظر، فكان الثالث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال القتبي: وكان قبر رباب الشني، وقبر ولده من بعده، لا يزال يُرى عليها طَشُّ، والطش: المطر الضعيف.

 

ج / 1 ص -166-     حتى كان ذلك العام. فلما نزلوا به قريبًا من صومعته صنع لهم طعامًا كثيرًا، وذلك -فيما يزعمون- عن شيء رآه في صومعته، يزعمون أنه رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو في صومعته في الركب حين أقبلوا، وغمامة تُظِلُّه من بين القوم. قال: ثم أقبلوا فنزلوا في ظلِّ شجرةٍ قريبًا منه، فنظر إلى الغمامة حين أظلَّت الشجرةَ، وتهصَّرت أغصانُ الشجرةِ على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى استظلَّ تحتها، فلما رأى ذلك بَحيرى نزل من صومعته وقد أمر بذلك الطعام فصُنع، ثم أرسل إليهم، فقال: إني قد صنعت لكم طعامًا يا معشر قريش، فأنا أحب أن تحضروا، كلكم صغيرُكم وكبيركم وعبدُكم وحرُّكم، فقال له رجل منهم: والله يا بَحيرَى إن لك لشأنًا اليوم! ما كنت تصنع هذا بنا، وقد كنا نمر بك كثيرًا، فما شأنك اليومَ؟! قال له بَحيرَى: صدقتَ، قد كان ما تقول، ولكنكم ضيف، وقد أحببتُ أن أكرمَكم، وأصنعَ لكم طعامًا، فتأكلوا منه كلكم. فاجتمعوا إليه وتخلف رسولُ الله –صلى الله عليه وسلم– من بين القومِ، لحداثة سنِّه، في رحالِ القوم تحت الشجرة، فلما نظر بَحيرى في القوم لم ير الصفة التي يعرف ويجد عنده، فقال: يا معشر قريش! لا يتخلفنَّ أحدٌ منكم عن طعامي، قالوا له: يا بَحيرى، ما تخلف عنك أحد ينبغي له أن يأتيَك إلا غلام، وهو أحدث القوم سِنًّا، فتخلف في رحالهم، فقال: لا تفعلوا، ادعوه، فليحضرْ هذا الطعام معكم. قال: فقال رجل من قريش مع القوم: واللات والعزى، إن كان لَلُؤمٌ بنا أن يتخلف ابنُ عبد الله بن عبد المطب عن طعام من بيننا، ثم قام إليه فاحتضنه، وأجلسه مع القوم.
بحيرى يتثبت من محمد صلى الله عليه وسلم: فلما رآه بَحيرى، جعل يلحظه لحظًا شديدًا، وينظر إلى أشياء من جسده، قد كان يجدها عنده من صفته، حتى إذا فرغ القومُ من طعامهم وتفرقوا، قام إليه بحيرى، فقال: يا غلامُ، أسالك بحق اللات والعزى إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه، وإنما قال له بَحيرى ذلك؛ لأنه سمع قومه يحلفون بهما فزعموا أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم– قال: لا تسألني باللات والعزى شيئًا، فوالله ما أبغضتُ شيئًا قط بغضهما، فقال له بَحيرى: فبالله إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه، فقال له: سلني عما بدا لك. فجعل يسأله عن أشياء من حاله: من نومه وهيئته وأمورِه، فجعل رسول الله –صلى الله عليه وسلم– يخبره، فيوافق ذلك ما عند بَحيرى من صفته، ثم نظر إلى ظهرهِ؛ فرأى خَاتَمَ النبوة بين كتفيه على موضعه من صفته التي عنده.

 

ج / 1 ص -167-     قال ابن هشام: وكان مثلَ أثرِ المِحْجَم1.
بَحيرى يوصي أبا طالب بمحمد صلى الله عليه وسلم: قال ابن إسحاق: فلما فرغ أقبل على عمه أبي طالب، فقال له: ما هذا الغلام منك؟ قال: ابني. قال له بَحيرى: ما هو بابنك، وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حيًّا، قال: فإنه ابن أخي، قال: فما فعل أبوه؟ قال: مات وأمه حُبلى به، قال: صدقت، فارجع بابن أخيك إلى بلده، واحذر عليه يهودَ، فوالله لئن رأوْه، وعرفوا منه ما عرفت لَيَبْغُنه شرًّا، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم، فأسرعْ به إلى بلاده.
بعض من أهل الكتاب يريدون بمحمد -صلى الله عليه وسلم- وسلم الشر:
فخرج به عمه أبو طالب سريعًا، حتى أقدمه مكة حين فرغ من تجارته بالشام فزعموا فيما روى الناس: أن زرَيْرًا وتَمامًا ودَريسًا -وهم نفر من أهل الكتاب- قد كانوا رأوا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مثل ما رآه بحيرى في ذلك السفر الذي كان فيه مع عمه أبي طالب، فأرادوه، فردهم عنه بَحيرى، وذكَّرهم الله وما يجدون في الكتاب من ذكرِه وصفته، وأنهم إن أجمعوا لما أرادوا به لم يخلصوا إليه، ولم يزل بهم، حتى عرفوا ما قال لهم، وصدقوه بما قال، فتركوه وانصرفوا عنه.
محمد صلى الله عليه وسلم يشب على مكارم الأخلاق:
فشب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والله تعالى يكلؤه ويحفظُه ويحوطه من أقذار الجاهلية، لِمَا يريد به من كرامته ورسالته، حتى بلغ أن كان رجلا أفضلَ قومه مروءة، وأحسنَهم خُلقًا، وأكرمَهم حسبًا، وأحسنَهم جوارًا، وأعظمهم حِلمًا، وأصدقَهم حديثًا، وأعظمَهم أمانةً، وأبعدهم من الفُحش والأخلاق التي تدنِّس الرجال تنزُّها وتكرمًا، حتى ما اسمه في قومه إلا الأمين، لِمَا جمع الله فيه من الأمورِ الصالحة.
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحدث عن حفظ الله له: وكان رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فيما ذُكر لي يحدِّث عما كان الله يحفظه به في صغره وأمر جاهليته، أنه قال:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يعني: أثر المحجمة القابضة على اللحم، حتى يكون ناتئًا. وفى الخبر أنه كان حوله خِيلَان فيها شعرات سود، وفي صفته أيضًا أنه كان كالتفاحة، وكزر الحجلة. وفي حديث آخر: كان كبيضة الحمامة. وفي حديث عياذ بن عبد عمرو: قال، رأيت خاتم النبوة، وكان كركبة العنز.

 

ج / 1 ص -168-     "لقد رأيتُني في غلمانِ قريش ننقل حجارةً لبعضِ ما يلعب به الغلمان، كلنا قد تعرَّى، وأخذ إزارَه، فجعله على رقبته، يحمل عليه الحجارةَ، فإني لأقْبل معهم كذلك وأدبر، إذ لكمني لاكم -ما أراه- لكمةً وجيعةً ثم قال: شُدَّ عليك إزارَك. قال: "فأخذته وشددته عليَّ، ثم جعلت أحملُ الحجارةَ على رقبتي وإزاري عليَّ من بين أصحابي"1.
حرب الفِجَار:
قال ابن هشامٍ: فلما بلغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أربعَ عشْرةَ سنةً، أو خَمسَ عشْرةَ سنة -فيما حدثني أبو عُبيدة النحوي، عن أبي عَمْرو بن العَلاء-هاجت حرب الفِجَار2 بين قريش ومن معها من كِنانة، وبين قَيْس عَيْلان.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهذه القصة إنما وردت في الحديث الصحيح فى حين بنيان الكعبة، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-ينقل الحجارة مع قومه إليها، وكانوا يجعلون أزُرهم على عواتقهم لتقيهم الحجارة وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحملها على عاتقه، وإزاره مشدود به، فقال له العباس رضي الله عنه: يابن أخي! لو جعلت إزارك على عاتقك، ففعل فسقط مغشيًّا عليه، ثم قال: إزاري إزاري! فشُد عليه إزاره، وقام بحمل الحجارة، وفي حديث آخر: أنه لما سقط ضمه العباس إلى نفسه، وسأله عن شأنه فأخبره أنه نُودي من السماء: أن اشدد عليك إزارك يا محمد، قال: وإنه لأول ما نودي، وحديث ابن إسحاق إن صح أن كان في حال صغره إذا كان يلعب مع الغلمان فمحمله أن هذا الأمر كان مرتين، مرة في حال صغره ومرة في أول اكتهاله عند بنيان الكعبة. انظر: "الروض الأنف بتحقيقنا ج1 ص208-209".
2 الفجار بكسر الفاء بمعنى: المُفَاجَرة كالقتال والمقاتلة، وذلك أنه كان قتالا في الشهر الحرام، ففجروا فيه جميعًا، فسمي: الفجار.
فجارات العرب: وكانت للعرب فجارات أربع، ذكرها المسعودي، آخرها: فجار البراض المذكورة في السيرة وكان لكنانة ولقيس فيه أربعة أيام مذكورة: يوم شَمطة، ويوم العبلاء، وهما عند عكاظ، ويوم الشَّرِب، وهو أعظمها يومًا، وفيه قيد حرب بن أمية وسفيان، وأبو سفيان أبناء أمية أنفسهم كي لا يفروا، فسُموا: العنابس، ويوم الحريرة عند نخلة، ويوم الشرب انهزمت قيس إلا بني نضر منهم، فإنهم ثبتوا، وإنما لم يقاتل رسول الله –صلى الله عليه وسلم- مع أعمامه، وكان ينبل عليهم، وقد كان بلغ سن القتال؛ لأنها كانت حرب فجار، وكانوا أيضًا كلهم كفارًا، ولم يأذن الله تعالى لمؤمن أن يقاتل إلا لتكون كلمة الله هي العليا.

 

ج / 1 ص -169-     سببها: وكان الذي هاجها أن عُروةَ الرَّحال بن عتبة بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صَعْصَعة بن معاوية بن هوازن، أجار لَطيمةً1 للنعمان بن المُنذِر، فقال له البرَّاض بن قيس، أحد بني ضَمرة بن بكر بن عبد مَناة بن كنانة: أتجيرها على كنانة؟ قال: نعم، وعلى الخلق، فخرج فيها عروة الرحَّال، وخرج البرَّاض يطلب غفلته، حتى إذا كان بتَيْمَن ذي طِلال بالعالية، غفل عُروة، فوثب عليه البراض، فقتله في الشهر الحرام، فلذلك سُمِّي: الفجار. وقال البراض في ذلك:

وداهيةٍ تُهمُّ الناسَ قبلي                     شَدَدْتُ لها -بني بكر- ضُلوعي

هدمتُ بها بيوتَ بني كلابٍ                  وأرضعتُ المواليَ بالضُّروع2

رفعتُ له بذي طَلَّالَ كفِّي                     فَخَرَّ يميدُ كالجِذْعِ الصريع3


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 اللطيمة: عير تحمل البز والعطر.
2 الضروع: جمع ضرع، هو في معنى قولهم: لئيم راضع، أي: ألحقت الموالي بمنزلتهم من اللؤم ورضاع الضروع، وأظهرت رذالتهم وهتكت بيوت أشراف بني كلاب وصرحائهم.
3 قول البراض: رفعت له بذي طلال كفي. فلم يصرفه، يجوز أن يكون جعله اسم بقعة، فترك صرف الاسم للتأنيث والتعريف، فإن قلت: كان يجب أن يقول: بذات طلال، أي: ذات هذا الاسم المؤنث، كما قالوا: ذو عمرو أي: صاحب هذا الاسم، ولو كانت أنثى، لقالوا: ذات هند، مثلًا. فالجواب: أن قوله: "بذي" يجوز أن يكون وصفًا لطريق، أو جانب مضاف إلى طلال اسم البقعة. وأحسن من هذا كله أن يكون "طلال" اسمًا مذكرًا علمًا، واسم العلم يجوز ترك صرفه في الشعر كثيرًا. ووقع في شعر البراض مشددًا وفي شعر لبيد الذي بعد هذا مخففًا؛ نقول: إن لبيدًا خففه للضرورة، ولم نقل: إنه شدد للضرورة، وإن الأصل فيه التخفيف؛ لأنه فَعال من الطل. كأنه موضع يكثر فيه الطل فطلال بالتخفيف لا معنى له، وأيضًا؛ فإنا وجدناه في الكلام المنثور مشددًا.

 

ج / 1 ص -170-     وقال لَبيد بنُ مالك بن جعفر بن كلاب:

أبلغْ -إن عَرَضْتَ- بني كلابٍ                      وعامرَ والخطوبُ لها مَوَالِي

وبلِّغ -إن عَرَّضْتَ- بني نُمَيْر                      وأخوالَ القتيل بني هلالِ

بأن الوافدَ الرَّحَّالَ أمسى                         مُقيمًا عند تَيْمَنَ ذِي طِلَالِ

وهذه الأبيات في أبيات له فيما ذكر ابن هشام.
قتال هوازن لقريش: قال ابن هشام: فأتى آتٍ قريشًا، فقال: إن البرَّاض قد قتل عُروةَ، وهم في الشهر الحرام بعُكَاظ، وهَوازن لا تشعر، ثم بلغهم الخبر فاتبعوهم، فأدركوهم قبل أن يدخلوا الحرم، فاقتتلوا حتى جاء الليل، ودخلوا الحرمَ، فأمسكت عنهم هوازن، ثم التقوا بعد هذا اليوم أيامًا، والقوم متساندون، على كل قبيلٍ من قريش وكنانة رئيس منهم، وعلى كل قبيل من قيس رئيسٌ منهم.
الرسول -صلى الله عليه وسلم- يشهد القتال وهو صغير: وشهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعض أيامهم، أخرجه أعمامه معهم، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: كنت أنَبِّلُ على أعمامي، أي أردّ عنهم نَبْلَ عدوِّهم، إذا رموهم بها.
سن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في هذه الحرب: قال ابن إسحاق: هاجت حرب الفِجَار، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- ابن عشرين سنة.
سبب تسمية هذا اليوم بالفجار: وإنما سُمي يومَ الفجار، بما استحلَّ هذان الحيان: كنانة وقَيْس عَيْلان فيه من المحارم بينهم.
قائد قريش وكنانة: وكان قائد قريش وكنانة حرب بن أمية بن عبد شمس، وكان الظفر في أول النهار لقيس على كنانة، حتى إذا كان في وسط النهار كان الظفر لكنانة على قيس.
قال ابن هشام: وحديث الفجار أطول مما ذكرت، وإنما منعني من استقصائه قطعه حديث رسول الله –صلى الله عليه وسلم1.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وكان آخر أمر الفجار أن هوازن وكنانة تواعدوا للعام القابل بعكاظ فجاءوا للوعد. وكان حرب بن أمية رئيس قريش وكنانة، وكان عتبة بن ربيعة يتيمًا في حجره، فضَنَّ به حرب، وأشفق من خروجه معه، فخرج عتبة بغير إذنه، فلم يشعروا إلا وهو على بعيره بين الصفين ينادى: يا معشر مضر، علام تقاتلون؟ فقالت له هوازن: ما تدعو إليه؟ فقال: الصلح؛ على أن ندفع إليكم دية قتلاكم، ونعفو عن دمائنا، قالوا: وكيف؟ قال: ندفع إليكم وهنا منا، قالوا. ومن لنا بهذا؟ قال: أنا. قالوا: ومن أنت؟ قال: عتبة بن ربيعة بن عبد شمس ورضيت كنانة. ودفعوا إلى هوازن أربعين رجلا، فيهم: حكيم بن حزام، فلما رأت بنو عامر بن صعصعة الرهن فى أيديهم، عَفَوا من الدماء، وأطلقوهم وانقضت حرب الفجار، وكان يقال: لم يَسُد من-قريش مُملِق إلا عتبة وأبو طالب، فإنهما سادا بغير مال.

 

ج / 1 ص -171-     حديث تزويج رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم-
خديجة رضي اللّه عنها:
سنه صلى الله عليه وسلم حين زواجه: قال ابن هشام: فلما بلغ رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم- خمسًا وعشرين سنة1، تزوج خديجة2 بنتَ خويلد بن أسد بن عبد العُزَّى بن قصي بن كلاب بن مُرة بن كعب بن لُؤَي بن غالب، فيما حدثني غيرُ واحد من أَهل العلم عن أبي عَمرو المدني.
خروجه صلى الله عليه وسلم إلى التجارة بمال خديجة: قال ابن إسحاق: وكانت خديجة بنت خويلد امرأة تاجرة، ذات شرف ومال، تستأجر الرجال في مالها، وتضاربهم إياه، بشيء تجعله لهم، وكانت قريش قومًا تجارًا، فلما بلغها عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما بلغها: من

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وقيل كان سنُّه صلى الله عليه وسلم إحدى وعشرين وقيل ثلاثين.
2 خديجة بنت خوَيلد تسمى؛ الطاهرة في الجاهلية والإسلام، وفي سير التيمى: أنها كانت تُسمى: سيدة نساء قريش. وكانت قبل رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم- عند هند بن زرارة وكانت قبله عند عتيق بن عائذ بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، ولدت له عبد مناف بن عتيق، وقال الزبير: ولدت لعتيق جارية اسمها: هند، وولدت لهند: ابنًا اسمه: هند أيضًا مات بالطاعون: طاعون البصرة، ولخديجة من هند ابنان غير هذا، اسم أحدهما: الطاهر، واسم الآخر: هالة.

 

ج / 1 ص -172-     صدق حديثه، وعظم أمانته، وكرم أخلاقه، بعثت إليه، فعرضت عليه أن يخرجَ في مال لها إلى الشام تاجرًا، وتعطيه أفضَلَ ما كانت تُعطي غيرَه من التجار، مع غلام لها يقال له: مَيْسَرة، فقبله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منها وخرج في مالها ذلك، وخرج معه غلامُها ميسرة، حتى قدم الشام.
حديثه صلى الله عليه وسلم مع الراهب: فنزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ظلِّ شجرةٍ قريبًا من صومعة راهب من الرهبان، فاطَّلع الراهبُ إلى ميسرة، فقال له: مَنْ هذا الرجل الذي نزل تحتَ هذه الشجرة؟ قال له ميسرة: هذا رجل من قريش من أهل الحرم، فقال له الراهب: ما نزل تحت هذه الشجرة قطُّ إلا نبيٌّ1.
ثم باع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سلعتَه التي خرج بها، واشترى ما أراد أن يشتريَ، ثم أقبل قافلا إلى مكةَ، ومعه ميسرةُ، فكان ميسرةُ -فيما يزعمون- إذا كانت الهاجرة، واشتد الحرُّ، يرَى ملكين يظلَّانه من الشمس، وهو يسير على بعيره، فلما قدم مكة على خديجة بمالها، باعت ما جاء به، فأضعف أو قريبًا. وحدَّثها ميسرة عن قول الراهب، وعما كان يرى من إظلالِ الملكين إياه.
خديجة ترغب في الزواج منه صلى الله عليه وسلم: وكانت خديجةُ امرأةً حازمةً شريفة لبيبة، مع ما أراد اللّهُ بها من كرامته، فلما أخبرها ميسرة مما أخبرها به، بعثت إلى رسول الله

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما نزل تحت هذه الشجرة إلا نبي. يريد: ما نزل تحتها هذه الساعة إلا نبي، ولم يرد: ما نزل تحتها قط إلا نبي؛ لبعد العهد بالأنبياء قبل ذلك، وإن كان في لفظ الخبر: قط، فقد تكلم بها على جهة التأكيد للنفي، والشجرة لا تعمر في العادة هذا العمر الطويل حتى يدري أنه لم ينزل تحتها إلا عيسى، أو غيره من الأنبياء –عليهم السلام– ويبعد في العادة أيضًا أن تكون شجرة تخلو من أن ينزل تحتها أحد، حتى يجيء نبي، إلا أن تصح رواية من قال في هذا الحديث: لم ينزل تحتها أحد بعد عيسى ابن مريم – عليه السلام– وهي رواية عن غير ابن إسحاق، فالشجرة على هذا مخصوصة بهذه الآية واللّه أعلم. وهذا الراهب ذكروا أن اسمه نسطور وليس هو بَحيرى المتقدم ذكره.

 

ج / 1 ص -173-     -صلى الله عليه وسلم- فقالت له فيما يزعمون: يابنَ عمّ، إني قد رغبت فيك لقرابتك وسِطَتِكَ1 في قومِك وأمانتك، وحسنِ خُلقك، وصدق حديثك، ثم عرضتْ عليه نفسَها،
وكانت خديجةُ يومئذ أوسطَ نساء قريش نسبًا، وأعظمهنَّ شرفًا، وأكثرهن مالا، كُلُّ قومِها كان حريصًا على ذلك منها لو يقدُرُ عليه.
نسب خديجة رضي الله عنها: وهى خديجة بنت خُوَيْلد بن أسَد بن عبد العُزَّى بن قصَي بن كلاب بن مُرَّة بن كعب بن لُؤَي بن غالب بن فِهْر، وأمها: فاطمةُ بنتُ زائدةَ بنِ الأصمِّ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 السِّطَةُ: من الوسط، مصدر كالعِدة والزِّنة، والوسط من أوصاف المدح والتفضيل، ولكن في مقامين: في ذكر النسب، وفي ذكر الشهادة. أما النسب؛ فلأن أوسط القبيلة أعرفها، وأولاها بالصميم وأبعدها عن الأطراف، وأجدر أن لا تضاف إليه الدعوة؛ لأن الآباء والأمهات قد أحاطوا به من كل جانب، فكان الوسط من أجل هذا مدحًا في النسب بهذا السبب. وأما الشهادة فنحو قوله سبحانه:
{قَالَ أَوْسَطُهُمْ} [القلم: 28] وقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 134] فكان هذا مدحًا في الشهادة؛ لأنها غاية العدالة في الشاهد أن يكون وسطًا كالميزان، لا يميل مع أحد، بل يصمم على الحق تصميمًا، لا يجذبه هوى، ولا يميل به رغبة، ولا رهبة. من ههنا، ولا من ههنا، فكان وصفه بالوسط غاية في التزكية والتعديل، وظن كثير من الناس أن معنى الأوسط: الأفضل على الإطلاق، وقالوا: معنى الصلاة الوسطى: الفُضْلى، وليس كذلك، بل هو في جميع الأوصاف لا مدح ولا ذم، كما يقتضي لفظ التوسط، فإذا كان وسطًا في السِّمَن، فهي بين المُمِخةِ –السمينة– والعجفاء، والوسط في الجمال بين الحسناء والشَّوهاء،.. إلى غير ذلك من الأوصاف، لا يعطي مدحًا، ولا ذمًا، غير أنهم قد قالوا في المثل: أثقل من مُغَن وسط على الذم؛ لأن المغنى إن كان مجيدًا جدًّا أمتع وأطرب، وإن كان باردًا جدًّا أضحك وألهى، وذلك أيضًا مما يُمْتع. قال الجاحظ: "وإنما الكرب الذي يَجْثُمُ على القلوب، ويأخذ بالأنفاس، الغناء الفاتر الوسط الذي لا يمتع بحُسن، ولا يضحك بلهو.." وإذا ثبت هذا فلا يجوز أن يقال في رسول اللَه -صلى الله عليه وسلم- هو: أوسط الناس. أي: أفضلهم، ولا يوصف بأنه وسط في العلم، ولا في الجود، ولا في غير ذلك إلا في النسب والشهادة، كما تقدّم والحمد للّه، والله المحمود. عن: "الروض الأنف من تحقيقنا ج1 ص212-213".

 

ج / 1 ص -174-     ابن رواحة بن حَجَر بن عبد بن مَعِيص بن عامر بن لُؤَي بن غالب بن فهر.
وأمُّ فاطمة: هالةُ بنتُ عبد مناف بن الحارث بن عَمرو بن مُنْقِذ بن عَمرو بن مَعيص بن عامر بن لؤي بن غالب بن فِهْر.
وأم هالة: قِلابةُ بنتُ سُعَيْد بن سَعْد بن سَهْم بن عَمرو بن هُصَيْص بن كعب بن لؤي بن غالب بن فِهْر.
الرسول -صلى الله عليه وسلم- يتزوج من خديجة بعد استشارة أعمامه: فلما قالت ذلك لرسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- ذكر ذلك لأعمامِه، فخرج معه عمه حمزةُ1 بنُ عبد المطلب -رحمه الله- حتى دخل على خُوَيْلد2 بن أسَد فخطبها إليه، فتزوجها.
صداق خديجة: قال ابن هشام: وأصدقها رسولُ الله –صلى الله عليه وسلم- عشرين بَكْرة، وكانت أولَ امرأة تزوجها رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ولم يتزوجْ عليها غيرَها حتى ماتت، رضي الله عنها.
أولاده -صلى الله عليه وسلم- من خديجة: قال ابنُ إسحاق: فولدت لرسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- ولدَه كُلَّهم إلا إبراهيم: القاسمَ، وبه كان يُكْنَى -صلى الله عليه وسلم- والطاهرَ والطيب3، وزينبَ ورقيةَ، وأمَ كلثوم، وفاطمةَ، عليهم السلام.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ويقال: إن أبا طالب هو الذي نهض مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو الذي خطب خطبة النكاح، وكان مما قاله في تلك الخطبة: "أما بعد: فإن محمدًا ممن لا يُوازَن به فتى من قريش إلا رجح به شرفًا ونُبْلًا وفضلًا وعقلًا، وإن كان في المال قل، فإنما المالُ ظل زائل، وعارية مُسترجَعة. وله في خديجة بنت خويلد رغبة، ولها فيه مثل ذلك".
2 وعن ابن عباس، وعن عائشة -رضي الله عنهم كلهم -قال: إن عمرو بن أسد هو الذي أنكح خديجة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأن خويلدا كان قد هلك قبل الفجار.
3 الطاهر والطيب لقبان للقاسم، سمي بالطاهر والطيب؛ لأنه وُلد بعد النبوة، الذي سمي به أول هو: عبد الله، وبلغ القاسم المشي، غير أن رضاعته لم تكن كملت وقد وقع في مسند الفريابي أن خديجة دخل عليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد موت القاسم، وهي تبكي: فقالت: "يا رسول الله دَرّت لُبَيْنةُ القاسم فلو كان عاش حتى يستكمل رضاعته لهون عليَّ، فقال: إن له مرضعًا في الجنة تستكمل رضاعته، فقالت: لو أعلم ذلك لهوّن علي، فقال؛ إن شئت سمعتك صوته في الجنة، فقالت: بل أصدق الله ورسولَه".

 

ج / 1 ص -175-     ترتيب ولادتهم: قال ابن هشام: أكبر بنيه: القاسمُ، ثم الطيبُ، ثم الطاهرُ، وأكبر بناته: رقيةُ، ثم زينبُ، ثم أمُّ كلثوم، ثم فاطمةُ.
قال ابن إسحاق: فأما القاسم، والطيب، والطاهر فهلكوا في الجاهلية. وأما بناتُه: فكلُّهنَّ أدركْنَ الإسلامَ، فأسلمن وهاجرنَ معه صلى الله عليه وسلم.
إبراهيم وأمه: قال ابن هشام: وأما إبراهيمُ فأمه: ماريةُ القبطيةُ. حدثنا عبد الله بنُ وهب عن ابن لَهِيعة، قال: أمّ إبراهيم: مارية سرية النبي -صلى الله عليه وسلم- التي أهداها إليه المقوقس من حَفْن من كورة أنْصِنَا.
ورقة يتنبأ له صلى الله عليه وسلم بالنبوة: قال ابن إسحاق: وكانت خديجة بنت خويلد قد. ذكرت لورقة1 بنِ نَوْفل بن أسَد بن عبد العُزَّى -وكان ابنَ عمها، وكان نصرانيًّا قد تتبع الكتبَ، وعَلِمَ من عِلْمِ الناس- ما ذكر لها غلامُها ميسرة من قول الراهب، وما كان يرى منه، إذ كان الملكان يظلانه، فقال ورقة: لئن كان هذا حقًّا يا خديجة، إن محمدًا لنبي هذه الأمة، وقد عرفتُ أنه كائنٌ لهذه الأمة نبي يُنتظر، هذا زمانُه، أو كما قال:
شعر لورقة: فجعل ورقة يستبطئ الأمرَ ويقول: حتى متى؟ فقال ورقة في ذلك:

لَجِجْتُ وكنتُ في الذكرى لَجوجًا                       لِهَمّ طالما بعثَ النَّشيجَا


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وأم ورقة: هند بنت أبي كبير بن عبد بن قصي، ولا عقب له، وهو أحد من آمن وأسلم -قبل البعثة- راجع: "الروض الأنف بتحقيقنا ج1 ص216-217".

 

ج / 1 ص -176-                                       ووصفٍ من خديجةَ بعدَ وصف  فقد طال انتظاري يا خديجَا

ببطنِ المَكَّتَيْنِ على رجائي                      حديثك أن أرى منه خُروجَا1

بما خَبَّرْتنا من قول قس                           من الرُهبان أكره أن يعوجا

بأن محمدًا سيسود فينا                          ويخصِمُ من يكونُ له حجيجا


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ثَنَّى مكة، وهي واحدة؛ لأن لها بطَاحًا وظواهر، وقد ذكرنا من أهل البطاح، ومن أهل الظواهر فيما قبل، على أن للعرب مذهبًا في أشعارها في تثنية البقعة الراحدة، وجمعها، نحو قوله: وميت بغزات، يريد: بغزة، وبغادين في بغداد، وأما التثنية فكثير نحو قوله:

بالرقمتين له أجر وأعراس                    والحمتين سقاك اللّه من دار

وقول زهير: "ودار لها بالرقمتين" وقول ورقة من هذا: "ببطن المكتين". لا معنى لإدخال الظواهر تحت هذا اللفظ، وقد أضاف إليها البطن، كما أضافه المبرق حين قال:
"ببطن مكة مقهور ومفتون"
وإنما يقصد العرب في هذه الإشارة إلى جانبي كل بلدة، أو الإضارة إلى أعلى البلدة وأسفلها، فيجعلونها اثنين على هذا المغزى، وقد قالوا: "صدنا بقنوين"، وهو هنا اسم جبل، وقال عنترة:

شربت بماء الدِّحرضين

وهو من هذا الباب في أصح القولين، وقال عنترة أيضًا:

بعنيزتين وأهلنا بالعيلم

وعنيزة اسم موضع، وقال الفرزدق:

عشية سال المربدان كلاهما

وإنما هو مربد البصرة. وقولهم:

تسألني برامتين سلجما

وإنما هو رامة. وهذا كثير. وأحسن ما تكون هذه التثنية إذا كانت في ذكر جنة وبستان، فتسميها جنتين في فصيح الكلام، إشعارًا بأن لها وجهين، وأنك إذا دخلتها، ونظرت إليها يمينًا وشمالًا رأيت من كلتا الناحيتين ما يملأ عينيك قوة، وصدرك مسرة، وفي التنزيل: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ} [سبأ: 15] إلى قوله سبحانه: {وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ} [سبأ: 16] وفيه: {جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ} [الكهف: 32] الآية. وفي آخرها: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ} [الكهف: 35]

ج / 1 ص -177-                                   ويظهرُ في البلادِ ضياءُ نورٍ          يُقيمُ به البريةَ أن تموجا1

فيلْقَى من يحاربُه خَسارًا                    ويلقى من يسالمه فُلوجَا

فيا ليتي إذا ما كان ذَاكمْ                      شَهِدْتُ فكنتُ أوَّلَهم وُلوجَا

وُلوجا في الذي كرهتْ قريشٌ                ولو عجَّت بمكتِها عجيجَا

أرَجِّي بالذي كرِهوا جميعًا                    بمن يختار مَنْ سَمَكَ البروجَا

وهل أمرُ السَّفالةِ غيرُ كُفر                    إلى ذي العرشَ إن سفلوا عُروجَا

فإن يبقوا وَأبقَ تكنْ أمورٌ                      يَضُجُّ الكافرون لها ضَجيجَا

وإن أهلكْ فكلُّ فتى سَيَلْقَى                 من الأقدارِ مَتْلَفةً حَرُوجَا


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= فأفرد بعد ما ثنى وهي هي، وقد حمل العلماء على هذا المعنى قوله سبحانه:
{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46] والقول في هذه الآية يتسع.
وفي البيت: حديثك أن أرى منه خروجا. قوله "منه": الهاء راجعة على الحديث، وحرف الجر متعلق بالخروج، وإن كره النحويون ذلك؛ لأن ما كان من صلة المصدر عندهم، فلا يتقدم عليه؛ لأن المصدر مقدَّر بأن والفعل، فما يعمل فيه هو من صلة "أن" فلا يتقدم، فمن أطلق القول في هذا الأصل؛ ولم يخصص مصدرًا من مصدر، فقد أخطأ المفصل وتاه في تضلل؛ ففي التنزيل:
{أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ} [يونس: 2] ومعناه: أكان عجبًا للناس أن أوحينا، ولا بد للام ههنا أن تتعلق بعجب؛ لأنها ليست في موضع صفة، ولا موضع حال لعدم العامل فيها، انظر: "الروض الأنف بتحقيقنا ج1 ص218، 219، 220".
1 هذا البيت يوضح لك معنى النور ومعنى الضياء، وأن الضياء هو المنتشر عن النور، وأن النور هو الأصل للضوء، ومنه مبدؤه، وعنه يصدر، وفي التنزيل:
{فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ}. وفيه: {جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا}؛ لأن نور القمر لا ينتشر عنه من الضياء ما ينتشر من الشمس، ولا سيما في طرفي الشهر. وفي الصحيح: "الصلاة نور، والصبر ضياء" وذلك أن الصلاة هي عمود الإسلام، وهي ذكر وقرآن، وهي تنهى عن الفحشاء والمنكر، فالصبر عن المنكرات، والصبر على الطاعات هو: الضياء الصادر عن هذا النور الذي هو القرآن، والذكر. وفي أسماء الباري سبحانه: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ} ولا يجوز أن يكون الضياء من أسمائه سبحانه.

ج / 1 ص -178-     حديث بنيان الكعبة وحكم رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم- بين قريش في وضع الحجر
سبب هذا البنيان: قال ابن إسحاق: فلما بلغ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- خمسًا وثلاثين سنة اجتمعت قريش لبنيان الكعبة1، وكانوا يهمُّون بذلك، ليسقفوها ويهابون هدمَها، وإنما كانت رَضْمًا2 فوق القامة، فأرادوا رفعَها وتسقيفَها، وذلك أن نفرًا سرقوا كنزًا للكعبة، وإنما كان يكون في بئر في جوف الكعبة، وكان الذي وُجد عنده الكنز دُوَيْكًا مولى لبني مُلَيْح بن عمرو من خزاعة. قال ابن هشام: فقطعت قريش يده. وتزعم قريش أن الذين سرقوه وضعوه عند دُوَيْك، وكان البحر قد رمى بسفينة إلى جدَّة لرجل من تجار

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وكان بناؤها في الدهر خمس مرات الأولى: حين بناها شيث بن آدم، والثانية: حين بناها إبراهيم على القواعد الأولى، والثالثة: حين بنتها قريش قبل الإسلام بخمسة أعوام، والرابعة: حين احترقت في عهد ابن الزبير بشرارة طارت من أبي قُبَيْس، فوقعت في أستارها، فاحترقت، وقيل إن امرأة أرادت أن تجمرها، فطارت شرارة من الجمر في أستارها، فاحترقت، فلما قام عبد الملك بن مروان، قال لسنا من تخليط أبي خبيث بشيء "كذا" فهدمها وبناها على ما كانت عليه في عهد رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم- وأما المسجد الحرام فأول من بناه عمر بن الخطاب، وذلك أن الناس ضيقوا على الكعبة، وألصقوا دورهم بها، فقال عمر: إن الكعبة بيت اللّه، ولا بد للبيت من فناء، فاشترى تلك الدور من أهلها وهدمها، وبنى المسجد المحيط بها، ثم كان عثمان، فاشترى دورًا أخرى، وأغلى في ثمنها، وزاد في سعة المسجد، فلما كان ابن الزبير زاد في إتقانه، لا في سعته، وجعل فيه عمدًا من الرخام، وزاد في أبوابه، وحسنها، فلما كان عبد الملك بن مروان زاد في ارتفاع حائط المسجد، وحمل إليه السواري في البحر إلى جدة.
2 الرضم: أن تنضد الحجارة بعضها على بعض من غير ملاط كما قال:

رُزْئتُهم في ساعة جَرَّعتُهُم كئوس                      المنايا تحت صخر مُرَضَّمِ

 

ج / 1 ص -179-     الروم، فتحطمت، فأخذوا خشبها فأعدوه لتسقيفها، وكان بمكة رجل قبطي نجار1، فتهيأ لهم في أنفسهم بعضُ ما يُصلحها، وكانت حَيَّةٌ تخرجُ من بئر الكعبة التي كان يُطرَح فيها ما يُهدَى لها كل يوم، فتتشرق2 على جدار الكعبة، وكانت مما يَهابون، وذلك أنه كان لا يدنو منها أحد إلا احْزَألَّتْ وَكَشَّتْ3، وفتحت فاها، وكانوا يهابونها، فبينا هي ذات يوم تتشرق على جدار الكعبة، كما كانت تصنع، بعث الله إليها طائرًا فاختطفها، فذهب بها، فقالت قريش: إنا لنرجو أن يكون الله قد رضَى ما أردنا، عندنا عامل رفيق، وعندنا خشب، وقد كفانا الله الحيةَ.
أبو وهب-خال أبي رسول الله صلى الله عليه وسلم- وما حدث له عند بناء الكعبة: فلمّا أجمعوا أمرَهم في هدمها وبنائها، قام أبو وهب بنُ عَمرو بن عائذ بن عَبْد بن عمران بن مخزوم.
قال ابن هشام: عائذ بن عمران بن مخزوم، فتناول من الكعبة حجرًا، فوثب من يده، حتى رجع إلى موضعه، فقال: يا معشر قريش، لا تدخلوا في بنائها من كَسْبِكم إلا طَيِّبًا، لا يدخل فيها مَهر بَغِي، ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من الناس، والناس ينحلون هذا الكلام الوليدَ بنَ المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم.
قال ابن إسحاق: وقد حدثني عبد الله بن أبي نجيح المكي أنه حُدِّث عن عبد الله بن صفوان بن أمية بن خلف بن وهب بن حُذافة بن جُمَح بن عمرو بن هُصَيْص بن كعب بن لُؤَي أنه رأى ابنا لجَعْدة بن هُبَيْرة بن أبي وهب بن عَمرو يطوف بالبيت، فسُئل عنه، فقيل: هذا ابن لجَعْدة بن هُبَيْرة، فقال عبد الله بن صفوان عند ذلك: جَدُّ هذا، يعني: أبا وهب الذي أخذ حجرًا من الكعبة حين أجمعت قريش لهدمها، فوثب من يده، حتى رجع إلى موضعه، فقال عند ذلك: يا معشر قريش، لا تُدخلوا في بنائها من كسبكم إلا طيِّبًا. لا تدخلوا فيها مهرَ بغي ولا بيع ربًا، ولا مظلمة أحد من الناس.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وذكر غيره أنه كان علجًا -الكافر من العجم-في السفينة التي قذفتها الريح إلى الشعَيْبة، وأن اسم ذلك النجار: يا قوم، وكذلك روي أيضًا في اسم النجار الذي عمل منبر رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم- من طرفاء الغابة، ولعله أن يكون هذا، فالله أعلم.
2 تتشرق: تبرز للشمس.
3 احزألَّت، أي رفعت ذنبها، وكشَّت، أي: صوتت.

 

ج / 1 ص -180-     شعر في أبي وهب: قال ابن إسحاق: وأبو وهب: خال أبي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان شريفًا، وله يقول شاعر من العرب:

ولو بأبي وِهبٍ أنختُ مَطيِتي                   غَدَتْ من نَدَاه رحلُها غيرَ خائبِ

بأبيضَ من فرْعَىْ لؤيِّ بن غالب               إذا حُصِّلت أنسابُها في الذوائبِ

أبيٍّ لأخذ الضيم يرتاحُ للنَّدَى                   توسَّطَ جَدَّاه فروعَ الأطايبِ

عظيم رَمادِ القِدْرِ يملأ جفانَه                   من الخبزِ يعلوهنَّ مثلُ السبائبِ

نصيب قبائل قريش في تجزئة الكعبة: ثم إن قريشًا تجزأت الكعبة، فكان شِقُّ الباب لبني عبد مناف وزُهرة، وكان ما بين الركن الأسود والركن اليماني لبني مخزوم، وقبائل من قريش انضموا إليهم، وكان ظهر الكعبة لبني جُمح وسَهْم، ابنيْ عمرو بن هُصَيْص بن كعب بن لؤي، وكان شِقُّ الحِجْر لبني عبد الدار بن قُصَي، ولبني أسد بن عبد العُزَّى بن قُصي، ولبني عَدِي بن كعب بن لُؤَي وهو الحَطيم.
الوليد بن المغيرة يبدأ بهدم الكعبة: ثم إن الناس هابوا هدمها وفَرِقُوا منه. فقال الوليدُ بن المغيرة: أنا أبدؤكم في هدمها، فأخذ المِعْوَلَ، ثم قام عليها، وهو يقول: اللهم لم ترَعْ1 - قال ابن هشام: ويقال: لم نزغ– اللهم إنا لا نريدُ إلا الخيرَ، ثم هدم من ناحية الركنين، فتربص الناسُ تلك الليلة، وقالوا: ننظر، فإن أصيب لم نهدم منها شيئًا ورددناها كما كانت، وإن لم يصبه شيء، فقد رضي اللهُ صنعَنا، فهدمنا!! فأصبح الوليد من ليلته غاديًا على عمله، فهدم وهدم الناس معه، حتى إذا انتهى الهدم بهم إلى الأساس، أساسِ إبراهيِم عليه السلام، أفضوا إلى حجارةٍ خُضْر كالأسْنمةٍ2 آخذٍ بعضُها بعضًا:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 اللهم لم تُرَعْ، وهي كلمة تقال عند تسكين الرَّوع، وإظهار اللين والبر في القول، ولا روع في هذا الموطن فيُنْفى، ولكن الكلمة تقتضي إظهار قصد البر؛ فلذلك تكلموا بها، وعلى هذا يجوز التكلم بها في الإسلام، وإن كان فيها ذكر الرَّوع الذي هو محال في حق الباري تعالى، ولكن لما كان المقصود ما ذكرنا، جاز النطق بها.
2 وليست هذه رواية السيرة الأصلية: إنما الصحيح في الكتاب: كالأسنة وهو وهم من بعض النقلة عن ابن إسحاق واللّه أعلم؛ فإنه لا يوجد في غير هذا الكتاب بهذا اللفظ لا عند الواقدي ولا غيره، وقد ذكر البخاري في بنيان الكعبة هذا الخبر، فقال فيه عن يزيد بن رومان: فنظرت إليها، فإذا هي كأسنمة الإبل، وتشبيهها بالأسنة لا يشبه إلا في الزرقة وتشبيهها بأسنمة الإبل أولى لعظمها.

 

ج / 1 ص -181-     امتناع قريش عن هدم الأساس وسببه: قال ابن إسحاق: فحدثني بعض من يروي الحديثَ: أن رجلا من قريش، ممن كان يهدمها، أدخل عتلة بين حَجرين منها ليقلعَ بها أحدَهما، فلما تحرك الحجرُ تنقَّضت مكةُ بأسْرِها، فانتهوا عن ذلك الأساس.
الكتاب الذي وُجد في الركن: قال ابن إسحاق: وحُدثت أن قريشًا وجدوا في الركن كتابًا بالسريانية، فلم يدروا ما هو، حتى قرأه لهم رجلٌ من يهودَ، فإذا هو: "أنا اللّهُ ذو بكةَ، خلقتها يومَ خلقتُ السمواتِ والأرضَ، وصورتُ الشمسَ والقمرَ، وحففتها بسبعةِ أملاكٍ حُنفاء، لا تزول حتى يزولَ أخشباها، مُبَارك لأهلها في الماءِ و اللبن"1.
قال ابن هشام: أخشباها: جبلاها.
الكتاب الذي وجد في المقام: قال ابن إسحاق: وحُدثت أنهم وجدوا في المقام كتابًا فيه: "مكةُ بيت اللّه الحرام يأتيها رزقُها من ثلاثةِ سُبلٍ، لا يحلُّها أولُ مِنْ أهلِها"2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 روى مَعمَرُ بن راشد في الجامع عن الزهري أنه قال: بلغني أن قريشًا حين بَنوْا الكعبة، وجدوا فيها حجرًا، وفيه ثلاث صُفُوح، في الصفح الأول: "أنا اللّه ذو بكة صغتها يوم صغت الشمس والقمر.."، إلى آخر كلام ابن إسحاق، وفي الصفح الثاني: "أنا اللّه ذو بكة، خلقت الرحم، واشتققت لها اسْمًا من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها بتَتُّه"، وفي الصفح الثالث: "أنا الله ذو بكة، خلقت الخير والشر، فطوبى لمن كان الخير على يديه، وويل لمن كان الشر على يديه".
2 لا يُحلّها أولُ من أهلها، يريد -واللّه أعلم- ما كان من استحلال قريش القتال فيها أيام ابن الزبير، وحُصَيْنِ بن نُمَيْر، ثم الحجاج بعده، ولذلك قال ابن أبي ربيعة:

ألا مَن لقلب مُعَنى غَزِلْ                        بِحُبِّ المُحِلَّة أخت المُحِلّ

يعنى بالمحل: عبد اللّه بن الزبير، لقتاله في الحرم.

 

ج / 1 ص -182-     حجر الكعبة المكتوب عليه العظة: قال ابن إسحاق: وزعم ليث بن أبي سُلَيْم أنهم وجدوا حجرًا في الكعبة قبل مَبْعثِ النبي -صلى الله عليه وسلم- بأربعين سنةً إن كان ما ذُكر حقًّا، مكتوبًا فيه: "من يزرع خيرًا، يحصد غبطةً، ومن يزرع شرًّا، يحصد ندامة، تعملون السيئاتِ، وتُجزَوْن الحسنات؟! أجل، كما لا يُجتنى من الشوك العنب".
الاختلاف بين قريش في وضع الحجر: قال ابن إسحاق: ثم إن القبائل من قريش جمعت الحجارة لبنائها، كل قبيلة تجمع على حِدَةٍ، ثم بَنَوْها، حتى بلغ البنيانُ موضعَ الركن، فاختصموا فيه، كل قبيلة تريد أن ترفعَه إلى موضعِه دون الأخرى، حتى تحاوروا وتحالفوا؛ وأعدُّوا للقتال.
لعقَة الدم: فقرَّبتْ بنو عبد الدار جَفْنة مملوءة دمًا؛ ثم تعاقدوا هم وبنو عَدي بن كعب بن لُؤَي على الموت، وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في تلك الجَفْنة، فسُمُّوا: لَعَقَةَ الدم، فمكثت قريش على ذلك أربعَ ليالٍ أو خمسًا، ثم إنهم اجتمعوا في المسجدِ، وتشاوروا وتناصفوا.
أبو أمية بن المغيرة يجد حلا: فزعم بعضُ أهل الرواية: أن أبا أميَّة بن المغيرة بن عبد الله بن عُمر بن مخزوم، وكان عَامئذٍ أسنَّ قريش كلِّها، قال: يا معشر قريش، اجعلوا بينكم -فيما تختلفون فيه- أولَ من يدخل من باب هذا المسجد يقضى بينكم فيه ففعلوا.
الرسول -صلى الله عليه وسلم- يضع الحجر: فكان أولَ داخل عليهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فلما رَأوْه قالوا: هذا الأمين، رَضِينا، هذا محمدٌ، فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبرَ قال -صلى الله عليه وسلم: "هَلُمّ إليَّ ثوبًا"، فأتي به، فأخذ الركنَ فوضعه فيه بيده، ثم قال: "لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوْب، ثم ارفعوه جميعًا"، ففعلوا: حتى إذا بلغوا به موضعه، وضعه هو بيده، ثم بنى عليه1.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وذكر غيره أن إبليس كان معهم في صورة شيخ نجدي، وأنه صاح بأعلى صوته: يا معشر قريش: أرضيتم أن يضع هذا الركن -وهو شرفكم- غلام يتيم دون ذوي أسنانكم؟ فكاد يثير شرًّا فيما بينهم، ثم سكَنوا ذلك. وأما وضع الركن حين بُنيت الكعبة في أيام ابن الزبير، فوضعه في الموضع الذي هو فيه الآن حمزة بن عبد اللّه بن الزبير، وأبوه يصلي بالناس في المسجد اغتنم شغل الناس عنه بالصلاة لما أحسَّ منهم التنافس في ذلك وخاف الخلاف، فأقره أبوه.

 

ج / 1 ص -183-     وكانت قريش تُسمِّي رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قبل أن ينزل عليه الوحي: الأمين.
شعر الزبير في الحية التي كانت تمنع قريش من بنيان الكعبة: فلما فرغوا من البنيان، وبَنَوْها على ما أرادوا، قال الزبيرُ بن عبد المطلب، فيما كان من أمر الحية التي كانت قريش تهاب بنيانَ الكعبة لها:

عَجِبْتُ لِمَا تصَوَّبتِ العقاب                      إلى الثعبانِ وهْيَ لها اضطرابُ

وقد كانت يكون لها كشيش                    وأحيانًا يكونُ لها وِثابُ

إذا قُمنا إلى التأسيسِ شدت                  تُهيِّبنا البناءَ وقد تُهابُ

فلما أن خَشينا الرِّجزَ جاءت                    عقابُ تَتْلَئِبُّ لها انصبابُ1

فضمَّتها إليها ثم خلت                           لنا البنيانَ ليس له حجابُ

فقمنا حاشدين إلى بناء                        لنا منه القواعدُ والترابُ

غَداةَ نُرَفِّع التأسيسَ منه                       وليس على مُسَوِّينا ثيابُ2

أعزَّ به المليكُ بني لؤي                         فليس لأصلِه منهم ذهابُ

وقد حَشَدَتْ هناك بنوعدى                     ومُرة قد تقدَّمها كلابُ

فَبَوَّأنا المليكُ بذاكَ عزًا                           وعندَ اللهِ يُلتَمس الثوابُ


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تَتْلَئِبُّ، يقال: اتلأبَّ على طريقه إذا لم يُعَرج يَمْنَة ولا يَسْرة، وكأنه منحوت من أصلين من تلا: إذ اتبع، وألَبَ: إذا أقام.
2 أي: مُسَوي البنيان. وهو في معنى الحديث الصحيح في نقلانهم الحجارة إلى الكعبة أنهم كانوا ينقلونها عراة، ويرون ذلك دِينًا، وأنه من باب التشمير والجد في الطاعة.

 

ج / 1 ص -184-     قال ابن هشام: ويروى:

وليس على مَساوِينا ثياب1

ارتفاع الكعبة وكسوتها: وكانت الكعبةُ على عهد رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ثماني عَشرةَ ذِراعًا، وكانت تُكْسى القِباطيَّ، ثم كُسيت البرودَ، وأولُ من كساها الديباج: الحجاجُ بن يوسف.
حديث الحُمس:
قريش تبتدع الحُمس: قال ابن إسحاق: وقد كانت قريش -لا أدري أقبل الفيل أم بعده- ابتدعت رأي الْحُمْس2 رأيًّا رأوه وأداروه فقالوا: نحن بنو إبراهيم، وأهل الحُرمة، ووُلاة البيت، وقُطَّان مكة وساكنُها، فليس لأحد من العرب مثلُ حقِّنا، ولا مثلُ منزلتنا، ولا تعرفُ له العرب مثلَ ما تعرِفُ لنا، فلا تعظِّموا شيئًا من الحِلِّ كما تُعظمون الحرمَ، فإنكم إن فعلتم ذلك استخفَّت العربُ بحُرمتِكم، وقالوا: قد عظموا من الحل مثل ما عظموا من الحرم، فتركوا الوقوف على عرفة، والإفاضة منها، وهم يعرفون ويقرون أنها من المشاعر والحج ودين إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- ويَرَوْن لسائر العرب أن يفيضوا منها، إلا أنهم قالوا: نحن أهلُ الحرم فليس ينبغي لنا أن نخرجَ من الحرمة، ولا نعظم غيرَها، كما نعظمها نحن الحُمْس، والحمس: أهل الحرم، ثم جعلوا لمن ولدوا من العرب من ساكن الحل والحرم مثل الذي لهم، بولادتهم إياهم، يحل لهم ما يحل لهم، ويَحرُم عليهم ما يَحرُم عليهم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وقول ابن هشام: ويروى: على مَساوِينا، يريد السوءات، فهو جمع مساءة، مفعلة من السَّوءة والأصل مساوئ، فسهلت الهمزة.
2 والتحمس: التشدد، وكانوا قد ذهبوا في ذلك مذهب التزهد والتأله، فكانت نساؤهم لا ينسجن الشَعْر ولا الوبر، وكانوا لا يَسْلَئون السمن، وسلأ السمن أن يُطْبخ الزبد، حتى يصير سمنا، قال أبرهة:

إن لنا صْرمَةً مُخَيَّسَةَ                          نشرب ألبانها ونسلؤها

 

ج / 1 ص -185-     القبائل التي آمنت مع قريش بالْحُمْس: وكانت كِنانة وخُزَاعة قد دخلوا معهم في ذلك.
قال ابن هشام: وحدثني أبو عُبَيْدة النحوي: أن بني عامر بن صعصَعة بن معاوية بن بكر بن هَوازن دخلوا معهم في ذلك، وأنشدني لعَمْرو بن مَعْدِ يكَرِب:

أعباسُ لو كَانتْ شِيَارًا جيادُنا               بتثليثِ ما ناصَيْتَ بعدي الأحامِسا

قال ابن هشام: تثليث: موضع من بلادهم. والشِّيَار: الحسان. يعني بالأحامس: بني عامر بن صَعْصَعة. وبعباس: عباس بن مِرْداس السُّلَميّ، وكان أغار على بنى زُبَيْد بتثليث. وهذا البيت في قصيدة لعمرو. وأنشدني للَقِيط بن زُرارة الدَّارَمِي في يوم جَبَلة1:

أجْذِمْ إليك إنها بنو عَبْس               المعْشَرُ الحِلَّةُ في القَوْمِ الحُمْس2

لأن بني عَبْس كانوا يوم جَبَلة حلفاء في بني عامر بن صصَعة.
يوم جبلة: ويومُ جَبَلة: يوم كان بين بني حَنْظلة بن مالك بن زَيد مناة بن تميم، وبين بني عامر بن صصَعة، فكان الظَّفَر فيه لبني عامر بن صعصعة على بني حَنْظلة، وقُتل يومئذ لَقِيطُ بن زُرارة بن عُدُس، وأسر حاجبُ بن زُرارة بن عُدُس3، وانهزم عَمرو بن عمرو بن عُدُس بن زيد بن عبد الله بن دارم بن مالك بن حنظلة. ففيه يقول جرير للفرزدق:

كأنك لم تشهدْ لَقيطًا وحاجبًا               وعَمرو بنَ عَمروٍ إذا دَعَوْا: يا لَدَارِمِ

وهذا البيت في قصيدة له.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وجبلة هضبة عالية، كانوا قد أحرزوا فيها عيالهم وأموالهم، وكان معهم في ذلك اليوم رئيس نجران، وهو ابن الجَونِ الكندي، وأخ للنعمان بن المنذر، واسمه: حسان بن وبرة، وهو أخو النعمان لأمه، وفي أيام جبلة كان مولد رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم.
2 أجذِم: زَجرٌ معروف للخيل وكذلك: أرحب، وهَبْ وهِقِط وهِقَط وهِقَبْ.
3 هو: عُدُس بضم الدال عند جميعهم إلا أبا عُبَيدة، فإنه كان يفتح الدال منه، وكل عَدَس في العرب سواه فإنه مفتوح الدال.

 

ج / 1 ص -186-     يوم ذي نَجَب: ثم التَقوا يومَ ذي نَجَب فكان الظَّفر لحنظلة على بني عامر، وقُتل يومئذٍ حسانُ بن معاوية الكِنْديُّ وهو أبو كَبْشة. وأسر يزيد بن الصَّعِق الكلابي وانهزم الطُّفيْل بن مالك بن جعفر بن كلاب، أبو عامر بن الطفَيْل. ففيه يقول الفرزدق:

ومنهنَّ إذ نجَّى طُفَيل بن مالك                على قُرْزُل رَجْلا ركوضَ الهزائم1

ونحن ضربنا هامةَ ابنِ خُوَيْلدٍ                  نزيدُ على أم الفِراخ الجواثم2

وهذان البيتان في قصيدة له.
فقال جرير:

ونحن خَضَبْنا لابنِ كبشةَ تاجَه           ولاقى امرءًا في ضَمةِ الخيلِ مِصقَعَا3

وهذا البيت في قصيدة له.
وحديث يوم جَبَلة، ويوم ذي نَجَب أطولُ مما ذكرنا. وإنما منعني من استقصائه ما ذكرت في حديث يومِ الفِجَار.
ما زادته قريش في الحُمْس: قال ابن إسحاق: ثم ابتدعوا في ذلك أمورًا لم تكن لهم، حتى قالوا: لا ينبغي للحُمْس أن يأتَقِطوا الأقِط، ولا يَسْلَئُوا السمنَ وهم حُرم، ولا يدخلوا بيتًا من شعر، ولا يستظلوا-إن استظلوا- إلا في بيوت الأدَم ما كانوا حُرُمًا، ثم رفعوا في ذلك، فقالوا: لا ينبغي لأهل الحِلِّ أن يأكلوا من طعام جاءوا به معهم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قُرْزُل: اسم فرسه، وكان طُفَيل يسمى: فارس قُرْزل، وقرزل: القيد سمي الفرس به، كأنه يقيِّد ما يسابقه كما قال امرؤ القيس:
بمنجرد قيد الأوابد هيكل
2 على أم الفراخ الجواثم. يعني: الهامة، وهي البرم، وكانوا يعتقدون أن الرجل إذا قُتل خرجت من رأسه هامة تصيح: اسقوني، اسقوني، حتى يؤخذ بثأره. قال ذو الإصبع العدواني:

أضْرِبكَ حتى تقولَ الهامةُ اسقوني

3 المعروف في اللغة أن المِصْقَع: الخطيب البليغ، وليس هذا موضعه، لكن يقال في اللغة: صقعه: إذا ضربه على شيء مُصْمت يابس، قاله الأصمعي.

 

ج / 1 ص -187-     من الحِلِّ إلى الحَرم إذا جاءوا حُجاجًا أو عُمَّارًا، ولا يطوفون بالبيت إذا قَدِموا أولَ طوافهمِ إلا في ثياب الحُمْس. فإن لم يجدوا منها شيئًا طافوا بالبيت عُراةَ.
اللَّقىَ عند الحمس: فإن تكرَّمنهم متُكرِّم من رجل أو امرأة، ولم يجدوا ثياب الحمس؛ فطاف في ثيابه التي جاء بها من الحِل، ألقاها إذا فرغِ من طوافه، ثم لم ينتفعْ بها، ولم يَمَسَّها هو، ولا أحدٌ غيرُه أبدا.
وكانت العرب تُسمى تلك الثياب: اللَّقَى، فحملوا على ذلك العربَ.
فدانت به، ووقفوا على عرفات، وأفاضوا منها، وطافوا بالبيت عُراةً، أما الرجال فيطوفون عراة، وأما النساء فتضع إحْدَاهن ثيابَها كلَّها إلا درعًا مُفَرَّجًا عليها، ثم تطوف فيه، فقالت امرأة من العرب1، وهى كذلك تطوف بالبيت:

اليومَ يَبْدو بَعْضُهُ، أو كله                              وما بدا منه فلا أحِلُّه

ومن طاف منهم في ثيابه التي جاء فيها من الحل ألقاها؛ فلم ينتفع بها هو ولا غيره. فقال قائل من العرب يذكر شيئًا تركه من ثيابه، فلا يقربه، وهو يحبه:

كفى حَزَنًا كَرِّي عليها كأنها                   لقى بين أيدي الطائفين حَريمُ

يقول: لا تمس2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذه المرأة هي: ضُبَاعة بنت عامر بن صعصعة، ثم من بني سلمة بن قُشَيْر. وذكر محمد بن حبيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبها، فذُكرت له عنها كبرة، فتركها، فقيل: إنها ماتت كمدًا وحُزنًا على ذلك. قال ابن حبيب: إن كان صح هذا، فلما أخرها عن أن تكون أمًّا للمؤمنين، وزوجًا لرسول رب العالمين إلا قولها: اليوم يبدو بعضُه أو كلُّه، تَكرِمة من الله لنبيه وعِلمًا منه بغَيْرته، والله أغير منه.
2 ومن اللَّقَى: حديث فاختة أم حكيم بن حزام، وكانت دخلت الكعبة وهي حامل مُتِمُّ بحكيم بن حزام، فأجاءها المخاض، فلم تستطع الخروج من الكعبة، فوضعته فيها، فلُفَّت في الأنطاع هي وجنينها، وطرح مثبرها وثيابها التي كانت عليها، فجعلت لقَى لا تُقرب.
ولم يذكر الطَّلْس من العرب، وهم صنف ثالث غير الحلة والحمس، كانوا يأتون من أقصى اليمن طُلْسًا من الغبار، فيطوفون بالبيت في تلك الثياب الطُّلْس، فسُموا بذلك. ذكره محمد بن حبيب.

 

ج / 1 ص -188-     الإسلام يبطل عادات الحمس: فكانوا كذلك حتى بعث الله تعالى محمدًا صلى الله عليه وسلم فأنزل عليه حين أحكم له دينه، وشرع له سنن حجه: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 199] يعني قريشًا، والناس: العرب، فرفعهم في سنة الحج إلى عرفات والوقوف عليها والإفاضة منها.
وأنزل اللّه عليه فيما كانوا حرَّموا على الناس من طعامهم ولبوسهم عند البيت، حين طافوا عُراةً، وحرَّموا ما جاءوا به من الحل من الطعام:
{يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ، قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 31، 32]1، فوضع اللّه تعالى أمر الحُمْس، وما كانت قريش ابتدعت منه، عن الناس بالإسلام، حين بعث اللّه به رسولَه صلى الله عليه وسلم.
الرسول صلى الله عليه وسلم يخالف الحمْس قبل الرسالة: قال ابن إسحاق: حدثني عبد اللّه بن أبى بكر بن محمد بن عَمرو بن حَزْم، عن عثمان بن أبي سليمان بن جُبَيْر بن مُطْعِم، عن عمه نافع بن جبير عن أبيه جُبير بن مُطْعم. قال: لقد رأيتُ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قبل أن ينزل عليه الوحي، وإنه لواقف على بعير له بعرفات مع الناس من بين قومه حتى يدفعَ معهم منها توفيقًا من اللّه له، صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قوله: وكلوا واشربوا إشارة إلى ما كانت الحمس حرمته من طعام الحج إلا طعام أحمس، وخذوا زينتكم: يعني اللباس، ولا تتعروا، ولذلك افتتح بقوله:
{يَا بَنِي آدَم}، بعد أن قص خبر آدم وزوجه. إذ يخصفان عليهما من ورق الجنة، أي: إن كنتم تحتجون بأنه دين آبائكم، فآدم أبوكم، ودينه: ستر العورة.
2 حتى لا يفوته ثوابَ الحج، والوقوف بعرفة. قال جُبَيْر بن مُطْعم حين رآه واقفًا بعرفة مع الناس: هذا رجل أحمس، فما باله لا يقف مع الحمس حيث يقفون؟

 

ج / 1 ص -189-     إخبار الكهان من العرب، والأحبار من يهود والرهبان من النصارى:
الكهان والأحبار والرهبان يتحدثون بمبعثه: قال ابن إسحاق: وكانت الأحبار من يهود، والرهبان من النصارى، والكهان من العرب، قد تحدثوا بأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبلَ مبعثه، لما تقاربَ من زمانه.
أما الأحبارُ من يهودَ، والرهبان من النصارى، فعمَّا وجدوا في كتبهم من صفته وصفة زمانه، وما كان من عهد أنبيائهم إليهم فيه. وأما الكهانُ من العرب: فأتتهم به الشياطين من الجنِّ فيما تسترق من السمع إذ كانت هي لا تُحجب عن ذلك بالقذف بالنجوم، وكان الكاهن والكاهنة لا يزال يقع منهما ذكرُ بعضِ أمورِه، لا تلقى العرب لذلك فيه بالًا، حتى بعثه اللّه تعالى، ووقعت تلك الأمور التي كانوا يذكرون؛ فعرفوها.
قذف الجن بالشُّهُب دلالةً على مبعثه صلى الله عليه وسلم: فلما تقارب أمرُ رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم- وحضر مبعثُه، حُجبت الشياطين عن السمع، وحيل بينَها وبين المقاعد التي كانت تقْعدُ لاستراقِ السمع فيها فرُموا بالنجوم، فعرفت الجنُّ أن ذلك لأمر حدث من أمر اللّه في العباد1 يقول الله تبارك وتعالى لنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- حين بعثه، وهو يقص عليه خبرَ الجنِّ إذ حُجبوا عن السمع، فعَرفوا ما عَرَفوا، وما أنكروا من ذلك حين رَأوْا ما رَأوْا:
{قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ2 فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رُوي في مأثور الأخبار أن إبليس كان يخترق السموات قبل عيسى، فلما بُعث عيسى، أو وُلد، حجب عن ثلاث سموات، فلما وُلد محمد حجب عنها كلها، وقذفت الشياطين بالنجوم، وقالت قريش حين كثر القذف بالنجوم: قامت الساعة، فقال عتبة بن ربيعة: انظروا إلى العيوق فإن كان رُمي به، فقد آن قيام الساعة، وإلا فلا، وممن ذكر هذا الخبر الزبير بن أبي بكر.
2 وفي الحديث أنهم كانوا من جن نصيبين. وفي التفسير أنهم كانوا يهودًا؛ ولذلك قالوا: من بعد موسى، ولم يقولوا من بعد عيسى، ذكره ابن سلام. وكانوا سبعة قد ذكروا بأسمائهم في التفاسير والمسندات، وهم: شاصر، وماصر، ومنشي، ولاشى والأحقاب، وهؤلاء الخمسة ذكرهم ابن دريد ومسروق وعمرو.

 

ج / 1 ص -190-     عَجَبًا، يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا، وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا، وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا، وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا، وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن: 1-6] إلى قوله: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا، وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن: 9، 10].
فلما سمعت الجنُّ القرآنَ عَرفتْ أنها إنما مُنعت من السمع قبل ذلك؛ لئلا يُشْكل الوحيُ بشيء من خبر السماء، فيلتبس على أهل الأرض ما جاءهم من اللّه فيه، لوقوع الحجَّة، وقطْع الشُّبْهة1. فآمنوا وصدقوا، ثم:
{وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ، قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأحقاف: 29، 30] الآيات.
وكان قولُ الجن:
{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن: 6] أنه كان الرجل من العرب من قريش وغيرهم إذا سافر فنزل فيَ وادٍ من الأرض ليبيتَ فيه، قال: إني أعوذُ بعزيزِ هذا الوادي من الجنِّ الليلةَ من شرِّ ما فيه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الذي يظهر من كلامه أن القذف بالنجوم -وجد بظهور الإسلام، لكن القذف بالنجوم قد كان قديمًا، وذلك موجود في أشعار القدماء من الجاهلية. منهم: عوف بن الجزع، وأوس بن حجر، وبشر بن أبي حازم، وكلهم جاهلي، وقد وصفوا الرمي بالنجوم، وأبياتهم في ذلك مذكورة في مشكل ابن قتيبة في سورة الجن، وذكر عبد الرزَّاق في تفسيره عن معمر عن ابن شهاب أنه سُئل عن هذا الرمي بالنجوم: أكان في الجاهلية؟ قال: نعم، ولكنه إذا جاء الإسلام غلظ وشدد، وفي قول الله سبحانه:
{وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا} [الجن: 8] ولم يقل: حُرست دليل على أنه قد كان منه شيء، فلما بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- ملئت حرسًا شديدًا وشهبًا، وذلك لينحسم أمر الشياطين، وتخليطهم، ولتكون الآية أبين، والحجة أقطع.

 

ج / 1 ص -191-     قال ابن هشام: الرَّهَق: الطغيان والسَّفَه. قال رُؤبة بن العَجَّاج:

إذ تَسْتَبي الهيَّامة المُرَهَّقَا

وهذا البيت في أرجوزة له. والرَّهق أيضًا: طلبك الشيء حتى تدنوَ منه، أو لا تأخذه. قال رُوُبة بن العَجَّاج يصف حمير وحش:

بَصْبَصْنَ واقْشَعرَرْنَ من خَوف الرَّهَقْ

وهذا البيت في أرجوزة له. والرَّهق أيضًا: مصدرٌ لقول الرجل: رَهِقْتُ الإِثم أو العُسْر الذي أرهقتني رهقًا شديدًا؛ أي: حملتُ الإِثم أو العُسر الذي حملني حملًا شديدًا، وفي كتاب اللّه تعالى: {فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا} [الكهف: 80] وقوله: {وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} [الكهف: 73].
ثقيف أول من فَزعت برمي الجن: قال ابن إسحاق: وحدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس أنه حُدِّث أن أولَ العرب فَزِع للرمي بالنجوم -حين رُمي بها- هذا الحي من ثقيف، وأنهم جاءوا إلى رجل منهم يقال له: عَمرو بن أمية أحد بني عِلاَج -قال: وكان أدهى العرب وأنكرها رأيًا- فقالوا له: يا عَمرو، ألم ترَ ما حدث في السماءِ من القذف بهذه النجوم. قال: بَلَى، فانظروا، فإن كانت معالم النجوم التي يُهْتَدى بها في البرِّ والبحر، وتعرَف بها الأنواءُ من الصيف والشتاء لما يُصلح الناسَ في معايشهم، هى التي يُرْمَى بها، فهو واللّه طيُّ الدنيا، وهلاكُ هذا الخلق الذي فيها، وإن كانت نجومًا غيرَها، وهى ثابتة على حالها، فهذا لأمر أراد اللّه به هذا الخلق، فما هو1؟
الرسول يسأل الأنصار عن قولهم في رجم الجن بالشهب وتوضيحه للأمر:
قال ابن إسحاق: وذكر محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن علي بن الحُسين بن علي بن أبى طالب، عن عبد اللّه بن العباس، عن نفر من الأنصار: أن رسولَ اللّه -صلى الله عليه وسلم- قال لهم:
"ماذا كنتم تقولون في هذا النَّجْم الذي يُرْمَى به؟" قالوا: يا نبي اللّه كنا نقول حين رأيناها يُرْمَى بها: مات مَلِكٌ، مُلّك مَلِك، وُلد مولود، مات مولود،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وقد فعل ما فعلت ثقيف بنو لهب عند فزعهم الرَّمْي بالنجوم، فاجتمعوا إلى كاهن لهم يقال له: خطر، فبين لهم الخبر، وما حدث من أمر النبوة.

 

ج / 1 ص -192-     فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ليس ذلك كذلك، ولكن الله تبارك وتعالى كان إذا قَضى في خلقِه أمرًا سَمِعه حملة العرش، فسبَّحوا، فسبَّح مَنْ تَحتَهم، فسبح لتسبيحِهم مَن تحتَ ذلك، فلا يزال التسبيح يهبطُ حتى ينتهىَ إلى السماء الدنيا، فيسبحوا، ثم يقول بعضُهم لبعض: مِمَّ سبحتم؟ فيقولون: سَبَّحَ مَن فوقنا فسبحنا لتسبيحهم، فيقولون: ألا تسألون مَنْ فوقَكم: مِمَّ سبحوا؟ فيقولون مثل ذلك، حتى ينتهوا إلى حملةِ العرشِ، فيُقال لهم: مِمَّ سبحتم؟ فيقولون: قضى اللهُ في خلقه كذا وكذا، للأمرِ الذي كان، فيهبط به الخبرُ من سماءٍ إلى سماء حتى ينتهي إلى السماءِ الدنيا، فيتحدثوا به، فتسترقه الشياطينُ بالسمع، على توهّم واختلاف، ثم يأتوا به الكهان من أهلِ الأرض فيحدثوهم به.. فيخطئون ويصيبون، فيتحدث به الكهان فيصيبون بعضًا ويخطئون بعضًا. ثم إن الله عز وجل حجب الشياطين بهذه النجوم التي يُقْذَفون بها، فانقطعت الكهانةُ اليومَ فلا كهانةَ"1.
قال ابن إسحاق: وحدثني عَمرو بن أبي جعفر، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبى لَبيبة، عن علي بن الحُسين بن علي -رضى الله عنهم- بمثل حديث ابن شهاب عنه.
الغيطَلة وصاحبها: قال ابن إسحاق: وحدثني بعضُ أهل العلم: أن امرأةً من بني سَهْم يقال لها الغَيْطَلة كانت كاهنة في الجاهلية، فلما جاءها صاحبُها فِي ليلة من الليالي، فأنْقَض تحتها، ثم قال: أدْرِ ما أدْرِ. يوم عَقْر ونحْر، فقالت قريش حين بلغها ذلك: ما يريد؟ ثم جاءها ليلةً أخرى، فأنْقَض تحتها، ثم قال: شُعوب، ما شُعوب؛ تُصْرَع فيه كَعْب لجُنوب. فلما بلغ ذلك قريشًا، قالوا: ماذا يريد؟ إن هذا لأمر هو كائن، فانظروا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 والذي انقطع اليوم، وإلى يوم القيامة، أن ندرك الشياطين ما كانت تدركه في الجاهلية الجهْلاء، وعند تمكنها من سماع أخبار السماء، وما يوجد من كلام الجن على ألسنة المجانين إنما هو خبر منهم عما يروْنه في الأرض، مما لا نراه نحن كسرقة سارق، أو خبئية في مكان خفي، أو نحو ذلك، وإن أخبروا بما سيكون كان تخرصًا وتظنيًا، فيصيبون قليلًا، ويخطئون كثيرًا. وذلك القليل الذي يصيبون هو مما تتكلم به الملائكة في العَنان، كما في حديث البخاري: "فيطردون بالنجوم، فيضيفون إلى الكلمة الواحدة أكثر من مائة كذبة".

 

ج / 1 ص -193-     ما هو؟ فما عرفوه حتى كانت وقعة بدر وأحد بالشِّعْب، فعرفوا أنه الذي كان جاء به إلى صاحبته.
نسب الغيطلة: قال ابن هشام: الغَيْطلة من بني مُرة بن عبد مُناة بن كنانة، إخوة مُدْلج بن مُرة1 وهي أم الغياطل الذين ذكر أبو طالب في قوله:

لقد سَفُهَت أحلامُ قوم تبدَّلوا                    بني خَلَفٍ قَيْضًا بنا والغياطل

فقيل لولدها: وهم من بني سهم بن عمرو بن هُصَيْص. وهذا البيت في قصيدة له، سأذكرها في موضعها -إن شاء الله تعالى.
كاهن جَنْب يذكر خبر الرسول -صلى الله عليه وسلم: قال ابن إسحاق: وحدثني علي بن نافع الجُرَشيُّ: أن جَنْبًا2 بطنًا من اليمن، كان لهم كاهن في الجاهلية، فلما ذُكر أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وانتشر في العرب، قالت له جَنْب: انظر لنا في أمر هذا الرجل، واجتمعوا له في أسفل جبله فنزل عليهم حين طلعت الشمس، فوقف لهم قائمًا متكئًا على قوس له، فرفع رأسه إلى السماء طويلًا، ثم جعل ينزو، ثم قال أيها الناس، إن الله أكرم محمدًا واصطفاه، وطهَّر قلبَه وحشاه، ومُكثه فيكم أيها الناس قليل، ثم اشتد في جبله راجعًا من حيث جاء.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يقال في نسبها: الغيطلة بنت مالك بن الحارث بن عمرو بن الصَّعِق بن شنوق بن مرة وشنوق أخو مدلج، وهكذا ذكر نسبها الزبير.
وذكر قولها: شُعُوب وما شعوب، تُصرَع فيها كَعب لجُنُوب. كعب ههنا هو: كعب بن لؤي، والذي صرعوا لجنوبهم ببدر وأحد من أشراف قريش، معظمهم من كعب بن لؤي، وشُعوب ههنا بضم الشين، ولم أجده مقيدًا، وكأنه جمع شعب، وقول ابن إسحاق يدل على هذا حين قال: فلم يُدْرَ ما قالت، حتى قتل من قُتل ببدر وأحد بالشِّعب.
2 جنب هم من مَذْحِج، وهم: عَيِّذ الله، وأنس الله، وزيد الله، وأوس الله، وجُعْفِي، والحكم، وجِرْوة، بنو سعد العشيرة بن مَذْحج، ومَذْحِج هو: مالك بن أدد، وسموا: جنبًا لأنهم جانبوا بني عمهم صُداء ويزيد ابني سعد العشيرة بن مذحج.

 

ج / 1 ص -194-     سواد بن قارب يحدث عمر بن الخطاب عن صاحبه من الجن: قال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم عن عبد الله بن كعب، مولى عثمانَ بن عفان، أنه حُدِّث: أن عمر بن الخطاب، بينما هو جالس في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ أقبل رجل1 من العرب داخلًا المسجد، يريد عمرَ بنَ الخطاب، فلما نظر إليه عمر -رضي الله عنه- قال: إن هذا الرجل لعلَى شِركه ما فارقه بعدُ، ولقد كان كاهنًا في الجاهلية. فسلَّم عليه الرجل، ثم جلس، فقال له عمر -رضي الله عنه- هل أسلمت؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال له: فهل كُنتَ كاهنًا في الجاهلية؟ فقال الرجل: سبحان الله يا أمير المؤمنين! لقد خِلْتَ فِيّ2، واستقبلتني بأمر ما أراك قلتَه لأحد من رعيتك منذ وليتَ ما وليتَ، فقال عمر: اللهمَّ غُفرًا، قد كنا في الجاهلية على شَرٍّ من هذا، نعبد الأصنامَ، ونعتنق الأوثانَ، حتى أكرمنا الله برسوله وبالإِسلام، قال: نعم، والله يا أمير المؤمنين، لقد كنتُ كاهنًا في الجاهلية، قال: فأخبرْني ما جاءك به صاحبُك، قال: جاءني قبل الإِسلام بشهر أو شَيْعه3، فقال: ألم تر إلى الجن وإبلاسها، وإياسها من دينها، ولحوقها بالقلاص وأحلامها.
قال ابن هشام: هذا الكلام سجع، وليس بشعر.
قال عبد الله بن كعب: فقال عمر بن الخطاب عند ذلك يحدث الناس: والله إني لعند وثن من أوثان الجاهلية في نفر من قريش، قد ذَبح له رجلٌ من العرب عجلًا، فنحن ننتظر قَسْمَه

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو سواد بن قارب الدوسيُّ في قول ابن الكلبي، وقال غيره: هو سدوسي.
2 خِلْت فِيَّ: هو من باب حذف الجملة الواقعة بعد خِلت وظننت، كقولهم في المثل: "من يسمع يَخَل"، ولا يجوز حذف أحد المفعولين مع بقاء الآخر؛ لأن حكمهما حكم الابتداء والخبر، فإذا حذفت الجملة كلها جاز؛ لأن حكمهما حكم المفعول، والمفعول قد يجوز حذفه، ولكن لا بد من قرينة تدل على المراد، ففي قولهم: من "يسمع يَخَل" دليل يدل على المفعول، وهو يسمع، وفي قوله، "خلت في" دليل أيضًا، وهو قوله: فِيَّ، كأنه قال: خلت الشر فيَّ أو نحو هذا. انظر: "الروض الأنف بتحقيقنا ج1 ص242".
3 شَيْعه أي: دونه بقليل، وشيع كل شيء: ما هو تبع له، وهو من الشّياع وهي: حطب صغار تجعل مع الكبار تبعًا لها، ومنه: المُشَيَّعة، وهي: الشاة تتبع الغنم؛ لأنها دونها في القوة.

 

ج / 1 ص -195-     ليقْسِم لنا منه، إذ سمعتُ من جوف العجل صوتًا ما سمعتُ صوتًا قطُّ أنفذ منه، وذلك قُبَيْل الإِسلام بشهر أو شَيْعه، يقول: يا ذَريح1، أمرٌ نجيح، رجلٌ يصيح، يقول: لا إله إلا الله.
قال ابن هشام: ويقال: رجل يصيح، بلسان فصيح يقول: لا إله إلا الله. وأنشدني بعضُ أهل العلم بالشعر:

عجبت للجن وإبلاسها                               وشدها العيس بأحلاسها

تهوى إلى مكة تبغي الهدى                       ما مؤمنو الجن كأنجاسها

قال ابن إسحاق: فهذا ما بلغنا من الكهان العرب.
إنذار يهود برسول الله صلى الله عليه وسلم:
اليهود -لعنهم الله- يعرفونه ويكفرون به: قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن رجال من قومه، قالوا: إن مما دعانا إلى الإِسلام، مع رحمة الله تعالى وهُداه، لما كنا نسمع من رجال يهود، كُنا أهلَ شرك أصحاب أوثان، وكانوا أهل كتاب، عندهم علم ليس لنا، وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور، فإذا نِلْنا منهم بعض ما يكرهون، قالوا لنا: إنه تقارب زمان نبي يُبعث الآن نقتلكم معه قتل عاد وِإرَم، فكنا كثيرًا ما نسمع ذلك منهم.
فلما بعث اللهُ رسولَه -صلى الله عليه وسلم- أجبناه، حين دعانا إلى الله تعالى، وعرفنا ما كانوا يتوعدوننا به فبادرناهم إليه، فآمنا به، وكفروا به، ففينا وفيهم نزل هؤلاء الآيات من البقرة:
{وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة: 89].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ويروي أن الصوت الذي سمعه عمر من العجل: يا جليح وهو اسم شيطان، والجليح في اللغة: ما تطاير من رءوس النبات وخف، نحو القطن وشبهه، والواحدة: جليحة، والذي وقع في السيرة: يا ذريح، وكأنه نداء للعجل المذبوح لقولهم. أحمر ذَرِيحِيّ، أي: شديد الحمرة، فصار وصفًا للعجل الذبيح من أجل الدم: ومن رواه: يا جليح، فماله إلى هذا المعنى؛ لأن العجل قد جُلح أي: كُشف عنه الجلد.

 

ج / 1 ص -196-     قال ابن هشام: يستفتحون: يستنصرون، ويستفتحون أيضًا: يتحاكمون، وفي كتاب الله تعالى: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [الأعراف: 89].
سلَمة يذكر حديثَ اليهودي الذي أنذر بالرسول -صلى الله عليه وسلم: قال ابن إسحاق: وحدثني صالحُ بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عَوْف، عن محمود بن لَبيد أخى بني عبد الأشْهل عن سَلَمة بن سلامة بن وقش1 -وكان سَلَمة من أصحاب بدر- قال: كان لنا جار من يهود في بني عبد الأشْهل، قال: فخرج علينا يومًا من بيته، حتى وقف على بني عبد الأشهل، قال سلمة: وأنا يومئذ أحدث من فيه سنًّا، عليَّ بُردة لي، مضطجع فيها بفناء أهلي، فذكر القيامةَ والبعث والحسابَ والميزان والجنةَ والنار، قال: فقال ذلك لقوم أهل شرك أصحاب أوثان، لا يرَوْن أن بعثًا كائن بعد الموت، فقالوا له: ويحكَ يا فلان!! أوَترى هذا كائنًا، أن الناس يُبْعثون بعدَ موتِهم إلى دار فيها جنة ونار، يجزون فيها بأعمالهم؟ قال: نعم، والذي يحلَف به، ولَوَدَّ أن له بحظِّه من تلك النار أعظمَ تَنور في الدار، يحمونه ثم يُدخلونه إياه فيطينونه عليه، بأن ينجوَ من تلك النار غدًا، فقالوا له: ويحك يا فلان! فما آيةُ ذلك؟ قال: نبي مبعوث من نحو هذه البلاد -وأشار بيده إلى مكة واليمن- فقالوا: ومتى تراه؟ قال: فنظر إليَّ، وأنا من أحدثهم سنًا، فقال: إن يَسْتنفدْ هذا الغلام عمرَه يدركْه قال سلمة: فوالله ما ذهب الليل والنهار حتى بعث اللهُ محمدًا رسوله -صلى الله عليه وسلم- وهو حيٌّ بين أظهرنا، فآمنا به، وكفر به بغيًا وحسدًا. قال: فقلنا له. وَيْحك يا فلانُ!! ألستَ الذي قلتَ لنا فيه ما قلتَ؟ قال: بلى ولكن ليس به.
ابن الهيبان اليهودي يتسبب في إسلام ثعلبة وأسيد ابني سعية وأسد بن عبيد: قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عُمر بن قتادة عن شيخ من بني قريظة قال: قال لي: هل تدري عمَّ كان إسلام ثعلبة بن سَعْية وأسِيد بن سَعْية2 وأسد بن عبيد نفر من بني هَدْل، إخوة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وَقَش: بتحريك القاف وتسكينها، والوقش: الحركة.
2 قال إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف المدني، عن ابن إسحاق، وهو أحد رواة المغازي عنه: أسيد بن سعية بضم الألف، وقال يونس بن بكير عن ابن إسحاق، وهو قول الواقدي وغيره أسيد بفتحها قال: الدارقطني: وهذا هو الصواب، ولا يصح ما قاله إبراهيم عن ابن إسحاق، وبنو سعية هؤلاء فيهم أنزل الله عز وجل:
{مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} [آل عمران: 117] الآية، وسعية أبوهم يقال له: ابن العريض، وهو بالسين المهملة، والياء المنقوطة باثنتين.

 

ج / 1 ص -197-     بني قريظة، كانوا معهم في جاهليتهم ثم كانوا ساداتهم في الإسلام، قال: قلت: لا، قال: فإن رجلًا من يهود من أهل الشام، يقال له: ابن الهيَبان1، قَدِم علينا قُبَيْل الإسلام بسنين، فَحَلَّ بينَ أظهرنا، لا والله ما رأينا رجلًا قط لا يصلي الخمس أفضلَ منه، فأقام عندنا فكنا إذا قحَط عنا المطر قلنا له: اخرج يابن الهيِّبان فاستسق لنا، فيقول: لا والله، حتى تُقدِّموا بين يدَيْ مخرجِكم صدقةً، فنقول له: كم؟ فيقول: صاعًا من تمر، أو مُدَّيْن من شعير. قال: فنخرجها، ثم يخرج بنا إلى ظاهر حَرَّتنا، فيستسقي الله لنا، فوالله ما يبرح مجلسه، حتى تمرَّ السحابةُ ونُسْقَى، قد فعل ذلك غيرَ مرة ولا مرتين ولا ثلاث. قال: ثم حضرته الوفاةُ عندَنا، فلما عَرَف أنه ميِّت، قال: أيا معشر يهود، ما ترونَه أخرجني من أرضِ الخمر والخمير إلى أرض البؤس والجوع؟ قال: قلنا: إنك أعلم، قال: فإني إنما قدمت هذه البلدة أتوكَّف خروج نبي قد أظلَّ زمانه. وهذه البلدة مُهاجَرُه، فكنتُ أرجو أن يُبْعث، فأتبعه، وقد أظلكم زمانه، فلا تُسْبَقُنَّ إليه يا معشر يهود، فإنه يُبعث بسفك الدماء، وسبي الذراري والنساء ممن خالفه، فلا يمنعكم ذلك منه.
فلما بُعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحاصر بني قُرَيْظة، قال هؤلاء الفتية، وكانوا شبابًا أحداثًا: يا بني قريظة، والله إنه للنبي الذي كان عهد إليكم فيه ابن الهيِّبان، قالوا: ليس به، قالوا: بلى والله، إنه لهو بصفته، فنزلوا وأسلموا، وأحرزوا دماءهم وأموالهم وأهليهم. قال ابن إسحاق: فهذا ما بلغنا عن أخبار يهود.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 والهيبان من المسمين بالصفات، يقال: قُطن هَيِّبان أي: منتفش، وأنشد أبو حنيفة الدينوري:

تُطيِر اللغَام الْهَيَّبان كأنه                جَنَى عُشَرٍ تنفيه أشداقها الهُدْل

والْهَيبَان أيضًا: الجبان.

 

ج / 1 ص -198-     حديث إسلام سلمان رضي اللهّ عنه:
سلمان -رضي الله عنه- يتشوَّف إلى النصرانية بعد المجوسية: قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عُمر بن قَتادة الأنصاري، عن محمود بن لَبيد، عن عبد الله بن عباس، قال: حدثني سَلْمان الفارسي من فِيه قال: كنتُ رجلًا فارسيًّا من أهل إصبهان1 من أهل قرية يقال لها: جَيّ، وكان أبي دِهْقَان قريته، وكنتُ أحبَّ خلق الله إليه، لم يزل به حبه إياي حتى حبسني في بيته كما تُحبس الجارية. واجتهدت في المجوسية حتى كنت قَطْنَ النار الذي يوقدها لا يتركها تخبو ساعة. قال: وكانت لأبي ضَيْعة عظيمة، قال: فشُغل في بنيان له يومًا، فقال لي: يا بني، إني قد شُغلت في بنياني هذا اليوم عن ضَيْعتي فأذهب إليها، فاطَّلِعْها -وأمرني فيها ببعض ما يريد- ثم قال لي: ولا تحتبسْ عني؟ فإنك إن احتبست عني كنتَ أهمَّ إليَّ من ضَيْعتي، وشغلْتني عن كل شيء من أمري. قال: فخرجت أريد ضَيْعتَه التي بعثني إليها، فمررت بكنيسة من كنائس النصارى، فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلون، وكنت لا أدري ما أمر الناس، لحبس أبي إياي في بيته، فلما سمعتُ أصواتَهم دخلت عليهم، أنظر ما يصنعون، فلما رأيتهم، أعجبتني صلاتهم، ورغبت في أمرهم، وقلت: هذا والله خير من الدين الذي نحن عليه، فوالله ما بَرِحْتُهم حتى غَرَبت الشمس، وتركت ضيعة أبي فلم آتها، ثم قلت لهم: أين أصل هذا الدين؟ قالوا: بالشام. فرجعت إلى أبي، وقد بعث في طلبي، وشغلته عن عمله كله، فلما جئته قال: أي بني أين كنت؟ أوَلَمْ أكن عهدتُ إليك ما عهدت؟ قال: قلت له: يا أبت، مررتُ بأناس يصلون في كنيسة لهم، فأعجبني ما رأيت من دينهم، فوالله ما زلت عندهم حتى غَرَبت الشمس، قال: أي بني، ليس في ذلك الدين خيرٌ، دينك ودين آبائك خير منه، قال: قلت له: كلاَّ والله، إنه لخير من ديننا. قال: فخافني، فجعل في رجليَّ قَيدًا؛ ثم حبسني في بيته.
سلمان يهرب إلى الشام: قال: وبعثت إلى النصارى فقلت لهم: إذا قَدِم عليكم ركب من الشام فأخبروني بهم. قال: فقدم عليهم ركب من الشام تجارٌ من النصارى، فأخبروني بهم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إصبهان: هكذا قيده البكري في كتاب المعجم بالكسر في الهمزة، وإصبَه بالعربية: فرس، وقيل: هو العسكر، فمعنى الكلمة: موضع العسكر أو الخيل، أو نحو هذا.

 

ج / 1 ص -199-     فقلتُ لهم: إذا قضوا حوائجهم، وأرادوا الرجعةَ إلى بلادِهم، فآذِنوني بهم: قال: فلما أرادوا الرجعةَ إلى بلادهم، أخبروني بهم، فألقيت الحديد من رجليَّ، ثم خرجت معهم، حتى قدمت الشام فلما قدمتها قلت: من أفضل أهل هذا الدين علمًا؟ قالوا: الأسْقُفُّ في الكنيسة.
سلمان مع أسقف النصارى السيئ: قال: فجئته، فقلت له: إني قد رغبت في هذا الدين، فأحببت أن أكون معك، وأخدمك في كنيستك، فأتعلم منك، وأصلي معك، قال: ادخل، فدخلت معه. قال: وكان رجل سوء، يأمرهم بالصدقة، ويرغبهم فيها، فإذا جمعوا إليه شيئًا منها اكتنزه لنفسه، ولم يعْطه المساكين، حتى جمع سبعَ قِلال من ذهب ووَرِق. قال: فأبغضته بُغضًا شديدًا، لما رأيته يصنع، ثم مات، فاجتمعت إليه النصارى، ليدفنوه، فقلت لهم: إن هذا كان رجلَ سوءٍ، يأمركم بالصدقة، ويرغِّبكمٍ فيها، فإذا جئتموه بها، اكتنزها لنفسه، ولم يعطِ المساكين منها شيئًا. قال: فقالوا لي: وما عِلْمُك بذلك؟ قال: فقلت لهم: أنا أدلكم على كنزه، قالوا: فدُلنا عليه قال: فأريتهم موضعَه، فاستخرجوا سبعَ قِلال مملوءة ذهبًا ووَرِقًا. قال: فلما رأوها قالوا: والله لا ندفنه أبدًا. قال: فصلبوه، ورجموه بالحجارة، وجاءوا برجل آخر، فجعلوه مكانه.
سلمان مع أسقف النصارى الصالح: قال: يقول سلمانُ: فما رأيتُ رجلًا لا يصلي الخمسَ، أرى أنه كان أفضلَ منه، وأزهدَ في الدنيا، ولا أرغبَ في الآخرة، ولا أدأبَ ليلا ولا نهارًا منه. قال: فأحببتُه حبًّا لم أحبه شيئًا قبله مثله. قال: فأقمت معه زمانًا، ثم حضرته الوفاةُ، فقلتُ له: يا فلان، إني قد كنت معك، وأحببتك حبًّا لم أحبه شيئًا قبلك، وقد حضرك ما ترى من أمر الله تعالى، فإلى من تُوصي بي؟ وبم تأمرني؟ قال: أي بني، والله ما أعلم اليوم أحدًا على ما كنت عليه، فقد هلك الناسُ، وبدَّلوا وتركوا أكثرَ ما كانوا عليه، إلا رجلًا بالمَوْصِل، وهو على ما كنتُ عليه فالحق به.
سلمان يلحق بأسقف الموصل: فلما مات وغُيب لحقتُ بصاحب المَوْصل، فقلت له يا فلان، إن فلانًا أوصاني عند موته أن ألحق بك، وأخبرني أنك على أمره، قال: فقال لي: أقم عندي، فأقمت عنده: فوجدته خير رجل على أمرِ صاحبه، فلم يلبثْ أن مات، فلما حضرته الوفاة، قلت له يا فلان: إن فلانًا أوصى بي إليك، وأمرني باللحاق بك، وقد حضرك من أمر

 

ج / 1 ص -200-     الله ما ترى، فإلى من تُوصي بي؟ وبم تأمرني؟ قال: يا بني، والله ما أعلم رجلًا على مثل ما كنا عليه، إلا رجلًا بنَصِيبين، وهو فلان فالحق به.
سلمان يلحق بأسقف نصيبين: فلما مات وغُيب لحقت بصاحب نصيبين، فأخبرته خبري، وما أمرني به صاحباي، فقال: أقم عندي، فأقمت عنده فوجدته على أمر صاحبيه، فأقمت مع خير رجل، فوالله ما لبث أن نزل به الموت. فلما حُضر، قلت له: يا فلان! إن فلانًا كان أوصى بي إلى فلان، ثم أوصى بي فلان إليك، فإلى من تُوصي بي؟ وبم تأمرني؟ قال: يا بني، والله ما أعلمه بَقيَ أحدٌ على أمرِنا أمرك أن تأتيَه إلا رجلًا بعَمّورِية من أرض الروم، فإنه على مثل ما نحن عليه، فإن أحببت فأته، فإنه على أمرنا.
سلمان يلحق بصاحب عمورية: فلما مات وغُيِّب لحقتُ بصاحب عَمُّورِية، فأخبرته خبري، فقال: أقم عندي، فأقمت عند خير رجل، على هَدْي أصحابه وأمرِهم، قال: واكتسبتُ حتى كان لي بقرات وغُنَيْمة. قال: ثم نزل به أمرُ الله، فلما حُضِر، قلت له: يا فلانُ، إني كنت مع فلان، فأوصى بي إلى فلان، ثم أوصى بي فلان إلى فلان، ثم أوصى بي فلان إليك، فإلى من تُوصي بي؟ وبم تأمرني؟ قال: أي بني، والله ما أعلمه أصبح اليوم أحد على مِثل ما كنا عليه من الناس آمرك به أن تأتيَه، ولكنه قد أظل زمانُ نبيٍّ، وهو مبعوث بدين إبراهيم عليه السلام، يخرج بأرض العرب، مُهَاجَرُه إلى أرض بين حَرَّتَيْن، بينهما نخل به علامات لا تخفي، يأكل الهديةَ، ولا يأكل الصدقةَ، وبين كتفيه خاتَمُ النبوة، فإن استطعتَ أن تلحقَ بتلك البلاد فافعلْ.
سلمان يذهب إلى وادي القرى: قال: ثم مات وغُيِّب، ومكثت بَعَمُّورِية ما شاء الله أن أمكث، ثم مر بي نفر من كَلب تجار، فقلتُ لهم: احملونى إلى أرض العربِ، وأعطيكم بقراتي هذه وغُنَيْمتي هذه، قالوا: نعم فأعطَيْتُهُموها، وحملوني معهم، حتى إذا بلغوا وادي القرى ظلموني، فباعوني من رجل يهودي عبدًا، فكنت عنده، ورأيت النخلَ، فرجوْتُ أن يكون البلدَ الذي وَصف لي صاحبي، ولم يحق في نفسي.
سلمان يذهب إلى المدينة: فبينا أنا عندَه، إذ قدم عليه ابنُ عم له من بني قُرَيْظة من المدينة، فابتاعني منه، فاحتملني إلى المدينة، والله ما هو إلا أن رأيتُها، فعرفتها بصفةِ صاحبي،

 

 

ج / 1 ص -201-     فأقمت بها، وبُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقام بمكة ما أقام، لا أسمع له بذكر مع ما أنا فيه من شغل الرقِّ، ثم هاجر إلى المدينة.
سلمان يسمع بهجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة: فوالله إني لفي رأس عذْق لسيدي أعمل له فيه. بعض العمل وسيدي جالس تحتي، إذ أقبل ابن عم له، حتى وقف عليه، فقال: يا فلانُ، قاتل الله بني قَيْلة، والله إنهم الآن لمجتمعون بقباء على رجل قدم عليهم من مكة اليوم، يزعمون أنه نبي.
نسب قيلة: قال ابن هشام: قَيْلة: بنت كاهل بن عُذْرَة بن سعد بن زيد بن ليث بن سَوْد بن أسْلم بن الْحاف بن قُضاعة، أم الأوْس والخزرج.
قال النعمان بن بشير الأنصارى يمدح الأوس والخزرج:

بهاليلُ من أولادِ قَيْلة لم يَجِدْ                   عليهم خليط في مُخالطةٍ عُتْبا

مساميحُ أبطال يُرَاحُون للندَى                 يَرَوْنَ عليهم فِعلَ آبائهم نحبًا

وهذان البيتان في قصيدة له.
قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عُمر بن قتادة الأنصاري، عن محمود بن لَبيد، عن عبد الله بن عباس، قال سَلْمان: فلما سمعتها أخذني العُرَوْراء. قال ابن هشام: العُرَوْراء: الرعدة من البرد والانتفاض، فإن كان مع ذلك عرق فهي الرُّحَضاء، وكلاهما ممدود -حتى ظننت أني سأسقط على سيدي، فنزلت عن النخلة، فجعلت أقول لابن عمه ذلك: ماذا تقول؟ فغضب سيدي، فلكمني لكمة شديدة، ثم قال: ما لك ولهذا؟ أقبلْ على عملك، قال: قلت: لا شيء، إنما أردت أن أستثبته عما قال.
سلمان يستوثق من رسالة محمد، صلى الله عليه وسلم: قال: وقد كان عندي شيء قد جمعته، فلما أمسيت أخذته، ثم ذهبت به إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو بقُبَاء، فدخلت عليه، فقلت له: إنه قد بلغني أنك رجل صالح، ومعك أصحاب لك غرباء ذوو حاجة، وهذا شيء كان عندي للصدقة، فرأيتكم أحقَّ به من غيرِكم، قال: فقرَّبته إليه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: كلوا، وأمسك يده، فلم يأكل. قال: فقلت في نفسي: هذه واحدة. قال: ثم انصرفتُ عنه، فجمعت شيئًا، وتحول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى

 

ج / 1 ص -202-     المدينة، ثم جئتُه به، فقلت له: إني قد رأيتُك لا تأكل الصدقة، فهذه هديةٌ أكرمتُك بها. قال: فأكل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منها، وأمر أصحابه، فأكلوا معه. قال فقلت في نفسي: هاتان ثنتان، قال: ثم جئت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو ببقيع الغَرْقَد، قد تبع جنازة رجل من أصحابه، عليَّ شملتان لي، وهو جالس في أصحابه، فسلمت عليه ثم استدرت أنظر إلى ظهره، هل أرى الخاتم الذي وصف لي صاحبي، فلما رآني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- استدبرته، عَرَف أني أستثبت في شيء وُصف لي، فألقى رداءه عن ظهره. فنظرت إلى الخاتم فعرَفته، فأكببتُ عليه أقبله، وأبكي، فقال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "تحول"، فتحولت فجلست بين يديه، فقصصت عليه حديثي، كما حدثتك يابن عباس، فأعجب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يسمع ذلك أصحابُه. ثم شَغل سلمانَ الرقُّ حتى فاته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بدر وأحد.
سلمان يفكُّ نفسه من الرق بأمر رسول الله ومساعدته صلى الله عليه وسلم: قال سلمان: ثم قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"كاتبْ يا سلمان"، فكاتبت صاحبي على ثلثمائة نخلة أحييها له بالفَقِير1، وأربعين أوقية. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: "أعينوا أخاكم"، فأعانوني بالنخل، الرجل بثلاثين وَدِيَّة، والرجل بعشرين وَدِيَّة. والرجل بخمس عشرة وَدِيَّة، والرجل بعشر، يعين الرجل بقدر ما عنده، حتى اجتمعت لي ثلثمائة وَدِيَّة، فقال لي رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "اذهب يا سلمان ففقرْ لها، فإذا فرغت فأتني، أكن أنا أضعها بيدي". قال ففقَّرْت، وأعانني أصحابي، حتى إذا فرغت جئته فأخبرته، فخرج

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الوجه: التفقير للنخلة. يقال لها في الكَرمَة: حَييَّة، وجمعها: حيَايَا، وهي الحفيرة، وإذا خرجت النخلة من النواة فهي: عَرِيسة، ثم يقال لها: ودية، ثم فسِيلة، ثم أشَاءَة، فإذا فاتت اليد فهي: جَبارة، وهي العضيد، والكتيله، ويقال للتي لم تخرج من النواة، لكنها اجتثت من جنب أمها: قلعة وجثيثة، وهي الجثائث والهِرَاء، ويقال للنخلة الطويلة: عَوَانة بلغة عمان، وعَيْدَانة بلغة غيرهم، وهي فيعالة من عدن بالمكان -أقام به- واختلف فيها قول صاحب كتاب العين، فجعلها تارة: فَيعالة من عدن، ثم جعلها في باب المعتل العين فَعلانة.

 

ج / 1 ص -203-     رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- معي إليها، فجعلنا نقرب إليه الوَدِيَّ، ويضعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيده حتى فرغنا. فوالذي نفس سلمان بيده، ما ماتت منها وَدِيَّة واحدة1.
قال: فأديت النخل، وبقي عليَّ المال، فأتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمثل بيضة الدجاجة من ذهب. من بعض المعادن، فقال:
"ما فعل الفارسي المكاتَب؟" قال: فدُعيت له، فقال: "خذ هذه، فأدِّها مما عليك يا سلمان". قال: قلت: وأين تقع هذه يا رسول الله مما علي؟ فقال: "خذْها، فإن الله سيؤدي بها عنك". قال: فأخذتها، فوزَنْت لهم منها -والذي نفس سلمان بيده-أربعين أوقية، فأوفيتهم حقَّهم منها، وعُتق سلمان. فشهدتُ مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الخندقَ حُرًّا، ثم لم يفتني معه مشهد.
قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن أبي حبيب، عن رجل من عبد القيس عن سلمان: أنه قال: لما قلتُ: وأين تقع هذه من الذي عليَّ يا رسول الله؟ أخذها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلبها على لسانِه، ثم قال: خذها فأوفهمْ منها، فأخذتها، فأوفيتُهم منها حقَّهم كله، أربعين أوقية.
حديث سلمان مع الرجل الذي بعمورية: قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، قال: حدثني من لا أتهم عن عمر بن عبد العزيز بن مروان، قال: حُدثت عن سلمانَ الفارسِّي: أنه قال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين أخبره خبره: إن صاحب عمورية قال له: ائت كذا وكذا من أرضِ الشام، فإن بها رجلًا2 بين غَيْضتين، يخرج في كل سنة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وذكر البخاري حديث سلمان كما ذكره ابن إسحاق. غير أنه ذكر أن سلمان غرس بيده ودية واحدة، وغرس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سائرها، فعاشت كلها إلا التي غرس سلمان.
2 ذكر داود بن الحصين قال: حدثني من لا أتهم عن عمر بن عبد العزيز قال: قال سليمان للنبي -صلى الله عليه وسلم- وذكر خبر الرجل الذي كان يخرج مستجيزًا من غيضة إلى غيضة، ويلقاه الناس بمرضاهم، فلا يدعو لمريض إلا شفي، وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: إن كنت صدقتني يا سلمان، فقد رأيت عيسى ابن مريم. إسناد هذا الحديث مقطوع، وفيه رجل مجهول، ويقال: إن ذلك الرجل هو الحسن بن عمارة، وهو ضعيف بإجماع منهم.

 

ج / 1 ص -204-     من هذه الغيضة إلى هذه الغيضة مستجيزًا، يعترضه ذوو الأسقام، فلا يدعو لأحد منهم إلا شُفي، فاسأله عن هذا الدين الذي تبتغي، فهو يخبرك عنه، قال سلْمانُ: فخرجت حتى أتيتُ حيثُ وُصف لي، فوجدت الناسَ قد اجتمعوا بمرضاهم هنالك، حتى خرج لهم تلك الليلة مستجيزًا من إحدى الغيضتين إلى الأخرى، فغشيه الناس بمرضاهم، لا يدعو لمريض إلا شُفِيَ، وغلبوني عليه، فلم أخْلُص إليه حتى دخل الغَيْضةَ التي يريد أن يدخل، إلا منكبه. قال: فتناولته. فقال: من هذا؟ والتفت إليَّ، فقلتُ: يرحمك الله، أخبرني عن الحَنِيفيَّة دين إبراهيم. قال: إنك لتسألني عن شيء ما يسأل عنه الناسُ اليومَ، قد أظلَّك زمانُ نبي يُبعث بهذا الدين من أهل الحرم، فَأتِهِ فهو يحملك عليه. قال: ثم دخل. قال: فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لسلمان: "لئن كنت صدقتني يا سلمان، لقد لقيت عيسى ابن مريم.." على نبينا وعليه السلام.
ذكر ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العُزَّى وعُبَيْد الله ابن جحش وعثمان بن الحُوَيْرث وزَيْد بن عمرو بن نُفَيْل:
تشككهم في الوثنية: قال ابن إسحاق: واجتمعت قريش يومًا في عيد لهم عند صنم من أصنامهم كانوا يعظمونه وينحرون له، ويعكفون عنده، ويُديرون به، وكان ذلك عيدًا لهم في كل سنة يومًا، فخلَص منهم أربعة نفر نَجِيًّا، ثم قال بعضهم لبعض: تصادقوا، وليكتم بعضُكم على بعض، قالوا: أجل، وهم: وَرَقةُ بن نَوْفل بن أسَد بن عبد العُزَّى بن قُصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي. وعُبَيْد الله بن جحش بن رِئاب بن يَعْمر بن صبْرة بن مُرة بن كبير بن غَنْم بن دودان بن أسد بن خُزيمة، وكانت أمه أميمة بنت عبد المطلب.
وعثمان بن الحوَيْرث بن أسد بن عبد العزى بن قصي. وزيد1 بن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وأم زيد هي: الحيداء بنت خالد الفَهْمية، وهي امرأة جده نُفَيْل، وَلدت له الخطاب فهو أخو الخطاب لأمه، وابن أخيه، وكان ذلك مباحًا في الجاهلية بشرع متقدم، ولم تكن من الحرمات التي انتهكوها، ولا من العظائم التي ابتدعوها؛ لأنه أمر كان في عمود نسب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكنانة تزوج امرأة أبيه خزيمة، وهي برة بنت مُر، فولدت له النضر بن كنانة، وهاشم أيضًا قد تزوج امرأة أبيه وافدة فولدت له ضيفة، ولكن هو خارج عمود نسب رسول الله -صلى الله عليه وسلم؛ لأنها لم تلد جدًّا له، أعني: واقدة، وقد قال عليه السلام: "أنا من نكاح لا من سفاح"، ولذلك قال سبحانه:
{وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22] أي: إلا ما سلف من تحليل ذلك قبل الإسلام.

 

ج / 1 ص -205-     عَمرو بن نُفَيْل بن عبد العزى بن عبد الله بن قُرْط بن رِياح بن رَزاح بن عدي بن كعب بن لؤي1. فقال بعضهم لبعض: تعلَّموا والله ما قومكم على شيء! لقد أخطئوا دين أبيهم إبراهيم، ما حجر نطيف به، لا يسمع ولا يبصر، ولا يضر ولا ينفع؟! يا قوم التمسوا لأنفسكم، فإنكم والله ما أنتم على شيء، فتفرقوا في البلدان يلتمسون الحنيفية، دين إبراهيم.
تنصر ورقة وابن جحش: فأما ورقة بن نوفل فاستحكم في النصرانية، واتبع الكتبَ من أهلها، حتى علم علمًا من أهل الكتاب. وأما عُبَيد الله بن جحش، فأقام على ما هو عليه من الالتباس حتى أسلم، ثم هاجر مع المسلمين إلى الحبشة، ومعه امرأته أم حبيبة بنت أبى سفيان مسلمة، فلما قدمها تنصَّر، وفارق الإِسلام، حتى هلك هنالك نصرانيًّا.
ابن جحش يغري مهاجري الحبشة على التنصر: قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، قال: كان عُبَيد الله بن جحش-حين تنصر- يمر بأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهم هنالك من أرض الحبشة فيقول: فقَّحْنا وصَأصَأتم، أي أبصرنا وأنتم تلتمسون البصر، ولم تُبصروا بعد، وذلك أن ولد الكلب، إذا أراد أن يفتح عينيه لينظر، صأصأ، لينظر. وقوله: فقَّح: فتح عينيه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 والمعروف في نسبه ونسب ابن عمه عمر بن الخطاب: نفيل بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بتقديم رياح على عبد الله، ورزاح بكسر الراء قيده الشيخ أبو بحر، وزعم الدارقطني أنه رزاح بالفتح، وإنما رزاح بالكسر: رزاح بن ربيعة أخو قصي لأمه الذي تقدم ذكره.

 

ج / 1 ص -206-     رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخلف على زوجة ابن جحش بعد وفاته: قال ابن إسحاق: وخلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعده على امرأته أم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب.
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن علي بنَ حُسين: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعث فيها إلى النجاشى عَمْرَو بن أمية الضَّمْري، فخطبها عليه النجاشي؛ فزوجه إياها، وأصدقها عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أربعمائة دينار. فقال محمد بن علي: ما نرى عبد الملك بن مروان وقف صداق النساء على أربعمائة دينار إلا عن ذلك. وكان الذي أملكها النبي -صلى الله عليه وسلم- خالد بن سعيد بن العاص.
تنصر ابن الحُوَيْرث وقدومه على قيصر: قال ابن إسحاق: وأما عثمان بن الحُوَيْرث، فقدم على قيصر ملك الروم فتنصَّر، وحسنت منزلتُه عندَه. قال ابن هشام: ولعثمان بن الحُوَيْرث عند قيصر حديث، منعني من ذكره ما ذكرت في حديث حرب الفجار1.
زيد يتوقف عن جميع الأديان: قال ابن إسحاق: وأما زيد بن عَمرو بن نُفَيْل فوقف، فلم يدخل يهودية ولا نصرانية، وفارق دين قومه، فاعتزل الأوثان والميتة والدم والذبائح التي تُذْبَح على الأوثان2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ويذكر أن قيصر كان قد توج عثمان، وولاه أمر مكة، فلما جاءهم بذلك أنفوا من أن يدينوا لملك، وصاح الأسود بن أسد بن عبد العزى: ألا إن مكة حي لَقَاح لا تدين لملك. فلم يتم له مراده، قال: وكان يقال له: البطريق، ولا عقب له، ومات بالشام مسمومًا، سمه عمرو بن جفْنَة الغساني الملك.
2 روى البخاري عن محمد بن أبي بكر، قال: أخبرنا فضيل بن سليمان، قال: أخبرنا موسى، قال: حدثني سالم بن عبد الله، عن عبد الله بن عمر: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح قبل أن يُنزل على النبي -عليه السلام- الوحي، فقدمت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- سُفرة أو قدمها إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- فأبى أن يأكل منها، ثم قال زيد: إني لست آكل ما تذبحون على أنصابكم، ولا آكل إلا ما ذُكر اسم =

 

ج / 1 ص -207-     ونهى عن قَتْل الموءودة1، وقال: أعبدُ ربَّ إبراهيم، وبادَى قومه بعيْب ما هم عليه.
قال ابن إسحاق: وحدثني هشام بن عروة عن أبيه، عن أمه أسماء بنت أبي بكر رضي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الله عليه، وأن زيد بن عمرو بن نفيل كان يعيب على قريش ذبائحهم، ويقول: الشاة خلقها الله، وأنزل لها من السماء ماءً، وأنبت لها من الأرض الكلأ، ثم تذبحونها على غير اسم الله؟ إنكارًا لذلك، وإعظامًا له.
وفيه سؤال يقال: كيف وفق الله زيدًا إلى ترك أكل ما ذبح على النصب، وما لم يذكر اسم الله عليه، ورسول الله –عليه الصلاة والسلام– كان أولى بهذه الفضيلة في الجاهلية لما ثبت الله له؟ فالجواب من وجهين، أحدهما: أنه ليس في الحديث حين لقيه ببلدح، فقدمت إليه السفرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أكل منها، وإنما في الحديث أن زيدًا قال حين قدمت السفرة: لا آكل مما لم يذكر اسم الله عليه. الجواب الثانى: أن زيدًا إنما فعل ذلك برأي رآه، لا بشرع متقدم، وإنما تقدم شرع إبراهيم بتحريم الميتة، لا بتحريم ما ذبح لغير الله، وإنما نزل تحريم ذلك في الإسلام. وبعض الأصوليين يقولون: الأشياء قبل ورود الشرع على الإباحة، فإن قلنا بهذا وقلنا: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم كان يأكل مما ذبح على النصب، فإنما فعل أمرًا مباحًا، وإن كان لا يأكل منها فلا إشكال، وإن قلنا أيضًا: إنها ليست على الإباحة، ولا على التحريم، وهو الصحيح، فالذبائح خاصة لها أصل في تحليل الشرع المتقدم كالشاة والبعير، ونحو ذلك، مما أحله الله تعالى في دين من كان قبلنا، ولم يقدم في ذلك التحليل المتقدم ما ابتدعوه، حتى جاء الإسلام، وأنزل الله سبحانه:
{وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] ألا ترى كيف بقيت ذبائح أهل الكتاب عندنا على أصل التحليل بالشرع المتقدم، ولم يقدح في التحليل ما أحدثوه من الكفر، وعبادة الصلبان، فكذلك كان ما ذبحه أهل الأوثان محلا بالشرع المتقدم، حتى خصه القرآن بالتحريم.
1 وقد كان صعصعة بن معاوية جد الفرزدق -رحمه الله- يفعل مثل ذلك، ولما أسلم سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم: هل لي في ذلك من أجر؟ فقال في أصح الروايتين:
"لك أجره إذا منَّ الله عليك بالإسلام". وهذا الحديث أخرجه البخاري، والموءودة مفعولة
من وأده إذا أثقله له. قال الفرزدق:

ومنا الذي منع الوائدا                           ت وأحيا الوئيد فلم يُوأد

يعني: جده صَعْصَعة بن معاوية بن ناجية بن عِقال ابن محمد بن سفيان بن مُجاشع.
وقد قيل: كانوا يفعلون ذلك غَيْرة على البنات، وما قاله الله في القرآن هو الحق من قوله:
{خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء: 31] وذكر النقاش في التفسير: أنهم كانوا يئدون من البنات، ما كان منهن زرقاء أو بَرْشاءَ أو شَيماءَ أو كشحاء تشاؤمًا منهم بهذه الصفات قال
الله تعالى:
{وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ، بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير: 8، 9].

ج / 1 ص -208-     الله عنهما، قال: لقد رأيتُ زيدَ بن عمرو بن نُفَيْل شيخًا كبيرًا مُسْنِدًا ظهره إلى الكعبة، وهو يقول: يا معشرَ قريش، والذي نفس زيد بن عمرو بيده: ما أصبح منكم أحد على دين إبراهيم غيري، ثم يقول: اللهم لو أني أعلم أيَّ الوجوه أحبّ إليك عبدتُك به، ولكني لا أعلمه، ثم يسجد على راحته.
قال ابن إسحاق: وحُدثت أن ابنه سعيد بن زيْد بن عمرو بن نُفَيْل وعمر بن الخطاب، وهو ابن عمه، قالا لرسول الله، صلى الله عليه وسلم: أتستغفر لزيد بن عمرو؟ قال:
"نعم، فإنه يُبْعث أمةً وحدَه".
شعر زيد في فراق الوثنية: وقال زيد بن عمرو بن نفيل في فراق دين قومه وما كان لقى منهم في ذلك:

أرَبًّا واحدًا، أم ألفَ رب                             أدِينُ إذا تُقُسمت الأمورُ

عَزَلْتُ اللاتَ والعُزَّى جميعًا                       كذلك يفعلُ الجَلْدُ الصبورُ1


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذكرت اللات فيما تقدم أما العزى، فكانت نخلات مجتمعة، وكان عمرو بن لحي قد أخبرهم -فيما ذكر- أن الرب يُشَتي بالطائف عند اللات، ويُصَيِّف بالعزى، فعظموها وبنوا لها بيتًا، وكانوا يهدون إليه كما يهدون إلى الكعبة، وهي التي بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خالد بن الوليد ليكسرها، فقال له سادنُها: يا خالد احذرها؛ فإنها تجذع وتكنع -تشل- فهدمها خالد وترك منها جذمها -أصلها- وأساسها، فقال قيمها: والله لتعودن ولتنتقمن فمن فعل بها هذا، فذُكر -والله أعلم- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لخالد:
"هل رأيت فيها شيئًا؟" فقال: لا، فأمره أن يرجع، ويستأصل بقيتها بالهدم، فرجع خالد، فأخرج أساسها فوجد فيها امرأة سوداء منتفشة الشعر تخدش وجهها، فقتلها، وهرب القيم، وهو يقول: لا تُعبد العُزى بعد اليوم. هذا معنى ما ذكر أبو سعيد النيسابوري في المبعث. وذكره الأزرقي أيضًا ورزين.

 

ج / 1 ص -209-                                     فلا العُزَّى أدينُ ولا ابنتيْها        ولا صَنَمَيْ بني عمرو أزورُ

ولا هُبَلًا أدين، وكان ربًّا                           لنا في الدهر إذ حِلمي يسيرُ

عجبت وفي الليالي مُعْجَبات                   وفي الأيام يعرفها البصيرُ

بأن اللهَ قد أفنى رجالًا                            كثيرًا كان شأنَهمُ الفجورُ

وأبقى آخرين ببرِّ قومٍ                             فَيَرْبِلُ منهمُ الطفلُ الصغير1

وبَيْنا المرءُ يعثر ثابَ يومًا                         كما يَتروَّح الغصنُ المطيرُ2

ولكنْ أعبدُ الرحمنَ ربِّي                         ليغفرَ ذنبيَ الربُّ الغفورُ

فتقوى اللهِ ربكم احفظوها                      متى ما تحفظوها لا تبوروا

ترى الأبرارَ دارَهُم جِنانٌ                          وللكفارِ حامية سعيرُ

وخزْي في الحياة وإن يموتوا                    يلاقوا ما تضيقُ به الصدورُ

وقال زيد بن عمرو بن نُفَيل أيضًا -قال ابن هشام: هي لأمية بن أبى الصلت في قصيدة له إلا البيتين الأولين، والبيت الخامس، وآخرها بيتًا. وعجز البيت الأول عن غير ابن إسحاق:

إلى الله أهْدِي مِدحتي وثنائيا                  وقولًا رصينًا لا يني الدهرَ باقيًا

إلى الملكِ الأعلى الذي ليس                  فوقَه إلهٌ ولا رب يكونُ مُدانيَا

                                                        

ألا أيها الإنسان إياك والرَّدَى                     فإنك لا تخفى من الله خافيَا3

وإياكَ لا تجعلْ مع اللهِ غيرَهُ                       فإن سبيلَ الرُّشْد أصبحَ باديَا

                                                        


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ربل الطفل يربل إذا ثب وعظم. يربل بفتح الباء أي يكبر وينبت، ومنه أخذ تربيل الأرض.
2 يتروح الغصن: أي: ينبت ورقه بعد سقوطه.
3 إياك والردى: هنا تحذير من الردى، والردى هو الموت، فظاهر اللفظ متروك، وإنما هو تحذير مما يأتي به الموت، ويبديه ويكشف من جزاء الأعمال؛ ولذلك قال: فإنك لا تخفى من الله خافيًا.

ج / 1 ص -210-                                     حَنَانَيْكَ إن الجنَّ كانت رجاءَهم وأنتَ إلهي ربنا ورجَائيَا1

رضيتُ بك اللهمَّ ربًّا فلن                         أرَى أدينُ إلها غيرك اللهُ ثانيَا2

وأنت الذي من فَضْل مَن ورحمةٍ               بعَثتَ إلى موسى رسولًا مناديَا

فقلت له يا اذْهب وهارون فادْعُوَا              إلى الله فرعونَ الذيِ كان طاغيا3

وقولا له آأنْتَ سَوَّيتَ هذه                       بلا وَتدٍ، حتى اطمأنت كما هيا4


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 حنانيك بلفظ التثنية، قال النحويون: يربد حنانًا بعد حنان، كأنهم ذهبوا إلى التضعيف والتكرار، لا إلى القصر على اثنين خاصة دون مزيد. قال المؤلف رحمه الله: ويجوز أن يريد حنانًا في الدنيا، وحنانًا في الآخرة، وإذا قيل هذا لمخلوق نحو قول طرفة:

أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا              حنانيْك بعض الشر أهون من بعض

فإنما يريد: حنان دَفْعٍ، وحنان نَفْعٍ، لأن كل من أمَّل مَلكا، فإنما يؤمله ليدفع عنه ضيرًا، أو ليجلب إليه خيرًا.
2 أدين إلهًا، أي: أدين لإله، وحذف اللام وعدى الفعل؛ لأنه في معنى: أعبد إِلَهًا. وقوله: غيرك الله برفع الهاء، أراد: يا ألله، و هذا لا يجوز فيما فيه الألف واللام، إلا أن حكم الألف واللام في هذا اللفظ المعظم يخالف حكمها في سائر الأسماء، ألا ترى أنك تقول: يا أيها الرجل، ولا ينادي اسم الله بيأيها، وتقطع همزته في النداء، أي تجعلها همزة قطع فتقول: يا ألله، ولا يكون ذلك في اسم غيره، إلى أحكام كثيرة يخالف فيها هذا الاسم لغيره من الأسماء المعرفة.
3 ألا يا اذهب على حذف المنادى. كأنه قال: ألا يا هذا اذهب، كما قرئ:
{أَلّا يَا اسْجُدُوا} [النمل: 25] يريد: يا قوم اسجدوا، وكما قال غيلان:
ألا يا اسلمي يا دارَ مَي على البِلَى
وفيه: "اذهب وهارون"، عطفًا على الضمير في اذهب، وهو قبيح إذا لم يؤكد، ولو نصبه على المفعول معه لكان جيدًا.
4 اطمأنت كما هيا، وزنه افلعلت؛ لأن الميم أصلها أن تكون بعد الألف؛ لأنه من تطامن أي: تطأطأ، وإنما قدموها لتباعد الهمزة التي هي عين الفعل من همزة الوصل، فتكون أخف عليهم في اللفظ، كما فعلوا في أشياء حين قلبوها في قول الخليل وسيبويه فرارًا من تقارب الهمزتين. كما هيا؛ ما: زائدة لتكف الكاف عن العمل، وتهيئها للدخول على الجمل، وهي: اسم مبتدأ، والخبر محذوف، التقدير: كما هي عليه، والكاف في موضع نصب على الحال من المصدر الذي دل عليه، اطمأن، كما تقول: سرت مثل سير زيد؛ فمثل حال من سَيْرك الذي سرته.

ج / 1 ص -211-                                        وقولا له: آأنْتَ رفعت هذه بلا عَمَدٍ، أرفقْ إذن بك بانيَا1

وقولا. له: آأنْتَ سوَّيت وَسْطَها                    مُنيرًا، إذ ما جَنَّه الليلُ هاديَا

وقولا له: من يرسلُ الشمس غُدوةً              فيُصبح ما مست من الأرض ضاحيًا

وقولا له: من يُنبتُ الحبَّ في                     الثرَى فيصبحُ منه البقلُ يهتزُّ رابيَا

ويُخرج منه حبَّه في رءوسِه                       وفي ذاك آياتٌ لمن كان وَاعيَا

وأنت بفضلٍ منك نجَّيت يونسًا                    وقد بات في أضعافِ حوتٍ لياليَا

وإني ولو سبحت باسمك ربنا                     لأُكْثِر إلا ما غفرتَ خطائيَا2

فربّ العبادِ ألق سَيْبًا ورحمةً                      عليَّ، وباركْ في بنيَّ وماليَا

وقال زيد بن عمرو يعاتب امرأته صفية بنت الحَضرَمي:
نسب الحضرمي: قال ابن هشام: واسم الحضرمي: عبد الله بن عباد أحد الصَّدِف، واسم الصَّدف: عمرو بن مالك أحد السَّكون بن أشرس بن كِنْدي، ويقال: كِندة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أرفق: تعجب، "وبك" في موضع رفع لأن المعنى: رفقت، "وبانيًا" تمييز؛ لأنه يصلح أن يُجر بمن، كما تقول: "أحسن بزيد من رجل"، وحرف الجر متعلق بمعنى التعجب؛ إذ قد علم أنك متعجب منه.
2 معنى البيت: إني لأكثر من هذا الدعاء الذي هو باسمك ربنا إلا ما غفرت، وما، بعد إلا زائدة، وإن سبحت: اعتراض بين اسم إن وخبرها، كما تقول: إني لأكثر من هذا الدعاء الذي هو باسمك ربنا إلا والله يغفر لي لأفعل كذا، والتسبيح هنا بمعنى الصلاة، أي: لا أعتمد وإن صليت إلا على دعائك واستغفارك من خطاياي.

ج / 1 ص -212-     بن ثَوْر بن مُرَتِّع بن عُفَير بن عَدي بن الحارث بن مُرة بن أدد بن زيد بن مهسع بن عمرو بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ، ويقال: مُرَتِّع بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ.
زيد يعاتب زوجته لمنعها له عن البحث في الحنيفية: قال ابن إسحاق: وكان زيد بن عمرو قد أجمع الخروج من مكة، ليضرب في الأرض يطلب الحنيفية دين إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- فكانت صفيةُ بنت الحضرمي كلما رأته قد تهيأ للخروج، وأراده، آذنت به الخطاب بن نُفَيل، وكان الخطاب بن نُفَيل عمه وأخاه لأمه، وكان يعاتبه على فراق دين قومه، وكان الخطاب قد وكَّل صفية به. وقال: إذا رأيتيه قد هَمَّ بأمر فآذنيني به -فقال زيد:

لا تحسبيني فى الهوان                           صفي ما دابي ودابه

إني إذا خفت الهوان                                مشيع ذلل ركابه

دعموص أبواب الملوك                              وجانب للخرق نابه

قطاع أسباب تذل                                    بغير أقران صعابه

وإنما أخذ الهوان                                     العير إذا يوهى إهابه

ويقول: إني لا أُذل                                   بصك جنبيه صلابه

وأخي ابن أمي، ثم                                 عمي لا يواتني خطابه

وإذا يعاتبني بسوء                                  لست أعياني جوابه

ولو أشاء لقلت ما                                   عندي مفاتحه وبابه


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 دعموص أبواب الملوك. يريد: ولاّجا في أبواب الملوك، وأصل الدعموص: سمكة صغيرة كحية الماء، فاستعاره هنا، وكذلك جاء في حديث أبي هريرة يرفعه: صغاركم دعاميص الجنة.
2 إني لا أذل أي: يقول العير ذلك بصك جنبيه، صلابه، أي: صلاب لما توضع عليه، وأضافتها إلى العير؛ لأنها عبؤه وحمله.

 

ج / 1 ص -213-     قول زيد حين يستقبل الكعبة: قال ابن إسحاق: وحُدثت عن بعض أهلِ زيدٍ بن عمرو بن نُفَيل أن: أن زيدًا كان إذا استقبل الكعبة داخلَ المسجد، قال: لبيك حقًّا حقًّا، تعبدًا ورقًّا.

عُذتُ بما عاذ به إبراهيمْ                       مستقبلَ القبلة، وهو قائم

إذ قال:

أنفي لك اللهم عان راغم                    مهما تجشمني فإني جاشم

البر أبغي لا الخال                              ليس مهجر كمن قال1

قال ابن هشام: ويقال: البر أبقى لا الخال، ليس مهجر كمن قال. قال وقوله: "مستقبل الكعبة" عن بعض أهل العلم.
قال ابن إسحاق: وقال زيد بن عمرو بن نفيل:

وأسلمت وجهي لمن أسلمت                   له الأرض تحمل صخرًا ثقالًا

دحاها فلما رآها استوت على                   الماء، أرسى عليها الجبالا

وأسلمت وجهي لمن أسلمت                   له المزن تحمل عذبًا زلالا

إذا هي سيقت إلي بلدة                          أطاعت، فصبت عليها سجالًا

الخطاب يؤذي زيدًا ويحاصره: وكان الخطاب قد آذى زيدًا؛ حتى أخرجه إلى أعلى مكة، فنزل حراء مقابلَ مكة، ووكَّل به الخطاب شبابًا من شباب قُريش وسفهاء من سفهائهم، فقال لهم: لا تتركوه يدخل مكة، فكان لا يدخلها إلا سرًّا منهم، فإذا علموا بذلك، آذنوا به الخطاب، فأخرجوه، وآذوه كراهيةَ أن يُفسدَ عليهم دينهم، وأن يتابعه أحد منهم على فراقه فقال، وهو يعظم حرمته على من استحلَّ منه ما استحل من قومه:

لا هُمَّ إني مُحرِم لا حِلّهْ                         وإن بيتي أوسطُ المَحِلَّهْ

عند الصَّفا ليس بذي مَضَلَّهْ


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 والخال: الخُيَلاءُ والكبر.
وقوله: ليس مهجر كمن قال، أي: ليس من هجَّر وتكيس، كمن آثر القائلة والنوم، فهو من: قال يقيل.

 

ج / 1 ص -214-     زيد يرحل إلى الشام وموته: ثم خرج يطلبُ دينَ إبراهيم عليه السلام، ويسأل الرهبانَ والأحبار، حتى بلغ الموصِل والجزيرةَ كلَّها، ثم أقبل فجالَ الشامَ كلَّه، حتى انتهى إلى راهب بميْفَعة1 من أرض البلقاء، كان ينتهي إليه عِلْمُ أهلِ النصرانية فيما يزعمون، فسأله عن الحنيفيةِ دين إبراهيم، فقال: إنك لتطلب دِينًا ما أنت بواجدٍ من يحملك عليه اليوم، ولكن قد أظلَّ زمانُ نبي يخرج من بلادك التي خرجتَ مِنها، يُبعث بدين إبراهيم الحنيفية، فالحقْ بها، فإنه مبعوث الآنَ، هذا زمانُه، وقد كان شَامَّ اليهودية والنصرانية، فلم يرضَ شيئًا منهما، فخرج سريعًا، حين قال له ذلك الراهب ما قال، يريد مكةَ، حتى إذا توسط بلادَ لخم، عَدَوْا عليه فقتلوه.
ورقة يرثي زيدًا: فقال ورقةُ بنُ نوفل بنِ أسد يبكيه:

رشدتَ وأنعمت ابن عمرو وإنما               تجنبْتَ تنّورًا من النار حاميا2

بدينك ربًّا ليس رب كمثلِه                     وترككَ أوثانَ الطواغي كما هيَا

وإدراكك الدينَ الذي قد طلبتَه                ولم تكُ عن توحيدِ ربِّك ساهيَا

فأصبحتَ في دارٍ كريمٍ مقامُها                تُعلَّلُ فيها بالكرامةِ لاهيا

تُلاقي خليلَ اللهِ فيها، ولم تكنْ              من الناسِ جَبَّارًا إلى النارِ هاويَا

وقد تدركُ الإنسانَ رحمة ربِّه                 ولوكان تحتَ الأرضِ سبعين واديَا3


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل بكسر الميم من ميفعة، والقياس فيها: الفتح؛ لأنه اسم الموضع أخذ من اليفاع، وهو المرتفع من الأرض.
2 رشدت وأنعمت ابن عمرو، أي: رشدت وبالغت في الرشد، كما يقال: أمعنت النظر و أنعمته.
3 قوله: "ولو كان تحت الأرض سبعين واديا" بالنصب. نصب سبعين على الحال؛ لأنه قد يكون صفة للنكرة، كما قال: "فلو كنت في جب ثمانين قامة" وما أصله صفة للنكرة يكون حالا من المعرفة، وهو هنا حال من البعد، كأنه قال: ولو بَعُد تحت الأرض سبعين، كما تقول: بَعُد طويلا، أي: بُعدًا طويلًا، وإذا حذفت المصدر، وأقمت الصفة مقامه لم تكن إلا حالا.

 

ج / 1 ص -215-     قال ابن هشام: يروى لأمية بن أبى الصَّلْت البيتان الأوَّلان منها، وآخرها بيتًا في قصيدة له. وقوله: "أوثان الطواغي" عن غير ابن إسحاق.
صفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الإِنجيل:
يُحَنَّس الحواري يثبت بعثة الرسول -صلى الله عليه وسلم- من الإِنجيل: قال ابن إسحاق: وقد كان -فيما بلغني عما كان وَضعَ عيسى ابن مريم فيما جاءه من الله في الإِنجيل لأهل الإنجيل -من صفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مما أثبت يُحَنَّس الحواري لهم، حين نسخ لهم الإِنجيل عن عهد عيسى ابن مريم عليه السلام في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إليهم أنه قال: من أبغضني فقد أبغض الربَّ، ولولا أني صنعت بحضرتهم صنائع لم يصنعها أحدٌ قبلي، ما كانت لهم خطيئة، ولكن من الآن بَطِرُوا وظنوا أنهم يَعُزُّونني، وأيضًا للرب، ولكن لا بد من أن تتم الكلمةُ التي في الناموس: أنهم أبغضوني مجانًا، أي: باطلًا. فلو قد جاء المنْحمنّا هذا الذي يرسله اللهُ إليكم من عند الربِّ، وروح القُدس هذا الذي من عند الرب خرج، فهو شهيد عليَّ وأنتم أيضًا؛ لأنكم قديْمًا كنتم معي في هذا، قلت لكم: لكيما لا تشكوا.
والمُنْحَمَنَّا بالسريانية: محمد: وهو بالرومية: البرقْلِيطِس، صلى الله عليه وسلم.
مبعث النبي، صلى الله عليه وسلم:
أخذ الله الميثاق على الرسل بالإِيمان به صلى الله عليه وسلم: قال: حدثنا أبو محمد عبد الملك بن هشام، قال: حدثنا زياد بن عبد الله البكائي، عن محمد بن إسحاق المطلبي قال: فلما بلغ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: باطلًا، وكذلك جاء في الحكمة: يابن آدم علم مجانًا، كما عُلِّمت مجانًا، أي: بلا ثمن، وفي وصايا الحكماء: شاور ذوي الأسنان والعقول يعطوك من رأيهم مجانًا ما أخذوه بالثمن، أي بطول التجارب.

 

ج / 1 ص -216-     محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أربعين سنة بعثه اللهُ تعالى1 رحمةً للعالمين، وكافةً للناس بشيرًا، وكان اللهُ تبارك وتعالى قد أخذ الميثاقَ على كلِّ نبي بعثه قبلَه بالإِيمان به، والتصديق له، والنصر له على من خالفه، وأخذ عليهم أن يؤدُّوا ذلك إلى كلِّ من آمن بهم وصدقهم، فأدوا من ذلك ما كان عليهم من الحقِّ فيه. يقول الله تعالى لمحمد -صلى الله عليه وسلم: {وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي} [آل عمران: 81]. أي ثقل ما حملتكم من عهدي: {قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 81]، فأخذ الله ميثاق النبيين جميعًا بالتصديق له، والنصر له ممن خالفه، وأدوا ذلك إلى من آمن بهم، وصدقهم من أهل هذين الكتابين.
الرؤيا الصادقة أول ما بُدئ به رسول الله، صلى الله عليه وسلم: قال ابن إسحاق: فذكر الزهريُّ عن عُروة بن الزبير، عن عائشة رضى الله عنها أنها حدثته: أن أولَ ما بُدئ به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من النبوة، حين أراد الله كرامته ورحمة العباد به: الرؤيا الصادقةُ، لا يرى رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- رؤيا في نومِه إلا جاءت كفلق الصبح قالتْ: وحبب الله تعالى إليه الخلوة، فلم يكن شيء أحب إليه من أن يخلوَ وحدَه.
سلام الحجر والشجر عليه، صلى الله عليه وسلم: قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الملك بن عُبَيْد الله

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذكر ابن إسحاق أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بُعث على رأس أربعين من مولده عليه السلام، وهذا مروي عن ابن عباس، وجُبَيْر بن مطعم وقباث بن أشيم، وعطاء وسعيد بن المسيب، وأنس بن مالك وهو صحيح عند أهل السِّيَر والعلم بالأثر. وقد روي أنه نبئ لأربعين وشهرين من مولده، وقيل لقباث بن أشيم: من أكبر، أنتَ أم رسول الله، صلى الله عليه وسلم؟ فقال: رسول الله أكبر مني، وأنا أسَنُّ منه، وولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل، ووقفت بي أمي على رَوْثِ الفيل، ويروى: خَزْقِ الطير، فرأيته أخضر مُحِيلًا، أي قد أتى عليه حَول، وفي غير رواية البكائي من هذا الكتاب أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لبلال: "لا يفتك صيام يوم الاثنين؛ فإني قد ولدت فيه، وبعثت فيه، وأموت فيه". "الروض الأنف، بتحقيقنا، ج1 ص265".

 

ج / 1 ص -217-     ابن أبي سفيان بن العلاء بن جارية الثقفي، وكان واعيةً، عن بعض أهل العلم.
أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين أراده الله بكرامته، وابتدأه بالنبوة، كان إذا خرج لحاجته أبعدَ حتى تحسَّرَ عنه البيوتُ، ويُفضى إلى شِعاب مكة وبطون أوديتها، فلا يمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بحجر ولا شجر، إلا قال: السلامُ عليك يا رسولَ الله1. قال: فيلتفتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حولَه، وعن يمينه وشماله وخلفه، فلا يرى إلا الشجرَ والحجارة، فمكث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كذلك يرى ويسمع، ما شاء اللهُ أن يمكثَ، ثم جاءه جبريل عليه السلام2 بما جاءه من كرامة الله، وهو بحراء في شهر رمضان.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وفي مصنف الترمذي ومسلم أيضًا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:
"إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم عَليَّ قبل أن ينَزَّل عَلَيَّ" وفي بعض المسندات زيادة أن هذا الحجر الذي كان يسلم عليه هو الحجر الأسود، وهذا التسليم: الأظهر فيه أن يكون حقيقة، وأن يكون الله أنطقه إنطاقًا كما خلق الحنين في الجذع، ولكن ليس من شروط الكلام الذي هو صوت وحرف: الحياة والعلم والإرادة؛ لأنه صوت كسائر الأصوات، والصوت: عَرَض في قول الأكثرين، ولم يخالف فيه إلا النَّظَّام، فإنه زعم أنه جسم، وجعله الأشعري اصطكاكًا في الجواهر بعضها لبعض، وقال أبو بكر بن الطيب: ليس الصوت نفس الاصطكاك، ولكنه معنى زائد عليه، ولو قدرت الكلام صفة قائمة بنفس الحجر والشجر، والصوت عبارة عنه، لم يكن بد من اشتراط الحياة والعلم مع الكلام، والله أعلم أي ذلك كان، أكان كلامًا مقرونًا بحياة وعلم، فيكون الحجر به مؤمنًا، أو كان صوتًا مجردًا غير مقترن بحياة؟ وفي كلا الوجهين، هو علم من أعلام النبوة. وأما حنين الجذع فقد سمى حنينًا، وحقيقة الحنين يقتضي شرط الحياة، وقد يحتمل تسليم الحجارة أن يكون مضافًا في الحقيقة إلى ملائكة يسكنون تلك الأماكن، ويعمرونها، فيكون مجازًا من قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف:82] أي أهلها والأول أظهر، وإن كانت كل صورة من هذه الصور التي ذكرناها فيها عَلَمٌ على نبوته -عليه السلام- غير أنه لا يسمى معجزة في اصطلاح المتكلمين إلا ما تحدى به الخلق، فيعجزون عن معارضته. "الروض الأنف، ج1 ص266-267".
2 اسم جبريل سرياني، ومعناه: عبد الرحمن، أو عبد العزيز. هكذا جاء عن ابن عباس موقوفًا ومرفوعًا أيضًا، والوقف أصله، وأكثر الناس على أن آخر الاسم منه هو اسم الله وهو: إيل، وكان مذهب طائفة من أهل العلم في أن هذه الأسماء إضافتها مقلوبة وكذلك الإضافة في كلام العجم، يقولون في غلام زيد: زيد غلام، فعلى هذا يكون إيل عبارة عن العبد، ويكون أول الاسم عبارة عن اسم من أسماء الله تعالى، ألا ترى كيف قال جبريل وميكائيل، كما تقول: عبد الله وعبد الرحمن، ألا ترى أن لفظ عبد يتكرر بلفظ واحد، والأسماء ألفاظها مختلفة.
واتفق في اسم جبريل عليه السلام أنه موافق من جهة العربية لمعناه، وإن كان أعجميًا؛ فإن الجبر هو إصلاح ما وَهَى وجبريل موكل بالوحي، وفي الوحي إصلاح ما فسد، وجبر ما وَهَى من الدين.

 

ج / 1 ص -218-     نزول جبريل عليه، صلى الله عليه وسلم:
قال ابن إسحاق: وحدثني، وَهْب بن كَيْسان، مولى آل الزبير. قال: سمعتُ عبدَ الله بن الزبير وهو يقول لعُبَيد بن عُمَيْر بن قَتادة الليثي: حدثنا يا عبيد، كيف كان بدْءُ ما ابتُدئ به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من النبوة، حين جاءه جبريل عليه السلام؟ قال: فقال عُبيد -وأنا حاضر يحدث عبد الله بن الزبير، ومن عنده من الناس: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يجاور في حِراء من كل سنة شهرًا، وكان ذلك مما تحنَّث به قريش في الجاهلية. والتحنث: التبرُّر1.
قال ابن إسحاق: وقال أبو طالب:

وثَوْر ومن أرسى ثَبِيرًا مكانَه                     ورَاقٍ ليَرْقَى في حِراءَ ونازِلِ

التحنث والتحنف: قال ابن هشام: تقول العرب: التحنث والتحنف، يريدون الحَنِيفية فيبدلون الفاء من الثاء، كما قالوا: جَدَفَ وجَدَث. يريدون: القبرَ. قال رؤبةُ بن العَجّاج:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 التَبرُّرُ. تفعُّل من البر، وتفعل: يقتضى الدخول في الفعل، وهو الأكثر فيها مثل: تَفَقَه وتعبَّد وتنسَّك، وقد جاءت في ألفاظ يسيرة تعطي الخروج عن الشيء واطِّراحه، كالتأثم والتحرج. والتحنث بالتاء المثلثة؛ لأنه من الحِنْث وهو الحمل الثقيل، وكذلك التقذر، إنما هو تباعد عن القذر، وأما التحنف بالفاء، فهو من باب التبرر؛ لأنه من الحنيفية دين إبراهيم، وإن كان الفاء مُبدلة من الثاء، فهو من باب التقذر والتأثم، وهو قول ابن هشام، واحتج بجدف وجدث. "الروض الأنف ج1 ص267".

 

ج / 1 ص -219-     لو كان أحجاري مع الأجْداف1
يريد: الأجداث: وهذا البيت في أرجوزة له. وبيت أبي طالب في قصيدة له سأذكرها إن شاء الله في موضعها.
قال ابن هشام: وحدثني أبو عبيدة أن العرب تقول: فم، في موضع: ثم، يبدلون الفاء من الثاء.
قال ابن إسحاق: حدثني وهب بن كيسان قال: قال عُبَيد: فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يجاور2 ذلك الشهرَ من كل سنة، يُطعم من جاءه من المساكين، فإذا قضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جوارَه، من شهره ذلك، كان أول ما يبدأ به -إذا انصرف من جواره- الكعبة، قبل أن يدخلَ بيتَه، فيطوفُ بها سبعًا، أو ما شاء الله من ذلك، ثم يرجع إلى بيته.
حتى إذا كان الشهرُ الذي أراد الله تعالى به فيه ما أراد من كرامته، من السنة التي بعثه الله تعالى فيها، وذلك الشهرُ: شهرُ رمضان، خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى حِراء، كما كان يخرج لجوارِه ومعه أهلُه، حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه اللهُ فيها برسالته ورحم العبادَ بها، جاءه جبريلُ -عليه السلام- بأمر الله تعالى.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وفي بيت رؤبة هذا شاهد ورد على ابن جني حيث زعم في سر صناعة الإعراب أن جدف بالفاء لا يجمع على أجداف، واحتج بهذا لمذهبه في أن الثاء هي الأصل، وقول رؤبة رد عليه، والذي نذهب إليه أن الفاء هي الأصل في هذا الحرف؛ لأنه من الجدف وهو القطع، ومنه مجداف السفينة، وفي حديث عمر في وصف الجن: "شرابهم الجَدَفُ" وهي الرغْوَة؛ لأنها تُجْدَف عن الماء، وقيل: هي نبات يقطع ويؤكل. وقيل: كل إناء كشف عنه غطاؤه: جدف والجدف: القبر من هذا، فله مادة وأصل في الاشتقاق، فأجدر بأن تكون الفاء هي الأصل والثاء داخلة عليها.
2 الجوار بالكسر في معنى المجاورة وهي الاعتكاف إلا من وجه واحد، وهو أن الاعتكاف لا يكون إلا داخل المسجد، والجوار قد يكون خارج المسجد، كذلك قال ابن عبد البر ولذلك لم يُسَمَّ جواره بحراء اعتكافًا؛ لأن حراء ليس من المسجد، ولكنه من جبال الحرم.

 

ج / 1 ص -220-     قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "فجاءني جبريلُ، وأنا نائم1، بِنَمَطٍ من دِيباجٍ2 فيه

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال في الحديث: فأتاني وأنا نائم، وقال في آخره: فهببت من نومي، فكأنما كُتِبَت في قلبي كتابًا، وليس ذكر النوم في حديث عائشة ولا غيرها، بل في حديث عروة عن عائشة ما يدل ظاهره على أن نزول جبريل نزل بسورة اقرأ، كان في اليقظة؛ لأنها قالت في أول الحديث: "أول ما بُدئ به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حَبَّب الله إليه الخلاء -إلى قولها- حتى جاءه الحق وهو بغار حراء، فجاءه جبريل"، فذكرت في هذا الحديث أن الرؤيا كانت قبل نزول جبريل على النبي -عليه السلام- بالقرآن، وقد يمكن الجمع بين الحديثين بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- جاءه جبريل في المنام قبل أن يأتيه في اليقظة توطئة وتيسيرًا عليه ورفقًا به؛ لأن أمر النبوة عظيم، وعبؤها ثقيل، والبشر ضعيف، وسيأتي في حديث الإسراء من مقالة العلماء ما يؤكد هذا ويصححه.
وقد ثبت بالطرق الصحاح عن عامر الشعبي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكُل به إسرافيل، فكان يتراءى له ثلاث سنين، ويأتيه بالكلمة من الوحي والشيء، ثم وُكل به جبريل فجاءه بالقرآن والوحي، فعلى هذا كان نزول الوحي عليه، صلى الله عليه وسلم، في أحوال مختلفة، فمنها: النوم كما في حديث ابن إسحاق.
ومنها: أن يُنْفثَ في روعه الكلام نَفْثًا، كما قال، عليه السلام:
"إن روح القدس نفث في رُوعِي أن نفسًا لن تموت، حتى تستكمل أجلها ورزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب".
ومنها أن يأتيه الوحي في مثل صلصلة الجرس وهو أشده عليه. وقيل: إن ذلك ليستجمع قلبه عند تلك الصلصلة، فيكون أوعى لما يسمع، وألقن لما يُلَقَّى.
ومنها: أن يتمثل له الملك رجلاً، فقد كان يأتيه في صورة دِحية بن خليفة.
ومنها: ينتشر منها أن يتراءى له جبريل في صورته التي خلقه الله فيها، له ستمائة جناح، ينتشر منها اللؤلؤ والياقوت.
ومنها: أن يكلمه الله من وراء حجاب: إمّا في اليقظة كما كلمه في ليلة الإسراء، وإما في النوم، كما قال في حديث معاذ الذي رواه الترمذي، قال: "أتاني ربي في أحسن صورة....".
2 فيه دليل وإشارة إلى أن هذا الكتاب يفتح على أمته ملك الأعاجم، ويسلبونهم الديباج والحرير الذي كان زينهم وزينتهم، وبه أيضًا ينال مُلك الآخرة، ولباس الجنة وهو الحرير والديباج.

 

ج / 1 ص -221-     كتاب"، فقال: اقرأ1، قال: قلت: "ما أقرأ"، قال: "فغتَّني به2، حتى ظننت أنه الموتُ، ثم أرسلنى"؛ فقال: اقرأ، قال قلت: "ما أقرأ؟" قال: "فغتَّني به، حتى ظننتُ أنه الموتُ، ثم أرسلني"، فقال: اقرأ، قال: قلت: "ماذا أقرأ؟" قال: "فغتَّني به، حتى ظننتُ أنه الموتُ، ثم أرسلنى"، فقال: اقرأ، قال: فقلت: "ماذا أقرأ؟ ما أقول ذلك إلا افتداءً منه أن يعود لي بمثل ما صنع بي". فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1- آخرها] قال: "فقرأتها، ثم انتهى، فانصرف عني، وهببت من نومي، فكأنما كتبت في قلبي كتابا". قال: "فخرجتُ حتى إذا كنتُ في وسطٍ من الجبل سمعت صوتًا من السماءِ يقول: يا محمدُ أنت رسولُ الله، وأنا جبريلُ، قال: فرفعتُ رأسي إلى السماء أنظر، فإذا جبريلُ في صورة رجل صافّ قدميه3 في أفق السماء يقول: يا محمد، أنت رسول الله وأنا جبريل. قال: فوقفت أنظر إليه فما أتقدم وما أتأخر، وجعلتُ أصرفُ وجهي عنه في آفاقِ السماء، قال: فلا أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك، فما زلتُ واقفا ما أتقدم أمامي، وما أرجع ورائي حتى بَعثَتْ خدِيجةُ رُسلَهَا في طلبي، فبلغوا أعلى مكةَ، ورجعوا إليها، وأنا واقف في مكاني ذلك، ثم انصرف عني".
الرسول -صلى الله عليه وسلم- يخبر خديجة رضي الله عنها بنزول جبريل عليه:
"وانصرفتُ راجعًا إلى أهلي، حتى أتيتُ خديجةَ، فجلست إلى فخذها مُضيفًا إليها"، فقالت: يا أبا القاسم، أين كنتَ؟ فوالله لقد بعثت رسلي في طلبك، حتى بلغوا مكةَ ورجعوا لي، "ثم حدثتها بالذي رأيتُ"، فقالت: أبشرْ يابن عمِّ واثبُتْ فوالذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبيَّ هذه الأمة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وفي رواية: "ما أنا بقارئ"، أي: أني أمِّيُّ، فلا أقرأ الكتب، قالها ثلاثًا فقيل له:
{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقََ} [العلق: 1]، أي: إنك لا تقرؤه بحولك، ولا بصفة نفسك، ولا بمعرفتك، ولكن اقرأ مفتتحًا باسم ربك مستعينًا به، فهو يعلمك كما خَلقك.
أما على رواية:
"ما أقرأ؟" يحتمل أن تكون ما استفهامًا، يريد أي شيء أقرأ؟ ويحتمل أن تكون نفيًا، ورواية البخاري ومسلم تدل على أنه أراد النفي، أي ما أحسن أن أقرأ، كما قد تقدم.
2 ويروى: فسأبني، ويروى: سأتنى، وأحسبه أيضًا يروى: فذعتني وكلها بمعنى واحد، وهو الخنق والغم.
3 وفي حديث جابر أنه رآه على رفرف بين السماء والأرض، ويروى: على عرش بين السماء والأرض، وفي حدث البخاري الذي ذكره في آخر الجامع أنه حين فتر عنه الوحي، كان يأتي شواهق الجبال يهمُّ بأن يلقي نفسه منها، فكان جبريل يتراءى له بين السماء والأرض، يقول له أنت رسول الله، وأنا جبريل.

 

ج / 1 ص -222-     خديجة رضي الله عنها تخبر ورقة بن نوفل: ثم قامت فجمعت عليها ثيابها، ثم انطلقت إلى ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العُزى بن قُصي، وهو ابن عمها، وكان ورقة قد تنصّر، وقرأ الكتب، وسمع من أهل التوراة والإنجيل. فأخبرته بما أخبرها به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه رأى وسمع. فقال ورقةُ بن نوفل: قدُّوس قدوس، والذي نفس ورقةَ بيده لئن كنتِ صدقتيني يا خديجةُ لقد جاءه الناموسُ1 الأكبر الذي كان يأتي موسى2، وإنه لنبيُّ هذه الأمة. فقولي له: فليثبت.
فرجعت خديجة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم. فأخبرته بقول ورقةَ بن نَوْفَل. فلما قضى رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- جوارَه وانصرف، صنع كما كان يصنع: بدأ بالكعبة، فطاف بها. فلقيه ورقةُ بن نوفل، وهو يطوف بالكعبة. فقال: يابن أخي أخبرْني بما رأيتَ وسمعتَ: فأخبره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال له ورقةُ: والذي نفسي بيده، إنك لنبيُّ هذه الأمة، وقد جاءك الناموسُ الأكبرُ الذي جاء موسى. ولتُكَذِّبنهْ، ولتُؤذَيَنَّهْ، ولتُخْرَجَنهْ، ولَتُقَاتلنَّهْ3. ولئن أنا أدركتُ4 ذلك اليوم لأنصرنَّ اللهَ نصرًا يعلمه. ثم أدنى رأسَه منه، فقبل يافوخَه، ثم انصرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى منزله.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الناموس: صاحب سر الملك، قال بعضهم: هو صاحب سر الخير، والجاسوس: هو صاحب سر الشر.
2 ذكر ورقة موسى ولم يذكر عيسى وهو أقرب؛ لأن ورقة كان قد تنصر، والنصارى لا يقولون في عيسى إنه نبي يأتيه جبريل، وإنما يقولون فيه: إن أقنومًا من الأقانيم الثلاثة اللاهوتية حل بناسوت المسيح، واتحد به على اختلاف بينهم في ذلك الحلول، وهو أقنوم الكلمة، والكلمة عندهم: عبارة عن العلم، فلذلك كان المسيح عندهم، يعلم الغيب، ويخبر بما في غد.
3 الهاءات الأربعة لا ينطق بها إلا ساكنة فإنها هاءات سكت وليست بضمائر.
4 في الحديث: "إن يدركني يومك...." وهو القياس؛ لأن ورقة سابق بالوجود، والسابق هو الذي يدركه من يأتي بعده.

 

ج / 1 ص -223-     تثبُّت خديجة رضي الله عنها من الوحي: قال ابن إسحاق: وحدثني إسماعيلُ بن أبي حكيم مولى آلِ الزبير: أنه حُدِّث عن خديجة رضي الله عنها أنها قالت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم: أي ابن عَم، أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك؟ قال: "نعم"، قالت: فإذا جاءك فأخبرني به. فجاءه جبريلُ عليه السلام، كما كان يصنعُ، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لخديجةَ: "يا خديجةُ، هذا جبريلُ قد جاءني"، قالت: قم يابن عم فاجلسْ على فَخذي اليسرى، قال: فقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجلس عليها، قالت: هل تراه؟ قال: "نعم"، قالت: فتحولْ، فاجلسْ على فخذي اليمنى، قالت: فتحول رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فجلس، على فخذي اليمنى، فقالت: هل تراه؟ قال: "نعم"، قالت: فتحولْ فاجلسْ على حجري، قالت: فتحول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجلس في حجرها، قالت: هل تراه؟ قال: "نعم"، قال: فتحسَّرت وألقت خمارَها ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس في حجرها، ثم قالت له: هل تراه؟ قال: "لا"، قالت: يابن عم، أثبت وأبشرْ، فوالله إنه لملك وما هذا بشيطان.
قال ابن إسحاق: وقد حَدثتُ عبدَ الله بن حسن1 هذا الحديث، فقال: قد سمعتُ أمي فاطمة بنت حُسين تحدث بهذا الحديث عن خديجة، إلا أني سمعتها تقول: أدخلتْ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- بينها وبين درعها، فذهب عندَ ذلك جبريل، فقالت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم: إن هذا لملك، وما هو بشيطان.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 عبد الله هذا هو: عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب، وأمه فاطمة بنت الحسين أخت سُكَينة: واسمها: آمنة، وسكينة لقب لها، التي كانت ذات دعابة ومزح، وفي سكينة وأمها الرباب يقول الحسين بن علي رضي الله عن جميعهم:

كأن الليل موصول بليل                          إذا زارت سكينة والرباب

أي: زارت قومها، وهم: بنو عُلَيْم بن جناب، من كلب، ثم من بني كعب بن عليم، ويعرف بنو كعب بن عليم ببني "زيد" غير مصروف؛ لأنه اسم أمهم، وعبد الله بن حسن هو والد الطالبيين القائمين على بني العباس، وهم: محمد ويحيى وإدريس، مات إدريس بإفريقية: فارًّا من الرشيد، ومات مسمومًا في دلاعة "نوع من المحار" أكلها.

 

ج / 1 ص -224-     ابتداء تنزيل القرآن:
متى نزل القرآن: قال ابن إسحاق: فابتُدئ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالتنزيل في شهر رمضان، بقول الله عز وجل:
{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185] وقال الله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ، لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ، سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 1- 5] وقال الله تعالى: {حم?، وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ، إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ، فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ، أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} [الدخان:13] وقال تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} [الأنفال: 41] وذلك مُلْتقَى رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- والمشركين ببدر.
تاريخ وقعة بدر: قال ابن إسحاق: وحدثني أبو جعفر محمد بن علي بن حُسَين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، التقى هو والمشركون ببدر يوم الجمعة، صبيحةَ سَبْعَ عَشْرةَ من رمضان.
قال ابن إسحاق: ثم تتامَّ الوحي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو مؤمن بالله مُصدِّق بما جاءه منه، قد قَبله بقَبوله، وتحمَّل منه ما حُمِّله على رضَا العباد وسخطهم، والنبوة أثقال ومؤنة، لا يحملها، ولا يستطيع بها، إلا أهل القوة والعزم من الرسل، بعون الله تعالى وتوفيقه، لما يَلْقَوْن من الناسِ، وما يُرَدُّ عليهم مما جاءوا به عن الله سبحانه وتعالى.
قال: فمضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أمر الله، على ما يلقى من قومه من الخلاف والأذى.
إسلام خديجة بنت خويلد:
وقوفها بجانبه صلى الله عليه وسلم: وآمنت به خديجة بنت خُوَيْلد، وصدَّقت بما جاءه من الله، ووازرَتْه على أمره، وكانت أولَ من آمن بالله وبرسوله، وصدَّق بما جاء منه، فخفف الله بذلك عن نبيه -صلى الله عليه وسلم- لا يسمع شيئًا مما يكرهه من رد عليه وتكذيب له، فيحزنه ذلك، إلا فرَّج الله عنه بها إذا رجع إليها، تثبِّته وتخفف عليه، وتصدِّقه وتهون عليه أمر الناس، رحمها الله تعالى.

 

ج / 1 ص -225-     تبشير خديجة ببيت من قصب: قال ابن إسحاق: وحدثني هشام بن عُرْوة، عن أبيه عُروةَ بنِ الزبير، عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرتُ أن أبشِّر خديجةَ ببيت من قَصَبٍ، لا صخبَ فيه ولا نصب"1.
قال ابن هشام: القصب اللؤلؤ المجوف.
جبريل يُقرئ خديجة السلام من ربها: قال ابن هشام: وحدثني من أثق به، أن جبريل عليه السلام أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال: أقرئ خديجةَ السلام من ربها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا خديجةُ، هذا جبريل يقرِئُك السلامَ من ربك"، فقالت خديجة: اللهُ السلامُ، ومنه السلامُ، وعلى جبريلَ السلامُ.
فترة الوحي ونزول سورة الضحى: قال ابن إسحاق: ثم فتر الوحي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتْرةً من ذلك، حتى شقَّ ذلك عليه فأحزنه، فجاءه جبريلُ بسورة الضحى، يُقسم له رُّبه، وهو الذي أكرمه بما أكرمه به، ما ودَّعه وما قَلاَه، فقال تعالى:
{وَالضُّحَى، وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى، مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى، وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} [الضحى: 1- 4] يقول: ما صرمك فتركك، وما أبغضك منذ أحبك. {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى}. أي لمَا عندي من مرجعك إلىَّ، خيرٌ لك مما عَجَّلْت لك من الكرامة في الدنيا. {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} من الفُلح في الدنيا، والثواب في الآخرة. {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى، وَوَجَدَكَ ضَالًا فَهَدَى، وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى: 68] يعرفه الله ما ابتدأه به من كرامته في عاجل أمره، ومَنِّه عليه في يتمه وعَيْلَته وضلالته، واستنقاذه من ذلك كلِّه برحمته2.
تفسير مفردات سورة الضحى: قال ابن هشام: سَجَى: سكن. قال أمية بن أبي الصلت الثقفي:

إذ أتى مَوْهِنًا وقد نام صحبي                   وسجا الليلُ بالظلامِ البهيمِ3


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 حديث مرسل، وقد رواه مسلم متصلا عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة. انظر الحديث بتمامه في: "الروض الأنف، بتحقيقنا، ج1 ص277".
2 كانت فترة الوحي سنتين ونصفًا.
3 سجا: دام وسكن.

 

ج / 1 ص -226-     وهذا البيت في قصيدة له، ويقال للعَيْن إذا سكن طرفُها: ساجية، وسجا طرفُها.
قال جرير:

ولقد رَمَيْنَك حين رُحْن بأعين                يَقْتُلْنَ مِن خَلَلِ الستور سَواجِي

وهذا البيت في قصيدة له. والعائل: الفقير. قال أبو خِرَاش الهُذلي:

إلى بيته يَأوي الضّريكُ إذا شَتا               ومُستَنبح بالِي الدَّرِيسيْنِ عائلُ1

وجمعه: عالة وعيل. وهذا البيت في قصيدة له، سأذكرها في موضعها إن شاء الله: والعائل أيضًا: الذي يعول العيال. والعائل أيضًا: الخائف. وفي كتاب الله تعالى:{ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} [النساء: 3] وقال أبو طالب:

بميزانِ قِسطٍ لا يُخِسُّ شَعيرةً له                   شاهد من نفسِه غيرُ عائل

وهذا البيت في قصيدة له سأذكرها -إن شاء الّله في موضعها. والعائل أيضًا الشيء المُثْقِل المعيى يقول الرجل: قد عالني هذا الأمر: أي أثقلني وأعياني. قال الفرزدق:

ترى الغرَّ الجَحَاجِحَ من قريشٍ                   إذا ما الأمرُ في الحَدَثانِ عَالاَ2

وهذا البيت في قصيدة له.
{فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ، وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} [الضحى:9، 10] أي لا تكن جبارًا ولا متكبرًا، ولا فحَّاشًا فَظًّا على الضعفاء من عباد الله. {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}[الضحى: 11] أي بما جاءك من الله من نعمته وكرامته من النبوة فحدثْ، أي اذكرْها وادْعُ إليها، فجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يذكرُ ما أنعم اللهُ به عليه وعلى العبادِ به من النبوةِ سرًّا إلى من يطمئن إليه من أهله.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الضريك: الضعيف المضطر، والمستنبح: الذي يضل عن الطريق في ظلمة الليل، فينبح ليسمع نباح كلب فيعرف مكان العمران. والدريس: الثوب الخلق.
2 الغر: المشهورون والجحاجيح: السادة وحذف الياء لإقامة الوزن. والحدثان: حوادث الدهر.

 

ج / 1 ص -227-     ابتداء ما افترض الله سبحانه وتعالى على النبي -صلى الله عليه وسلم- من الصلاة وأوقاتها
وافتُرضت الصلاةُ عليه فصلى رسول الله -صلى الله عليه وآله، والسلام عليه وعليهم ورحمة الله وبركاته.
افُترضت الصلاة ركعتين ثم زيدت: قال ابن إسحاق: وحدثني صالح بن كَيْسَان عن عُرْوة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها قالت: افتُرضت الصلاة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أول ما افتُرضت عليه، ركعتين ركعتين، كل صلاة؛ ثم إن الله تعالى أتمها في الحضَر أربعًا وأقرها في السفر على فَرْضها الأول ركعتين1.
جبريل يعلم الرسول -صلى الله عليه وسلم- الوضوء والصلاة: قال ابن إسحاق: وحدثني بعضُ أهل العلم: أن الصلاة حين افتُرضت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أتاه جبريل وهو بأعلى مكة، فهمز له بعقبه في ناحية الوادي، فانفجرت منه عين؛ فتوضأ جبريل عليه السلام، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينظر إليه، ليُرِيَه كيف الطَّهور للصلاة، ثم توضأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما رأى جبريل توضأ. ثم قام به جبريلُ فصلى به، وصلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بصلاته، ثم انصرف جبريلُ عليه السلام.
الرسول -صلى الله عليه وسلم- يُعلم خديجة الوضوء والصلاة: فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خديجة، فتوضأ لها ليرِيَها كيف الطَّهورُ للصلاة كما أراه جبريلُ، فتوضأت كما توضأ لها رسول الله عليه الصلاة والسلام، ثم صلى بها رسول الله عليه الصلاة والسلام كما صلى به جبريل فصلت بصلاته2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذكر المزني أن الصلاة قبل الإسراء كانت صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة بعد الغروب، وقال ابن سلام: فرض الصلوات الخمس قبل الهجرة بعام، فعلى هذا يحتمل قول عائشة: "فزيد في صلاة الحضر" أي زيد فيها حين أكملت خمسًا، فتكون الزيادة في الركعات وفي عدد الصلوات، ويكون قولها: "فُرضت الصلاة ركعتين" أي: قبل الإسراء.
2 الحديث مقطوع في السيرة، ومثله لا يكون أصلا في الأحكام الشرعية، ولكنه قد روي مُسندًا إلى زيد بن حارثة -برفعه- غير أن هذا الحديث المسند يدور على عبد الله بن لهِيعَة وقد ضُعِّف ولم يخرج عنه البخاري ومسلم؛ لأنه يقال: إن كتبه احترقت، فكان يحدث من حفظه، وكان مالك بن أنس يحسن فيه القول. وانظر تمام القول في هذا الموضوع في: "الروض الأنف: للسهيلي، من تحقيقنا ج1 ص284".

 

ج / 1 ص -228-     جبريل يعين للرسول -صلى الله عليه وسلم- أوقات الصلاة: قال ابن إسحاق: حدثني عُتبةُ بن مُسْلم مولى بني تميم، عن نافع بن جُبَيْر بن مُطعِم، وكان نافع كثير الرواية، عن ابن عباس قال: لما افتُرضت الصلاة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أتاه جبريل عليه السلام، فصلى به الظهر حين مالت الشمس، ثم صلى به العصر حين كان ظلُّه مثلَه، ثم صلى به المغرب حين غابت الشمسُ، ثم صلى به العِشاءَ الآخرةَ حين ذهب الشَّفقُ، ثم صلى به الصبح حين طلع الفجرُ، ثم جاءه فصلى به الظهر من غد حين كان ظلُّه مثلَه، ثم صلى به العصر حين كان ظلُّه مثليه، ثم صلى به المغرب حين غابت الشمسُ لوقتها بالأمس، ثم صلى به العشاء الآخرة حين ذهب ثلثُ الليل الأول، ثم صلى به الصبح مسفرًا غيرَ مُشْرِقٍ، ثم قال: يا محمد، الصلاةُ فيما بين صلاتك اليوم وصلاتك بالأمس1.
ذكر أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أول ذكر أسلم:
قال ابن إسحاق: ثم كان أول ذكر من الناس آمن برسول الله وصلى معه وصدَّق بما جاءه من الله تعالى: علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم، رضوان الله وسلامه عليه، وهو يومئذ ابن عشر سنين.
نعمة الله على علي بنشأته في كَنَف الرسول: وكان مما أنعم الله به على علي بن أبي طالب رضى الله عنه، أنه كان في حِجْر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل الإِسلام.
سبب هذه النشأة: قال ابن إسحاق: وحدثني عبدُ الله بن أبي نَجِيح، عن مُجاهد بن جَبْر بن أبي الحَجَّاج، قال:كان من نعمةِ الله على عليِّ بن أبى طالب، ومما صنع الله له، وأراده

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا الحديث لم يكن ينبغي له أن يذكره في هذا الموضع؛ لأن أهل الصحيحِ متفقون على أن هذه القصة، كانت في الغد من ليلة الإسراء، وذلك بعد ما نُبِئ بخمسة أعوام وقد قيل إن الإسراء كان قبل الهجرة بعام ونصف، وقيل: بعام، فذكره ابن إسحاق في بدء نزول الوحي، وأول أحوال الصلاة. انظر: "الروض الأنف، بتحقيقنا، ج1 ص284".

 

ج / 1 ص -229-     به من الخير، أن قريشًا أصابتهم أزمة شديدة، وكان أبو طالب ذا عيالٍ كثير؛ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للعباس عمِّه، وكان من أيسر بني هاشم: يا عباس، إن أخاك أبا طالب كثير العيال، وقد أصاب الناسَ ما ترى من هذه الأزمة، فانطلقْ بنا إليه، فلنخففْ عنه من عياله: آخذ من بنيه رجلًا، وتأخذ أنت رجلًا، فنكلهما عنه؛ فقال العباسُ: نعم. فانطلقا حتى أتيا أبا طالب، فقالا له: إنا نريد أن نخففَ عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه؛ فقال لهما أبو طالب: إذا تركتما لي عَقيلًا فاصنعا ما شئتما، قال ابن هشام: ويقال: عقيلًا وطالبًا1.
فأخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عليًّا، فضمه إليه، وأخذ العباس جعفرًا فضمه إليه، فلم يزل علي مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى بعثه الله تبارك وتعالى نبيًّا، فاتَّبعه علي رضى الله عنه، وآمن به وصدقه؛ ولم يزل جعفر عند العباس حتى أسلم واستغنى عنه.
الرسول -صلى الله عليه وسلم- وعليّ يخرجان إلى الصلاة في شعب مكة واكتشاف أبي طالب لهما:
قال ابن إسحاق: وذكر بعض أهل العلم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا حضرت الصلاة خرج إلى شعاب مكة، وخرج معه عليُّ بن أبي طالب مستخفيًا من أبيه أبي طالب ومن جميع أعمامه وسائر قومه، فيصليان الصلوات فيها، فإذا أمسيا رجعا فمكثا كذلك ما شاء الله أن يمكثا. ثم إن أبا طالب عثر عليهما يومًا وهما يُصليان، فقال لرسولِ الله، صلى الله عليه وسلم: يابن أخي! ما هذا الدينُ الذي أراك تَدين به؟ قال: "أي عمّ! هذا دين الله ودين ملائكته، ودين رسله، ودين أبينا إبراهيم –أو كما قال صلى الله عليه وسلم– بعثني الله به رسولا إلى العباد، وأنت أي عم، أحقُّ من بذلتُ له النصيحة، ودعوتُه إلى الهدَى، وأحقُّ من أجابني إليه وأعانني عليه"، أو كما قال؟ فقال أبو طالب: أي ابن أخي! إني لا أستطيع أن أفارقَ دين آبائي وما كانوا عليه، ولكن والله لا يُخْلَصُ2 إليك بشيء تكرهه ما بَقيت.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وكان علي أصغر من جعفر بعشر سنين وجعفر أصغر من عقيل بعشر سنين وعقيل أصغر من طالب بعشر سنين، وكلهم أسلم إلا طالبًا الذي يقول عنه السهيلي أنه اختطفته الجن فلم يعلم إسلامه.
2 لا يخلص: لا يوصل.

 

ج / 1 ص -230-     وذكروا أنه قال لعلي: أي بني! ما هذا الدين الذي أنت عليه؟ فقال: يا أبت، آمنت بالله وبرسولِ الله، وصدقتُه بما جاء به وصليتُ معه لله واتبعته، فزعموا أنه قال له: أما إنه لم يَدْعُك إلا إلى خير فألزمه.
إسلام زيد بن حارثة ثانيًا:
قال ابن إسحاق: ثم أسلم زيد بن حارثة بن شرحبيل بن كعب بن عبد العُزَّى بن امرئ القيس الكلبي، مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان أولَ ذكر أسلم، وصلى بعد علي بن أبي طالب.
نسب زيد: قال ابن هشام: زيد بن حارثة بن شَرَاحيل بن كعب بن عبد العُزَّى بن امرئ القيس بن عامر بن النعمان بن عامر بن عبد وُدّ بن عَوْف بن كِنانة بن بكر بن عوف بن عُذْرَة بن زيْد اللات بن رُفَيْدة بن ثَوْر بن كلب بن وَبْرة. وكان حكيم بن حزام بن خُوَيلد قدم من الشام برقيق، فيهم زيد بن حارثة1 وصيف. فدخلت عليه عمته خديجة بنت خويلد وهي يومئذ عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال لها: اختاري يا عمة أي هؤلاء الغلمان شئت فهو لك، فاختارت زيدًا فأخذته، فرآه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندها، فاستوهبه منها، فوهبته له، فأعتقه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتبناه، وذلك قبل أن يُوحى إليه.
شعر حارثة أبي زيد عندما فقده: وكان أبوه حارثة قد جزع عليه جَزَعًا شديدًا، وبكى عليه حين فقده، فقال:

بكيتُ على زيدٍ ولمْ أدْرِ ما فعلْ                 أحَي فيُرْجَى أم أتى دونَه الأجلْ

فوالله ما أدري وإنى لسائلٌ أغَالكَ              بعدي السهلُ أم غالَك الجبلْ

ويا ليتَ شِعْري هل لك الدهرُ أوبةٌ             فحسبي من الدنيا رجوعُك لي بَجَلْ2؟


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لأن أم زيد: سعدى بنت ثعلبة من بني معن من طيئ وكانت قد خرجت بزيد لتزيره أهلها، فأصابته خيل من بني القَيْن بن جِسْر، فباعوه بسوق حُباشة، وهو من أسواق العرب، وزيد يومئذ ابن ثمانية أعوام، ثم كان من حديثه ما ذكر ابن إسحاق.
2 بجل: حسم.

 

ج / 1 ص -231-                                               تُذَكِّرْنيه الشمسُ عندَ طلوعِها    وتَعرضُ ذكراه إذا غربُها أفل

وإن هَبَّت الأرواحُ هَيَّجنَ ذكرَه                             فياطولُ ما حزْني عليه وما وَجَل1

سأعمل نَصَّ العيسِ في الأرضِ جاهدًا                ولا أسأمُ التَّطوَافَ أو تسأمُ الإبل2

حَياتيَ أو تأتي عليّ مَنِيتي                             فكلُّ امرئ فانٍ وإن غرَّه الأملْ3

ثم قَدِم عليه وهو عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال له رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "إن شئتَ فأقم عندي، وإن شئتَ فانطلقْ مع أبيك"، فقال: بل أقيم عندك. فلم يزل عندَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى بعثه الله فصدقه وأسلم، وصلى معه؛ فلما أنزل الله عز وجل: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب: 5] قال: أنا زيد بن حارثة.
إسلام أبي بكر الصديق رضي الله عنه وشأنه
نسبه: قال ابن إسحاق: ثم أسلم أبو بكر بن أبي قحافة، واسمه عَتيق، واسم أبي قحافة عُثمان بن عَمرو بن كعب بن سعد بن تَيْم بن مُرّة بن لُؤَي بن غالب بن فِهر.
اسمه ولقبه: قال ابن هشام: واسم أبي بكر: عبد الله، وعتيق: لقب لحُسنِ وجهه وعتقه.
إسلامه: قال ابن إسحاق: فلما أسلم أبو بكر رضي الله عنه: أظهر إسلامه، ودعا إلى الله وإلى رسوله.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الأرواح: جمع ريح.
2 النص: السير السريع.
3 زاد السهيلي بعد هذا البيت قوله:

سأوصي به قيسًا وعَمرًا كليهما                وأوصي يزيدًا ثم أوصي به جَبَل

ولما بلغ زيدًا قول أبيه قال بحيث يسمعه الركبان:

أحن إلى أهلي وإن كنت نائيا                   بأني قعيد البيت عند المشاعر

فكفوا من الوجد الذي قد شجاكم              ولا تعملوا في الأرض نص الأباعر

فإني بحمد الله في خير أسرة                   كرام معدّ كابرًا بعد كابر

انظر تمام الموضوع في: "الروض الأنف، بتحقيقنا، ج1 ص286-287".

ج / 1 ص -232-     إيلاف قريش له ودعوته للإِسلام: وكان أبو بكر1 رجلًا مألفًا لقومه، محببًا سهلًا، وكان أنسبَ قريش لقريش، وأعلمَ قريش بها، وبما كان فيها من خير وشر، وكان رجلًا تاجرًا، ذا خُلق ومعروف، وكان رجال قومِه يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر: لعلمه وتجارته وحسن مجالسته، فجعل يدعو إلى الله وإلى الإِسلام من وَثق به من قومه، ممن يغشاه ويجلس إليه.
ذكر من أسلم من الصحابة بدعوة أبي بكر رضي الله عنه:
عثمان: قال: فأسلم بدعائه -فيما بلغني- عثمانُ بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مُرَّة بن كعب بن لؤي بن غالب.
الزبير: والزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العُزَّى بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي.
عبد الرحمن بن عوف: وعبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف بن عبد بن الحارث بن زُهرة بن كلاب بن مُرة بن كعب بن لؤي.
سعد بن أبي وقاص: وسعد بن أبي وقاص، واسم أبي وقاص: مالك بن أهَيْب بن عبد مناف بن زُهرة بن مُرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي.
طلحة: وطلحة بن عُبَيْد الله بن عثمان بن عَمرو بن كَعْب بن سعد بن تَيْم بن مُرَّة بن كعب بن لُؤَي، فجاء بهم إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين استجابوا له فأسلموا وصلُّوا. وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول، فيما بلغني:
"ما دعوتُ أحدًا إلى الإِسلام إلا كانت فيه عنده كَبْوَة2، ونظر وتردد، إلا ما كان من أبي بكر بن أبي قُحَافة، ما عَكم عنه حين ذكرتُه له، وما تردد فيه".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ويسمى أيضًا عتيقًا وجهه وهو الحسن. وكان يسمى عبد الكعبة حتى أسلم وأمه أم الخير بنت صخر بن عمرو بنت عم أبي قحافة، وأما أم أبيه فقيلة بنت أذاه بن رياح بن عبد الله، وأمرأته قتلة بنت عبد العزى.
2 الكبوة: التأخر وعدم الإجابة.

 

ج / 1 ص -233-     قال ابن هشام: قوله: "بدعائه" عن غير ابن إسحاق.
قال ابن هشام: قوله: عَكَم: تلبث. قال رُؤبة بن العَجَّاج:
وانصاعَ وثابَ بها وما عَكَمْ1
قال ابن إسحاق: فكان هؤلاء النفر الثمانية الذين سبقوا الناسَ بالإِسلام فصَلُّوا وصدَّقُوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بما جاءه من الله. إسلام أبي عبيدة: ثم أسلم أبو عُبَيْدة بن الجراح، واسمه عامر بن عبد الله بن الجراح بن هلال بن أهيب بن ضَبَّة بن الحارث بن فِهْر.
إسلام أبي سلمة: وأبو سَلَمة، واسمه عبد الله بن عبد الأسَد بن هلال بن عبد الله بن عُمر بن مخزوم بن يَقَظة بن مُرَّة بن كعب بن لُؤَي.
إسلام الأرقم: والأرقم بن أبى الأرقم. واسم أبي الأرقم عبد مناف بن أسَد -وكان أسد يُكْنَى أبا جُنْدُب- بن عبد الله بن عُمر بن مخزوم بن يَقَظة بن مُرَّة بن كَعْب بن لُؤَي.
إسلام عثمان بن مظعون وأخويه: وعثمان بن مَظْعون بن حَبيب بن وَهْب بن حُذَافة بن جُمَح بن عَمْرو بن هُصَيْص بن كعب بن لؤي. وأخواه قُدامة وعبد الله ابنا مظعون بن حبيب.
إسلام عبيدة بن الحارث: وعُبَيْدة بن الحارث بن المطَّلب بن عبد مناف بن قُصيَ بن كلاب بن مُرة بن كعب بن لُؤَي. إسلام سعيد بن زيد وامرأته: وسعيد بن زيد بن عَمرو بن نُفَيْل بن عبد العُزَّي بن عبد الله بن قُرط بن رياح بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي؛ وامرأته فاطمة بنت الخطاب بن نُفيل بن عبد العزى بن عبد الله بن قُرْط بن رِياح بن رَزَاح بن عَدي بن كعب ابن لُؤَي، أخت عمر بن الخطاب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انصاع: ذهب.

 

ج / 1 ص -234-     إسلام أسماء وعائشة ابنتي أبي بكر وخباب بن الأرت: وأسْماء بنت أبي بكر وعائشة بنت أبي بكر، وهي يومئذ صغيرة وخَبَاب بن الأرَت، حليف بني زُهْرة.
قال ابن هشام: خَبَّاب بن الأرَتِّ من بني تميم، ويقال: هو من خزاعة.
إسلام عُمَير وابن مسعود وابن القاري: قال ابن إسحاق: وعُمَيْر بن أبى وقَّاص، أخو سعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود بن الحارث بن شَمْخ بن مخزوم بن صَاهلة بن كاهل بن الحارث بن تميم بن سعد بن هُذَيْل. ومسعود بن القَارِي، وهو مسعود بن ربيعة بن عمرو بن سعد بن عبد العُزَّى بن حمالة بن غالب بن مُحَلِّم بن عائذة بن سُبَيْع بن الهَوْن بن خزيمة من القَارَةِ.
قال ابن هشام: والقارة: لقب، ولهم يقال:

قد أنصف القارَةَ من راماها

وكانوا قوما رُماة1.
إسلام سليط وأخيه، وعياش وامرأته وخنيس وعامر: قال ابن إسحاق: وسَلِيط بن عَمرو بن عبد شمس بن عبد وُدّ بن نصر بن مالك بن حِسْل بن عامر بن لُؤَي بن غالب بن فِهْر؛ وأخوه حاطب بن عَمرو وعَيَّاش بن ربيعة بن المغيرة بن عبد الله بن عُمر بن مخزوم بنِ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وسمي بنو الهون بن خُزيمة قارة لقول الشاعر منهم في بعض الحروب:

دعونا شارة لا تُذْعرونا                       فنجْفِلَ مثل إجفالِ الظَّليم

هكذا أنشده أبو عبيد في كتاب الأنساب، وأنشده قاسم في الدلائل:

دعونا قارة لا تذعرونا                           فَتَثبتكَ القرابة والذّمام.

وكانوا رُمَاةَ الحدق -أي رماة أشداء- فمن راماهم فقد أنصفهم، والقارة: أرض كثيرة الحجارة، وجمعها قور، فكأن معنى المثل عندهم: أن القارة لا تَنْفدُ حجارتها إذ رُمي بها، فمن راماها فقد أنصفها.

 

ج / 1 ص -235-     يَقَظَة بن مُرة بن كعب بن لؤي؛ وامرأته أسماء بنت سلامة بن مُخرِّبة التميمية. وخُنَيْس بن حُذافة بن عدي بن سعد بن سهم بن عَمرو بن هُصَيْص بن كعب بن لؤي. وعامر بن ربيعة، من عَنْز بن وائل، حليف آل الخطاب بن نُفَيْل بن عبد العُزَّى.
قال ابن هشام: عَنْز بن وائل أخو بكر بن وائل، من ربيعة بن نزار.
إسلام ابنيْ جحش، وجعفر وامرأته، وحاطب وإخوته ونسائهم، والسائب، والمطلب وامرأته: قال ابن إسحاق: وعبد الله بن جحش بن رِئاب بن يَعْمَر بن صَبِرة بن مُرة بن كبير بن غَنْم بن دُودَان بن أسد بن خُزَيمة. وأخوه أبو أحمد بن جحش، حليفا بني أمية بن عبد شمس. وجعفر بن أبي طالب؛ وامرأته أسماء بنت عُمَيْس بن النعمان بن كعب بن مالك بن قحافة، من خَثْعم. وحاطب بن الحارث بن مَعْمَر بن حَبيب بن وهب بن حُذافة بن جُمَح بن عمرو بن هُصيْص بن كعب بن لؤي، وامرأته فاطمة بنت المُجَلَّل بن عبد الله بن أبي قَيْس بن عبد وُدّ بن نَصر بن مالك بن حِسْل بن عامر بن لُؤَي بن غالب بن فِهر وأخوه خطَّاب بن الحارث، وامرأته فُكَيْهة بنت يَسار. ومَعْمَر بن الحارث بن حبيب بن وهب بن حُذَافة بن جُمَح بن عَمْرو بن هُصَيْص بن كعب بن لُؤَي. والسائب بن عثمان بن مَظْعون بن حَبِيب بن وَهْب. والمطَّلِب بن أزْهَر بن عبد عَوْف بن عبد بن الحارث بن زُهْرة بن كلاب بن مُرّة بن كَعْب بن لُؤَي، وامرأته: رَمْلَة بنت أبي عوف بن ضُبَيْرة بن سَعيد بن سَهْم بن عَمْرو بن هُصَيْص بن كعب بن لُؤَي.
إسلام نعيم: والنَّحَّام، واسمه نُعَيْم بن عبد الله بن أسَد، أخو بني كعب بن لؤي.
نسب نعيم: قال ابن هشام: هو نُعَيم بن عبد الله بن أسَيْد بن عبد عوف بن عبيد بن عويج بن عدي بن كعب بن لؤي، وإنما سمي النَّحَّام؛ لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: لقد سمعت نَحْمَه في الجنة.
قال ابن هشام: نَحْمه: صوته أو حِسّه.
إسلام عامر بن فهيرة: قال ابن إسحاق: وعامر بن فهيرة، مولى أبي بكر الصديق -رضي الله عنه.

 

ج / 1 ص -236-     نسبه: قال ابن هشام: عامر بن فُهَيْرة مُوَلَّد من مُوَلِّدي الأسَيْد، أسْوَد اشتراه أبو بكر رضي الله عنه منهم.
إسلام خالد بن سيد ونسبه وإسلام امرأته: قال ابن إسحاق: وخالد بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قُصي بن مُرَّة بن كعب بن لؤي. وامرأته أمَيْنة بنت خَلَف بن أسعد بن عامر بن بَيَاضة بن سُبَيْع بن جُعْثُمة بن سعد بن مُلَيْح بن عَمرو، من خُزاعة.
قال ابن هشام: ويقال: هُمَيْنة بنت خلف.
إسلام حاطب وأبي حذيفة: قال ابن إسحاق: وحاطب بن عَمرو بن عبد شمس بن عبد وُدّ بن نَصر بن مالك بن حِسْل عامر بن لُؤَي بن غالب بن فِهْر، واسمه مُهْشِم فيما قال ابن هشام، بن عُتبة بن ربيعة بن عبد شمس عبد مناف بن قُصي بن كلاب بن مُرة بن كعب بن لُؤَي.
إسلام واقد وشيء من خبره:
وواقد بن عبد الله بن عبد مناف بن عَرِين بن ثَعْلبة بن يَرْبوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم، حليف بني عدي بن كعب.
قال ابن هشام: جاءت به باهلة، فباعوه من الخطاب بن نُفَيْل، فتبناه، فلما أنزل الله تعالى:
{ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ}.[الأحزاب: 5] قال: أنا واقد بن عبد الله، فيما قال أبو عَمرو المدني.
إسلام بني البكير: قال ابن إسحاق: وخالد وعامر وعاقل وإياس بَنُو البُكَيْر بن عبد يَاليل بن ناشِب بن غِيَرَة بن سعد بن لَيْث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة حلفاء بني عدي بن كعب.
إسلام عمار: بن ياسر حليف بني مخزوم بن يقظة.
قال ابن هشام: عمار بن ياسر عنسي من مذحج.
إسلام صهيب: قال ابن إسحاق: صهيب بن سنان أحد النمر بن قاسط حليف بني تيم بن مرة.
نسب صهيب: قال ابن هشام: النمر بن قاسط بن هنب بن أفصى بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار، ويقال: أفصى بن دعمى بن جديلة بن أسد؛ ويقال: صهيب: مولى عبد الله بن جدعان بن عمرو كعب بن سعد بن تيم.
ويقال: إنه رومي. فقال بعضُ مَن ذكر أنه من النمر بن قاسط، إنما كان أسيرًا في

 

ج / 1 ص -237-     أرض الروم، فاشتُرِيَ منهم. وجاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: "صُهَيب سابق الروم"1.
مباداة رسول الله، صلى الله عليه وسلم قومَه، وما كان منهم:
أمر الله له صلى الله عليه وسلم بمباداة قومه: قال ابن إسحاق: ثم دخل الناس في الإسلام أرْسالًا من الرجال والنساء، حتى فشا ذكرُ الإسلام بمكة، وتُحدث به. ثم إن الله عز وجل أمر رسولَه -صلى الله عليه وسلم- أن يَصْدعَ بما جاءه منه، وأن يباديَ الناس بأمره، وأن يدعوَ إليه، وكان بين ما أخفى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمره واستتر به إلى أن أمره الله تعالى بإظهار دينه ثلاث سنين -فيما بلغنى- من مبعثه؛ ثم قال الله تعالى له:
{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر:94]2. وقال تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ، وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ}.
معنى:
{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر: 94]: قال ابن هشام: اصدع: افْرُقْ بين الحق والباطل.
قال أبو ذُؤيْب الهُذَلي، واسمه خُوَيْلد بن خالد، يصف أتن3 وحْش وفحلَها:

وكأنهنَّ رِبابَة وكأنه يَسَر                      يفيضُ على القِداحِ ويَصْدُعُ4

أي يُفَرِّق على القداح ويبين أنصباءَها. وهذا البيت في قصيدة له، وقال رُؤبَة بن العَجَّاج:

أنتَ الحليمُ والأميرُ المنتقمْ                   تَصدَعُ بالحقِّ وتَنْفِي مَنْ ظَلَمْ


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر زيادة في نسب هؤلاء وأبحاثًا كثيرة عنهم في: "الروض الأنف، بتحقيقنا، ج1 ص286- 294".
2 المعنى: اصدع بالذي تؤمر به، ولكنه لما عدي الفعل إلى الهاء حسن حذفها، وكان الحذف ههنا أحسن من ذكرها؛ لأن ما فيها من الإبهام أكثر مما تقتضيه "الذي"، وقولهم: "ما" مع الفعل بتأويل المصدر، راجع إلى المعنى الذي إذا تأملته، وذلك أن "الذي" تصلح في كل موضع تصلح فيه "ما" التي يسمونها المصدرية نحو قول الشاعر:

عسى الأيام أن يرجعـ                               ـن يومًا كالذي كانوا

انظر: "الروض الأنف، بتحقيقنا، ج2 ص6".
3 الأتن مفردها أتان وهي أنثى الحمر.
4 الربابة: جلدة تلف فيها قداح الميسر، واليسر الذي يدخل في الميسر. والقداح مفردها قدح وهو السهم.

 

ج / 1 ص -238-     وهذان البيتان في أرجوزة له.
خروج الرسول -صلى الله عليه وسلم- بأصحابه للصلاة في الشِّعْب: قال ابن إسحاق: وكان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا صلوا، ذهبوا في الشعاب، فاستخفوا بصلاتهم من قومهم، فبيْنَا سعد بن أبي وقاص في نفر من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في شِعْب من شِعاب مكة، إذ ظهر عليهم نفر من المشركين وهم يصلون، فناكروهم، وعابوا عليهم ما يصنعون حتى قاتلوهم، فضرب سعد بن أبي وقاص يومئذ رجلًا من المشركين بلَحْي بعير1 فشجَّه، فكان أول دم هُرِيقَ في الإِسلام.
عداوة قومه ومساندة أبي طالب له: قال ابن إسحاق: فلما بادَى رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- قومَه بالإسلام وصدَع به كما أمره الله، لم يبعد منه قومه، ولم يردُّوا عليه -فيما بلغني- حتى ذكر آلهتهم وعابها، فلما فعل ذلك أعظموه وناكروه، وأجمعوا خلافَه وعداوته، إلا من عصم الله تعالى منهم بالإِسلام، وهم قليل مستَخْفُون، وحَدِب2 على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عمُّه أبو طالب، ومنعه وقام دونَه، ومضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أمر الله، مظهرًا لأمرِه، لا يرده عنه شيء. فلما رأت قريش، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يُعْتِبهم3 من شيء أنكروه عليه، من فراقَهم وعَيب آلهتهم، ورأوا أن عمه أبا طالب قد حَدِب عليه، وقام دونَه، فلم يسلمه لهم، مشى رجال من أشراف قريش إلى أبي طالب، عُتبة وشَيْبة ابنا ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قُصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب. وأبو سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قُصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لُؤَي بن غالب بن فهر.
قال ابن هشام: واسم أبي سفيان صَخْر.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لحي البعير: العظم الذي على فخذه.
2 أصل الحدب: انحناء في الظهر، ثم استعير فيمن عطف على غيره، ورق له كما قال النابغة:

حدبت على بطون ضبة كلها                    إن ظالِمًا فيهم، وإن مظلومًا

"روض، ج2 ص7".
3 لا يعتبهم: لا يرضيهم.

 

ج / 1 ص -239-     قال ابن إسحاق: وأبو البَخْتري، اسمه العاص بن هشام بن الحارث بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي.
قال ابن هشام: أبو البَخْتري: العاص بن هاشم1.
قال ابن إسحاق: والأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العُزي بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي. وأبو جهل -واسمه عَمْرو، وكان يكنى أبا الحكم- بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يَقَظة بن مُرة بن كعب بن لؤي. والوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مُرة بن كعب بن لؤي. ونُبَيْه ومُنَبه ابنا الحجاج بن عامر بن حُذيفة بن سعد بن سَهْم بن عَمرو بن هُصيْص بن كعب بن لؤي. والعاص بن وائل.
قال ابن هشام: العاص بن وائل بن هاشم بن سعيد بن سَهْم بن عمرو بن هُصَيْص بن كعب بن لؤي.
وفد قريش يعاتب أبا طالب: قال ابن إسحاق: أو من مشى منهم. فقالوا: يا أبا طالب، إن ابن أخيك قد سب آلهتنا، وعاب دينَنا، وسفَّه أحلامَنا، وضلَّل آباءَنا؛ فإما أن تكفَّه عنا، وإما أن تُخَلِّيَ بينَنَا وبينه، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه، فنَكْفِيكه. فقال لهم أبو طالب قولا رفيقًا وردهم ردًّا جميلًا، فانصرفوا عنه.
الرسول -صلى الله عليه وسلم- يستمر في دعوته: ومضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على ما هو عليه يُظهر دينَ الله، ويدعو إليه، ثم شرى2 الأمرُ بينه وبينهم حتى تباعد الرجال وتضاغنوا3، وأكثرت قريش ذِكرَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بينَها، فتذامروا فيه، وحضَّ بعضُهم بعضًا عليه4.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الذي قاله ابن إسحاق هو قول ابن الكلبي، والذي قاله ابن هشام هو قول الزبير بن أبي بكر وقول مصعب، وهكذا وجدت في حاشية كتاب الشيخ أبي بحر: سفيان بن العاص. عن: "الروض الأنف، ج2 ص10".
2 شرى: اشتد.
3 تضاغنوا: تعادوا.
4 تذامروا: حض بعضهم بعضًا والعطف للتفسير.

 

ج / 1 ص -240-     رجوع الوفد إلى أبي طالب مرةً ثانيةً: ثم إنهم مَشَوْا إلى أبي طالب مرةً أخرى، فقالوا له: يا أبا طالب، إن لك سِنًّا وشرفًا ومنزلةً فينا، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تَنْهه عنا، وإنا والله لا نصبرُ على هذا من شَتْم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا، حتى تكفه عنا، أو ننازله وإياك في ذلك، حتى يهَلَك أحد الفريقين -أو كما قالوا له- ثم انصرفوا عنه، فعظم على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم، ولم يطب نفسًا بإسلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لهم ولا خِذلانه.
ما دار بين الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأبي طالب:
قال ابن إسحاق: وحدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخْنَس أنه حُدِّث: أن قريشًا حين قالوا لأبي طالب هذه المقالة، بعث إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال له: يابن أخي، إن قومَك قد جاءوني، فقالوا لي كذا وكذا، الذي كانوا قالوا له، فابق عليَّ وعلى نفسك، ولا تُحمّلْني من الأمر ما لا أطيق؛ قال: فظن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قد بدا لعمه فيه بَدَاءً1 أنه خاذله ومُسْلِمُه، وأنه قد ضَعُف عن نصرته والقيام معه. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عم، والله لو وضعوا الشمسَ في يميني، والقمرَ في يساري2 على أن أترك هذا الأمر حتى يُظهره الله، أو أهلك فيه ما تركته. قال: ثم استعبر رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فبكى ثم قام؛ فلما ولى ناداه أبو طالب، فقال: أقبلْ يابن أخي؛ قال: فأقبل عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: اذهبْ يابن أخي، فقلْ ما أحببتَ، فوالله لا أسْلمك لشيء أبدًا.
قريش تعرض عمارة بن الوليد على أبي طالب: قال ابن إسحاق: ثم إن قريشًا حين عرفوا أن أبا طالب قد أبى خذلانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وإسلامه، وإجماعه لفراقهم في ذلك وعداوتهم، مَشَوْا إليه بعُمارة بن الوليد بن المغيرة، فقالوا له -فيما بلغنى- يا أبا طالب، هذا عُمارةُ بن الوليد، أنْهدُ3 فتى في قريش وأجملُه، فخذه فلك عَقْلُه ونَصْرُه. واتخذْه ولدًا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي ظهر له رأي، فسمي الرأي بداء؛ لأنه شيء يبدو بعد ما خفي، والمصدر البدء والبدو، والاسم البداء، لا يقال في المصدر، بدا له بدو، كما لا يقال له ظهر ظهور بالرفع؛ لأن الذي يظهر، ويبدو ههنا هو الاسم، نحو البداء وأنشد أبو علي القالي:

لعلك والموعود حق وفاؤه                     بدا لك في تلك القلوص بداء

2 خص الشمس باليمن؛ لأنها الآية المبصرة، وخص القمر بالشمال؛ لأنها الآية الممحوَّة.
3 أنهد: أشد.

 

ج / 1 ص -241-     فهو لك وأسلمْ إلينا ابن أخيك هذا، الذي قد خالف دينَك ودينَ آبائك، وفرق جماعة قومك وسفَّه أحلامَهم، فنقتله، فإنما هو رجل برجل؛ فقال: والله لبئس ما تسومونني، أتعطونني ابنكم أغذُوه لكم، وأعطيكم ابني تقتلونه؟! هذا والله ما لا يكون أبدًا. قال: فقال المُطْعِم بن عدي بن نَوْفل بن عبد مناف بن قُصي: والله يا أبا طالب لقد أنصفك قومُك، وجهدوا على التخلص مما تكرهه، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئًا؛ فقال أبو طالب للمطعم: والله ما أنصفوني، ولكنك قد أجمعتَ خذلاني ومظاهرة القوم عليَّ، فاصنع ما بدا لك، أو كما قَال. قال: فحقب الأمر1، وحميت الحربُ، وتنابذ القوم، وبادَى بعضُهم بعضًا.
شعر أبي طالب في المطعم ومن خذله: فقال أبو طالب عند ذلك، يعرض بالمطْعِم بن عَدِيّ، ويعم من خذله من بني عبد مناف، ومن عاداه من قبائل قريش، ويذكر ما سألوه، وما تباعد من أمرهم:

ألا قل لعمرو والوليدِ ومُطْعِم                    ألا ليت حظِّي من حياطتِكم بكرُ2

من الخُور حَبْحَاب كثيرٌ رُغاؤه                  يُرَشُ على الساقَيْن من بولِه قطر3

تَخلّف خالفَ الوِرْدِ ليس بلاحق               إذا ما علا الفَيْفاء قيل له وَبْرُ4

أرى أخويْنَا من أبينا وأمِّنا                      إذا سُئلا قالا إلى غيرِنا الأمرُ

بلَى لهما أمر ولكن تَجَرجَمَا كما              جُرْجِمَتْ من رأسِ ذي عَلَقٍ صخرُ5

أخُصُّ خصوصًا عبدَ شمس ونوْفلًا            هما نبذانا مثلَ مايُنبَذُ الجمرُ

هما أغمزَا القومَ في أخَوَيْهما                 فقد أصبحا منهم أكفُّهما صِفْرُ6


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 حقب: اشتد.
2 يريد أن يقول: إن بكرًا من الإبل أنفع لي منكم، فليته لي بدلا من حياطتكم ذلك، كما قال طرفة في عمرو بن هند:

فليت لنا مكان الملك عمرو                             رغوثًا حول قبتنا تخور

3 الخور: الضعاف، والحبحاب: الصغير.
4 الوبر: دويبة صغيرة تشبه الهرة شبهه بها لصغره.
5 تجرجم: انحدر، وذو علق: جبل في بني أسد.
6 أغمز: استضعف. والصفر: الخالي.

 

ج / 1 ص -242-                                    هما أشركا في المجدِ من لا أبا له من الناسِ إلا أن يُرَسَّ له ذِكْرُ1

وتَيْم ومخزوم وزُهرة منهمُ                      وكانوا لنا مَوْلى إذا بُغيَ النصرُ

فواللهِ لا تنفكُّ منا عَداوةٌ ولا                    منهمُ ما كان من نَسْلِنا شَفْر2

فقد سَفُهَتْ أحلامُهم وعقولُهم               وكانوا كجَفْر بئسَ ما صنعتْ جَفْرُ

قال ابن هشام: تركنا منها بيتين أقذع فيهما.
قريش تُظهر عداوتها للمسلمين: قال ابن إسحاق: ثم إن قريشًا تذامروا بينَهم على من في القبائل من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذين أسلموا معه، فوثبت كلُّ قبيلة على مَنْ فيهم من المسلمين يعذبونهم، ويفتنونهم عن دينهم، ومنع اللهُ رسولَه -صلى الله عليه وسلم- منهم بعمِّه أبي طالب، وقد قام أبو طالب، حين رأى قريشًا يصنعون ما يصنعون في بني هاشم وبني المطلب فدعاهم إلى ما هو عليه، من مَنْع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والقيام دونَه؛ فاجتمعوا إليه، وقاموا معه وأجابوه إلى ما دعاهم إليه، إلا ما كان من أبي لهب، عدو الله الملعون.
شعر أبي طالب في مدح قومه لنصرته: فلما رأى أبو طالب من قومه ما سرَّه في جهدهم معه، وحَدَبهم عليه، جعل يمدحهم ويذكر قديمهم، ويذكر فضلَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيهم، ومكانَه منهم، ليشد لهم رأيهم، وليَحْدَبوا معه على أمره، فقال:

إذا اجتمعتْ يومًا قريش لمفخر                فعبدُ منافٍ سِرُّها وصميمُها3

وإن حُصِّلت أشرافُ عبد منافها                ففي هاشمٍ أشرافُها وقديمُها

وإن فخَرَتْ يومًا فإن محمدًا هو                المصطَفى من سرِّها وكريمها

تداعتْ قريش غَثُّها وسمينُها                  علينا فلم تَظْفَرْ وطاشتْ حلومُها


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يرس: يذكر.
2 شفر: أحد.
3 سرها: وسطها، وسر الوادي وسرارته وسطه وذلك مدح في موضعين في وصف الشهود وفي النسب.

ج / 1 ص -243-                                    وكنا قديمًا لا نُقِرُّ ظلامةً           إذا ما ثَنَوْا صعْرَ الخدودِ نقيمُها1

ونحمي حِماها كل يومٍ كريهةٍ                 ونضربُ عن أحجارِها من يرومُها

بنا انتعش العُود الذوَاء وإنما                    بأكنافِنا تندَى وتَنْمى أرُومُها2

الوليد بن المغيرة: كيده للرسول، وموقفه من القرآن
ثم إن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش، وكان ذا سِن فيهم، وقد حضر الموسم فقال لهم: يا معشرَ قرَيش، إنه قد حضر هذا الموسم، وإن وفود العرب ستقدَمُ عليكم فيه، وقد سمعوا بأمرِ صاحبِكم هذْا، فأجمعوا فيه رأيًا واحدًا، ولا تختلفوا فيكذِّب بعضُكم بعضًا، ويردّ قولُكم بعضَه بعضًا؛ قالوا: فأنت يا أبا عبد شمس، فقل وأقم لنا رأيًا نقول به؛ قال: بل أنتم فقولوا أسمع؛ قالوا: نقول كاهن؛ قال: لا والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان فما هو بَزَمْزَمة3 الكاهن ولا سَجْعه؛ قالوا: فنقول: مجنون؛ قال: ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه، فما هو بخَنْقه، ولا تخالجه، ولا وسوسته؛ قالوا: فنقول: شاعر؛ قال: ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله رجَزَه، وهَزَجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه، فما هو بالشعرة قالوا: فنقول: ساحر؛ قال: ما هو بساحر، لقد رأينا السُّحَّار وسحرَهم، فما هو بنَفْثِهم ولا عَقْدِهم4 قالوا؛ فما نقول يا أبا عبد شمس؛ قال: والله إن لقوله لحلاوةً وإن أصلَه لعَذْقٍ، وإن فرعه لجَناة -قال ابن هشام: ويقال لغَدْق5 -وما أنتم بقائلين من هذا شيئًا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ثنوا: عطفوا. وصعَّر خده: أماله إلي جهة مثل فعل المتكبر.
2 الذواء: الذي جفت رطوبته. الأروم: مفرده أرمة وهي الأصل.
3 زمزمة الكاهن: كلامه الخفي.
4 العقد والنفث: هو أن يعقد الساحر خيطًا وينفث فيه بفمه.
5 قول الوليد: إن أصله لعذق، وإن فرعه لجناة. استعار من النخلة التي ثبت أصلها، وقوي وطاب فرعها إذا جني، والنخلة هي: العَذق بفتح العين، ورواية ابن إسحاق أفصح من رواية ابن هشام؛ لأنها استعارة تامة يشبه آخر الكلام أوله، ورواية ابن هشام: إن أصله لغدق، وهو الماء الكثير، ومنه يقال: غيدق الرجل إذا كثر بصاقه. وأحد أعمام النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يسمى: الغيداق لكثرة عطائه، الغيدق أيضًا ولد الضب، وهو أكبر من الحسل، قاله قطرب في كتاب الأفعال والأسماء له.

ج / 1 ص -244-     إلا عُرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه؛ لأن تقولوا ساحر، جاء بقول هو سحر يفرِّق به بين المرءِ وابنه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وعشيرته. فتفرقوا عنه بذلك، فجعلوا يجلسون بسُبُل الناس حين قدموا الموسم، ولا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه، وذكروا لهم أمره. فأنزل الله تعالى في الوليد بن المغيرة في ذلك من قوله: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا، وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا، وَبَنِينَ شُهُودًا، وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا، ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ، كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآياتنَا عَنِيدًا} [المدثر:11-16]، أي خصيمًا.
قال ابن هشام: عنيد: معاند مخالف. قال رؤبة بن العجاج:

ونحن ضرَّابون رأسَ العُنَّد

وهذا البيت في أرجوزة له.
{سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا، إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ، فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ نَظَرَ، ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ}، [المدثر: 17-22].
قال ابن هشام: بسر: كرَّه وجهه. قال العَجَّاج:

مُضبَّر اللَّحْيين بَسْرًا مِنْهَسا1

يصف كراهية وجهه. وهذا البيت في أرجوزة له.
{ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ، فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ، إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر: 23-25].
رد القرآن على صحب الوليد: قال ابن إسحاق: وأنزل الله تعالى في رسوله -صلى الله عليه وسلم- وفيما جاء به من الله تعالى وفي النفر الذين كانوا معه يصنِّفون القول في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفيما جاء به من الله تعالى:
{كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ، الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ، فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، [الحجر: 90-93].
قال ابن هشام: واحدة العِضين: عِضَة، يقول: عَضَّوْه: فرقوه. قال رُؤبة بن العُجاج:
وليس دينُ الله بالمعضَّى
وهذا البيت في أرجوزة له.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المضبر: الشديد. واللحيان عظمان في الوجه. والنهس: أخذ اللحم بمقدم الأسنان.

 

ج / 1 ص -245-     قال ابن إسحاق: فجعل أولئك النفر يقولون ذلك في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لمن لقوا من الناس، وصدرت العربُ من ذلك الموسم بأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فانتشر ذكرُه في بلادِ العربِ كلِّها.
شعر أبي طالب في معاداة خصومه: فلما خشي أبو طالب دَهْماءَ العرب أن يركبوه مع قومه، قال قصيدته التي تعوَّذ فيها بحرم مكة وبمكانه منها، وتودد فيها أشرافَ قومه، وهو على ذلك يُخبرهم وغيرَهم في ذلك من شعره أنه غير مُسْلِم رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- ولا تاركه لشيء أبدًا حتى يهلك دونَه،فقال:

ولما رأيتُ القومَ لا وُدَّ فيهمُ                             وقد قطعوا كلَّ العُرَى والوسائل

وقد صارحونا بالعداوةِ والأذَى                             وقد طاوعوا أمرَ العدوِّ المزايل

وقد حالفوا قومًا علينا أظِنَّةً                              يَعَضُّونَ غَيْظًا خلفَنا بالأناملِ

صبرتُ لهم نفسي بسمراء سَمْحة                   وأبيضَ عَضْب من تُراث المقاولِ1

وأحصرتُ عندَ البيت رهطي وإخوتي                  وأمسكتُ من أثوابِه بالوصائلِ2

قيامًا معًا مستقبلين رِتاجَه لدى                       حيثُ يَقْضي حلفه كل نافلِ3

وحيثُ يُنيبخ الأشعرون ركابَهم                         بمُفْضّي السيولِ من إسافَ ونائل

مُوَسَّمة الأعضادِ أو قَصَراتها                             مُخَيَّسة بينَ السَّديس وبازلِ4


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أراد بالمقاول: آباءه، شبههم بالملوك، ولم يكونوا ملوكًا، ولا كان فيهم من ملك بدليل حديث أبي سفيان حين قال له هرقل: هل كان في آبائه من ملك؟ فقال: لا. ويحتمل أن يكون هذا السيف الذي ذكره أبو طالب من هبات الملوك لأبيه، فقد وهب ابن ذي يزن لعبد المطب هبات جزلة حين وفد عليه مع قريش، يهنئونه بظفره بالحبشة، وذلك بعد مولد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعامين. "روض: 2/ 22".
2 الوصائل: يثاب مخططة حمراء، كان يكسى بها البيت الحرام.
3 النافل: المبرئ.
4 موسمة: معلمة، ويقال للموسم الذي في الأعضاد: السطاع والرقمة، والذي في الفخذ: الخياط، وفي الكشح: الكشاح، والذي في قصرة العنق: العلاط، والقصرات: أطول الأعناق، والمخيسة: المذللة. والسديس: الذي دخل في السنة السادسة. والبازل: الذي دخل في التاسعة فخرج نابه.

 

ج / 1 ص -246-                                      ترى الوَدْع فيها والرخامَ وزينةً  بأعناقِها معقودةً كالعثاكلِ

أعوذ بربِّ الناسِ من كل طاعن                  علينا بسوءٍ أو مُلح بباطلِ

ومن كاشحٍ يسعَى لنا بمعيبة                  ومن مُلْحِقٍ في الدين ما لم نُحاولِ

وثَوْرٍ ومن أرسَى ثَبيرًا مكانَه                      وراقٍ ليرقى في حِراءَ ونازلِ2

وبالبيتِ، حقّ البيتِ، من فيِ مكة             وباللهِ إن اللهَ ليس بغافِل

وبالحجرِ المسْوَدّ إذ يمسحونه                  إذا اكتنفوه بالضُّحَى والأصائل

وموطئ إبراهيمَ في الصخرِ رطبة                على قدميْه حافيًا غير ناعلِ3

وأشْواط بينَ المروَتَيْن إلى الصَّفَا                وما فيهما من صُورةٍ وتَماثلِ4

ومن حجَّ بيتَ اللهِ من كلِّ راكبٍ                 ومن كلِّ ذي نَذرٍ ومن كل راجل

وبالمشْعَرِ الأقْصَى إذا عَمدوا له                 إلالٌ إلى مفْضَى الشِّراجِ القوابلِ5

وتَوْقافِهم فوقَ الجبالِ عَشِيّةً                    يُقيمون بالأيدي صدورَ الرواحلِ

وليلةِ جَمْعٍ والمنازلِ من مِنى                   وهل فوقها من حُرْمة ومنازلِ6


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الودع: خزرات يتحلى بها الصبيان: والعثاكل الأغصان.
2 ثور وثبير وحراء: جبال بمكة.
3 موطئ إبراهيم في الصخر رطبة. يعني موضع قدميه حين غسلت كنته "زوج ابنه" رأسه، وهو راكب، فاعتمد بقدمه على الصخرة حين أمال رأسه ليغسل، وكانت سارة قد أخذت عليه عهدا حين استأذنها في أن يطالع تركته بمكة، فحلف لها أنه لا ينزل عن دابة، ولا يزيد على السلام، واستطلاع الحال غَيرة من سارة عليه من هاجر، فحين اعتمد على الصخرة أبقى الله فيها أثر قدميه آية. قال الله سبحانه:
{فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ}، [آل عمران: 97].
4 الأشواط: جمع شوط، الجري من البداية إلى الغاية مرة واحدة و المرتين الصفا والمروة فهو من باب التغليب كالأبوين للأب والأم. والتماثل: التماثيل أسقط ياءها ضرورة.
5 المشعر: عرفة. الإل: جبل بعرفات. والشراج: جمع شرج وهو مسيل الماء. والقوابل: المقابلة.
6 جمع: المزدلفة.

ج / 1 ص -247-                                      وجَمْعٍ إذا ما المُقْرَبات أجَزْنَه   سِراعا كما يخرجنَ من وقعِ وابلِ1

وبالجمرةِ الكبرى إذا صَمدوا لها                  يَؤُمُّون قذفًا رأسَها بالجَنادلِ

وكِندةَ إذ هُم بالحِصاب عشية                  تُجيز بهم حُجاجُ بكرِ بنِ وائلِ2

حليفان شدَّا عَقْدَ ما احتلفا له                 وردَّا عليه عاطفاتِ الوسائل

وحَطْمِهم سُمرَ الرماحِ وسرحه                  وشِبْرِقَه وَخْدَ النعامِ الجوافلِ3

فهل بعد هذا من مَعَاذٍ لعائذ                     وهل من مُعيذٍ يتقي اللهَ عاذل

يُطاع بنا أمرُ العدوِّ ودَّ أننا                         تُسدُّ بنا أبوابُ تُركٍ وكابلِ4

كذبتمْ وبيتِ الله نترك مكة                       ونَظْعنُ إلا أمرُكمِ في بلابلِ5

كذبتم وبيتِ الله نُبْزي محمدًا                    ولمَّا نطاعنْ دونه ونناضل6

ونسلمه حتى نُصَرَّع حوله                      ونُذْهَل عن أبنائِنا والحلائل

وينهض قوم في الحديد إليكمُ                   نهوضَ الرَّوايا تحتَ ذات الصلاصل7

وحتى ترى ذا الضَّغْنِ يركب رَدْعَه               من الطَّعنِ فعلَ الأنْكَبِ المتحَامِلِ8

وإما لعَمْرُ الله إن جَدَّ ما أرى                      لتَلْتَبِسَنْ أسيافُنا بالأماثل

بكَفَّيْ فتى مثل الشهاب سَمَيْدعٍ             أخى ثقةٍ حامي الحقيقةِ باسل9


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المقربات: الخيل الكريمة التي تقرب مرابطها من البيوت. الوابل: المطر الشديد.
2 الحصاب: مكان رمي الجمار.
3 الحطم: الكسر: والسمر: من شجر الطلح. والسرح: الشجر العظام، والشبرق: نبات. والوخد: السريع. والجوافل: المسرعة.
4 ترك وكابل: جيلان من الناس.
5 البلابل: وساوس الهموم.
6 نبزي: نسلب ونغلب.
7 الروايا: الإبل تحمل الماء. والصلاصل: المزادات يسمع لها صلصلة.
8 الضغن: العداوة، ويركب ردعه: يخر على وجهه صريعا. والأنكب: المائل.
9 السميدع: السيد من الرجال.

ج / 1 ص -248-                                       شهورًا وأيامًا وحولًا مُجَرَّما     علينا وتأتي حِجَّةٌ بعدَ قابل1

وما تركُ قومٍ، لا أبا لك، سيدا                     يحوط الذِّمارَ غير ذَرْب مُوَاكِل2

وأبيضُ يُستسقَى الغمامُ بوجهه                ثمالُ اليتامى عِصْمةٌ للأرامل3

يلوذُ به الهُلاَّف من آلِ هاشم                    فهم عندَه في رَحْمةٍ وفواضلِ

لَعَمْري لقد أجرى أسَيد وبَكْرُه                    إلى بُغضِنا وجزّآنا لآكل

وعثمانُ لم يَرْبع علينا وقُنفُذ                      ولكن أطاعَا أمرَ تلك القبائلِ4

أطاعا أبَيًّا وابنَ عبدِ يغوثِهم                       ولم يَرْقُبا فينا مَقالةَ قائل

كما قد لَقِينا من سُبَيْعٍ ونوْفلٍ                    وكل تولَّى مُعْرِضًا لم يجامل

فإن يُلْقيا أو يُمكن اللهُ منهما                     نَكِلْ لهما صاعًا بصاعِ المُكايل

وذاك أبو عمرو أبي غيرَ بُغْضِنا                     ليظْغنا في أهلِ شاءٍ وجاملِ5

يناجي بنا في كلِّ مَمْسَى ومُصْبَح             فناجِ أبا عمرو بنا ثم خاتِل

ويُؤْلى لنا باللهِ ما إن يَغُشنا                      بَلى قد نراه جهرةً غيرَ حائلِ6

أضاق عليه بغضُنا كلَّ تَلْعَةٍ                        من الأرضِ بين أخْشُبٍ فمجادِلِ7

وسائلْ أبا الوليدِ ماذا حَبَوْتَنا                      بِسَعْيِك فينا معْرِضًا كالمخاتِل

وكنتَ امرأ ممن يُعاش برأيِه                       ورحمتِه فينا ولست بجاهلِ


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المجرم: الكامل.
2 الذمار: الحي. والذرب: الفاحش المنطق. المواكل: من يكل أمره إلى غيره.
3 ثمال اليتامى، أي: يثملهم، ويقوم بهم.
4 لم يربع: لم يقم.
5 الجامل: جماعة الجمال.
6 يؤلى: يقسم.
7 التلعة: ما شرف من الأرض. والأخشب: أراد الأخاشب وهي جبال مكة وجاء به على أخشب؛ لأنه في معنى أجبل، مع أن الاسم قد يجمع على حذف الزوائد ويصغر كذلك، والمجادل: القصور والحصون في رءوس الجبال. كأنه يريد ما بين جبال مكة فقصور الشام والعراق، والفاء في مجادل تعطى الاتصال بخلاف الواو كقوله: "بين الدَخول فحومل".

ج / 1 ص -249-                                   فعتبةُ لا تسمعْ بنا قولَ كاشحٍ   حسودٍ كذوبٍ مُبْغِضٍ ذي دَغَاوِلِ1

ومَرَّ أبو سفيان عني مُعْرِضًا                  كما مَرَّ قَيْلٌ من عِظامِ المَقاوِلِ

يَفِر إلى نَجْدٍ وبَرْدِ مياهِه                       ويزعُم أنني لستُ عنكم بغافلِ

ويخبرُنا فِعْلَ المُناصِح أنه                      شفيق ويُخفى عارماتِ الدواخل2

أمِطْعمُ لم أخْذُلْك في يومِ نجدةٍ             ولا مُعْظِم عندَ الأمورِ الجلائل

ولا يومَ خَصْمٍ إذا أتوك ألِدَّةً                     أولِى جَدَل من الخصومِ المَساجل3

أمُطْعِمُ إن القومَ ساموك خُطَّةً               وإني متىِ أوكَلْ فلستُ بوائلِ4

جزى اللهُ عنا عبدَ شمسٍ ونَوْفَلًا             عقوبةَ شر عاجلًا غيرَ آجل

بميزانِ قِسْطٍ لا يُخَسُّ شعيرةً                له شاهدٌ من نفسِه غيرَ عائل5

لقد سَفُهتْ أحلامُ قومٍ تبدَّلوا                بني خلفٍ قَيْضًا بنا والغَياطل6

ونحنُ الصميمُ من ذؤابةِ هاشم              وآل قُصَيٍّ في الخُطوبِ الأوائل

وسهمٌ ومخزوم تمالوا وألَّبُوا                   علينا العِدَا من كلِّ طِمْل وخاملِ7

فعبدُ مناف أنتم خيرُ قومِكم                   فلا تُشركوا في أمرِكم كلَّ واغِلِ8

لعَمْري لقد وهنتمُ وعَجَزْتم                    وجئتم بأمر مُخْطئ للمفاصلِ9


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الدغاول: الغوائل.
2 العارمات: الشديدات والدواخل التمائم.
3 المساجل: من يعارض في الخصومة.
4 سامه خطة: كلفه بها. والوائل: الناجي.
5 العائل: الحائر.
6 القيض: العوض، والغياطل: بنو سهم؛ لأن أمهم الغيطلة، وقد نسبها، وقيل: إن بني سهم سمرًا بالغياطل؛ لأن رجلا منهم قتل جانا طاف بالبيت سبعًا، ثم خرج من المسجد فقتله، فأظلمت مكة، حتى فزعوا من شدة الظلمة التي أصابتهم. والغيطلة: الظلمة الشديدة، والغيطلة أيضًا: الشجر الملتف، والغيطلة: اختلاط الأصوات، والغيطلة: البقرة الوحشية، والغيطلة: غلبة النعاس.
7 الطمل: الفاحش.
8 الواغل: الهاجم على القوم في شرابهم ولم يدع.
9 مخطئ للمفاصل: بعيد عن الصواب.

ج / 1 ص -250-                                      وكنتم حديثًا حَطْبَ قدرٍ وأنتم الـ          ـآن حِطابُ أقدُرٍ ومَراجل

ليَهْنِئْ بني عبد مناف عقوقُنا                   وخذلانُنا وتركُنا في المعَاقلِ

فإن نك قومًا نَثئِر ما صنعتمُ                      وتَحتلبوها لِقْحَةً غيرَ باهلِ1

وسائط كانت في لُؤيِّ بن غالبٍ                 نفاهم إلينا كلُّ صقر حُلاحِل2

ورهط نُفَيل شَرُّ مَنْ وطئَ الحصىَ              وألأم حافٍ مِنْ مَعد ونَاعل

فأبلغْ قُصيا أن سيُنشر أمرُنا                     وبَشِّر قصيًّا بعدَنا بالتخاذل

ولو طرَقت ليلًا قُصيًّا عظيمةٌ                      إذا ما لجأنا دونَهم في المَداخلِ

ولو صَدقوا ضَرْبًا خلالَ بيوتِهم                     لكنَّا أسًى عندَ النساءِ المَطافِل3

فكلُّ صديقٍ وابنِ أختٍ نعدُّه                      لَعَمْري وَجَدْنا غِبَّه غيرَ طائل

سوى أنَّ رهطًا من كلابِ بنِ مُرة               بَراء إلينا من معقَّةِ خاذلِ4

وهَنَّا لهم حتى تبددَّ جمعُهم                    ويَحْسُر عنا كل باغٍ وجاهلِ

وكان لنا حوضُ السقايةِ فيهمُ                   ونحنُ الكُدى من غالبٍ والكَواهلِ5

شباب من المطيِّبين وهاشمٍ                   كبِيضِ السيوفِ بينَ أيدِي الصَّياقِل


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 نثئر: نأخذ بثأرنا. واللقحة: الناقة ذات اللبن والباهل: الناقة المباحة للحلب.
2 الحلاحل: السيد الشجاع.
3 الأسى: جمع أسوة، والمطافل: ذوات الأطفال.
4 براء إلينا من معقة خاذل. يقال قوم براء وبراء بالفتح، وبراء بالكسر، فأما براء بالكسر فجمع بريء، مثل كريم وكرام، وأما براء فمصدر، مثل سلام والهمزة فيه وفي الذي قبله لام الفعل، ويقال: رجل براء ورجلان براء، وإذا كسرتها أو ضممتها لم يجز إلا في الجمع، وأما براء بضم الباء: فالأصل فيه برءاء مثل كرماء فاستثقلوا اجتماع الهمزتين، فحذفوا الأولى، وكان وزنه فعلاء، فلما حذفوا التي هي لام للفعل صار وزنه فعاء، وانصرف لأنه أشبه فعالا، والنسب إليه إذا سميت به، براوى، والنسب إلى الآخرين بَرائي وبِرائي، وزعم بعضهم إلى أن بُراء بضم أوله من الجمع الذي جاء على فُعال، ومنها هذه الألفاظ، فرير وفرار وعرن وعران.
5 الكُدى: جمع كُدية، وهي الصخرة العظيمة، والكواهل جمع كاهل: وهو سند القوم.

ج / 1 ص -251-                                  فما أدركوا ذَحْلًا ولا سفكوا دمًا    ولا حالفوا إلا شِرارَ القبائل

بضرْبٍ ترى الفِتيانَ فيه كأنهم               ضَوَارِي أسودٍ فوق لحمٍ خَرادِلِ1

بني أمَةٍ محبوبةٍ هِنْدِكيَّةٍ                    بني جُمَح عُبَيْد قيسِ بنِ عاقلِ2

ولكننا نسل كرامٌ لسادة                      بهم نُعِيَ الأقوامُ عندَ البَواطلِ

ونعم ابنُ أختِ القومِ غيرَ مُكَذَّبٍ            زُهَير حُسامًا مُفْرَدًا من حَمائل

أشَمُّ مِنَ الشُّمِّ البهاليلِ ينتَمِي            إلى حسب في حَوْمةِ المجدِ فاضل

لعَمْري لقد كُلفتُ وَجْدًا بأحمد               وإخوتِه دَأبَ المحِبِّ المواصلِ

فلا زال في الدنيا جمالًا لأهلِها              وزَيْنًا لمن والاه ربُّ المَشاكلِ

فمن مِثلُه في الناس أيُّ مُؤَمَّلٍ             إذا قاسه الحكامُ عندَ التفاضلِ

حليم رشيدٌ عادل غيرُ طائشٍ               يوالي إلاهًا ليسَ عنه بغافلِ

فواللهِ لولا أن أجيءَ بسُبَّةٍ                    تُجَرُّ على أشياخِنا في المحافلِ

لكنا اتبعناه على كلِّ حالة                   من الدهرِ جِدًّا غير قولِ التهازلِ

لقد علموا أن ابنَنا لا مُكذَّبٌ                  لدينا ولا يُعْنَى بقوْلِ الأباطل

فأصبح فينا أحمد في أرومةٍ                  تُقَصِّر عنه سَوْرةُ المتطاولِ3

حَدِبْتُ بنفسي دونَه وحَميْتُه                ودافعتُ عنه بالذُّرَا والكَلاكِلِ4

فأيده ربُّ العبادِ بنصرِه                         وأظهرَ دينًا حقُّه غيرُ باطلِ

رجال كرام غيرُ ميلٍ نَماهُمُ                   إلى الخيرِ آباء كرامُ المحاصلِ5

فإن تكُ كعب من لُؤي صُقَيْبة                فلا بُدّ يومًا مرةً من تَزايُلِ6


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الخرادل: القطع العظمية.
2 الهندكي: منسوب إلى الهند.
3 السورة: الشدة والبطش.
4 حدبت: عطفت. والذرا: جمع ذروة، أعلى ظهر البعير. والكلاكل: عظام الصدور.
5 الميل: جمع أميل وهو الذي لا يحسن الركوب.
6 صقيبة: قريبة.

ج / 1 ص -252-     قال ابن هشام: هذا ما صح لي من هذه القصيدة، وبعض أهل العلم بالشعر ينكر أكثرها.
الرسول عليه السلام يستسقي لأهل المدينة ويود لو أن أبا طالب حي ليرى ذلك: قال ابن هشام: وحدثني من أثق به، قال: أقحط أهلُ المدينة، فأتَوْا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فشكوا ذلك إليه، فصعد رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- المنبر فاستسقى1 فما لبث أن جاء من المطر ما أتاه أهلُ الضواحي2 يشكون منه الغرق؛ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم:
"اللهم حوالينا ولا علينا"3، فانجاب السحاب عن المدينة فصار حواليها كالإكليل، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لو أدرك أبو طالب هذا اليوم لسره"، فقال له بعض أصحابه: كأنك يا رسول الله أردت قوله:

وأبيضُ يُسْتَسْقَى الغمامُ بوجهِه                  ثمالُ اليتامى عصمة للأراملِ

قال: "أجل".
قال ابن هشام: وقوله "وشبرقة" عن غير ابن إسحاق.
ذكر الأسماء التي وردت في قصيدة أبي طالب: قال ابن إسحاق: والغياطل: من بني سهم بن عمرو بنْ هَصيص، وأبو سفيان بن حرب بن أمية. ومُطْعِم بن عَدِيِّ بن نوفل بن عبد مناف. وزُهير بن أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عُمر بن مخزوم، أمه عاتكة بنت عبد المطلب. قال ابن إسحاق: وأسيد، وبِكْره: عَتَّاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي. وعثمان بن عُبيد الله، أخو طلحة بن عُبيد الله التيْمي. وقنفذ بن عُمَير بن جُدْعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تَيْم بن مرة. وأبو الوليد عتبة بن ربيعة. وأبو الأخنس بن شريق الثقفي، حليف بني زُهرة بن كلاب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 حديث الاستسقاء بالمدينة حديث مروي من طرق كثيرة وبألفاظ مختلفة.
2 الضواحي: جمع ضاحية، وهي الأرض البراز التي ليس فيها ما يكن من المطر، ولا منجاة من السيول، وقيل: ضاحية كل بلد، خارجه.
3 وقوله عليه السلام:
"اللهم حوالينا، ولا علينا" كقوله في حديث آخر: "اللهم منابت الشجر، وبطون الأودية، وظهور الآكام"، فلم يقل: اللهم ارفعه عنا هو من حسن الأدب في الدعاء؛ لأنها رحمة الله، ونعمته المطلوبة منه، فكيف يطلب منه رفع نعمته، وكشف رحمته، وإنما يسئل سبحانه كشف البلاء، والمزيد من النعماء، ففيه تعليم كيفية الاستسقاء.

 

ج / 1 ص -253-     قال ابن هشام: وإنما سمي الأخنس؛ لأنه خنس بالقوم يوم بدر، وإنما اسمه أبيّ، وهو من بني علاج، وهو عِلاج بن أبي سلمة بن عَوْف بن عقبة. والأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زُهرة بن كلاب. وسُبيع بن خالد، أخو بَلْحَارث بن فهر. ونَوْفل بن خُوَيْلد بن أسد بن عبد العُزَّى بن قصي، وهو ابن العدوية. وكان من شياطين قريش، وهو الذي قرن بين أبي بكر الصديق وطلحة بن عُبَيْد الله رضي الله عنهما في حبل حين أسلما، فبذلك كانا يسميان القرينين؛ قتله علي بن أبي طالب عليه السلام يوم بدر. وأبو عمرو قُرْظة بن عبد عمرو بن نوفل بن عبد مناف. "وقومٌ علينا أظنَّة": بنو بكر بن عبد مناة بن كنانة، فهؤلاء الذين عدَّد أبو طالب في شعره من العرب.
انتشار ذكر الرسول خارج مكة: فلما انتشر أمرُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في العرب، وبلغ البلدان، ذُكر بالمدينة، ولم يكن حي من العرب أعلم بأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين ذُكر، وقبل أن يُذكر من هذا الحي من الأوس والخزرج، وذلك لما كانوا يسمعون من أحبار اليهود، وكانوا لهم حلفاء، ومعهم في بلادِهم. فلما وقع ذكره بالمدينة، وتحدثوا بما بين قريش فيه من الاختلاف. قال أبو قيس بن الأسْلَت1، أخو بني واقف:
نسب ابن الأسلت: قال ابن هشام: نسب ابنُ إسحاق أبا قيس هذا ههنا إلى بني واقف، ونسبه في حديث الفيل إلى خَطْمة؛ لأن العرب قد تنسب الرجل إلى أخي جده الذي هو أشهر منه.
قال ابن هشام: حدثني أبو عُبَيدة: أن الحكم بن عمرو الغِفارى من ولد نُعَيْلة أخي غِفار وهو غِفار بن مُلَيْل، ونُعَيلة بن مُلَيل بن ضَمْرة بن بكر بن عبد مناة، وقد قالوا عتبة بن غزوان السُّلَمي وهو من ولد مازن بن منصور وسُلَيْم بن منصور.
قال ابن هشام: فأبو قيس بن الأسلت: من بني وائل؛ ووائل، وواقف، وخَطْمة إخوة من الأوس.
شعر ابن الأسلت في الدفاع عن الرسول -صلى الله عليه وسلم: قال ابن إسحاق: فقال أبو قيس بن الأسلت: وكان يحب قريشًا، وكان لهم صهرًا، كانت عنده أرنب بنت

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 واسم الأسلت عامر، والأسلت شديد فطس الأنف.

 

ج / 1 ص -254-     أسد بن عبد العُزَّى بن قُصي، وكان يقيم عندهم السنين بامرأته قصيدة يعظم فيها الحرمة، وينهى قريشًا فيها عن الحرب، ويأمرهم بالكف بعضهم عن بعض، ويذكر فضلَهم وأحلامَهم، ويأمرهم بالكفِّ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ويذكِّرهم بلاءَ الله عندهم، ودفعه عنهم الفيل وكيده عنهم، فقال:

يا راكبًا إما عَرَضتَ فبلِّغنْ                     مُغَلغلَةً عني لُؤيَّ بنَ غالبِ1

رسول امرئ قد راعه ذات بينكم            على النأيِ محزونٍ بذلكِ ناصبِ2

وقد كان عندي للهمومِ معَرَّسٌ              فلم أقضِ منها حاجتي ومآربي3

نُبِّيتُكم شَرْجَيْن كل قبيلةٍ                    لها أزْمَلٌ من بين مُذْكٍ وحاطبِ4

أعيذكم بالله من شر صنعِكم                وشرِّ تباغيكم ودسِّ العقاربِ

وإظهارِ أخلاقٍ ونجْوَى سقيمة               كوخزِ الأشافي وقعُها حقُّ صائب5

فذكرْهمْ باللهِ أولَ وهلةٍ                        وإحلال أحرام الظباءِ الشوازبِ6

وقل لهم والله يحكمُ حُكْمَهُ                   ذروا الحربَ تذهبْ عنكم في المَراحبِ7

متى تبعثوها تبعثوها ذميمةً                هى الغُولُ للأقصينَ أو للأقاربِ8

تُقطِّعُ أرحامًا وتُهلك أمةً                       وتبري السَّديفَ من سَنام وغاربِ9


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المغلغلة: الداخلة إلى أقصى ما يراد بلوغه منها. يراد بها الرسالة.
2 الناصب: المعيي.
3 أصل المعرس: المكان الذي ينزل فيه المسافرون ليلا للاستراحة.
4 شرجين: فريقين مختلفين والأزمل: الصوت، والمذكى: الذي يوقد النار، والحاطب: الذي يحطب لها، ضرب هذا مثلا لنار الحرب، كما قال الشاعر:

أرى خلل الرماد وميض نار                       ويوشك أن يكون لها ضرام

فإن النار بالعودين تذكى                         وإن الحرب أولها الكلام

                                                       

5 الأشافي: المخارز.
6 أحرام الظباء: التي يحرم صيدها في الحرام، والشوازب ضامرة البطن.
7 المراحب: الأماكن المتسعة.
8 الغول: الهلاك.
9 تبرى: تقطع. السديف: لحم السنام. الغارب: أعلى الظهر.

 

ج / 1 ص -255-                                         وتستبدلوا بالأتحميةِ بعدَها شَليلًا وأصداءً ثيابَ المحاربِ1

وبالمسكِ والكافورِ غُبْرًا سوابغًا                     كأن قَتِيرَيْها عيونُ الجنادبِ2

فإياكمُ والحربَ لا تَعْلَقَنَّكُمْ                           وحَوْضًا وخيم الماءِ مُرَّ المشاربِ

تَزَيَّنَ للأقوامِ ثم يَرَوْنَها                                بعاقبةٍ إذ بَيَّنَتْ، أمَّ صاحبِ3

تحرِّق لا تُشْوِي ضعيفًا وتنتحي                    ذوي العزِّ منكم بالحُتوف الصوائبِ4

ألم تعلموا ما كان في حربِ داحس ٍ              فتعتبروا أو كان في حربِ حاطبِ

وكم قد أصابت من شريفٍ مُسَوَّدٍ                  طويلِ العمادِ ضيفُه غيرُ خائِب

عظيمِ رمادِ النارِ يُحمَدُ أمرُه                         وذي شيمةٍ محضٍ كريمِ المضاربِ5

وماء هُريق في الضلالِ كأنما                        أذاعت به ريحُ الصَّبا والجنائبِ

يُخبِّركم عنها امرؤ حقُّ عالم                        بأيامِها والعلمُ علمُ التجاربِ

فبيعوا الحرابَ مِلْمُحَارِبِ واذكروا                    حسابَكمُ واللهُ خيرُ محاسبِ

وليّ امرئٍ فاختار دينًا فلا يَكنْ                     عليكم لي رقيبًا غيرُ ربِّ الثواقبِ6

أقيموا لنا دِينًا حنيفًا فأنتم                          لنا غاية قد يُهتَدى بالذوائبِ7

وأنتم لهذا الناسِ نور وعصمةٌ                       تُؤَمُّون، والأحلامُ غيرُ عوازبِ8

وأنتم، إذا ما حُصِّل الناسُ، جوهر                  لكم سُرَّةُ البطحاءِ شُمُّ الأرانبِ9

تصونون أجسادًا كرامًا عتيقةً                       مهذَّبةَ الأنسابِ غيرَ أشائبِ10


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الأتحمية: ثياب فاخرة تصنع باليمن. والشليل: الدرع القصيرة، والأصداء: الحديد.
2 القتير: حلق الدرع.
3 بينت: اتضحت. وأم صاحب: أي عجوزًا كأم صاحب لك إذ لا يصحب الرجل عادة إلا من كان في سنه.
4 لا تشوى: لا تخطئ. وتنتحى: تقصد.
5 المضارب: يقصد مضارب سيوفه.
6 الثواقب: النجوم.
7 الذوائب: الأعالي.
8 الأحلام: العقول، والعوازب: البعيدة.
9 السرة: العلو، والشم المرتفعة.
10 الأشائب: المختلطة، ويريد بغير الأشائب أن نسبهم خالص لا عيب فيه.

ج / 1 ص -256-                                    ترى طالبَ الحاجاتِ نحوَ بيوتِكم عصائبَ هَلْكَى تهتدي بعصائبِ

لقد علم الأقوامُ أن سَراتَكم                   على كلِّ حالٍ خيرُ أهلِ الجباجِبِ1

وأفضلُه رأيًا وأعلاه سُنة                        وأقولُه للحقِّ وسطَ المواكبِ

فقوموا فصلوا ربَّكم وتمسَّحوا                 بأركان هذا البيتِ بينَ الأخاشبِ2

فعندكمُ منه بلاءٌ ومصْدَق                       غداةَ أبي يَكْسومَ هادي الكتائبِ

كتيبتُه بالسهلِ تُمسى ورَجْلُه               على القاذفاتِ في رءوسِ المناقب3

فلما أتاكم نصرُ ذي العرشِ ردَّهم             جنودُ المليكِ بين سافٍ وحاصبِ4

فَوَلَّوْا سِراعا هاربين ولم يَؤُبْ                 إلى أهلِه مِلْحُبْشِ غيرِ عصائب

فإن تَهْلِكوا نَهْلِكْ وتهلكْ مواسمٌ              يُعاش بها قولُ امرئٍ غيرِ كاذبِ

قال ابن هشام: أنشدني بيته، "وماء هريق"، وبيته: "فبيعوا الحراب"، وقوله: "ولى امرئ فاختار"، وقوله:

على القاذفات في رءوس المناقب

أبو زيد الأنصاري وغيره.
حرب داحس والغبراء: قال ابن هشام: وأما قوله:

ألم تعلموا ما كان في حرب داحس

فحدثني أبو عُبَيدة النحوي: أن داحسًا فرس كان لقيس بن زُهَير بن جَذيمة بن رَواحة بن ربيعة بن الحارث بن مازن بن قطيعة بن عِبْس بن بغيض بن رَيْث بن غَطَفان أجراه مع فرس لحذيفة بن بدر بن عَمرو بن زيد بن جُؤَيَّة بن لُوذان بن ثعلبة بن عدي بن فَزارة بن ذُبيان بن بَغيض بن رَيْث بن غَطَفان، يقال لها: الغبراء. فدس حذيفة قومًا وأمرهمِ أن يضربوا وجه داحس إن رأوه قد جاء سابقًا، فجاء داحس سابقًا فضربوا وجهه، وجاءت الغبراء.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الجباجب: المنازل في منى.
2 الأخاشب: جبال مكة.
3 القاذفات: قمم الجبال والمناقب الطرق التي فيها.
4 السافي من يثير الغبار، والحاصب الذي يثير الحصباء.

ج / 1 ص -257-     فلما جاء فارس داحس أخبر قيسًا الخبر، فوثب أخوه مالك بن زُهَيْر فلطم وجه الغبراء، فقام حَمَلُ بن بدر فلطم مالكًا. ثم إن أبا الجُنَيْدب العَبْسي لقي عوفَ بنَ حذيفة فقتله، ثم لقي رجلٌ من بني فزارة مالكًا فقتله، فقال حَمَل بن بدر أخو حذيفة بن بدر:

قتلنا بعوف مالكًا وهو ثأرُنا               فإن تطلبوا منا سوى الحقِّ تَنْدَموا

وهذا البيت في أبيات له. وقال الربيع بن زياد العَبْسي:

أفبعدَ مقتل مالكِ بن زُهَير                     ترجو النساءُ عواقبَ الأطهارِ

وهذا البيت في قصيدة له.
فوقعت الحربُ بين عَبْس. وفزارة، فقُتل حذيفةُ بن بدر وأخوه حَمَلُ
ابن بدر، فقال قيس بن زُهير بن جَذِيمة يرثي حُذيفة، وجزع عليه:

كم فارس يُدْعَى وليس بفارسٍ               وعلى الهَباءةِ فارس ذو مَصْدق1

فابكوا حذيفةَ لن تُرَثّوا مثلَه                    حتى تبيدَ قبائلٌ لم تُخْلَق

وهذان البيتان في أبيات له. وقال قيس بن زهير:

على أن الفتى حَمَلَ بنَ بدر                       بغى والظلمُ مرتعُه وخيمُ

وهذا البيت في أبيات له. وقال الحارث بن زهير أخو قيس بن زهير:

تركتُ على الهباءةِ غيرَ فَخْر                     حُذيفةَ عندَه قِصَدُ العوالي2

وهذا البيت في أبيات له.
قال ابن هشام: ويقال: أرسل قيس داحسًا والغبراء، وأرسل حذيفة الخَطَّار والحَنْفاء، والأول أصح الحديثين. وهو حديث طويل، منعني من استقصائه قطعه حديث سيرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
حرب حاطب: قال ابن هشام: وأما قوله: "حرب حاطب". فيعني حاطب بن الحارث بن قيس بن هَيْشة بن الحارث بن أمية بن معاوية بن مالك بن عَوْف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس، كان قتل يهوديًّا جارًا للخزرج، فخرج إليه يزيد بن الحارث بن قيس بن مالك بن أحمر بن حارثة بن ثعلبة بن كَعْب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الهباءة: مكان في بلاد غطفان.
2 القصد: القطع المتكسرة والعوالي: الرماح.

 

ج / 1 ص -258-     وهو الذي يقال له: ابن فُسْحُم، وفُسْحُم أمه، وهي امرأة من القَيْن بن جَسْر، ليلا في نفر من بني الحارث بن الخزرج فقتلوه، فوقعت الحرب بين الأوس والخزرج؛ فاقتتلوا قتالا شديدًا، فكان الظَّفَر للخزرج على الأوس، وقُتل يومئذ سُوَيد بن صامت بن خالد بن عطية بن حَوْط بن حبيب بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس، قتله المُجذَّر بن زياد البلوي، واسمه عبد الله، حليف بني عَوْف بن الخزرج. فلما كان يوم أحد خرج المجَذَّر بن زياد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخرج معه الحارث بن سوَيْد بن صامت، فوجد الحارث بن سُوَيْد غِرَّة من المجذر فقتله بأبيه. وسأذكر حديثه في موضعه -إن شاء الله تعالى- ثم كانت بينهم حروب منعني من ذكرها واستقصاء هذا الحديث ما ذكرت في حديث حرب داحس.
شعر حكيم بن أمية في نهي قومه عن عداوة الرسول: قال ابن إسحاق: وقال حكيم بن أمية بن حارثة بن الأوْقَص السُّلَمي، حليف بني أمية وقد أسلم، يُوَرِّع1 قومَه عما أجمعوا عليه من عداوة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان فيهم شريفًا مطاعًا:

هل قائلٌ قولًا من الحقِّ قاعد                    عليه وهل غضبان للرشْدِ سامعُ

وهل سيّد ترجو العشيرةُ نفعَه                  لأقصى الموالي والأقارب جامعُ

تبرأت إلا وجه من يملك الصَّبَا                    وأهجرُكم ما دام مُدْلٍ ونازع2

وأسْلم وجهي للإِله ومنطقي ولو               راعني مِنَ الصَّديقِ روائع

ذكر ما لقي وسول الله -صلى الله عليه وسلم- من قومه
سفهاء قريش يأذونه: قال ابن إسحاق: ثم إن قريشًا اشتد أمرُهم للشقاء الذي أصابهم في عداوة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن أسلم معه منهم، فأغْرَوْا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- سفهاءَهم؛ فكذَّبوه وآذَوْه، ورموه بالشِّعر والسحر والكهانة والجنون، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- مظهر لأمر الله لا يستخفي به، مبادٍ لهم بما يكرهون من عَيْب دينهم، واعتزال أوثانهم، وفراقه إياهم على كفرهم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يورع: يصرف.
2 المدل: المرسل للدلو في البئر، والنازع: الجاذب لها.

 

ج / 1 ص -259-     أشد ما أوذي به الرسول -صلى الله عليه وسلم: قال ابن إسحاق: فحدثني يحيى بن عروة بن الزبير، عن أبيه عروة بن الزبير، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: قلت له: ما أكثر ما رأيت قريشًا أصابوا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما كانوا يُظهرون من عداوته؟ قال: حضرتُهم وقد اجتمع أشرافُهم يومًا في الحِجْر، فذكروا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: ما رأينا مثلَ ما صبرنا عليه من أمر هذا الرجل قط، سفَّه أحلامَنا، وشتم آباءَنا، وعاب دينَنا، وفرَّق جماعَتنا، وسبَّ آلهتنا، لقد صبرنا منه على أمر عظيم، أو كما قالوا. فبينَا هُم في ذلك إذْ طلع رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فأقبل يمشي حتى استلم الركنَ، ثم مَرَّ بهم طائفًا بالبيت، فلما مر بهم غمزوه ببعض القول. قال: فعرفت ذلك في وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ثم مضى، فلما مرَّ بهم الثانية غمزوه بمثلِها، فعرفتُ ذلك في وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم مرَّ الثالثة فغمزوه بمثلها، فوقف ثم قال: أتسمعون يا معشرَ قُريش، أما والذي نفسي بيده، لقد جئتكم بالذَّبْح1. قال: فأخذت القومَ كلمتُه حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائرٌ واقع، حتى إن أشدَّهم فيه وصاة قبل ذلك لَيرْفَؤُه2 بأحسن ما يجد من القول، حتى إنه ليقول: انصرفْ يا أبا القاسم، فوالله ما كنتَ جهولًا. قال: فانصرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى إذا كان الغدُ اجتمعوا في الحِجْر وأنا معهم، فقال بعضُهم لبعض: ذكرتم ما بلغ منكم، وما بلغكم عنه، حتى إذا بادَاكم بما تكرهون تركتموه. فبينما هم في ذلك طلع عليهم رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فوثبوا إليه وثبةَ رجلٍ واحد، وأحاطوا به، يقولون: أنت الذي تقول كذا وكذا؛ لما كان يقول من عَيْب آلهتهم ودينهم، فيقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "نعم، أنا الذي أقول ذلك". قال: فلقد رأيتُ رجلًا منهم أخذ بمجْمَع ردائه. قال: فقام أبو بكر رضي الله عنه دونه، وهو يبكي ويقول: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟ ثم انصرفوا عنه، فإن ذلك لأشدُّ ما رأيتُ قريشًا نالوا منه قط.
قال ابن إسحاق: وحدثني بعضُ آل أم كلثوم بنت أبي بكر، أنها قالت: رجع أبو بكر يومئذ وقد صدعوا فَرْقَ رأسِه؛ مما جبذوه بلحيته، وكان كثير الشعر.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يعرض صلى الله عليه وسلم بهلاكهم.
2 رفأه: هدأه.

 

ج / 1 ص -260-     قال ابن هشام: حدثني بعض أهل العلم: أشدُّ ما لقي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من قريش أنه خرج يومًا فلم يلقه أحد من الناس إلا كذَّبه وآذاه، لا حُر ولا عبد، فرجع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى منزله، فتدثر من شدةِ ما أصابه، فأنزل الله تعالى عليه: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ}، [المدثر: 1، 2]1.
إسلام حمزة رضي الله عنه:
سبب إسلامه: قال ابن إسحاق: حدثني رجل من أسلم، كان واعية: أن أبا جهل مر برسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند الصفا، فآذاه وشتمه، ونال منه بعض ما يكره من العَيْب لدينه، والتضعيف لأمره؛ فلم يكلمه رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- ومولاةٌ لعبد الله بن جُدْعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تَيْم بن مرة في مسكن لها تسمع ذلك، ثم انصرف عنه فعمد إلى نادٍ2 من قريش عند الكعبة، فجلس معهم. فلم يلبث حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه أن أقبل متوشحًا قوسَه، راجعًا من قَنَص يرميه ويخرج له، وكان إذا رجع من قَنَصه لم يصل إلى أهله حتى يطوفَ بالكعبة، وكان إذا فعل ذلك لم يمر على نادٍ من قريش إلا وقف وسلم وتحدث معهم، وكان أعزَّ فتى في قريش، وأشدَّ شكيمة. فلما مر بالمَوْلاةِ، وقد رجع رسول الله -صلى الله عليه وسلم إلى بيته- قالت له: يا أبا عُمارة، ولو رأيت ما لقي ابن أخيك محمد آنفًا من أبي الحكم بن هشام: وجده ههنا جالسًا فآذاه وسبه وبلغ منه ما يكره ثم انصرف عنه ولم يكلمه محمد -صلى الله عليه وسلم.
فاحتمل حمزة الغضب لما أراد الله به من كرامته، فخرج يسعى ولم يقف على أحد، مُعِدًّا لأبي جهل إذا لقيه أن يوقع به؛ فلما دخل المسجد نظهر إليه جالسًا في القوم، فأقبل نحوه، حتى إذا قام على رأسه رفع القوس فضربه بها فشجه شجةً منكَرة، ثم قال: أتشتمه وأنا على دينه أقول ما يقول؟ فرُد ذلك عليّ إنِ استطعت. فقامت رجال من بني مخزوم إلى حمزة لينصروا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال السهيلي في الروض الأنف: في تسميته إياه بالمدثر: في هذا المقام ملاطفة وتأنيس ومن عادة العرب إذا قصدت الملاطفة أن تسمي المخاطب باسم مشتق من الحالة التي هو فيها، كقوله عليه السلام لحذيفة: قم يا نَوْمان، وقوله لعلى بن أبي طالب -وقد ترب جنبه: قم أبا تراب.
2 أي أهل ناد.

 

ج / 1 ص -261-     أبا جهل؛ فقال أبو جهل: دعوا أبا عُمارة، فإني والله قد سببت ابن أخيه سبًّا قبيحًا، وتم حمزة رضي الله عنه على إسلامه، وعلى ما تابع عليه رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- من قوله. فلما أسلم حمزة عرفت قريشٌ أن رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قد عز وامتنع، وأن حمزة سيمنعه، فكفوا عن بعض ما كانوا ينالون منه.
عتبة بن ربيعة يفاوض الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن زياد، عن محمد بن كعب القُرظي، قال: حُدثتُ أن عُتبة بن ربيعة، وكان سيدًا، قال يومًا وهو جالس في نادي قريش، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس في المسجد وحده: يا معشر قريش، ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورًا لعله يقبلُ بعضَها فنعطيه أيها شاء، ويكف عنا؟ وذلك حين أسلم حمزةُ، ورأوْا أصحابَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يزيدون ويكثُرون؛ فقالوا: بلى يا أبا الوليد، قم إليه فكلمْه؛ فقام إليه عُتبة حتى جلس إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يابن أخي، إنك منا حيث قد علمتَ من السِّطَة1 فيِ العشيرة، والمكان في النسب، وإنك أتيت قومَك بأمر عظيم فرَّقت به جماعتهم وسفهتَ به أحلامَهم وعِبتَ به آلهتهم ودينهم وكفَّرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرضْ عليك أمورًا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها. قال: فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "قُلْ يا أبا الوليد، أسمع"، قال: يابنَ أخي، إن كنتَ إنما تريد بما جئتَ به من هذا الأمر مالًا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالًا، وإن كنت تريد به شرفًا سودناك علينا، حتى لا نقطع أمرًا دونك، وإن كنت تريد به مُلكًا ملكناك علينا: وإن كان هذا الذي يأتيك رَئِيًّا2 تراه لا تستطيع ردّه عن نفسِك، طلبنا لك الطبَّ، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئَك منه، فإنه ربما غلب التابعُ على الرجل حتى يُدَاوَى منه أو كما قال له، حتى إذا فرغ عتبة، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يستمع منه، قال:
"أقد فرغت يا أبا الوليد؟" قال: نعم قال: "فاسمع مني"؛ قال: أفعل. فقال: "بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {حم?، تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، بَشِيرًا وَنَذِيرًا} ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها يقرؤها عليه فلما سمعها منه عتبة أنصت لها، وألقى يديه خلفَ ظهره معتمدًا عليهما يسمع منه؛ ثمِ انتهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى السجدة منها، فسجد ثم قال: قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعتَ، فأنت وذاك.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
السطة: الشرف.
الرئي: ما يظهر للناس من الجن.

 

ج / 1 ص -262-     رأي عتبة: فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغيرِ الوجه الذي ذهب به. فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءَك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أني قد سمعتُ قولا والله ما سمعت مثلَه قطُّ، والله ما هو بالشعر، ولا بالسحر، ولا بالكهانة، يا معشر قريش، أطيعوني واجعلوها بي، وخلُّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزِلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعتُ منه نبأ عظيم، فإن تصبْه العرب فقد كُفيتموه بغيرِكم، وإن يظهر على العرب فملُكه ملكُكم، وعزُّه عزكم، وكنتم أسْعَدَ الناس به؛ قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه؛ قال: هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم.
قريش تفتن المسلمين: قال ابن إسحاق: ثم إن الِإسلام جعل يفشو بمكة في قبائل قريش في الرجال والنساء؛ وقريش تحبس من قدرت على حبسه، وتفتن من استطاعت فتنته من المسلمين ثم إن أشراف قريش من كل قبيلة، كما حدثني بعض أهل العلم عن سعيد بن جبير، وعن عكرمة مولى ابن عباس، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال:
زعماء قريش تفاوض الرسول صلى الله عليه وسلم: اجتمع عتبةُ بن ربيعة، وشَيْبة بن ربيعة، وأبو سُفيان بن حرب، والنَّضْر بن الحارث، أخو بني عبد الدار، وأبو البَخْتَري بن هشام، والأسود بن المطَّلب بن أسد، وزَمَعة بن الأسود، والوليد بن المغيرة، وأبو جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية، والعاص بن وائل، ونُبَيْه ومُنبَّه ابنا الحجاج السهميان، وأمية بن خلف، أو من اجتمع منهم. قال: اجتمعوا بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة، ثم قال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد فكلموه وخاصموه حتى تُعذروا فيه، فبعثوا إليه: إنَّ أشرافَ قومِك قد اجتمعوا لك ليكلموك، فأتهمْ. فجاءهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سريعًا، وهو يظن أن قد بدا لهم فيما كلمهم فيه بَداء، وكان عليهم حريصًا يحب رشدَهم، ويعز عليه عَنَتُهم، حتى جلس إليهم؛ فقالوا له: يا محمد، إنا قد بعثنا إليك لنكلمك، وإنا والله ما نعلم رجلًا من العرب أدخل على قومه مثل ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء، وعِبت الدين، وشتمت الآلهة، وسفهت الأحلامَ، وفرقت الجماعةَ، فما بقي أمر قبيح إلا جئته فيما بينَنا وبينك –أو كما قالوا له– فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت إنما تطلب به الشرف فينا، فنحن نسودك علينا، وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا، وإن كَان هذا الذي يأتيك رَئِيّا تراه قد غلب عليك –وكانوا يسمون التابع من الجن رَئِيا– فربما كان ذلك، بذلنا لك أموالَنا في طلب الطب لك حتى نبرئك منه، أو نُعْذر فيك؛ فقال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم:
"ما بي ما تقولون، ما جئتُ بما جئتكم به أطلب

 

ج / 1 ص -263-     أموالَكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملكَ عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولا، وأنزل عليَّ كتابًا، وأمرني أن أكون لكم بشيرًا ونذيرًا، فبلغتكم رسالات ربي، ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به، فهو حظُّكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبرْ لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم"، أو كما قال -صلى الله عليه وسلم- قالوا: يا محمد، فإن كنت غير قابل منا شيئًا مما عرضناه عليك فإنك قد علمت أنه ليس من الناس أحد أضيق بلدًا، ولا أقل ماءً، ولا أشد عيشًا منا، فسَلْ لنا ربَّك الذي بعثك بما بعثك به، فليسيِّر عنا هذه الجبال التي قد ضيَّقت علينا، وليبسط لنا بلادَنا، وليفجر لنا فيها أنهارًا كأنهار الشام والعراق، وليبعث لنا من مضى من آبائنا، وليكن فيمن يُبعث لنا منهم: قُصَيُّ بن كلاب، فإن كان شيخ صِدْق، فنسألهم عما تقول: أحقّ هو أم باطل، فإن صدقوك وصنعت ما سألناك صدقناك، وعرفنا به منزلتك من الله، وأنه بعثك رسولًا كما تقول. فقال لهم صلوات الله وسلامه عليه: "ما بهذا بُعثتُ إليكم من الله، إنما جئتكم من الله بما بعثني به، وقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم، فإن تقبلوه فهو حظّكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليَّ أصبرْ لأمر الله تعالى، حتى يحكم اللهُ بيني وبينكم". قالوا: فإذا لم تفعل هذا لنا، فخذ لنفسك، سل ربَّك بأن يبعث معك ملكًا يصدقك بما تقول، ويراجعنا عنك وسَلْه فليجعل لك جِنانًا وقصورًا وكنوزًا من ذهب وفضة يغنيك بها عما نراك تبتغي، فإنك تقوم بالأسواق كما نقوم، وتلتمس المعاش كما نلتمسه، حتى نعرف فضلَك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولًا كما تزعم. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أنا بفاعل، وما أنا بالذي يسأل ربَّه هذا، وما بُعثت إليكم بهذا، ولكن الله بعثني بشيرًا ونذيرًا -أو كما قال- فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظُّكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبرْ لأمر الله حتى يحكمَ الله بيني وبينكم". قالوا: فأسقط السماءَ علينا كِسفًا كما زعمت أن ربَّك إن شاء فعل، فإنا لا نؤمن لك إلا أن تفعل. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذلك إلى الله، إن شاء أن يفعلَه بكم فعل". قالوا: يا محمد، أفما علم ربك أنا سنجلس معك ونسألك عما سألناك عنه، ونطلب منك ما نطلب، فيتقدم فيعلمك ما تراجعنا به، ويخبرك ما هو صانع في ذلك بنا، إذ لم نقبل منك ما جئتنا به! إنه قد بلغنا أنك إنما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له: الرحمن، وإنا والله لا نؤمن بالرحمن أبدًا، فقد أعذرنا إليك يا محمد، وإنا والله لا نتركك وما بلغت منا حتى نهلكَك، أو تهلكنا. وقال قائلهم: نحن نعبد الملائكة، وهى بنات الله. وقال قائلهم: لن نؤمن لك حتى تأتينا بالله والملائكة قبيلا.
فلما قالوا ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- قام عنهم، وقام معه عبد الله بن أبي أمية

 

ج / 1 ص -264-     ابن المغيرة بن عبد الله بن عُمر بن مخزوم -وهو ابن عمته، فهو لعاتكة بنت عبد المطلب- فقال له: يا محمد، عرض عليك قومُك ما عرضوا فلم تقبلْه منهم، ثم سألوك لأنفسهم أمورًا ليعرفوا بها منزلتك من الله كما تقول، ويصدقوك ويتبعوك فلم تفعلْ، ثم سألوك أن تأخذ لنفسك ما يعرفون به فضلك عليهم، ومنزلتك من الله، فلم تفعل، ثم سألوك أن تعجلَ لهم بعضَ ما تخوِّفهم به من العذاب، فلم تفعل -أو كما قال له- فوالله لا أومن بك أبدًا حتى تتخذ إلى السماء سُلَّما، ثم ترقَى فيه وأنا أنظر إليك حتى تأتيهَا، ثم تأتي معك أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول، وايم الله، لو فعلت ذلك ما ظننت أني أصدقك، ثم انصرف عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وانصرف رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- إلى أهله حزينًا آسفًا لما فاته مما كان يطمع به من قومه حين دعوه، ولما رأى من مباعدتهم إياه.
أبو جهل يتوعد الرسول -صلى الله عليه وسلم: فلما قام عنهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال أبو جهل: يا معشر قريش، إن محمدًا قد أبي إلا ما تَرَوْنَ من عَيْب ديننا، وشتم آبائنا، وتسفيه أحلامِنا، وشتم آلهتنا، وإني أعاهد الله لأجلسن له غدا بحجر ما أطيق حملَه -أو كما قال- فإذا سجد في صلاته فضَخْتُ به رأسَه، فأسْلِموني عند ذلك أو امنعوني، فليصنع بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم. قالوا: والله لا نسلمك لشيء أبدًا، فامضِ لما تريد.
فلما أصبح أبو جهل، أخَذَ حجرًا كما وصف، ثم جلس لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينتظره، وغدا رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- كما كان يغدو. وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمكة وقبلته إلى الشام، فكان إذا صلى بين الركن اليماني والحجر الأسود، وجعل الكعبة بينه وبين الشام، فقام رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- يصلِّي وقد غدت قريشٌ فجلسوا في أنديتهم ينتظرون ما أبو جهل فاعل، فلما سجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- احتمل أبو جهل الحجرَ، ثم أقبل نحوه حتى إذا دنا منه رجع منهزمًا منتقعًا لونُه مرعوبًا قد يَبِست يداه على حجره، حتى قذف الحجرَ من يده، وقامت إليه رجال قريش، فقالوا له: ما لك يا أبا الحكم؟ قال: قمت إليه لأفعل به ما قلتُ لكم البارحةَ، فلما دنوتُ منه عَرض لي دونَه فحلٌ من الِإبل، لا والله ما رأيت مثل هامتِه، ولا مثل قَصَرَته1 ولا أنيابه لفحلٍ قطُّ، فَهَمَّ بي أن يأكلني.
قال ابن إسحاق: فذُكر لي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ذلك جبريلُ عليه السلام لو دنا لأخذه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قصرته: أصل عنقه.

 

ج / 1 ص -265-     النضر بن الحارث ينصح قريشًا: فلما قال لهم ذلك أبو جهل، قام النَّضر بن الحارث بن كَلَدَة بن علقمة بن عبد مناف بن عبد الدار بن قُصي.
قال ابن هشام: ويقال النضر بن الحارث بن علقمة بن كَلَدَة بن عبد مناف.
قال ابن إسحاق: فقال يا معشر قريش، إنه والله قد نزل بكم أمرٌ ما أتيتم له بحيلة بعدُ، قد كان محمد فيكم غلامًا حدثًا أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثًا، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم في صُدْغَيْه الشيبَ، وجاءكم بما جاءكم به، قلتم ساحر، لا والله ما هو بساحر، لقد رأينا السحرةَ ونفثهم وعقدهم، وقلتم كاهن، لا والله ما هو بكاهن، قد رأينا الكهنة وتخالُجهم وسمعنا سَجْعهم، وقلتم شاعر، لا والله ما هو بشاعر، قَد رأينا الشعر، وسمعنا أصنافَه كلَّها: هَزَجه ورجزه، وقلتم مجنون، لا والله ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون فما هو بخَنْقه، ولا وسوسته، ولا تخليطه، يا معشر قريش، فانظروا في شأنكم، فإنه والله لقد نزل بكم أمر عظيم.
أذى النضر للرسول، صلى الله عليه وسلم: وكان النضر بن الحارث من شياطين قريش، وممن كان يؤذي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وينصب له العداوةَ، وكان قد قدم الحيرة، وتعلم بها أحاديثَ ملوك الفرس، وأحاديث رُسْتم واسبنديار، فكان إذا جلس رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- مجلسًا فذكَّر فيه بالله، وحذَّر قومَه ما أصاب مَنْ قبلَهم من الأمم من نِقْمة الله، خلفه في مجلسه إذا قام، ثم قال: أنا والله يا معشر قريش، أحسن حديثًا منه، فهلمّ إليّ، فأنا أحدثكم أحسن من حديثه، ثم يحدثهم عن ملوك فارس ورُستم واسبنديار، ثم يقول: بماذا محمد أحسن حديثًا مني؟
قال ابن هشام: وهو الذي قال فيما بلغني: "سأنزل مثل ما أنزل الله".
قال ابن إسحاق: وكان ابن عباس -رضي الله عنهما- يقول، فيما بلغني: نزل فيه ثماني آيات من القرآن: قول الله عز وجل:
{إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [القلم: 15]. وكل ما ذكر فيه من الأساطير من القرآن.
قريش تسأل أحبار اليهود في شأنه عليه الصلاة والسلام: فلما قال لهم ذلك النضرُ بن الحارث بعثوه، وبعثوا معه عقبة بن أبي مُعَيْط إلى أحبار يهود بالمدينة، وقالوا لهما: سَلاهم عن محمد، وصِفا لهم صفته، وأخبراهم بقوله، فإنهم أهلُ الكتاب الأول، وعندهم علمٌ ليس

 

ج / 1 ص -266-     عندَنا من علم الأنبياء، فخرجا حتى قَدِما المدينة، فسألا أحبار يهود عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ووصفا لهم أمرَه، وأخبراهم ببعض قوله، وقالا لهم: إنكم أهل التوراة، وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا. فقالت لهما أحبار يهود: سلوه عن ثلاث نأمركم بهنَّ: فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل، وإن لم يفعل فالرجل متقول، فرَوْا فيه رأيكم. سَلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان أمرُهم؟ فإنه قد كان لهم حديث عجب، وسَلوه عن رجل طوَّاف قد بلغ مشارقَ الأرض ومغاربها ما كان نبؤُه، وسلوه عن الرّوحِ ما هي؟ فإذا أخبركم بذلك فاتبعوه، فإنه نبي، وإن لم يفعل، فهو رجل متقول، فاصنعوا في أمره ما بدا لكم. فأقبل النضرُ بنُ الحارث، وعقبة بن أبي مُعَيْط بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قُصي حتى قدما مكة على قريش، فقالا: يا معشر قريش، قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد، قد أخبرنا أحبارُ يهود أن نسألَه عن أشياء أمرونا بها، فإن أخبركم عنها فهو نبي، وإن لم يفعلْ فالرجلُ متقوِّلٌ، فَرَوْا فيه رأيكم.
قريش تسأل والرسول يجيب: فجاءوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: يا محمد، أخبرنا عن فتية ذهبوا في الدهر الأول قد كانت لهم قصة عجب، وعن رجل كان طوَّافًا قد بلغ مشارقَ الأرض ومغاربَها، وأخبرْنا عن الروح ما هى؟ قال: فقال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم: أخبركم بما سألتم عنه غدًا، ولم يستثن1، فانصرفوا عنه. فمكث رسول الله، صلى الله عليه وسلم -فيما يذكرون- خمسَ عشَرةَ ليلة لا يُحْدث الله إليه في ذلك وحيًا، ولا يأتيه جبريل، حتى أوجف أهلُ مكة، وقالوا: وعدنا محمد غدًا، واليوم خمسَ عشَرةَ ليلةً، قد أصبحنا منها لا يخبرنا بشيء مما سألناه عنه، وحتى أحزن رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- مكثُ الوحي عنه، وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة. ثم جاءه جبريل من الله عز وجل بسورة أصحاب الكهف، فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم، وخبرُ ما سألوه عنه من أمر الفتية، والرجلُ الطواف، والروح.
الرد على قريش فيما سألوه: قال ابن إسحاق: فذكر لي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لجبريل حين جاءه: لقد احتبست عني يا جبريل حتى سُؤْتُ ظنًّا؛ فقال له جبريل:
{وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64] فافتتح السورة تبارك وتعالى بحمده وذكر نبوة رسوله، بما أنكروه عليه من ذلك، فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} [الكهف: 1] يعني محمدًا -صلى الله عليه وسلم- إنك رسول مني: أى تحقيق لما سألوه عنه من نبوتك: {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا، قَيِّمًا} [الكهف: 1]: أي معتدلا، لا اختلاف

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لم يقل إن شاء الله.

 

ج / 1 ص -267-     فيه:{لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ} [الكهف: 2]: أي عاجل عقوبته في الدنيا، وعذابًا أليمًا في الآخرة: أي من عند ربك الذي بعث رسولا. {وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا، مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا} [الكهف: 2، 3] أي دار الخلد. لا يموتون فيها الذين صدقوك بما جئت به مما كذبك به غيرهم، وعملوا بما أمرتهم به من الأعمال. {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا} [الكهف: 4] يعني قريشًا في قولهم: إنا نعبد الملائكة وهي بناتُ الله: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ} [الكهف: 5] الذين أعظموا فراقهم وعيب دينهم. {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ}: أي لقولهم: إن الملائكة بنات الله: {إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا، فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ} يا محمد، {عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف: 6]، أي لحزنه عليهم حين فاته ما كان يرجو منهم، أي لا تفعل.
قال ابن هشام: باخع نفسك: أي مهلك نفسك فيما حدثني أبو عبيدة. قال ذو الرّمَّة:

ألا أيهذا الباخع الوَجْدُ نفسَه                  لشيءٍ نَحَتْهُ عن يَدَيْه المقَادِرُ

وجمعه: باخعون وبَخَعة. وهذا البيت في قصيدة له. وتقول العرب:قد بخعْتُ له نصحي ونفسي: أي جهدت له. {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}.[الكهف: 7].
قال ابن إسحاق: أي أيهم أتبعُ لأمري، وأعملُ بطاعتي.
{وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} [الكهف: 8] أي الأرض، وإن ما عليها لفانٍ وزائل، وإن المرجع إلي، فأجزي كلا بعمله، فلا تأسَ ولا يحزنْك ما تسمع وترى فيها.
قال ابن هشام: الصعيد: الأرض، وجمعه: صُعُد. قال ذو الرّمَّة يصف ظبيًا صغيرًا:

كأنه بالضحَى ترمي الصعيدَ به                دبَّابةٌ في عِظام الرأسِ خُرطومُ1

وهذا البيت في قصيدة له. والصعيد: الطريق. وقد جاء في الحديث: "إياكم والقعودَ على الصُّعَداتِ"، يريد الطرقَ. والجُرُز: الأرض التي لا تنبت شيئًا، وجمعها: أجْراز. ويقال؛ سَنة جُرز، وسنون أجْراز، وهى التي لا يكون فيها مطر، وتكون فيها جدوبة ويُبس وشدة. قال ذو الرّمَّة يصف إبلًا:

طوى النحْزُ والأجْراز ما في بُطونها               فما بقيتْ إلا الضلوعُ الجَراشِعُ2


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الدبابة والخرطوم: الخمر.
2 الجراشع المنتفخة.

 

ج / 1 ص -268-     وهذا البيت في قصيدة له.
أهل الكهف: قال ابن إسحاق: ثم استقبل قصةَ الخبر فيما سألوه عنه من شأن الفتية، فقال: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} [الكهف: 9] أي قد كان من آياتي فيما وضعت على العباد من حُججي ما هو أعجب من ذلك.
قال ابن هشام: والرقيم: الكتاب الذي رُقِمَ فيه بخبرِهم، وجمعُه: رُقُم. قال العَجَّاج:

ومُسْتَقر المصحفِ المرَقَّم

وهذا البيت في أرجوزة له.
قال ابن إسحاق: ثم قال تعالى:
{إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا، فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا، ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا}، ثم قال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ}، أي: بصدق الخبر عنهم. {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً، وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا}، أي: لم يشركوا بي كما أشركتم بي ما ليس لكم به علم.
قال ابن هشام: والشطط: الغُلو ومجاوزة الحق. قال أعْشَى بني
قَيْس بن ثَعْلبة:

لا يَنْتهون ولا يَنْهَى ذَوِي شَطَطٍ               كالطَّعْنِ يذهبُ فيه الزيتُ والفُتُلُ

وهذا البيت في قصيدة له.
{هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ}.
قال ابن إسحاق: أي بحجة بالغة.
{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا، وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا، وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ}.

 

ج / 1 ص -269-     قال ابن هشام: تَزَاور: تميلُ، وهو من الزور. وقال امرؤ القيس ابن جُحْر.

وإني زعيم إن رجعتُ مُملكًا                     بسَيْر ترى منه الفُرانِق أزْوَرَا

وهذا البيت في قصيدة له. وقال أبو الزحف الكلبي يصف بلدًا:

جَابُ المُندَّى عن هَوانا أزورُ                يُنْضِي المطايا خِمْسُه العَشَنْزرُ1

وهذان البيتان2 في أرجوزة له. و{تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ}[الكهف: 17]: تجاوزهم وتتركهم عن شمالها. قال ذو الرّمَّة:

إلى ظُعْنٍ يَقْرِضن أقْواز مُشرِف                 شمالًا وعن أيمانِهن الفوارسُ3

وهذا البيت في قصيدة له. والفجوة: السِّعة، وجمعها: الفِجاء. قال الشاعر:

ألبسْتَ قومَك مَخْزاةً ومَنْقَصةً                   حتى أبيحوا وخَلَّوْا فجوةَ الدار

{ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللهِ} أي في الحجة على من عرف ذلك من أمورهم من أهل الكتاب ممن أمر هؤلاء بمسألتك عنهم في صدق نبوتك بتحقيق الخبر عنهم: {مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا، وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ}.
قال ابن هشام: الوصيد: الباب. قال العَبْسي، واسمه عُبَيْد بن وهب:

بأرضٍ فَلاة لا يُسَدّ وَصيدُها                    عليَّ ومعروفي بها غَيرُ مُنْكَرِ

وهذا البيت في أبيات له. والوصيد "أيضًا" الفناء، وجمعه: وصائد، ووُصُد، ووصْدان وأصُد، وأصْدَان.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الجأب: الغليظ، وينضى: يهزل، والعشنزر المتين الخلق.
2 اعتبر الشطرتين بيتين من مشطور الرجز.
3 الأقواز ما استدار من الرمل.

 

ج / 1 ص -270-     {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} إلى قوله: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ} أهل السلطان والملك منهم. {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا، سَيَقُولُونَ} يعني أحبار يهود الذين أمروهم بالمسألة عنهم: {ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ}، أي: لا علم لهم. {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا} أي: لا تكابرهم، {وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} فإنهم لا علم لهم بهم.
{وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا، إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا}، أي ولا تقولن لشيء سألوك عنه كما قلت في هذا: إني مخبركم غدًا. واستثن مشيئة الله، واذكر ربك إذا نسيت، وقل عسى أن يهدين ربي لخير مما سألتموني عنه رشدًا، فإنك لا تدري ما أنا صانع في ذلك. {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا}، أي: سيقولون ذلك. {قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} أي: لم يخف عليه شيء مما سألوك عنه.
ذو القرنين: وقال فيما سألوه عنه من أمر الرجل الطوَّاف:
{وَيَسْأَلونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا، إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا، فَأَتْبَعَ سَبَبًا} حتى انتهى إلى آخر قصة خبره.
وكان من خبر ذي القرنين أنه أوتي ما لم يؤتَ أحدٌ غيره، فمُدت له الأسباب حتى انتهى من البلاد إلى مشارق الأرض ومغاربها، لا يطأ أرضًا إلا سُلط على أهلِها، حتى انتهى من المشرقِ والمغربِ إلى ما ليس وراءَه شيء من الخلق.
قال ابن إسحاق: فحدثني من يسوق الأحاديثَ عن الأعاجم فيما توارثوا من علمه: أن ذا القرنين كان رجلًا من أهلِ مصر. اسمُه مُرْزُبان بن مَرْذبة اليوناني، من ولد يونان بن يافث بن نوح.
قال ابن هشام: واسمه الِإسكندر، وهو الذي بنى الِإسكندرية فنسبت إليه.
قال ابن إسحاق: وقد حدثني ثَوْر بن يزيد عن خالد بن مَعْدان الكَلاعيِّ، وكان رجلًا قد أدرك: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سُئل عن ذي القرنين فقال: مَلِك مسح الأرضَ من تحتِها بالأسبابِ.

 

ج / 1 ص -271-     وقال خالد: سمع عمرُ بن الخطاب -رضي الله عنه- رجلًا يقول: يا ذا القرنين، فقال عمر: اللهم غُفْرًا، أما رَضَيْتم أن تَسَمَّوْا بالأنبياء حتى تسميتم بالملائكةِ.
قال ابن إسحاق: الله أعلم أي ذلك كان، أقال ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أم لا؟ فإن كان قاله، فالحق ما قال.
أمر الروح: وقال تعالى فيما سألوه عنه من الروح:
{وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} ما أوتيتم من العلم إلا قليلًا: قال ابن إسحاق: وحُدثت عن ابن عباس، أنه قال: لما قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة، قالت أحبارُ يهود: يا محمدُ، أرأيت قولك: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} إيانا تريد، أم قومَك؟ قال: كُلًا؟ قالوا: فإنك تتلو فيما جاءك: أنا قد أوتينا التوراةَ فيها بيانُ كل شيء. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: إنها في علم الله قليل، وعندكم في ذلك ما يكفيكم لو أقمتموه. قال: فأنزل الله تعالى عليه فيما سألوه عنه من ذلك: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أي: أن التوراة في هذا من علم الله قليل.
تسيير الجبال وبعْث الموتى: قال وأنزل الله تعالى عليه فيما سأله قومُه لأنفسِهم من تسيير الجبال، وتقطيع الأرض، وبعث من مضى من آبائهم من الموتى:
{وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا} [الرعد: 31]، أي: لا أصنع من ذلك إلا ما شئت.
خذ لنفسك: وأنزل عليه في قولهم: خذ لنفسك، ما سألوه أن يأخذ لنفسه، أن يجعل له جنانًا وقصورًا وكنوزًا، ويبعث معه ملكًا يصدقه بما يقول، ويرد عنه:
{وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا، أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا، انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا، تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا} [الفرقان: 79].
وأنزل عليه في ذلك من قولهم:
{وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان: 20]، أي: جعلت بعضكم لبعض بلاء لتصبروا ولو شئتُ أن أجعل الدنيا مع رسلي فلا يُخَالفوا لفعلتُ.

 

ج / 1 ص -272-     القرآن يرد على ابن أبي أمية: وأنزل الله عليه فيما قال عبدُ الله ابن أبي أمية: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا، أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا، أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا، أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَأُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا}.
قال ابن هشام: الينبوع: ما نبع من الماء من الأرض وغيرها، وجمعه ينابيع. قال ابن هَرْمة واسمه إبراهيم بن علي الفِهري:

وإذا هَرقتَ بكل دارٍ عَبْرةً                     نُزِفَ الشئونُ ودَمْعُك اليَنْبوعُ1

وهذا البيت في قصيدة له. والكِسَف: القِطَع من العذاب، وواحدته: كِسْفة، مثل سِدْرة وسِدَر. وهى أيضًا: واحدة الكِسْف. والقبيل: يكون مقابلة ومعاينة، وهو كقوله تعالىِ: {أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا} [الكهف: 55]: أي عيانًا. وأنشدني أبو عُبَيْدة لأعشى بني قَيْس بن ثَعْلبة:

أصالحكم حتى تَبوءُوا بمثلِهَا                   كصرخةِ حُبْلَى يسَّرتها قبيلُها

يعني القابلة؛ لأنها تقابلها وتَقبل ولدها. وهذا البيت في قصيدة له. ويقال: القبيل جمعه قُبُل، وهي الجماعات، وفى كتاب الله تعالى: {وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا} [الأنعام: 111] فقُبل: جمع قبيل مثل سُبل: جمعٍ سبيل، وسُرر: جمع سرير، وقُمص: جمع قميص، والقبيل أيضًا: في مَثَل من الأمثال، وهو قولهم: ما يَعرف قبيلًا من دبير: أي لا يعرف ما أقبل مما أدبر، قال الكُميْت بن زيد:

تفرقَت الأمورُ بوَجْهَتَيْهم                      فما عَرَفوا الدبيرَ من القبيلِ

وهذا البيت في قصيدة له، ويقال: إنما أريد بهذا القبيل: الفَتل، فما فُتل إلى الذراع فهو القبيل، وما فُتل إلى أطراف الأصابع فهو الدبير، وهو من الِإقبال والإدبار الذي ذكرت. ويقال: فَتْل المِغْزَل. فإذا فُتل المِغْزل إلىِ الركبة فهو القبيل، وإذا فُتل إلى الوَرِك فهو الدَّبير.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الشئون: مجاري الدمع.

 

ج / 1 ص -273-     والقبيل أيضًا: قوم الرجل. والزُّخرف: الذهب. والمزخْرَف: المزيَّن بالذهب. قال العجاج:

مِن طللٍ أمسى تخال المصْحَفا                    رسومه والمذهَب المزخْرَفا

وهذان البيتان في أرجوزة له، ويقال أيضًا لكل مُزَيَّن: مُزَخْرَف.
نفي القران أن رجلًا من اليمامة يعلمه: قال ابن إسحاق: وأنزل في قولهم: إنا قد بلغنا أنك إنما يعلمك رجلٌ باليمامة، يقال له الرحمنُ، ولن نؤمن به أبدًا:
{كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} [الرعد: 30].
ما نزل في أبي جهل: وأنزل عليه فيما قال أبو جهل بن هشام،وما همَّ به:
{أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى، عَبْدًا إِذَا صَلَّى، أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى، أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى، أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى، أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرَى، كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ، نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ، فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ، سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ، كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 9-19].
قال ابن هشام: لنسفعًا: لنجذبن ولنأخذن. قال الشاعر:

قومٌ إذا سَمِعوا الصراخَ رأيتَهم                   من بين مُلْجِمِ مُهْرِه أو سافِع

والنادي: المجلس الذي يجتمع فيه القوم ويقضون فيه أمورَهم، وفي كتاب الله تعالى: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} [العنكبوت: 29] وهو النديُّ.
قال عَبيد بن الأبرص:

أذهبْ إليك فإني من بني أسَدٍ                أهل النديِّ وأهل الجودِ والنادي

وفى كتاب الله تعالى: {وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} [مريم: 73] وجمعه: أندية. فليدع أهل ناديه، كما قال تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] يريد أهل القرية.
قال سلامة بن جَنْدَل، أحد بني سعد بن زيد مناة بن تميم:

يومان يومُ مقاماتٍ وأنديةٍ                   ويومُ سَيْر إلى الأعداءِ تأويبِ1


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 التأويب: السير كل النهار.

 

ج / 1 ص -274-     وهذا البيت في قصيدة له. وقال الكُمَيْت بن زيد:

لا مهاذيرَ في النديّ مكاثيـ                          ـر ولا مُصْمتين بالِإفحامِ

وهذا البيت في قصيدة له. ويقال النادي: الجلساء. الزبانية: الغلاظ الشداد، وهم في هذا الموضع خزنة النار. والزبانية أيضًا في الدنيا أعوان الرجل الذين يخدمونه ويعينونه، والواحد: زِبْنِيَة. قال ابن الزَّبَعْرَى في ذلك:

مطاعيمُ في المَقْرَى مطاعينُ في الوَغَى                زبانية غُلْت عظامٌ حلومُها

يقول: شداد. وهذا البيت في أبيات له. وقال صخر بن عبد الله الهذلي، وهو صخر الغي:

ومن كبير نفرٌ زبانية

وهذا البيت في أبيات له.
قال ابن إسحاق: وأنزل الله تعالى عليه فيما عرضوا عليه من أموالهم:
{قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [سبأ: 47].
استكبار قريش عن الِإيمان بالرسول، صلى الله عليه وسلم: فلما جاء رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بما عرفوا من الحق، وعرفوا صدقَه فيما حدَّث، وموقع نبوتِه فيما جاءهم به من علم الغيوب حين سألوه عما سألوه عنه، حال الحسدُ منهم له بينَهم وبين اتِّباعه وتصديقه: فعَتَوْا على الله وتركوا أمرَه عيانًا، ولجُّوا فيما هم عليه من الكفر، فقال قائلهم:
{لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26] أي اجعلوه لغوًا وباطلًا، واتخذوه هزوًا لعلكم تغلبونه بذلك. فإنكم إن ناظرتموه أو خاصمتموه يومًا غلبكم.
فقال أبو جهل يومًا يهزأ برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما جاء من الحق: يا معشر قريش يزعم محمدٌ أنما جنود الله الذين يعذبونكم في النار يحبسونكم فيها تسعةَ عشرَ، وأنتم أكثر الناس عددًا، وكثرة، أفيعجز كلُّ مائة رجل منكم عن رجل منهم؟ فأنزل الله تعالى عليه في ذلك من قوله:
{وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [المدثر: 31] إلى آخر القصة، فلما قال ذلك بعضهم لبعض، جعلوا إذا جهر رسول الله، صلى الله عليه وسلم

 

ج / 1 ص -275-     بالقرآن وهو يصلي، يتفرقون عنه، ويأبون أن يستمعوا له، فكان الرجلُ منهم إذا أراد أن يستمع من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعضَ ما يتلُو من القرآن وهو يصلي، استرق السمعَ دونَهم فَرَقًا منهم، فإن رأى أنهم قد عرفوا أنه يستمع منه ذهب خشيةَ أذاهم فلم يستمعْ، وإن خفض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صوتَه فظن الذي يستمع أنهم لا يستمعون شيئًا من قراءته وسمع هو شيئًا دونهم أصاخ له يستمعُ منه.
قال ابن إسحاق: حدثني داود بن الحُصَيْن، مولى عُمر بن عثمان، أن عِكْرِمة مولى ابن عباس حدثهم أن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- حدثهم: إنما أنزلت هذه الآية:
{وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} [الإسراء: 110] من أجل أولئك النفر يقول: لا تجهر بصلاتك فيتفرقوا عنك، ولا تخافتْ بها فلا يسمعها من يحب أن يسمعَها ممن يسترق ذلك دونَهم لعله يرعوي إلى بعض ما يسمع فينتفع به.
أول من جهر بالقرآن:
قال ابن إسحاق: وحدثني يحيى بنُ عروة بن الزبير، عن أبيه، قال: كان أول من جهر بالقرآن بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمكة عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: اجتمع يومًا أصحابُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: والله ما سمعتْ قريش هذا القران يجهر لها به قطُّ، فمنَ رجل يُسْمِعهموه؟ فقال عبد الله بن مسعود أنا، قالوا: إنا نخشاهم عليك، إنما نريد رجلًا له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوه؟ قال دعوني فإن الله سيمنَعُني. قال: فغدا ابن مسعود حتى أتى المقام في الضحى، وقريش في أنديتها، حتى قام عندَ المقام ثم قرأ: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، رافعًا بها صوته:
{الرَّحْمَنُ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ} [الرحمن: 1، 2] قال: ثم استقبلها يقرؤها. قال: فتأملوه فجعلوا يقولون: ماذا قال ابنُ أمِّ عَبْد؟ قال: ثم قالوا: إنه ليتلُو بعضَ ما جاء به محمد، فقاموا إليه فجعلوا يضربون في وجْهِه، وجعل يقرأ حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغَ. ثم انصرف إلى أصحابه وقد أثَّروا في وجهه، فقالوا له: هذا الذي خَشينا عليك؛ فقال: ما كان أعداءُ الله أهونَ عليَّ منهم الآن، ولئن شئتم لأغادينهم بمثلها غدًا؛ قالوا لا، حَسْبُك، قد أسمعتَهم ما يكرهون.
قصة استماع قريش إلى قراءة النبي صلى الله عليه وسلم:
قال ابن إسحاق: وحدثني محمدُ بنُ مسلمِ بن شهابٍ الزهريُّ أنه حُدِّث: أن أبا سُفْيان بن حرب،

 

ج / 1 ص -276-     وأبا جهل بن هشام، والأخنس بن شَرِيق بن عَمرو بن وهب الثَّقفي، حليف بني زُهْرة خرجوا ليلةً ليستمعوا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يصلي من الليل في بيته، فأخذ كلُّ رجل منهم مجلسًا يستمع فيه، وكل لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجرُ تفرقوا فجمعهم الطريقُ، فتلاوموا، وقال بعضُهم لبعض: لا تعودوا، فلو رآكم بعضُ سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئًا، ثم انصرفوا. حتى إذا كانت الليلةُ الثانية، عاد كلّ رجل منهم إلى مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجرُ تفرقوا، فجمعهم الطريقُ، فقال بعضُهم لبعض مثلَ ما قالوا أول مرة، ثم انصرفوا. حتى إذا كانت الليلةُ الثالثةُ أخذ كلّ رجل منهم مجلسَه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجرُ تفرقوا، فجمعهم الطريق. فقال بعضهم لبعض: لا نبرح حتى نتعاهدَ ألا نعود على ذلك ثم تفرقوا.
الأخنس يستفهم عما سمعه: فلما أصبح الأخنسُ بن شَرِيق أخذ عصاه، ثم خرج حتى أتى أبا سفيان في بيته، فقال: أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال: يا أبا ثعلبة والله لقد سمعتُ أشياءَ أعرفها وأعرف ما يُراد بها، وسمعت أشياءَ ما عرفت معناها ولا ما يُراد بها، قال الأخنسُ: وأنا والذي حلفتَ به.
قال: ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل، فدخل عليه بيتَه، فقال: يا أبا الحكم، ما رأيك فيما سَمِعْتَ من محمد؟ فقال: ماذا سمعت، تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تحازينا على الرُّكب، وكنا كفرسَيْ رهان، قالوا: منا نبيٌّ يأتيه الوحىُ من السماء؛ فمتى ندرك مثلَ هذه، والله لا نؤمنُ به أبدًا ولا نصدقه قال: فقام عنه الأخنسُ وتركه.
تعنت قريش عند سماعهم القرآن وما نزل فيهم: قال ابن إسحاق: وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا تلا عليهم القرآن، ودعاهم إلى الله: قالوا يهزءون به:
{قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} [فصلت: 5] لا نفقه ما تقول {وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ} لا نسمع ما تقول {وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} قد حال بيننا وبينك {فَاعْمَلْ} بما أنت عليه {إِنَّنَا عَامِلُونَ} [فصلت: 5] بما نحن عليه، إنا لا نفقه عنك شيئًا، فأنزل الله تعالى عليه في ذلك من قولهم: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا}... إلى قوله: {وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا} [الإسراء: 46]: أي كيف فهموا توحيدَك ربَّك إن كنتَ جعلتَ على قلوبِهم أكنة، وفي

 

ج / 1 ص -277-     آذانهم وقرًا، وبينك وبينهم حجابًا بزعمهم؛ أي إني لم أفعل ذلك. {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا}[الإسراء: 47]، أي: ذلك ما تواصوا به من ترك ما بعثك به إليهم. {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} [الإسراء: 48] أي: أخطئوا المثل الذي ضربوا لك، فلا يصيبون به هُدًى، ولا يعتدل لهم فيه قول، {وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} [الإسراء: 49] أي: قد جئتَ تخبرنا أنا سنُبعث بعد موتنا إذا كنا عظامًا ورفاتًا، وذلك ما لا يكون. {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا، أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الإسراء: 50، 51] أي: الذي خلقكم مما تعرفون، فليس خلقكم من تراب بأعزِّ من ذلك عليه.
قال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي نَجيح، عن مُجاهد، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: سألته عن قول الله تعالى:
{أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} [الإسراء: 51] ما الذي أراد به الله؟ فقال: الموت.
ذكر عدوان المشركين على المستضعفين ممن أسلم بالأذى والفتنة:
قال ابن إسحاق: ثم إنهم عَدَوْا على من أسلم، واتبع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أصحابه، فوثبت كلُّ قبيلة على من فيها من المسلمين، فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش، وبرَمْضاء مكة إذا اشتد الحرُّ، من استضعفوا منهم يفتنونهم عن دينهم، فمنهم من يُفتَن من شدةِ البلاء الذي يصيبه، ومنهم من يَصْلُب لهم، ويعصمه الله منهم.
ما لقيه بلال وتخليص أبي بكر له: وكان بلال، مولى أبي بكر -رضى الله عنهما- لبعض بني جُمَح، مُوَلَّدا من مُوَلّديهم، وهو بلال بن رباح، وكان اسم أمه حمامة، وكان صادقَ الإسلام طاهرَ القلب، وكان أميةُ بن وهب بن حُذَافة بن جُمَح يُخرجه إذا حَميت الظهيرةُ، في بَطْحاءِ مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتُوضع على صدره، ثم يقول له: لا تزال هكذا حتى تموتَ، أو تكفرَ بمحمد، وتعبد اللات والعُزَّى؛ فيقول وهو في ذلك البلاء: أحَد أحَد.
قال ابنِ إسحاق: وحدثني هشام بن عُروة عن أبيه، قال: كان ورقة بن نوْفل يمر به وهو يُعَذَّبَ بذلك، وهو يقول: أحَد أحَد؛ فيقول: أحَد أحَد والله يا بلال، ثم يُقْبِل على أمية بن خلف، ومن يصنع ذلك به من بني جُمَح، فيقول: أحلف بالله لئن قتلتموه على هذا

 

ج / 1 ص -278-     لأتخذنَّه حَنَانًا1، حتى مر به أبو بكر الصديق ابن أبي قحافة -رضي الله عنه- يومًا، وهم يصنعون ذلك به، وكانت دار أبي بكر في بني جُمَح، فقال لأمية بن خلف: ألا تتقي الله في هذا المسكين؟ حتى متى؟! قال: أنت الذي أفسدتَه فأنقذْه مما ترى؛ فقال أبو بكر: أفعل، عندي غلام أسود أجلد منه وأقوى، على دينك، أعْطِيكه به؛ قال: قد قبلتُ فقال: هو لك. فأعطاه أبو بكر الصديق -رضى الله عنه- غلامَه ذلك، وأخذه فأعتقه.
من أعتقهم أبو بكر: ثم أعتق معه على الِإسلام قبل أن يهاجرَ إلى المدينة سِتَّ رقابٍ، بلالٌ سابعهم: عامر بن فهيرة، شهد بدرًا وأحدًا، وقُتل يوم بئر معونة شهيدًا؟ وأم عُبَيْس وزِنِّيرة، وأصيب بصرُها حين أعتقها، فقالت قريش: ما أذهب بصرَها إلا اللاتُ والعزَّى؛ فقالت: كذَبوا وبيتِ الله ما تضرُّ اللات والعزى وما تنفعان، فرد اللهُ بصرَها.
وأعتق الهَدِيةَ وبنتَها، وكانتا لامرأة من بني عبد الدار، فمر بهما وقد بعثتهما سيدتهما بطحين لها، وهى تقول: والله لا أعتقهما أبدًا، فقال أبو بكر -رضى الله عنه- حلّ2 يا أم فلان؛ فقالت: حِلَّ، أنت أفسدتهما فأعتقهما؛ قال: فبكم هما؟ قالت بكذا وكذا؛ قال: وقد أخذتهما وهما حرتان، أرجعا إليها طحينها، قالتا: أو نفرُغ منه يا أبا بكر ثم نرده إليها؛ قال: وذلك إن شئتما.
ومر بجارية بني مُؤمَّل، حَيٍّ من بني كعب، وكانت مُسلمة، وعمر بن الخطاب يعذبها لتترك الِإسلام، وهو يومئذ مشرك وهو يضربُها، حتى إذا ملَّ قال: إني أعتذر إليكِ، إني لم أتركْك إلا ملالة؛ فتقول: كذلك فعل الله بك. فابتاعها أبو بكر، فأعتقها.
أبو قحافة يلوم أبا بكر: قال ابن إسحاق: وحدثني محمدُ بن عبد المطلب بن أبي عَتِيق، عن عامر بن عبد الله بن الزبير، عن بعض أهله، قال:
قال أبو قحافة لأبي بكر: يا بُنَي، إني أراك تُعْتِق رقابًا ضِعافًا فلو أنك إذا ما فعلتَ أعتقتَ رجالًا جُلْدًا يمنعونك ويقومون دونَك؟ فقال أبو بكر -رضي الله عنه- يا أبتِ، إني

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 حنانا: أي إذا مات أجل قبره متبركًا به.
2 أي تحللي من يمينك.

 

ج / 1 ص -279-     إنما أريد ما أريد لله عز وجل. قال: فيُتَحدث أنه ما نزل هؤلاء الآيات إلا فيه، وفيما قال له أبوه: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} [الليل: 5، 6].. إلى قوله تعالى: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى، إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى، وَلَسَوْفَ يَرْضَى}.
تعذيب آل ياسر: قال ابن إسحاق: وكانت بنو مخزوم يَخرجون بعمار بن ياسر، وبأبيه وأمه، وكانوا أهلَ بيت إسلام، إذا حَمِيت الظهيرة، يعذبونهم برَمْضاء1 مكة، فيمر بهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيقول فيما بلغني:
"صبرًا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة". فأما أمه فقتلوها وهى تأبَى إلا الإسلامَ.
وكان أبو جهل الفاسق الذي يُغْرِي بهم في رجال من قريش، إذا سمع بالرجلِ قد أسلم له شرف ومَنَعة، أنَّبه وأخْزاه وقال: تركتَ دينَ أبيك وهو خيرِّ منك، لنُسَفهنَّ حلمَك، ولنفيّلن2 رأيك، ولنضعنَّ شرفَك؛ وإن كان تاجرًا قال: والله لنُكْسِدَن تجارتَك، ولنُهلكن مالك؛ وإن كان ضعيفًا ضربه وأغرَى به.
فتنة المسلمين: قال ابن إسحاق: وحدثني حكيم بن جُبَير عن سعيد بن جُبَير، قال: قلتُ لعبد الله بن عباس: أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من العذاب ما يُعْذَرون به في ترك دينهم؛ قال: نعم والله، إن كانوا ليُضربون أحدَهم ويجيعونه ويُعَطِّشونه حتى ما يقدر أن يستوي جالسًا من شدة الضر الذي نزل به، حتى يعطيَهم ما سألوه من الفتنة، حتى يقولوا له؛ آللاتُ والعُزَّي إلهك من دون الله؟ فيقول نعم، حتى إن الجُعْلَ ليمر بهم، فيقولون له: أهذا الجُعْلُ إلهك من دون الله؟ فيقول: نعم، افتداء منهم مما يبلغون من جهده.
هشام يرفض تسليم الوليد إلى قريش: قال ابن إسحاق: وحدثني الزبير بن عُكَّاشة بن أبي أحمد أنه حُدِّث أن رجالًا من بني مخزوم مَشَوْا إلى هشام بن الوليد، حين أسلم أخوه الوليد بن الوليد، وكانوا قد أجمعوا على أن يأخذوا فتية منهم كانوا قد أسلموا، منهم: سَلَمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة. قال: فقالوا له وخَشَوْا شرَّهم: إنا قد أردنا أن نعاتب هؤلاء الفتية على هذا الدين الذي أحدثوا، فإنا نأمن بذلك في غيرهم. قال: هذا، فعليكم به، فعاتبوه وإياكم ونفسَه، وأنشأ يقول:

ألا لا يقتلنَّ أخي عُيَيْش                          فيبقى بينَنا أبدًا تلاحِي


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الرمضاء: الرمال شديدة الحرارة.
2 لتفيلن: لنقبحن.

 

ج / 1 ص -280-     احذروا على نفسِه، فأقْسم بالله لئن قتلتموه لأقتلنَّ أشرفَكم رجلًا قال: فقالوا: اللهم العنْه، من يُغَرر بهذا الخبيث، فوالله لو أصيب في أيدينا لقتلَ أشرفَنا رجلا. قال: فتركوه ونزعوا عنه. قال: وكان ذلك مما دفع اللهُ به عنهم.
ذكر الهجرة الأولى إلى أرض الحبشة:
قال ابن إسحاق: فلما رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما يصيب أصحابَه
من البلاء، وما هو فيه من العافية، بمكانه من الله ومن عمه أبي طالب، وأنه لا يقدر أن يمنعَهم مما هم فيه من البلاء، قال لهم: لو خرجتم إلى أرضِ الحبشة فإن بها مَلكًا لا يُظْلَم عنده أحدٌ، وهي أرضُ صدقٍ، حتى يجعلَ اللهُ لكم فرجًا مما أنتم؛ فخرج عند ذلك المسلمون من أصحابِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى أرضِ الحبشة، مخافة الفتنة، وفرارًا إلى الله بدينهم، فكانت أولَ هجرة في الِإسلام.
أوائل المهاجرين إلى الحبشة: وكان أولَ من خرج من المسلمين من بني أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لُؤَي بن غالب بن فهر: عثمانُ بن عفان بن أبي العاص بن أمية، معه امرأته رقية بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
ومن بني عبد شمس بن عبد مناف: أبو حُذَيفة بن عُتبة بن ربيعة بن عبد شمس، معه امرأته: سَهْلة بنت سُهَيْل بن عَمرو، أحد بني عامر بن لُؤَي، وَلَدت له بأرض الحبشة محمدَ بن أبي حُذَيفة. ومن بني أسد بن عبد العُزى بن قصي: الزبير بن العوام بن خُوَيلد بن أسد. ومن بني عبد الدار بن قصي: مُصْعَب بن عُمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار. ومن بني زهرة بن كلاب: عبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف بن عبد بن الحارث بن زُهرة. ومن بني مخزوم بن يقظة بن مرة: أبو سَلَمة بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عُمر بن مخزوم، ومعه امرأته: أم سَلَمة بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عُمر بن مخزوم. ومن بني جمَح بن عمرو بن هُصيْص بن كعب: عثمان بن مظعون بن حبيب بن وَهْب بن حُذافة بن جمَح. ومن بني عدي بن كعب: عامر بن ربيعة، حليف آل الخطاب، من عَنز بن وائل، معه امرأتُه ليلى بنت أبي حَثْمة بن حذافة بن غانم بن عامر بن عبد الله بن عوف بن عبيد بن عُوَيج بن عدي بن كعب. ومن بني

 

ج / 1 ص -281-     عامر بن لؤي: أبو سَبْرة بن أبي رُهْم بن عبد العُزى بن أبي قيْس بن عبد وُد بن نصر بن مالك بن حِسْل بن عامر، ويقال: بل أبو حاطب بن عمرو بن عبد شمس بن عبد وُدّ بن نصر بن مالك بن حِسْل بن عامر ويقال: هو أول من قدمها. ومن بني الحارث بن فهر: سُهَيْل ابن بيضاء، وهو سُهَيْل بن وهب بن ربيعة بن هلال بن أهَيْب بن ضَبَّة بن الحارث، فكان هؤلاء العشرة أول من خرج من المسلمين إلى أرض الحبشة، فيما بلغني.
قال ابن هشام: وكان عليهم عثمانُ بن مظعون، فيما ذكر لي بعض أهل العلم.
قال ابن إسحاق: ثم خرج جعفرُ بن أبي طالب رضي الله عنه، وتتابع المسلمون حتى اجتمعوا بأرض الحبشة، فكانوا بها، منهم من خرج بأهله معه، ومنهم من خرج بنفسه لا أهلَ له معه.
المهاجرون من بني هاشم: ومن بني هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مُرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فِهْر: جعفر بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم، معه امرأتُه أسماء بنت عُمَيْس بن النعمان بن كعب بن مالك بن قحافة بن خَثْعم، ولدت له بأرض الحبشة: عبد الله بن جعفر، رجل.
المهاجرون من بني أمية: ومن بني أمية بن عبد شمس بن عبد مناف: عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، معه امرأته: رقيةُ ابنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعَمرو بن سعيد بن العاص بن أمية، معه امرأته: فاطمة بنت صفوان بن أمية بن مُحَرِّث بن شِق بن رَتَبة بن مُخْدِج الكناني، وأخوه خالد بن سعيد بن العاص بن أمية، معه امرأته أمَيْنة بنت خلف بن أسعد بن عامر بن بياضة بن سبيع بن جُعْثُمة بن سعد بن مُلَيْح بن عمرو، من خزاعة.
قال ابن هشام: ويقال هُمَيْنة بنت خلف.
قال ابن إسحاق: ولدت له بأرض الحبشة سعيد بن خالد، وأمَةَ بنت خالد، فتزوج أمةَ بعد ذلك الزبيرُ بن العوام، فولدت له عمرو بن الزبير، وخالد بن الزبير.
المهاجرون من بني أسد: ومن حلفائهم، من بني أسد بن خُزَيمة: عبد الله بن جَحْش بن رِئاب بن يَعْمر بن صَبْرة بن مرة بن كبير بن غَنْم بن دُودان بن أسد؛ وأخوه عُبَيْد الله بن جَحْش، معه امرأته أم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب بن أمية. وقيس بن عبد الله، رجل من بني أسد بن خُزَيمة، معه امرأته بركة بنت يسار، مولاة أبي سفيان بن حرب بن

 

ج / 1 ص -282-     أمية؛ ومعيقيب بن أبي فاطمة. وهؤلاء آل سعيد بن العاص، سبعة نفر. قال ابن هشام: مُعَيْقيب من دوس.
المهاجرون من بني عبد شمس: قال ابن إسحاق: ومن بني عبد شمس بن عبد مناف أبو حُذيفة بن عُتبة بن ربيعة بن عبد شمس؛ وأبو موسى الأشعري، واسمه عبد الله بن قيس، حليف آل عُتبة بن ربيعة، رجلان.
المهاجرون من بني نَوْفل: ومنِ بني نَوْفل بن عبد مناف: عُتبة بن غَزْوان بن جابر بن وهب بنِ نسيب بن مالك بن الحارث بن مازن بن منصور بن عِكرمة بن خصَفَة، بن قيس بن عَيْلان، حليف لهم، رجل.
المهاجرون من بني أسد: ومن بني أسد بن عبد العُزَّى بن قصي: الزبير بن العوام بن خُوَيْلد بن أسد، والأسْوَد بن نَوْفل بن خُوَيلد بن أسد، ويزيد بن زَمْعة بن الأسْوَد بن المطلب بن أسد. وعُمر بن أمية بن الحارث بن أسد، أربعة نفر.
المهاجرون من بني عبد بن قُصي: ومن بني عبد بن قُصي: طُلَيب بن عُمَيْر بن وهب بن أبي كبير بن عبد بن قصي، رجل.
المهاجرون من بني عبد الدار بن قصي: ومن بني عبد الدار بن قُصي: مُصعَب بن عُمَيْر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار، وسُوَيْبط بن حرملة بن مالك بن عُمَيْلة بن السبَّاق بن عبد الدار، وجَهْم بن قَيْس بن عبد شرحبيل بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار، معه امرأته: أم حَرْملة بنت عبد الأسْود بن جُذيمة بن أقْيش بن عامر بن بَيَاضة بن سُبيع بن جُعْثمة بن سعد بن مُلَيح بن عمرو، من خزاعة؛ وابناه: عَمرو بن جَهْم وخُزيمة بن جَهْم. وأبو الرُّوم بن عُمَير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار؛ وفِراس بن النضْر بن الحارث بن كَلدة بن علقمة بن عبد مناف بن عبد الدار، خمسة نفر.
المهاجرون من بني زهرة: ومن بني زُهرة بن كلاب: عبد الرحمن بن عوف بن عبْد عَوْف بن عبد بن الحارث بن زُهرة وعامر بن أبي وقَّاص وأبو وقَّاص مالك بن أهَيْب بن عبد مناف بن زُهرة والمطَّلب بن أزهر بن عبد عوف بن عبد بن الحارث بن زُهْرة، معه امرأته رملة بنت أبي عوف بن ضُبَيْرة بن سعيد بن سعد بن سهم، وَلدت له بأرض الحبشة: عبد الله بن المطلب.

 

ج / 1 ص -283-     المهاجرون من بني هذيل: ومن حلفائهم من هُذَيل: عبد الله بن مسعود بن الحارث بن شَمْخ بن مخزوم بن صَاهلة بن كاهل بن الحارث بن تميم بن سعد بن هُذَيل: وأخوه: عُتبة بن مسعود.
المهاجرون من بهراء: ومن بهراء: المِقْداد بن عَمرو بن ثعلبة بن مالك بن ربيعة بن ثُمامة بن مطرود بن عَمرو بن سعد بن زُهَير بن لُؤَي بن ثعلبة بن مالك بن الشَّريد بن أبي أهْوز بن أبي فائش بن دُرَيم بن القَيْن بن أهود بن بهراء بن عَمرو بن الحاف بن قضاعة.
قال ابن هشام: ويقال هزل بن فاس بن ذَر، ودَهِير بن ثَوْر.
قال ابن إسحاق: وكان يقال له المقداد بن الأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زُهرة، وذلك أنه تبناه في الجاهلية وحالفه، ستة نفر.
الهاجرون من بني تيم: ومن بني تَيْم بن مرة: الحارث بن خالد بن صخر بن عَامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تَيْم، معه امرأته: رَيْطة بنت الحارث بن جَبَلَة بن عامر بن كعب بن سعد بن تَيْم، ولدت له بأرض الحبشة: موسى بن الحارث وعائشة بنت الحارث، وزينب بنت الحارث وفاطمة بنت الحارث. وعَمرو بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تَيْم، رجلان.
المهاجرون من في مخزوم: ومن بني مخزوم بن يقظة بن مرة: أبو سلمة بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عُمر بن مخزوم، ومعه امرأته. أم سَلَمة بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، ولدت له بأرض الحبشة: زينبَ بنت أبي سلمة، واسم أبي سلمة عبد الله، واسم أم سلمة: هند. وشَمَّاس بن عثمان بن الشَّرِيد بن سُوَيْد بن هَرْمِي بن مخزوم.
خبر الشماس: قال ابن هشام: واسم شَمَّاس: عثمان، وإنما سُمي شماسًا؛ لأن شماسًا من الشمامسة قَدِم مكة في الجاهلية، وكان جميلًا فعجب الناس من جماله، فقال عتبة بن ربيعة، وكان خال شماس: أنا آتيكم بشماس أحسن منه، فجاء بابن أخته عثمان بن عثمان، فسمي شماسًا، فيما ذكر ابن شهاب وغيره.
قال ابن إسحاق: وهَبَّار بن سفيان بن عبد الأسَد بن هلال بن عبد الله بن عُمر بن مخزوم، وأخوه عبد الله بن سفيان: وهشام بن أبي حذيفة بن المغيرة بن عبد الله بن مخزوم،. وسلمة بن

 

ج / 1 ص -284-     هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عُمر بن مخزوم؛ وعَيَّاش بن أبي ربيعة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم.
المهاجرون من حلفاء بني مخزوم؛ ومن حلفائهم، مُعَتِّب بن عَوْف بن عامر بن الفضل بن عفيف بن كُلَيب بن حَبشية بن سلول بن كعب بن عمرو، من خزاعة، وهو الذي يقال له: عَيْهامة، ثمانية نفر.
قال ابن هشام: ويقال حُبْشية بن سلول، وهو الذي يقال له معتِّب ابن حمراء.
المهاجرون من بني جُمح: ومن بني جُمح بن عَمرو بن هُصَيْص بن كعب: عثمان بن مظعون بن حبيب بن وهب بن حُذافة بن جُمَح وابنه السائب بن عثمان: وأخواه قُدامة بن مظعون، وعبد الله بن مظعون؛ وحاطب بن الحارث بن مَعْمَر بن حبيب بن وهب بن حُذافة بن جُمَح، معه امرأته: فاطمةُ بنت المجلَّل بن عبد الله بن أبي قيس بن عبد وُدّ بن نصر بن مالك بن حِسْل بن عامر: وابناه: محمد بن حاطب، والحارث بن حاطب، وهما لبنت المجلَّل؛ وأخوه حطاب بن الحارث، معه امرأته فُكَيهة بنت يسار؛ وسفيان بن معمر بن حبيب بن وهب بن حُذافة بن جُمَح، معه ابناه جابر بن سفيان، وجُنادة بن سفيان، ومعه امرأته حَسنة، وهى أمهما، وأخوهما من أمهما شَرَحْبيل بن حسنة، أحد الغوث.
قال ابن هشام: شرحبيل بن عبد الله أحد الغَوث بن مُرّ، أخي تميم بن مر.
قال ابن إسحاق: وعثمان بن ربيعة بن أهبان بن وهب بن حُذافة بن جُمَح، أحد عشر رجلا.
المهاجرون من بني سهم: ومن بني سَهْم بن عمرو بن هُصَيْص بن كعب، خنَيْس بن حذافة بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم؛ وعبد الله بن الحارث بن قَيْس بن عَدِي بن سعد بن سهل، وهشام بن العاص بن وائل بن سعد بن سهم.
قال ابن هشام: العاص بن وائل بن هاشم بن سعد بن سهم.
قال ابن إسحاق: وقَيْس بن حُذافة بن قَيْس بن عَدِي بن سعد بن سهم، وأبو قيس بن الحارث بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم، وعبد الله بن حُذافة بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم، والحارث بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم، ومَعْمَر بن الحارث بن قَيْس بن عدي

 

ج / 1 ص -285-     ابن سعد بن سهم؛ وبِشر بن الحارث بن قَيْس بن عَدِي بن سعد بن سهم، وأخ له من أمه من بني تميم، يقال له: سعيد بن عمرو، وسعيد بن الحارث بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم؛ والسَّائب بن الحارث بن قَيْس بن عدي بن سعد بن سهم. وعُمَيْر بن رِئاب بن حُذيفة بن مُهَشم بن سعد بن سهم. ومَحْمِية بن جَزْء، حليف لهم، من بني زبيد، أربعة عشر رجلا.
المهاجرون من بني عدي: ومن بني عدي بن كعب: مَعْمر بن عبد الله بن نَضْلَة بن عبد العُزَّى بن حُرْثان بن عَوْف بن عُبَيد بن عُوَيْج بن عدي وعُروة بن عبد العُزَّى بن حُرْثان بن عوف بن عُبَيد بن عُوَيج بن عَدِيّ، وعدي بن نَضْلَة بن عبد العُزى بن حُرْثان بن عَوْف بن عُبَيد بن عُوَيج بن عدي، وابنه النعمان بن عَدِيِّ، وعامر بن ربيعة، حليف لآل الخطاب، من عنز بن وائل، معه امرأته ليلى بنت أبي حَثْمَة بن غانم. خمسة نفر.
المهاجرون من بني عامر: ومن بني عامر بن لؤي: أبو سَبْرة بن أبي رُهْم بن عبد العزى بن أبي قيس بن عبد وُد بن نصر بن مالك بن حِسْل بن عامر، معه امرأته: أم كلثوم بنت سهيل بن عمرو بن عبد شمس بن عبد وُد بن نصر بن مالك بن حِسْل بن عامر، وعبد الله بن مَخْرَمة بن عبد العُزى بن أبي قيس بن عبد وُد بن نصر بن مالك بن حِسْل بن عامر، وعبد الله بن سُهَيل بن عَمرو بن عبد شمس بن عبد وُد بن مالك بن حِسْل بن عامر، وسَلِيط بن عَمرو بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حِسْل بن عامر، وأخوه السكران بن عمرو، معه: امرأته سَوْدَة بنت زَمْعَة بن قَيْس بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حِسْل بن عامر، ومالك بن زَمْعَة بن قَيْس بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حِسْل بن عامر، معه: امرأته عمرة بنت السَّعْدي بن وَقْدان بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حِسْل بن عامر، وحاطب بن عَمرو بن عبد شمسِ بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حِسْل بن عامر، وسعد بن خولة، حليف لهم، ثمانية نفر.
قال ابن هشام: سعد بن خَولة من اليمن.
المهاجرون من بني الحارث: قال ابن إسحاق: ومن بني الحارث بن فِهْر: أبو عُبَيْدة بن الجراح، وهو عامر بن عبد الله بن الجراح بن هلال بن أهَيْب بن ضَبَّة بن الحارث بن فِهر، وسُهَيل ابن بيضاء، وهو سهيل بن وهب بن ربيعة بن هلال بن أهَيْب بن ضَبَّة بن الحارث، ولكن أمه غلبت على نسبه، فهو ينسب إليها، وهى دعد بنت جحدم بن أمية من ظرب بن الحارث بن فِهْر، وكانت تدعى بيضاء، وعمرو بن أبي سَرْح بن ربيعة بن

 

ج / 1 ص -286-     هلال بن أهَيب بن ضَبَّة بن الحارث، وعياض بن زهير بن أبي شداد بن ربيعة بن هلال بن أهيب بن ضبة بن الحارث، ويقال: بل ربيعة بن هلال بن مالك بن ضبة، وعمرو بن الحارث بن زهير بن أبي شداد بن ربيعة بن مالك بن ضَبة بن الحارث، وعثمان بن عبد غنْم بن زهير بن أبي شداد بن ربيعة بن هلال بن مالك بن ضَبة بن الحارث، وسعد بن عبد قيس بن لَقيط بن عامر بن أميهّ بن ظَرَب بن الحارث، والحارث بن عبد قَيْس بن لَقيط بن عامر بن أمية بن ظَرَب بن الحارث بن فهر. ثمانية نفر.
عدد مهاجري الحبشة: فكان جميع من لحق بأرض الحبشة، وهاجر إليها من المسلمين، سوى أبنائهم الذين خرجوا بهم معهم صغارًا وولدوا بها، ثلاثة وثمانين رجلًا، إن كان عمار بن ياسر فيهم، وهو يُشَك فيه.
شعر عبد الله بن الحارث في هجرة الحبشة: وكان مما قيل من الشعر في الحبشة أن عبد الله بن الحارث بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم، حين أمنوا بأرض الحبشة، وحمدوا جوار النجاشي وعبدوا الله لا يخافون على ذلك أحدًا، وقد أحسن النجاشيُّ جوارَهم حين نزلوا به قال:

يا راكبًا بَلِّغَنْ عني مُغَلْغَلة                        من كان يرجو بلاغَ اللهِ والدينِ1

كلًّ امرئٍ من عبادِ الله مضطهد                   ببطن مكةَ مقهورٍ ومفتونِ

أنا وجدنا بلادَ الله واسعةً                           تُنجي من الذلِّ والمَخْزاةِ والهونِ

فلا تقيموا على ذلِّ الحياةِ وخِز                   يٍ في المماتِ وعيبٍ غيرِ مأمونِ

إنا تبعنا رسولَ الله واطَّرحوا قولَ                  النبيِّ وعالوا في الموازينِ2

فاجعل عذابَك في القومِ الذين بَغَوْا              وعائذًا بك أن يغلوا فيطغوني

وقال عبد الله بن الحارث أيضًا، يذكر نفي قريش إياهم من بلادهم، ويعاتب بعض قومه في ذلك:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المغلغلة: الرسالة.
2 عالوا: خانوا.

 

ج / 1 ص -287-                                    أبتْ كَبِدي، لا أكْذِبَنْكَ، قتالَهم   عليَّ وتأباه علىَّ أناملى

وكيف قتالي معَشرًا أدَّبوكمُ                    على الحق أن لا تأشِبوه بباطلِ1

نفتهمْ عبادُ الجنِّ من حُرِّ أرضِهم              فأضْحَوْا على أمر شديدِ البلابلِ2

فإن تكُ كانت في عَدِي أمانةٌ                  عديّ بن سعد عن تُقًى أو تواصلِ

فقد كنت أرجو أن ذلك فيكمُ                   بحمدِ الذي لا يُطَّبِي بالجعائل3

وبُدِّلت شِبلًا شبْلَ كل خبيئةٍ                  بذي فَجَر مأوَى الضِّعافِ الأراملِ4

                                                      

وقال عبد الله بن الحارث أيضًا:

وتلك قريشٌ تجحَدُ اللهَ حقَّه                  كما جحدت عاد ومدينُ والحِجْرُ

فإن أنا لم أبرِقْ فلا يَسَعَنَّني                من الأرضِ برٌّ ذو فضاءٍ ولا بحرُ

بأرضٍ بها عَبد الِإلهَ محمدٌ                    أبيِّنُ ما في النفسِ إذ بلغ النَّقْرُ5

فسمي عبد الله بن الحارث -يرحمه الله- لبيته الذي قال: "المُبْرِق".
وقال عثمان بن مظعون يعاتب أمية بن خلف بن وهب بن حُذافة بن جُمَح، وهو ابن عمه وكان يؤذيه في إسلامه، وكان أمية شريفًا في قومه في زمان ذلك:

أتَيْمَ بنَ عمرو للذي جاء بغضُه              ومن دونه الشَّرمان والبرك أكتع6

أأخرجتني من بطنِ مكةَ آمنًا                وأسكنتني في صرحِ بيضاء ِتقذع7


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تأشبوه: تخلطوه.
2 البلابل: وساوس الأحزان.
3 لا يطبى بالجعائل: لا يستمال بالرشوة.
4 الفجر: العطاء.
5 النقر: البحث.
6 الشرمان: تثنية شرم وهو لجة البحر، والبرك: الإبل الباركة.
7 صرح بيضاء: مدينة الحبشة. وتقذع: تكره.

ج / 1 ص -288-                                تَريشُ نبالًا لا يواتيك ريشُها          وتَبْري نبالًا ريشُها لكَ أجمعُ

وحاربتَ أقوامًا كرامًا أعزَّةً                    أهلكتَ أقوامًا بهم كنتَ تَفْزعُ

ستعلم إن نابتْك يومًا مُلِمةٌ                وأسلمك الأوباشُ ما كنتَ تصنعُ1

وتَيْم بن عمرو، الذي يدعو عثمان، جمحُ، كان اسمه تَيْمًا.
إرسال قريش إلى الحبشة في طلب المهاجرين إليها:
قال ابن إسحاق: فلما رأت قريش أن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أمنوا واطمأنوا بأرض الحبشة، وأنهم قد أصابوا بها دارًا ومرارًا، ائتمروا بينَهم أن يبعثوا فيهم منهم رجلين من قريش جَلْدَين إلى النجاشي، فيردهم عليهم، ليفتنوهم في دينهم، ويخرجوهم من دارِهم، التي اطمأنوا بها وأمنوا فيها؛ فبعثوا عبد الله بن أبي ربيعة، وعَمرو بن العاص بن وائل، وجمعوا لهما هدايا للنجاشي ولبطارقته2، ثم بعثوهما إليه فيهم.
شعر أبي طالب للنجاشي: فقال أبو طالب، حين رأى ذلك من رأيهم وما بعثوهما فيه، أبياتًا للنجاشي يحضه على حسنِ جوارِهم والدفع عنهم:

ليتَ شِعْري كيفَ في النأيِ جعفرٌ              وعمرو وأعداءُ العدو الأقاربُ3

وهل نالت أفعالُ النجاشيِّ جعفرًا              وأصحابَه أو عاق ذلك شاعبُ

تعلَّم أبيتَ اللعنَ، أنك ماجدٌ                      كريم فلا يَشْقَى لديك المُجانِبُ4

تعلَّم بأن الله زادك بَسْطةً                        وأسبابَ خير كلُّها بك لاَزِبُ5

وأنك فيْض ذو سِجالٍ غزيرةٍ                       ينال الأعادي نفعَها والأقاربُ


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الأوباش: الضعفاء.
2 قواده.
3 النأي: البعد.
4 المجانب: الداخل في الحمى.
5 لازب: لاصق.

ج / 1 ص -289-     حديث أم سلمة عن الرسولين اللذين أرسلتهما قريش للنجاشي: قال ابن إسحاق: حدثني محمد بن مسلم الزهريّ عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي، عن أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة زوج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالت: لما نزلنا أرض الحبشة، جاورنا بها خيرَ جار: النجاشيّ، أمِنَّا على ديننا، وعبدنا اللهَ تعالى لا نُؤْذَى ولا نسمعُ شيئًا نكرهه فلما بلغ ذلك قريشًا، ائتمروا بينهم أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين منهم جَلْدَينِ؛ وأن يهدوا للنجاشي هدايا مما يستظرِف من متاعِ مكة، وكان من أعجب ما يأتيه منها الأدَم1، فجمعوا له أدَمًا كثيرًا، ولم يتركوا من بطارقته بطريقًا إلا أهدوا له هدية، ثم بعثوا بذلك عبد الله بن أبي ربيعة، وعمرو بن العاص، وأمروهما بأمرهم، وقالوا لهما: ادفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلما النجاشي فيهم، ثم قدما إلى النجاشي هداياه، ثم سلاه أن يسلمهم إليكما قبل أن يكلمهم. قالت: فخرجا حتى قدما على النجاشي، ونحن عندَه بخير دار، عند خيرِ جارٍ، فلم يبقَ من بطارقته بطريقٌ إلا دفعا إليه هديته قبل أن يكلما النجاشي، وقالا لكل بطريق منهم: إنه قد ضوَى2 إلى بلد الملك منا غلمان سُفهاء، فارقوا دينَ قومهم، ولم يدخلوا في دينكم، وجاءوا بدين مبتدَع، لا نعرفه نحن ولا أنتم وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم ليردهم إليهم، فإذا كلمنا الملك، فأشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا ولا يكلمهم، فإن قومهم أعلَى بهم عينًا3، وأعلم بما عابوا عليهم؛ فقالوا لهما: نعم. ثم إنهما قدما هداياهما إلى النجاشي فقبلها منهما، ثم كلماه فقالا له: أيها الملك، إنه قد ضوى إلى بلدك منا غلمان سفهاء، فارقوا دينَ قومهم، ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدين ابتدعوه، لا نعرفه نحنُ ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم لتردَّهم إليهم، فهم أعلى بهم عينًا، وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه. قالت: ولم يكن شيء أبغض إلى عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص من أن يسمع كلامَهم النجاشيُّ. قالت: فقالت بطارقته حوله: صَدَقا أيها الملك قومهم أعلى بهم عينًا وأعلم بما عابوا عليهم فأسلمْهم إليهما. فليردَّاهم إلى بلادهم وقومهم. قالت: فغضب النجاشي، ثم قال: لاهَا الله، إذن لا أسلمهم إليهما، ولا يكاد قوم جاوروني، ونزلوا بلادي، واختاروني على من سواي، حتى أدعوهم فأسألهم عما يقول هذان في أمرهم،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الأدم: الجلود.
2 ضوى: لجأ.
3 أي أبصر بهم من غيرهم.

 

ج / 1 ص -290-     فإن كانوا كما يقولان أسلمتهم إليهما، ورددتهم إلى قومِهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما، وأحسنت جوارَهم ما جاوروني.
الحوار الذي دار بين المهاجرين والنجاشي: قالت: ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فدعاهم، فلما جاءهم رسوله اجتمعوا، قال بعضُهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه؛ قالوا: نقول والله ما علمنا، وما أمرنا به نبينا -صلى الله عليه وسلم- كائنًا في ذلك ما هو كائن. فلما جاءوا، وقد دعا النجاشي أساقفته، فنشروا مصاحفهم حوله سألهم فقال لهم: ما هذا الدين الذي قد فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا في ديني، ولا في دين أحد من هذه المِلل؟ قالت: فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب، فقال له: أيها الملك، كنا قومًا أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكلُ الميتةَ، ونأتي الفواحشَ، ونقطع الأرحام. ونسيء الجوار ويأكل القويُّ منا الضعيف، فكنا على ذلك، حتى بعث الله إلينا رسولًا منا، نعرف نسبَه وصدقَه وأمانته وعفافَه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من الحجارةِ والأوثانِ وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلةِ الرَّحمِ وحسنِ الجوار، والكفِّ عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده، لا نشرك به شيئًا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام –قالت: فعدد عليه أمور الِإسلام– فصدقناه وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به من الله، فعبدنا اللهَ وحدَه، فلم نشرك به شيئًا، وحرَّمنا ما حرَّم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومُنا، فعذبونا، وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى، وأن نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك؛ ورغبنا في جوارِك، ورجونا أن لا نُظلَم عندك أيها الملك. قالت: فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ قالت: فقال له جعفر: نعم؛ فقال له النجاشي: فاقرأه عليَّ؛ قالت: فقرأ عليه صدرًا من: "كهيعص" قالت: فبكى والله النجاشي حتى اخضلت لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفَهم، حين سمعوا ما تلا عليهم. ثم قال النجاشي: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مِشكاةٍ واحدة، انطلِقَا، فلا والله لا أسلمهم إليكما، ولا يُكَادون.
رأي المهاجرين في عيسى أمام النجاشيٍ: قالت: فلما خرجا من عنده، قال عمرو بن العاص: والله لآتينه غدا عنهم بما استأصل به خَضرَاءَهم. قالت: فقال له عبد الله بن أبي ربيعة وكان أتقى الرجلين فينا: لا تفعل فإن لهم أرحامًا، وإن كانوا قد خالفونا؛ قال: والله لأخبرنَّه

 

ج / 1 ص -291-     أنهم يزعمون أن عيسى ابن مريم عَبْدٌ. قالت: ثم غدا عليه من الغد فقال: أيها الملك، إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولًا عظيمًا، فأرسِلْ إليهم فسلْهم عما يقولون فيه. قالت: فأرسل إليهم ليسألهم عنه. قالت: ولم ينزل بنا مثلها قطُّ. فاجتمع القوم، ثم قال بعضهم لبعض: ماذا تقولون في عيسى ابن مريم إذا سألكم عنه؟ قالوا: نقول والله ما قال الله، وما جاءنا به نبينا كائنًا في ذلك ما هو كائن. قالت: فلما دخلوا عليه، قال لهم: ماذا تقولون في عيسى ابن مريم؟ قالت: فقال جعفر بن أبي طالب: نقول فيه الذي جاءنا به نبيُّنا -صلى الله عليه وسلم: هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول قالت: فضرب النجاشي بيده إلى الأرض فأخذ منها عُودًا، ثم قال: والله ما عدا عيسى ابن مريم ما قلتَ هذا العودَ. قالت: فتناخرت بطارقته حوله حين قال ما قال؛ فقال: وإن نخرتم والله، اذهبوا فأنتم شيوم بأرضي –والشيوم1: الآمنون– من سبَّكم غَرِم، ثم قال: من سبكم غَرِم، ثم قال: من سبكم غَرِم. ما أحبُّ أن لي دَبرًا من ذهب، وأني آذيت رجلًا منكم. قال ابن هشام: ويقال دبري من ذهب، ويقال: فأنتم سيوم -والدبر بلسان الحبشة: الجبل- ردوا عليهما هداياهما، فلا حاجة لي بها، فوالله ما أخذ الله من الرِّشْوَة حين ردَّ عليَّ ملكَي، فآخذ الرِّشوة فيه، وما أطاع الناس في فأطيعهم فيه. قالت: فخرجا من عنده مَقْبوحَيْن مردودًا عليهما ما جاءا به، وأقمنا عنده بخير دار، مع خير جار.
المهاجرون يفرحون بانتصار النجاشي: قالت: فوالله إنا لعلى ذلك، إذا نزل به رجل من الحبشة ينازعه في ملكه. قالت: فوالله ما علمتُنا حَزِنَّا حزنًا قطًّ كان أشدَّ علينا من حزن حزناه عند ذلك، تخوّفًا أن يظهر ذلك الرجل على النجاشي، فيأتى رجل لا يعرف من حقِّنا ما كان النجاشيُّ يعرف منه. قالت: وسار إليه النجاشيّ، وبينهما عَرضُ النيل، قالت: فقال أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم: مَنْ رجل يخرج حتى يحضرَ وقيعةَ القوم ثم يأتينا بالخبر؟ قالت. فقال الزبير بن العوام. أنا. قالوا: فأنت. وكان من أحدث القوم سِنًّا. قالت: فنفخوا له قربةً فجعلها في صدره، ثم سبح عليها حتى خرج إلى ناحية النيل التي بها ملتقَى القوم، ثم انطلق حتى حضرهم. قالت: فدعونا اللهَ تعالى للنجاشيّ بالظهور على عدوِّه، والتمكين له في

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يقول السهيلي في الروض الأنف: يحتمل أن تكون لفظة حبشية غير مشتقة أو تكون مشتقة من شمت السيف إذا أغمدته؛ لأن الآمن مغمد عنه السيف ج2 ص92.

 

ج / 1 ص -292-     بلاده. قالت: فوالله إنا لعلَى ذلك متوقعون لما هو كائن، إذ طلع الزبيرُ وهو يسعَى، فلمع بثوبه وهو يقول: ألا أبشروا، فقد ظفر النجاشيُّ، وأهلك اللهُ عدوَّه، ومكَّن له في بلاده. قالت: فوالله ما علمتنا فَرِحنا فرحةً قط مثلَها قالت: ورجع النجاشيُّ، وقد أهلك الله عدوَّه، ومكن له في بلاده، واستوثق عليه أمرُ الحبشة فكنا عنده في خير مَنْزِل، حتى قَدِمنا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو بمكة.
قصة تملك النجاشي على الحبشة:
قتل أبي النجاشي وتملك عمه: قال ابن إسحاق: قال الزهري. فحدثت عروة بن الزبير حديث أبي بكر بن عبد الرحمن، عن أم سلمة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: هل تدري ما قوله: ما أخذ الله مني الرِّشْوَة حين رد عليَّ ملكي، فأخذ الرِّشوة فيه، وما أطاع الناس فيَّ فأطيع الناس فيه؟ قال: قلت: لا، قال: فإن عائشة أمّ المؤمنين حدثتني أن أباه كان ملك قومه، ولم يكن له ولد إلا النجاشي، وكان للنجاشي عم، له من صلبه اثنا عشر رجلًا، وكانوا أهل بيت مملكة الحبشة، فقالت الحبشةُ بينها: لو أنا قتلنا أبا النجاشي وملكنا أخاه فإنه لا ولد له غير هذا الغلام، وإن لأخيه من صلبه اثني عشر رجلًا، فتوارثوا ملكَه من بعده، بقيت الحبشةُ بعدَه دهرًا، فَغَدَوْا على أبي النجاشي فقتلوه، وملَّكوا أخاه، فمكثوا على ذلك حينًا.
الحبشة تبيع النجاشي: ونشأ النجاشي مع عمه، وكان لبيبًا حازمًا من الرجال، فغلب على أمر عمه، ونزل منه بكل منزِلة، فلما رأت الحبشةُ مكانَه منه قالت بينها: والله لقد غلب هذا الفتى على أمر عمه، وإنا لنتخوف أن يملِّكه علينا، وإن ملَّكه علينا ليقتلنا أجمعين، لقد عرف أنا نحن قتلنا أباه. فمشَوْا إلى عمه فقالوا: إما أن تقتل هذا الفتى، وإما أن تخرجه من بين أظهرنا، فإنا قد خِفناه على أنفسنا؛ قال: ويلكم! قتلت أباه بالأمس، وأقتله اليوم! بل أخرجه من بلادكم. قالت: فخرجوا به إلى السوق، فباعوه من رجل من التجار بست مائة درهم؛ فقذفه في سفينة فانطلق به، حتى إذا كان العشيّ من ذلك اليوم، هاجت سحابةٌ من سحائبِ الخريف فخرج عمه يستمطر تحتها، فأصابته صاعقة فقتلته. قالت: ففزعت الحبشة إلى ولده، فإذا هو مُحمَّق، ليس في ولده خير، فمرج على الحبشة أمرُهم1.
تولية النجاشي الملك: فلما ضاق عليهم ما هم فيه من ذلك، قال بعضهم لبعض: تَعلَّموا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مرج الأمر: اختلط.

 

ج / 1 ص -293-     والله أن مَلِكَكم الذي لا يقيم أمرَكم غيرُه للذي بعتم غَدوةً، فإن كان لكم بأمر الحبشة حاجة فأدركوه الآن قالت: فخرجوا في طلبه، وطلب الرجل الذي باعوه منه حتى أدركوه، فأخذوه منه؛ ثم جاءوا به فعقدوا عليه التاج، وأقعدوه على سرير الملك، فملَّكوه.
حديث التاجر الذي اشتراه: فجاءهم التاجر الذي كانوا باعوه منه، فقال: إما أن تعطوني مالي، وإما أن أكلمه في ذلك؟ قالوا: لا نعطيك شيئًا، قال: إذن والله أكلمه؛ قالوا: فدونَك وإياه. قالت: فجاءه فجلس بين يديه، فقال: أيها الملك، ابتعتُ غلامًا من قوم بالسوق بست مائة درهم، فأسلموا إليَّ غلامي وأخذوا دراهمي، حتى إذا سرت بغلامي أدركوني، فأخذوا غلامي، ومنعوني دراهمي. قالت: فقال لهم النجاشي: لتُعْطُنَّه دراهمه، أو ليضعن غلامُه يدَه في يده، فليذهبن به حيث شاء؛ قالوا: بل نعطيه دراهمه قالت: فلذلك يقول: ما أخذ الله مني رِشوة حين ردَّ عليّ ملكي، فآخذ الرِّشوةَ فيه، وما أطاع الناس فيَّ فأطيع الناس فيه. قالت: وكان ذلك أول ما خُبر من صلابته في دينه، وعدله في حكمه.
قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير، عن عائشة، قالت: لما مات النجاشي، كان يتحدث أنه لا يزال يُرَى على قبره نور.
إسلام النجاشي والصلاة عليه وخروج الحبشة عليه:
قال ابن إسحاق: وحدثني جعفر بن محمد، عن أبيه، قال: اجتمعت الحبشةُ فقالوا للنجاشي: إنك قد فارقت دينَنا، وخرجوا عليه. فأرسل إلى جعفر وأصحابه، فهيأ لهم سُفنًا، وقال: اركبوا فيها وكونوا كما أنتم، فإذا هُزمت فامضوا حتى تلحقوا بحيث شئتم، وإن ظفرت فاثبتوا ثم عمد إلى كتاب فكتب فيه: هو يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، ويشهد أن عيسى ابن مريم عبدُه ورسولُه وروحُه، وكلمته ألقاها إلى مريم؛ ثم جعله في قبائه عند المنكب الأيمن، وخرج إلى الحبشة، وصفّوا له؛ فقال: يا معشر الحبشة، ألست أحقَّ الناس بكم؟ قالوا. بلى؛ قال: فكيف رأيتم سيرتي فيكم؟ قالوا. خير سيرة؛ قال: فما لكم؟ قالوا: فارقت دينَنا، وزعمت أن عيسى عبدٌ؛ قال: فما تقولون أنتم في عيسى؟ قالوا: نقول هو ابن الله؛ فقال النجاشي، ووضع يده على صدره على قبائه: هو يشهد أن عيسى ابن مريم، لم يزد على هذا شيئًا، وإنما يعني ما كتب، فرضوا وانصرفوا1. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم؛

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وفيه من الفقه أنه لا ينبغي للمؤمن أن يكذب كذبًا صراحًا، ولا أن يعطى بلسانه الكفر وإن أكره، ما أمكنته الحيلة، وفي المعاريض مندوحة عن الكذب.

 

ج / 1 ص -294-     فلما مات النجاشي صلى عليه، واستغفر له1.
إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
قال ابن إسحاق: ولما قَدم عمرو بنُ العاص وعبد الله بن أبي ربيعة على قريش، ولم يدركوا ما طلبوا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورَدَّهما النجاشي بما يكرهون، وأسلم عُمر بن الخطاب، وكان رجلًا ذا شكيمة لا يُرام ما وراء ظهره، امتنع به أصحابُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبحمزة حتى عازُّوا2 قريشًا، وكان عبد الله بن مسعود يقول: ما كنا نقدر على أن نصليَ عند الكعبة، حتى أسلم عمرُ، فلما أسلم قاتل قريشًا حتى صلى عند الكعبة، وصلينا معه، وإن كان إسلام عمر بعد خروج من خرج من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الحبشة.
قال البكائي: قال: حدثني مِسْعر بن كِدَام، عن سعد بن إبراهيم، قال: قال عبد الله بن مسعود: إن إسلام عمر كان فتحًا، وإن هجرته كانت نصرًا، وإن إمارته كانت رحمة، ولقد كنا ما نُصلي عند الكعبة حتى أسلم عمرُ، فلما أسلم قاتل قريشًا حتى صلى عند الكعبة، وصلينا معه.
حديث أم عبد الله بنت أبي حَثمَة عن إسلام عمر: قال ابن إسحاق: حدثني عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة، عن عبد العزيز بن عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن أمِّه أم عبد الله بنت أبي حَثْمَة، قالت:
والله إنا لنترحل إلى أرضِ الحبشة، وقد ذهب عامر في بعض حاجاتنا، إذ أقبل عمر بن الخطاب حتى وقف عليَّ وهو على شركه -قالت: وكنا نلقى منه البلاء أذًى لنا وشدةً علينا- قالت: فقال: إنه للانطلاق يا أم عبد الله، قالت: فقلت: نعم والله، لنخرجن في أرض الله،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وكان موت النجاشي في رجب من سنة تسع، ونعاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الناس في اليوم الذي مات فيه، وصلى عليه بالبقيع، رُفع إليه سريره بأرض الحبشة حتى رآه، وهو بالمدينة فصلى عليه.
2 عازوا: غلبوا.

 

ج / 1 ص -295-     آذيتمونا وقهرتمونا، حتى يجعل الله مخرجًا. قالت: فقال: صحبكم الله، ورأيت له رقةً لم أكن أراها، ثم انصرف وقد أحزنه -فيما أرى- خروجُنا. قالت: فجاء عامر بحاجته تلك، فقلت له: يا أبا عبد الله، لو رأيتَ عُمر آنفًا ورقته وحزنَه علينا. قال: أطمعتِ في إسلامه؟
قالت: قلت: نعم؛ قال: فلا يسلم الذي رأيت حتى يسلم حمار الخطاب، قالت: يأسًا منه، لما كان يرى من غلظته وقسوته عن الِإسلام.
سبب إسلام عمر: قال ابن إسحاق: وكان إسلام عمر فيما بلغني أن أخته فاطمة بنت الخطاب وكانت عند سعيد بن زَيْد بن عَمرو بن نُفَيل، وكانت قد أسلمت وأسلم بَعْلُها سعيد بن زيد، وهما مستخفيان بإسلامهما من عمر، وكان نُعَيم بن عبد الله النحام من مكة، رجل من قومه، من بني عَدِي بن كعب قد أسلم، وكان أيضًا يستخفي بإسلامه فَرَقا من قومه، وكان خَبَّابُ بن الأرَت1 يختلف إلى فاطمة بنت الخطاب يُقرئها القرآن، فخرج عمر يومًا متوشحًا سيفه يريد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورهطًا من أصحابه قد ذُكروا له أنهم قد اجتمعوا في بيت عند الصفا، وهم قريب من أربعين ما بين رجال ونساء، ومع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عمه حمزة بن عبد المطلب، وأبو بكر بن أبي قحافة الصديق، وعلى بن أبي طالب، في رجال من المسلمين -رضي الله عنهم- ممن كان أقام من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمكة، ولم يخرج فيمن خرج إلى أرض الحبشة. فلقيه نُعَيم بن عبد الله، فقال له: أين تريد يا عمر؟ فقال: أريد محمدًا هذا الصابئ، والذي فرّق أمرَ قريش، وسفه أحلامها، وعاب دينها، وسب آلهتها، فأقتله؛ فقال له نعيم: والله لقد غرتك نفسك من نفسك يا عمر، أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمدًا! أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرَهم؟ قال: وأي أهل بيتى؟ قال: خَتْنك وابن عمك سعيد بن زيد بن عَمرو، وأختك فاطمة بنت الخطاب: فقد والله أسلما، وتابعا محمدًا على دينه، فعليك بهما. قال: فرجع عمر عامدًا إلى أخته وختنه، وعندهما خبابُ بن الأرَتِّ معه صحيفة، فيها: "طه" يُقرئهما إياها، فلما سمعوا حس عمر، تغيب خَبَّاب

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وكان خباب تميمًا بالنسب، كما كان خزاعيًّا بالولاء لأم أنمار بنت سباع الخزاعي، وكان قد وقع عليه سباء، فاشترته وأعتقته، فولاؤه لها. وكان أبوها حليفًا لعوف بن عبد عوف بن الحارث بن زهرة، فهو زهرى بالحلف. وهو ابن الأرت بن جندلة بن سعد بن خزيمة بن كعب بن زيد بن مناة بن تميم، كان قينًا يعمل السيوف في الجاهلية. انظر: "الروض الأنف، بتحقيقنا، ج2 ص98".

 

ج / 1 ص -296-     في مخدع لهم، أو في بعض البيت، وأخذت فاطمة بنت الخطاب الصحيفة فجعلتها تحت فَخِذِها، وقد سمع عمر حين دنا إلى البيت قراءة خَبَّاب عليهما، فلما دخل قال: ما هذه الهَيْنَمَة1 التي سمعت؟ قالا له: ما سمعتَ شيئًا، قال: بلى والله لقد أخبرت أنكما تابعتما محمدًا على دينه، وبطش بِخَتْنه سعيد بن زيد، فقامت إليه أخته فاطمة بنت الخطاب لتكفه عن زوجِها، فضربها فشجها، فلما فعل ذلك قالت له أخته وخَتْنه: نعم قد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله، فاصنع ما بدا لك. فلما رأى عمر ما بأخته من الدم ندم على ما صنع، فارعوى، وقال لأخته: أعطيني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرءون آنفًا أنظر ما هذا الذي جاء به محمد، وكان عمر كاتبًا، فلما قال ذلك، قالت له أخته: إنا نخشاك عليها، قال: لا تخافي، وحلف لها بآلهته ليردَّنَّها إذا قرأها إليها، فلما قال ذلك، طمعت في إسلامه، فقالت له: يا أخي، إنك نجس، على شركك، وإنه لا يمسها إلا الطاهرُ2، فقام عمر فاغتسل، فأعطته الصحيفةَ، وفيها: "طه" فقرأها، فلما قرأ منها صدرًا، قال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه! فلما سمع ذلك خباب خرج إليه، فقال له: يا عمر، والله إني لأرجو أن يكون الله قد خصَّك بدعوةِ نبيه، فإني سمعته أمس وهو يقول: "اللهم أيد الِإسلام بأبي الحكم بن هشام، أو بعمر بن الخطاب"، فالله الله يا عمر. فقال له عند ذلك عمر: فدلني يا خبَّاب على محمد حتى آتيَه فأسلم، فقال له خَبَّاب: هو في بيت عند الصفا، معه فيه نفر من أصحابه. فأخذ عمر سيفه فتوشحه، ثم عمد إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، فضرب عليهم الباب، فلما سمعوا صوته قام رجل من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنظر من خَلَلِ الباب فرآه متوشِّحًا السيف، فرجع إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو فَزِعٌ، فقال: يا رسول الله، هذا عمر بن الخطاب متوشِّحًا السيف، فقال حمزة بن عبد المطلب: فأذنْ له، فإن كان جاء يريد خيرًا بذلناه له، وإن كان يريد شرًا قتلناه بسيفه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: ائذنْ له، فأذن له الرجل،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الهينمة: كلام لا يفهم، واسم الفاعل منه مهينم، كأنه تصغير، وليس بتصغير.
2 قال السهيلي عند الكلام على تطهير عمر ليمس القرآن، وقول أخته له:
{لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79]: والمطهرون في هذه الآية هم الملائكة، وهو قول مالك في الموطأ، واحتج بالآية الأخرى التي في سورة عبس ولكنهم وإن كانوا الملائكة، ففي وصفهم بالطهارة مقرونًا بذكر المس ما يقتضي ألا يمسه إلا طاهر اقتداء بالملائكة المطهرين، فقد تعلق الحكم بصفة التطهير، ولكنه حكم مندوب إليه، وليس محمولًا على الفرض، وإن كان الفرض فيه أبين منه في الآية؛ لأنه جاء بلفظ النهي عن مسه على غير طهارة. راجع: الروض الأنف، من تحقيقنا ج2 ص 98-99".

 

ج / 1 ص -297-     ونهض إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى لقيه في الحجرة، فأخذ حُجْزَته1، أو بمجمع ردائه، ثم جَبَذه به جَبْذةً شديدة، وقال: "ما جاء بك يابن الخطاب؟ فوالله ما أرى أن تنتهي حتى يُنزلَ الله بك قارعة"، فقال عمر: يا رسول الله، جئتك لأومن بالله وبرسوله، وبما جاء من عند الله؛ قال: فكبَّر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تكبيرةً عَرَف أهلُ البيت من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن عمر قد أسلم.
فتفرق أصحابُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من مكانهم، وقد عَزُّوا في أنفسهم حين أسلم عمر مع إسلام حمزة، وعرفوا أنهما سَيَمْنعان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وينتصفون بهما من عدوِّهم. فهذا حديث الرواة من أهل المدينة عن إسلام عمر بن الخطاب حين أسلم.
ما رواه عطاء ومجاهد عن إسلام عمر: قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي نَجِيح المكي عن أصحابه: عطاء، ومجاهد، أو عمن روى ذلك: أن إسلام عمر فيما تحدثوا به عنه، أنه كان يقول: كنت للإِسلام مباعدًا، وكنت صاحب خمر في الجاهلية، أحبها وأسَر بها، وكان لنا مجلس يجتمع فيه رجالٌ من قريش بالحَزْوَرَة، عند دُور آل عمر بن عبد بن عمران المخزومي. قال: فخرجت ليلة أريد جلسائي أولئك في مجلسهم ذلك، قال: فجئتهم فلم أجد فيه منهم أحدًا فقلت: لو أني جئت فلانًا الخمار، وكان بمكة يبيع الخمر، لعلي أجد عنده خمرًا فأشرب منها. قال: فخرجت فجئته فلم أجده. قال: فقلت: فلو أني جئت الكعبةَ فطفت بها سبعًا أو سبعين قال: فجئت المسجد أريد أن أطوف بالكعبة، فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائم يصلي، وكان إذا صلى استقبل الشام وجعل الكعبة بينه وبين الشام، وكان مصلاه بين الركنين: الركن الأسود، والركن اليماني. قال: فقلت حين أتيته: والله لو أني استمعت لمحمد الليلة حتى أسمعَ ما يقول فقلت: لئن دنوت منه أستمع منه لأرَوِّعنَّه؛ فجئت من قِبلِ الحِجْر، فدخلت تحت ثيابها، فجعلت أمشي رُوَيْدًا ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائم يصلي يقرأ القرآن، حتى قمت في قبلته مُسْتقبلَه، ما بيني وبينه إلا ثياب الكعبة. قال: فلما سمعت القرآن رقَّ له قلبي فبكيت ودخلني الِإسلام فلم أزل قائمًا في مكاني ذلك، حتى قضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلاته، ثم انصرف، وكان إذا انصرف خرج على دار ابن أبي حُسَين، وكانت طريقَه، حتى يَجزع2 المسْعَى، ثم يسلك بين دار عباس بن عبد المطلب، وبين دار ابن أزهر بن عبد عَوْف

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 موضع شد الإزار.
2 يجزع: يقطع.

 

ج / 1 ص -298-     الزهري، ثم على دار الأخنس بن شَرِيق، حتى يدخل بيته. وكان مسكنُه صلى الله عليه وسلم في الدار الرَّقْطاء1، التي كانت بيدي معاوية بن أبي سفيان. قال عمر رضي الله عنه: فتبعته حتى إذا دخل بين دار عباس، ودار ابن أزهر، أدركتُه، فلما سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حسي عَرَفني، فظن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أني إنما تبعته لأوذيه فنهمني2 ثم قال: ما جاء بك يابن الخطاب هذه الساعة؟ قال: قلت: لأومن بالله وبرسوله، وبما جاء به من عند الله قال: فحمد الله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم قال: قد هداك الله يا عمر، ثم مسح صدري، ودعا لي بالثبات، ثم انصرفتُ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ودخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيته.
قال ابن إسحاق، والله أعلم أي ذلك كان.
ثبات عمر في إسلامه: قال ابن إسحاق: وحدثني نافع مولى عبد الله بن عمر، عن ابن عمر قال: لما أسلم أبي: عمر قال: أي قريش أنقل للحديث؟ فقيل له: جميل بن مَعْمر3 الجُمحي. قال: فغدا عليه. قال عبد الله بن عمر: فغدوت أتبع أثره، وأنظر ما يفعل، وأنا غلام أعقل كل ما رأيت، حتى جاءه، فقال له: أعلمت يا جميل أني قد أسلمت ودخلت في دين محمد؟ قال: فوالله ما راجعه حتى قام يجر رداءه واتبعه عمر، واتبعت أبي، حتى إذا قام على باب المسجد صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش، وهم في أنديتهم حول الكعبة، ألا إن عمر بن الخطاب قد صَبا. قال: يقول عمر من خلفه: كَذَب، ولكني قد أسلمتُ، وشهدتُ أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله. وثاروا إليه، فما برح يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الرقطاء: الملونة.
2 نهمني: زجرني.
3 جميل هذا هو الذي كان يقال له: ذو القلبين، وفيه نزلت في أحد الأقوال:
{مَا جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب: 4] وفيه قيل:

وكيف ثوائي بالمدينة بعد ما                قضى وطرًا منها جميل بن معمر

وهو البيت الذي تغنى به عبد الرحمن بن عوف في منزله، واستأذن عمر فسمعه، وهو يتغنى، وينشد بالركبانية، وهو غناء يحدي به الركاب، فلما دخل عمر قال له عبد الرحمن: إنا إذا خلونا، قلنا ما يقول الناس في بيوتهم: وقلب المبرد هذا الحديث، وجعل المنشد عمر، والمستأذن عبد الرحمن، ورواه الزبير. انظر: "الروض الأنف، ج2 ص101".

 

ج / 1 ص -299-     على رءوسهم. قال: وطلح1، فقعد وقاموا على رأسه وهو يقول: افعلوا ما بدا لكم، فأحلف بالله أن لو قد كنا ثلثمائة رجل لقد تركناها لكم، أو تركتموها لنا، قال: فبينما هم على ذلك، إذا أقبل شيخ من قريش، عليه حُلة حبْرة2، وقميص مُوَشى، حتى وقف عليهم، فقال: ما شأنكم؟ قالوا: صبأ عمر؛ فقال: فمه، رجل اختار لنفسه أمرًا فماذا تريدون؟ أترون بني عدي بن كعب يُسلمون لكم صاحبكم هكذا! خلّوا عن الرجل. قال: فوالله لكأنما كانوا ثوبا كُشط عنه. قال: فقلت لأبي بعد أن هاجر إلى المدينة: يا أبت، من الرجل: الذي زجر القوم عنك بمكة يوم أسلمت، وهم يقاتلونك؟ فقال: ذاك، أي بُني، العاص بن وائل السهمي.
قال ابن هشام: وحدثني بعض أهل العلم، أنه قال: يا أبت، من الرجل الذي زجر القوم عنك بمكة يوم أسلمت، وهم يقاتلونك جزاه الله خيرًا. قال: يا ابني ذلك، العاص بن وائل، لا جزاه الله خيرًا.
قال ابن إسحاق: وحدثني عبدُ الرحمن بن الحارث عن بعض آل عمر، أو بعض أهله، قال: قال عمر: لما أسلمت تلك الليلة، تذكرتُ أيَّ أهل مكة أشد لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- عداوة حتى آتيه فأخبره أني قد أسلمت؟ قال قلت: أبو جهل –وكان عمر لَحَنْتَمة بنت هشام بن المغيرة– قال: فأقبلت حين أصبحت حتى ضربت عليه بابه. قال: فخرج إليَّ أبو جهل، فقال: مرحبًا وأهلا بابن أختي، ما جاء بك؟ قلت جئت لأخبرك أني قد آمنت بالله وبرسوله ومحمد، وصدَّقت بما جاء به؟ قال: فضرب الباب في وجهي وقال: قبحك الله، وقبح ما جئتَ به.
بعون الله وحسن توفيقه، انتهى الجزء الأول من سيرة ابن هشام ويليه إن شاء الله الجزء الثاني وأوله خبر الصحيفة -أعان الله على تمامه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 طلح: تعب وأعيا.
2 الحيرة: نوع من برود اليمن.