سيرة ابن
هشام ت طه عبد الرؤوف سعد
– الجزء الثاني: المتن ج / 2 ص -3-
بسم الله الرحمن الرحيم
خبر الصحيفة:
ائتمار قريش بالرسول: قال ابن إسحاق: فلما رأت قريش أن أصحاب رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- قد نزلوا بلدًا أصابوا به أمنًا وقرارًا، وأن
النجاشيَّ قد منع من لجأ إليه منهم، وأن عُمر قد أسلم، فكان هو وحمزةُ
بن عبد المطلب مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، وجعل
الإسلام يفشُو في القبائل، اجتمعوا وائتمروا أن يكتبوا كتابًا يتعاقدون
فيه على بني المطّلب، على ألا يُنكحوا إليهم ولا يُنكحوهم، ولا يبيعوهم
شيئًا، ولا يبتاعوا منهم؛ فلما اجتمعوا لذلك كتبوه في صحيفة، ثم
تعاهدوا وتواثقوا على ذلك، ثم علَّقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيدًا
على أنفسهم، وكان كاتب الصحيفة منصور بن عِكْرمة بن عامر بن هاشم بن
عبد مناف بن عبد الدار بن قصي. قال ابن هشام: ويقال: النضر بن الحارث.
فدعا عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فَشُلَّ بعضُ أصابعه.
من انحاز إلى أبي طالب ومن خرج عنه: قال ابن إسحاق؛ فلما فعلت ذلك قريش
انحازت بنو هاشم وبنو المطلب إلى أبي طالب بن عبد المطلب، فدخلوا معه
في شِعْبه واجتمعوا إليه، وخرج من بني هاشم أبو لهب، عبد العزى بن عبد
المطلب، إلى قريش، فظاهرهم.
تهكم أبي لهب بالرسول وما نزل فيه من القرآن: قال ابن إسحاق: وحدثني
حُسَيْن بنُ عبد الله: أن أبا لهب لقي هندَ بنت عُتبة بن ربيعة، حين
فارق قومه، وظاهر عليهم قريشًا فقال: يا بنت عتبة؛ هل نصرتِ اللات
والعزى، وفارقت من فارقهما وظاهر عليهما؟ قالت: نعم: فجزاك الله خيرًا
يا أبا عتبة.
قال ابن إسحاق: وحُدثت أنه كان يقول في بعض ما يقول: يعدني محمد أشياءً
لا أراها، يزعم أنها كائنة بعدَ الموت، فماذا وضع في يديَّ بعد ذلك، ثم
ينفخ في يديه ويقول: تبًّا لكما ما أرى فيكما شيئًا مما يقول محمد.
فأنزل الله تعالى فيه:
{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1].
قال ابن هشام: تبت: خسرت. والتباب: الخسران. قال حبيب بن خُدْرة
الخارجي: أحد بني هلال بن عامر بن صعصعة:
يا طيب إنا في معشر ذهبت
مَسْعاتُهم فى التَّبارِ والتَّبَبِ
وهذا البيت في قصيدة له.
ج / 2 ص -4-
شعر أبي طالب في تظاهر قريش: قال ابن إسحاق: فلما اجتمعت على ذلك قريش،
وصنعوا فيه الذي صنعوا، قال أبو طالب:
ألا أبلغا عني عَلَى ذاتِ بيننا
لُؤَيا وخُصَّا من لؤي بني كعبِ
ألم تعلموا أنا وجدنا محمدًا
نبيًّا كموسى خُطَّ في أول الكتبِ
وأن عليه في العبادِ محبةً
ولا خيرَ ممن خصه اللهُ بالحبِّ
وأن الذي ألصقتمُ من كتابِكم
لَكُم كائنٌ نحسًا كراغيةِ السَّقْبِ1
أفيقوا أفيقوا قبلَ أن يُحْفَرَ الثرى
ويصبحَ من لم يَجْنِ ذنبًا كذي الذنْبِ
ولا تتبعوا أمرَ الوُشاةِ وتقطعوا
أواصرَنا بعدَ المودةِ والقُربِ
وتستجلبوا حربًا عوانًا وربما
أمرّ على من ذاقه جَلبُ الحربِ
فلسنا وربِّ البيتِ نسلمُ أحمدًا
لعزَّاءَ مِن عضِّ الزمان ولا كَرْب2
ولمَّا تَبِنْ منا ومنكم سوالف
وأيدٍ أترَّت بالقُساسيَّةِ الشهْب3
بمعتَركٍ ضَيْقٍ ترى كِسَرَ القَنَا
به والنسورَالطُّخْمَ يعكفن كالشَّرْبِ4
كأن مجالَ الخيلِ في حَجَراتِه
ومَعْمَعة الأبطالِ معركة الحربِ5
أليس أبونا هاشم شدَّ أزرَهُ
وأوصى بنيه بالطِّعان وبالضربِ
ولسنا نَمَلُّ الحربَ حتى تَمَلَّنا
ولا نشتكي ما قد ينوبُ من النَّكْبِ
ولكننا أهلُ الحفائِظ والنُّهَى
إذا طار أرواحُ الكُماةِ من الرعْبِ
فأقاموا على ذلك سنتين
أو ثلاثًا، حتى جُهِدوا لا يصل إليهم شيء، إلا سرًّا مستخفيًا به من
أراد صلتهم من قريش.
أبو جهل يحكم الحصار على المسلمين: وقد كان أبو جهل بن هشام - فيما
يذكرون
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الرغاء: صوت الإبل، والسقب: ولد الناقة، والمراد به هنا ولد ناقة
صالح عليه السلام.
2 العزاء: الشدة.
3 السوالف: صفحات الأعناق، وأترت: قطعت والقساسية: سيوف تنسب إلى جبل
يسمى قساس.
4 الطخم: سود الرءوس، والشراب جماعة الشاربين.
5 الحجرات: النواحي.
ج / 2 ص -5-
لقي حكيم بن حزام بن خُوَيْلد بن أسد، معه غلام يحمل قمحًا يريد به
عمته خديجة بنت خوَيلد، وهي عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومعه
في الشِّعْب، فتعلق به وقال: أتذهب بالطعام إلى بني هاشم؟ والله لا
تبرحْ أنت وطعامُك حتى أفضحك بمكة. فجاءه أبو البَخْتري بن هشام بن
الحارث بن أسد، فقال: ما لك وله؟ فقال: يحمل الطعام إلى بني هاشم؟ فقال
أبو البَخْتري: طعام كان لعمته عنده بعثت إليه فيه أفتمنعه أن يأتيها
بطعامها؟ خلِّ سبيلَ الرجل؛ فأبى أبو جهل حتى نال أحدهما من صاحبه،
فأخذ أبو البخْتري لَحْي بعير فضربه به فشجه، ووطئه وطأ شديدًا وحمزة
بن عبد المطلب قريب يرى ذلك، وهم يكرهون أن يبلغ ذلك رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- وأصحابه، فيشمتوا بهم، ورسولُ الله -صلى الله عليه
وسلم- على ذلك يدعو قومه ليلًا ونهارًا، سرًّا وجهارًا، مناديًا بأمر
الله لا يتقي فيه أحدًا من الناس.
ذكر ما لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم من قومه من الأذى:
ما نزل من القرآن في أبي لهب وامرأته حمالة الحطب: فجعلت قريش حين منعه
الله منها، وقام عمُّه وقومه من بني هاشم وبني المطلب دونَه وحالوا
بينهم وبين ما أرادوا من البطش به، يَهْمِزونه ويستهزئون به ويخاصمونه،
وجعل القرآن ينزل في قريش بأحداثهم، وفيمن نصب لعداوته منهم، ومنهم من
سَمى لنا، ومنهم من نزل فيه القرآن في عامة من ذَكر الله من الكفار،
فكان ممن سُمي لنا من قريش ممن نزل فيه القرآن عمه أبو لهب بن عبد
المطلب وامرأته أم جميل بنت حرب بن أمية، حمالة الحطب وإنما سماها الله
تعالى حمالة الحطب لأنها كانت -فيما بلغني- تحمل الشوك فتطرحه على طريق
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيث تمر، فأنزل الله تعالى فيهما:
{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ، مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ
وَمَا كَسَبَ، سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ، وَامْرَأَتُهُ
حَمَّالَةَ الْحَطَبِ، فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ}.
قال ابن هشام: الجِيد: العُنق، قال أعْشَى بني قَيْس بن ثعلبة:
يومَ تُبدي لنا قتيلةُ عن جيـ
ـدٍ أسيلٍ تزِينُه الأطواقُ
وهذا البيت في قصيدة له.
وجمعه: أجياد. والمسَد: شجر يُدَق كما يُدَق الكتان فتفتل منه حبال.
قال النابغة الذُّبياني، واسمه زِياد بن عَمرو بن معاوية:
مقذوفةٍ بدخيسِ النَّحْضِ بازِلُها
له صريف صريفَ القَعْوِ بالمَسدِ1
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الدخيس: اللحم الكثير: والنحض. اللحم. والبازل: الناب: والصريف:
الصوت والقعو: ما تدور فيه البكرة.
ج / 2 ص -6-
وهذا البيت في قصيدة له، وواحدته: مسدة.
أم جميل امرأة أبي لهب: قال ابن إسحاق: فذكر لي: أن أم جميل، حمالة
الحطب، حين سمعت ما نزل فيها، وفي زوجها من القرآن، أتت رسولَ الله
-صلى الله عليه وسلم- وهو جالس في المسجد عند الكعبة ومعه أبو بكر
الصديق، وفي يدها فِهْر1 من حجارة، فلما وقفت عليهما أخذ الله ببصرِها
عن رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- فلا ترى إلا أبا بكر، فقالت: يا
أبا بكر: أين صاحبُك؟ فقد بلغني أنه يهجوني، والله لو وجدتُه لضربتُ
بهذا الفِهْرِ فاه، أما والله إني لشاعرة، ثم قالت:
مُذَممًا عَصَينا
وأمرَه أبَينا
ودينَه قَلَيْنَا
ثم انصرفت، فقال أبو
بكر: يا رسول الله أما تراها رأتك؟ فقال: ما رأتني؟ لقد أخذ الله
ببصرِها عني.
قال ابن هشام: قولها: "ودينَه قلَيْنا" عن غير ابن إسحاق.
قال ابن إسحاق: وكانت قريش إنما تُسمي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
مُذمَمًا، ثم يسبونه، فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ألا
تعجبون لِما صرف الله عني أذى قريش، يسبون مُذمَمًا، وأنا محمدٌ".
إيذاء أمية بن خلف للرسول: وأمية بن خلف بن وهب بن حذافة بن جُمَح، كان
إذا رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هَمزه ولَهمزه، فأنزل الله
تعالى فيه: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ، الَّذِي جَمَعَ مَالًا
وَعَدَّدَهُ، يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ، كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ
فِي الْحُطَمَةِ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ، نَارُ اللهِ
الْمُوقَدَةُ، الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ، إِنَّهَا
عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ، فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ}.
قال ابن هشام: الهُمزة: الذي يشتم الرجلَ علانية، ويُكسر عينيه عليه،
ويَغْمِز به، قال حسان بن ثابت:
همْزُتُك فاختُضِعْتَ لذلِّ نفسٍ
بقافيةٍ تَأجَّجُ كالشُّوَاظِ2
وهذا البيت في قصيدة له، وجمعه: همزات، واللُّمَزَة: الذي يعيب الناس
سرًّا ويُؤْذيهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الفهر: حجر يملأ الكف.
2 التأجج: التوقد.
ج / 2 ص -7-
قال رؤبة بن العجاج:
في ظلِّ عَصْرَيْ باطلي ولمزي
وهذا البيت في أرجوزة
له، وجمعه: لمزات.
إيذاء العاص للرسول -صلى الله عليه وسلم- وما نزل فيه من قرآن: قال ابن
إسحاق: والعاص بن وائل السَّهْمي، كان خَبَّاب بن الأرَتّ، صاحبُ رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- قينًا بمكة يعمل السيوف، وكان قد باع من
العاص بن وائل سيوفًا عملها له حتى كان له مال، فجاءه يتقاضاه فقال له
يا خباب: أليس يزعم محمد صاحبكم هذا الذي أنت على دينه أن في الجنة ما
ابتغى أهلها من ذهب، أو فضة، أو ثياب أو خدم؟ قال خَباب: بلى. قال:
فأنظرني إلى يوم القيامةِ يا خَباب، حتى أرْجعَ إلى تلك الدار فأقضيَك
هناك حقَّك، فوالله لا تكون أنت وأصحابك يا خباب آثر عند الله مني، ولا
أعظم حظًّا في ذلك؛ فأنزل الله تعالى فيه:
{أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا
وَوَلَدًا، أَطَّلَعَ الْغَيْبَ}
[مريم: 77،
78] إلى قوله تعالى: {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا} [مريم: 80].
إيذاء أبي جهل الرسول: ولقي أبو جهل بن هشام رسولَ الله، صلى الله عليه
وسلم -فيما بلغني- فقال له: والله يا محمدُ، لتتركنَّ سبَّ آلهتنا، أو
لنسبنَّ إلهك الذي تعبد. فأنزل الله تعالى فيه:
{وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا
اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ}
[الأنعام: 108] فذكر لي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كف عن سب
آلهتهم، وجعل يدعوهم إلى الله.
إيذاء النضر الرسول: والنضر بن الحارث بن علقمة بن كَلدَة بن عبد مناف
بن عبد الدار بن قُصي، كان إذا جلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
مجلسًا، فدعا فيه إلى الله تعالى وتلا فيه القرآن وحذر قريشًا ما أصاب
الأممَ الخالية، خَلَفه في مجلسه إذا قام، فحدثهم عن رُستم السنديد،
وعن أسفنديار، وملوك فارس، ثم يقول: والله ما محمد بأحسن حديثًا مني،
وما أحاديثُه إلا أساطير الأولين، اكتتبها كما اكتتبتها. فأنزل الله
فيه:
{وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى
عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا، قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ
السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا
رَحِيمًا}
[الفرقان: 5، 6] ونزل فيه:
{إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [القلم: 15] ونزل فيه:
{وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ، يَسْمَعُ آيَاتِ اللهِ تُتْلَى
عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا
فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}
[الجاثية: 7، 8]
قال ابن هشام: الأفاك: الكذاب. وفى كتاب الله تعالى:
{أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ، وَلَدَ اللهُ
وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}.
ج / 2 ص -8-
وقال رؤبة:
ما لامرئ أفَّك قولًا إفْكًا
وهذا البيت في أرجوزة
له.
قال ابن إسحاق: وجلس رسول الله، صلى الله عليه وسلم يومًا -فيما بلغني-
مع الوليد بن المغيرة في المسجد، فجاء النضْر بن الحارث حتى جلس معهم
في المجلس، وفى المجلس غيرُ واحد من رجال قريش، فتكلم رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- فعرضَ له النضرُ بنُ الحارث، فكلمه رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- حتى أفحمه ثم تلا عليه وعليهم:
{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ
أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ، لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا
وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ، لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ
فِيهَا لا يَسْمَعُونَ}.
قال ابن هشام: حصب جهنم: كل ما أوقدت به. قال، أبو ذُؤيب الهذلي، واسمه
خوَيْلد بن خالد:
فأطفئ ولا توقد ولاتكُ مُحصبًا
لنارِ العداةِ أن تطيرَ شداتها
وهذا البيت في أبيات له.
ويروى "ولاتك محضئًا". قال الشاعر:
حضأت له ناري فأبصر ضوءَها
وما كان لولا حضأةُ النارِ يهتدي
ابن الزبعرى وما قيل
فيه: قال ابن اسحاق: ثم قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأقبل عبد
الله بن الزبعرى السَّهمي حتى جلس، فقال الوليد بن المغيرة لعبد الله
بن الزبعرى: والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب آنفًا وما
قعد، وقد زعم محمد أنا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم؛ فقال عبد الله
بن الزبعرى: أما والله لو وجدته لخصَمته، فسلوا محمدًا: أكل ما يعبد من
دون الله في جهنم مع من عبده؟ فنحن نعبد الملائكة، واليهود تعبد
عزيرًا، والنصارى تعبد عيسى ابن مريم عليهما السلام فعجب الوليد، ومن
كان معه في المجلس من قول عبد الله بن الزبعرى، ورأوا أنه قد احتج
وخاصم: فذُكر لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- من قول ابن الزبعرى:
فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم:
"كل من أحب أن يُعبد من دون الله فهو مع من عبده، إنهم إنما يعبدون
الشياطين، ومن أمرتهم بعبادته". فأنزل الله تعالى عليه في ذلك:
{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ
عَنْهَا مُبْعَدُونَ، لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا
اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ}
[الأنبياء: 101، 102] أي عيسى ابن مريم، وعزيزًا، ومن عُبدوا من
الأحبار والرهبان الذي مضوا على طاعة الله، فاتخذهم من يعبدهم من أهل
الضلالة أربابًا من دون الله.
ج / 2 ص -9-
ونزل فيما يذكرون، أنهم يعبدون الملائكة، وأنها بنات الله: {وَقَالُوا
اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ،
لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}
[الأنبياء: 26، 27]. إلى قوله: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ
مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي
الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 29].
ونزل فيما ذكروا من أمر عيسى ابن مريم أنه يعبد من دون الله، وعَجب
الوليد ومن حضره من حجته وخصومته: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ
مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف: 57]، أي: يصدون عن
أمرك بذلك من قولهم.
ثم ذكر عيسى ابن مريم فقال: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا
عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائيلَ، وَلَوْ نَشَاءُ
لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ، وَإِنَّهُ
لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا
صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}،أي: ما وضعت على يديه من الآيات من إحياء الموتى،
وإبراء الأسقام، فكفى به دليلا على علم الساعة، يقول: {فَلا
تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}.
الأخنس وما أنزل فيه: والأخنس بن شَريق بن عمرو بن وهب الثقفي، حليف
بني زُهرة، وكان من أشراف القوم وممن يستمع منه، فكان يصيبُ من رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- ويرد عليه؛ فأنزل الله تعالى: {وَلا تُطِعْ
كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ، هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [القلم: 10، 11]
إلى قوله تعالى: {زَنِيمٍ} ولم يقل: {زَنِيمٍ} لعيب في نسبه؛ لأن الله
لا يعيب أحدًا بنسب، ولكنه حقق بذلك نعتَه ليُعرف. والزنيم: العديد1
للقوم. وقد قال الخَطِيم التميميُّ في الجاهلية:
زنيمٌ تداعاه الرجال زيادةً
كما زِيدَ في عرضِ الأديمِ الأكارعُ
الوليد وما أنزل فيه: والوليد بن المغيرة، قال: أينْزل على محمد وأترَك
وأنا كبير قريش وسيدُها! ويُترك أبو مسعود عمرو بن عُمير الثقفي سيد
ثقيف، ونحن عظيما القريتين! فأنزل الله تعالى فيه، فيما بلغني:
{وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ
الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] إلى قوله تعالى: {مِمَّا
يَجْمَعُونَ} [الزخرف: 32].
أبي بن خلف وعُقبة بن أبي مُعيط، وما أنزل فيهما: وأبي بن خلف بن وهب
بن حُذافة بن جُمَح، وعقبة بن أبي مُعيط، وكانا متصافيين، حَسَنًا ما
بينهما. فكان عقبة قد جلس
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 العديد من يعد في القوم وهو ليس منهم وهو الدعي، فعيل بمعنى مفعول.
ج / 2 ص -10-
إلى
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسمع منه، فبلغ ذلك أبيًّا، فأتى عقبة
فقال: ألم يبلغني أنك جالستَ محمدًا وسمعت منه! قال: وجهي من وجهك حرام
أن أكلِّمَك -واستغلظ من اليمين- إن أنت جلستَ إليه أو سمعت منه، أو لم
تأته فتَتْفل في وجهه. ففعل ذلك عدو الله عقبة بن أبي مُعيط لعنه الله
فأنزل الله تعالى فيهما:
{وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي
اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} [الفرقان: 27] إلى قوله تعالى:
{لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا} [الفرقان: 29].
ومشى أبَيُّ بن خلف إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعظم بالٍ قد
ارْفَتَّ فقال: يا محمد، أنت تزعم أن الله يبعث هذا بعد ما أرَمَّ1، ثم
فتَّه بيده، ثم نفخه في الريح نحوَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم:
"نعم أنا أقول
ذلك، يبعثه الله وإياك بعدما تكونان هكذا، ثم يدخلك اللهُ النارَ". فأنزل الله تعالى فيه:
{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي
الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا
أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ، الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ
مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ
تُوقِدُونَ}.
سورة "الكافرون" وسبب نزولها: واعترض رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم-
وهو يطوف بالكعبة -فيما بلغني- الأسودُ بنُ المطلب بن أسَد بن عبد
العُزى، والوليد بن المغيرة وأمية بن خلف، والعاص بن وائل السهمي،
وكانوا ذَوي أسنان في قومِهم، فقالوا: يا محمد، هلمَّ فلنعبد ما تعبدُ،
وتعبد ما نعبد، فنشترك نحن وأنت في الأمر، فإن كان الذي تعبد خيرًا مما
نعبد، كنا قد أخذنا بحظِّنا منه، وإن كان ما نعبد خيرًا مما تعبد، كنت
قد أخذت بحظِّك منه. فأنزل الله تعالى فيهما:
{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، وَلا
أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ،
وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ
دِينِ} أي إن كنتم لا تعبدون الله، إلا أن أعبد ما تعبدون، فلا حاجة لي
بذلك منكم لكم دينكم جميعًا، ولي ديني.
أبو جهل وما نزل فيه: وأبو جهل بن هشام، لما ذكر الله عز وجل شجرةَ
الزقوم تخويفًا بها لهم قال: يا معشر قريش، هل تدرون ما شجرة الزقوم
التي يخوفكم بها محمد؟ قالوا: لا؛ قال:
عَجْوة يثرب بالزُّبد، والله لئن استمكنا منها لنتزقمنها2 تزقمًا.
فأنزل الله تعالى فيه:
{إِنَّ
شَجَرَتَ الزَّقُّومِ، طَعَامُ الْأَثِيمِ، كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي
الْبُطُونِ، كَغَلْيِ الْحَمِيمِ}، أي:
ليس كما يقول.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أرم: بلي.
2 تزقم: ابتلع.
ج / 2 ص -11-
تفسير
لفظ المهل: قال ابن هشام المهل: كل شيء أذبته، من نحاس أو رصاص أو ما
أشبه ذلك، فيما أخبرني أبو عُبيدة.
وبلغنا عن الحسن البصري أنه قال: كان عبد الله بن مسعود واليًا لعمر بن
الخطاب على بيت مال الكوفة، وأنه أمر يومًا بفضة فأذيبت، فجعلت
تَلَوَّنُ ألوانًا، فقال: هل بالباب من أحد؟ قالوا: نعم؛ قال:
فأدخلوهم، فأدخلوا فقال: إن أدنى ما أنتم راءون شبهًا بالمهل لهذا.
وقال الشاعر:
يسقيه ربي حميمَ المهلِ يجرعُه
يشْوِي الوجوهَ فهو في بطنِه صَهِرُ
ويقال:إن المهل: صديد
الجسد.
وقال عبد الله بن الزبير الأسدي:
فمن عاش منهم عاش عبدًا وِإن يمتْ
ففي النارِ يُسقَى مهلها وصديدها
وهذا البيت في قصيدة له.
بلغنا أن أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- لما حُضر أمر بثوبين لبيسين
يغْسَلان فيُكَفن فيهما، فقالت عائشة: قد أغناك الله يا أبت عنهما،
فاشترِي كفنًا، فقال: إنما هي ساعة حتى يصير إلى المهل، قال الشاعر:
شابَ بالماءِ منه مُهلًا كَريهًا
ثم علَّ المتونَ بعدَ النِّهالِ1
قال ابن إسحاق: فأنزل
الله تعالى فيه:
{وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا
يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا} [الإسراء: 60].
ابن أم مكتوم والوليد وسورة عبس: ووقف الوليد بن المغيرة مع رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- يكلمه، وقد طمع في إسلامه، فبينا هو في ذلك، إذ
مر به ابنُ أمِّ مكتوم الأعمى، فكلم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
وجعل يستقرئه القرآنَ، فشق ذلك منه على رسول الله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 شاب: خلط. والعلل: الشرب بعد الشرب، والمتون: الظهور، والنهال: جمع
نهل وهو الشرب الأول.
ج / 2 ص -12-
صلى
الله عليه وسلم حتى أضجره، وذلك أنه شغله عما كان فيه من أمر الوليد،
وما طمع فيه من إسلامه. فلما أكثر عليه انصرف عنه عابسًا وتركه. فأنزل
الله تعالى عليه فيه:
{عَبَسَ وَتَوَلَّى، أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى}. [عبس: 1، 2] إلى قوله تعالى:
{فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ، مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ} [عبس: 13، 14] أي: إنما بعثتك بشيرًا ونذيرًا، لم أخص بك أحدًا،
فلا تمنعْه ممن ابتغاه، ولا تتصدين به لمن لا يريده.
العائدون من أرض الحبشة:
قال ابن إسحاق: وبلغ أصحابَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذين
خرجوا إلى أرض الحبشة، إسلامُ أهل مكة، فأقبلوا لما بلغهم من ذلك، حتى
إذا دَنَوْا من مكة، بلغهم أن ما كانوا تحدثوا به من إسلام أهل مكة كان
باطلًا، فلم يدخل منهم أحد إلا بجوار أو مستخفيًا.
فكان ممن قدم عليه مكةَ منهم، فأقام بها حتى هاجر إلى المدينة، فشهد
معه بدرًا ومن حبس عنه حتى فاته بدر وغيره، ومن مات بمكة منهم من بني
عبد شمس بن عبد مناف بن قصي: عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن
عبد شمس، معه امرأته: رقية بنت رسول الله، صلى الله عليه وسلم. وأبو
حذيفة بن عُتبة بن ربيعة بن عبد شمس، وامرأته سَهلة بنت سُهَيْل.
ومن حلفائهم: عبد الله بن جحش بن رئاب.
من نوفل: ومن بني نوفل بن عبد مناف: عُتبة بن غَزْوان، حليف لهم، من
قيس عيلان.
من أسد: ومن بني أسد بن عبد العزى بن قُصي: الزبير بن العوام بن خويلد
بن أسد.
من عبد الدار: ومن بني عبد الدار بن قصي: مُصْعَب بن عُمَير بن هاشم بن
عبد مناف، وسُوَيْبط بن سعد بن حريملة.
من عبد: ومن بني عبد بن قصي: طُلَيب بن وهب بن عبد.
من زهرة: ومن بني زهرة بن كلاب: عبدُ الرحمن بن عَوْف بن عبد عوف بن
عبد بن الحارث بن زُهرة. والمقداد بن عَمرو، حليف لهم، وعبد الله بن
مسعود، حليف لهم.
من مخزوم: ومن بني مخزوم بن يَقَظة: أبو سَلمة بن عبد الأسد بن هلال بن
عبد الله بن عَمرو بن مخزوم، معه امرأته: أم سلمة بنت أبي أمية بن
المغيرة، وشمَّاس بن عثمان بن الشَّريد بن سُوَيد بن هَرْمِي بن عامر
بن مخزوم. وسلمة بن هشام بن المغيرة، حبسه عمه بمكة، فلم يقدم إلا بعد
بدر وأحد والخندق، وعَيَّاش بن أبي ربيعة بن المغيرة، هاجر معه إلى
المدينة، ولحق به أخواه لأمه: أبو جهل بن هشام، والحارث بن هشام، فرجعا
به إلى مكة فحبساه بها حتى مضى بدر وأحد والخندق.
ج / 2 ص -13-
ومن
حلفائهم: عمار بن ياسر، يُشَكُّ فيه أكان خرج إلى الحبشة أم لا؟
ومُعَتِّب بن عوف بن عامر من خزاعة.
ومن بني جُمَح بن عَمرو بن هُصَيْص بن كعب: عثمان بن مَظْعون بن حبيب
بن وهْب بن حُذافة بن جُمَح. وابنه السائب بن عثمان، وقدامة بن مظعون،
وعبد الله بن مظعون.
من سهم: ومن بني سهم بن عمرو بن هُصَيْص بن كعب: خُنَيس بن حذافة بن
قيس بن عدي، وهشام بن العاص بن وائل، حبس بمكة بعد هجرة الرسول -صلى
الله عليه وسلم- إلى المدينة حتى قدم بعد بدر وأحد والخندق.
ومن بني عدي بن كعب: عامر بن ربيعة، حليف لهم، معه امرأته: ليلى بنت
أبي حَثْمة بن حذافة بن غانم.
ومن بني عامر بن لؤي: عبد الله بن مَخْرمَة بن عبد العُزى بن أبي قيس.
وعبد الله بن سُهَيْل بن عمرو، وكان حُبس عن رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- حين هاجر إلى المدينة، حتى كان يوم بدر، فانحاز من المشركين إلى
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فشهد معه بدرًا، وأبو سَبْرة بن أبي
رُهْم بن عبد العُزى، معه امرأته: أم كلثوم بنت سُهيل بن عمرو،
والسكران بن عمرو بن عبد شمس، معه امرأته: سَوْدة بنت زَمْعة بن قيس،
مات بمكة قبل هجرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، فخلف
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على امرأته سَوْدة بنت زَمْعة.
ومن حلفائهم: سعد بن خولة.
من الحارث: ومن بني الحارث بن فِهر: أبو عُبَيدة بن الجراح، وهو عامر
بن عبد الله بن الجراح، وعمرو بن الحارث بن زُهير بن أبي شداد، وسُهَيل
بن بيضاء، وهو سهيل بن وهب بن ربيعة بن هلال، وعمرو بن أبي سَرْح بن
ربيعة بن هلال.
فجميع من قدم عليه مكة من أصحابه من أرض الحبشة ثلاثة وثلاثون رجلًا.
من دخل مكة بجوار من مهاجري الحبشة: فكان من دخل منهم بجوار، فيمن سُمي
لنا: عثمان بن مظعون بن حبيب الجُمحي، دخل بجوار من الوليد بن المغيرة،
وأبو سلمة بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، دخل
بجوار من أبي طالب بن عبد المطلب وكان خاله. وأم أبي سلمة: بُرَّة بنت
عبد المطلب.
ج / 2 ص -14-
عثمان بن مظعون يرد جوار الوليد:
قال ابن إسحاق: فأما عثمانُ بن مظعون فإن صالح بن إبراهيم بن عبد
الرحمن بن عوف حدثني عمن حدثه عن عثمان، قال: لما رأى عثمان بن مظعون
ما فيه أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من البلاء، وهو يغدو
ويروح في أمان من الوليد بن المغيرة، قال: والله إن غُدُوِّي ورواحي
آمنًا بجوار رجل من أهل الشرك، وأصحابي وأهل ديني يلقون من البلاء
والأذى في الله ما لا يصيبني، لنقصٌ كبير فيِ نفسي. فمشى إلى الوليد بن
المغيرة، فقال له يا أبا عبد شمس، وفتْ ذمتُك، قد رددتُ إليك جوارَك،
فقال له: يابن أخي لعله آذاك أحد من قومي؟ قال: لا ولكني أرضى بجوار
الله، ولا أريد أن أستجير بغيره؟ قال: فانطلق إلى المسجد، فاردد عليَّ
جواري علانيةً كما أجرتُك علانية. قال: فانطلقا فخرجا حتى أتيا المسجد،
فقال الوليد: هذا عثمان قد جاء يردَّ عليّ جواري، قال: صدق، قد وجدته
وفيًّا كريم الجوار، ولكني قد أحببت ألا أستجير بغير الله، فقد رددت
عليه جوارَه، ثم انصرف عثمان، ولبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب
في مجلس من قريش ينشدهم، فجلس معهم عثمان، فقال لبيد:
ألا كل شيءٍ ما خلا الله باطلُ
قال عثمان: صدقت. قال
لبيد:
وكلُّ نعيمٍ لا محالةَ زائلُ
قال عثمان: كذبت، نعيم
الجنة لا يزول. قال لبيد بن ربيعة: يا معشر قريش، والله ما كان يُؤذَى
جليسكم، فمتى حدث هذا فيكم؟ فقال رجل من القوم: إن هذا سفيه في سفهاء
معه، قد فارقوا ديننا، فلا تجدن في نفسك من قوله، فرد عليه عثمان حتى
شَرِيَ1 أمرُهما، فقام إليه ذلك الرجل فلطم عينَه فخضَّرها، والوليد بن
المغيرة قريب يرى ما بلغ من عثمان، فقال: أما والله يابن أخي كانت
عينُك عما أصابها لغنية، لقد كنت في ذمةٍ منيعة. قال: يقول عثمان: بل
والله إن عيني الصحيحة لفقيرة إلى مثل ما أصاب أختها في الله، وإني لفي
جوار من هو
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 شرى: كثر وزاد.
ج / 2 ص -15-
أعز
منك وأقدر يا أبا عبد شمس، فقال له الوليد: هلم يابن أخي، إن شئت فعد
إلى جوارك، فقال: لا.
أبو سلمة في جوار أبي طالب: قال ابن إسحاق: وأما أبو سَلَمة بن عبد
الأسد، فحدثني أبي: إسحاقُ بن يَسار عن سَلمة بن عبد الله بن عمر بن
أبي سلمة أنه حدثه: أن أبا سلمة لما استجار بأبي طالب، مشى إليه رجال
من بن مخزوم، فقالوا: يا أبا طالب، لقد منعتَ منا ابنَ أخيك محمدًا،
فما لك ولصاحبنا تمنعه منا؟ قال: إنه استجار بي، وهو ابن أختي، وإن أنا
لم أمنع ابنَ أختي لم أمنع ابنَ أخي، فقام أبو لهب فقال: يا معشر قريش،
والله لقد أكثرتم على هذا الشيخ، لا تزالون تتواثبون عليه في جوارِه من
بين قومه، والله لتنتهن عنه أو لنقومن معه في كلِّ ما قام فيه، حتى
يبلغ ما أراد. قال: فقالوا: بل ننصرف عما تكره يا أبا عتبةَ، وكان لهم
وليًّا وناصرًا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأبقوا على ذلك،
فطمع فيه أبو طالب حين سمعه يقول ما يقول، ورجا أن يقوم معه في شأن
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال أبو طالب يحرِّض أبا لهب على
نُصرتِه ونصرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم:
وإن امرأً أبو عُتَيْبة عَمُّه
لفي روضةٍ ما إن يُسامُ المَظالمَا
أقول له، وأين منه نصيحتي
أبا مُعْتب ثبتْ سوادَك قائمَا1
ولا تقبلنَّ الدهرَ ما عشتَ خُطةً
تُسَب بها إما هَبطت المواسما
وولِّ سبيلَ العجزِ غيرَك منهمُ
فإنك لم تُخلَقْ على العجزِ لازمًا
وحاربْ فإن الحربَ نُصْف وما ترى
أخا الحربِ يُعطى الخسْفَ حتى يُسالما
وكيف ولم يَجْنُوا عليكَ عظيمةً
ولم يخذلوك غانمًا أو مُغارِما
جزى اللهُ عنا عبدَ شمسٍ ونَوْفلًا
وتَيْمًا ومخزومًا عُقوقا ومأثما
بتفريقِهم من بعدِ وُد وألفَةٍ
جماعتنا كيما ينالوا المحارِما
كذبتم وبيتِ الله نُبزَى محمدًا
ولما تَرَوْا يومًا لدى الشِّعْب قائمًا
قال ابن هشام: نبزى:
نسلب. قال ابن هشام: وبقى منها بيت تركناه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سوادك: شخصك.
ج / 2 ص -16-
دخول أبي بكر في جوار ابن الدغنة ثم رده عليه:
قال ابن إسحاق: وقد كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه، كما حدثني محمد
بن مُسلم الزهري عن عُروة عن عائشة رضي الله عنهما، حين ضاقت عليه مكة
وأصابه فيها الأذى، ورأى من تظاهر قريش على رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- وأصحابه ما رأى، استأذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في
الهجرة فأذن له، فخرج أبو بكر مهاجرًا، حتى إذا سار من مكة يومًا أو
يومين، لقيه ابن الدُّغُنَّة، أخو بني عبد مناة بن كنانة، وهو يومئذ
سيد الأحابيش.
قال ابن إسحاق: والأحابيش: بنو الحارث بن عبد مناة بن كنانة، والهون بن
خُزيمة بن مُدركة، وبنو المصطلق من خزاعة.
قال ابن هشام: تحالفوا جميعًا، فسُموا الأحابيش للحلف.
ويقال: ابن الدّغينة.
قال ابن إسحاق: حدثني الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت:
فقال ابن الدُّغُنة: أين يا أبا بكر؟ قال: أخرجني قومي وآذوني، وضيقوا
عليَّ، قال: ولمَ؟ فوالله إنك لتَزين العشيرة، وتعين على النوائب،
وتفعل المعروف، وتُكعبِ المعدوم1، ارجع فأنت في جواري. فرجع معه، حتى
إذا دخل مكة، قام ابن الدُّغنة فقال: يا معشر قريش؛ إني قد أجرت ابن
أبي قحافة، فلا يعرضنَّ له أحد إلا لِخير. قالت: فكفوا عنه.
قالت: وكان لأبي بكر مسجد عند باب داره في بني جُمَح، فكان يصلي فيه،
وكان رجلًا رقيقًا؟ إذا قرأ القرآن استبكى. قالت: فيقف عليه الصبيان
والعبيد والنساء، يعجبون لما يرَوْن من هيئته. قالت: فمشى رجال من قريش
إلى ابن الدُّغنَّة، فقالوا: يابن الدغنة، إنك تُجِيرُ هذا الرجل
ليؤذيَنا! إنه رجل إذا صلى وقرأ ما جاء به محمد يرق ويبكي؛ وكانت له
هيئة ونحو؛ فنحن نتخوف على صبياننا ونسائنا وضعفتنا أن يفتنهم؛ فأته
فمرْه أن يدخل بيته فليصنع فيه ما شاء. قالت: فمشى ابن الدغنة إليه؛
فقال له: يا أبا بكر؛ إني لم أجرْك لتؤذي قومَك؛ إنهم قد كرهوا مكانَك
الذي أنت فيه وتأذوا بذلك منك، فادخل بيتك، فاصنع فيه ما أحببت قال: أو
أرد عليك جوارَك وأرضى بجوار الله؟ قال فارددْ عليَّ جواري؛ قال: قد
رددته عليك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي تكسب غيرك ما هو معدوم عنده.
ج / 2 ص -17-
قالت:
فقام ابن الدُّغنَّة، فقال، يا معشر قريش، إن ابن أبي قحافة قد ردَّ
عليَّ جواري فشأنكم بصاحبكم.
قال ابن إسحاق: وحدثني عبدُ الرحمن بن القاسم، عن أبيه القاسم بن محمد،
قال: لقيه سفيه من سفهاء قريش، وهو عامد إلى الكعبة، فحثا على رأسه
ترابًا. قال: فمرَّ بأبي بكر الوليد بن المغيرة، أو العاص بن وائل.
قال: فقال أبو بكر: ألا ترى إلى ما يصنع هذا السفيه؟ قال: أنت فعلتَ
ذلك بنفسك. قال: وهو يقول: أي رب، ما أحلمك! أي رب، ما أحلمك! أي رب،
ما أحلمك!
حديث نقض الصحيفة:
قال ابن إسحاق: وبنو هاشم وبنو المطلب في منزلهم الذي تعاقدت فيه قريش
عليهم في الصحيفة التي كتبوها، ثم إنه قام في نقض تلك الصحيفة التي
تكاتبت فيها قريش علي بني هاشم وبني المطلب نفرٌ من قريش، ولم يُبل
فيها أحد أحسن من بلاء هشام بن عمرو بن ربيعة بن الحارث بن حُبيب بن
نصر بن جُذَيمة بن مالك بن حِسْل بن عامر بن لؤي، وذلك أنه كان ابن أخي
نَضْلة بن هاشم بن عبد مناف لأمه، فكان هشام لبني هاشم واصلًا، وكان ذا
شرف في قومه، فكان -فيما بلغني- يأتي بالبعير، وبنو هاشم وبنو المطلب
في الشِّعْب ليلًا، قد أوقره طعامًا حتى إذا أقبل به فم الشِّعْب خلع
خطامه من رأسه، ثم ضرب على جنبه، فيدخل الشِّعْب عليهم ثم يأتي به قد
أوقره بزًا أو برًا، فيفعل به مثل ذلك.
قال ابن إسحاق: ثم إنه مشى إلى زُهير بن أبي أمية بن المغيرة بن عبد
الله بن عُمر بن مخزوم. وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب، فقال: يا
زُهير، أقد رضيت أن تأكل الطعام وتلبس الثيابَ، وتَنكح النساء،
وأخوالُك حيث قد علمتَ، لا يُباعون ولا يُبتاع منهم، ولا يَنكحون ولا
يُنكح إليهم؟ أما إني أحلف بالله أن لو كانوا أخوالَ أبي الحكم بن
هشام، ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إليه منهم، ما أجابك إليه أبدًا، قال:
ويحك يا هشام! فماذا أصنع؟ إنما أنا رجل واحد، والله لو كان معي رجل
آخر لقمت في نقضِها حتى أنقضَها، قال: قد وجدت رجلًا قال: فمن هو؟ قال:
أنا، قال له زُهير: أبغنا رجلًا ثالثًا.
فذهب إلى المطْعِم بن عدي، فقال له: يا مُطعم أقد رضيتَ أن يهلك بطنان
من بني عبد مناف وأنت شاهد على ذلك موافق لقريش فيه! أما والله لئن
أمكنتموهم من هذه لتجدنَّهم إليها
ج / 2 ص -18-
منكم
سراعًا، قال ويحك! فماذا أصنع؟ إنما أنا رجل واحد، قال: قد وجدت
ثانيًا، قال: من هو؟ قال: أنا، فقال: أبغنا ثالثًا، قال: قد فعلت، قال:
من هو؟ قال: زُهَير بن أبي أمية، قال أبغنا رابعًا.
فذهب إلى البَخْتري بن هشام، فقال له نحوًا مما قال للمُطعم بن عدي،
فقال: وهل من أحد يعين على هذا؟ قال: نعم، قال: من هو؟ قال: زُهير بن
أبي أمية، والمطم بن عدي، وأنا معك، قال أبغنا خامسًا.
فذهب إلى زَمْعَة بن الأسود بن المطلب بن أسد، فكلمه وذكر له قرابتهم
وحقَّهم، فقال له: وهل على هذا الأمر الذي تدعوني إليه من أحد؟ قال:
نعم،ثم سمَّى له القوم.
فاتَّعدوا خطم الحجون1 ليلًا بأعلى مكة، فاجتمعوا هنالك. فأجمعوا
أمرَهم وتعاقدوا على القيام في الصحيفة حتى ينقضوها، وقال زُهير: أنا
أبدؤكم، فأكون أولَ من يتكلم. فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم، وغدا
زُهير بن أبي أمية عليه حُلة، فطاف بالبيت سبعًا، ثم أقبل على الناس
فقال: يا أهلَ مكة، أنأكل الطعام ونلبس الثيابَ، وبنو هاشم هلْكَى لا
يباع ولا يبتاع منهم، والله لا أقعدُ حتى تُشَقَّ هذه الصحيفة القاطعة
الظالمة.
قال أبو جهل: وكان في ناحية المسجد: كذبتَ والله لا تُشق، قال زَمْعة
بن الأسود: أنت والله أكذب، ما رضينا كتابها حيثُ كُتبت، قال أبو
البختري: صدق زَمعة، لا نرضى ما كُتب فيها، ولا نقرّ به، قال المطعِم
بن عدي: صدقتما وكذب من قال غير ذلك، نبرأ إلى الله منها، ومما كُتب
فيها، قال هشام بن عمرو نحوا من ذلك. فقال أبو جهل: هذا أمر قُضِيَ
بليلٍ، تَشُووِر فيه بغير هذا المكان. وأبو طالب جالس في ناحية المسجد،
فقام المطْعِم إلى الصحيفة ليشقَّها، فوجد الأرَضَة قد أكلتها، إلا
"باسمك اللهم".
وكان كاتب الصحيفة منصور2 بن عكرمة. فشُلت يده فيما يزعمون.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الخطم: المقدمة. والحجون: موضع بأعلى مكة.
2 وللنساب من قريش في كاتب الصحيفة هو: بغيض بن عامر بن هشام بن عبد
الدار، والقول الثاني: أنه منصور بن عبد شرحبيل بن هشام من بني عبد
الدار أيضًا -انظر: "الروض الأنف، ج2 ص127".
ج / 2 ص -19-
قال
ابن هشام: وذكر بعضُ أهل العلم: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال
لأبي طالب: يا عم؛ إن ربي الله قد سلط الأرضة على صحيفة قريش، فلم تدعْ
فيها اسْمًا هو لله إلا أثبتته فيها، ونفت منه الظلم والقطيعة
والبهتان؛ فقال: أربُّك أخبرك بهذا؟ قال: نعم، قال: فوالله ما يدخل
عليك أحدٌ، ثم خرج إلى قريش، فقال: يا معشر قريش، إن ابن أخي أخبرني
بكذا وكذا، فهلمّ صحيفتكم، فإن كان كما قال ابن أخي فانتهوا عن
قطيعتنا، وانزلوا عما فيها، وإن يكن كاذبًا دفعت إليكم ابن أخي، فقال
القوم: رضينا. فتعاقدوا على ذلك. ثم نظروا. فإذا هي كما قال رسولُ الله
-صلى الله عليه وسلم- فزادهم ذلك شرًّا. فعند ذلك صنع الرهْط من قريش
في نقض الصحيفةِ ما صنعوا1.
قال ابن إسحاق: فلما مُزقت الصحيفة وبطل ما فيها. قال أبو طالب، فيما
كان من أمر أولئك النفر الذين قاموا في نقضها يمدحهم:
ألا هل أتى بَحْرِيَّنا صُنْعُ ربنا على
نأيهم واللهُ بالناسِ أرْوَدُ2
فيخبرهم أن الصحيفةَ مُزقت وأنْ كلُّ
ما لم يَرْضه الله مُفسِد
تراوحها إفك وسحر مجمَّعٌ
ولم يُلفَ سِحر آخر الدهر يَصْعَد
تداعى لها من ليس فيها بقرقر
فطائرها في رأسها يتردد3
وكانت كفاء رقعة بأثيمة
ليقطع منها ساعد ومقلد4
ويَظْعنُ أهلُ المكَّتين فيهربوا
فرائصُهم من خشيةِ الشرِّ تَرْعَد
ويُتْرَك حَرَّات يقلب أمرَه
أيتهِم منهم عند ذاك ويُنجِدُ5
وتصعد بين الأخْشَبَيْن كتيبةٌ
لها حُدُج سهم وقوس ومِرْهد6
فمن يَنَش من حضَّار مكة عزه
فعِزتنا في بطن مكة أتلدُ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ويذكر في الصحيح ما أصاب المسلمين من الجهد حتى إنهم كانوا يأكلون
ورق السمر والجلود اليابسة وكل ما اتصل إليه أيديهم أي شيء كان.
2 بحرينا: يعني الذين بأرض الحبشة، نسبهم إلى البحر لركوبهم إياه. أود:
أي: أرفق.
3 القرقر: الذليل.
4 المقلد: العنق.
5 الحراث المكتسب.
6 الحدج: الحمل. والمرهد: الناعم أي السيف الناعم بالري من الدماء.
ج / 2 ص -20-
نشأنا بها والناسُ فيها قلائل
فلم ننْفكك نزداد خيرًا ونُحمد
ونُطعم حتى يترك الناسُ فضلَهم
إذا جعلت أيدي المُفيضين ترعَد1
جزى الله رهطًا بالحَجون تتابعوا
على ملإِ يهدي لحزم ويُرشِد
قُعودًا لدى خَطْمِ الحَجون كأنهم
مقاولةٌ بل هم أعزُّ وأمجدُ2
أعان عليها كلُّ صقر كأنه
إذا ما مشى في رَفْرفِ الدرعِ أحردُ3
جرى على جُلَّى الخطوبِ كأنه
شِهاب بكَفّيْ قابسٍ يتوقدُ4
من الأكرمين من لُؤيِّ بن غالب
إذا سِيم خسفًا وجهُه يتربَّدُ
طويلُ النِّجاد خارجٌ نصف ساقِه
على وجهِه يُسْقَى الغَمامُ ويُسْعَد
عظيمُ الرمادِ سيدٌ وابنُ سيدٍ
يَحُضُّ على مَقرَى الضيوفِ ويحْشِدُ
ويبني لأبناءِ العشيرةِ صالِحًا
إذا نحن طُفنا في البلادِ ويَمْهَدُ
ألَظَّ بهذا الصِلح كل مُبرإ
عظيم اللواء أمره ثَمَّ يُحمدُ5
قَضَوْا ما قَضَوْا في ليلهم ثم أصبحوا
على مَهَلٍ وسائر الناس رُقَّدُ
همُ رَجعوا سهلَ بنَ بيضاء راضيًا
وسُر أبو بكر بها ومحمدُ
متى شُرك الأقوامُ في جُل أمرِنا
وكنا قديمًا قبلَها نتوددُ
وكنا قديمًا لا نقِرُّ ظلامةً
وندرك ما شئنا ولا نتشددُ
فيا لَقُصيُّ هل لكم في نفوسِكم
وهل لكم فيما يجيءُ به غد
فإني وإياكم كما قال قائل
لديك البيانُ لو تكلمت أسودُ6
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المفيضون: الضاربون بقداح الميسر.
2 المقاولة: الملوك.
3 رفرف الدرع: ما فضل منه. والأحرد بطيء المشي لثقل ما عليه من لباس
الحرب.
4 الجلى: الأمر العظيم.
5 ألظ: ألح.
6 أسود اسم جبل كان قد قتل فيه قتيل، فلم يعرف قاتله، فقال أولياء
المقتول هذه المقالة فذهبت مثلًا. "الروض الأنف، 2/ 129".
ج / 2 ص -21-
وقال
حسان بن ثابت: يبكي المطْعِم بن عدي حين مات، ويذكر قيامه في نقض
الصحيفة:
أيا عينُ فابكي سيدَ القومِ واسفحي
بدمعٍ وإن أنزَفْتِه فاسكبي الدمَا
وبكِّي عظيمَ المُشعرين كليْهما
على الناس معروفًا له ما تكلما
فلو كان مجدٌ يُخلد الدهرَ واحدًا
من الناسِ، أبقى مجدُه اليومَ مُطْعِمَا
أجرتَ رسولَ الله منهم فأصبحوا
عبيدَك ما لي مُهلّ وأحْرَمَا
فلو سُئلتْ عنه مَعَدٌّ بأسرِها
وقحطانُ أو باقي بقيةِ جُرْهُمَا
لقالوا هو الموفِي بخُفْرَةِ جاره
وذمتُه يومًا إذا ما تذمَّما1
فما تطلعُ الشمسُ المنيرةُ فوقَهم
على مثلِه فيهم أعَزَّ وأعظمَا
وآبَى إذا يأبى وألْينَ شيمة
وأنومَ عن جار إذا الليلُ أظلما
قال ابن هشام: قوله
"كليهما" عن غير ابن إسحاق.
قال ابن هشام: وأما قوله: "أجرْت رسول الله منهم"، فإن رسول الله صلي
الله عليه وسلم لما انصرف عن أهل الطائف، ولم يجيبوه إلى ما دعاهم
إليه، من تصديقه ونصرته، صار إلى حراء، ثم بعث إلى الأخنس بن شريق
ليجيره، فقال: أنا حليف، والحليف لا يجير. فبعث إلى سُهيل بن عمرو،
فقال: إن بني عامر لا تجير على بني كعب. فبعث إلى المطْعِم بن عدي
فأجابه إلى ذلك، ثم تسلح المطعم وأهلُ بيته، وخرجوا حتى أتوا المسجد،
ثم بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أدخل، فدخل رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- فطاف بالبيت وصلى عنده، ثم انصرف إلى منزله. فذلك الذي
يعني حسان بن ثابت.
قال ابن إسحاق: وقال حسانُ بن ثابت أيضًا: يمدح هشام بن عمرو لقيامه في
الصحيفة:
هل يُوفينَّ بنو أميةَ ذمةً
عَقْدًا كما أوْفَى جِوارُ هشام
من معشر لا يَغْدِرون بجارِهم
للحارث بن حُبَيِّب بن سُحَام
وإذا بنو حِسْلٍ أجاروا ذمةً
أوفَوْا وأدَّوْا جارَهم بسلاَمَ
وكان هشام أحد سُحام.
قال ابن هشام: ويقال: سخام.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الخفرة: العهد.
ج / 2 ص -22-
إسلام الطفيل بن عمرو الدَّوْسي:
قريش تحذره من استماعه للرسول: قال ابن إسحاق: وكان رسولُ الله -صلى
الله عليه وسلم- على ما يرى من قومه، يبذل لهم النصيحة، ويدعوهم إلى
النجاة مما هم فيه. وجعلت قريش، حين منعه الله منهم يحذِّرونه الناس
ومن قدم عليهم من العرب.
وكان الطُّفَيْل بن عَمرو الدوسي يحدث: أنه قدم مكةَ ورسول الله -صلى
الله عليه وسلم- بها، فمشى إليه رجال من قريش، وكان الطُّفيل رجلًا
شريفًا شاعرًا لبيبًا، فقالوا له: يا طفيل، إنك قدمت بلادَنا، وهذا
الرجل الذي بين أظهرنا قد أعضَل بنا1، وقد فرَّق جماعتنا، وشتَّت
أمرنا، وإنما قوله كالسحرِ يفرِّق بين الرجلِ وبينَ أبيه، وبينَ الرجلِ
وبين أخيه، وبين الرجل وبين زوجتِه، وإنا نخشى عليك وعلى قومِك ما قد
دخل علينا، فلا تكلمنَّه ولا تسمعنَّ منه شيئًا.
استماعه للرسول -صلى الله عليه وسلم: قال: فوالله ما زالوا بي حتى
أجمعتُ ألا أسمع منه شيئًا ولا أكلمه، حتى حشوتُ في أذني حين غدوت إلى
المسجد كُرْسُفًا2 فَرَقًا من أن يبلغني شيء من قوله، وأنا لا أريد أن
أَسمعَه. قال: فغدوْت إلى المسجدِ، فإذا رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- قائمٌ يصلي عند الكعبة. قال: فقمت منه قريبًا، فأبى الله إلا أن
يسمعني بعضَ قولِه. قال: فسمعت كلامًا حَسَنًا. قال: فقلتُ في نفسي:
واثُكْلَ أمي، والله إني لرجل لبيب شاعر ما يخفى عليَّ الحسنُ من
القبيح، فما يمنعني أن أسمعَ من هذا الرجل ما يقول! فإن كان الذي يأتي
به حسنًا قبلته، وإن كان قبيحًا تركته.
قال: فمكثت حتى انصرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى بيته
فاتبعته، حتى إذا دخل بيته دخلت عليه، فقلت: يا محمد، إن قومَك قد
قالوا لي كذا وكذا، للذي قالوا؛ فوالله ما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أعضل: اشتد أمره.
2 الكرسف: القطن.
ج / 2 ص -23-
بَرحوا
يخوِّفونني أمرَك حتى سَددت أذني بكُرْسُف لئلا أسمعَ قولك، ثم أبى
الله إلا أن يُسمعني قولَك، فسمعته قولًا حسنًا، فاعرض عليَّ أمرَك.
قال: فعرض عليَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الإسلامَ، وتلا عليَّ
القرآن، فلا والله ما سمعت قولًا قطُّ أحسنَ منه، ولا أمرًا أعدلَ منه.
قال: فأسلمتُ وشهدت شهادة الحقِّ، وقلت: يا نبي الله، إني امرؤ مطاعٌ
في قومي وأنا راجع إليهم، وداعيهم إلى الإِسلام، فادعُ الله أن يجعلَ
لي آيةً تكون لي عونًا عليهم فيما أدعوهم إليه فقال: اللهم اجعلْ له
آيةً.
آية للطفيل ليصدقه قومه: قال: فخرجتُ إلى قومي، حتى إذا كنت بِثَنيَّة1
تُطلعني على الحاضر2 وقع نور بين عينيَّ مثل المصباح؛ فقلت: اللهم في
غير وجهي، إني أخشى أن يظنوا أنها مُثْلةٌ وقعتْ في وجهي لفراقي دينَهم
قال: فتحول فوقع في رأس سوطي. قال: فجعل الحاضر يتراءون ذلك النور في
سَوْطي كالقنديل المعلَّق، وأنا أهبط إليهم من الثَّنيةِ، قال: حتى
جئتُهم فأصبحتُ فيهم.
إسلام والد الطُّفيل وزوجه: قال: فلما نزلت أتاني أبي، وكان شيخًا
كبيرًا، قال: فقلت: إليكَ عني يا أبت، فلستُ منك ولستَ مني قال: ولم يا
بني؟ قال: قلت: أسلمتُ وتَابعت دين محمد -صلى الله عليه وسلم: قال: أي
بني، فديني دينُك؛ قال: فقلت: فاذهب فاغتسل وطهر ثيابك، ثم تعال حتى
أعلمك ما علمت. قال: فذهب فاغتسل، وطهر ثيابه. قال: ثم جاء فعرضت عليه
الإسلام، فأسلم.
قال: ثم أتتني صاحبتي، فقلتُ: إليك عني، فلستُ منك ولستِ مني؟ قالت:
لم؟ بأبي أنت وأمي؟ قال: قلت: قد فرق بيني وبينَك الإِسلامُ، وتابعتُ
دينَ محمد -صلى الله عليه وسلم- قالت: فديني دينك؛ قال: قلت: فاذهبي
إلى حِنَا ذِي الشَّرَى -قال ابن هشام: ويقال: حِمَى ذي الشَّرَى-
فتطهري منه.
قال: وكان ذو الشرى صنمًا لدوس، وكان الحمى حمى حموه له، وبه وَشَل3 من
ماء يهبط من جبل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الثنية: ما انفرج بين الجبلين.
2 الحاضر: القبيلة النازلة على الماء.
3 الوشل: الماء القليل.
ج / 2 ص -24-
قال:
فقالت: بأبي أنت وأمي، أتخشى على الصِّبْية من ذي الشرى شيئًا؟ قال:
قلت: لا، أنا ضامن لذلك، فذهبتْ فاغتسلت، ثم جاءت فعرضتُ عليها
الإِسلام، فأسلمت.
ثم دعوت دَوْسًا إلى الإِسلام، فأبطئوا عليَّ، ثم جئت رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- بمكة فقلت له: يا نبي الله، إنه قد غلبني على دوس
الزِّنا، فادعُ الله عليهم؟ فقال: اللهم اهدِ دوسًا، ارجع إلى قومك
فادعهم وارفق بهم. قال: فلم أزل بأرض دوس أدعوهم إلى الإِسلام حتى هاجر
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، ومضى بدر وأحد والخندق،
ثم قدمت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمن أسلم معي من قومي،
ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- بخيبر، حتى نزلت المدينة بسبعين أو
ثمانين بيتًا من دَوْس، ثم لحقنا برسول الله -صلى الله عليه وسلم-
بخيبر، فأسهم لنا مع المسلمين.
ثم لم أزل مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى إذا فتح الله عليه
مكة، قال: قلت يا رسول الله، ابعثني إلى ذي الكفين، صنم عَمرو بن
حُمَمة حتى أحرقه.
إحراق صنم ذي الكفين: قال ابن إسحاق: فخرج إليه، فجعل طفيل يوقد عليه
النار ويقول:
يا ذا الكفين لستُ من عبادِكا
ميلادُنا أقدمُ من ميلادِكا2
إني حشوتُ النارَ في فؤادِكا
قال: ثم رجع إلى رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- فكان معه بالمدينة حتى قبض اللهُ رسولَه
-صلى الله عليه وسلم- فلما ارتدت العرب، خرج مع المسلمين، فسار معهم
حتى فرغوا من طُلَيْحة، ومن أرض نجد كلها. ثم سار مع المسلمين إلى
اليمامة، ومعه ابنه عمرو بن الطفيل، فرأى رؤيا وهو متوجه إلى اليمامة،
فقال لأصحابه: إني قد رأيت رؤيا فاعبرُوها لي، رأيت أن رأسي حُلق، وأنه
خرج من فمى طائر، وأنه لقيتني امرأة فأدخلتني في فرجِها، وأرى ابني
يطلبني حثيثًا ثم رأيته حُبس عني؛ قالوا: خيرًا؛ قال: أما أنا والله
فقد أولتها: قالوا: ماذا؟ قال: أما حلق رأسي فوضعه، وأما الطائر الذي
خرج من فمي فروحي، وأما المرأة التي أدخلتني فرجها فالأرض تُحفر لي،
فأغيب فيها، وأما طلب ابني إياي ثم حبسه عني، فإني أراه سيجهد أن يصيبه
ما أصابني. فقُتل رحمه الله شهيدًا باليمامة، وجرح ابنه جراحة شديدة،
ثم استبل3 منها، ثم قتل عام اليرموك في زمن عمر رضي الله عنه شهيدًا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الزنا: لهو مع شغل القلب.
2 خفف الكفين لضرورة الشعر.
3 استبل: شفى.
ج / 2 ص -25-
قصة أعشى بني قيس بن ثعلبة:
قدومه على الرسول ومدحه: قال ابن هشام: حدثني خلاد بن قُرَّة بن خالد
السُّدوسي وغيره من مشايخ بكر بن وائل من أهل العلم: أن أعشى بني قيس
بن ثعلبة بن عُكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل، خرج إلى رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- يريد الإسلام، فقال يمدح رسول الله -صلى الله
عليه وسلم:
ألم تغتمضْ عيناك ليلةَ أرمدَا
وبِتَّ كما بات السليمُ مُسهَّدَا1
وما ذاك من عشقِ النساءِ وإنما
تناسيتَ قبلَ اليوم خلةَ مهدداَ2
ولكن أرى الدهرَ الذي هو خائن
إذا أصلحتْ كفاي عاد فأفسدَا
كُهولًا وشبانا فقدت وثروة
فللّهِ هذا الدهرُ كيف ترددَا
وما زلت أبغي المالَ مذ أنا يافع
وليدًا وكهلًا حين شبتُ وأمْردَا
وأبتذلُ العِيسَ المراقيلَ تُغْتلي
مسافةَ ما بينَ النُّجَيْر فصَرْخَدا3
ألا أيهذا السائلي أين يَمَّمتْ
فإن لها في أهلِ يثربَ مَوْعدَا
فإن تسألي عني فيا رُبّ سائلٍ
حَفِي عن الأعشى به حيثُ أصعدا
أجدَّتْ برجليها النجاءَ وراجعتْ
يداها خِنافًا لينًا غيرَ أحْردَا4
وفيها إذا ما هجَّرَت عَجْرَفِيَّة
إذا خِلْتَ حَرْباءَ الظهيرةِ أصْيدَا5
فآليتُ لا أرثي لها من كُلالةٍ
ولا من حَفى حتى تُلاقي محمدَا6
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الأرمد: من يشتكي الرمد. والسليم: الملدوغ، والمسهد الذي منع من
النوم.
2 مهدد: اسم امرأة.
3 العيس: نوع من الإبل البيض التي تخالطها حمرة. والمراقيل: السريعة.
وتغتلي: تتسابق.. والنجير والصرخة: مكانان بعينهما.
4 والنجاء: ضرب من السرعة. والخناف: لوي يديها في السير نشاطًا والأجرد
الذي يبطئ في السير.
5 هجرت: مشت في الهاجرة وهي الظهيرة. والعجرفية: التي لا تهاب شيئًا.
والحرباء: دويبة يدور وجهها مع الشمس أنا دارت والأصيد: المائل العنق.
6 أرثى: أشفق.
ج / 2 ص -26-
متى ما تُنَاخِي عندَ بابِ ابنَ هاشم
تُراحي وتَلْقَى من فواضلِه نَدَى
نبيًّا يرى ما لا تروْن وذِكْرُه
أغار لَعَمْرِي في البلادِ وأنْجدَا
له صدقات ما تغِبُّ ونائِل
وليس عطاءُ اليومِ مانعَه غدَا
أجِدُّك لم تسمعْ وَصَاةَ محمدٍ
نبيّ الإِلهِ حيثُ أوْصَى وأشْهدَا
إذا أنت لم ترحلْ بزادٍ من التُّقَى
وِلاقيْتَ بعدَ الموتِ من قَد تَزَوَّدَا
ندمتَ على ألا تكونَ كمثلِه
فتُرْصِدُ للموتِ الذي كان أرْصَدا1
فإياك والميتَاتِ لا تقربنَّها
ولا تأخذَنْ سهمًا حديدًا لتُفْصِدَا
ولا النَّصَب المنصوب لا تنسكُنَّه
ولا تعبد الأوثانَ والله فاعبدا2
ولا تَقْرَبنْ حُرَّةً كان سِرُّها
عليك حرامًا فانْكَحَنْ أو تأبدَا3
وذا الرحِمِ القُرْبَى فلا تَقْطعَنَّه
لعاقبةٍ ولا الأسير المقيَّدَا
وسبِّح على حينِ العشياتِ والضُّحَى
ولا تَحْمَدِ الشيطانَ والله فاحمدَا
ولاتسْخرَنْ من بائسٍ ذي ضَرارَةٍ
ولا تحسَبَنَّ المالَ للمرءِ مُخلِدَا4
نهاية
الأعشى: فلما كان بمكة أو قريبًا منها، اعترضه بعضُ المشركين من قريش،
فسأله عن أمره فأخبره أنه جاء يريد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
ليسلم، فقال له: يا أبا بصير، إنه يحرِّم الزنا، فقال الأعشى: والله إن
ذلك لأمر ما لي فيه من أرَب، فقال له: يا أبا بصير، فإنه يحرم الخمر،
فقال الأعشى: أما هذه فوالله إن في النفس منها لعُلالات، ولكني منصرف
فأتروَّى منها عامي هذا، ثم آتيه فأسْلم5، فانصرف فمات في عامه ذلك،
ولم يَعُدْ إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أرصد: أعد.
2 وقف على النون الخفيفة بالألف ولذلك كتبت في الخط بالألف والوقف
عليها بالألف وقيل إنه لم رد النون الخفيفة، وإنما خاطب الواحد بخطاب
الاثنين.
3 تأبد: بعد عن النساء.
4 ضرارة ضرورة.
5 قال السهيلي: وهذه غفلة من ابن هشام، ومن قال بقوله: فإن الناس
مجمعون على أن الخمر لم ينزل تحريمها إلا بالمدينة بعد أن مضت بدر
وأحد، وحرمت في سورة المائدة، وهي من آخر ما نزل؛ وفي الصحيحين من ذلك
قصة حمزة حين شربها، وغنته القينتان: ألا يا حمز، للشرف النواء، فبقر
خواصر الشارفين، واجتب أسنمتها. فإن صح خبر الأعشى، وما ذكر له في
الخمر، فلم يكن هذا بمكة، وإنما كان بالمدينة، ويكون القائل له: أما
علمت أنه جرم الخمر، من المنافقين، أو من اليهود، فالله أعلم: وفي
القصيدة ما يدل على هذا قوله: فإن لها في أهل يثرب موعدًا، وقد ألفيت
للقالي رواية عن أبي عبيدة قال: لقي الأعشى عامر بن الطفيل في بلاد
قيس، وهو مقبل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فذكر له أنه يحرم
الخمر، فرجع، فهذا أولى بالصواب.
ج / 2 ص -27-
أبو
جهل يُذل للرسول: قال ابن إسحاق: وقد كان عدو الله أبو جهل بن هشام مع
عداوته لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبغضه إياه، وشدته عليه،
يُذلُّه اللهُ له إذا رآه.
أبو جهل والإِراشي:
قال ابن إسحاق: حدثني عبدُ الملك بن عبد الله بن أبي سفيان الثقفي،
وكان واعيةً، قال: قدم رجل من إِرَاش -قال ابن هشام: ويقال إراشة- بإبل
له مكة، فابتاعها منه أبو جهل فمطله بأثمانها. فأقبل الإراشي حتى وقف
على نادٍ من قريش، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ناحية المسجد
جالس، فقال: يا معشر قريش، من رجل يؤديني1 على أبي الحكم بن هشام فإني
رجل غريب، ابن سبيل، وقد غلبني على حقي؟ قال: فقال له أهل ذلك المجلس:
أترى ذلك الرجل الجالس –لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم يهزءون به
لما يعلمون ما بينه وبين أبي جهل من العداوة- اذهب إليه فإنه يؤديك
عليه.
فأقبل الإراشي حتى وقف على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا
عبد الله إن أبا الحكم بن هشام قد غلبني على حق لي قِبَلَه، وأنا رجل
غريب ابن سبيل، وقد سألت هؤلاء القوم عن رجل يؤديني عليه، يأخذ لي حقي
منه، فأشاروا لي إليك، فخذ لي حقي منه، يرحمك الله؛ قال: انطلقْ إليه،
وقام معه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلما رأوه قام معه. قالوا
لرجل ممن معهم: اتبعْه، فانظر ماذا يصنع.
قال: وخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى جاءه فضرب عليه بابه.
فقال: من هذا؟ قال: محمد، فاخرج إليَّ، فخرج إليه وما في وجهه من
رائحة2، قد انتُقع لونُه، فقال: اعط هذا الرجل حقه؛ قال: نعم، لا تبرحْ
حتى أعطيَه الذي له، قال: فدخل، فخرج إليه قال: ثم انصرف رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- وقال للإراشي: الْحَق بشأنك، فأقبل الإراشي حتى
وقف على ذلك المجلس، فقال: جزاه الله خيرًا، فقد والله أخذ لي حقي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يؤديني: يساعدني على استرداد حقي.
2 ليس فيه قطرة دم.
ج / 2 ص -28-
قال:
وجاء الرجل الذي بعثوا معه فقالوا: ويحك! ماذا رأيت؟ قال عجبًا من
العجب والله ما هو إلا أن ضرب عليه بابَه، فخرج إليه وما معه روحُه
فقال له: أعط هذا حقه فقال: نعم، لا تبرح حتى أخرج إليه حقه. فدخل فخرج
إليه بحقه، فأعطاه إياه. قال: ثم لم يلبث أبو جهل أن جاء، فقالوا:
ويلك! ما لك؟ والله ما رأينا مثل ما صنعت قطُّ! قال: ويحكم والله ما
هو. إلا أن ضرب عليَّ بابي، وسمعت صوته، فملئت رعبًا، ثم خرجت إليه،
وإن فوق رأسه لفحلًا من الإبل، ما رأيت مثل هامته، ولا قَصَرته، ولا
أنيابه لفحل قط، والله لو أبيت لأكلني.
أمر ركانة المطلبي ومصارعته النبي، صلى الله عليه وسلم:
قال ابن إسحاق: وحدثني أبي: إسحاق بن يسار قال: كان ركانة بن عبد
يزيد بن هاشم بن عبد المطلب بن عبد مناف بن أشد قريش؛ فخلا يومًا برسول
الله -صلى الله عليه وسلم- في بعض شعاب مكة، فقال له رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- ياركانة، ألا تتقي الله وتقبل ما أدعوك إليه؟ قال: إني
لو أعلم أن الذي تقول حق لاتبعتك؛ فقال له رسول الله -صلى الله عليه
وسلم: أفرأيت إن صرعتك؛ أتعلم أن ما أقول حق؟ قال: نعم قال: فقم حتى
أصارعك. قال: فقام إليه ركانة يصارعه فلما بطش به رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- أضجعه، وهو لا يملك من نفسه شيئًا، ثم قال: عد يا محمد،
فعاد فصرعه، فقال: يا محمد والله إن هذا للعجب أتصرعني؟! فقال رسول
الله -صلى الله عليه وسلم: وأعجب من ذلك إن شئت أن أريكه، إن اتقيت
الله واتبعت أمري؛ قال: ما هو؟ قال: أدعو لك هذه الشجرة التي ترى
فتأتيني، قال: ادعها، فدعاها، فأقبلت حتى وقفت بين يدي رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- قال: فقال لها ارجعي إلى مكانك. قال: فرجعت إلى
مكانها.
قال: فذهب رُكانة إلى قومه فقال: يا بني عبد مناف، ساحروا بصاحبكم أهلَ
الأرض، فوالله ما رأيت أسحر منه قَطُّ، ثم أخبرهم بالذي رأى والذي صنع.
قدوم وفد النصارى من الحبشة:
أبو جهل يحاول ردهم عن الإسلام: قال ابن إسحاق: ثم قدم على رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- وهو بمكة، عشرون رجلا أو قريب من ذلك من النصارى
حين بلغهم خبره من الحبشة. فوجدوه في المسجد، فجلسوا إليه وكلموه
وسألوه، ورجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة، فلما فرغوا من مسألة
رسول الله صلى الله عليه وسلم
ج / 2 ص -29-
عما
أرادوا دعاهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الله عز وجل وتلا
عليهم القرآن. فلما سمعوا القرآن فاضت أعينهم من الدمع، ثم استجابوا
لله، وآمنوا به وصدقوه، وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره،
فلما قاموا عنه اعترضهم أبو جهل بن هشام في نفر من قريش فقالوا لهم:
خيبكم الله من ركب! بعثكم مَن وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم لتأتوهم
بخبر الرجل، فلم تطمئن مجالسُكم عندَه، حتى فارقتم دينَكم وصدقتموه بما
قال، ما نعلم ركْبًا أحمق منكم. أو كما قالوا. فقالوا لهم: سلام عليكم،
لا نجاهلكم، لنا ما نحن عليه، ولكم ما أنتم عليه، لم نألُ أنفسَنا
خيرًا.
ويقال: إن النفر من النصارى من أهل نجران، فالله أعلم أي ذلك كان.
فيقال والله أعلم فيهم نزلت هؤلاء الآيات:
{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ
يُؤْمِنُونَ، وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ
الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ}
[القصص: 52، 53]. إلى قوله:
{لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا
نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ}
[القصص: 55].
قال ابن إسحاق: وقد سألت ابنَ شهاب الزهريَّ عن هؤلاء الآيات فيمن
أنزلن فقال لي: ما أسمع من علمائنا أنهن أنزلن في النجاشي وأصحابه.
والآية من سورة المائدة من قوله:
{ذَلِكَ
بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا
يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة: 82]. إلى قوله:
{فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة: 83].
قال ابن إسحاق: وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا جلس في
المسجد، فجلس إليه المستضعفون من أصحابه: خَبَّاب، وعمار، وأبو فَكيهة
يسار مولى صفوان بن أمية بن مُحرّث، وصُهَيب، وأشباههم من المسلمين،
هزئت بهم قريش، وقال بعضهم لبعض: هؤلاء أصحابه، كما ترون؟ أهؤلاء مَنَّ
اللهُ عليهم من بيننا بالهدى والحق! لو كان ما جاء به محمد خيرًا ما
سبقنا هؤلاء إليه، وما خصهم الله به دوننا، فأنزل الله تعالى فيهم:
{وَلا
تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ
يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا
مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ
الظَّالِمِينَ، وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا
أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللهُ
بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ، وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ
بِآياتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ
الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ
تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم -فيما بلغني- كثيرًا ما يجلس عند
المروة إلى مَبْيَعة غلام نصراني، يقال له: جبر، عبد لبني الحضرمي،
فكانوا يقولون: والله ما يعلم محمدًا كثيرًا
ج / 2 ص -30-
مما
يأتي به إلا جبر النصراني، غلام بني الحَضْرمي، فأنزل الله تعالى في
ذلك من قولهم: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا
يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ
وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ}.[النحل: 103].
قال ابن هشام: يُلحِدون إليه: يميلون إليه. والإلحاد: الميل عن الحق.
قال رؤبة بن العَجَّاج:
إذا تَبع الضحاكَ كُلُّ مُلْحِدِ
قال ابن هشام: يعني الضحاك الخارجي، وهذا البيت في أرجوزة له.
سبب نزول سورة الكوثر
قال ابن إسحاق: وكان العاص بن وائل السَّهْمي فيما بلغني إذا ذُكر رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- قال: دعوه فإنما هو رجل أبتر لا عَقِب له لو
مات لانقطع ذكرُه واسترحتم منه، فأنزل الله في ذلك: {إِنَّا
أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: 1] ما هو خير لك من الدنيا وما
فيها والكوثر: العظيم.
معنى الكوثر: قال ابن إسحاق: قال لَبيد بن ربيعة الكلابي:
وصاحبُ مَلْحوبٍ فُجعنا بيومِه
وعندَ الرداعِ بيتُ آخر كوثر
يقول: عظيم.
قال ابن هشام: وهذا البيت في قصيدة له. وصاحبُ ملحوبٍ: عوف بن الأحوص
بن جعفر بن كلاب، مات بملحوب. وقوله: "وعند الرداع بيت آخر كوثر": يعني
شُرَيح بن الأحْوص بن جعفر بن كلاب، مات بالرّداع. وكوثر: أراد:
الكثير. ولفظه مشتق من لفظ الكثير. قال الكُميت بن زيد يمدح هشام بن
عبد الملك بن مروان:
وأنت كثير يابنَ مروان طيب
وكان أبوك ابنَ العقائل كوْثرا
ج / 2 ص -31-
وهذا
البيت في قصيدة له. وقال أمية بن أبي عائذ الهُذلي يصف حمار وحش:
يُحامي الحَقيقَ إذا ما احتدَمْن
وحَمْحَمْنَ في كوثر كالجِلال1
يعني بالكوثر: الغبار
الكثير، شبهه لكثرته عليه بالجلال. وهذا البيت في قصيدة له.
قال ابن إسحاق: حدثني جعفر بن عمرو قال ابن هشام: هو جعفر بن عمرو بن
أمية الضمْري عن عبد الله بن مسلم أخي محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن
أنس بن مالك قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل له يا رسول
الله: ما الكوثر الذي أعطاك الله؟ قال:
"نهر كما
بين صنعاء إلى أيْلة، آنيته كعدد نجوم السماء، ترده طيور لها أعناق
كأعناق الإبل". قال: يقول عمرُ بن الخطاب: إنها يا رسول الله لناعمة، قال: آكلُها
أنعم منها.
قال ابن إسحاق: وقد سمعت في هذا الحديث أو غيره أنه قال صلى الله عليه
وسلم: من شرب منه لا يظمأ أبدًا.
نزول:
{وَقَالُوا
لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ}
[الأنعام: 8].
قال ابن إسحاق: ودعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قومَه إلى
الإِسلام، وكلمهم فأبلغ إليهم، فقال زَمَعَة بن الأسود، والنضْر بن
الحارث، والأسود بن عبد يَغوث، وأبيُّ بن خلف، والعاص بن وائل: لو جُعل
معك يا محمد مَلَك يحدث عنك الناس ويُرَى معك! فأنزل الله تعالى في ذلك
من قولهم:
{وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا
مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ، وَلَوْ جَعَلْنَاهُ
مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا
يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 8، 9].
نزول:
{وَلَقَدِ
اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ}.
قال ابن إسحاق: ومر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما بلغني بالوليد
بن المغيرة، وأمية بن خلف وبأبي جهل بن هشام، فهمزوه واستهزءوا به،
فغاظه ذلك. فأنزل الله تعالى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الحقيق: ما يجب أن يحميه الإنسان ويريد هنا حماية أتنه، والاحتدام
سرعة الجري. والجلال: ما تلبسه الدواب لحمايتها.
ج / 2 ص -32-
عليه
في ذلك من أمرهم:
{وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ
سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}
[الأنعام: 10].
ذكر الإِسراء والمعراج:
قال ابن هشام: حدثنا زياد بن عبد الله البكائي، عن محمد بن إسحاق
المطلبي قال: ثم أسْري برسول الله -صلى الله عليه وسلم- من المسجد
الحرام إلى المسجد الأقصى، وهو بيت المقدس من إيلياء وقد فشا الإسلام،
بمكة في قريش، وفي القبائل كلها.
قال ابن إسحاق: كان من الحديث فيما بلغني عن مَسراه صلى الله عليه
وسلم، عن عبد الله بن مسعود، وأبي سعيد الخدري، وعائشة زوج النبي -صلى
الله عليه وسلم- ومعاوية بن أبي سفيان، والحسن بن أبي الحسن البصري،
وابن شهاب الزهري، وقتادة وغيرهم من أهل العلم وأم هانئ بنت أبي طالب،
ما اجتمع في هذا الحديث، كل يحدِّث عنه بعض ما ذكر من أمرِه حين أسرى
به صلى الله عليه وسلم، وكان في مسراه، وما ذكر عنه بلاء وتمحيص، وأمْر
من أمر الله عز وجل في قدرته وسلطانه، فيه عِبرة لأولي الألباب، وهدى
ورحمة وثبات لمن آمن وصدق، وكان من أمر الله سبحانه وتعالى على يقين،
فأسرى به سبحانه وتعالى كيف شاء، ليريه من آياته ما أراد، حتى عاين ما
عاين من أمره وسلطانه العظيم وقدرتِه التي يَصنعُ بها ما يريد.
رواية ابن مسعود عن الإسراء: فكان عبد الله بن مسعود فيما بلغني عنه
يقول:
أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالبراق وهى الدابة التي كانت
تُحمل عليها الأنبياء قبلَه، تضع حافرَها في منتهى طرفِها فحُمل عليها،
ثم خرج به صاحبُه، يرى الآياتِ فيما بين السماءِ والأرض، حتى انتهى إلى
بيت المقدس، فوجد فيه إبراهيمَ الخليل وموسى وعيسى في نفر من الأنبياء
قد جُمعوا له، فصلى بهم. ثم أتي بثلاثة آنية، إناء فيه لبن، وإناء فيه
خمر، وإناء فيه ماء. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"فسمعت قائلا
يقول حين عُرضتْ علي: إن أخذ الماء غرق وغرقت أمتُه، وإن أخذ الخمر
غَوي وغَوتْ أمتُه، وإن أخذ اللبن هُدِيَ وهُديت أمتُه". قال: "فأخذتُ
إناء اللبن، فشربت منه، فقال لي جبريل عليه السلام: هُديتَ وهُدِيت
أمتُك يا محمد".
رواية الحسن: قال ابن إسحاق: وحُدثت عن الحسن أنه قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم:
ج / 2 ص -33-
"بينا أنا نائم في الحِجْر، إذ جاءني جبريل، فهمزني بقدمه، فجلست فلم
أرَ شيئًا فعدت إلى مضجعي، فجاءني الثانيةَ فهمزني بقدمه، فجلست، فلم
أر شيئًا، فعدت إلى مضجعي فجاءني الثالثة فهمزني بقدمه، فجلست، فأخذ
بعضدي، فقمت معه، فخرج بي إلى باب المسجد فإذا دابة أبيض، بين البغل
والحمار، في فخذيه جناحان يحفز1 بهما رجله، يضع يده في منتهى طرفه،
فحملني عليه، ثم خرج معي لا يفوتني ولا أفوته".
رواية قتادة: قال ابن إسحاق: وحُدثتُ عن قتادة أنه قال: حُدثت أن رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- قال:
"لما دنوت منه لأركبه شمس2، فوضع جبريل يده على مَعْرفته، ثم قال: ألا
تستحى يا براق3 مما تصنع، فوالله ما ركبك عبد للهِ قبل محمد أكرم عليه
منه". قال:
"فاستحيا حتى ارفضَّ4 عرقا، ثم قرَّ حتى ركبته".
عودة إلى رواية الحسن: قال الحسن في حديثه: فمضى رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- ومضى جبريل عليه السلام معه، حتى انتهى به إلى بيت المقدس،
فوجد فيه إبراهيم وموسى وعيسى في نفر من الأنبياء، فأمَّهم رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- فصلى بهم، ثم أتي بإناءين، في أحدهما خمر، وفى
الآخر لبن. قال: فأخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إناء اللبن، فشرب
منه، وترك إناء الخمر. قال: فقال له جبريل: هُديت للفطرة، وهُديَتْ
أمتك يا محمد، وحُرمت عليكم الخمر. ثم انصرف رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- إلى مكة، فلما أصبح غدا على قريش فأخبرهم الخبر. فقال أكثر
الناس: هذا والله الإِمْر5 البين، والله إن العير لتطرد، شهرًا من مكة
إلى الشام مدبرة، وشهرًا مقبلة، أفيذهب ذلك محمد في ليلة واحدة، ويرجع
إلى مكة؟! قال: فارتد كثير ممن كان أسلم، وذهب الناس إلى أبي بكر،
فقالوا له: هل لك يا أبا بكر في صاحبك، يزعم أنه قد جاء هذه الليلة بيت
المقدس وصلى فيه ورجع إلى مكة. قال: فقال لهم أبو بكر: إنكم تكذبون
عليه؛ فقالوا: بلى، ها هو ذاك في المسجد يحدث به
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الحفز: الدفع.
2 شمس: حرن.
3 وإنما نفر لبعد عهد البراق بركوب الأنبياء.
4 ارفضّ: سال.
5 الإمر: العجيب.
ج / 2 ص -34-
الناس؛
فقال أبو بكر: والله لئن كان قاله لقد صدق، فما يعجبكم من ذلك! فوالله
إنه ليخبرني أن الخبر ليأتيه من السماء إلى الأرض في ساعة من ليل أو
نهار فأصدقه، فهذا أبعد مما تعجبون منه، ثم أقبل حتى انتهى إلى رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا نبي الله. أحدَّثت هؤلاء القوم أنك
جئت بيت المقدس هذه الليلة؟ قال:
"نعم"؛
قال: يا نبي الله، فصفه لي، فإني قد جئته قال الحسن: فقال رسول الله
-صلى الله عليه وسلم:
"فرفع لي حتى نظرت إليه" فجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصفه لأبي بكر، ويقول أبو
بكر: صدقت، أشهد أنك رسول الله، كلما وصف له منه شيئًا، قال صدقت، أشهد
أنك رسول الله، حتى إذا انتهى، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
لأبي بكر: وأنت يا أبا بكر الصِّدِّيقُ؛ فيومئذ سماه الصديق.
قال الحسن: وأنزل الله تعالى فيمن ارتد عن إسلامه لذلك:
{وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً
لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ
وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا} [الإسراء: 60].
فهذا حديث الحسن عن مَسرَى رسول الله، صلى الله عليه وسلم. وما دخل فيه
من حديث قتادة.
رواية عائشة: قال ابن إسحاق: وحدثني بعض آل أبي بكر: أن عائشة زوج
النبي -صلى الله عليه وسلم- كانت تقول: ما فقد جسد رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- ولكن الله أسرى بروحه.
رواية معاوية: قال ابن إسحاق: وحدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن
الأخنس: أن معاوية بن أبي سفيان، كان إذا سئل عن مسرى رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- قال: كانت رؤيا من الله تعالى صادقة.
الإسراء رؤيا: فلم ينكر ذلك من قولهما، لقول الحسن: إن هذه الآية نزلت
في ذلك، قول الله تبارك وتعالى:
{وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً
لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60]، ولقول الله تعالى في الخبر عن إبراهيم عليه السلام
إذ قال لابنه:
{يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات: 102] ثم مضى على ذلك. فعرفت أن الوحي من الله يأتي
الأنبياء أيقاظًا ونيامًا.
قال ابن إسحاق: وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما بلغني يقول:
تنام عيناي وقلبي يقظان. والله أعلم أي ذلك كان قد جاءه، وعاين فيه ما
عاين، من أمر الله، على أي حاليه كان نائمًا، أو يقظان، كل ذلك حق
وصدق.
ج / 2 ص -35-
وصفه
صلى الله عليه وسلم إبراهيم وموسى وعيسى: قال ابن إسحاق: وزعم الزهري
عن سعيد بن المسيب أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصف لأصحابه
إبراهيمَ وموسى وعيسى حين رآهم في تلك الليلة، فقال:
"أما إبراهيمُ،
فلم أر رجلًا أشبه قط بصاحبكم، ولا صاحبكم أشبه به منه؛ وأما موسى فرجل
آدم طويل ضرب جعد أقنى1 كأنه من رجال شنوءة2؛ وأما عيسى ابن مريم، فرجل
أحمر، بين القصير والطويل، سبط الشعر، كثير خيلان3 الوجه، كأنه خرج من
ديماس4: تخال رأسه يقطر ماء، وليس به ما أشبه رجالكم به عروة بن مسعود
الثقفي".
علي يصف الرسول صلى الله عليه وسلم: قال ابن هشام: وكانت صفة رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- فيما ذكر عمر مولى غفرة عن إبراهيم بن محمد بن
علي بن أبي طالب قال: كان علي بن أبي طالب عليه السلام: إذا نعت رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- قال: لم يكن بالطويل الممغَّط5، ولا القصير
المتردِّد، وكان رَبْعة من القوم، ولم يكن بالجعْد القطط6 ولا السبط:
كان جعدًا رجلًا7، ولم يكن بالمطهَّم8 ولا المكلثم9. وكان أبيض مشربا:
أدعج10 العينين، أهدب الأشفار11، جليل المشاش والكتد12، دقيق
المسربة13، أجرد14، شثن15 الكفين والقدمين: إذا مشى. تقلع16، كأنما
يمشى في صبب، وإذا التفت التفت معًا. بين كتفيه خاتم النبوة، وهو خاتم
النبيين. أجود الناس كفا، وأجرأ الناس صدرًا، وأصدق الناس لهجة، وأوفى
الناس ذمة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرة، من رآه بديهة هابه، ومن خالطه
أحبه، يقول ناعته: لم أر قبله ولا بعده مثله، صلى الله عليه وسلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الضرب: خفيف اللحم والجعد المتكسر الشعر والأقنى المرتفع الأنف.
2 شنوءة: قبيلة.
3 الخيلان: الشامات السوداء.
4 الديماس: الحمام.
5: الممغط: الممتد.
6 القطط: الشديد خشونة الشعر.
7 رجلا: مسرح الشعر.
8 المطهم: كثير اللحم.
9 المكلثم: المستدير الوجه.
10 الدعج: سواد العيون.
11 أهدب الأشفار: طويلها.
12 المشاش: عظام رءوس المفاصل والكتد ما بين الكتفين.
13 المسربة: الشعر الممتد من الصدر إلى السرة.
14 الجرد: قلة شعر الجسم.
15 شثن: غليظ.
16 تقلع لم يثبت قدميه.
ج / 2 ص -36-
رواية
أم هانئ عن الإسراء: قال محمد بن إسحاق: وكان فيما بلغني عن أم هانئ
بنت أبي طالب رضي الله عنها، واسمُها هند، في مسرى رسول الله -صلى الله
عليه وسلم: أنها كانت تقول ما أسري برسول الله -صلى الله عليه وسلم-
إلا وهو في بيتي: نائم عندي تلك الليلة في بيتي، فصلى العشاء الآخرة،
ثم نام ونمنا، فلما كان قبيل الفجر أهبَّنا1 رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- فلما صلى الصبح وصلينا معه، قال: يا أم هانئ، لقد صليت معكم
العشاء الآخرة كما رأيت بهذا الوادي، ثم جئت بيت المقدس فصليت فيه، ثم
صليت صلاة الغداة معكم الآن كما ترين، ثم قام ليخرج، فأخذت بطرف ردائه،
فتكشف عن بطنه كأنه قبطية2 مطوية، فقلت له: يا نبي الله: لا تحدث بهذا
للناس فيكذبوك ويؤذوك؛ قال: والله لأحدثنهموه. قالت: فقلت لجارية لي
حبشية: ويحك اتبعي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى تسمعي ما يقول
للناس، وما يقولون له. فلما خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى
الناس أخبرهم، فعجبوا وقالوا: ما آية ذلك يا محمد؟ فإنا لم نسمع بمثل
هذا قط؛ قال:
"آية ذلك
أني مررت بعير بني فلان بوادي كذا وكذا، فأنفرهم حس الدابة، فندَّ لهم
بعير، فدللتهم عليه، وأنا متوجه إلى الشام ثم أقبلت حتى إذا كنت
بضجنان3 مررت بعير بني فلان: فوجدت القوم نيامًا، ولهم إناء فيه ماء قد
غطوا عليه بشيء، فكشفت غطاءه وشربت ما فيه. ثم غطيت عليه كما كان؛ وآية
ذلك أن عيرهم الآن يصوِّب4 من البيضاء، ثنية التنعيم، يقدمها جمل أورق،
عليه غرارتان: إحداهما سوداء، والأخرى برقاء". قالت: فابتدر القوم الثنية فلم يلقهم أول من الجمل5 كما وصف لهم،
وسألوهم عن الإناء فأخبروهم أنهم وضعوه مملوءًا ماءً ثم غطوه، وأنهم
هبوا فوجدوه مغصَّ كما غطوه، ولم يجدوا فيه ماء. وسألوا الآخرين وهم
بمكة، فقالوا: صدق والله، لقد أنفرنا في الوادي الذي ذكر، وندّ لنا
بعير فسمعنا صوت رجل يدعونا إليه، حتى أخذناه.
قصة المعراج:
الرسول -صلى الله عليه وسلم- يصعد إلى السماء الأولى: وقال ابن إسحاق:
وحدثني من لا أتهم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لما فرغت مما
كان في بيت المقدس، أتي بالمعراج، ولم أر شيئًا قط أحسن منه: وهو الذي
يمد إليه ميتكم عينيه إذا حُضر؟ فأصعدني صاحبي فيه؛ حتى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أيقظنا.
2 القبطية: ثياب تنسج بمصر من الكتان.
3 جبل يبعد عن مكة حوالي 40 كيلو متر.
4 يصوب: ينزل. البيضاء: مكان قرب مكة.
5 أي كان الجمل المذكور أول ما لقيهم.
ج / 2 ص -37-
انتهى بي
إلى باب من أبواب السماء، يقال له: باب الحفظة، عليه ملك من الملائكة،
يقال له: إسماعيل، تحت يديه اثنا عشر ألف ملك، تحت يدي كل ملك منهم
اثنا عشر ألف ملك"، قال: يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين حَدَّث بهذا
الحديث:
{وَمَا
يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ}
[المدثر: 31]
"فلما دُخل بي قال: من هذا
يا جبريل؟ قال: محمد. قال: أوَقد بُعث؟ قال: نعم. قال: فدعا لي بخير:
وقاله".
صفة مالك خازن النار:
قال ابن إسحاق: وحدثني بعض أهل العلم عمن حدثه عن رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- أنه قال:
"تلقتني
الملائكة حين دخلت السماء الدنيا، فلم يلقني ملك إلا ضاحكًا مستبشرًا،
يقول خيرًا ويدعو به حتى لقيني ملك من الملائكة، فقال مثل ما قالوا،
ودعا بمثل ما دعوا به، إلا أنه لم يضحك، ولم أر منه البشر مثل ما رأيت
من غيره، فقلت لجبريل: يا جبريل من هذا الملك الذي قال لي كما قالت
الملائكة ولم يضحك، ولم أر منه من البشر مثل الذي رأيت من غيره؟" قال:
"فقال لي جبريل: أما إنه لو ضحك إلى أحد كان قبلك، أو كان ضاحكًا إلى
أحد بعدك، لضحك إليك، ولكنه لا يضحك، هذا مالك صاحب النار".
من صفات جهنم أعاذنا اللهّ منهما: فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم:
"فقلت لجبريل، وهو من الله تعالى بالمكان الذي وُصف لكم:
{مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير: 31]
ألا تأمره أن يريني النار؟ فقال: بلى، يا مالك، أرِ محمدًا النار". قال:
"فكشف عنها غطاءها"، فقال:
"ففارت وارتفعت، حتى ظننت لتأخذن ما أرى". قال:
"فقلت لجبريل يا جبريل، مره فليردها إلى مكانها". قال:
"فأمره، فقال لها: اخْبِى، فرجعتْ إلى مكانها الذي خرجت منه. فما شبهت
رجوعها إلا وقوع الظل. حتى إذا دَخلت من حيث خرجت رَد عليها غطاءَها".
قال أبو سعيد الخدري في حديثه: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:
"لما دخلت السماء الدنيا، رأيت بها رجلًا جالسًا تعرض عليه أرواح بني
آدم، فيقول لبعضها إذا عرضت عليه خيرًا ويُسَر به، ويقول: روح طيبة
خرجت من جسد طيب ويقول لبعضها إذا عُرضت عليه: أفّ، ويعبس بوجهه ويقول:
روح خبيثة خرجت من جسد خبيث". قال: "قلت من هذا يا جبريل؟ قال: هذا أبوك آدم، تُعرض عليه أرواح ذريته،
فإذا مرت به روح المؤمن منهم سر بها وقال: روح طيبة خرجت من جسد طيب.
وإذا مرت به روح الكافر منهم أنف منها وكرهها، وساءه ذلك، وقال: روح
خبيثة خرجت من جسد خبيث".
قال:
"ثم رأيت
رجالًا لهم مشافر كمشافر الإِبل، في أيديهم قطع من نار كالأنهار،
يقذفونها في أفواههم، فتخرج من أدبارهم. فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال:
هؤلاء أكلة أموال اليتامى ظلمًا".
ج / 2 ص -38-
قال:
"ثم رأيت رجالًا لهم بطون لم أر مثلها قط بسبيل آل فرعون1، يمرون عليهم
كالإِبل المهيومة2 حين يُعرضون على النار، يطئونهم لا يقدرون على أن
يتحولوا من مكانهم ذلك". قال: "قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء
أكلة الربا".
قال:
"ثم رأيت
رجالًا بين أيديهم لحم سمين طيب، إلى جنبه لحم غث منتن، يأكلون من الغث
المنتن، ويتركون السمين الطيب". قال: "قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال:
هؤلاء الذين يتركون ما أحل الله لهم من النساء، ويذهبون إلى ما حرم
الله عليهم منهن".
قال: "ثم رأيت نساء
معلقات بثديهن، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء اللاتي أدخلن على
الرجال من ليس من أولادهم".
قال ابن إسحاق: وحدثني جعفر بن عمرو، عن القاسم بن محمد أن رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- قال:
"اشتد غضب
الله على امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم، فأكل حرائبهم3، وطلع على
عوراتهم".
ثم رجع إلى حديث أبي سعيد الخدري، قال:
"ثم أصعدني إلى السماء الثانية، فإذا فيها ابنا الخالة: عيسى ابن مريم،
ويحيى بن زكريا، قال: ثم أصعدني إلى السماء الثالثة، فإذا فيها رجل
صورته كصورة القمر ليلة البدر"، قال: "قلت: من هذا يا جبريل؟ قال: هذا
أخوك يوسف بن يعقوب". قال:
"ثم أصعدني إلى السماء الرابعة، فإذا فيها رجل فسألته: من هو؟ قال: هذا
إدريس"، قال: يقول رسول الله، صلى الله عليه وسلم:
{وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا}، قال:
"ثم أصعدني إلى السماء الخامسة فإذا فيها كهل أبيض الرأس واللحية، عظيم
العثنون4، لم أر كهلا أجمل، منه"، قال: "قلت: من هذا يا جبريل؟ قال:
هذا المحبَّب في قومه هارون بن عمران".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وذلك أن آل فرعون أشد الناس عذابًا يوم القيامة. يقول الله سبحانه
وتعالى:
{أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46]
2 المهيومة: العطاش.
3 الحرائب: الأموال.
4 عظيم اللحية.
ج / 2 ص -39-
قال: "ثم أصعدني إلى السماء السادسة، فإذا فيها رجل آدم1 طويل أقنى2، كأنه
من رجال شنوءة؛ فقلت له: من هذا يا جبريل؟ قال: هذا أخوك موسى بن
عمران. ثم أصعدني إلى السماء السابعة، فإذا فيها كهل جالس على كرسي إلى
باب البيت المعمور، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، لا يرجعون فيه إلى يوم
القيامة. لم أر رجلًا أشبه بصاحبكم، ولا صاحبكم أشبه به منه"،
قال:
"قلت: من هذا يا جبريل؟
قال: هذا أبوك إبراهيم". قال:
"ثم دخل بي الجنة، فرأيت فيها جارية لعساء3 فسألتها: لمن أنت؟ وقد
أعجبتني حين رأيتها؛ فقالت: لزيد بن حارثة"،
فبشَّر بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زيد بن حارثة.
قال ابن إسحاق: ومن حديث ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبى -صلى الله
عليه وسلم- فيما بلغنى: أن جبريل لم يصعد به إلى سماء من السموات إلا
قالوا له حين يستأذن في دخولها: من هذا يا جبريل؟ فيقول: محمد؛
فيقولون: أوَقَدْ بعث إليه؟ فيقول: نعم؛ فيقولون: حيَّاه الله من أخ
وصاحب، حتى انتهى به إلى السماء السابعة، ثم انتهى به إلى ربه، ففرض
عليه خمسين صلاة في كل يوم.
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم:
"فأقبلت راجعًا، فلما مررت بموسى بن عمران، ونعم الصاحب كان لكم،
سألني: كم فُرض عليك من الصلاة؟ فقلت: خمسين صلاة كل يوم؛ فقال: إن
الصلاة ثقيلة، وإن أمتك ضعيفة، فارجع إلى ربك، فاسأله أن يخفف عنك وعن
أمتك. فرجعت فسألت ربي أن يخفف عني وعن أمتي، فوضع عني عشرًا. ثم
انصرفت فمررت على موسى فقال لي مثل ذلك؛ فرجعت فسألت ربي أن يخفف عني
وعن أمتي، فوضع عني عشرًا. ثم انصرفت فمررت على موسى، فقال لي مثل ذلك؟
فرجعت فسألت ربي فوضع عني عشرًا. ثم لم يزل يقول لي مثل ذلك، كلما رجعت
إليه، قال: فارجع، فاسأل ربك حتى انتهيت إلى أن وضع ذلك عني، إلا خمس
صلوات في كل يوم وليلة. ثم رجعت إلى موسى، فقال لي مثل ذلك، فقلت: قد
راجعت ربي وسألته، حتى استحييت منه، فما أنا بفاعل، فمن أداهن منكم
إيمانًا بهن، واحتسابًا لهن، كان له أجر خمسين صلاة".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الآدم: الأسود.
2 الأقنى: المرتفع قصبة الأنف.
3 اللعساء: من لها حمرة في شفتيها تضرب إلى السواد.
ج / 2 ص -40-
المستهزئون بالرسول وكفاية الله أمرهم:
قال ابن إسحاق: فأقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أمر الله
تعالى صابرًا محتسبًا، مؤديًا إلى قومه النصيحة على ما يلقى منهم من
التكذيب والأذى وكان عظماء المستهزئين، كما حدثني يزيد بن رومان عن
عروة بن الزبير، خمسة نفر من قومهم، وكانوا ذوي أسنان وشرف في قومهم.
من بني أسد بن عبد العُزَّى بن قُصَي بن كلاب: الأسود بن المطلب بن أسد
أبو زمعة، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما بلغني قد دعا عليه
لما كان يبلغه من أذاه واستهزائه، فقال: اللهم أعم بصره، وأثكله ولده.
ومن بني زهرة بن كلاب: الأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زهرة.
ومن بني مخزوم بن يقظة بن مرة: الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر
بن مخزوم.
ومن بني سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب: العاص بن وائل بن هشام.
قال ابن هشام: العاص بن وائل بن هاشم بن سعيد بن سهم.
ومن بني خزاعة: الحارث بن الطلاطلة بن عمرو بن الحارث بن عبد عمرو بن
ملكان.
فلما تمادوا في الشر، وأكثروا برسول الله -صلى الله عليه وسلم-
الاستهزاء، أنزل الله تعالى عليه:
{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ، إِنَّا
كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ، الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ
إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}.
ما فعل الله بالمستهزئين: قال ابن إسحاق: فحدثني يزيد بن رومان، عن
عروة بن الزبير، أو غيره من العلماء أن جبريل أتى رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- وهم يطوفون بالبيت، فقام وقام رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- إلى جنبه، فمر به الأسود بن المطلب، فرمي في وجهه بورقة خضراء
فعمي. ومر به الأسود بن عبد يغوث، فأشار إلى بطنه، فاستسقى بطنه فمات
منه حَبْنا1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الحبن: انتفاخ من داء.
ج / 2 ص -41-
ومر به
الوليد بن المغيرة، فأشار إلى أثر جرح بأسفل كعب رجله، كان أصابه قبل
ذلك بسنين، وهو يجر سبله1، وذلك أنه مر برجل من خزاعة وهو يريش نَبلا
له، فتعلق سهم من نبله بإزاره، فخدش في رجله ذلك الخدش، وليس بشيء،
فانتقض به فقتله. ومر به العاص بن وائل، فأشار إلى أخمص رجله وخرج على
حمار له يريد الطائف، فربض به على شبارقة2، فدخلت في أخمص رجله شوكة
فقتلته. ومر به الحارث بن الطلاطلة، فأشار إلى رأسه فامتخض قيحًا،
فقتله.
قصة أبي أزيهر الدوسي:
قال ابن إسحاق: فلما حضرت الوليد الوفاة دعا بنيه وكانوا ثلاثة: هشام
بن الوليد، والوليد بن الوليد، وخالد بن الوليد، فقال لهم: أي بني،
أوصيكم بثلاث، فلا تضيعوا فيهن: دمي في خزاعة فلا تطلنَّه3، والله إني
لأعلم أنهم منه براء، ولكني أخشى أن تُسَبُّوا به بعد اليوم، ورباي في
ثقيف، فلا تدعوه حتى تأخذوه، وعقري عند أبي أزيهر، فلا يفوتنكم به.
وكان أبو أزيهر قد زوجه بنتًا، ثم أمسكها عنه، فلم يدخلها عليه حتى
مات.
فلما هلك الوليد بن المغيرة وثب بنو مخزوم على خزاعة يطلبون منهم عقل
الوليد، وقالوا: إنما قتله سهم صاحبكم وكان لبني كعب حلف من بني عبد
المطلب بن هاشم فأبت عليهم خزاعة ذلك، حتى تقاولوا أشعارًا، وغلظ بينهم
الأمر وكان الذي أصاب الوليد سهمه رجلًا من بني كعب بن عمرو من خزاعة
فقال عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم:
إني زعيم أن تسيروا فتهربوا
وأن تتركوا الظهرَان تعوي ثعالبُهْ4
وأن تتركوا ماءً بجزعة أطرقا
وأن تسألوا أي الأراك أطايبه؟5
فإنا أناس لا تُطَلُّ دماؤنا
ولا يتعالى صاعدًا من نحاربه6
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فضول ثيابه.
2 شجرة عالية.
3 لا تهدرنه.
4 الزعيم الضامن والظهران واد قريب من مكة.
5 الجزعة: ما انثنى من الوادي. أطرقا: اسم لموضع.
6 تطل: تهدر.
ج / 2 ص -42-
وكانت
الظهران والأراك منازل بني كعب، من خزاعة. فأجابه الجون بن أبي الجون،
أخو بني كعب بن عمرو الخزاعي، فقال:
والله لا نُؤتَى الوليد ظُلامةً
ولما تروا يومًا تزول كواكبه
ويُصرع منكم مُسمن بعد مسمن
وتُفتح بعد الموت قسرًا مشاربه1
إذا ما أكلتم خبزكم وخزيركم
فكلكم باكي الوليد ونادبه2
ثم إن الناس ترادوا
وعرفوا إنما يخشى القوم السَّبة فأعطتهم خزاعة بعض العقل وانصرفوا عن
بعض. فلما اصطلح القوم قال الجون بن أبي الجون:
وقائلةٍ لما اصطلحنا تعجبا
لما قد حملنا للوليد وقائل
ألم تُقسموا تؤتوا الوليد ظلامة
ولما تروا يومًا كثير البلابل3
فنحن خلطنا الحرب بالسلم فاستوت
فأمَّ هواه آمنًا كل راحل
ثم لم ينته الجون بن أبي
الجون حتى افتخر بقتل الوليد، وذكر أنهم أصابوه، وكان ذلك باطلًا. فلحق
بالوليد وبولده وقومه من ذلك ما حذر، فقال الجون بن أبي الجون:
ألا زعم المغيرة أن كعبًا
بمكة منهم قدر كبير
فلا تفخر مغير أن تراها
بها يمشي المعلهج والمهير4
بها آباؤنا وبها وُلدنا
كما أرسي بمثبته ثبير5
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المسمن: الشريف الظاهر بين الناس.
2 الخزير: نوع من الحساء.
3 تؤتوا: أراد: أن تؤتوا، ومعناه: ألا تؤتوا كما جاء في التنزيل:{يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: 76] أي: ألا تضلوا والبلابل: الوساوس الفكرية.
4 المعلهج: المتردد في الإماء كأنه منحوت من أصلين: من العلج؛ لأن
الأمة: عالجة، ومن اللهج: كأن واطئ الأمة قد لهج بها. والمهير ابن
المهيرة الحرة.
5 ثبير: جبل بمكة.
ج / 2 ص -43-
وما قال المغيرةُ ذاك إلا
ليعلمَ شأنَنا أو يستثير
فإن دمَ الوليد يُطَلُّ إنا
نطل دماء أنت بها خبير
كساه الفاتك الميمون سهمًا
زعافًا وهْو ممتلئ بهير1
فخر ببطن مكة مُسلحبًّا
كأنه عند وجبته بعير
سيكفيني مطال أبي هشام
صغار جعدة الأوتار خور
قال ابن هشام: تركنا
منها بيتًا واحدًا أقذع فيه.
قال ابن إسحاق: ثم عدا هشام بن الوليد على أبي أزيهر، وهو بسوق ذي
المجاز وكانت عند أبي سفيان بن حرب عاتكة؛ بنت أبي أزيهر، وكان أبو
أزيهر رجلًا شريفًا في قومه، فقتله بعقر الوليد الذي كان عنده، لوصية
أبيه إياه، وذلك بعد أن هاجر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى
المدينة ومضى بدر، وأصيب به من أصيب من أشراف قريش من المشركين، فخرج
يزيد بن أبي سفيان، فجمع بني عبد مناف، وأبو سفيان بذي المجاز، فقال
الناس: أخفر أبو سفيان في صهره، فهو ثائر به. فلما سمع أبو سفيان بالذي
صنع ابنه يزيد –وكان أبو سفيان رجلًا حليمًا منكرًا يحب قومه حبًّا
شديدًا- انحط سريعًا إلى مكة، وخشي أن يكون بين قريش حدث في أبي أزيهر،
فأتى ابنه وهو في الحديد، في قومه من بني عبد مناف والمطيبين، فأخذ
الرمح من يده، ثم ضرب به على رأسه ضربة هدَّه منها، ثم قال له: قبحك
الله! أتريد أن تضرب قريشًا بعضَهم ببعض في رجل من دَوْس. سنؤتيهم
العَقْل إن قبلوه، وأطفئ لك الأمرَ.
فانبعث حسانُ بن ثابت يحرض في دم أبي أزَيْهر، ويعير أبا سفيان
خُفْرَته ويُجْبِنه، فقال:
غدا أهلُ ضَوْجَىْ ذى المجاز كليهما
وجار ابنِ حربٍ بالمغمَّس ما يغدُو2
ولم يمنع العيرُ الضَّروطُ ذمارَه
وما منعت مخزاةَ والدِها هندُ3
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البهير: منقطع النفس.
2 ضوجي: ما انعطف من الوادي والمغمس موضع بطريق الطائف.
3 الذمار: ما تجب رعايته. وهند بنت أبي سفيان.
ج / 2 ص -44-
كساك هشام بنُ الوليد ثيابَه
فأبْلِ وأخْلِفْ مثلَها جددًا بَعْدُ
قضى وطرًا منه فأصبح ماجدًا
وأصبحتَ رخوًا ما تُخبُّ وما تعدُو1
فلو أن أشياخًا ببدرٍ تشاهدوا
لَبَلَّ نعالَ القومِ مُعْتَبِطٌ وَرْدُ2
فلما بلغ أبا سفيان قول
حسان قال: يريد حسان أن يضرب بعضنا ببعض في رجل من دوس، بئس والله ما
ظن.
ولما أسلم أهلُ الطائف كلَّم رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- خالدُ
بنُ الوليد في ربا الوليد، الذي كان في ثقيف، لما كان أبوه أوصاه به.
قال ابن إسحاق: فذكر لي بعضُ أهلِ العلم أن هؤلاء الآيات من تحريم ما
بقي من الربا بأيدي الناس نزلن في ذلك من طلب خالد الربا:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ
مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 278] إلى آخر القصة فيها.
دوس تحاول الثأر لأبي أزيهر: ولم يكن في أبي أزيهر ثأر نعلمه، حتى حجز
الإسلام بين الناس إلا أن ضرار بن الخطاب بن مِرْداس الفِهْري خرج في
نفر من قريش إلى أرض دَوْس، فنزلوا على امرأة يقال لها أمُّ غَيْلان،
مولاة لدوس، وكانت تمشِّط النساء، وتجهِّز العرائس، فأرادت دوس قتلهم
بأبي أزيهر، فقامت دونهم أمُّ غيلان ونسوة معها، حتى منعتهم، فقال ضرار
بن الخطاب في ذلك:
جزى اللهُ عنا أمَّ غَيْلان صالحًا
ونسوَتها إذ هن شُعْثٌ عواطلُ
فهن دفعن الموتَ بعدَ اقترابِه
وقد برزتْ للثائرين المقاتلُ
دعت دعوةً دوسًا فسالت شعابُها3
بعز وأدَّتها الشَّراجُ القوابلُ4
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الخبب: ضرب من السير.
2 المعتبط الورد: الدم العبيط وهو الطري.
3 الشعاب: جمع شعب وهو مسيل الماء في الحرة.
4 الشراج: جمع شرج: مسيل الماء. والقوابل: المتقابلة.
ج / 2 ص -45-
وعَمرًا جزاه اللهُ خيرًا فما وَنَى
وما بردتْ منه لديَّ المفاصلُ فجردت
سيفى ثم قمتُ بنصلِه
وعن أيِّ نفسٍ بعدَ نفسي أقاتل
أم غيلان
وأم جميل: قال ابن هشام: حدثني أبو عبيدة: أن التي قامت دون ضرار أمّ
جميل، ويقال أم غيلان؛ قال: ويجوز أن تكون أم غيلان قامت مع أم جميل
فيمن قام دونه.
فلما قام عمر بن الخطاب أتته أم جميل، وهي ترى أنه أخوه. فلما انتسبت
له عرف القصة فقال: إني لست بأخيه إلا في الإسلام، وهو غازٍ، وقد عرفت
منَتّكَ عليه، فأعطاها على أنها ابنة سبيل.
قال الراوي: قال ابن هشام: وكان ضِرار لحق عمر بن الخطاب يوم أحد، فجعل
يضربه بعَرض الرمح ويقول: انج يابن الخطاب لا أقتلك؛ فكان عمر يعرفها
له بعد إسلامه.
وفاة أبي طالب وخديجة، وما عاناه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
بعدهما
قال ابن إسحاق: وكان النفر الذين يؤذون رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
في بيته: أبا لهب، والحَكم بن العاص بن أمية، وعُقْبة بن أبي مُعَيْط،
وعَدِي بن حمراء الثقفى، وابن الأصْداء الهذلي؛ وكانوا جيرانه لم يسلم
منهم أحد إلا الحكم بن أبي العاص، فكان أحدهم –فيما ذكر لي– يطرح عليه
-صلى الله عليه وسلم- رحِم الشاة وهو يصلي، وكان أحدهم يطرحها في
بُرْمته1 إذا نُصبت له، حتى اتخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
حِجْرًا2 يستتر به منهم إذا صلى، فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
إذا طرحوا عليه ذلك الأذى –كما حدثني عُمر بن عبد الله بن عروة بن
الزبير، عن عروةبن الزبير– يخرج به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على
العود، فيقف به على بابه، ثم يقول: يا بني عبد مناف، أي جوار هذا! ثم
يلقيه في الطريق.
قال ابن إسحاق: ثم إن خديجة بنت خويلد وأبا طالب هلكا في عام واحد،
فتتابعت على
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البرمة: القدر من الحجر.
2 الحجر كل ما حجرته من حائط ونحوه.
ج / 2 ص -46-
رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- المصائب بهُلْك خديجة، وكانت له وزير صِدْق
على الإسلام، يشكو إليها؛ وبُهلْك عمه أبي طالب، وكان له عَضَدًا
وحِرْزًا في أمره، ومَنَعة وناصرًا على قومه، وذلك قبل مُهاجره إلى
المدينة بثلاث سنين. فلما هلك أبو طالب، نالت قريش من رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- من الأذى ما لم تكن تطمع به في حياة أبي طالب، حتى
اعترضه سفيهٌ من سفهاء قريش، فنثر على رأسه ترابًا.
قال ابن إسحاق: فحدثني هشام بن عروة، عن أبيه عروة بن الزبير، قال:
لما نثر ذلك السفيه على رأس رسول -صلى الله عليه وسلم- ذلك التراب، دخل
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيته والتراب على رأسه، فقامت إليه
إحدى بناته، فجعلت تغسل عنه التراب وهي تبكي، ورسول الله -صلى الله
عليه وسلم- يقول لها:
"لا تبكى يا بنية، فإن الله مانع أباك". قال: ويقول بين ذلك:
"ما نالت مني قريش شيئًا أكرهه، حتى مات أبو طالب".
المشركون يطلبون عهدًا بينهم وبين الرسول قبل موت أبي طالب: قال ابن
إسحاق: ولما اشتكى أبو طالب، وبلغ قريشًا ثِقَلُه، قالت قريش بعضُها
لبعض: إن حمزة وعمر قد أسلما، وقد فشا أمر محمد في قبائل قريش كلِّها،
فانطلِقوا بنا إلى أبي طالب، فيأخذ لنا على ابن أخيه، وليعطِه مِنَّا،
والله ما نأمَن أن يبتزُّونا1 أمرَنا.
قال ابن إسحاق: فحدثني العباس بن عبد الله بن مَعْبد بن عباس عن بعض
أهله، عن ابن عباس، قال: مشوا إلى أبي طالب فكلموه؛ وهم أشرافُ قومه:
عُتبة بن ربيعة، وشَيْبة بن ربيعة، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف،
وأبو سفيان بن حرب، في رجال من أشرافهم فقالوا: يا أبا طالب، إنك منا
حيث قد علمتَ، وقد حضرك ما ترى، وتخوَّفْنا عليك، وقد علمتَ الذي بيننا
وبين ابن أخيك، فادْعه فخذ له منا، وخذ لنا منه، ليكفَّ عنا، ونكفَّ
عنه، وليدعَنا ودينَنَا، وندَعه ودينَه؛ فبعث إليه أبو طالب، فجاءه،
فقال: يابن أخي، هؤلاء أشرافُ قومك، قد اجتمعوا لك، ليعطوك، وليأخذوا
منك. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"نعم، كلمة واحدة تُعطونيها تملكون بها العرب، وتدين لكم بها العجم". قال: فقال أبو جهل: نعم وأبيكَ، وعشر كلمات؛ قال:
"تقولون: لا إله إلا الله، وتخلعون ما تعبدون
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ابتزه أمره: غلبه عليه.
ج / 2 ص -47-
من
دونه". قال: فصفقوا بأيديهم، ثم قالوا: أتريد يا محمد أن تجعل الآلهةَ
إلهًا واحدًا، إن أمرَك لعَجب! قال بعضهم لبعض: إنه والله ما هذا الرجل
بمعطيكم شيئًا مما تريدون، فانطلِقُوا وامضُوا على دين آبائكم، حتى
يحكم الله بينكم وبينه. قال: ثم تفرقوا.
رجاء الرسول إسلام أبي طالب: فقال أبو طالب لرسول الله -صلى الله عليه
وسلم: والله يابن أخي، ما رأيتك سألتهم شططًا، قال: فلما قالها أبو
طالب طمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في إسلامه، فجعل يقول له: "أي
عمّ، فأنت فقُلْها أستحلّ لك بها الشفاعة يومَ القيامة"، قال: فلما رأى
حِرص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عليه، قال: يابن أخي، والله لولا
مخافة السُّبَّة عليك وعلى بني أبيك من بعدي، وأن تظن قريش أني إنما
قلتها جَزعًا من الموت لقلتها، لا أقولها إلا لأسرّك بها. قال: فلما
تقارب من أبي طالب الموت قال: نظر العباس إليه يحرك شفتيه، قال: فأصغى
إليه بأذنِه، قال: فقال يابن أخى، والله لقد قال أخي الكلمة التي أمرته
أن يقولها، قال. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لم أسمعْ".
ما نزل فيمن طلبوا العهد على الرسول عند أبي طالب. قال: وأنزل الله
تعالى في الرهط الذين كانوا قد اجتمعوا إليه، وقال لهم ما قال، وردوا
عليه ما ردوا:
{ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ، بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ
وَشِقَاقٍ} [ص:
1، 2] إلى قوله تعالى:
{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ،
وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى
آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ، مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي
الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ} [ص: 57] يعنون النصارى، لقولهم:
{إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة: 73]
{إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ}
ثم هلك أبو طالب.
سعي الرسول إلى الطائف وموقف ثقيف منه:
قال ابن إسحاق: ولما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- من الأذى ما لم تكن تنال منه في حياة عمه أبي طالب، فخرج
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الطائف، يلتمس النصرة من ثقيف،
والمنعة بهم من قومه، ورجاء أن يقبلوا منه ما جاءهم به من الله عز وجل،
فخرج إليهم وحدَه.
الثلاثة الذين نزل بهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم: قال ابن إسحاق:
فحدثني يزيد بن زياد، عن محمد بن كعب القُرَظي، قال: لما انتهى رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الطائف، عَمَد إلى نفر من ثقيف، هم
يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم،
ج / 2 ص -48-
وهم
إخوة ثلاثة: عبد يَالِيل بن عَمرو بن عُمَير، ومسعود بن عَمرو بن
عُمَير، وحبيب بن عمرو بن عُمَير بن عوف بن عُقدة بن غِيَرَة بن عَوْف
بن ثقيف، وعند أحدهم امرأة من قريش من بني جُمَح، فجلس إليهم رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- فدعاهم إلى الله، وكلمهم بما جاءهم له من نصرته
على الإسلام، والقيام معه على من خالفه من قومه، فقال له أحدهم: هو
يَمْرُط1 ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك، وقال الآخر: أما وجد الله
أحدًا يرسله غيرك! وقال الثالث: والله لا أكلمك أبدًا، لئن كنت رسولًا
من الله كما تقول، لأنت أعظم خطرًا من أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت
تكذب على الله، ما ينبغي لي أن أكلمك. فقام رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- من عندهم وقد يئس من خير ثقيف، وقد قال لهم -فيما ذكر لي: "إذا
فعلتم ما فعلتم فاكتموا عني"، وكره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن
يبلغ قومه عنه، فيُذْئرهم2 ذلك عليه.
قال ابن هشام: قال عَبيد بن الأبْرص:
ولقد أتاني عن تميمٍ أنهم
ذَئِروا لقَتْلى عامر وتعصبوا
فلم يفعلوا، وأغروا به
سفهاءهم وعبيدَهم، يسبونه ويصيحون به، حتى اجتمع عليه الناس، وألجئوه
إلى حائط3 لعُتبة بن ربيعة وشَيْبة بن ربيعة، وهما فيه، ورجع عنه سفهاء
ثقيف من كان يتبعه، فعمد إلى ظل حَبَلة4 من عنب، فجلس فيه وابنا ربيعة
ينظران إليه، ويريان ما لقى من سفهاء أهل الطائف، وقد لقى رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- فيما ذكر لي، المرأة التي من بني جُمَح، فقال
لها: ماذا لقينا من أحمائك؟
فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال – فيما ذكر لي:
"اللهم إليك أشكو ضَعْفَ قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم
الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تَكِلُني؟ إلى بعيد
يتجَهَّمني5؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك عليَّ غضب فلا
أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له
الظلماتُ، وصلح عليه أمرُ الدنيا والآخرة من أن تُنزل بي غضبك، أو يحل
عليَّ سُخْطُك، لك العُتْبَى حتى ترضَى، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بك".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يمرطه: ينزعه ويرمي به.
2 يذئرهم: يثيرهم.
3 الحائط: الحديقة.
4 حبلة: شجرة العنب.
5 تجهم فلانًا: استقبله بوجه كريه.
ج / 2 ص -49-
قال:
فلما رآه ابنا ربيعة، عُتبة وشَيْبة، وما لقى، تحركت له رحمهما1،
فدعوَا غلامًا لهما نصرانيًّا، يقال له عَدَّاس، فقالا له: خذ قِطفًا
من هذا العنب، فضعه في هذا الطبق، ثم اذهب به إلى ذلك الرجل، فقل له
يأكل منه. ففعل عَدَّاس، ثم أقبل به حتى وضعه بين يديْ رسول الله -صلى
الله عليه وسلم، ثم قال له: كُلْ، فلما وضع رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- فيه يده، قال:
"باسم
الله"، ثم أكل، فنظر عَدَّاس في وجهه، ثم قال: والله إن هذا الكلام ما
يقوله أهلُ هذه البلاد، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم:
"ومن أهل أي البلاد أنت يا عَدَّاس، وما دينُك؟" قال: نصراني، وأنا رجل من أهل نِينَوى؛ فقال رسول الله -صلى الله
عليه وسلم:
"من قرية الرجل
الصالح يونس بن مَتَّى"؛ فقال
له عَدَّاس: وما يُدريك ما يونس بن مَتَّى؟ فقال رسول الله -صلى الله
عليه وسلم:
"ذاك أخي، كان نبيًّا وأنا نبي"، فأكب عَدَّاس على رسول الله -صلى الله عليه وسلم يقبل رأسه ويديه
وقدميه.
قال: يقول ابنا ربيعة أحدهما لصاحبه: أما غلامُك فقد أفسده عليك. فلما
جاءهما عَداس قالا له: ويلك يا عَدَّاس! ما لك تقبل رأس هذا الرجل
ويديه وقدميه؟ قال: يا سيدي، ما في الأرض شيء خير من هذا، لقد أخبرني
بأمر ما يعلمه إلا نبي؛ قالا له: ويحك يا عداس، لا يصرفنك عن دينك، فإن
دينَك خير من دينه.
وفد جن نصيبين: قال: ثم إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- انصرف من
الطائف راجعًا إلى مكة، حين يئس من خير ثقيف، حتى إذا كان بنَخْلة2 قام
من جوف الليل يصلي، فمر به النفر من الجن الذين ذكرهم الله تبارك
وتعالى، وهم فيما ذُكر لي سبعة نفر من جن أهل نصيبين فاستمعوا له، فلما
فرغ من صلاته وَلَّوْا إلى قومهم منذرين، قد آمنوا وأجابوا إلى ما
سمعوا، فقص الله خبرهم عليه صلى الله عليه وسلم، قال الله عز وجل:
{وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ
الْقُرْآنَ}
[الأحقاف: 29]. إلى قوله تعالى:
{وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}
[الأحقاف: 31] وقال تبارك وتعالى:
{قُلْ
أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ}. [الجن: 1]. إلى آخر القصة من خبرهم في هذه السورة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الرحم: الصلة والقرابة.
2 هناك واديان بهذا الاسم على ليلة من مكة أحدهما نخلة الشامية والثاني
نخلة اليمانية.
ج / 2 ص -50-
عرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نفسه على القبائل:
عرض نفسه في المواسم: قال ابن إسحاق: ثم قدم رسول الله صلى الله عليه
وسلم مكة: وقومه أشدُّ ما كانوا عليه من خلافِه وفراق دينه، إلا قليلًا
مستضعَفين ممن آمن به. فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يَعْرِض
نفسَه في المواسم، إذا كانت، على قبائل العرب يدعوهم إلى الله، ويخبرهم
أنه نبي مُرْسَل، ويسألهم أن يصدقوه ويمنعوه حتى يبينَ لهم ما بعثه به
الله.
قال ابن إسحاق: فحدثني من أصحابنا، من لا أتهم، عن زيد بن أسلم عن
ربيعة بن عِبَاد الدِّيَلي، أو من حدثه أبو الزناد عنه قال ابن هشام:
ربيعة بن عِبَاد.
قال ابن إسحاق: وحدثني حُسين بن عبد الله بن عُبيد الله بن عباس، قال
سمعت ربيعة بن عِبَاد، يحدثه أبي، قال: إني لغلام شاب مع أبي بمنى،
ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقف على منازل القبائل من العرب،
فيقول: يا بني فلان، إني رسول الله إليكم، يأمركم أن تعبدوا الله ولا
تشركوا به شيئًا، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد، وأن
تؤمنوا بي، وتصدقوا بي، وتمنعوني، حتى أبين عن الله ما بعثني به. قال:
وخلفه رجل أحول وضيء، له غديرتان1 عليه حلة عدنية. فإذا فرغ رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- من قوله وما دعا إليه، قال ذلك الرجل: يا بني
فلان، إن هذا إنما يدعوكم أن تسلخوا اللات والعزى من أعناقكم، وحلفاءكم
من الجن من بني مالك بن أقَيْش، إلى ما جاء به من البدعة والضلالة، فلا
تطيعوه، ولا تسمعوا منه.
قال: فقلت لأبي: يا أبت، من هذا الذي يتبعه ويرد عليه ما يقول؟ قال هذا
عمه عبد العزى بن عبد المطلب، أبو لهب.
قال ابن هشام: قال النابغة:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 غديرتان: ذؤابتان من شعر.
ج / 2 ص -51-
كأنك من جمال بني أقَيْشٍ
يُقَعْقِعُ خلفَ رجْليه بِشَن1
قال ابن
إسحاق: حدثنا ابن شهاب الزهرى: أنه أتى كِنْدة في منازلهم، وفيهم سيد
لهم يقال: مُلَيْح، فدعاهم إلى الله عز وجل، وعرض عليهم نفسه، فأبَوْا
عليه.
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن حُصين: أنه
أتى كلبًا في منازلهم، إلى بطن منهم يقال لهم: بنو عبد الله، فدعاهم
إلى الله وعرض عليهم نفسه، حتى إنه ليقول لهم: يا بني عبد الله، إن
الله عز وجل قد أحسن اسمَ أبيكم، فلم يقبلوا منه ما عرض عليهم.
قال ابن إسحاق: وحدثني بعض أصحابنا عن عبد الله بن كعب بن مالك: أن
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أتى بني حنيفة في منازلهم، فدعاهم إلى
الله وعرض عليهم نفسه، فلم يكن أحد من العرب أقبح عليهم ردًا منهم.
قال ابن إسحاق: وحدثني الزهري أنه أتى بني عامر بن صعصعة، فدعاهم إلى
الله عز وجل، وعرض عليهم نفسَه، فقال رجل منهم يقال له: بَيْحَرة بن
فراس. قال ابن هشام: فراس بن عبد الله بن سلمة الخير بن قُشَير بن كعب
بن ربيعة بن عامر بن صَعْصعة: والله، لو إني أخذت هذا الفتى من قريش،
لأكلت به العرب، ثم قال: أرأيتَ إن نحن بايعناك على أمرك، ثم أظهرك
الله على من خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال: الأمر إلى الله يضعه
حيث يشاء. قال: فقال له: أفَتُهدَف2 نحورُنا للعرب دونك، فإذا أظهرك
الله كان الأمر لغيرنا! لا حاجة لنا بأمرك؛ فأبوا عليه.
فلما صدر الناسُ رجعت بنو عامر إلى شيخ لهم، قد كانت أدركته السنُّ،
حتى لا يقدر أن يوافي معهم المواسم، فكانوا إذا رجعوا إليه حدثوه بما
يكون في ذلك الموسم، فلما قدموا عليه ذلك العام سألهم عما كان في
موسمهم، فقالوا: جاءنا فتى من قريش، ثم أحد بني عبد المطلب، يزعم أنه
نبي، يدعونا إلى أن نمنعه ونقوم معه، ونخرج به إلى بلادنا. قال: فوضع
الشيخ يديه على رأسه ثم قال: يا بني عامر، هل لها من تَلافٍ، هل
لذُنَاباها من
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الشن: القربة الخلق ويريد بالقعقعة حدوث الصوت لتفزع الإبل.
2 تهدف: تصير هدفًا يرمى عليه، والهدف الغرض.
ج / 2 ص -52-
مَطْلب1، والذي نفس فلان بيده، ما تقوَّلها إسماعيلي قط وإنها لحق،
فأين رأيكم كان عنكم.
قال ابن إسحاق: فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على ذلك من أمره،
كلما اجتمع له الناس بالموسم أتاهم يدعو القبائل إلى الله وإلى
الإِسلام، ويَعْرض عليهم نفسه، وما جاء به من الله من الهدى والرحمة،
وهو لا يسمع بقادم يقدم مكة من العرب، له اسم وشرف، إلا تصدَّى له،
فدعا إلى الله، وعرَض عليه ما عنده.
قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري، ثم الظَّفري عن
أشياخ من قومه قالوا:
قدم سُويد بن صامت، أخو بني عمرو بن عَوْف، مكة حاجًّا أو معتمرًا،
وكان سويد إنما يسميه قومه فيهم: الكامل، لجلده وشعره وشرفه ونسبه، وهو
الذي يقول:
ألا رُبَّ من تدعو صديقًا ولوترى
مقالتَه بالغيب ساءك ما يَفْري2
مقالتُه كالشهدِ ما كان شاهدًا
وبالغيبِ مأثورٌ على ثُغْرَةِ النحرِ3
يَسرك باديه وتحت أديمه
نميمةُ غش ِّتبتري عَقَبَ الظهرِ4
تُبين لك العينان ما هو كاتمٌ
من الغلِّ والبغضاءِ بالنظرِ الشَّزْرِ
فرِشْنِي بخير طالَما قد بَرَيْتَني
وخيرُ الموالي من يَريشُ ولايَبْرِي5
وهو الذي يقول ونافر
رجلا من بني سُلَيم، ثم أحد بني زِعْب بن مالك على مائة ناقة، إلى
كاهنة من كهان العرب، فقضت له، فانصرف عنها هو والسَّلَمي، ليس معهما
غيرها، فلما فرقت بينهما الطريق، قال: مالي يا أخا بني سُلَيم قال:
أبعث إليك به، قال: فمن لي بذلك إذا فُتَّني به؟ قال: كلا، والذي نفس
سُوَيد بيده، لا تفارقني حتى أوتَى بمالي، فاتَّخذا فضرب به الأرض، ثم
أوثقه رباطًا، ثم انطلق به إلى دار بني عَمرو بن عوف، فلم يزل عنده حتى
بعثت إليه سُلَيم بالذي له، فقال في ذلك:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مثل يضرب لما فات، وأصله من ذنابي الطائر إذا أفلت من حباله فطلبت
الأخذ بذناباه.
2 يفري: يختلق.
3 المأمور: السيف الموشى.
4 تبتري عقبه: تقطع ظهره.
5 يريش يقوي. وينبري يضعف.
ج / 2 ص -53-
لا تحسبنِّي يابنَ زِغْبِ بن مالك
كمن كُنت تُرْدِي بالغيوبِ وتَخْتِلُ
تحولت قِرْنا إذ صُرِعْت بعزةٍ
كذلك إن الحازمَ المتحوِّل
ضربتُ به إبْطَ الشمال فلم يزلْ
على كلِّ حالٍ خدُّه هو أسفلُ
في أشعار كثيرة كان
يقولها.
فتصدى له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين سمع به، فدعاه إلى الله
وإلى الإسلام، فقال له سُوَيد: فلعل الذي معك مثل الذي معي، فقال له
رسول الله -صلى الله عليه وسلم:
"وما الذي
معك؟" قال: مجلة لُقمان1 –يعني حكمة لقمان– فقال له رسول الله -صلى الله
عليه وسلم:
"اعرضها علي"، فعرضها عليه، فقال له:
"إن هذا لكلام حسن، والذي معي أفضل من هذا، قرآن أنزله الله تعالى
عليَّ، هو هُدى ونور"، فتلا عليه
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- القرآن، ودعاه إلى الإسلام، فلم
يَبْعُد منه، وقال: إن هذا لقول حسن، ثم انصرف عنه، فقدم المدينة على
قومه، فلم يلبث أن قتلته الخزرج، فإذا كان رجال من قومه ليقولون: إنا
لنراه قد قُتل وهو مسلم. وكان قتله قبل يوم بُعاث2.
إسلام إياس بن معاذ وقصة أبي الحيسر:
قال ابن إسحاق: وحدثني الحُصَيْن بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن
ُمعاذ، عن محمود بن لبيد، قال: لما قدم أبو الحَيْسَر، أنس بن رافع،
مكة ومعه فِتية من بني عبد الأشْهل، فيهم إياس بن معاذ، يلتمسون
الحِلْف من قريش على قومهم من الخزرج، سمع بهم رسول الله صلى الله عليه
وسلم،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مجلة لقمان، وهي الصحيفة، وكأنها مفعلة من الجلال والجلالة، أما
الجلالة فمن صفة المخلوق، والجلال من صفة الله تعالى، وقد أجاز بعضهم
أن يقال في المخلوق جلال وجلالة وأنشد:
فلا ذا جلال هبنه لجلالة
ولا ذا ضياع هن يتركن للفقر
ولقمان كان
نوبيًّا من أهل أيلة وهو لقمان بن عنقاء بن سرور فيما ذكروا وابنه الذي
ذُكر في القرآن هو ثأران فيما ذكر الزجاج وغيره، وقد قيل في اسمه غير
ذلك، وليس بلقمان بن عاد الحميري.
2 بعاث: يوم من أيام العرب كان بين الأوس والخزرج.
ج / 2 ص -54-
فأتاهم
فجلس إليهم، فقال لهم: "هل لكم في خير مما جئتم له؟" فقالوا له: وما
ذاك؟ قال: "أنا رسول الله بعثني إلى العباد، أدعوهم إلى أن يعبدوا الله
ولا يشركوا به شيئًا، وأنزل عليَّ الكتاب". قال: ثم ذكر لهم الإسلام،
وتلا عليهم القرآن. قال: فقال إياس بن معاذ، وكان غلامًا حدثًا: أي
قوم، وهذا والله خيرٌ مما جئتم له. قال: فيأخذ أبو الحَيْسر، أنس بن
رافع، حفنة من تراب البطحاء، فضرب بها وجه إياس بن مُعاذ، وقال: دَعْنا
منك فلَعَمْري لقد جئنا لغير هذا. قال: فصمت إياس، وقام رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- عنهم، وانصرفوا إلى المدينة، وكان وقعة بُعاث بين
الأوس والخزرج.
قال: ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن هلك. قال محمود بن لبيد: فأخبرني من
حضره من قومه عند موته: أنهم لم يزالوا يسمعونه يهلل الله تعالى ويكبره
ويحمده ويسبحه حتى مات، فما كانوا يشكون أن قد مات مسلمًا، لقد كان
استشعر الإسلام في ذلك المجلس، حين سمع من رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- ما سمع.
إسلام الأنصار:
قال ابن إسحاق: فلما أراد الله عز وجل إظهار دينه، وإعزاز نبيه -صلى
الله عليه وسلم- وإنجاز موعده له، خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
في الموسم الذي لقيه فيه النفر من الأنصار فعرض نفسه على قبائل العرب،
كما كان يصنع في كل موسم. فبينما هو عند العقبة لقي رهطًا من الخزرج
أراد الله بهم خيرًا.
قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بن قَتادة، عن أشياخ من قومه قالوا:
لما لقيهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لهم:
"من أنتم؟"
قالوا نفر من الخزرج، قال: "أمن موالي
يهود؟" قالوا: نعم؛ قال:
"أفلا تجلسون أكلمكم؟"
قالوا: بلَى، فجلسوا معه، فدعاهم إلى الله عز وجل، وعرض عليهم
الإِسلام، وتلا عليهم القرآن قال: وكان مما صنع الله لهم به في
الإسلام، أن يهود كانوا معهم في بلادهم، وكانوا أهلَ كتاب وعلم، وكانوا
هم أهل شرك وأصحاب أوثان، وكانوا قد عزوهم1 ببلادهم. فكانوا إذا كان
بينهم شيء قالوا لهم: إن نبيًّا مبعوثٌ الآنَ، قد أظل زمانُه، نتبعه
فنقتلكم معه قتلَ عاد وإرَم. فلما كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 عزوهم: غلبوهم.
ج / 2 ص -55-
أولئك
النفر، ودعاهم إلى الله، قال بعضهم لبعض: يا قوم، تَعلَّموا والله إنه
للنبي الذي توعدكم به يهود، فلا تسبقُنكم إليه. فأجابوه فيما دعاهم
إليه، بأن صدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإِسلام، وقالوا: إنا قد
تركنا قومَنا، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فعسى أن
يجمعهم الله بك، فسنقدم عليهم، فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي
أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك.
ثم انصرفوا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- راجعين إلى بلادهم، وقد
آمنوا وصدقوا.
أسماء من التقوا به صلى الله عليه وسلم من الخزرج: قال ابن إسحاق: وهم
فيما ذكر لي: ستة نفر من الخزرج، منهم من بني النجار وهو تَيْم الله،
ثم من بني مالك بن النجار بن ثعلبة بن عَمرو بن الخزرج بن حارثة بن
عمرو بن عامر: أسعد بن زُرارة بن عُدَس بن عُبَيْد بن ثعلبة بن غَنْم
بن مالك بن النجار، وهو أبو أمامة؛ وعوف بن الحارث بن رفاعة بن سَوَاد
بن مالك بن غُنْم بن مالك بن النجار، وهو ابن عفراء.
قال ابن هشام: وعفراء بنت عُبَيْد بن ثعلبة بن غَنْم بن مالك بن
النجار.
قال ابنِ إسحاق: ومن بني زُرَيْق بن عامر بن زُرَيْق بن عبد حارثة بن
مالك بن غضب بن جُشم بن الخزرج: رافع بن مالك بن العَجْلان بن عمرو بن
عامر بن زُرَيْق.
قال ابن هشام: ويقال عامر بن الأزرق.
قال ابن إسحاق: ومن بني سَلِمة بن سعد بن على بن ساردة بن تزيد بن
جُشَم بن الخزرج، ثم من بني سواد بن غَنْم بن كعب بن سلمة: قُطْبة بن
عامر بن حديدة بن عمرو بن غَنْم بن سَواد.
قال ابن هشام: عمرو بن سواد، وليس لسواد ابن يقال له: غَنْم.
قال ابن إسحاق: ومن بني حرام بن كعب بن غَنْم بن كعب بن سَلمة: عقبة بن
عامر بن نابي بن زيد بن حرام.
ومن بني عُبَيد بن عدي بن غَنْم بن كعب بن سَلَمة: جابر بن عبد الله بن
رئاب بن النعمان بن سنان بن عُبَيد.
فلما قدموا المدينة إلى قومهم ذكروا لهم رسولَ الله -صلى الله عليه
وسلم- ودعوهم إلى الإسلام حتى فشا فيهم، فلم يبق دار من دور الأنصار
إلا وفيها ذكر من رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
ج / 2 ص -56-
بيعة العقبة الأولى:
حتى إذا كان العام المقبل وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلًا،
فلقُوه بالعقبة: قال: وهى العقبة الأولى، فبايعوا رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- على بيعةِ النساءِ1، وذلك قبل أن تفترض عليهم الحرب.
منهم من بني النجار، ثم من بني مالك بن النجار: أسعد بن زُرارة بن
عُدَس بن عُبَيد بن ثعلبة بن غَنْم بن مالك بن النجار، وهو أبو أمامة؛
وعوف، ومعاذ، ابنا الحارث بن رفاعة بن سَواد بن مالك بن غَنْم بن مالك
بن النجار، وهما ابنا عفراء. ومن بني زُرَيق بن عامر رافع بن مالك بن
العَجْلان بن عمرو بن عامر بن زُرَيْق، وذَكْوان بن عبد قيس بن خَلَدة
بن مُخْلِد بن عامر بن زُريْق.
قال ابن هشام: ذَكْوان، مهاجري أنصاري.
ومن بني عَوْف بن الخزرج، ثم من بني غَنْم بن عوف بن عمرو بن عوف بن
الخزرج، وهم القواقل: عُبادة بن الصامت بن قيس بن أصْرم بن فِهْر بن
ثعلبة بن غَنْم؛ وأبو عبد الرحمن،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وقد ذكر الله تعالى بيعة النساء في القرآن فقال:
{يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئًا} [الممتحنة: 12] الآية، فأراد ببيعة النساء أنهم لم يبايعوه على
القتال، وكانت مبايعته للنساء أن يأخذ عليهن العهد والميثاق، فإذا
أقررن بألسنتهن قال: قد بايعتكن، وما مسَّت يده يد امرأة في مبايعة
كذلك قالت عائشة، وقد روي أنهن كن يأخذن بيده في البيعة من فوق ثوب،
وهو قول عامر والشعبي، ذكره عنه ابن سلام في تفسيره، والأول أصح. وقيل
في قوله عز وجل في الآية السابقة خبرًا عن بيعة النساء:
{وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ} أنه الولد تنسبه إلى بعلها، وليس منه، وقيل: هو الاستمتاع بالمرأة
فيما دون الوطء كالقبلة والجسة ونحوها، والأول يشبه أن يبايع عليه
الرجال، وكذلك قيل في قوله تعالى:
{وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ}
[الممتحنة: 12] أنه النوح، وهذا أيضًا ليس من شأن الرجال، فدل على ضعف
قول من خصه بالنوح، وخص البهتان بإلحاق الولد بالرجل، وليس منه، وقيل.
"يفترينه بين أيديهن" يعني: الكذب وعيب الناس بما ليس فيهم، "وأرجلهن"
يعني المشي في معصية،
{وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ}
[الممتحنة: 12]، أي: في خير تأمرهن به، والمعروف اسم جامع لمكارم
الأخلاق، وما عرف حسنه ولم تنكره القلوب، وهذا معنى يعم الرجال
والنساء، وذكر ابن إسحاق في رواية يونس فيما أخذه عليهن، أن قال: ولا
تغششن أزواجكن، قالت إحداهن: وما غش أزواجنا؟ فقال: أن تأخذي من ماله
فتحابي به غيره.
ج / 2 ص -57-
وهو
يزيد بن ثعلبة بن خَزْمة بن أصْرم بن عَمرو بن عَمَّارة، من بني
غُصَيْنة، من بَلِيّ حليف لهم.
قال ابن هشام: وإنما قيل لهم القواقل؛ لأنهم كانوا إذا استجار بهم
الرجل دفعوا له سهمًا وقالوا له: قوقل به بيثرب حيث شئتَ.
قال ابن هشام: القوقلة: ضرب من المشي.
قال ابن إسحاق: ومنِ بني سالم بن عمرو بن الخزرج، ثم من بني العَجْلان
بن زيد بن غنْم بن سالم: العباس بن عبادة بن نَضَلة بن مالك بن
العَجْلان.
ومن بني سَلَمة بن علي بن أسد بن سارِدَة بن تَزِيد بن جُشَم بن
الخزرج، ثم من بني حرام بن كعب بن غَنْم بن سلمة: عقبة بن عامر بن نابي
بن زيد بن حرام.
ومن بني سواد بن غَنْم بن كعب بن سلمة: قُطبة بن عامر بن حَديدة بن
عمرو بن غَنْم بن سواد. وشهدها من الأوس ابن حارثة بن ثعلبة بن عَمرو
بن عامر، ثم من بني عبد الأشهل بن جُشَم بن الحارث بن الخزرج بن عمرو
بن مالك بن الأوس: أبو الهيثم بن التَّيِّهان، واسمه مالك.
قال ابن هشام: التيهان: يخفف ويثقل، كقوله ميْت وميِّت.
ومن بني عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس: عُوَيْم بن ساعدة.
نص البيعة: قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن أبي حبيب، عن أبي مَرْثد بن
عبد الله اليزَني، عن عبد الرحمن بن عُسَيلة الصنابحي، عن عُبادة بن
الصامت، قال: كنت فيمن حضر العقبة الأولى، وكنا اثني عشر رجلًا،
فبايعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على بيعة النساء، وذلك قبل أن
تُفترض الحرب، على ألا نشرك بالله شيئًا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل
أولادَنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه من بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في
معروف: "فإن وفيتم فلكم الجنة، وإن غشيتم من ذلك شيئًا فأمركم إلى الله
عز وجل، إن شاء عَذَّب وإن شاء غفر".
قال ابن إسحاق: وذكر ابن شهاب الزهري عن عائذ الله بن عبد الله
الخَوْلاني أبي إدريس أن عبادة بن الصامت حدثه أنه قال: بايعنا، رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- ليلة العقبة الأولى على ألا نشرك بالله
شيئًا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادَنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه
من بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف: "فإن وفيتم فلكم الجنة،
وإن غشيتم من ذلك فأخذتم بحدِّه في الدنيا، فهو كفارة له، وإن سترتم
عليه إلى يوم القيامة فأمركم إلى الله عز وجل إن شاء عذب، وإن شاء
غفر".
ج / 2 ص -58-
إرسال
مصعب بن عمير مع وفد العقبة: قال ابن إسحاق: فلما انصرف عنه القوم بعث
رسول الله -صلي الله عليه وسلم- معهم مُصْعَب بن عُميْر بن هاشم بن عبد
مناف بن عبد الدار بن قصي وأمره أن يقرئهم القرآن، ويعلمهم الإسلام،
ويفقههم في الدين، فكان يسمى المقرئ بالمدينة مصعب. وكان منزَله1 على
أسعد بن زُرارة بن عدس، أبي أمامة.
قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بن قَتادة: أنه كان يصلي بهم، وذلك
أن الأوس والخزرج كره بعضهم أن يؤمه بعض.
أول جمعة أقيمت بالمدينة:
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حُنَيف، عن أبيه
أبي أمامة، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، قال: كنت قائد أبي: كعبِ بن
مالك، حين ذهب بصرُه، فكنت إذا خرجت به إلى الجمعة، فسمع الأذانَ بها
صلى على أبي أمامة، أسعد بن زرارة. قال: فمكث حينًا على ذلك لا يسمع
الأذان للجمعة إلا صلى عليه واستغفر له. قال: فقلت في نفسي: والله إن
هذا بي لعجز، ألا أساله ما له إذا سمع الأذان للجمعة صلى على أبي أمامة
أسعد بن زُرارة؟ قال: فخرجت به في يوم جمعة كما كنت أخرج، فلما سمع
الأذان للجمعة صلى عليه واستغفر له. قال فقلت له: يا أبتِ، ما لك إذا
سمعت الأذان للجمعة صليت على أبي أمامة؟ فقال: أي بُنَيَّ، كان أول من
جمع بنا بالمدينة في هَزم النبيت، من حَرَّة بني بَياضة، يقال له:
نَقيع الخَضمات، قال: قلت: وكم أنتم يومئذ؟ قال: أربعون رجلًا.
إسلام سعد بن معاذ وأسيد بن حضير وبني عبد الأشهل: قال ابن إسحاق:
وحدثني عبيد الله بن المغيرة بن مُعَيْقب، وعبد الله بن أبي بكر بن
محمد بن عَمرو بن حزم: أن أسعد بن زُرارة خرج بمصْعَب بن عمير يريد به
دار بني عبد الأشهل، ودار بني ظَفَر، وكان سعد بن معاذ بن النعمان بن
امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل ابن خالة أسعد بن زُرارة، فدخل به
حائطًا من حوائط بني ظَفَر.
قال ابن هشام: واسم ظفر: كعب بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن
الأوس قالا: على بئر يقال لها: بئر مَرَق فجلسا في الحائط، واجتمع
إليهما رجال ممن أسلم وسعد بن معاذ، وأسَيْد بن حُضَيْر، يومئذ سيدا
قومهما من بني عبد الأشهل، وكلاهما مشرك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المنزل هنا وفي كل ما شابهه بفتح الزاي لا غير وذلك لأنه يريد المصدر
ولم يرد المكان.
ج / 2 ص -59-
على
دين قومه، فلما سمعا به قال سعد بن معاذ لأسيد بن حُضَير: لا أبا لك،
انطلق إلى هذين الرجلين اللذين قد أتيا داريْنا ليسفها ضعفاءنا،
فازجرْهما وانههما عن أن يأتيا دارينا، فإنه لولا أن أسعد ابن زرارة
مني حيث قد علمت كفيتك ذلك، هو ابن خالتي، ولا أجد عليه مقدمًا. قال:
فأخذ أسيد بن حُضَير حربته ثم أقبل إليهما؛ فلما رآه أسعد بن زُرارة،
قال لمصعب بن عمير: هذا سيد قومه قد جاءك، فاصدق الله فيه؛ قال مصعب:
إن يجلس أكلمْه. قال فوقف عليهما مُتشتِّما، فقال: ما جاء بكما إلينا
تسفهان ضعفاءَنا؟ اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة. فقال له مصعب:
أوَ تجلس فتسمع، فإن رضيت أمرًا قبلته، وإن كرهته كُف عنك ما تكره؟
قال: أنصفت، ثم ركز حربته وجلس إليهما، فكلمه مُصْعَب بالإِسلام، وقرأ
عليه القرآن؛ فقالا فيما يذكر عنهما: والله لعرفنا في وجهه الإسلامَ
قبل أن يتكلم في إشراقه وتسهُّله، ثم. قال: ما أحسن هذا الكلام وأجمله!
كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ قالا له: تغتسل فتطهَّر
وتطهر ثوبيك، ثم تصلي. فقام فاغتسل وطهر ثوبيه، وتشهد شهادة الحق، ثم
قام فركع ركعتين، ثم قال لهما: إن ورائي رجلًا إن اتبعكما لم يتخلف عنه
أحد من في قومه وسأرسله إليكما الآن، سعد بن مُعاذ، ثم أخذ حربته
وانصرف إلى سعد وقومه وهم جلوس في ناديهم؛ فلما نظر إليه سعد بن معاذ
مقبلا، قال: أحلف بالله لقد جاءكم أسَيْد بغير الوجه الذي ذهب به من
عندكم؛ فلما وقف على النادي قال له سعد: ما فعلت؟ قال: كلمت الرجلين،
فوالله ما رأيت بهما بأسًا، وقد نهيتهما، فقالا: نفعل ما أحببت، وقد
حُدِّثت أن بني حارثة قد خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه، وذلك أنهم
قد عرفوا أنه ابن خالتك، ليخفروك1. قال: فقام سعد مغضَبًا مبادرًا،
تخوُّفا للذي ذُكر له من بني حارثة، فأخذ الحربة من يده، ثم قال: والله
ما أراك أغنيت شيئًا، ثم خرج إليهما؛ فلما رآهما سعد مطمئنين، عرف سعد
أن أسيدًا إنما أراد منه أن يسمع منهما، فوقف عليهما متشتما، ثم قال
لأسعد بن زرارة: يا أبا أمامة، أما والله، لولا ما بيني وبينك من
القرابة ما رمت هذا مني، أتغشانا في دارينا بما نكره -وقد قال أسعد بن
زرارة لمصعب بن عمير: أي مُصْعب، جاءك والله سيد مَن وراءه من قومه، إن
يتبعك لا يتخلف عنك منهم اثنان: قال: فقال له مصعب: أو تقعد فتسمع، فإن
رضيت أمرًا ورغبت فيه قبلته، وأن كرهته عزلنا عنك ما تكره؟ قال سعد:
أنصفت. ثم ركز الحربة وجلس، فعرض عليه الإسلام، وقرأ عليه القرآن،
قالا: فعرفنا والله في وجهه الإِسلام قبل أن يتكلم، لإِشراقه وتسهُّله،
ثم قال لهما: وكيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم ودخلتم في هذا الدين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لينقضوا عهدك.
ج / 2 ص -60-
قالا:
تغتسل فتطهر ثوبيك ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلي ركعتين، قال: فقام
فاغتسل وطهر ثوبيه، وشهد شهادة الحق، ثم ركع ركعتين، ثم أخذ حربته،
فأقبل عامدًا إلى نادي قومه ومعه أسيد بن حضير.
قال: فلما رآه قومه مقبلًا، قالوا: نحلف بالله لقد رجع إليكم سعد بغير
الوجه الذي ذهب به من عندكم؛ فلما وقف عليهم قال: يا بني عبد الأشهل،
كيف تعلمون أمري فيكم قالوا: سيدُنا وأفضلُنا رأيًا، وأيمنُنا نقيبةً
قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم عليَّ حرام حتى تؤمنوا بالله وبرسوله.
قالا: فوالله ما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلمًا
ومسلمةً، ورجع أسعد ومُصْعَب إلى منزل أسعد بن زُرارة فأقام عنده يدعو
الناس إلى الإسلام، حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال
ونساء مسلمون، إلا ما كان من دار بني أمية بن زيد، وخَطْمة ووائل
وواقف، وتلك أوس الله، وهم من الأوْس بن حارثة، وذلك أنه كان فيهم أبو
قيس بن الأسْلَت، وهو صيفي، وكان شاعرًا لهم وقائدًا يستمعون منه
ويطيعونه، فوقف بهم عن الإِسلام، فلم يزل على ذلك حتى هاجر رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، ومضى بدر وأحد والخندق، وقال فيما
رأى من الإِسلام، وما اختلف الناس فيه من أمره:
أربَّ الناسِ أشياخ ألمَّتْ
يُلَفُّ الصعبُ منها بالذَّلولِ
أربَّ الناسِ أما إذ ضللنا
فيسِّرْنا لمعروفِ السبيلِ
فلولا ربُّنا كنا يهودًا
وما دينُ اليهودِ بذي شُكولِ1
ولولا ربُّنا كنا نصارى
مع الرهبانِ في جبلِ الجليلِ2
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الشكول: جمع شكل وشكل الشيء بالفتح هو مثله والشكل بالكسر الدل
والحسن فكأنه أراد أن دين اليهود بدع، فليس له شكول أي: ليس له نظير في
الحقائق، ولا مثيل يعضده من الأمر المعروف المقبول، وقد قال الطائي:
وقلت: أخي قالوا: أخ من قرابة
فقلت لهم: إن الشكول أقارب
قريبي في رأيي وديني ومذهبي
وإن باعدتنا في الخطوب المناسب
انظر: "الروض الأنف،
بتحقيقنا ج2 ص200".
ج / 2 ص -61-
ولكنا خُلقنا إذ خُلقنا
حنيفًا دينُنا عن كلِّ جيلِ
نسوق الهَدْي تَرسُف مُذْعِناتٍ
مُكثَّفة المناكبِ في الجُلولِ1
قال ابن
هشام: أنشدني قوله: فلولا ربنا، وقوله: لولا ربنا، وقوله: مكشفة
المناكب في الجلول، رجل من الأنصار، أو من خزاعة.
أمر العقبة الثانية:
قال ابن إسحاق: ثم إن مصعب بن عمير رجع إلى مكة، وخرج من خرج من
الأنصار من المسلمين إلى الموسم مع حجاج قومهم من أهل الشرك، حتى قدموا
مكة، فواعدوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العقبة، من أوسط أيام
التشريق، حين أراد من كرامته؛ والنصرِ لنبيه، وإعزاز الإسلام وأهله،
وإذلال الشرك وأهله.
البراء بن معرور يصلي إلى الكعبة: قال ابن إسحاق: حدثني مَعْبَد بن كعب
بن مالك بن أبي كعب بن القَيْن، أخو بني سَلَمة، أن أخاه عبد الله بن
كعب، وكان من أعلم الأنصار، حدثه أن أباه كعبًا حدثه، وكان كعب ممن شهد
العقبة وبايع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بها، قال: خرجنا في حجاج
قومنا من المشركين، وقد صلينا وفقِهنا، ومعنا البراء بن معرور، سيدنا
وكبيرنا. فلما وجهنا لسفرنا، وخرجنا من المدينة، قال البراء لنا: يا
هؤلاء، إني قد رأيت رأيا، فوالله ما أدري، أتوافقونني عليه، أم لا؟
قال: قلنا: وما ذاك؟ قال: قد رأيت ألا أدع هذه البَنِيَّة مني بظهر
-يعني: الكعبة- وأن أصلي إليها. قال: فقلنا، والله ما بلغنا أن نبيَّنا
-صلى الله عليه وسلم- يصلي إلا إلى الشام، وما نريد أن نخالفه. قال؛
فقال: إني لمصلٍ إليها. قال: فقلنا له: لكنا لا نفعل.
قال: فكنا إذا حضرت الصلاة صلينا إلى الشام، وصلى إلى الكعبة، حتى
قدمنا مكة. قال: وقد كنا عبنا عليه ما صنع، وأبى إلا الإقامة على ذلك.
فلما قدمنا مكة قال لي: يابن أخي، انطلق بنا إلى رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- حتى نسألَه عما صنعت في سفري هذا، فإنه والله قد وقع في
نفسي منه شيء، لما رأيت من خلافكم إياي فيه.
قال: فخرجنا نسأل عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكنا لا نعرفه،
ولم نره قبل ذلك فلقينا رجلًا من أهل مكة، فسألناه عن رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- فقال: هل تعرفانه؟ فقلنا: لا؛ قال: فهل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ترسف: تمشي مشي المقيد، والجلول: جمع جل وهو ما تلبسه الدابة لتُصان
به.
ج / 2 ص -62-
تعرفان
العباس بن عبد المطلب عمه؟ قال: قلنا: نعم قال: كنا نعرف العباس، وكان
لا يزال يقدم علينا تاجرًا قال: فإن دخلتما المسجد فهو الرجل الجالس مع
العباس. قال: فدخلنا المسجد فإذا العباس جالس، ورسول الله -صلى الله
عليه وسلم- جالس معه، فسلمنا ثم جلسنا إليه. فقال رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- للعباس:
"هل تعرف هذين الرجلين يا أبا الفضل؟" قال: نعم، هذا البَراء بن معرور، سيد قومه، وهذا كعب بن مالك قال:
فوالله ما أنسى قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم:
"الشاعر؟"
قال: نعم، قال: فقال له البراء بن معرور: يا نبي الله، إني خرجت في
سفري هذا، وقد هداني الله للإِسلام، فرأيت ألا أجعل هذه البَنيَّة مني
بظهر، فصليت إليها، وقد خالفني أصحابي في ذلك حتى وقع في نفسي من ذلك
شيء، فماذا ترى يا رسول الله؟ قال:
"كنت على قبلة لو صبرت1 عليها". قال: فرجع البراء إلى قبلة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصلى
معنا إلى الشام. قال: وأهله يزعمون أنه صلى إلى الكعبة حتى مات، وليس
ذلك كما قالوا، نحن أعلم به منهم.
قال ابن هشام: وقال عَوْن بن أيوب الأنصاري:
ومنا المصلِّي أولَ الناس مُقبلًا
على كعبةِ الرحمنِ بينَ المشاعرِ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم:
"قد كنت على قبلة لو صبرت عليها"،
فقه قوله:
"لو صبرت عليها"،
أنه لم يأمره بإعادة ما قد صلى؛ لأنه كان متأولا.
وفي الحديث: دليل على أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يصلي بمكة
إلى بيت المقدس، وهو قول ابن عباس، وقالت طائفة: ما صلى إلى بيت المقدس
إلا مذ قدم المدينة سبعة عشر شهرًا أو ستة عشر شهرًا، فعلى هذا يكون في
القبلة نسخان نسخ سنة بقرآن، وقد بين حديث ابن عباس منشأ الخلاف في هذه
المسألة، فروي عنه من طرق صحاح أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان
إذا صلى بمكة استقبل بيت المقدس، وجعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس،
فلما كان عليه السلام يتحرى القبلتين جميعًا لم يبن توجهه إلى بيت
المقدس للناس، حتى خرج من مكة والله أعلم. قال الله تعالى له في الآية
الناسخة:
{وَمِنْ
حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 149] أي: من أي جهة جئت إلى الصلاة، وخرجت إليها فاستقبل
الكعبة كنت مستدبرًا لبيت المقدس، أو لم تكن؛ لأنه كان بمكة يتحرى في
استقباله بيت المقدس أن تكون الكعبة بين يديه، وتدبر قوله تعالى:
{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ} وقال لأمته:
{وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}.
ج / 2 ص -63-
يعني
البراء بن معرور. وهذا البيت في قصيدة له.
إسلام عبد الله بن عمرو بن حرام: قال ابن إسحاق: حدثني مَعْبِد بن كعب،
أن أخاه عبد الله بن كعب حدثه أن أباه كعب بن مالك حدثه، قال كعب: ثم
خرجنا إلى الحج، وواعدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالعقبة من
أوسط أيام التشريق. قال: فلما فرغنا من الحج، وكانت الليلة التي واعدنا
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لها، ومعنا عبد الله بن عَمرو بن حرام
أبو جابر، سيد من سادتنا، وشريف من أشرافنا، أخذناه معنا وكنا نكتم من
معنا من قومنا من المشركين أمرنا، فكلمناه وقلنا له: يا أبا جابر، إنك
سيد من سادتنا، وشريف من أشرافنا، وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون
حطبًا للنار غدًا، ثم دعوناه إلى الإسلام، وأخبرناه بميعاد رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- إيانا العقبة. قال: فأسلم وشهد معنا العقبة، وكان
نقيبًا. امرأتان في البيعة: قال: فنمنا تلك الليلة مع قومِنا في
رحالنا، حتى إذا مضى ثُلثُ الليل خرجنا من رحالنا لمعاد رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- نتسلل تسلل القَطا مُستَخفين، حتى اجتمعنا في الشِّعْب
عند العقبة، ونحن ثلاثة وسبعون رجلًا، ومعنا امرأتان من نسائنا:
نُسَيْبة بنت كعب، أم عُمارة، إحدى نساء بني مازن بن النجار، وأسماء
بنت عمرو بن عدي بن نَابِي، إحدى نساء بني سَلَمة، وهي أم مَنيع.
العباس يستوثق من الأنصار: قال: فاجتمعنا في الشِّعْب ننتظر رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- حتى جاءنا ومعه عمه العباس بن عبد المطلب وهو
يومئذ على دين قومه، إلا أنه أحب أن يحضُرَ أمر ابن أخيه ويتوثَقَ له.
فلما جلس كان أول مُتكلم العباس بن عبد المطلب فقال: يا معشر الخزرج
قال: وكانت العرب إنما يسمون هذا الحي من الأنصار: الخزرج، خزرجها
وأوْسها: إن محمدًا منا حيث قد علمتم وقد منعناه من قومنا، ممن هو على
مثل رأينا فيه، فهو في عز من قومه ومَنَعة في بلده، وإنه قد أبى إلا
الانحياز إليكم، واللحوق بكم، فإن كنتم تَرَوْن أنكم وافون له بما
دعوتموه إليه ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم
تَرَوْن أنكم مُسْلِموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم، فمن الآن
فدَعَوْه، فإنه في عِز ومَنَعة من قومه وبلده. قال: فقلنا له: قد سمعنا
ما قلت فتكلمْ يا رسول الله، فخذْ لنفسك ولربك ما أحببت.
عهد الرسول عليه الصلاة والسلام على الأنصار: قال: فتكلم رسولُ الله
-صلى الله عليه وسلم- فتلا القرآنَ، ودعا إلى الله ورغَّب في الإسلام،
ثم قال:
"أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءَكم وأبناءَكم". قال: فأخذ البَراء بن معرور بيده، ثم قال: نعم والذي بعثك
ج / 2 ص -64-
بالحق
لنمنَعنَّك مما نمنع منه أزُرَنا1 فبايعْنا يا رسول الله فنحن والله
أبناءُ الحروب، وأهل الحلْقة، ورثناها كابرًا عن كابر. قال: فاعترض
القولَ والبراء يكلم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبو الهيثم بن
التَّيِّهان، فقال يا رسول الله، إن بيننا وبين الرجال حبالا، وإنّا
قاطعوها يعني اليهود فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك اللهُ أن ترجع
إلى قومك وتَدَعنا؟ قال: فتبسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم قال:
بل الدم الدم، والهَدْم الهَدْم2، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من
حاربتم، وأسالم من سالمتم.
قال ابن هشام: ويقال: الهَدَم الهدَم: يعني الحرمة. أي ذمتي ذمتكم،
وحرمتي حرمتكم.
قال كعب بن مالك: وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: أخرجوا إليَّ
منكم اثني عشر نقيبًا، ليكونوا على قومِهم بما فيهم. فأخرجوا منهم اثني
عشر نقيبًا، تسعة من الخزرج، وثلاثة من الأوْس.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 العرب تكني عن المرأة بالإزار وتكني أيضًا بالإزار عن النفس، وتجعل
الثوب عبارة عن لابسه كما قال:
رموها بأثواب خفاف فلا ترى
لها شبهًا إلا النعام المنفَّرا
2 قال ابن قتيبة: كانت العرب تقول عند عقد الحلف والجوار: دمي دمك
وهدمي هدمك، أي: ما هدمت من الدماء هدمته أنا، ويقال أيضًا: بل اللدم
اللدم والهدم الهدم وأنشد:
ثم الحقي بهدمي ولدمي
فاللدم: جمع لادم، وهم
أهله الذين يلتدمون عليه إذا مات، وهو من لدمت صدره: إذا ضربته.
والهدم، قال ابن هشام: الحرمة، وإنما كنى عن حرمة الرجل وأهله بالهدم؛
لأنهم كانوا أهل نجعة وارتحلوا. ولهم بيوت يستخفونها يوم ظعنهم فكلما
ظعنوا هدموها، والهدم بمعنى المهدوم كالقبض بمعنى المقبوض، ثم جعلوا
الهدم وهو البيت المهدوم عبارة عما حوى، ثم قال: هدمي هدمك أي: رحلتي
مع رحلتك أي لا أظعن وأدعك وأنشد يعقوب:
تمضي إذا زجرت عن سوأة قدمًا
كأنها هدم في الجفر منقاض
ج / 2 ص -65-
أسماء النقباء الاثني عشر:
نقباء الخزرج: قال ابن هشام: من الخزرج فيما حدثنا زياد بن عبد الله
البكَّائي، عن محمد بن إسحاق المطلبي أبو أمامة أسعد بن زُرارة بن
عُدَس بن عُبَيْد بن ثعلبة بن غَنْم بن مالك بن النجار، وهو تَيْم الله
بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج، وسعد بن الربيع بن عمرو بن أبي زُهَيْر بن
مالك بن امرئ القيس بن مالك بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن
الخزرج، وعبد الله بن رَوَاحة بن ثعلبة بن امرئ القيس بن عمرو بن امرئ
القيس بن مالك الأغر بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج.
ورافع بن مالك بن العَجْلان بن عمرو بن عامر بن زُرَيق بن عبد حارثة بن
مالك بن غَضب بن جُشَم بن الخزرج، والبَرَاء بن معرور بن صخر بن خنساء
بن سنان بن عبيد بن عدي بن غَنْم بن كعب بن سلمة بن سعد بن علي بن أسد
بن سارِدَة بن تَزِيد بن جُشَم بن الخزرج؛ وعبد الله بن عَمرو بن حرام
بن ثعلبة بن حرام بن كعب بن سَلَمة بن سعد بن على بن أسد بن ساردة بن
تَزيد بن جُشَم بن الخزرج، وعُبادة بن الصامت بن قَيْس بن أصْرم بن
فِهْر بن ثعلبة بن غَنْم بن سالم بن عَوْف بن عَمرو بن عَوْف بن
الخزرج.
قال ابن هشام: هو غَنْم بن عوف، أخو سالم بن عَوْف بن عمرو بن الخزرج.
قال ابن إسحاق: وسعد بن عُبادة بن دُلَيْم بن حارثة بن أبي حَزِيمة بن
ثعلبة بن طريف بن الخزرج بن ساعدة بن كعب بن الخزرج، والمنذر بن عمرو
بن خُنيس بن حارثة بن لَوْذان بن عبد وُدّ بن زيد بن ثعلبة بن الخزرج
بن ساعدة بن كعب بن الخزرج.
قال ابن هشام: ويقال: ابن خُنَيس.
نقباء الأوس: ومن الأوْس: أسُيْد بن حُضَير بن سِمَاك بن عَتيك بن رافع
بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل، وسعد بن خَيثُمة بن الحارث بن
مالك بن كعب بن النَّحَّاط بن كعب بن حارثة بن غَنْم بن السَّلَم بن
امرئ القيس بن مالك بن الأوس، ورفاعة بن عبد المنذر بن زَنْبَر بن زيد
بن أمية بن زيد بن مالك بن عَوْف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس.
شعر كعب بن مالك في النقباء: قال ابن هشام: وأهل العلم يعدُّون فيهم
أبا الهيثم بن التيهان، ولا يعدون رفاعة، وقال كعب بن مالك يذكرهم،
فيما أنشدني أبو زيد الأنصاري:
ج / 2 ص -66-
أبلغْ أبَيا أنه قال رأيه
وحان غداة الشِّعْب والحينُ واقعُ1
أبى الله ما منَّتك نفسُك إنه
بمرصادِ أمرِ الناسِ راءٍ وسامعُ
وأبلغ أبا سفيان أنْ قد بدا لنا
بأحمدَ نور من هُدَى اللهِ ساطعُ
فلا ترغبنْ في حشدِ أمر تريدُه
وألِّبْ وجَمِّعْ كلَّ ما أنت جامعُ
ودونَك فاعلم أن نقضَ عهودِنا
أباه عليك الرهطُ حين تبايعُوا
أباه البَراء وابن عَمرو كلاهما
وأسعدُ يأباه عليك ورافعُ
وسعد أباه الساعديُّ ومُنذِر
لأنفِك إن حاولتَ ذلك جادعُ
وما ابنُ ربيعٍ إن تناولت عهدَه
بمسلمِه لا يطمعنْ ثَمَّ طامعُ
وأيضًا فلا يُعطيكه ابنُ رَواحَة
وإخفارُه من دونِه السمُّ ناقعُ
وفاءً به والقَوْقلي بن صامتٍ
بمندوحةٍ عما تحاولُ يافعُ2
أبو هَيْثمٍ أيضًا وفىّ بمثلها
وفاء بما أعطى من العهد خانع3
وما ابن حضير إن أردت بمطمع
فهل أنت عن أحموقة الغي نازع
وسعد أخو عمرو بن عوف فإنه
ضروح لما حاولت ملأمر مانع4
أولاك نجوم لا يغبك منهم
عليك بنحس في دجى الليل طالع
فذكر كعب
فيهم "أبا الهيثم بن التيهان" ولم يذكر "رفاعة".
قال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر: أن رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- قال للنقباء: أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء، ككفالة
الحواريين لعيسى ابن مريم، وأنا كفيل على قومي -يعني: المسلمين- قالوا:
نعم.
ما قاله العباس بن عبادة للخزرج: قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن
قتادة: أن القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال
العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاري، أخو بني سالم بن عوف: يا معشر
الخزرج، هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ قالوا: نعم، قال: إنكم
تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس، فإن كنتم ترون أنكم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فال: بطل.
2 اليافع: العالي.
3 الخانع: الذليل.
4 ضروح: أي دافع عن نفسه.
ج / 2 ص -67-
إذا
نهكت أموالكم مصيبة، وأشرافكم قتلًا أسلمتموه؛ فمن الآن، فهو والله إن
فعلتم خِزيُ الدنيا والآخرة، وإن كنتم تَرَوْن أنكم وافون له بما
دعوتموه إليه على نَهكَةِ الأموال1، وقتْل الأشراف، فخذوه، فهو والله
خير الدنيا والآخرة، قالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال، وقتْل
الأشراف، فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفَّينا. قال: الجنة.
قالوا: أبسطْ يدك، فبسط يده فبايعوه.
وأما عاصم بن عُمر بن قتادة فقال: والله ما قال ذلك العباس إلا ليشد
العقد لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أعناقهم.
وأما عبد الله بن أبي بكر فقال: ما قال ذلك العباس إلا ليؤخر القوم تلك
الليلة، رجاء أن يحضرها عبد الله بن أبي بن سلول، فيكون أقوى لأمر
القوم. فالله أعلم أي ذلك كان.
قال ابن هشام: سلول: امرأة من خزاعة،. وهى أم أبي بن مالك بن الحارث.
أول من ضرب على يد الرسول في بيعة العقبة الثانية: قال ابن إسحاق: فبنو
النجار يزعُمون أن أبا أمامة، أسعد بن زرارة، كان أول من ضرب على يده،
وبنو عبد الأشهل يقولون: بل أبو الهيثم بن التَّيِّهان.
قال ابن إسحاق: فأما معبد بن كعب بن مالك فحدثني في حديثه، عن أخيه عبد
الله بن كعب عن أبيه كعب بن مالك، قال: كان أول من ضرب على يد رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- البراء بن معرور، ثم بايع بعد القوم.
الشيطان يصرخ بعد بيعة العقبة: فلما بايعنا رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- صرخ الشيطان من رأس العقبة بأنفذ صوت سمعته قط: يا أهل الجَباجِب
والجباجب المنازل2 هل لكم في مُذَمَّم والصُّباة معه، قد اجتمعوا على
حربكم؟ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا أزْبُ3 العقبة،
هذا ابن أزْيب"، قال ابن هشام. ويقال: ابن أزَيْب أتسمع أي عدو الله
أما والله لأفرغنَّ لك.
الأنصار تستعجل الحرب: قال: ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم:
"ارفَضُّوا إلى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 نهكة الأموال: نقصها.
2 المنازل: منازل منى.
3 أزب العقبة: اسم شيطان.
ج / 2 ص -68-
رحالكم". قال: فقال له العباس بن عُبادة بن نَضلة: والله الذي بعثك بالحق،
إن شئت لنميلنَّ على أهلِ منى غدًا بأسيافنا؟ قال: فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم:
"لم نُؤمرْ
بذلك، ولكن ارجعوا إلى رحالكم". قال:
فرجعنا إلي مضاجعنا، فنمنا عليها حتى أصبحنا.
قريش تجادل الأنصار: قال: فلما أصبحنا غدت علينا جِلَّة قريش، حتى
جاءونا في منازلنا فقالوا: يا معشر الخزرج، إنه قد بلغنا أنكم قد جئتم
إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا، وتبايعونه على حربنا، وإنه
والله ما من حي من العرب أبغض إلينا، أن تنشب الحرب بيننا وبينِهم،
منكم. قال: فانبعث من هناك من مشركي قومنا يحلفون بالله ما كان من هذا
شيء، وما علمناه. قال؛ وقد صدقوا، لم يعلموه. قال: وبعضنا ينظر إلى
بعض، قال: ثم قام القوم، وفيهم الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي،
وعليه نعلان له جديدان. قال: فقلت له كلمة –كأني أريد أن أشرك القوم
بها فيما قالوا-: يا أبا جابر، أما تستطيع أن تتخذ وأنت سيد من
ساداتنا، مثل نعلَيْ هذا الفتى من قريش؟ قال: فسمعها الحارث، فخلعهما
من رجليه ثم رمى بهما إليَّ، وقال: والله لتَنْتعَلَنَّهُما. قال:
يقول: أبو جابر: مَهْ، أحفظتَ والله الفتى، فاردد إليه نعليه، قال:
قلت: والله لا أردّهما، قال: والله صالح، لئن صدق الفأل لأسلُبَنَّه.
قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي بكر: أنهم أتوا عبد الله بن أبي
بن سلول، فقالوا له مثل ما قال كعب من القول، فقال لهم: إن هذا الأمر
جسيم، ما كان قومي ليتفوتوا عليَّ بمثل هذا، وما علمتُه كان، قال:
فانصرفوا عنه.
قريش تأسر سعد بن عُبادة: قال: ونفر الناس من مِنى، فتنطَّس القومُ
الخبرَ1، فوجدوه قد كان، وخرجوا في طلب القوم، فأدركوا سعد بن عُبادة
بأذَاخر، والمنذر بن عمرو، أخا بني ساعدة بن كعب بن الخزرج، وكلاهما
كان نقيبًا، فأما المنذر فأعجز القومَ؛ وأما سعد فأخذوه، فربطوا يديه
إلى عنقه بنِسْعِ2 رحله، ثم أقبلوا به حتى أدخلوه مكة يضربونه،
ويجذبونه بجُمته، وكان ذا شعر كثير.
خلاص سعد: قال سعد: فوالله إني لفي أيديهم إذ طلع عليَّ نفر من قريش،
فيهم رجل وضيء أبيض، شَعْشاع، حلو من الرجال.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 دققوا في البحث عنه.
2 النسع: الشراك الذي يشد به الرحل.
ج / 2 ص -69-
قال
ابن هشام: الشَّعْشاع الطويل الحسن. قال رؤبة:
يمطوه من شَعْشاعٍ غيرِ مُودن
يعني: عنق البعير غير
قصير، يقول: مودن اليد، أي ناقص اليد. قال: فقلت في نفسي: إن يك عند
أحد من القوم خيرٌ، فعند هذا قال: فلما دنا مني رفع يدَه فلكمني لكمةً
شديدة قال: فقلت في نفسي: لا والله ما عندهم بعد هذا من خير قال:
فوالله إني لفي أيديهم يسحبونني إذا أوى1 لي رجل ممن كان معهم، فقال:
ويحك! أما بينك وبين أحد من قريش جوار ولا عهد؟ قال: قلت: بلَى، والله،
لقد كنت أجير لجُبير بن مُطْعِم بن عَدِي بن نَوْفل بن عبد مناف تجارة،
وأمنعهم ممن أراد ظلمهم ببلادي، وللحارث بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن
عبد مناف؛ قال: ويحك! فاهتف باسم الرجلين، واذكر ما بينَك وبينهما:
قال: ففعلت، وخرج ذلك الرجل إليهما، فوجدهما في المسجد عند الكعبة فقال
لهما: إن رجلا من الخزرج الآن يُضرب بالأبطح ويَهتف بكما، ويذكر أن
بينه وبينكما جوارًا؛ قالا: ومن هو؟ قال: سعد بن عبادة، قالا: صدق
والله، إن كان ليجير لنا تجارَنا، ويمنعهم أن يُظلموا ببلده. قال:
فجاءا فخلَّصا سعدًا من أيديهم فانطلق، وكان الذي لكم سعدًا سُهَيْل بن
عَمرو، أخو بني عامر بن لؤي.
قال ابن هشام: وكان الرجل الذي أوى إليه، أبا البَخْتَري بن هشام.
قال ابن إسحاق: وكان أول شعر قيل في الهجرة بيتين، قالهما ضرار2 بن
الخطاب بن مرداس، أخو بني محارب بن فهر:
تداركتَ سعدًا عَنوةً فأخذته
وكان شفاءً لو تداركتَ مُنذِرَا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أوى: رحم.
2 كان شاعر قريش وفارسها، ولم يكن في قريش أشعر منه ثم ابن الزبعرى بن
قيس بن عدى، وكان جده مرداس رئيس بني محارب بن فهر في الجاهلية يسير
فيهم بالمرباع، وهو ربع الغنيمة، وكان أبوه أيام الفجار رئيس بني محارب
بن فهر. أسلم ضرار عام الفتح.
ج / 2 ص -70-
لو نِلته طُلَّت هناك جراحُه
وكانت حَرِيًّا أن يُهان ويُهدَرَا1
قال ابن هشام: ويروى:
وكان حقيقًا أن يُهان ويُهدَرا
قال ابن إسحاق: فأجابه حسان بن ثابت فيهما فقال:
لستَ إلى سعدٍ ولا المرء مُنذِرٍ
إذا ما مَطايا القومِ أصبحْن ضُمَّرَا
فلولا أبو وهْبٍ لمرَّت قصائد
على شرفِ البَرقاءِ يَهْوينَ حُسَّرَا
أتفخُر بالكتانِ لما لبسْتَه
وقد تلبَس الأنباطُ رِيطًا مُقَصَّرَا2
فلا تَكُ كالوَسْنانِ يحلمُ أنه
بقريةِ كِسْرَى أو بقريةِ قَيْصَرَا
ولا تك كالثَّكلَى وكانت بمعْزِلٍ
عن الثُّكْلِ لو كان الفؤادُ تفكَّرَا
ولا تكَ كالشاةِ التي كان حتفُها
بحفرِ ذرِاعَيْها فلم ترضَ محفَرَا3
ولا تك كالعاوِي فأقبلَ نحرَه
ولم يَخْشَه سهمًا من النَّبلِ مُضْمَرا
فإنا ومن يُهدِي القصائدَ نحوَنا
كمسْتَبضِعٍ تمرًا إلى أهلِ خَيْبَرَا
قصة صنم عمرو بن الجموح:
فلما قدموا المدينة أظهروا الإسلام بها، وفى قومهم بقايا من شيوخ لهم
على دينهم من الشرك، منهم عمرو بن الجَمُوح بن زيد بن حرام بن كعب بن
غَنْم بن كعب بن سلمة، وكان ابنه مُعاذ بن عمرو شهد العقبة، وبايع رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- بها، وكان عَمرو بن الجَموح سيدًا من سادات
بني سَلمة، وشريفًا من أشرافِهم؛ وكان قد اتخذ في داره صنمًا من خشب،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 طلت: هدرت.
2 الريط: الملاحف البيض.
3 تقول العرب في مثل قديم فيمن أثار على نفسه شرًّا كالباحث عن المدية،
وأنشد أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ:
وكان يجيز الناس من سيف مالك
فأصبح يبغي نفسه من يجيزها
وكان كعنز السوء قامت بظلفها
إلى مدية تحت التراب تثيرها
ج / 2 ص -71-
يقال
له: مَناةُ1، كما كانت الأشراف يصنعون، تتخذه إِلَهًا تعظّمه وتطهره،
فلما أسلم فتيان بني سَلَمة: معاذُ بن جبل، وابنه مُعاذ بن عَمْرو بن
الجَموح، في فتيان منهم ممن أسلم وشهد العقبة كانوا يدلجون بالليل على
صنم عَمرو ذلك فيحملوِنه فيطرحونه في بعض حُفر بني سلمة، وفيها عِذَرُ2
الناس، مُنَكَّسًا على رأسه، فإذا أصبح عمرو، قال: ويلكم! من عدا على
آلهتنا هذه الليلة؟ قال: ثم يغدو يلتمسه، حتى إذا وجده غسلَه وطهره
وطيبه، ثم قال: أما والله لو أعلم من فعل هذا بك لأخْزِينَّه. فإذا
أمسى ونام عَمرو، عَدَوا عليه، ففعلوا به مثل ذلك، فيغدو فيجده في مثل
ما كان فيه من الأذى، فيغْسله ويطهره ويطيبه، ثم يعدون عليه، إذ أمسى،
فيفعلون به مثل ذلك. فلما أكثروا عليه، استخرجه من حيث ألْقَوْه يومًا،
فغسله وطهره وطيبه، ثم جاء بسيفه فعلقه عليه، ثم قال: إني والله ما
أعلم من يصنع بك ما ترى، فإن كان فيك خير فامتنع، فهذا السيف معك، فلما
أمسى ونام عمرو، عَدَوا عليه، فأخذوا السيف من عنقه، ثم أخذوا كلبًا
ميتًا فقرنوه به بحبل، ثم ألْقَوْه في بئر من آبار بني سَلَمة، فيها
عِذَر من عِذر الناس، ثم عدا عَمرو بن الجَموح فلم يجده في مكانه الذي
كان به.
إسلام عمرو وما قاله من الشعر: فخرج يتبعه حتى وجده في تلك البئر
منَكَّسًا مقرونًا بكلب ميت، فلما رآه وأبصر شأنه، وكلمه من أسلم من
قومه، فأسلم برحمة الله، وحسُنَ إسلامه، فقال حين أسلم وعرَف من الله
ما عرَف، وهو يذكر صنمه ذلك وما أبصر من أمره، ويشكر الله تعالى الذي
أنقذه مما كان فيه من العَمَى والضلالة:
واللهِ لو كنتَ إِلَهًا لم تكنْ
أنتَ وكلب وسْطَ بئر في قَرَنْ3
أفّ لمَلْقَاك إلهًا مُسْتَدَن
الآنَ فتشناكَ عَنْ سُوءِ الغَبَنْ4
الحمدُ للهِ العليِّ ذي المئنَ
الواهبِ الرزاقِ دَيانِ الدّيَنْ5
هو الذي أنقذني من أن
أكونَ في ظُلمةِ قبر مُرْتَهنْ
بأحمدَ المهدي النبيِّ المرتهنْ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مناة: وزنه فعلة من منيت الدم وغيره إذا صببته؛ لأن الدماء كانت
تمني، ومن هنا سميت الأصنام: دمى يقول الله سبحانة وتعالى:
{وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} أي ثالثة للات والعزى.
2 فضلات الناس.
3 القرن: الحبل.
4 مستدن: مستعبد، والغبن السفه.
5 الدين جمع دينة، وهى العادة، ويقال لها دين أيضًا، وقال ابن الطبرية،
واسمه يزيد:
أرى سبعة يسعون للوصل كلهم
له عند ليلى دينة يستدينها
فالقيت سهمي بينهم حين أوخشوا
فما صار لي في القسم إلا ثمينها
ويجوز أن يكون أراد
بالدين: الأديان أي هو ديان أهل الأديان، ولكن جمعها على الدين، لأنها
مِلل ونِحل، كما قالوا في جمع: الحرة: حرائر؛ لأنهن في معنى الكرائم
والعقائل.
ج / 2 ص -72-
شروط البيعة في العقبة الأخيرة:
قال ابن إسحاق: وكانت بيعةُ الحرب، حين أذِن اللهُ لرسولِه -صلى الله
عليه وسلم- في القتال شروطًا سوى شرطِه عليهم في العقبة الأولى، كانت
الأولى على بيعة النساء وذلك أن الله تعالى لم يكن أذِنَ لرسوله -صلى
الله عليه وسلم- في الحرب، فلما أذن الله له فيها، وبايعهم رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- في العقبة الأخيرة على حرب الأحْمر والأسود، أخذ
لنفسه واشترطَ على القوم لربِّه، وجعل لهم على الوفاء بذلك الجنة.
قال ابن إسحاق: فحدثني عُبادة بن الوليد بن عُبادة بن الصامت، عن أبيه
الوليد، عن جَدِّه عُبادة بن الصامت، وكان أحد النقباء، قال: بايعنا
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بَيْعة الحرب وكان عُبادة من الاثني
عشر الذين بايعوه في العقبة الأولى على بيعة النساء وعلى السمع
والطاعة؛ في عُسرنا ويُسرنا ومُنْشَطنا ومُكْرَهنا، وأثْرَةٍ علينا،
وألا ننازع الأمرَ أهلَه، وأن نقولَ بالحقِّ أينما كنا، لا نخاف في
الله لَوْمة لائم.
أسماء من شهد العقبة الأخيرة:
قال ابن إسحاق: وهذا تسمية من شهد العقبة، وبايع رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- بها من الأوْس والخزرج، وكانوا ثلاثة وسبعين رجلًا
وامرأتين.
شهدها من الأوس بن حارثة بن ثَعلبة بن عَمرو بن عامر، ثم من بني عبد
الأشْهل بن جُشَم بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن الأوْس: أسَيْد بن
حُضيْر بن سِمَاك بن عَتِيك بن رافعٍ بن امرئ القيس بن زيد بن عبد
الأشْهَل، نقيب لم يشهد بدرًا. وأبو الهَيْثم بن التَّيِّهان، واسمه
مالك، شهد بدرًا. وسَلَمة بن سلامة بن وَقْش بن زِغْبة بن زَعُوراء بن
عبد الأشْهل، شهد بدرًا، ثلاثة نفر. قال ابن هشام: ويقال: ابن
زعَوْراء.
قال ابن إسحاق: ومن بني حارثة بن الحارث بن الخزرج بن عَمرو بن مالك بن
الأوْس: ظُهَيْر بن رافع بن عَدي بن زيد بن جُشم بن حارثة: وأبو
بُرْدَة بن نِيَار، واسمه هاني بن نِيار بن عمرو بن عبيد بن كلاب بن
دُهْمان بن غَنْم بن ذُبْيان بن هُمَيْم بن كاهل بن ذهْل بن هَنيّ بن
بَلِيّ بن عَمرو بن الحاف بن قُضاعة، حليف لهم، شهد بدرًا. ونُهَيْر بن
الهَيْثم، من بني نابي
ج / 2 ص -73-
ابن
مجْدعة بن حارثة، بن الحارث؛ بن الخزرج بن عَمرو بن مالك بن الأوس، ثم
من آل السواف بن قيس بن عامر بن نابي بن مَجْدعة بن حارثة. ثلاثة نفر.
ومن بني عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس: سعد بن خيثمة بن الحارث بن مالك
بن كعب بن النَّحَّاط بن كعب بن حارثة بن غَنْم بن السَّلَم بن امرئ
القيس بن مالك بن الأوس، نقيب، شهد بدرًا، فقُتل به مع رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- شهيدًا.
قال ابن هشام: ونسبه ابن إسحاق في بني عَمرو بن عوف؛ وهو من بني غَنْم
بن السَّلَم؛ لأنه ربما كانت دعوة الرجل في القوم، ويكون فيهم فيُنسب
إليهم.
قال ابن إسحاق: ورفاعة بن عبد المُنْذِر بن زَنْبَر بن زيد بن أمية بن
زيد بن مالك بن عَوْف بن عمرو، نقيب، شهد بدرًا. وعبد الله بن جُبَيْر
بن النعمان بن أمية بن البُرَك واسم البُرَك: امرؤ القيس بن ثَعْلبة بن
عَمرو بن عَوْف بن مالك بن الأوْس، شهد بدرًا، وقُتل يومَ أحد شهيدًا
أميرًا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الرُّمَاة؛ ويقال: أمية بن
البَرْك، فيما قال ابن هشام.
قال ابن إسحاق: ومعْنُ بن عدي بن الجد بن العَجْلان بن حارثة بن
ضبَيْعة، حليف لهم من بَلِي، شهد بدرًا وأحدًا والخندق، ومشاهد رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- كلها، قُتل يومَ اليمامة شهيدًا في خلافة
أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وعُوَيْم بن ساعدة، شهد بدرًا وأحدًا
والخندق. خمسة نفر.
فجميع من شهد العقبة من الأوس أحد عشر رجلًا.
وشهدها من الخزرج بن حارثة بن ثَعْلبة بن عَمرو بن عامر؛ ثم من بني
النجار، وهو تَيْم الله بن ثعلبة بن عَمرو بن الخزرج: أبو أيوب، وهو
خالد بن زيد بن كلَيب بن ثَعلبة بن عبد بن عَوْف بن غَنْم بن مالك بن
النجار، شهد بدرًا وأحدًا والخندق، والمشاهد كلها؛ مات بأرض الروم
غازيًا في زمن معاوية بن أبي سفيان. ومُعاذ بن الحارث بن رفاعة بن
سَواد بن مالك بن غَنْم بن مالك بن النجار، شهد بدرًا وأحدًا والخندق،
والمشاهد كلها، وهو ابن عفراء، وأخوه عَوْف بن الحارث شهد بدرًا وقتل
به شهيدًا، وهو لعفراء. وأخوه مُعوّذ بن الحارث، شهد بدرًا وقُتل به
شهيدًا، وهو الذي قَتل أبا جهل بن هشام بن المغيرة: وهو لعفراء ويقال:
رفاعة بن الحارث بن سواد فيما قال ابن هشامِ وعُمارة بن حَزْم بن زيد
ج / 2 ص -74-
ابن
لَوذان بن عَمْرو بن عبد عوف بن غنْم بن مالك بن النجار: شهد بدرًا
وأحدًا والخندق، والمشاهد كلَّها، قُتل يوم اليمامة شهيدًا في خلافة
أبي بكر الصديق رضي الله عنه. وأسعد بن زرارة بن عُدَس بن عُبَيد بن
ثعلبة بن غَنْم بن مالك بن النجار، نقيب، مات قبل بدر ومسجد رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- يُبنى، وهو أبو أمامة. ستة نفر.
ومن بني عمرو بن مبذول. ومبذول: عامر بن مالك بن النجار: سهل بن عَتيك
بن نعمان بن عَمرو بن عَتيك بن عمرو، شهد بدرًا. رجل.
ومن بني عمرو بن مالك بن النجار، وهم بنو حُدَيْلة قال ابن هشام:
حُدَيْلة: بنت مالك بن زيد مَناة بن حبيب بن عبد حارثة بن مالك بن
غَضْب بن جُشَم بن الخزرج
أوس بن ثابت بن المنذر بن حرام بن عَمرو بن زيد مَناة بن عدي بن عمرو
بن مالك بن النجار، شهد بدرًا، وأبو طلحة، وهو زَيد بن سهل بن الأسود
بن حرام بن عَمرو بن زيد مَناة بن عَدي بن مالك بن النجار، شهدا بدرًا.
رجلان.
ومن بني مازن بن النجار، قيس بن أبي صَعصعة، واسم أبي صعصَعة: عَمرو بن
زيد بن عوف بن مَبْذُول بن عَمرو بن غَنْم بن مازن، شهد بدرًا، وكان
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جعله على السَّاقَة يومئذ. وعمرو بن
غزية بن عمرو بن ثعلبة بن خَنْساء بن مبذول بن عمرو بن غَنْم بن مازن.
رجلان. فجميع من شهد العقبة من بني النجار أحد عشر رجلًا.
قال ابن هشام: عمرو بن غزية بن عمرو بن ثعلبة بن خنساء، هذا الذي ذكره
ابن إسحاق، إنما هو غزية بن عمرو بن عطية بن خنساء.
قال ابن إسحاق: ومن بلحارث بن الخزرج: سعد بن الربيع بن عمرو بن أبي
زُهَيْر بن مالك بن امرئ القيس بن مالك بن ثَعْلبة بن كعب بن الخزرج بن
الحارث، نقيب، شهد بدرًا وقُتل يوم أحد شهيدًا. وخارجة بن زيد بن أبي
زُهَيْر بن مالك بن امرئ القيس بن مالك بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن
الحارث، شهد بدرًا وقُتل يوم أحد شهيدًا. وعبد الله بن رواحة بن ثعلبة
بن امرئ القيس بن عمرو بن امرئ القيس بن مالك بن ثعلبة بن كعب بن
الخزرج بن الحارث، نقيب، شهد بدرًا وأحدًا والخندق ومشاهد رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- كلها، إلا الفتح وما بعده، وقُتل يوم مؤتة شهيدًا
أميرًا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم. وبشير بن سعد بن ثعلبة بن خلاس
بن زيد بن مالك بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث
ج / 2 ص -75-
أبو
النعمان بن بشير، شهد بدرًا. وعبد الله بن زيد بن ثعلبة بن عبد الله بن
زيد مَناة بن الحارث بن الخزرج، شهد بدرًا، وهو الذي أرِيَ النداءَ
للصلاة، فجاء به إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأمر به، وخَلاَّد
بن سُوَيد بن ثعلبة بن عمرو بن حارثة بن امرئ القيس بن مالك بن ثعلبة
بن كعب بن الخزرج، شهد بدرًا وأحدًا والخندق، وقُتل يوم بني قُرَيْظة
شهيدًا، طُرِحَتْ عليه رحى من أطَم من أطَامها فشدخته شدخًا شديدًا،
فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما يذكرون إن له لأجر شهيدين.
وعُقبة بن عَمرو بن ثعلبة بن أسَيْرة بن عُسَيْرة بن جِدَارة بن عَوْف
بن الحارث بن الخزرج، وهو أبو مسعود وكان أحدث من شهد العقبة سِنًّا،
مات في أيام معاوية لم يشهد بدرًا، سبعة نفر.
ومن بني بَيَاضة بن عامر بن زُريق بن عبد حارثة بن مالك بن غضب بن
جُشَم بن الخزرج: زياد بن لَبِيد بن ثعلبة بن سِنان بن عامر بن عَدي بن
أمية بن بَيَاضة، شهد بدرًا، وفروة بن عَمرو بن وذْفَة بن عبيد بن عامر
بن بياضة، شهد بدرًا. قال ابن هشام: ويقال: ودفة.
قال ابن إسحاق: وخالد بن قَيْس بن مالك بن العَجْلان بن عامر بن
بَيَاضة شهد بدرًا، ثلاثة نفر.
ومن بني زُرَيق بن عامر بن زُرَيق بن عبد حارثة بن مالك بن غضْب بن
جُشَم بن الخزرج: رافع بن مالك بن العجلان بن عمرو بن عامر بن زُريْق،
نقيب، وذَكوان بن عبد قيس مخلَّد بن عامر بن زُرَيق، وكان خرج إلى رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- وكان معه بمكة وهاجر إلى رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- من المدينة، فكان يقال له: مهاجري أنصاري، شهد بدرًا
وقُتل يوم أحد شهيدًا. وعبَّاد بن قيس بن عامر بن خَلدة بن مخُلّد بن
عامر بن زُرَيق، شهد بدرًا، والحارث بن قيس بن خالد بن مَخْلد بن عامر
بن زُرَيْق، وهو أبو خالد شهد بدرًا، أربعة نفر.
ومن بني سلمة بن سعد بن علي بن أسد بن سَارِدَة بن تَزِيد بن جُشَم بن
الخزِرج، ثم من بني عبيد بن عدي بن غَنْم بن كعب بن سَلَمة: البَراء بن
معرور بن صخر بن خَنْساء بن سِنان بن عبيد بن عدي بن غَنْم، نقيب، وهو
الذي تزعُم بنو سلمة أنه كان أول من ضرب على يد رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- وشرط له، واشترط عليه، ثم تُوفي قبلَ مقْدَمِ رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- المدينة. وابنه بشر بن البَراء بن معرور، شهد
بدرًا وأحدًا والخندق ومات بخيبر من أكلة أكلها مع رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- من الشاة التي سُمَّ فيها، وهو
ج / 2 ص -76-
الذي
قال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين سأل بني سلَمة من سيدكم يا
بني سَلَمة؟ فقالوِا: الجَدُّ بن قَيْس، على بخله، فقال رسول -صلى الله
عليه وسلم: وأي داءٍ أكبر من البُخْل! سيد بني سلَمة الأبيضُ الجَعْدُ
بِشْر بن البَراء بن معرور، وسِنان بن صيفي بن صخر بن خنساء بن سِنان
بن عبيد، شهد بدرًا، وِقتل يوم الخندق شهيدًا. والطُّفَيْل بن النعمان
بن خَنْساء بن سنان بن عُبَيْد، شهد بدرًا، وحُمل يوم الخندق شهيدًا.
ومَعْقل بن المنذر بن سَرْح بن خُناس بن سِنان بن عُيَيْد، شهد بدرًا،
ويزيد بن المنذر، شهد بدرًا، ومسعود بن يزيد بن سبيع بن خنساء بن سنان
بن عبيد، والضحاك بن حارثة بن زيد بن ثَعلبة بن عُبَيْد، شهد بدرًا،
ويزيد بن حرام بن سبيع بن خنساء بن سنان بن عُبَيْد، وجُبار بن صخْر بن
أمية بن خَنْساء بن سِنان بن عُبَيد، شهد بدرًا.
قال ابن هشام: ويقال: جَبَّار بن صخر بن أمية بن خُناس.
قال ابن إسحاق: والطفيل بن مالك بن خنساء بن سِنان بن عُبَيْد، شهد
بدرًا. أحد عشر رجلًا.
ومن بني سواد بن غَنْم بن صب بن سَلَمة،َ ثم من بني كعب بن سَوَاد: كعب
بن مالك بن أبي كعب بن القيْن بن كعب، رجل.
ومن بني غَنْم بن سَوَاد بنِ غَنْم بن كعب بن سَلَمة: سُلَيم بن عمرو
بن حديدة بنِ عمرو بن غنْم، شهد بدرًا، وقُطْبة بن عامر بن حَديدة بن
عمرو بن غنْم، شهد بدرًا، وأخوه يزيد بن عامر بن حَديدة بن عَمرو بن
غَنْم، وهو أبو المنذِر، شهد بدرًا، وأبو اليَسَر، واسمه كعب بن عمرو
بن عَبَّاد بن عَمرو بن غَنْم، شهد بدرًا، وصَيْفيُّ بن سَوَاد بن
عَبَّاد بن عَمرو بن غَنْم، خمسة نفر.
قال ابن هشام: صيفي بن أسْود بن عَبَّاد بن عمرو بن غنم بن سَوَاد،
وليس لسواد ابن يقال له: غَنْم.
قال ابن إسحاق: ومن بني نابي بن عَمْرو بن سَوَاد بن غنْم بن كعب بن
سَلَمة: ثعلبة بن غَنَمَة بن عدي بن نابي، شهد بدرًا، وقُتل بالخندق
شهيدًا، وعمرو بن غَنَمَة بن عَدي بن نابي، وعَبْس بن عامر بن عدي بن
نابي، شهد بدرًا. وعبد الله بن أنيْس، حليف لهم من قُضاعة وخالد بن
عَمرو بن عَدِي بن نابي، خمسة نفر.
ج / 2 ص -77-
قال
ابن إسحاق: ومن بني حرام بن كعب بن غنْم بن كعب بن سَلَمة: عبد الله بن
عمرو بن حرام بن ثَعْلبة بن حرام، نقيب، شهد بدرًا، وقُتل يوم أحد
شهيدًا وابنه جابر بن عبد الله. ومُعاذ بن عَمرو بن الجَموح بن يزيد بن
حرام، شهد بدرًا، وثابت بن الجِذْع والجِذْع: ثعلبة بن زيد بن الحارث
بن حرام شهد بدرًا، وقُتل بالطائف شهيدًا. وعُمَيْر بن الحارث بن ثعلبة
بن الحارث بن حرام، شهد بدرًا، قال ابن هشام: عُمير بن الحارث بن
لَبْدَة بن ثعلبة.
قال ابن إسحاق: وخَدِيج بن سَلاَمة بن أوْس بن عمرو بن الفُرَافِرِ،
حليف لهم من بَلِيّ. ومُعاذ بن جَبَل بن عَمرو بن أوْس بن عائذ بن كعب
بن عَمرو بن أدِي بن سعد بن على بن أسد، ويقال: أسد بن سَارِدة بن
تَزيد بن جُشَم بن الخزرج؛ وكان في بني سَلَمة، شهد بدرًا والمشاهد
كلَّها ومات بعِمْواس، عام الطاعون بالشام، في خلافة عمر بن الخطاب رضي
الله عنه، وإنما ادعته بنو سَلَمة أنه كان أخا سهل بن محمد بن الجد بن
قيس بن صخر بن خَنْساء بن سِنان بن عبيد بن عدي بن غَنْم بن كعب بن
سلمة. سبعة نفر.
قال ابن هشام: أوس: ابن عباد بن عدى بن كعب بن عمرو بن أذن بن سعد.
قال ابن إسحاق: ومن بني عَوْف بن الخزرج؛ ثم من بني سالم بن عَوْف بن
عَمْرو بن عوف بن الخزرج: عُبادة بن الصامت بن قَيْس بن أصْرَم بن
فِهْر بن ثعلبة بن غَنْم بن سالم بن عَوْف، نقيب، شهد بدرًا والمشاهد
كلها.
قال ابن هشام: هو غَنْم بن عَوْف، أخو سالم بن عَوْف بن عمرو بن عوف بن
الخزرج.
قال ابن إسحاق: والعباس بن عُبادة بن نَضْلة بن مالك بن العجلان بن زيد
بن غَنْم بن سالم بن عوف وكان ممن خرج إلى رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- وهو بمكة، فأقام معه بها، فكان يُقال له: مهاجري أنصاري، وقُتل
يوم أحد شهيدًا، وأبو عبد الرحمن يزيد بن ثعلبة بن خَزَمة بن أصرم بن
عَمرو بن عُمارة، حليف لهم من بني غصينة من بلي. وعَمْرو بن الحارث بن
لَبْدة بن عمرو بن ثَعلبة: أربعة نفر، وهم القَوَاقِل.
ومن بني سالم بن غَنْم بن عوف بن الخزرج، وهم بنو الحُبُلَّى قال ابن
هشام: الحبلى: سالم بن غنم بن عوف، وإنما سُمي الحبُلَّى لعظم بطنه:
رفاعة بن عمرو بن زيد بن عمرو
ج / 2 ص -78-
ابن
ثعلبة بن مالك بن سالم بن غَنْم. شهد بدرًا؛ وهو أبو الوليد.
قال ابن هشام: ويقال: رفاعة بن مالك، ومالك: ابن الوليد بن عبد الله بن
مالك بن ثعلبة بن جُشم بن مالك بن سالم.
قال ابن إسحق: وعقبة بن وهب بن كَلَّدة بن الجَعْد بن هلال بن الحارث
بن عمرو بن عدي بن جشم بن عوف بن بُهْثَة بن عبد الله بن غطفان بن سعد
بن قيس بن عيلان، حليف لهم، شهد بدرًا، وكان ممن خرج إلى رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- مهاجرًا من المدينة إلى مكة، فكان يقال له:
مهاجري أنصاري.
قال ابن هشام: رجلان.
قال ابن إسحاق: ومن بني ساعدة بن كعب بن الخزرج: سعد بن عُبادة بن
حارثة بن أبي خُزَيمة بن ثعلبة بن طَريف بن الخزرج بن سَاعدة نقيب،
والمُنذر بن عَمرو بن خنيس بن حارثة بن لَوْذان بن عبد وُدّ بن زيد بن
ثعلبة بن جُشم بن الخزرج بن ساعدة. نقيب. شهد بدرًا وأحدًا. وقُتل يوم
بئر معونة أميرًا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو الذي كان يقال
له أعنق ليموت. رجلان.
قال ابن هشام: ويقال: المنذر بن عمرو بن خنش.
قال ابن إسحاق: فجميع من شهد العقبة من الأوس والخزرج ثلاثة وسبعون
رجلًا وامرأتان منهم، يزعمون أنهما قد بايعتا، وكان رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- لا يصافح النساءَ إنما كان يأخذ عليهنَّ، فإذا أقررن،
قال: اذهبْنَ فقد بايعتكنَّ.
ومن بني مازن بن النجار: نُسَيْبة بنت كعب بن عمرو بن عوف بن مبذول بن
عَمرو بن غَنْم بن مازن، وهي أم عمارة، كانت شهدت الحرب مع رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- وشهدت معها أختها. وزوجها زيد بن عاصم بن كعب.
وابناها: حبيب بن زيد، وعبد الله بن زيد، وابنها حبيب الذي أخذه
مُسيلمة الكذاب الحنفي، صاحب اليمامة، فجعل يقول له: أتشهد أن محمدًا
رسول الله؟ فيقول: نعم فيقول: أفتشهد إني رسول الله؟ فيقول: لا أسمع،
فجعل يقطعه عضوًا عضوًا حتى مات في يده، لا يزيده على ذلك، إذا ذكر له
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- آمن به وصلى عليه، وإذا ذكر له مُسيلمة
قال: لا أسمع فخرجتْ إلى اليمامة مع المسلمين،
ج / 2 ص -79-
فباشرت
الحربَ بنفسِها، حتى قَتل اللهُ مسيلمةَ ورجعت وبها اثنا عشر جرحًا، من
بين طعنة وضربة.
قال ابن إسحاق: حدثني هذا الحديث عنها محمدُ بن يحيى بن حِبَّان، عن
عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صَعْصَعة.
ومن بني سلمة: أم مَنيع، واسمها: أسماء بنت عَمرو بن عَدي بن نابي بن
عمرو بن غَنْم بن كعب بن سَلَمة1.
نزول الأمر لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، في القتال:
بسم الله الرحمن الرحيم. قال: حدثنا أبو محمد عبد الملك بن هشام، قال:
حدثنا زياد بن عبد الله البكائي، عن محمد بن إسحاق المطَّلبي: وكان
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل بيعة العقبة لم يُؤْذَن له في
الحرب ولم تُحلل له الدماء، إنما يؤمر بالدعاء إلى الله والصبر على
الأذى، والصفح عن الجاهل، وكانت قريش قد اضطهدت من اتبعه من المهاجرين
حتى فتنوهم عن دينهم ونفوهم من بلادهم، فهم من بين مفتون في دينه، ومن
بين مُعذَّب في أيديهم، ومن بين هارب في البلاد فرارًا منهم، منهم مَن
بأرض الحبشة، ومنهم من بالمدينة، وفي كل وجه، فلما عتت قريش على الله
عز وجل، وردّوا عليه ما أرادهم به من الكرامة، وكذبوا نبيه -صلى الله
عليه وسلم- وعذبوا ونَفَوْا من عبَدَه ووحَّده وصدَّق نبيه، واعتصم
بدينه، أذن الله عز وجل لرسوله -صلى الله عليه وسلم- في القتال
والانتصار ممن ظلمهم وبغى عليهم. فكانت أولُ آية أنزلت في إذنه له في
الحرب، وإحلاله الدماء والقتال، لمن بنى عليهم، فيما بلغني عن عروة بن
الزبير وغيره من العلماء، قول الله تبارك وتعالى:
{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ
عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ
بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلا دَفْعُ
اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ
وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا
وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ،
الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ
وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ
الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} أي: أني إنما أحللت لهم القتال
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 راجع زيادة في أنساب من ذكروا وأخبارًا كثيرة عنهم في: "الروض الأنف،
بتحقيقنا، ج2 ص214 وما بعدها".
ج / 2 ص -80-
لأنهم
ظُلموا، ولم يكن لهم ذنب فيما بينهم وبين الناس، إلا أن يعبدوا الله،
وأنهم إذا ظهروا أقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وأمروا بالمعروف، ونهوا
عن المنكر، يعني النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابَه رضي الله عنهمِ
أجمعين، ثم أنزل الله تبارك وتعالى عليه:
{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ}، أي: حتى لا يفتَن مؤمن عن دينه.
{وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة: 193] أي: حتى يُعبد الله، لا يُعبد معه غيره.
الإذن لمسلمي مكة بالهجرة إلى المدينة: قال ابن إسحاق: فلما أذن الله
تعالى له صلى الله عليه وسلم في الحرب، وبايعه هذا الحي من الأنصار على
الإسلام والنُّصْرة له ولمن اتبعه، وأوى إليهم من المسلمين، أمر رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- أصحابه من المهاجرين من قومه، ومن معه بمكة
من المسلمين، بالخروج إلى المدينة والهجرة إليها، واللحوق بإخوانهم من
الأنصار وقال: إن الله عز وجل قد جعل لكم إخوانًا ودارًا تأمنون بها،
فخرجوا أرْسالًا1، وأقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمكة ينتظر أن
يأذن له رُّبه في الخروج من مكة، والهجرة إلى المدينة.
ذكر المهاجرين إلى المدينة: فكان أولُ من هاجر إلى المدينة من أصحاب
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من المهاجرين من قريش، من بني مخزوم:
أبو سَلمة بن عبد الأسَد بن هلال بن عبد الله بن عُمر بن مخزوم، واسمه:
عبد الله، هاجر إلى المدينة قبل بَيعة أصحاب العقبة بسنة، وكان قدم على
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكة من أرض الحبشة، فلما آذته قريش،
وبلغه إسلام من أسلم من الأنصار، خرج إلى المدينة مهاجرًا.
قال ابن إسحاق: حدثني أبي: إسحاق بن يسار، عن سَلَمة بن عبد الله بن
عُمر بن أبي سَلَمة عن جدته أم سلمة، زوج النبي -صلى الله عليه وسلم-
قالت: لما أجمع أبي سلمة الخروج إلى المدينة رحَّل لي بعيره ثم حملني
عليه، وحمل معي ابني سلمة بن أبي سلمة في حجري، ثم خرج بي يقود بعيرَه،
فلما رأته رجالُ بني المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم قاموا إليه،
فقالوا: هذه نفسك غلبتَنا عليها، أرأيتَ صاحبتك هذه؟ علامَ نتركك تسير
بها في البلاد؟ قالت: فنزعوا خطامَ البعير من يده، فأخذوني منه قالت:
وغضب عند ذلك بنو عبد الأسد، رهْط أبي سلمة، فقالوا: لا والله، لا نترك
ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا.
قالت: فتجاذبوا بُنَيَّ سَلَمة بينهم حتى خلعوا يده وانطلق به بنو عبد
الأسد، وحبسني بنو المغيرة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جماعة وراء جماعة.
ج / 2 ص -81-
عندهم،
وانطلق زوجي أبو سَلَمة إلى المدينة. قالت: ففرق بيني وبين زوجي وبين
ابني. قالت: فكنت أخرج كل غداة فأجلس بالأبطَح، فلا أزال، أبكي، حتى
أمسي: سنةً أو قريبًا منها حتى مر بي رجل من بني عمي، أحد بني المغيرة،
فرأى ما بي فرحمني فقال لبني المغيرة. ألا تخرجون هذه المسكينة، فرقتم
بينها وبين زوجها وبين ولدها! قالت: فقالوا لي: الحقي بزوجك إن شئتِ.
قالت: ورد بنو عبد الأسد إليَّ عند ذلك ابني.
قالت: فارتحلت بعيري ثم أخذت ابني فوضعته في حجري، ثم خرجت أريد زوجي
بالمدينة. قالت: وما معي أحد من خلق الله. قالت: أتبلَّغ بمن لَقِيتُ
حتى أقْدُمَ على زوجي، حتى إذا كنت بالتنعيم1 لَقِيتُ عثمانَ بن طلحة
بن أبي طلحة، أخا بني عبد الدار فقال لي: إلى أين يا بنت أبي أمية؟
قالت: فقلت أريد زوجي بالمدينة. قال: أوَما معكِ أحد؟ قالت: فقلت: لا
والله، إلا الله ثم بنيَّ هذا. قال: والله ما لك من مَتْرك، فأخذ بخطام
البعير، فانطلق معي يهوي بي، فوالله ما صحبت رجلًا من العرب قط، أرى
أنه كان أكرم منه، كان إذا بلغ المنزل أناخ بي، ثم استأخر عني؛ حتى إذا
نزلت استأخر ببعيري؟ فحطَّ عنه، ثم قيده في الشجرة، ثم تنحى عني إلى
شجرة، فاضطجع تحتها، فإذا دنا الرَّواحُ، قام إلى بعيري فقدمه فرَحله
ثم استأخر عني، وقال: اركبي، فإذا ركبت واستويت على بعيري أتى فأخذه
بخطامِه فقاده، حتى ينزل بي حتى أقدمني المدينة، فلما نظر إلى قرية بني
عَمْرو بن عَوْف بقُباء، قال: زوجُك في هذه القرية وكان أبو سلمة بها
نازلًا فادخليها على بركة الله، ثم انصرف راجعًا إلى مكة.
قال: فكانت تقول: والله ما أعلم أهلَ بيت في الإسلام أصابهم ما أصاب آل
أبي سلمة، وما رأيت صاحبًا قط كان أكرمَ من عثمان بن طلحة2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 موضع على فرسخين من مكة.
2 وقد كان عثمان يومئذ على كفره، وإنما أسلم عثمان في هدنة الحديبية،
وهاجر قبل الفتح مع خالد بن الوليد، وقُتل يوم أحد إخوته مسافع، وكلاب
والحارث، وأبوهم، وعمه عثمان بن أبي طلحة قتل أيضًا يوم أحد كافرًا
وبيده كانت مفاتيح الكعبة ودفعها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عام
الفتح إلى عثمان بن طلحة بن أبي طلحة؛ وإلى ابن عمه شيبة بن أبي عثمان
بن أبي طلحة وهو جد بني شيبة حجبة الكعبة، واسم أبي طلحة جدهم: عبد
الله بن عبد الله بن عبد العزى، وقُتل عثمان رحمه الله شهيدًا بأجنادين
في أول خلافة عمر.
ج / 2 ص -82-
قال
ابن إسحاق: ثم كان أول من قدمها من المهاجرين بعد أبي سلمة: عامر بن
ربيعة، حليف بني عدي بن كعب، معه امرأته ليلى بنت أبي حَثْمَة بن غانم
بن عبد الله بن عَوْف بن عُبَيد بن عَدي بن كعب. ثم عبد الله بن جَحْش
بن رِئاب بن يَعْمُر بن صَبرة بن مُرة بن كثير بن غَنْم بن دُودان بن
أسد بن خُزَيمة، حليف بني أمية بن عبد شمس، احتمل بأهله وبأخيه عبد بن
جَحْش، وهو أبو أحمد وكان أبو أحمد رجلًا ضرير البصر، وكان يطوف مكة،
أعلاها وأسفلها، بغير قائد، وكان شاعرًا، وكانت عنده الفَرْعَة بنت أبي
سفيان بن حرب، وكانت أمه أميمة بنت عبد المطلب بن هاشم فغُلِّقت دار
بني جَحْش1 هجرةً، فمر بها عُتبة بن ربيعة، والعباس بن عبد المطلب،
وأبو جهل بن هشام بن المغيرة، وهي دار أبان بن عثمان اليوم التي
بالردْم، وهم مُصعِدون إلى أعلى مكة، فنظر إليها عُتبة بن ربيعة تخفقَ
أبوابُها يَبابًا2 ليس فيها ساكن، فلما رآها كذلك تنفس الصُّعَداء، ثم
قال:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وبنو جحش، هم: عبد الله وأبو أحمد واسمه: عبد، وقد كان أخوهم عبيد
الله أسلم ثم تنصر بأرض الحبشة، وزينب بنت جحش أم المؤمنين التي كانت
عند زيد بن حارثة ونزلت فيها:
{فَلَمَّا
قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا}
[الأحزاب: 37] وأم حبيب بنت جحش التيَ كانت تستحاض، وكانت تحت عبد
الرحمن بن عوف وحمنة بنت جحش التى كانت تحت مصعب بن عمير، وكانت تستحاض
أيضًا، وقد روي أن زينب استحيضت، أيضًا، ووقع في الموطأ أن زينب بنت
جحش التي كانت تحت عبد الرحمن بن عوف، وكانت تستحاض ولم تك قط زينب عند
عبد الرحمن بن عوف، ولا قاله أحد، والغلط لا يسلم بشر منه، وإنما كانت
تحت عبد الرحمن أختها أم حبيب، ويقال فيها أم حبيبة، غير أن شيخنا أبا
عبد الله محمد بن نجاح، أخبرني أن أم حبيب كان اسمها: زينب فهما زينبان
غلبت على إحداهما الكنية، فعلى هذا لا يكون في حديث الموطأ وهم ولا غلط
والله أعلم. وكان اسم زينب بنت جحش: برة فسماها رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- زينب، وكذلك زينب بنت أم سلمة ربيبته عليه السلام، كان
اسمها برة، فسماها زينب كأنه كره أن تزكي المرأة نفسها بهذا الاسم،
وكان اسم جحش بن رئاب: برة بضم الباء، فقالت زينب لرسول الله صلى الله
عليه وسلم: يا رسول الله لو غيرت اسم أبي، فإن البرة صغيرة، فقيل: إن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: "لو أبوك مسلمًا لسميته باسم من
أسمائنا أهل البيت، ولكني سميته جحش والجحش أكبر من البرة". وذكر هذا
الحديث مسندًا في كتاب "المؤتلف والمختلف"، لأبي الحسن الدارقطني. عن
الروض الأنف.
2 اليباب: القفر.
ج / 2 ص -83-
وكل دار وإن طالت سلامتُها
يومًا ستُدركُها النكْباءُ والحُوبُ
قال ابن هشام: وهذا
البيت لأبي دُؤاد الإيادي في قصيدة له. والحوب: التوجع.
قال ابن إسحاق: ثم قال عتبة بن ربيعة: أصبحت دار بني جحش خلاء من
أهلها! فقال أبو جهل: وما تبكي عليه من قُلّ ابن قُلّ.
قال ابن هشام: القُل: الواحد. قال لَبيد بن ربيعة:
كل بني حرة مصيرهم
قُلّ وإن أكثرتْ من العَددِ
قال ابن إسحاق: ثم قال:
هذا عمل ابن أخي هذا، فرق جماعتنا، وشتت أمرَنا وقطع بيننا. فكان منزل
أبي سلمة بن عبد الأسد، وعامر ابني ربيعة، وعبد الله بن جحش، وأخيه أبي
أحمد بن جحش، على مبشر بن عبد المنذر بن زنبر بقُباء، في بني عمرو بن
عوف، ثم قدم المهاجرون أرْسالًا، وكان بنو غَنم بن دودان أهل إسلام، قد
أوعبوا إلى المدينة مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هجرة رجالهم
ونساؤهم: عبد الله بن جحش، وأخوه أبو أحمد بن جحش، وعُكاشة بن مِحصن،
وشُجاع وعقبة ابنا وهب، و أرَبد بن حُمَيِّرَة.
قال ابن هشام: ويقال ابن حُمَيْرَة.
قال ابن إسحاق: ومُنْقذ بن نُباتة، وسعيد بن رُقَيش، ومُحرِز بن نَضلة،
ويزيد بن رُقَيش، وقيس بن جابر، وعَمرو بن مِحصن، ومالك بن عمرو،
وصفوان بن عمرو، وثَقْف بن عمرو، وربيعة بن أكثم، والزبير بن عُبيد،
وتمَّام بن عُبيدة، وسَخْبَرة بن عُبَيْدة، ومحمد بن عبد الله بن
جَحْش.
ومن نسائهم: زينب بنت جَحش، وأم خبيب بنت جَحْش، وجُذَامة بنت جَنْدَل،
وأم قيس بنت مِحْصن، وأم حبيب بنت ثُمامة، وآمنة بنت رُقيشَ، وسَخْبَرة
بنت تميم، حَمْنة بنت جحش.
وقال أبو أحمد بن جَحْش بن رِئاب، وهو يذكر هجرة بني أسد بن خُزَيمة من
قومه إلى الله تعالى وإلى رسوله -صلى الله عليه وسلم- وإيعابهم في ذلك
حين دُعوا إلى الهجرة:
ولو حلفتْ بين الصفا أمُّ أحمد
ومَرْوتها باللهِ بَرَّتْ يمينُها
لنحنُ الألى كنا بها ثُم لم نزلْ
بمكةَ حتى عاد غَثًّا سمينُها
بها خيَّمت غَنْم بنُ دُودانَ وابتنتْ
وما إِنْ غَدتْ غَنْم وخف قطينُها1
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 القطين: القوم المقيمون.
ج / 2 ص -84-
إلى الله تغدو بين مَثْنى وواحدٍ
ودينُ رسولِ الله بالحقِّ دينُها
وقال أبو أحمد بن جحش
أيضًا:
لما رأتني أمُّ أحمدَ غاديًا
بذمةِ من أخشى بغَيْبٍ وأرهبُ
تقول: فإما كنتَ لا بدَّ فاعلًا
فيممْ بنا البلدانَ ولتنأ يثربُ
فقلت لها: بل يثربُ اليومَ وجهُنا
وما يشاءُ الرحمنُ فالعبدُ يركبُ
إلى اللهِ وجهي والرسول ومن يُقمْ
إلى اللهِ يومًا وجهُه لا يُخيَّبُ
فكم قد تركنا من حميمٍ مُناصحٍ
وناصحةٍ تبكي بدمعٍ وتندُبُ
ترى أن وِترًا نأينا عن بلادِنا
ونحنُ نرى أن الرغائبَ تُطْلَبُ
دعوْتُ بني غَنْمٍ لحقْنِ دمائِهم
وللحق لما لاح للناسِ مَلْحبُ1
أجابوا بحمدِ اللهِ لما دعاهمُ
إلى الحقِّ داعٍ والنجاح فأوْعبوا
وكنا وأصحابًا لنا فارقوا الهدَى
أعانوا علينا بالسلاح وأجْلَبوا
كَفَوْجَيْن: أمَّا منهما فمُوفّق
على الحقِّ مهدى، وفوج مُعَذَّبُ
طغَوْا وتمنوْا كذبة وأزلَّهم
عن الحقِّ إبليس فخابوا وخُيبوا
وَرِعْنا إلى قولِ النبيِّ محمد
فطاب وُلاةُ الحقِّ منا وطُيِّبوا2
نمتْ بأرحام إليهم قريبةٍ
ولا قربَ بالأرحام إذ لا نُقَرَّبُ
فأيُّ ابنِ أختٍ بعدَنا يأمننَّكم
وأيةُ صِهْر بعدَ صِهريَ ترْقَبُ
ستعلمُ يومًا أينا إذ تزايلوا
وزُيل أمرُ الناسِ للحقِّ أصوبُ
قال ابن هشام: قوله
"ولتنأ يثرب"، وقوله "إذ لا نقرب"، عن غير ابن إسحاق. قال ابن هشام
يريد بقوله: "إذ" إذا، كقول الله عز وجل:
{إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [سبأ: 31] قال أبو النجم العِجْلي:
ثم جزاه الله عنا إذ جَزَى
جنَّات عدنٍ في العَلالِيِّ والعُلاَ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الملحب: الطريق الواضح.
2 رعنا: رجعنا.
ج / 2 ص -85-
هجرة عُمر وقصة عياش وهشام معه:
قال ابن إسحاق: ثم خرج عُمر بن الخطاب، وعَيَّاش بن أبي ربيعة
المخزومي، حتى قدما المدينة. فحدثني نافع مولى عبد الله بن عمر، عن عبد
الله بن عمر، عن أبيه عمر بن الخطاب، قال: اتعَدْتُّ، لما أردنا الهجرة
إلى المدينة، أنا وعَيَّاش بن أبي ربيعة، وهشام بن العاص بن وائل
السهمي التَّناضِبَ من أضاة بني غفار، فوق سَرِف وقلنا: أينا لم يصبح
عندها فقد حُبس فليمض صاحباه. قال: فأصبحت أنا وعياش بن أبي ربيعة عند
التَّناضِب، وحُبس عنا هشام، وفُتن فافتتن.
فلما قدمنا المدينة نزلنا في بني عَمرو بن عوف بقُباء، وخرج أبو جهل بن
هشام والحارث بن هشام إلى عَيَّاش بن أبي ربيعة، وكان ابن عمهما
وأخاهما لأمهما، حتى قدما علينا المدينة ورسول الله -صلى الله عليه
وسلم- بمكة، فكلماه وقالا: إن أمَّك قد نذرت أن لا يَمس رأسَها مُشط
حتى تراك، ولا تستظل من شمس حتى تراك، فرقَّ لها، فقلت له: يا عياش،
إنه والله إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك فاحذرْهم، فوالله لو قد
آذى أمَّك القملُ لامتشطت، ولو قد اشتد عليها حرُّ مكة لاستظلت. قال:
فقال: أبرّ قَسَمَ أمي، ولي هنالك مال فآخذه. قال: فقلت: والله إنك
لتعلم أني لمن أكثر قريش مالًا، فلك نصف مالي ولا تذهب معهما. قال:
فأبى علي إلا أن يخرج معهما؛ فلما أبى إلا ذلك؛ قال: قلت له: أما إذ قد
فعلت ما فعلت، فخذ ناقتي هذه، فإنها ناقة نجيبة ذلول، فالزم ظهرَها،
فإن رابك من القوم ريْب، فانجُ عليها.
فخرج عليها معهما، حتى إذا كانوا ببعض الطريق، قال له أبو جهل: يابن
أخي، والله لقد استغلظتُ بعيري هذا، أفلا تُعْقِبني على ناقتك هذه؟
قال: بلَى. قال: فأناخ، وأناخا ليتحول عليها، فلما استَوَوْا بالأرض
عدَوَا عليه، فأوثقاه وربطاه ثم دخلا به مكة، وفتناه فافتُتن.
قال ابن إسحاق: فحدثني به بعضُ آل عَيَّاش بن أبي ربيعة: أنهما حين
دخلا به مكة دخلا به نهارًا مُوثَقًا، ثم قالا: يا أهل مكة، هكذا
فافعلوا بسفهائكم، كما فعلنا بسفيهنا هذا.
كتاب عمر إلى هشام بن العاص: قال ابن إسحاق: وحدثني نافع، عن عبد الله
بن عمر، عن عمر في حديثه، قال: فكنا نقول: ما الله بقابل ممن افتُتن
صَرْفًا ولا عَدْلًا ولا تَوْبة، قوم عرفوا الله، ثم رجعوا إلى الكفر
لبلاء أصابهم. قال: وكانوا يقولون ذلك لأنفسِهم. فلما
ج / 2 ص -86-
قَدِم
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة، أنزل الله تعالى فيهم، وفى
قولنا وقولهم لأنفسهم:
{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا
تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ
جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَأَنِيبُوا إِلَى
رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ
ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ، وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ
مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً
وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ}.
قال عمر بن الخطاب فكتبتها بيدي في صحيفة، وبعثت بها إلى هشام بن العاص
قال: فقال هشام بن العاص: فلما أتتني جعلت أقرؤها بذي طُوَى1، أصعد بها
فيه وأصَّوَّب ولا أفهمها حتى قلت: اللهم فَهمْنيها. قال: فألقى اللهُ
تعالى في قلبي أنها إنما أنزلت فينا، وفيما كنا نقول في أنفسنا ويقال
فينا. قال: فرجعت إلى بعيري، فجلست عليه، فلحقت برسول الله -صلى الله
عليه وسلم- وهو بالمدينة.
أمر الوليد بن الوليد مع عياش وهشام: قال ابن هشام: فحدثني من أثق به:
أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال، وهو بالمدينة: من لي بعَيَّاش
بن أبي ربيعة، وهشام بن العاص فقال الوليد بن الوليد بن المغيرة: أنا
لك يا رسول الله بهما، فخرج إلى مكة، فقدمها مستخفيًا، فلقي امرأة تحمل
طعامًا فقال لها: أين تريدين يا أمة الله؟ قالت: أريد هذين المحبوسين
-تعنيهما- فتبعها حتى عرف موضعهما، وكانا محبوسين في بيت لا سقف له؟
فلما أمسى تسور عليهما، ثم أخذ مَرْوة2 فوضعها تحتَ قيديهما، ثم ضربهما
بسيفه فقطعهما، فكان يقال لسيفه: "ذو المرْوة" لذلك، ثم حملهما على
بعيره، وساق بهما، فعثر فدَميت إصبُعه، فقال:
هل أنتِ إلا إصبعٌ دميت
وفى سبيلِ اللهِ ما لَقيت
ثم قدم بهما على رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة.
منازل المهاجرين بالمدينة:
قال ابن إسحاق: ونزل عمر بن الخطاب حين قدم المدينة ومن لحق به من أهله
وقومه، وأخوه زيد بن الخطاب؛ وعمرو وعبد الله ابنا سراقة بن المعتمر،
وخُنَيس بن حُذافة السَّهْمي -وكان صهره على ابنته حَفْصة بنت عمر،
فخلف عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده-
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 موضع بأسفل مكة.
2 المروة: الحجر.
ج / 2 ص -87-
وسعيد
بن زيد بن عَمرو بن نُفَيل، وواقد بن عبد الله التميمي، حليف لهم؛
وخَؤْليّ بن أبي خَوْلِيّ؛ ومالك بن أبي خَوْلِيّ، حليفان لهم.
قال ابن هشام: أبو خولي: من بني عجل بن لُجَيم بن صعب بن على بن بكر بن
وائل.
قال ابن إسحاق: وبنو البُكير أربعتهم: إياس بن البكير، وعاقل بن
البُكير، وعامر بن البكير، وخالد بن البكير، وحلفاؤهم من بني سعد بن
ليث، على رفاعة بن عبد المنذر بن زنْبَر، في بني عَمرو بن عَوْف
بقُباء، وقد كان منزل عَيَّاش بن أبي ربيعة معه عليه حين قدما المدينة.
ثم تتابع المهاجرون، فنزل طلحة بن عبيد الله بن عثمان، وصُهيب بن سنان
على خُبَيْب بن إساف أخي بلحارث بن الخزرج بالسُّنْح1، ويقال: بل نزل
طلحة بن عُبيد الله على أسعد بن زُرارة، أخي بني النجار.
قال ابن هشام: وذُكر لي عن أبي عثمان النهْدي أنه قال: بلغني أن
صُهيبًا حين أراد الهجرة قال له كفار قريش: أتيتنا صُعلوكًا حقيرًا،
فكثر مالُك عندنا، وبلغتَ الذي بلغتَ، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسِك،
والله لا يكون ذلك؛ فقال لهم صُهَيْب: أرأيتم إن جعلت لكم مالي أتخلون
سبيلي؟ قالوا: نعم. قال: فإني جعلت لكم مالي. قال: فبلغ ذلك رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- فقال: ربح صُهيب؛ ربح صهيب.
قال ابن إسحاق: ونزل حمزةُ بنُ عبد المطلب، وزيد بن حارثة، وأبو
مَرْثَد كَنَّاز بن حِصْن.
قال ابن هشام: ويقال، ابن حُصَيْن وابنه مرثد الغنويان، حليف حمزة بن
عبد المطلب وأنَسة، وأبو كَبْشة2، موليا رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- على كُلثوم بن هِدْم، أخي بني
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 السنح: بعوالي المدينة.
2 أنسة مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من مولدي السراة ويكنى:
أبا مسروح شهد بدرًا والمشاهد كلها مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
ومات في خلافة أبي بكر، وأبو كبشة اسمه: سُلَيم يقال: إنه من فارس،
ويقال؛ من مولدي أرض دوس، شهدا بدرًا والمشاهد كلها مع رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- ومات في خلافة عمر في اليوم الذي ولد فيه عروة بن
الزبير، وأما الذي كانت كفار قريش تذكره وتنسب النبي عليه السلام إليه،
وتقول: قال ابن أبي كبشة وفعل ابن أبي كبشة، فقيل فيه أقوال: قيل: إنها
كنية أبيه لأمه وهب بن عبد مناف؛ وقيل: كنية أبيه من الرضاعة الحارث بن
عبد العزى، وقيل: إن سلمى أخت عبد المطلب كان يكنى أبوها أبا كبشة وهو
عمرو بن لبيد، وأشهر من هذه الأقْوال كلها عند الناس أنهم شبهوه برجل
كان يعبد الشعرى وحده دون العرب، فنسبوه إليه لخروجه عن دين قومه.
وذكر الدارقطني اسم أبي كبشة هذا في المؤتلف والمختلف، فقال: اسمه وجز
بن غالب، وهو خزاعي، وهو من بني غبشان.
ج / 2 ص -88-
عمرو
بن عَوْف بقُباء ويقال بل نزلوا على سعد بن خَيْثمة ويقال: بل نزل حمزة
بن عبد المطلب على أسعد بن زُرارة، أخي بني النجار. كل ذلك يقال.
ونزل عبيدة بن الحارث بن المطلب، وأخوه الطُّفَيل بن الحارث،
والحُصَيْن بن الحارث، ومِسْطَح بن أثَاثة بن عَبّاد بن المطلب،
وسُوَيْبط بن سعد بن حُرَيْملة، أخو بني عبد الدار وطُلَيب بن عُمَير،
أخو بني عبد بن قصي، وخَبّاب، مولى عُتبة بن غزوان، على عبد الله بن
سلمة، أخي بلعجلان بقباء.
ونزل عبد الرحمن بن عوف في رجال من المهاجرين على سعد بن الربيع أخي
بِلْحَارث بن الخزرج، في دار بِلْحارث بن الخزرج.
ونزل الزبير بن العوام، وأبو سَبْرة بن أبي رُهْم بن عبد العُزى، على
مُنْذِر بن محمد بن عُقْبة بن أحَيْحة بن الجُلاح بالعُصبة، دار بني
جحجبي.
ونزل مُصْعَب بن عُمَير بن هاشم، أخو بني عبد الدار على سعد بن مُعاذ
بن النعمان، أخي بني عبد الأشْهل، في دار بني عبد الأشْهل.
ونزل أبو حذيفة بن عُتبة بن ربيعة، وسالم مولى أبي حذيفة.
قال ابن هشام: سالم مولى أبي حُذَيفة سائبة1 لثُبَيْتة بنت يَعَار بن
زيد بن عُبَيْد بن زيد بن مالك بن عوف بن عَمْرو بن عوف بن مالك بن
الأوْس، سيبته فانقطع إلى أبي حذيفة بن عُتْبة بن ربيعة فتبناه، فقيل:
سالم مولى أبي حذيفة، ويقال: كانت ثُبَيْتة بنت يَعار تحت أبي حُذيفة
بن عتبة فأعتقت سالمًا سائبة. فقيل: سالم مولى أبي حذيفة.
منزل عتبة بن غزوان: قال ابن إسحاق: ونزل عتبة بن غزوان بن جابر على
عَبَّاد بن بشر بن وَقْش أخي بني عبد الأشْهل، في دار عبد الأشهل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 السائبة: أي لا ولاء لأحد عليه.
ج / 2 ص -89-
ونزل
عثمان بن عفان على أوْس بن ثابت بن المنذِر، أخي حسان بن ثابت في دار
بني النجار، فلذلك كان حسان يحبُّ عثمان ويبكيه حين قُتل.
وكان يقال: نزل الأعزابُ من المهاجرين على سعد بن خَيْثمة، وذلك أنه
كان عَزَبا، فالله
أعلم أي ذلك كان. هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم:
وأقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمكةَ بعدَ أصحابه من المهاجرين
ينتظر أن يُؤْذَن له في الهجرة، ولم يتخلفْ معه بمكة أحد من المهاجرين
إلا من حُبس أو فُتن، إلا على بن أبي طالب، وأبو بكر بن أبي قُحافة
الصديق -رضى الله عنهما- وكان أبو بكر كثيرًا ما يستأذن رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- في الهجرة، فيقول له رسول الله -صلى الله عليه وسلم:
"لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحبًا"،
فيطمع أبو بكر أن يكونَه.
قريش تتشاور في أمره عليه السلام: قال ابن إسحاق: ولما رأت قريش أن
رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قد صارت له شِيعة وأصحاب من غيرهم
بغيرِ بلدهم، ورأوا خروج أصحابه من المهاجرين إليهم، عرفوا أنهم قد
نزلوا دارًا، وأصابوا منهم مَنَعَة، فحذروا خروج رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- إليهم، وعرفوا أنهم قد أجمع لحربهم. فاجتمعوا له في دار
الندوة وهي دار قُصَي بن كلاب التي كانت قريش لا تقضي أمرًا إلا فيها
يتشاورون فيها ما يصنعون في أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين
خافوه.
قال ابن إسحاق: فحدثني مَنْ لا أتهم من أصحابنا، عن ابن أبي نَجيح، عن
مجاهد بن جُبير أبي الحجاج، وغيره ممن لا أتهم، عن عبد الله بن عباس
رضي الله عنهما قال: لما أجمعوا لذلك، واتَّعدوا أن يدخلوا في دار
الندوة ليتشاوروا فيها في أمرِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غَدَوْا
في اليوم الذي اتَّعدوا له، وكان ذلك اليوم يسمى يوم الرحمة، فاعترضهم
إبليس في هيئة شيخ جليل، عليه بتلة1، فوقف على باب الدار فلما رأوه
واقفًا على بابها؟ قالوا: من الشيخ؟ قال: شيخ من أهل نجد2 سمع بالذي
اتَّعدتم له فحضر معكم ليسمع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البتلة: الكساء الغليظ.
2 وإنما قال لهم إني من أهل نجد فيما ذكر بعض أهل السيرة؛ لأنهم قالوا
لا يدخل =
ج / 2 ص -90-
ما
تقولون، وعسى أن لا يُعدمكم منه رأيًا ونصحًا، قالوا: أجل فادخل معهم،
وقد اجتمع فيها أشراف قريش من بني عبد شمس: عتبة بن ربيعة، وشَيْبة بن
ربيعة، وأبو سفيان بن حرب، ومن بني نوفل بن عبد مناف: طُعَيمة بن عدي،
وجُبَيْر بنُ مُطْعِم، والحارث بن عامر بن نَوْفل. ومن بني عبد الدار
بن قُصَي: النضر بن الحارث بن كَلَدة. ومن بني أسد بن عبد العُزَّى:
أبو البَخْتَرِيّ بن هشام، وزَمْعَة بن الأسود بن المطلب، وحكيم بن
حِزام. ومن بني مخزوم، أبو جهل بن هشام. ومن بني سَهْم: نُبيه ومُنبَّه
ابنا الحجاج. ومن بني جُمَح: أمية بن خلف. ومن كان معهم وغيرهم ممن لا
يعد من قريش.
فقال بعضهم لبعض: إن هذا الرجل قد كان من أمره ما قد رأيتم، فإنا والله
ما نأمنه على الوثوب علينا فيمن قد اتبعه من غيرنا، فأجمعوا فيه رأيًا.
قال: فتشاوروا ثم قال قائل منهم: احبسوه في الحديد، وأغلقوا عليه
بابًا، ثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء الذين كانوا قبله،
زهيرًا والنابغة، ومن مضى منهم، من هذا الموت، حتى يصيبه ما أصابهم.
فقال الشيخ النجدي: لا والله، ما هذا لكم برأي. والله لئن حبستموه كما
تقولون ليخرجن أمره من وراء الباب الذي أغلقتم دونه إلى أصحابه،
فلأوشكوا أن يثبوا عليكم، فيُنزِعوه من أيديكم، ثم يكاثروكم به، حتى
يغلبوكم على أمرِكم، ما هذا لكم برأي، فانظروا في غيره. فتشاوروا. ثم
قال
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= معكم في المشاورة أحد من أهل تهامة؛ لأن هواهم مع محمد. فلذلك تمثل
لهم في صورة شيخ نجدي، وقد ذكر السهيلي في خبر بنيان الكعبة أنه تمثل
في صورة شيخ نجدي أيضًا، وحين حكموا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في
أمر الركن: من يرفعه، فصاح الشيخ النجدي: يا معشر قريش أقد رضيتم أن
يليه هذا الغلام دون أشرافكم وذي أسنانكم، فإن صح هذا الخبر فلمعنى آخر
تمثل نجديًّا، وذلك أن نجد ومنها يطلع قرن الشيطان، كما قال رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- حين قيل له: وفي نجد يا رسول الله؟ قال:
"هنالك الزلازل والفتن، ومنها يطلع قرن الشيطان، فلم يبارك عليها، كما
بارك على اليمن والشام وغيرها"، وحديثه الآخر أنه نظر إلى المشرق، فقال:
"إن الفتنة ههنا من حيث يطلع قرن الشيطان"، وفي حديث ابن عمر، حين قال هذا الكلام، ووقف عند باب عائشة، ونظر
إلى المشرق فقاله، وفي وقوفه عند باب عائشة ناظرًا إلى المشرق يحذر من
الفتن، وفكر في خروجها إلى المشرق عند وقوع الفتنة تفهم من الإشارة،
واضمم إلى قوله عليه السلام حين ذكر نزول الفتن:
"أيقظوا
صواحب الحجر". والله
أعلم. عن: "الروض الأنف".
ج / 2 ص -91-
قائل
منهم: نخرجه من بين أظهرنا، فننفيه من بلادنا، فإذا أخرج عنا فوالله ما
نبالي أين ذهب ولا حيث وقع، إذا غاب عنا وفرغنا منه، فأصلحنا أمرنا
وألفتنا كما كانت، فقال الشيخ النجدي: لا والله، ما هذا لكم برأي، ألم
تَرَوْا حُسنَ حديثه، وحلاوةَ منطقه، وغَلبته على قلوب الرجال بما يأتي
به، والله لو فعلتم ذلك ما أمنتم أن يحل على حي من العرب، فيغلب عليهم
بذلك من قوله وحديثه حتى يتابعوه عليه، ثم يسير بهم إليكم حتى يطأكم
بهم في بلادكم، فيأخذ أمرَكم من أيديكم، ثم يفعل بكم ما أراد، دبروا
فيه رأيًا غير هذا. قال: فقال أبو جهل بن هشام: والله إن لي فيه لرأيًا
ما أراكم وقعتم عليه بعدُ قالوا: وما هو يا أبا الحكم؟ قال أرى أن نأخذ
من كل قبيلة فتى شابًا جليدًا نسيبًا وسيطًا فينا، ثم نُعطي كل فتى
منهم سيفًا صارمًا ثم يَعْمِدوا إليه، فيضربوه بها ضربة رجل واحد،
فيقتلوه، فنستريح منه. فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل
جميعًا، فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعًا، فرضوا منا
بالعقل، فعقلناه لهم. قال: فقال الشيخ النجدي: القول ما قال الرجل، هذا
الرأي الذي لا رأي غيره، فتفرق القوم على ذلك وهم مجمعون له.
استخلافه لعلي: فأتى جبريلُ عليه السلام رسولَ الله -صلى الله عليه
وسلم- فقال: لا تَبِتْ هذه الليلة على فراشِك الذي كنتَ تبيت عليه،
قال: فلما كانت عَتْمَة من الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه متى ينام،
فيثبون عليه؟ فلما رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكانهم، قال
لعليِّ بن أبي طالب: نم على فراشي وتَسَجَّ بِبُرْدي هذا الحَضْرمي
الأخضر، فنم فيه، فإنه لن يَخْلُص إليك شيء تكرهه منهم، وكان رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- ينام في بُرْدِه ذلك إذا نام.
قال ابن إسحاق: فحدثني يزيد بن زياد، عن محمد بن كعب القُرظي قال: لما
اجتمعوا له، وفيهم أبو جهل بن هشام، فقال وهم على بابه: إن محمدًا
يزعُم أنكم إن تابعتموه على أمره، كنتم ملوك العرب والعجم، ثم بُعثتم
من بعد موتكم، فجُعلت لكم جِنان كجنان الأردن، وإن لم تفعلوا كان له
فيكم ذَبْح، ثم بُعثتم من بعدِ موتكم، ثم جُعلت لكم نار تُحرقون فيها.
قال: وخرج عليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخذ حفنةً من تُراب
في يده،ثم قال: أنا أقول ذلك، أنتَ أحدُهم. وأخذ الله تعالى على
أبصارِهم عنه، فلا يَرَوْنَه، فجعل يَنثرُ ذلك الترابَ على رءوسِهم وهو
يتلو هؤلاءِ الآيات من يس:
{يّس،
وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ، إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، عَلَى
صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ}
إلى قوله:
{فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [يس: 9] حتى فرغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من هؤلاء الآيات،
ولم يبق منهم رجل إلا قد وضع على رأسه ترابًا، ثم انصرف إلى حيث أراد
أن يذهبَ، فأتاهم آت ممن لم يكن معهم، فقال:
ج / 2 ص -92-
ما
تنتظرون ههنا؟ قالوا: محمدًا: قال: خيبكم الله! قد والله خرج عليكم
محمد، ثم ما ترك منكم رجلًا إلا وقد وضع على رأسِهِ ترابًا، وانطلق
لحاجته، أفما تَرَوْنَ ما بكم؟ قال: فوضع كلُّ رجلٍ منهم يدَه على
رأسِه، فإذا عليه ترابٌ ثم جعلوا يتطلَّعون فَيَروْن عليًّا على الفراش
مُتَسَجِّيًا بِبُرْد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيقولون: والله
إن هذا لمحمد نائم عليه بُرْدُه. فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا1 فقام علي
رضي الله عنه عن الفراش فقالوا: والله لقد كان صدَّقنا الذي حدثنا.
ما نزل في تربص المشركين بالنبي: قال ابن إسحاق: وكان مما أنزل الله عز
وجل من القرآنِ في ذلك اليوم، وما كانوا أجمعوا له:
{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ
يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ
وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}
[الأنفال: 30]، وقول الله عز وجل:
{أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ، قُلْ
تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ} [الطور: 30، 31].
قال ابن هشام: المنون: الموت. وريب المنون: ما يريب ويعرض منها. قال
أبو ذؤيب الهذلي:
أمن المنُون ورَيْبها تتوجَّعُ
والدهرُ ليس بِمُعْتِبٍ من يَجْزعُ
وهذا البيت في قصيدة له.
قال ابن إسحاق: وأذِنَ الله تعالى لنبيه -صلى الله عليه وسلم- عند ذلك
في الهجرة.
أبو بكر يطمع في المصاحبة: قال ابن إسحاق: وكان أبو بكر رضي الله عنه
رجلًا ذا مال، فكان حين استأذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في
الهجرة، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: لا تعجلْ، لعل الله
يجد لك صاحبًا، قد طمع بأن يكون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إنما
يعني نفسه، حين قال له ذلك، فابتاع راحلتين، فاحتبسهما في دارِه،
يعلفهما إعدادًا لذلك.
حديث الهجرة إلى المدينة: قال ابن إسحاق: فحدثني من لا أتهم، عن عروة
بن الزبير،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال السهيلي: "وذكر بعض أهل التفسير السبب المانع لهم من التقحم عليه
في الدار مع قصر الدار وأنهم إنما جاءوا لقتله، فذكر في الخبر أنهم
هموا بالولوج عليه، فصاحت امرأة من الدار، فقال بعضهم لبعض: والله إنها
لسبة في العرب أن يتحدث عنا أنا تسورنا الحيطان على بنات العم، وهتكنا
ستر حرمتنا، فهذا هو الذي أقامهم بالباب حتى أصبحوا ينتظرون خروجه، ثم
طمست أبصارهم عنه حين خرج". انظر: "الروض الأنف" بتحقيقنا ج2.
ج / 2 ص -93-
عن
عائشة أم المؤمنين أنها قالت: كان لا يُخطئ رسولُ الله -صلى الله عليه
وسلم- أن يأتيَ بيتَ أبي بكر أحدَ طرفي النهار، إما بكرة وإما عشية،
حتى إذا كان اليوم الذي أذن فيه لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في
الهجرة، والخروج من مكة من بين ظهريْ قومه، أتانا رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- بالهاجرة، في ساعة كان لا يأتى فيها: قالت: فلما رآه أبو
بكر، قال: ما جاء رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- هذه الساعة إلا لأمر
حدث. قالت: فلما دخل، تأخر له أبو بكر عن سريره، فجلس رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- وليس عند أبي بكر إلا أنا وأختي أسماءُ بنت أبي بكر،
فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: أخرجْ عني من عندَك. فقال: يا
رسول الله، إنما هما ابنتاي، وما ذاك؟ فداك أبي وأمي! فقال: إن الله قد
أذن لي في الخروج والهجرة. قالت: فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله.
قال: الصحبة. قالت: فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحدًا يبكي من
الفرح، حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ، ثم قال: يا نبي الله إن هاتين
راحلتان قد كنت أعددتهما لهذا. فاستأجرا عبد الله بن أرقط -رجلًا من
بني الدّئل بن بكر، وكانت أمه امرأة من بني سَهْم بن عمرو، وكان مشركًا
-يدلهما على الطريق، فدفعا إليه راحلتيهما، فكانتا عنده يرعاهما
لميعادهما.
قال ابن إسحاق: ولم يعلم فيما بلغني، بخروج رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- أحد، حين خرج، إلا علي بن أبي طالب، وأبو بكر الصديق، وآل أبي
بكر. أما علي فإن رسول الله، صلى الله عليه وسلم -فيما بلغني- أخبره
بخروجه، وأمره أن يتخلف بعدَه بمكه، حتى يؤدِّيَ عن رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- الودائعَ، التي كانت عندَه للناس، وكان رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- ليس بمكة أحد عندَه شىء يخشى عليه إلا وضعه عنده، لما
يعلم من صدقه وأمانته -صلى الله عليه وسلم.
في الغار: قال ابن إسحاق: فلما أجمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
الخروج، أتى أبا بكر بن أبي قحافة، فخرجا من خوخة لأبي بكر في ظهر
بيته، ثم عمدا إلى غار بثور -جبل بأسفل مكة- فدخلاه، وأمر أبو بكر ابنه
عبد الله بن أبي بكر أن يتسمَّع لهما ما يقول الناسُ فيهما نهارَه، ثم
يأتيهما إذا أمسى بما يكون في ذلك اليوم من الخبر وأمر عامرَ بنَ
فُهيرة مولاه أن يرعى غنمَهُ نهارَه، ثم يريحها عليهما، يأتيهما إذا
أمسى في الغارِ. وكانت أسماءُ بنت أبي بكر تأتيهما من الطعام إذا أمست
بما يصلحهما.
قال ابن هشام: وحدثني بعضُ أهلِ العلم، أن الحسنَ بنَ أبي الحسن
البَصْريَّ قال: انتهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر إلى
الغار ليلًا، فدخل أبو بكر رضي الله عنه
ج / 2 ص -94-
قبلَ
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلَمِس الغار، لينظر أفيه سبع أو حية،
يقي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بنفسِهِ.
من قام بشأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الغار: قال ابن إسحاق:
فأقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الغار ثلاثًا ومعه أبو بكر
وجعلت قريش فيه حين فقدوه مائةَ ناقة، لمن يرده عليهم. وكان عبد الله
بن أبي بكر يكون في قريش نهارَه معهم، يسمع ما يأتمرون به، وما يقولون
في شأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر. ثم يأتيهما إذا أمسى
فيخبرهما الخبر. وكان عامر بن فُهَيْرة مولَى أبي بكر رضي الله عنه،
يرعى في رُعْيانِ أهل مكة، فإذا أمسى أراح عليهما غنمَ أبي بكر.
فاحتلبا وذبحا، فإذا عبد الله بن أبي بكر غدَا من عندهما إلى مكة، اتبع
عامرُ بنُ فُهَيْرة أثرَه بالغنم حتى يُعَفِّى عليه، حتى إذا مضت
الثلاثُ، وسكن عنهما الناسُ أتاهما صاحبُهما الذي استأجراه ببعيريْهما
وبعير له، وأتتهما أسماءُ بنت أبي بكر رضي الله عنها بسُفْرتهما، ونسيت
أن تجعل لها عِصامًا1 فلما ارتحلا ذهبت لتعلق السّفرةَ، فإذا ليس لها
عِصام، فتحل نِطاقها فتجعله عِصامًا، ثم علقتها به.
سبب تسمية أسماء بذات النطاق: فكان يقال لأسماء بنت أبي بكر: ذات
النطاق، لذلك. قال ابن هشام: وسمعت غيرَ واحد من أهل العلم يقول: ذات
النطاقين، وتفسيره: أنها لما أرادت أن تعلق السفرة شقت نطاقها باثنين:
فعلقت السفرة بواحد، وانتطَقَتْ بالآخر.
راحلة الرسول: قال ابن إسحاق: فلما قَرَّب أبو بكر، رضي الله عنه،
الراحلتين إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قدم له أفضَلَهما، ثم
قال: اركبْ، فداك أبي وأمي فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: إني لا
أركب بعيرًا ليس لي قال: فهي لك يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، قال: لا،
ولكن ما الثمنُ الذي ابتعتها به؟ قال: كذا وكذا؟ قال: قد أخذتُها به.
قال: هي لك يا رسول الله2. فركبا وانطلقا وأردف أبو بكر الصدِّيق رضي
الله عنه عامرَ بن فهيرة مولاه خلفَه، ليخدمَهما في الطريق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 العصام: الحبل يشد على فم المزادة.
2 سئل بعض أهل العلم: لم لم يقبلها إلا بالثمن، وقد أنفق أبو بكر عليه
من ماله ما هو أكثر من هذا فقيل، وقد قال عليه السلام: ليس من أحد
أمَنَّ علي من أهل ومال من أبي بكر، وقد دفع إليه،حين بني بعائشة ثنتي
عشرة أوقية ونشًا، فلم يأب من ذلك فقال المسئول إنما ذلك لتكون هجرته
إلى الله بنفسه وماله رغبة منه عليه السلام في استكمال فضل الهجرة
والجهاد على أتم أحوالها، وهو قول حسن.
وذكر ابن إسحاق في غير رواية ابن هشام: أن الناقة التي ابتاعها رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- من أبي بكر يومئذٍ، هي ناقته التي تسمى
بالجدعاء، وهى غير العضباء التي جاء فيها الحديث.
ج / 2 ص -95-
أبو
جهل يضرب أسماء: قال ابن إسحاق: فَحُدثت عن أسماءَ بنتِ أبي بكر أنها
قالت: لما خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر رضي الله عنه،
أتانا نفر من قريش، فيهم أبو جهل بن هشام، فوقفوا على باب أبي بكر،
فخرجت إليهم، فقالوا: أين أبوك يا بنت أبي بكر قالت: قلت: لا أدري
والله أين أبي؟ قالت: فرفع أبو جهل يده، وكان فاحشًا خبيثًا؟ فلطم خدي
لطمةً طرح منها قُرطي.
الجني الذي تغنى بمقدمه صلى الله عليه وسلم: قالت: ثم انصرفوا. فمكثنا
ثلاثَ ليالٍ، وما ندري أينَ وَجْهُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى
أقبل رجل من الجن من أسفل مكة، يتغنى بأبيات من شعر غِناءَ العرب، وإن
الناس ليتبعونه، يسمعون صوتَه وما يَرَوْنَه حتى خرج من أعلى مكة وهو
يقول:
جزى الله ربُّ الناسِ خيرَ جزائهِ
رفيقين حلاَّ خَيْمَتَيْ أم مَعْبَدِ
هما نزلا بالبَرِّ ثم تَرَوَّحَا
فأفلح من أمسى رفيقَ محمدِ
لِيهْنِ بنو كَعْبٍ مكانُ فتاتِهم
ومقعدُها للمؤمنين بمرصد
نسب أم معبد: قال ابن
هشام: أم مَعْبَدِ بنت كعب، امرأة من بني كعب، من خزاعة وقوله، "حلاَّ
خيمَتَيْ" و "هما نزلا بالبر ثم تروحا" عن غير ابن إسحاق.
قال ابن إسحاق: قالت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما فلما سمعنا
قوله، عرفنا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 اسمها: عاتكة بنت خالد إحدى بني كعب من خزاعة وهي أخت حبيش بن خالد
وله صحبة ورواية، ويقال له الأشعر، وأخوها: حبيش بن خالد وخالد الأشعر
أبوهما،
هو: ابن حنيف بن منقذ بن ربيعة بن أصرم بن ضبيش بن حرام بن حبشية بن
كعب بن عمرو وهو أبو خزاعة.
ج / 2 ص -96-
حيث
وَجْه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأن وَجْهَه إلى المدينة وكانوا
أربعة: رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر الصديق رضي الله عنه
وعامرُ بن فُهَيْرة مولى أبي بكر، وعبد الله بن أرْقَطْ دليلهما.
قال ابن هشام: ويقال: عبد الله بن أرَيْقط.
موقف آل أبي بكر بعد الهجرة: قال ابن إسحاق: فحدثني يحيى بن عَبَّاد بن
عبد الله بن الزبير أن أباه عَبَّادًا حدثه عن جدته أسماء بنت أبي بكر،
قالت: لما خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخرج أبو بكر معه، احتمل
أبو بكر ماله كلَّه، ومعه خمسة آلاف درهم أو ستة آلاف، فانطلق بها معه.
قالت: فدخل علينا جَدي أبو قحافة، وقد ذهب بصره، فقال: والله إني لأراه
قد فجعكم بماله مع نفسه. قالت: قلت: كلا يا أبت! إنه قد ترك لنا خيرًا
كثيرًا. قالت: فأخذت أحجارًا فوضعتها في كُوَّةٍ في البيت الذي كان أبي
يضع ماله فيها، ثم وضعت عليها ثوبًا، ثم أخذت بيده، فقلت: يا أبت، ضع
يدك على هذا المال. قالت: فوضع يده عليه، فقال لا بأس، إذا كان ترك لكم
هذا فقد أحسن، وفي هذا بلاغ لكم. لا والله ما ترك لنا شيئًا ولكني أردت
أن أسكن الشيخ بذلك.
سراقة بن مالك: قال ابن إسحاق: وحدثني الزهري أن عبد الرحمن بن مالك بن
جُعْشُمْ حدثه عن أبيه، عن عمه سُرَاقة بن مالك بن جُعْشُم، قال: لما
خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من مكةَ مهاجرًا إلى المدينة، جعلت
قريش فيه مائةَ ناقة لمن رده عليهم. قال: فبَيْنا أنا جالس في نادي
قومي إذ أقبل رجل منا، حتى وقف علينا، فقال: والله قد رأيتُ رَكَبة
ثلاثة مروا عليَّ آنفًا، إني لأراهم محمدًا وأصحابه، قال: فأومأت إليه
بعيني: أن اسكت، ثم قلت: إنما هم بنو فلان، يبتغون ضالة بهم، قال:
لعله، ثم سكت. قال: ثم مكثت قليلًا، ثم قمت فدخلت بيتي، ثم أمرت بفرسي،
فقُيد لي إلى بطن الوادي، وأمرت بسلاحي، فأخرج لي من دُبُر حجرتي، ثم
أخذت قِداحي التي أستقسم بها، ثم انطلقت، فلبست لأمتي ثم أخرجت قِداحي
فاستقسمت بها، فخرج السهم الذي أكره "لا يضره". قال: وكنت أرجو أن أرده
على قريش، فآخذ المائة الناقة، قال: فركبت على أثره، فبينما فرسي يشتد
بي عثر بي، فسقطت عنه قال: فقلت: ما هذا؟ قال: ثم أخرجت قداحي فاستقسمت
بها، فخرج السهم الذي أكره "لا يضره"، قال: فأبيت إلا أن أتبعه، قال:
فركبت في أثره فبينا فرسي يشتد بي، عثر بي، فسقطت عنه، قال: فقلت: ما
هذا؟ قال: ثم أخرجت قداحي فاستقسمت بها فخرج السهم الذي أكره "لا يضره"
قال: فأبيت إلا أن أتبعه فركبت في أثره، فلما بدا لي القوم ورأيتهم
ج / 2 ص -97-
عثر بي
فرسي، فذهبت يداه في الأرض، وسقَطْت عنه ثم انتزع يديه من الأرض،
وتبعهما دخان كالإِعصار. قال: فعرفت حين رأيت ذلك أنه قد مُنع مني،
وأنه ظاهر. قال: فناديت القوم: فقلت: أنا سُراقة بن جُعْشُم: انظروني
أكلمْكم، فوالله لا أريبكم ولا يأتيكم مني شيء تكرهونه. قال: فقال رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- لأبي بكر: "قل له: وما تبتغي منا؟" قال:
فقال ذلك أبو بكر، قال: قلت: تكتب لي كتابًا يكون آية بيني وبينك. قال:
"اكتب له يا أبا بكر".
قال: فكتب لي كتابًا في عَظْم، أو في رُقعة، أو في خزَفة، ثم ألقاه
إليَّ، فأخذته، فجعلته فَي كِنانتي، ثم رجعت، فسكتُّ فلم أذكر شيئًا
مما كان حتى إذا كان فتح مكة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفرغ
من حُنَين والطائف، خرجت ومعي الكتاب لألقاه، فلقيته بالجِعِرَانة.
قال: فدخلت في كتيبة من خيل الأنصار. قال: فجعلوا يقرعونني بالرماح
ويقولون: إليك ماذا تريد؟ قال: فدنوت من رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- وهو على ناقته، والله لكأني أنظر إلى ساقه في غِرْزِهِ كأنها
جُمَّارة. قال: فرفعت يدي بالكتاب، ثم قلت: يا رسول الله، هذا كتابك،
أنا سُراقة بن جُعْشُم قال: فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "يوم
وفاء وبر، أدنه"، قال: فدنوت منه، فأسلمت. ثم تذكرت شيئًا أسأل رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- عنه فما أذكره، إلا أني قلت: يا رسول الله،
الضالة من الإِبل تغشى حياضي، وقد ملأتها لإِبلي، هل لي من أجر في أن
أسقيها؟ قال: "نعم، في كل ذات كَبد حَرَّى أجر". قال: ثم رجعت إلى قومي
فسُقت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صدقتي.
قال ابن هشام: عبد الرحمن بن الحارث بن مالك بن جعشم.
طريق الهجرة: قال ابن إسحاق: فلما خرج بهما دليلهما عبد الله بن
أرْقَط، سلك بهما أسفل مكة، ثم مضى بهما على الساحل، حتى عارض الطريق
أسفل من عُسْفان، ثم سلك بهما على أسفل أمَج، ثم استجاز بهما، حتى عارض
بهما الطريق، بعد أن أجاز قُدَيدًا، ثم أجاز بهما من مكانه ذلك، فسلك
بهما الخَرَّار، ثم سلك بهما ثَنِيَّة المرة، ثم سلك بهما لِقْفا.
قال ابن هشام: ويقال؟ لَفْتا. قال مَعْقِل بن خُوَيلد الْهُذَلي:
نزيعا مُحْلِبًا من أهل لَفْت
لحيّ بين أثْلةَ والنِّحامِ
قال ابن إسحاق: ثم أجاز
بهم مَدْلَجة لِقْف ثم استبطن بهما مَدْلجة محاج -ويقال: مِجاج
ج / 2 ص -98-
فيما
قال ابن هشام- ثم سلك بهما مَرْجِح مَحاجِ، ثم تبطن بهما مَرْجِح من ذي
الغَضَوين -قال ابن هشام: ويقال: العضوين- ثم في ذي كَشْر، ثم أخذ بهما
على الجَداجَد، ثم على الأجْرد ثم سلك بهما ذا سَلَم مَن بطن أعداء
مَدْلِجَة تِعْهِن1: ثم على العَبابيد؛ قال ابن هشام: ويقال:
العَبابيب: ويقال: العِثْيانة. يريد: العبابيب.
قال ابن إسحاق: ثم أجاز بهما الفاجَّة، ويقال: القاحَّة، فيما قال ابن
هشام.
قال ابن هشام: ثم هبط بهما العَرْج وقد أبطأ عليهم بعضُ ظهرهم، فحمل
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجل من أسلم، يقال له: أوس بن حجر، على
جمل له -يقال له: ابن الرَّداء- إلى المدينة، وبعث معه غلامًا له، يقال
له: مسعود بن هُنَيْدة، ثم خرج بهما دليلهما من العَرْج فسلك بهما
ثَنية العائر، عن يمين رَكُوبة -ويقال: ثنية الغائر، فيما قال ابن
هشام- حتى هبط بهما في رِئْم، ثم قدم بهما قُباء، على بني عَمرو بن
عوف، لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول يوم الاثنين، حين اشتد
الضَّحاء، وكادت الشمس تعتدل.
قدومه صلى الله عليه وسلم قباء: قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن جعفر بن
الزبير، عن عروة بن الزبير، عن عبد الرحمن بن عُوَيْمر بن ساعدة، قال:
حدثني رجال من قومي من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالوا:
لما سمعنا بمخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من مكة، وتوكفنا2
قدومه، كنا نخرج إذا صلينا الصبح، إلى ظاهر حَرَّتنا ننتظر رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- فوالله ما نبرح حتى تغلبنا الشمس على الظلال،
فإذا لم نجد ظلًّا دخلنا وذلك في أيام حارة، حتى إذا كان اليومُ الذي
قدم فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جلسنا كما كنا نجلس، حتى إذا
لم يبق ظل دخلنا بيوتنا، وقدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين
دخلنا البيوت، فكان أول من رآه رجل من اليهود، قد رأى ما كنا نصنع،
وأنا ننتظر قدوم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- علينا، فصرخ بأعلى
صوته: يا بني قَيْل3، هذا جَدكُم قد جاء قال: فخرجنا إلى رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- وهو في ظل نخلة، ومعه أبو بكر رضي الله عنه في
مثل سنه وأكثرُنا لم يكن رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل ذلك،
وركبه الناس4 وما يعرفونه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 اسم عين.
2 توكفنا: انتظرنا.
3 قيلة جدة الأنصار ينسبون إليها
4 ازدحموا عليه.
ج / 2 ص -99-
من أبي
بكر، حتى زال الظل عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقام أبو بكر
فأظله بردائه، فعرفناه عند ذلك1.
قال ابن إسحاق: فنزل رسول الله، صلى الله عليه وسلم -فيما يذكرون- على
كُلْثوم بن هِدْم، أخي بني عَمرو بن عَوْف ثم أحد بني عُبَيْد ويقال:
بل نزل على سعد بن خَيْثمة ويقول من يذكر أنه نزل على كُلثوم بن هِدْم:
إنما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا خرج من منزل كلثوم بن
هِدْم جلس الناس في بيت سعد بن خَيْثمة. وذلك أنه كان عازبًا لا أهل
له، وكان منزل الأعزاب2 من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من
المهاجرين، فمن هنالك يقال نزل على سعد بن خَيْثمة، وكان يقال لبيت سعد
بن خيثمة: بيت الأعزاب. فالله أعلم أي ذلك كان، كلا قد سمعنا.
ونزل أبو بكر الصديق رضي الله عنه على خُبَيْب بن إسَاف، أحد بني
الحارث بن الخزرج بالسُّنْح. ويقول قائل: كان منزله على خارجة بن زيد
بن أبي زُهَيْر، أخي بني الحارث بن الخزرج.
وأقام علي بن أبي طالب عليه السلام بمكة ثلاث ليال وأيامها، حتى أدى عن
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الودائع التي كانت عنده للناس حتى إذا
فرغ منها، لحق برسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنزل معه على كلثوم بن
هِدْم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كان قدوم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة يوم الاثنين لاثنتي
عشرة ليلة من ربيع الأول ومن شهر أيلول من شهور العجم، وقال غير ابن
إسحاق قدمها لثمان خلون من ربيع الأول، وقال ابن الكلبي، خرج من الغار
يوم الاثنين أول يوم ربيع الأول. ودخل المدينة يوم الجمعة لثنتي عشرة
منه، وكان بيعة العقبة أوسط أيام التشريق.
2 وكلثوم هذا هو ابن الهدم بن امرئ القيس بن الحارث بن زيد بن مالك بن
عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس، وكان شيخًا كبيرًا مات بعد قدوم
رسول الله، صلى الله عليه وسلم، المدينة بيسير، وهو أول من مات من
الأنصار بعد قدوم النبي -صلى الله عليه وسلم. ثم مات بعده أسعد بن
زرارة بأيام، وسعد بن خيثمة وأنه كان يقال لبيته، بيت العزاب هكذا روي
-وصوابه، الأعزاب؛ لأنه جمع عزب، يقال رجل عزب، وامرأة عزب، وقد قيل،
امرأة عزبة بالتاء.
ج / 2 ص -100-
فكان
علي بن أبي طالب، وإنما كانت إقامته بقباء ليلة أو ليلتين يقول: كانت
بقباء امرأة لا زوج لها، مسلمة. قال فرأيت إنسانًا يأتيها من جوف
الليل، فيضرب عليها بابها، فتخرج إليه فيعطيها شيئًا معه فتأخذه. قال:
فاستربت بشأنه، فقلت لها: يا أمة الله، من هذا الرجل الذي يضرب عليك
بابك كل ليلة، فتخرجين إليه فيعطيك شيئًا لا أدري ما هو، وأنت امرأة
مسلمة لا زوج لك؟ قالت: هذا سهل بن حنيف بن واهب، قد عرف أني امرأة لا
أحد لي، فإذا أمسى عدا على أوثان قومه فكسرها، ثم جاءني بها، فقال:
احتطبي بهذا، فكان علي رضي الله عنه يأثر ذلك من أمر سهل بن حنيف، حتى
هلك عنده بالعراق.
قال ابن إسحاق: وحدثني هذا، من حديث علي رضي الله عنه: هند بن سعد بن
سهل بن حنيف، رضي الله عنه.
مسجد قباء1: قال ابن إسحاق: فأقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
بقباء، في بني عمرو بن عَوْف، يوم الاثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء
ويوم الخميس، وأسس مسجده.
خروج الرسول من قباء وذهابه إلى المدينة: ثم أخرجه الله من بين أظهرهم
يوم الجمعة وبنو عمرو بن عوف يزعمون أنه مكث فيهم أكثر من ذلك -فالله
أعلم أي ذلك كان، فأدركتْ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- الجمعةُ في
بني سالم بن عَوْف، فصلاها في المسجد الذي في بطن الوادي، وادي
رانُونَاء، فكانت أول جمعة صلاها بالمدينة.
اعتراض القبائل له لينزل عندها: فأتاه عِتْبان بن مالك، وعباس بن
عُبادة بن نَضلة في رجال من بني سالم بن عوف، فقالوا: يا رسول الله،
أقم عندنا في العَدد والعُدَّة والمَنَعَة؟ قال خلوا سبيلَها: فإنها
مأمورة، لناقته: فخلَّوْا سبيلَها؛ فانطلقت حتى إذا وازنت دار بني
بَيَاضَة، تلقاه زياد بن لبيد، وفروة بن عمرو، في رجال من بني بَيَاضة
فقالوا: يا رسول الله: هلم إلينا، إلى العَدد والعُدة والمَنَعة؛ قال:
خلوا سبيلها فإنها مأمورة، فخلَّوْا سبيلها. فانطلقت، حتى إذا مرت بدار
بني ساعدة، اعترضه سعد بن عبادة، والمنذر بن عمرو، في رجال من بني
ساعدة فقالوا: يا رسول الله؟ هلم إلينا إلى العدد والعُدة والمنَعة؟
قال: خلوا سبيلها فإنها مأمورة، فخلَّوْا سبيلها، فانطلقت. حتى إذا
وازنت دار بني الحارث بن الخزرج، اعترضه سعد بن الربيع، وخارجة بن زيد،
وعبد الله بن رَوَاحَة، في رجال من بني الحارث بن الخزرج فقالوا: يا
رسول الله، هلُم إلينا إلى العَدد والعُدة والمَنَعة قال: خلوا سبيلها،
فإنها مأمورة، فخلَّوْا سبيلها. فانطلقت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو أول مسجد بني في الإسلام.
ج / 2 ص -101-
حتى
إذا مرت بدار بني عدي بن النجار، وهم أخواله دِنْيا -أم عبد المطلب،
سَلْمى بنت عمرو إحدى نسائهم- اعترضه سَلِيط بن قَيْس، وأبو سَلِيط،
أسَيْرة بن أبي خارجة، في رجال من بني عدي بن النجار، فقالوا: يا رسول
الله، هلم إلى أخوالك، إلى العَدد والعُدة والمَنَعة قال: خلوا سبيلَها
فإنها مأمورة، فخلَّوْا سبيلها، فانطلقت.
مبرك الناقة: حتى إذا أتت دار بني مالك بن النجار بركت على باب مسجده،
صلى الله عليه وسلم، وهو يومئذ مِرْبَد1 لغلامين يتيمين من بني النجار،
ثم من بني مالك بن النجار، وهما في حِجر مُعاذ بن عَفْراء، سَهْل
وسُهَيْل ابني عمرو، فلما بركت، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- عليها
لم ينزل، وثبت فسارت غيرَ بعيد ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- واضع
لها زمامها لا يثنيها به، ثم التفتت إلى خلفها، فرجعت إلى مبركها أول
مرة، فبركت فيه، ثم تَحلْحَلت ورزَمت وألقت بجرانِها2 فنزل عنها رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- فاحتمل أبو أيوب خالدُ بن زَيْد رحلَه،
فوضعه في بيته، ونزل عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسأل عن
المِرْبَد لمن هو؟ فقال له معاذ بن عفراء: هو يا رسول الله لَسهْل
وسُهَيْل ابنيْ عمرو3 وهما يتيمان لي، وسأرضيهما منه، فاتخذْه مسجدًا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المربد: المكان الذي يجفف فيه التمر.
2 تحلحلت ورزمت وألقت بجرانها أي: بعنقها، وفسره ابن قتيبة على تلحلح
أي: لزم مكانه: ولم يبرح وأنشد:
أناس إذا قيل انفروا قد أتيتم
أقاموا على أثقالهم وتلحلحوا
قال: وأما تحلحل بتقديم
الحاء على اللام فمعناه: زال عن موضعه، وهذا الذي قاله قوي من الاشتقاق
فإن التلحلح يشبه أن يكون من لححت عينه إذا التصقت، وهو ابن عمي لحا.
وأما التحلحل: فاشتقاته من الحل والانحلال؛ لأنه انعكاك شيء، ولكن
الرواية في سيرة ابن اسحاق: تحلحلت بتقديم الحاء على اللام، وهو خلاف
المعنى إلا أن يكون مقلوبًا من تحلحلت فيكون معناه: لصقت بمرضعها،
وأقامت، على المعنى الذي فسره ابن قتيبة في تلحلحت. وأما قوله: ورزمت
الناقة رزومًا إذا أقامت من الكلال.. ونوق رزمى، أما أرزمت بالألف،
فمعناه: رغت ورجَّعت في رغائها، ويقال منه: أرزم الرعد، وأرزمت الريح.
قاله صاحب العين.
3 سهل وسهيل هما ابنا رافع بن عمرو بن أبي عمرو بن عبيد بن ثعلبة بن
غنم بن مالك بن النجار وقد شهد سهيل بدرًا والمشاهد كلها، ومات في
خلافة عمر؛ أما سهل فلم يشهد إلا ما بعد بدر، ومات قبل أخيه سهيل.
ج / 2 ص -102-
مسجد
المدينة: قال: فأمر به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يبنَ مسجدًا،
ونزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أبي أيوب حتى بنى مسجده
ومساكنه، فعمل فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليرغب المسلمين في
العمل فيه، فعمل فيه المهاجرون والأنصار: ودأبوا فيه: فقال قائل من
المسلمين:
لئن قعدنا والنبيُّ يعملُ
لذاك منا العمل المضلِّلُ
وارتجز المسلمون قوهم
يبنونه يقولون:
لا عيشَ إلا عيش الآخره
اللهم ارحم الأنصار والمهاجره
قال ابن هشام: هذا كلام
وليس برجز.
قال ابن إسحاق: فيقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم:
"لا عيش إلا عيش الآخرة، اللهم ارحم المهاجرين والأنصار".
عمّار والفئة الباغية: قال: فدخل عمار بن ياسر، وقد أثقلوه باللَّبِن،
فقال يا رسول الله قتلوني؟ يحملون عليّ ما لا يحملون. قالت أم سلمة زوج
النبي -صلى الله عليه وسلم: فرأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
ينفُض وَفْرَته بيده: وكان رجلًا جَعْدًا، وهو يقول:
"ويح ابن
سُمَية ليسوا بالذين يقتلونك. إنما تقتلك الفئةُ الباغية".
وارتجز على بن أبي طالب رضي الله عنه يومئذ:
لا يستوي من يُعمرُ المساجدا
يدأبُ فيه قائمًا وقاعدَا
قال ابن هشام: سألت غير
واحد من أهل العلم بالشعر، عن هذا الرجز، فقالوا: بلغنا أن علي بن أبي
طالب ارتجز به، فلا يُدْرَى: أهو قائله أم غيره؟.
قال ابن إسحاق: فأخذها عمار بن ياسر، فجعل يرتجز بها.
قال ابن هشام: فلما أكثر، ظن رجل من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- أنه إنما يعرِّض به، فيما حدثنا زياد بن عبد الله البكَّائي، عن
ابن إسحاق، وقد سمى ابنُ إسحاق الرجلَ2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لا يوجد لها متن.
2 وإنما لم يسمه ابن هشام لئلا يذكر بسوء أحد الصحابة ولا نسميه نحن
أيضًا فقد اختلفوا في اسمه على أقوال كثيرة، وليس في تسمية فائدة.
ج / 2 ص -103-
قال
ابن إسحاق: فقال قد سمعتُ ما تقول منذ اليوم يابنَ سمية، والله إني
لأراني سأعرض هذه العصا لأنفك. قال: وفى يده عصًا. قال: فغضب رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- ثم قال: ما لهم ولعمار، يدعوهم إلى الجنة،
ويدعونه إلى النار، إن عمارًا جِلْدَة ما بين عينيَّ وأنفي، فإذا بلغ
ذلك من الرجل فلم يُستبق فاجتنبوه.
قال ابن هشام: وذكر سفيان بن عيينة عن زكريا، عن الشعبي، قال: إن أول
من بني مسجدًا عمار بن ياسر1.
الرسول ينزل في بيت أبي أيوب: قال ابن إسحاق: فأقام رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- في بيت أبي أيوب، حتى بني له مسجده ومساكنُهُ2، ثم
انتقل إلى مساكنه من بيت أبي أيوب رحمة الله عليه و رضوانه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كيف أضاف إلى عمار بنيان المسجد، وقد بناه معه الناس؟ فيقول إنما عنى
بهذا الحديث مسجد قباء؛ لأن عمارًا هو الذي أشار على النبي -صلى الله
عليه وسلم- ببنيانه، وهو جمع الحجارة له، فلما أسسه رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- استتم بنيانه عمار.
2 وبُني مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسقف بالجريد وجعلت قبلته
من اللبن، ويقال: بل من حجارة منضود بعضها على بعض، وجعلت عمده من جذوع
النخل، فنخرت في خلافة عمر فجردها، فلما كان عثمان بناه بالحجارة
المنقوشة بالفضة وسقفه بالساج، وجعل قبلته من الحجارة. فلما كانت أيام
بني العباس بناه محمد بن أبي جعفر المتسمى بالمهدى، ووسعه وزاد فيه،
وذلك في سنة ثنتين ومائتين: وأتقن بنيانه، ونقش فيه، ثم زيد فيه
البنيان والنقوش على ممر العصور زاده الله تشريفًا، وأما بيوته عليه
السلام فكانت تسعة بعضها من جريد مطين بالطين وسقفها جريد، وبعضها من
حجارة مرضومة، بعضها فوق بعض، مسقفة بالجريد أيضًا. وقال الحسن بن أبي
الحسن: كنت أدخل بيوت النبي عليه السلام، وأنا غلام مراهق، فأنال السقف
بيدي، وكانت حُجُرَه -عليه السلام -أكسية من شعر مربوطة في خشب عرعر.
وفي تاريخ البخاري أن بابه -عليه السلام- كان يقرع بالأظافر، أي لا حلق
له، ولما توفي أزواجه عليه السلام -خلطت البيوت والحجر بالمسجد، وذلك
في زمن عبد الملك، فلما ورد كتابه بذلك ضج أهل المدينة بالبكاء، كيوم
وفاته عليه السلام، وكان سريره خشبات مشدودة بالليف، بيعت زمن بني
أمية، فاشتراها رجل بأربعة آلاف درهم. قاله ابن قتيبة.
ج / 2 ص -104-
قال
ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن أبي حبيب عن مَرْثد بن عبد الله اليَزَني عن
أبي رُهْم السَّماعي قال: حدثني أبو أيوب، قال: لما نزل عليَّ رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- في بيتي، نزل في السُّفْل وإنا وأم أيوب في
العُلو، فقلت له: يا نبي الله، بأبي أنت وأمي، إني لأكره وأعظم أن أكون
فوقك، وتكون تحتي، فأظهر أنت فكن في العُلْوِ، وننزل نحن فنكون فِي
السُّفْل. فقال: يا أبا أيوب، إن أرفق بنا وبمن يغشانا، أن نَكون في
سُفْل البيت.
قال: فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سُفله، وكنا فوقه في
المسكن، فقد انكسر حب1 لنا فيه ماء فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة لنا، ما
لنا لحاف غيرها، نكشف بها الماء، تخوّفًا أن يقطر على رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- منه شيء فيؤذيه.
قال: وكنا نصنع له العشاء، ثم نبعث إليه، فإذا رد علينا فضلَه تيممت
أنا وأم أيوب موضع يده، فأكلنا منه نبتغي بذلك البركةَ، حتى بعثنا إليه
ليلة بعَشائه وقد جعلنا له بصلًا أو ثَوْمًا، فرده رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- ولم أر ليده فيه أثرًا. قال: فجئته فزعًا، فقلت: يا رسول
الله بأبي أنت وأمي، رددت عَشاءَك، لم أر فيه موضعَ يدك، وكنت إذا
رددته علينا، تيممت أنا وأم أيوب موضعَ يدك، نبتغي بذلك البركة، قال:
إني وجدت فيه ريح هذه الشجرة، وأنا رجل أناجى، فأما أنتم فكلوه،
فأكلناه، ولم نصنع له تلك الشجرة بعدُ.
قال ابن إسحاق: وتلاحق المهاجرون إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
فلم يبق بمكة منهم أحد، إلا مفتون أو محبوس، ولم يوعب أهل هجرة مكة
بأهليهم وأموالهم إلى الله تبارك وتعالى وإلى رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- إلا أهل دور مُسَمَّوْن: بنو مظعون من بني جُمَح، وبنو جحش بن
رِئاب، حلفاء بني أمية، وبنو البُكَير، من بني سعد بن لَيْث، حلفاء بني
عدي بن كعب، فإن دورَهم غُلقت بمكة هجرةً، ليس فيها ساكن.
أبو سفيان يعتدي على دار بني جحش: ولما خرج بنو جَحْش بن رِئاب من
دارهم. عدا عليها أبو سفيان بن حرب، فباعها من عمرو بن علقمة، أخي بني
عامر بن لؤي، فلما بلغ بني جحش ما صنع أبو سفيان بدارهم، ذكر ذلك عبد
الله بن جحش لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال له رسول الله -صلى
الله عليه وسلم: ألا ترضى يا عبد الله أن يعطيك الله بها دارًا خيرًا
منها في الجنة؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الحب: الجرة الضخمة جمعه حببة مثل حجر وحجرة.
ج / 2 ص -105-
قال:
بلى؟ قال: فذلك لك. فلما افتتح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكة،
كلمه أبو أحمد في دارِهم، فأبطأ عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
فقال الناس لأبي أحمد: يا أبا أحمد، إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
يكره أن ترجعوا في شيء من أموالكم أصيب منكم في الله عز وجل، فأمسك عن
كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال لأبي سفيان:
أبلغْ أبا سُفيانَ عن
أمر عواقبه ندامهْ
دارَ ابنِ عمِّك بعتَها
تقضي بها عنك الغرامهْ
وحليفُكم بالله ربّ
الناسِ مجتهد القَسَامَهْ
اذهبْ بها، اذهبْ بها
طُوِّقْتَها طَوْقَ الحمامهْ
قال ابن إسحاق: فأقام
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة إذ قَدِمها شهرَ ربيع الأول،
إلى صفر من السنة الداخلة، حتى بني له فيها مسجدُه ومساكنهُ، واستجمع
له إسلام هذا الحي من الأنصار، فلم يبق دار من دور الأنصار إلا أسلم
أهلُها، إلا ما كان من خَطْمة، وواقف، ووائل، وأمية، وتلك أوس الله،
وهم حي من الأوس، فإنهم أقاموا على شركهم.
خطب رسول الله -صلى الله عليه وسلم: وكانت أول خطبة خطبها رسول الله
-صلى الله عليه وسلم: فيما بلغني عن أبي سلمة بن عبد الرحمن -نعوذ
بالله أن نقول على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ما لم يقل- أنه قام
فيهم، فحمِد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال:
"أما بعد، أيها
الناس، فقدِّموا لأنفسكم. تَعَلَّمنُ والله ليُصْعَقَنَّ أحدُكم ثم
لَيَدَعَنَّ غنمَه ليس لها راعٍ، ثم ليقولنَّ له ربُّه وليس له تَرجمان
ولا حاجب يحجبه دونه: ألم يأتك رسولي فبلَّغك، وآتيتك مالًا وأفضلت
عليك، فما قدمت لنفسك، فلينظرن يمينًا وشمالًا فلا يرى شيئًا، ثم
لينظرن قدامه فلا يرى غير جهنم. فمن استطاع أن يقي وجهه من النار ولو
بِشِق من تمرة فليفعل، ومن لم يجد فبكلمة طيبة، فإن بها تُجزى الحسنة
عشر أمثالها، إلى سبع مائة ضعف، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته".
قال ابن إسحاق: ثم خطب رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- الناس مرةً
أخرى، فقال:
"إنَّ الحمدَ للّه، أحمدُهُ وأستعينه، نعوذ بالله من شرور أنفسنا،
وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلل فلا هاديَ له،
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إن أحسنَ الحديثَ كتاب الله
تبارك وتعالى، قد أفلح من زينه الله في قلبه، وأدخله في الإسلام بعد
الكفر، واختاره على ما سواه من أحاديث الناس، إنه أحسنُ الحديث
وأبلغهُ، أحبوا ما أحب
ج / 2 ص -106-
الله،
أحبوا الله من كل قلوبكم، ولا تملُّوا كلامَ الله وذِكْرَه، ولا تَقْسُ
عنه قلوبُكم، فإنه من كل ما يخلق الله يختار ويصطفي، وقد سماه الله
خِيرته من الأعمال ومصطفاه من العباد، والصالح من الحديث، ومن كل ما
أوتي الناس الحلال والحرام، فاعبدوا الله ولا تُشركوا به شيئًا، واتقوه
حق تقاته، وأصدقوا الله صالح ما تقولون بأفواهكم، وتحابُّوا بروح الله
بينكم إن الله يغضب أن يُنْكَسَ عهدُهُ، والسلام عليكم".
الرسول يوادع اليهود وكتابه بين المسلمين: قال ابن إسحاق: وكتب رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- كتابًا بين المهاجرين والأنصار، وادع فيه
يهود وعاهدهم، وأقرَّهم على دينهم وأموالهم، وشرط لهم، واشترط عليهم:
بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد النبي -صلى الله عليه وسلم-
بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم، فلحق بهم، وجاهد
معهم، إنهم أمة واحدة من دون الناس، المهاجرون من قريش على رِبْعَتِهم
يتعاقلون بينهم، وهم يَفدون عَانيهم1 بالمعروف والقِسط بين المؤمنين.
وبنو عوف على رِبْعتهم يتعاقلون معاقِلَهم2 الأولى، كل طائفة تَفدي
عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو ساعدة على رِبْعَتهم
يتعاقلون معاقلَهم الأولى وكل طائفة منهم تَفْدي عانيها بالمعروف
والقسط بين المؤمنين، وبنو الحارث على رِبْعتهم يتعاقلون معاقلَهم
الأولى، وكل طائفة تَفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو
جُشَم على رِبْعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تَفْدي
عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو النجار على رِبْعَتهم
يتعاقلون معاقلَهم الأولى، وكل طائفة منهم تَفْدِي عانيها بالمعروف
والقسط بين المؤمنين، وبنو عَمْرو بن عَوْف على رِبْعَتهم يتعاقلون
معاقلَهم الأولى، وكل طائفة تَفْدي عانيها بالمعروف والقسط بين
المؤمنين، وبنو النَّبِيت على رِبْعتهم يتعاقلون معاقلَهم الأولى، وكل
طائفة تَفْدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو الأوْس على
رِبْعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفْدي عانيها
بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وإن المؤمنين لا يتركون مُفْرَحًا بينهم
أن يُعطوه بالمعروف في فِداء أو عقل.
قال ابن هشام: المفْرَح: المثقَّل بالدَّيْن والكثير العيال. قال
الشاعر:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 عانيهم: أسيرهم.
2 المعاقل: الديات.
ج / 2 ص -107-
إذا أنت لم تبرح تؤدي أمانةً
وتحملُ أخرى أفرَحَتْك الودائعُ
وأن لا
يحالف مؤمنٌ مولى مؤمن دونَه وإن المؤمنين المتقين على من بغى منهم، أو
ابتغى دسيعة1 ظُلم، أو إثم، أو عدوان، أو فساد بين المؤمنين وإن أيديهم
عليه جميعًا، ولو كان وَلدَ أحدهم، ولا يَقتلُ مؤمن مؤمنًا في كافر،
ولا ينصرُ كافرًا على مؤمن وإن ذمة الله واحدة يُجير عليهم أدناهم وإن
المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس، وإنه من تبعنا من يهود فإن له
النصر والأسوة، غير مظلومين ولا متناصرين عليهم وإنَّ سِلْمَ المؤمنين
واحدة لا يسالم مؤمن دون مؤمنٍ في قتال في سبيل الله، إلا على سواء
وعدل بينهم وإن كل غازية غزت معنا يُعقب بعضها بعضًا وإن المؤمنين يبيء
بعضهم على بعض بما نال دماءَهم في سبيل الله، وإن المؤمنين المتقين على
أحسن هَدْي وأقومه، وأنه لا يجير مشرك مالًا لقريش ولا نفسًا، ولا يحول
دونه على مؤمن وإنه من اعتبط2 مؤمنًا قتلًا عن بَينة فإنه قود به إلا
أن يرضى وليُّ المقتول، وإن المؤمنين عليه كافة، ولا يحل لهم إلا قيام
عليه وإنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم
الآخر، أن ينصر مُحْدِثًا ولا يؤويه، وأنه من نصره أو آواه، فإن عليه
لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل، وإنكم مهما
اختلفتم فيه من شيء، فإن مردَّه إلى الله عز وجل، وإلى محمد -صلى الله
عليه وسلم- وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وإن يهودَ
بني عَوْف أمة مع المؤمنين لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم مواليهم
وأنفسهم، إلا من ظَلم وأثِم، فإنه لا يُوتِغ3 إلا نفسَه، وأهلَ بيته،
وإن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عَوْف، وإن ليهود بني الحارث
مثل ما ليهود بني عَوْف، وإن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عَوْف،
وإن ليهود بني جُشَم مثل ما ليهود بني عَوْف، وإن ليهود بني الأوْس مثل
ما ليهود بني عَوْف، وإن ليهود بني ثَعْلبة مثل ما ليهود بني عَوْف،
إلا من ظَلم وأثِم، فإنه لا يُوتغ إلا نفسه وأهل بيته، وإن جَفْنةَ بطن
من ثعلبة كأنفسهم، وإن لبني الشُّطَيْبة مثل ما ليهود بني عَوْف، وإن
البر دون الإثم وإن موالي ثعلبة كأنفسهم، وإن بطانة يهود كأنفسهم، وإنه
لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد -صلى الله عليه وسلم- وإنه لا ينحجز
على نار جُرْح، وإنه من فتك فبنفسه فتك، وأهل بيته، إلا من ظلم، وإن
الله على أبر هذا وإن على اليهود نفقتَهم وعلى المسلمين نفقتَهم وإن
بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الدسيعة: العظيمة.
2 اعتبط: قتل بلا جناية.
3 يوتغ: يهلك.
4 أي على الرضا به.
ج / 2 ص -108-
النصح
والنصيحة، والبر دون الإِثم، وإنه لم يأثم امرؤ بحليفه وإن النصر
للمظلوم وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وإن يثرب
حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة وإن الجار كالنفس غير مُضار ولا أثم، وإنه
لا تُجار حُرمة إلا بإذن أهلها، وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من
حدث أو اشتجار يُخاف فساده، فإن مردَّه إلى الله عز وجل، وإلى محمد
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة
وأبرّه وإنه لا تُجار قريش ولا من نصرها وإن بينهم النصر على من دهم
يثرب، وإذا دُعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه، فإنهم يصالحونه ويلبسونه،
وإنهم إذا دُعوا إلى مثل ذلك فإنه لهم على المؤمنين، إلا من حارب في
الدين، على كل أناس حصتهم في جانبهم الذي قِبَلهم وإن يهود الأوس،
مواليهم وأنفسهم، على مثل ما لأهل هذه الصحيفة، مع البر المحض من أهل
هذه الصحيفة.
قال ابن هشام: ويقال: مع البر المحسن من أهل هذه الصحيفة.
قال ابن إسحاق: وإن البر دون الإثم، لا يكسب كاسب إلا على نفسه، وإن
الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره وإنه لا يحول هذا الكتاب دون
ظالم وإثم، وأنه من خرج آمن ومن قعد آمن بالمدينة، إلا من ظَلم أو
أثِم، وإن الله جار لمن بَرَّ واتقى، ومحمد رسول الله -صلى الله عليه
وسلم1.
المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار:
قال ابن إسحاق: وآخى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين أصحابه من
المهاجرين والأنصار2
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وقال أبو عبيد من كتاب الأموال: إنما كتب رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- هذا الكتاب قبل أن تفرض الجزية، وإذ كان الإسلام ضعيفًا. قال:
وكان لليهود. إذ ذاك نصيب في المغنم إذا قاتلوا مع المسلمين، كما شرط
عليهم في هذا الكتاب النفقة معهم في الحروب.
2 آخى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين أصحابه حين نزلوا المدينة،
ليذهب عنهم وحشة الغربة ويؤنسهم من مفارقة الأهل والعشيرة، ويشد أزر
بعضهم ببعض، فلما عز الإسلام واجتمع الشمل، وذهبت الوحشة أنزل الله
سبحانه:
{وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ
اللَّهِ}
[الأنفال: 75] أعني في الميراث ثم جعل المؤمنين كلهم أخوة فقال:
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] يعني في التوادّ وشمول الدعوة.
ج / 2 ص -109-
فقال
-فيما بلغنا، ونعوذ بالله أن نقول عليه ما لم يَقُلْ: "تآخَوْا في الله
أخَوَيْن أخَوَيْن ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب، فقال: هذا أخي. فكان
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سيد المرسلين، وإمام المتقين، ورسول رب
العالمين، الذي ليس له خطير1 ولا نظير من العباد، وعلي بن أبي طالب رضي
الله عنه، أخوين، وكان حمزة بن عبد المطلب، أسد الله وأسد رسوله -صلى
الله عليه وسلم- وعم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وزيد بن حارثة،
مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخوين، وإليه أوصى حمزة يوم أحد
حين حضره القتال إن حدث به حادث الموت وجعفر بن أبي طالب ذو الجناحين،
الطيار في الجنة، ومعاذ بن جبل، أخو بني سلمة، أخوين.
قال ابن هشام: وكان جعفر بن أبي طالب يومئذ غائبًا بأرض الحبشة.
قال ابن إسحاق: وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ابن أبي قحافة،
وخارجة بن زُهَير، أخو بَلْحَارث بن الخَزرج، أخوين وعمر بن الخطاب رضي
الله عنه، وعِتْبان بن مالك، أخو بني سالم بن عَوْف بن عمرو بن عَوْف
بن الخزرج أخوين، وأبو عُبيدة بن عبد الله بن الجراح، واسمه عامر بن
عبد الله، وسعد بنُ مُعاذ بن النعمان، أخو بني عبد الأشْهَل، أخوين.
وعبد الرحمن بن عَوْف، وسعد بن الربيع، أخو بَلْحارث بن الخزرج،
أخَوَيْن، والزبير بن العوام، وسلامة بن سلامة بن وَقْش، أخو بني عبد
الأشهل، أخوين، ويقال: بل الزبير وعبد الله بن مسعود حليف بني زُهرة،
أخوين، وعثمان بن عفان، وأوْس بن ثابت بن المنذِر، أخو بني النجار،
أخوين. وطلحة بن عُبَيْد الله، وكعب بن مالك، أخو بني سَلَمة، أخوين.
وسعد بن زيد بن عمرو بن نُفَيْل، وأبي بن كعب، أخو بني النجار. أخوين.
ومُصْعَب بن عُمَير بن هاشم، وأبو أيوب خالد بن زَيد، أخو بني النجار:
أخَويْن. وأبو حذيفة بن عُتبة بن ربيعة، وعَبَّاد بن بشر بن وَقْش، أخو
بني عبد الأشهل، أخوين. وعمار بن ياسر، حليف بني مخزوم، وحذيفة بن
اليمان، أخو بني عبد عَبْس، حليف بني عبد الأشهل: أخوين. ويقال: ثابت
بن قَيْس بن الشمَّاس، أخو بَلحارث بن الخزرج خطيب رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- وعمار بن ياسر، أخوين. وأبو ذَر، وهو بُرَيْر بن جُنادة
الغِفاري، والمُنْذِر بن عمرو المُعْنِق ليموت2، أخو بني ساعدة بن كعب
بن الخزرج: أخوين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الخطير: المثل.
2 أي أن الموت أسرع وساق إليه أجله.
ج / 2 ص -110-
فقال
-فيما بلغنا، ونعوذ بالله أن نقول عليه ما لم يَقُلْ: "تآخَوْا في الله
أخَوَيْن أخَوَيْن ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب، فقال: هذا أخي. فكان
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سيد المرسلين، وإمام المتقين، ورسول رب
العالمين، الذي ليس له خطير1 ولا نظير من العباد، وعلي بن أبي طالب رضي
الله عنه، أخوين، وكان حمزة بن عبد المطلب، أسد الله وأسد رسوله -صلى
الله عليه وسلم- وعم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وزيد بن حارثة،
مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخوين، وإليه أوصى حمزة يوم أحد
حين حضره القتال إن حدث به حادث الموت وجعفر بن أبي طالب ذو الجناحين،
الطيار في الجنة، ومعاذ بن جبل، أخو بني سلمة، أخوين.
قال ابن هشام: وكان جعفر بن أبي طالب يومئذ غائبًا بأرض الحبشة.
قال ابن إسحاق: وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ابن أبي قحافة،
وخارجة بن زُهَير، أخو بَلْحَارث بن الخَزرج، أخوين وعمر بن الخطاب رضي
الله عنه، وعِتْبان بن مالك، أخو بني سالم بن عَوْف بن عمرو بن عَوْف
بن الخزرج أخوين، وأبو عُبيدة بن عبد الله بن الجراح، واسمه عامر بن
عبد الله، وسعد بنُ مُعاذ بن النعمان، أخو بني عبد الأشْهَل، أخوين.
وعبد الرحمن بن عَوْف، وسعد بن الربيع، أخو بَلْحارث بن الخزرج،
أخَوَيْن، والزبير بن العوام، وسلامة بن سلامة بن وَقْش، أخو بني عبد
الأشهل، أخوين، ويقال: بل الزبير وعبد الله بن مسعود حليف بني زُهرة،
أخوين، وعثمان بن عفان، وأوْس بن ثابت بن المنذِر، أخو بني النجار،
أخوين. وطلحة بن عُبَيْد الله، وكعب بن مالك، أخو بني سَلَمة، أخوين.
وسعد بن زيد بن عمرو بن نُفَيْل، وأبي بن كعب، أخو بني النجار. أخوين.
ومُصْعَب بن عُمَير بن هاشم، وأبو أيوب خالد بن زَيد، أخو بني النجار:
أخَويْن. وأبو حذيفة بن عُتبة بن ربيعة، وعَبَّاد بن بشر بن وَقْش، أخو
بني عبد الأشهل، أخوين. وعمار بن ياسر، حليف بني مخزوم، وحذيفة بن
اليمان، أخو بني عبد عَبْس، حليف بني عبد الأشهل: أخوين. ويقال: ثابت
بن قَيْس بن الشمَّاس، أخو بَلحارث بن الخزرج خطيب رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- وعمار بن ياسر، أخوين. وأبو ذَر، وهو بُرَيْر بن جُنادة
الغِفاري، والمُنْذِر بن عمرو المُعْنِق ليموت2، أخو بني ساعدة بن كعب
بن الخزرج: أخوين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الخطير: المثل.
2 أي أن الموت أسرع وساق إليه أجله.
ج / 2 ص -111-
عبد
الله بن عبد الرحمن بن أسعد بن زُرارة: أن رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- قال: بئس الميت أبو أمامة، ليهود ومنافقي العرب يقولون: لو كان
نبيًّا لم يمت صاحبه، ولا أملك لنفسي ولا أصحابي من الله شيئًا.
قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عُمر بن قَتادة الأنصاري: أنه لما مات
أبو أمامة، أسعد بن زُرارة، اجتمعت بنو النجار إلى رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- وكان أبو أمامة نقيبهم، فقالوا له: يا رسول الله، إن هذا قد
كان منا حيث قد علمت، فاجعل منا رجلًا مكانه يقيم من أمرنا ما كان يقيم
فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لهم: أنتم أخوالي، وأنا بما فيكم،
وأنا نقيبكم وكره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يخص بها بعضَهم
دون بعض. فكان من فضل بني النجار الذي يَعُدُّون على قومهم، أن كان
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نقيبهم.
خبر الأذان:
قال ابن إسحاق: فلما اطمأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة،
واجتمع إليه إخوانه من المهاجرين، واجتمع أمر الأنصار، استحكم أمر
الإِسلام، فقامت الصلاة، وفُرضت الزكاة والصيام، وقامت الحدود، وفُرض
الحلال والحرام، وتبوأ الإِسلام بين أظهرهم، وكان هذا الحي من الأنصار
هم الذين تبوءوا الدار والإيمان. وقد كان رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- حين قدمها إنما يجتمع الناس إليه للصلاة لحين مواقيتها، بغير
دعوة، فهمَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين قدمها أن يجعل بوقًا
كبوق يهود الذين يدعون به، لصلاتهم، ثم كرهه ثم أمر بالناقوس، فَنُحِتَ
ليُضرب به للمسلمين للصلاة.
رؤيا عبد الله بن زيد الأذان: فبينما هم على ذلك إذ رأى عبدُ الله بن
زَيْد بن ثعلبة بن عبد رَبِّه، أخو بَلْحارث بن الخزرج، النداء فأتى
رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- فقال له: يا رسولَ الله، إنه طاف بيِ
هذه الليلة طائفٌ: مرّ بي رجل عليه ثوبان أخضران، يحمل ناقوسًا في يده،
فقلت له: يا عبد الله، أتبيع هذا الناقوس؟ قال: وما تصنع به؟ قال: قلت:
ندعو به إلى الصلاة، قال: أفلا أدلك على خير من ذلك؟ قال: قلت: وما هو؟
قال: تقول: الله أكبرُ الله أكبرُ، الله أكبرُ، الله أكبرُ، أشهدُ أن
لا إله إلا الله، أشهدُ أن لا إله إلا الله، أشهدُ أن
ج / 2 ص -112-
محمدًا
رسولُ الله، أشهد أن محمدًا رسولُ الله، حَيَّ على الصلاةِ، حَيَّ على
الصلاةِ، حَيَّ على الفلاحِ، حَيَّ على الفلاح، الله أكبرُ، الله
أكبرُ، لا إله إلا الله.
فلما أخبرَ بها رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال إنها لرؤيا حَقٌّ،
إن شاء الله، فقم مع بلال فألقها عليه، فليؤذن بها، فإنه أنْدَى1 صوتًا
منك. فلما أذَّن بها بلال سمعها عمر بنُ الخطاب وهو في بيته، فخرج إلى
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يجر رداءَه، وهو يقول: يا نبي الله
والذي بعثك بالحق، لقد رأيت مثل الذي رأى، فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: فلله الحمدُ على ذلك.
رؤيا عمر: قال ابن إسحاق: حدثني بهذا الحديث محمدُ بن إبراهيم بن
الحارث، عن محمد بن عبد الله بن زيد بن ثعلبة بن عبد رَبِّه، عن أبيه.
قال ابن هشام: وذكر ابن جُرَيْج، قال لي عطاء: سمعت عُبَيْد بن عُمَيْر
الليثي يقول: ائتمر النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه بالناقوس
للاجتماع للصلاة، فبينما عمر بن الخطاب يريد أن يشتري خشبتين للناقوس،
إذا رأى عمرُ بن الخطاب في المنام: لا تجعلوا الناقوس، بل أذِّنوا
للصلاة فذهب عمر إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ليخبره بالذي رأى، وقد
جاء النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- الوحيُ بذلك، فما راع عمر إلا بلال
يؤذِّن، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين أخبره بذلك: قد سبقك
بذلك الوحي.
ما كان يدعو به بلال قبل الفجر: قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن جعفر بن
الزبير، عن عروة بن الزبير، عن امرأة من بني النجار، قالت: كان بيتي من
أطولِ بيت حولَ المسجد، فكان بلال يؤذن عليه الفجرَ كُلَّ غَداة، فيأتي
بسَحَر، فيجلس على البيت ينتظر الفجر، فإذا رآه تمطَّى، ثم قال: اللهم
إني أحمدُك وأستعينُك على قريش أن يقيموا على دينك. قالت: والله ما
علمته كان يتركها ليلةً واحدةً.
أمر أبي قيس بن أبي أنس:
قال ابن إسحاق: فلما اطمأنَّت برسول الله -صلى الله عليه وسلم- داره،
وأظهر الله بها دينَه،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أندى: أحسن وأبدع.
ج / 2 ص -113-
وسرَّه
بما جمع إليه من المهاجرين والأنصار من أهل ولايته قال أبو قيس صِرْمة
بن أبي أنس أخو بني عَدِي بن النجار.
قال ابن هشام: أبو قيس، صِرْمة بن أبي أنس بن صِرْمة بن مالك بن
عَدِيِّ بن عامر بن غَنْم بن عَدِي بن النجار.
قال ابن إسحاق: وكان رجلًا قد ترهَّب في الجاهلية، ولبس المُسوح، وفارق
الأوثان، واغتسل من الجنابة وتطهر من الحائض من النساء، وَهَمَّ
بالنصرانية، ثم أمسك عنها ودخل بيتًا له فاتخذه مسجدًا لا تدخله عليه
فيه طامِثٌ ولا جُنُبٌ، وقال: أعبد ربَّ إبراهيم، حين فارق الأوثانَ
وكَرِهها، حتى قدم رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- المدينةَ، فأسلم
وحَسُنَ إسلامهُ، وهو شيخ كبير، وكان قوَّالًا بالحقِّ معظِّمًا لله عز
وجل في جاهليته، يقول أشعارًا في ذلك حسانًا -وهو الذي يقول:
يقولُ أبو قيس وأصبح غاديًا
ألا ما استطعتُمْ من وَصَاتي فافعلُوا
فأوصيكم بالله والبِر والتقى
وأعراضِكم، والبرُّ بالله أوَّلُ
وإنْ قومُكم سادوا فلا تَحْسُدُنّهُمْ
وإن كنتمُ أهل الرياسةِ فاعدِلُوا
وإن نزلتْ إحدى الدواهي بقومِكم
فأنفُسَكم دون العشيرةِ فاجعلُوا
وإن نابَ غُرْم فادحٌ فارفِقُوهُمُ
وما حَمَّلُوكم في الملمَّاتِ فاحملُوا
وإن أنتمُ أمْعَرتُمُ فتعفَّفُوا وإن
كان فضلُ الخير فيكم فأفضلُوا1
قال ابن هشام: ويروى:
وإن ناب أمر فادح فارفدوهُمُ
قال ابن إسحاق: وقال أبو
قَيْس صِرْمة أيضًا:
سبّحوا الله شرقَ كُلِّ صباحٍ
طلعت شمسُه وكل هلالِ
عالم السِّر والبيان لَدَيْنَا
ليس ما قال ربُّنا بضلالِ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أمعرتم: افتقرتم.
ج / 2 ص -114-
وله الطيرُ تستريدُ وتأوي
في وكورٍ من آمناتِ الجبالِ1
وله الوحشُ بالفلاةِ تراها
في حِقافٍ وفى ظلالِ الرمالِ2
وله هَوَّدَت يهودُ ودانتْ
كلَّ دينٍ إذا ذكرتَ عُضَالِ3
وله شَمَّسَ النصارى وقاموا
كلَّ عيدٍ لربِّهم واحتفالِ4
وله الراهبُ الحبيسُ تراه
رَهْنَ بُؤْسٍ وكان ناعمَ بالِ5
يا بَنِيَّ -الأرحامَ لا تقطعوها
وصِلُوها قصيرة من طِوالِ6
واتقوا الله في ضِعافِ اليتامى
رُبَّما يُسْتَحلُّ غيرُ الحلالِ
واعلموا أن لليتيمِ وليًّا
عالِمًا يهتدي بغيرِ السؤالِ
ثم مالَ اليتيمِ لا تأكلوه
إن مالَ اليتيمِ يرعاه وَالِي
يا بنيَّ -التخومَ لا تَخْزلوها
إن خَزْلَ التُّخوم ذو عُقَّالِ7
يا بنيَّ -الأيامَ لا تأمَنُوها
واحذَروا مَكْرَها ومَرَّ الليالي
واعلموا أن مَرَّها لنفادِ الـ
ـخَلْقِ ما كانَ من جديدٍ وبالي
واجمعوا أمرَكم على البِرِّ والتقـ
ـوى وتَرْكِ الخَنَا وأخذِ الحلالِ
وقال أبو قيس صِرْمة
أيضًا يذكر ما أكرمهم الله تبارك وتعالى به من الإسلام وما خصهم الله
به من نزول رسوله -صلى الله عليه وسلم- عليهم:
ثوى في قريش بِضْعَ عَشْرةَ
حِجَّةً يذكِّرُ لو يَلْقى صديقًا مواتِيَا
ويَعْرِضُ في أهلِ المواسمِ نفسَه
فلم يرَ مَنْ يُؤوِي ولم يَرَ دَاعِيَا
فلما أتانا أظهرَ الله دينَه
فأصبحَ مسرورًا بطيبةَ راضِيَا
وألفى صديقًا واطمأنتْ به النَّوى
وكان له عَوْنًا من الله باديَا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تستريد: تذهب وترجع.
2 حقاف الرمل: ما تكدس منه في استدارة.
3 هودت: رجعت.
4 شمس: تعبد.
5 الراهب الحبيس: الذي حبس عن ملذات الدنيا.
6 أي إن كانت قصيرة فصلوها أنتم من فضلكم.
7 التخوم: الحدود، والخزلان القطع، والعقال المنع.
ج / 2 ص -115-
يَقُصُّ لنا ما قال نوحٌ لقومهِ
وما قال موسى إذ أجابَ المنادِيَا
فأصبح لا يَخْشَى من الناس واحدًا
قريبًا ولا يَخشى من الناسِ نَائِيَا
بذلْنا له الأموالَ من حِل مالِنا
وأنفسَنا عندَ الوغَى والتَّآسِيَا
ونعلم أن الله لا شيء غَيْرُهُ
ونعلمُ أن الله أفضلُ هاديَا
نعادِي الذي عادَى من الناسِ كلِّهم
جميعًا وإن كان الحبيبَ المُصافيَا
أقول إذا أدْعوك في كل
بَيْعَةٍ:
تباركتَ قد أكثَرتُ لاسمِك داعيَا
أقولُ إذا جاوَزْتُ
أرضًا مَخُوفَةً:
حَنَانَيْك لا تُظْهِرْ عَلَيَّ الأعَادِيَا
فطأ مُعْرِضًا إن الحُتُوفَ كثيرة
وإنك لا تُبقي لنفسِك بَاقِيَا
فوالله ما يدرِي الفتى كيفَ يتَّقي
إذا هو لم يجعلْ له الله واقيَا
ولا تَحْفِلُ النخلُ المُعِيمةُ ربَّها
إذا أصبحت رِيا وأصبح تاويَا1
قال ابن هشام: البيت
الذي أوله:
فطأ مُعْرِضًا إن الحتوفَ كثيرة
والبيت الذي يليه:
فوالله ما يدري الفتى كيف يتَّقي
لأفنون
التَّغْلبي، وهو صُرَيْم بن مَعْشَر، في أبيات له.
عداوة اليهود:
قال ابن إسحاق: ونصبتْ عندَ ذلك أحبارُ يهودَ لرسول الله -صلى الله
عليه وسلم- العداوةَ، بغيًا وحسدًا وضغنًا، لما خص الله تعالى به العرب
من أخذه رسوله منهم، وانضاف إليهم رجالٌ من الأوْس والخزرج، ممن كان
عسى2 على جاهليته، فكانوا أهل نفاق على دين آبائهم من الشِّرك والتكذيب
بالبعث، إلا أن الإسلام قهرهم بظهوره واجتماع قومِهم عليه، فظهروا
بالإسلام، واتخذوه جُنَّة من القتل ونافقوا في السر، وكان هواهم مع
يهودَ، لتكذيبهم النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- وجحودهم الإسلام، وكانت
أحبار يهود هم الذين يسألون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويتعنتونه،
ويأتونه باللَّبس، ليَلْبِسوا الحقَّ بالباطل، فكان القرآن ينزل فيهم
فيما يسألون عنه، إلا قليلًا من المسائل في الحلال والحرام، كان
المسلمون يسألون عنها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المعيمة: العاطشة، والتاوي: الهالك.
2 عسى: بقى.
ج / 2 ص -116-
[من بني النضير]: حُيَيّ بن أخْطَب، وأخواه أبو ياسر بن أخطب، وجُدَيّ بن أخطب،
وسلام بن مشْكم، وكنانة بن الربيع بن أبي الحُقَيق، وسلاَّم بن أبي
الحُقَيق، وأبو رافع الأعور -وهو الذي قتله أصحاب رسول الله، صلى الله
عليه وسلم، بخيبر- والربيع بن الربيع بن أبي الحُقيق، وعَمرو بن
جَحَّاش، وكعْب بن الأشرف، وهو من طيئ، ثم أحد بني نَبْهان، وأمه من
بني النضير، والحجاج بن عمرو، حليف كعب بن الأشرف، وكَرْدَم بن قيس،
حليف كعب بن الأشرف فهؤلاء من بني النضير.
ومن بني ثعلبة بن الفِطْيَوْن1: عبد الله بن صُوريا الأعور، ولم يكن
بالحجاز في زمانه أحد أعلم بالتوراة منه وابن صَلُوبا، ومُخَيْريق،
وكان حبرهم، أسلم.
ومن بني قَينُقاع: زيد بن اللَّصِيت -ويقال: ابن اللُّصَيْت، فيما قال
ابن هشام- وسعد بنُ حُنَيف، ومحمود بن سَيْحان، وعُزَيْز بن أبي
عُزَيز، وعبد الله بن صَيْف.
قال ابن هشام: ويقال: ابن ضَيْف.
قال ابن إسحاق: وسُوَيْد بن الحارث، ورفاعة بن قيس، وفِنْحاص، وأشْيَع،
ونُعمان بن آضا، وَبَحْرِيّ بن عمرو، وشَأس بن عديّ، وشأس بن قَيْس،
وزيد بن الحارث، ونُعمان بن عَمرو، وسُكِين بن أبي سُكَين، وعَدي بن
زيد، ونعمان بن أبي أوْفَى، أبو أنس، ومحمود بن دَحْية، ومالك بن
صَيْف. قال ابن هشام: ويقال: ابن ضيف.
قال ابن إسحاق: وكعب بن راشد، وعازَر، ورافع بن أبي رافع، وخالد وأزَار
بن أبي أزَار.
قال ابن هشام: ويقال: آزر بن آزر.
قال ابن إسحاق: ورافع بن حارثة، ورافع بن حُرَيْملة. ورافع بن خارجة،
ومالك بن عَوْف، ورفاعة بن زيد بن التابوت، وعبد الله بن سَلام بن
الحارث، وكان حَبْرَهم وأعلمهم، وكان اسمه الحُصَيْن، فلما أسلم سماه
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عبدَ الله. فهؤلاء من بني قَيْنُقَاع.
ومن بني قريظة: الزبير بن باطا بن وَهْب، وعَزَّال بن شَمْوِيِل، وكعب
بن أسد، وهو صاحب عَقد بني قريظة الذي نُقض عام الأحزاب، وشَمويل بن
زيد، وجَبَل بن عمرو بن سُكَينة، والنَّحَّام بن زيد، وقَرْدم بن كعب،
ووهب بن زيد، ونافع بن أبي نافع، وأبو نافع، عَدي بن زيد، والحارث بن
عَوْف، وكَرْدَم بن زيد، وأسامة بن حَبيب، ورافع بن رُمَيْلة، وجَبل بن
أبي قشَيْر، ووهب بن يَهوذا، فهؤلاء من بني قريظة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الفطيون: كلمة عبرية تطلق على من ولي أمر اليهود.
ج / 2 ص -117-
ومن
يهود بني زُريق: لَبِيد بن أعْصم، وهو الذي أخذَ رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- عن نسائِه1.
ومن يهودِ بني حارثة: كنانة بن صُورِيا.
ومن يهود بني عمرو بن عَوْف: قَرْدم بن عمرو.
ومن يهود بني النجار: سِلْسِلة بن بَرْهام.
فهؤلاء أحبار اليهود، أهل الشرور والعداوة لرسول الله -صلى الله عليه
وسلم- وأصحابه، وأصحاب المسألة، والنصْب لأمْر الإِسلام الشرورَ
ليطفئوه، إلا ما كان من عبد الله بن سَلام ومُخَيْريق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يعني من الأخذة، وهي ضرب من السحر. وكان لبيد هذا قد سحر رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- وجعل سحره في مشط ومُشاطة، وروي: مشاقة بالقاف،
وهى مشاقة الكتان، وجُف طلعة ذكر. وهي فحال النخل، وهو ذكاره. والجف:
غلاف للطلعة، ويكون لغيرها، ويقال للجف القيقاء وتصنع منه آنية يقال
لها: الثلاثل، قاله أبو حنيفة الدينوري. ودفنه في بئر ذي أروان: وأكثر
أهل الحديث يقولون: ذروان تحت راعوفة البئر، وهي صخرة في أسفله يقف
عليها المائح، وهذا الحديث مشهور عند الناس، ثابت عند أهل الحديث، غير
أني لم أجد في الكتب المشهورة: كم لبث -رسول الله –صلى الله عليه وسلم
-بذلك السحر، حتى شفي منه، ثم وقعت على البيان في جامع معمر بن راشد،
روى معمر عن الزهري، قال: سُحر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سنة
يخيل إليه أنه يفعل الفعل، وهو لا يفعله وقد طعنت المعتزلة في الحديث
وطوائف من أهل البدع، وقالوا لا يجوز على الأنبياء أن يُسحروا، ولو جاز
أن يسحروا، لجاز أن يُجنوا، ونزع بعضهم بقوله عز وجل:
{وَاللَّهُ
يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}
[المائدة: 67] والحديث ثابت خرجه أهل الصحيح، ولا مطعن فيه من جهة
النقل، ولا من جهة العقل؛ لأن العصمة إنما وجبت لهم في عقولهم وأديانهم
وأما أبدانهم، فإنهم يبتلون فيها، ويخلص إليهم بالجراحة والضرب والسموم
والقتل، والأخذة التي أخذها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من هذا
الفن، إنما كانت في بعض جوارحه دون بعض. وأما قوله سبحانه:
{وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] فإنه قد روي أنه كان يُحرس في الغزو، حتى نزلت هذه
الآية، فأمر حراسه أن ينصرفوا عنه، وقال: لا حاجة لي بكم، فقد عصمني
الله من الناس: أو كما قال. عن: "الروض الأنف".
ج / 2 ص -118-
إسلام عبد الله بن سلاَم:
قال ابن إسحاق: وكان من حديث عبد الله بن سَلاَم، كما حدثني بعضُ أهلهِ
عنه وعن إسلامه حين أسلم، وكان حَبْرًا عالمًا، قال: لما سمعتُ برسول
الله -صلى الله عليه وسلم- عرفتُ صفتَه واسمه وزمانَه الذي كنا
نتوكَّف1 له، فكنتُ مُسِرًّا لذلك صامتًا عليه، حتى قدم رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- المدينة، فلما نزل بقُباء، في بني عَمْرو بن عوف، أقبل
رجل حتى أخبر بقدومه، وأنا في رأس نخلة لي أعمل فيها، وعمتي خالدة ابنة
الحارث تحتي جالسة، فلما سمعت الخبر بقدوم رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- كبَّرْتُ؟ فقالت لي عمتي، حين سمعت تكبيري: خيبك الله، والله لو
كنتَ سمعتَ بموسى بن عمران قادمًا ما زدْتَ، قال: فقلت لها: أي
عَمَّةُ، هو والله أخو موسى بن عمران، وعلى دينه، بُعث بما بُعث به.
فقالت: أي ابن أخي، أهو النبي الذي كنا نُخبر أنه يُبعث مع نَفْس
الساعة؟ قال: فقلت لها: نعم. قال: فقالت: فذاك إذن. قال: ثم خرجتُ إلى
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأسلمتُ، ثم رجعت إلى أهل بيتي،
فأمرتهم فأسلموا.
تكذيب قومه له: قال: وكتمت إسلامي من يهود، ثم جئت رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- فقلت له: يا رسولَ الله، إن يهود قومٌ بُهْتٌ، وإني أحب أن
تُدخلَني في بعضِ بيوتِك، وتغيِّبني عنهم، ثم تسألهم عني حتى يخبروك
كيف أنا فيهم، قبل أن يعلموا بإسلامي، فإنهم إن علموا به بهتوني
وعابوني. قال: فأدخلني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بعض بيوته،
ودخلوا عليه، فكلموه وساءلوه، ثم قال لهم: أي رجل الحُصَيْن بن سلام
فيكم؟ قالوا: سيدنا وابن سيدنا، وحَبْرنا وعالمنا. قال: فلما فرغوا من
قولهم خرجت عليهم، فقلت لهم: يا معشرَ يهود، اتقوا الله واقبلوا ما
جاءكم به، فوالله إنكم لتعلمون إنه لرسول الله، تجدونه مكتوبًا عندكم
في التوراة باسمه وصفته، فإني أشهدُ أنه رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- وأومن به وأصدقه وأعرفه، فقالوا: كذبتَ ثم واقعوا بي. قال: فقلت
لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ألم أخبرك يا رسول الله أنهم قوم
بُهْت، أهل غدر وكذب وفجور! قال: فأظهرتُ إسلامى وإسلام أهل بيتي،
وأسلمت عمتي خالدةُ بنت الحارث، فحسن إسلامُها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 نتوكف: نتوقع.
ج / 2 ص -119-
من
حديث مخيريق: قال ابن إسحاق: وكان من حديث مُخَيْريق، وكان حَبْرًا
عالمًا، وكان رجلًا غنيًا كثير الأموال من النخل، وكان يعرف رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- بصفته، وما يجد في علمه، وغلب عليه إلف دينه، فلم
يزل على ذلك حتى إذا كان يوم أحد، وكان يوم أحد يوم السبت، قال: يا
معشر يهود، والله إنكم لتعلمون أن نصرَ محمد عليكم لحقٌّ. قالوا: إن
اليومَ يوم السبت، قال: لا سبتَ لكم، ثم أخذ سلاحَه، فخرج حتى أتى
رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- بأحد، وعهد إلى مَنْ وراءَه من قومه:
إن قُتلت هذا اليوم، فأموالي لمحمد -صلى الله عليه وسلم- يصنع فيها ما
أراه الله. فلما اقتتل الناسُ قاتل حتى قُتل. فكان رسول الله، صلى الله
عليه وسلم -فيما بلغني-يقول: مُخَيْريق خيرُ يهود. وقبض رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- أموالَه، فعامة صدقاتِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
بالمدينة منها.
حديث صفية: قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن
عَمرو بن حَزْم قال: حُدثت عن صَفية بنت حيي بن أخطب أنها قالت: كنت
أحَبَّ ولد أبي إليه، وإلى عمي أبي: ياسر، لم ألْقَهما قط مع ولد لهما
إلا أخذاني دونه، قالت: فلما قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
المدينة، ونزل قُبَاء في بني عَمرو بن عوف غدا عليه أبي، حُيي بن أخطب،
وعمي أبو ياسر بن أخطب، مُغَلَّسَيْن. قالت: فلم يرجعا حتى كانا مع
غروب الشمس. قالت: فأتَيا كَالَّيْن كسلانين ساقطين يمشيان الهوينَى.
قالت: فهشِشْتُ إليهما كما كنت أصنع، فوالله ما التفتَ إليَّ واحد
منهما، مع ما بهما من الغَمِّ. قالت: وسمعت عمي أبا ياسر، وهو يقول
لأبي، حُييّ بن أخْطَب: أهو هو؟ قال: نعم والله: قال: أتعرفه وتُثْبته؟
قال: نعم، قال: فما في نفسِك منه؟ قال: عداوتُهُ والله ما بَقِيتُ.
المنافقون بالمدينة: قال ابن إسحاق: وكان ممن انضاف إلى يهود ممن سمى
لنا من المنافقين من الأوس والخزرج، والله أعلم: من الأوس، ثم من بني
عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس، ثم من بني لَوْذان بن عمرو بن عوف:
زُوَيّ بن الحارث.
ومن بني حُبيب بن عمرو بن عوف: جُلاس بن سُوَيْد بن الصامت وأخوه
الحارث بن سُوَيْد.
وجُلاس الذي قال -وكان ممن تخلف عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في
غزوة تبوك، لئن كان هذا الرجل صادقًا لنحن شَر من الحُمُر، فرَفع ذلك
من قوله إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عميرُ بنُ سعد، أحدهم،
وكان في حِجر جُلاس، خَلَفَ جُلاس على أمه بعد أبيه،
ج / 2 ص -120-
فقال
له عُمَيْر بن سعد: والله يا جُلاس، إنك لأحبُّ الناس إليَّ، وأحسنهم
عندي يدًا، وأعزهم عليَّ أن يصيبه شيء يكرهه، ولقد قلت مقالة لئن
رفعتُها عليك لأفضحَنَّك، ولئن صَمتُّ عليها ليهلكن ديني، ولإحداهما
أيسرُ عليَّ من الأخرى. ثم مشى إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
فذكر له ما قال جُلاس، فحلف جُلاس بالله لرسول الله -صلى الله عليه
وسلم: لقد كذب عليَّ عُمَيْر، وما قلتُ ما قال عُمَيْر بن سعد. فأنزل
الله عز وجل فيه:
{يَحْلِفُونَ
بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا
بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا
إِلّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ
يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ
اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ
فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [التوبة: 74]. قال ابن هشام: الأليم: الموجع. قال ذو الرمة يصف
إبلًا:
وتَرْفعُ من صُدورٍ شَمرْدَلات
يَصُكُّ وجوهَها وهجٌ أليمُ1
وهذا البيت في قصيدة له.
قال ابن إسحاق: فزعموا أنه تاب فحسُنت توبتُه، حتى عُرف منه الخيرُ
والإِسلام.
وأخوه الحارث بن سُوَيْد، الذي قتل المجذَّرَ بنَ زِياد البلوي، وقيسَ
بن زيد، أحد بني ضُبَيْعة، يوم أحد. خرج مع المسلمين، وكان منافقًا،
فلما التقى الناس عدا عليهما، فقتلهما ثم لحق بقريش.
قال ابنُ هشام: وكان المجذَّر بن زياد قتل سُوَيْدَ بن صامت في بعض
الحروب التي كانت بين الأوس والخزرج، فلما كان يوم أحد طلب الحارث بن
سُوَيد غرةَ المجذَّر بن زياد، ليقتله بأبيه، فقتله وحدَه، وسمعت غيرَ
واحد من أهل العلم يقول، والدليل على أنه لم يقتل قيس بن زيد، أن ابن
إسحاق لم يذكره في قتلى أحد.
قال ابن إسحاق: قَتل سُوَيدَ بن صامت معاذُ بن عَفْراء غِيلةً، في غير
حرب، رماه بسهم فقتله قبل يومَ بعاث.
قال ابن إسحاق: وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم -فيما يذكرون- قد
أمر عمر بن الخطاب بقتله إن هو ظفر به، ففاته، فكان بمكة، ثم بعث إلى
أخيه جُلاس يطلب التوبة، ليرجع إلى قومه. فأنزل الله تبارك وتعالى فيه
-فيما بلغني عن ابن عباس:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الشمردلات: الإبل الطوال.
ج / 2 ص -121-
{كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ
وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ
وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 86] إلى آخر القصة.
ومن بني ضُبَيْعة بن زيد بن مالك بن عَوْف بن عمرو بن عوف، بِجَاد بن
عثمان بن عامر.
ومن بني لَوْذان بن عَمْرو بن عَوْف: نَبْتَل بن الحارث، وهو الذي قال
له رسول الله، صلى الله عليه وسلم -فيما بلغني: "من أحبَّ أن ينظر إلى
الشيطان، فلينظر إلى نَبْتَل بن الحارث"، وكان رجلًا جسيمًا أذلم1 ثائر
شعر الرأس، أحمر العينين أسْفَع2 الخدَّين، وكان يأتي رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- يتحدث إليه فيسمع منه، ثم ينقل حديثه إلى المنافقين،
وهو الذي قال: إنما محمد أذُن، من حدّثه شيئًا صدقه. فأنزل الله عز
وِجل فيه:
{وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ
قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ
لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ
يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
[التوبة: 61].
قال ابن إسحاق: وحدثني بعضُ رجال بَلْعجلان أنه حُدِّث: أن جبريل عليه
السلام أتى رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- فقال له إنه يجلس إليك رجل
أذلم، ثائرُ شعرِ الرأس، أسْفَع الخدين أحمر العينين، كأنهما قِدْران
من صُفْر، كبده أغلظ من كبدِ الحمار، ينقل حديثَك إلى المنافقين،
فاحذرْه. وكانت تلك صفةُ نَبْتَل بن الحارث، فيما يذكرون.
ومن بني ضُبَيعة: أبو حبيبة بن الأزْعَر، وكان ممن بني مسجدَ الضرار،
وثعلبة بن حاطب، ومُعَتِّب بن قُشَير، وهما اللذان عاهدا الله لئن
أتانا من فضله لنصدَّقَنَّ ولنكونن من الصالحين... إلخ القصة.
ومُعَتِّب الذي قال يوم أحد: لو كان لنا من الأمر شيء ما قُتلنا ههنا.
فأنزل الله تعالى في ذلك من قوله:
{وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ
غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ
الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ
فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا
مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَهُنَا} [آل
عمران: 154] إلى آخر القصة. وهو الذي قال يوم الأحزاب: كان محمد
يَعِدُنا أن نأكلَ كنوزَ كسرى وقيصر، وأحدُنا لا يأمن أن يذهَب إلى
الغائط فأنزل الله عز وجل فيه:
{وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ
مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب: 12] والحارث بن حاطب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الأذلم: المسترخي الشفتين.
2 الأسفع: من تضرب حمرته إلى سواد.
ج / 2 ص -122-
قال
ابن هشام: مُعَتِّب بن قُشَيْر، وثَعْلبة والحارث ابنا حاطب، وهم من
بني أمية بن زيد من أهل بدر وليسوا من المنافقين فيما ذكر ليِ من أثق
به من أهل العلم، وقد نسب ابن إسحاق ثعلبةَ والحارث في بني أمية بن زيد
في أسماء أهل بدر.
قال ابن إسحاق: وعَبَّاد بن حُنَيْف، أخو سهل بن حُنَيف وبَحْزَج، وهم
ممن كان بني مسجد الضرَار، وعمرو بن خِذَام، وعبد الله بن نَبْتَل.
ومن بني ثعلبة بن عمرو بن عَوْف: جارية بن عامر بن العَطَّاف، وابناه:
زيد ومُجمَّع، ابنا جارية. وهم ممن اتخذ مسجدَ الضرار. وكان مُجَمَّع
غلامًا حدثًا قد جمع من القرآن أكثره، وكان يصلي بهم فيه، ثم إنه لما
أخرب المسجدُ، وذهب رجال من بني عمرو بن عوف، كانوا يصلون ببني عمرو بن
عوف في مسجدهم، وكان زمان عمر بن الخطاب، كُلِّم في مُجَمِّع ليصلي بهم
فقال: لا، أو ليس بإمام المنافقين في مسجد الضِّرار؟ فقال لعمر: يا
أمير المؤمنين، والله الذي لا إِله إلا هو، ما علمتُ بشيء من أمرِهم،
ولكني كنت غلامًا قارئًا للقرآن، وكانوا لا قرآنَ معهم، فقدموني أصلي
بهم، وما أرى أمرَهم، إلا على أحْسن ما ذكروا، فزعموا أن عمر تركه فصلى
بقومه.
ومن بني أمية بن زيد بن مالك: وَديعة بن ثابت، وهو ممن بني مسجدَ
الضرار، وهو الذي قال: إنما كنا نخوض ونلعب. فأنزل الله تبارك وتعالى:
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ
وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ
تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة: 65] إلى آخر القصة.
ومن بني عُبَيد بن مالك: خذام بن خالد، وهو الذي أخرج مسجد الضرار من
داره، وبشر ورافع، ابنا زيد.
ومن بني التَّبِيت -قال ابن هشام: النبيت: عمرو بن مالك ابن الأوس-قال
ابن إسحاق: ثم من بني حارثة بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن
الأوْس: مِرْبع بن قَيْظِي، وهو الذي قال لرسول الله -صلى الله عليه
وسلم- حين أجاز في حائطه1 ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- عامد إلى
أحد: لا أحِلُّ لك يا محمد، إن كنت نبيًّا، أن تمر في حائطي، وأخذ في
يده حفنة من تراب، ثم قال: والله لو أعلم أني لا أصيب بهذا التراب
غيرَك لرميتك به، فابتدره القوم ليقتلوه، فقال رسول الله -صلى الله
عليه وسلم: دعوه، فهذا الأعمى، أعمى القلب، أعمى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الحائط: البستان.
ج / 2 ص -123-
البصيرة. فضربه سعد بن زيد، أخو بني عبد الأشهل بالقوس فشجَّه. وأخوه
أوس بن قَيْظي وهو الذي قال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم
الخندق: يا رسول الله، إن بيوتَنا عَوْرة، فأذَنْلنا فلنرجعْ إليها.
فأنزل الله تعالى فيه:
{يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ
يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا}
[الأحزاب: 13].
قال ابن هشام: عَوْرة أي مُعْوَرَّة للعدو وضائعة وجمعها: عَوْرات قال
النابغة الذبيانى:
متى تَلْقَهم لا تلقَ للبيت عَوْرَةً
ولا الجارَ مَحْرومًّا وَلا الأمرَ ضائعًا
وهذا البيت في أبيات له،
والعورة أيضًا: عَوْرة الرجل، وهي حُرْمته. والعورة أيضًا السَّوْءَة.
قال ابن إسحاق: ومن بني ظَفَر، واسم ظَفَر: كعب بن الحارث بن الخزرج:
حاطب بن أمية بن رافع، وكان شيخًا. جسيمًا قد عَسَا في جاهليته وكان له
ابن من خيار المسلمين، يقال له يزيد بن حاطب، أصيب يوم أحد حتى أثبتته
الجراحات، فحُمل إلى دار بني ظفر.
قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بن قَتادة أنه اجتمع إليه من بها من
رجال المسلمين ونسائهم وهو بالموت فجعلوا يقولون أبشر يابن حاطب
بالجنة، قال: فنجم1 نفاقُه حينئذٍ، فجعل يقول أبوه: أجل جنة والله من
حَرْمل، غررتم والله هذا المسكين من نفسهِ.
قال ابن إسحاق: وبُشَيْر بن أبَيْرق، وهو أبو طُعمَة، سارق الدِّرْعين،
الذي أنزل الله تعالى فيه:
{وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ
اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا}
[النساء: 107]: وقُزْمان: حليف لهم.
قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة: أن رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- كان يقول: إنه لمن أهل النار. فلما كان يوم أحد قاتل قتالًا
شديدًا حتى قتلَ بضعةَ نفر من المشركين، فأثبتته الجراحاتُ، فحُمل إلى
دار بني ظَفر، فقال له رجال من المسلمين: أبشر يا قُزْمَان، فقد أبليتَ
اليوم، وقد أصابك ما ترى في الله. قال: بماذا أبشر، فوالله ما قاتلتُ
إلا حمية عن قومي، فلما اشتدت به جراحاته وآذته أخذ سهمًا من كِنانتِه،
فقطع به رواهشَ2 يده، فقتل نفسَه.
قال ابن إسحاق: ولم يكن في بني عبد الأشْهل منافق ولا منافقة يُعلم،
إلا أن الضحاك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 نجم: ظهر ووضح.
2 الرواهش: العصب التي في ظاهر الذراع، واحدتها راهشة.
ج / 2 ص -124-
بن
ثابت، أحد بني كعب، رهْط سعد بن زيد، وقد كان يُتهم بالنفاق وحُب يهود،
قال حسان بن ثابت:
من مُبلغُ الضحاكِ أن عروقَه
أعْيتْ على الإسلامِ أن تتمَجَّدَا
أتحب يُهْدانَ الحجازِ ودينَهم
كِبدَ الحِمارِ، ولا تحب محمدا
دينًا لعَمْري لا يوافق ديننَا
ما استنَّ آل في الفضاءِ وخَوَّدا
وكان جلاس بن سُوَيْد بن
صامت قبل توبته -فيما بلغني- ومُعتِّب بن قُشَير، ورافع بن زيد، وبشر،
وكانوا يُدْعَوْن بالإسلام، فدعاهم رجال من المسلمين في خصومة كانت
بينهم إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فدعوهم إلى الكهان، حكام أهل
الجاهلية، فأنزل الله عز رجل فيهم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا
أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ
يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ
وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء: 60] إلى آخر القصة.
ومن الخزرج، ثم من بني النجار: رافع بن وَدِيعة، وزَيْد بن عَمرو،
وعَمْرو بن قيْس، وقَيس بن عَمْرو بن سَهْل.
ومن بني جُشَم بن الخزرج، ثم من بني سَلِمَة: الجدُّ بن قَيْس، وهو
الذي يقول: يا محمد، ائذن لي ولا تفتنِّي، فأنزل الله تعالى فيهم:
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي
الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [التوبة: 49]: إلى آخر القصة.
ومن بني عَوْف بن الخزرج: عبدُ الله بنُ أبَيِّ بنُ سَلول، وكان رأس
المنافقين، وإليه يجتمعون وهو الذي قال:
{لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ
مِنْهَا الْأَذَلَّ} في غزوة بني المصْطَلق. وفي قوله ذلك، نزلت سورة المنافقين بأسرها.
وفيه وفي وديعة -رجل من بني عوف-ومالك بن أبي قَوْقَل، وسُوَيْد،
ودَاعس وهم من رهط عبد الله بنُ أبي بن سَلُول: وعبد الله بن أبي بن
سَلول. فهؤلاء النفر من قومِهِ الذين كانوا يدُسُّون إلى بني النضير
حين حاصرهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم: أن اثبتوا، فوالله لئن
أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدًا أبدًا وإن قُوتلتم لننصرنكم،
فأنزل الله تعالى فيهم:
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ
لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ
قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ
لَكَاذِبُونَ} [الحشر: 11] ثم القصة من السورة حتى انتهى إلى قوله:
ج / 2 ص -125-
{كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا
كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ
الْعَالَمِينَ} [الحشر: 16] المنافقون من أحبار اليهود: قال ابن إسحاق: وكان ممن
تعوَّذ بالإسلام، ودخل فيه مع المسلمين وأظهره وهو منافق، من أحبار
يهود.
من بني قينُقاع: سعد بن حُنَيْف، وزَيْد بن اللُّصيْت، ونعمان بن
أوْفَى بن عمرو، وعثمان بن أوفى. وزيد بن اللُّصَيْت، الذي قاتل عمر بن
الخطاب رضي الله عنه بسوق بني قينقاع، وهو الذي قال، حين ضلت ناقةُ
رسول الله -صلى الله عليه وسلم: يزعمُ محمد أنه يأتيه خبرُ السماء وهو
لا يدري أين ناقته! فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجاءه الخبر
بما قال عدوُّ الله في رحله، ودَلَّ الله، تبارك وتعالى رسولَه -صلى
الله عليه وسلم- على ناقته: "إن قائلا قال: يزعمُ محمد أنه يأتيه خبر
السماء ولا يدري أين ناقته، وإني والله ما أعلم إلا ما علَّمني الله،
وقد دلّني الله عليها، فهي في هذا الشِّعْب، قد حبستها شجرة بزمامِها،
فذهب رجال من المسلمين، فوجدوها حيث قال رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- وكما وصف. ورافع بن حُرَيْملة، وهو الذي قال له الرسول، صلى الله
عليه وسلم -فيما بلغنا- حين مات: قد مات اليوم عظيم من عظماء المنافقين
ورفاعة بن زَيْد بن التَّابوت، وهو الذي قال له رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- حين هبت عليه الريح، وهو قافل من غزوة بني المصْطَلَق،
فاشتدت عليه حتى أشفق المسلمون منها فقال لهم رسول الله -صلى الله عليه
وسلم: "لا تخافوا، فإنما هبت لموت عظيم من عظماء الكفار". فلما قدم
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة وجد رفاعة بن زيد بن التَّابوت
مات ذلك اليوم الذي هَبَّت فيه الريح. وسِلْسلة بنَ بِرْهام وكنانة بن
صُورِيا.
طرد المنافقين من المسجد: وكان هؤلاء المنافقون يحضُرون المسجد
فيستمعون أحاديث المسلمين، ويَسْخَرون ويستهزئون بدينهم، فاجتمع يومًا
في المسجد منهم ناس، فرآهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتحدثون
بينهم، خافضي أصواتهم، قَد لصق بعضُهم ببعض، فأمر بهم رسولُ الله -صلى
الله عليه وسلم- فاخرجوا من المسجد إخراجًا عنيفًا، فقام أبو أيوب،
خالدُ بنُ زيد بنُ كُلَيْب، إلى عُمر بن قَيْس، أحد بني غَنْم بن مالك
بن النجار -كان صاحب آلهتهم في الجاهلية-فأخذ برجله فسحبه، حتى أخرجه
من المسجد، وهو يقول: أتخرجني يا أبا أيوب من مرْبد بني ثعلبة، ثم أقبل
أبو أيوب أيضًا إلى رافع بن وَدِيعة، أحد بني النجار فلبَّبه بردائه ثم
نثره نثرًا شديدًا، ولطم وجهَه، ثم أخرجه من المسجد، وأبو أيوب يقول
له: أفّ لك منافقًا خبيثًا. أدراجَك يا منافق من مسجد رسول الله -صلى
الله عليه وسلم.
ج / 2 ص -126-
قال
ابن هشام: أي ارجعْ من الطريق التي جئتَ منها. قال الشاعر:
فولَّى وأدبرَ أدراجَه وقد
باء بالظُّلْم من كان ثَمْ
وقام عُمارة بن حَزْم
إلى زيد بن عمرو، وكان رجلًا طويل اللحية، فأخذ بلحيته فقاده بها قودًا
عنيفًا حتى أخرجه من المسجد، ثم جمع عُمارة يَدَيْه فلَدَمَه بهما في
صدرِهِ لَدْمَة خَرَّ منها. قال: يقول: خدشْتني يا عُمارة قال: أبعدك
الله يا منافقُ، فما أعدَّ الله لك من العذاب أشدُّ من ذلك، فلا
تقربنَّ مسجدَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
قال ابن هشام: اللَّدْم: الضرب ببطن الكف. قال تَميم بنُ أبيّ بنَ
مُقْبِل:
وللفؤادِ وجِيب تحتَ أبْهرِه
لَدْمَ الوليدِ وراءَ الغَيْبِ بالحَجرِ
قال ابن هشام: الغيب: ما
انخفض من الأرض. والأبهر: عرق القلب.
قال ابن إسحاق: وقام أبو محمد، رجل من بني النجار، كان بدْريًا، و أبوِ
محمد مسعود بن أوس بن زيد بن أصْرم بن زيد بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن
النجار: إلى قَيْس بن عمرو بن سهل، وكان قيس غلامًا شابًا، وكان لا
يُعلم في المنافقين شاب غيره، فجعل يدفع في قفاه حتى أخرجه من المسجد.
وقام رجل من بَلْخُدْرَة1 بن الخزرج، رهط أبي سعيد الخُدْري، يقال له:
عبد الله بن الحارث حين أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بإخراج
المنافقين من المسجد إلى رجل يقال له: الحارث بن عَمْرو، وكان ذا
جُمَّة، فأخذ بجُمته فسحبه بها سحبًا عنيفًا، على ما مر به من الأرض،
حتى أخرجه من المسجد. قال يقول المنافقُ: لقد أغلظْتَ يابن الحارث فقال
له: إنك أهل لذلك، أي عدوَّ الله لما أنزل الله فيك: فلا تقربنَّ مسجدَ
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإنك نَجِس.
وقام رجل من بني عَمْرو بن عَوْف إلى أخيه زُوَيِّ بن الحارث فأخرجه من
المسجد إخراجًا عنيفًا، وأفَّف منه، قال: غلب عليك الشيطان وأمْرُهُ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يريد: من بني الخدرة.
ج / 2 ص -127-
فهؤلاءِ من حضر المسجدَ يومئذ من المنافقين، وأمر رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- بإخراجهم.
ما نزل في اليهود والمنافقين: ففي هؤلاء من أحبار يهود، والمنافقين من
الأوس والخزرج، نزل صدرُ سورةِ البقرة إلى المائة منها -فيما
بلغني-والله أعلم.
يقول الله سبحانَه وبحمده:
{الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 1، 2] أي لا شك فيه.
قال ابن هشام: قال ساعدة بن جُؤيَة الهُذَلي:
فقالوا عَهِدْنا القومَ قد حَصَروا به
فلا رَيْبَ أن قد كان ثَمَّ لَحيمُ1
وهذا البيت في قصيدة له،
والريب أيضًا: الريبة. قال خالد بن زُهير الهُذلي:
كأنني أرِيبُة بريْب2
قال ابن هشام: ومنهم من
يرويه:
كأنني أربته بريْب
وهذا البيت في أبيات له.
وهو ابن أخي أبي ذُؤيْب الهُذَلي.
{هُدىً
لِلْمُتَّقِينَ} أي الذين يحذرون من الله عقوبتَه في تَرْك ما يعرفون من الهدَى،
ويرجون رحمتَه بالتصديق بما جاءهم منه:
{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا
رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}
[البقرة: 3] أي يقيمون الصلاةَ بفرْضِها، ويؤتون الزكاة احتسابًا لها:
{وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ
مِنْ قَبْلِكَ}
[البقرة: 4] أي: يصدقونك بما جئت به من الله عز وجل، وما جاء به مَنْ
قبلك من المرسلين، لا يفرقون بينهم، ولا يجحدون ما جاءوهم به من ربهم:
{وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة: 4].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لحيم: قتيل.
2 والرجز الذي استشهد ببيت منه:
يا قوم مالي وأبا ذؤيب
كنت إذا أتينه من غيب
يشم عطفي ويمس ثوبي
كأنني أريبه بريب
وكان أبو ذؤيب قد اتهمه
بامرأته، فلذلك، قال هذا.
ج / 2 ص -128-
أي
بالبعثِ والقيامةِ والجنةِ والنارِ والحسابِ والميزانِ أي هؤلاء الذين
يَزْعُمون أنهم آمنوا بما كان من قبلك، وبما جاءك من ربك:
{أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ}
أي: على نور من ربهم واستقامة على ما جاءهم
{وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 5] أي: الذين أدركوا ما طلبوا ونَجَوْا من شرِّ ما منه
هربوا.
{إِنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا} أي: بما أنزل إليك، وإن قالوا إنا قد آمنا بما جاءنا قبلك.
{سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا
يُؤْمِنُونَ}
[البقرة: 6]، أي أنهم كفروا بما عندهم من ذكرك، وجحدوا ما أخذ عليهم
الميثاق لك، فقد كفروا بما جاءك، وبما عندهم مما جاءهم به غيرك، فكيف
يستمعون منك إنذارًا أو تحذيرًا، وقد كفروا بما عندهم من علمك.
{خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى
أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} عن الهدَى أن يصيبوه أبدًا، يعني بما كذبوك به من الحق الذي جاءك
من ربِّك حتى يؤمنوا به، وإن آمنوا بكلِّ ما كان قبلك:
{وَلَهُمْ}
بما هم عليه من خلافك:
{عَذَابٌ
عَظِيمٌ} [البقرة: 7].
فهذا في الأحْبار من يهود، فيما كذبوا به من الحقِّ بعدَ معرفته.
{وَمِنَ
النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا
هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} يعني المنافقين من الأوس والخزرج، ومن كان على أمرهم:
{يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا
أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ، فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [البقرة: 9، 10] أي شك: {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} أي: شكا
{وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ، وَإِذَا قِيلَ
لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ
مُصْلِحُونَ} [البقرة: 10، 11] أي: إنما نريد الإصلاحَ بين الفريقين: من
المؤمنين وأهل الكتاب، يقول الله تعالى:
{أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ،
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ
كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ
لا يَعْلَمُونَ، وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا
وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} من يهود، الذين يأمرونهم بالتكذيب بالحق، وخلاف ما جاء به الرسول
{قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} أي: إنا على مثل ما أنتم عليه:
{إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} أي: إنما نستهزئ بالقوم، ونلعب بهم، يقول الله عز وجل:
{اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ
يَعْمَهُونَ}
[البقرة: 15].
قال ابن هشام: يَعْمَهون: يحارون تقول العرب: رجل عَمة وعامه: أي
حيران، قال رُؤبة بن
العَجاج يصف بلدًا:
أعْمى الهُدى بالجاهلين العُمَّه
وهذا البيت في أرجوزة
له. فالعُمَّه: جمع عامه: وأما عَمِه: فجمعه: عَمِهون. والمرأة: عَمِهة
وعَمْهاء.
ج / 2 ص -129-
{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} أي:
الكفر بالإيمان:
{فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ}.
قال ابن إسحاق: ثم ضرب لهم مثلًا فقال تعالى:
{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ
مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ
لا يُبْصِرُونَ}
[البقرة: 17] أي لا يُبصرون الحقَّ ويقولون به حتى، إذا خرجوا به من
ظلمةِ الكفر أطفئوه بكفرِهم به ونفاقهم فيه، فتركهم الله في ظلمات
الكفر فهم لا يبصرون هُدًى، ولا يستقيمون على حق:
{صُمٌّ
بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ}
[البقرة: 18] أي: لا يرجعون إلى الهُدَى، صُم بكم عُمي عن الخير، لا
يرجعون إلى خير، ولا يصيبون نجاة ما كانوا على ما هم عليه:
{أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ
يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ
الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ}
[البقرة: 19].
قال ابن هشام: الصَيِّب: المطهر، وهو من صاب يصوب، مثل قولهم: السيِّد،
من سادَ يسود، والميت: من مات يموت، وجمعه صيائِب. قالَ عَلْقمة بن
عَبَدَة، أحد بني ربيعة بن مالك بن زيد مَناة بن تميم:
كأنهمُ صابت عليهم سحابة
صواعقُها لطيرِهنَّ دَبيبُ
وفيها:
فلا تَعْدِلي بيني وبين مُغَمَّر
سَقَتْكَ رَوَايا المُزْنِ حيثُ تَصوبُ1
وهذان البيتان في قصيدة
له.
قال ابن إسحاق: أي هم من ظلمة ما هم فيه من الكفر والحذَر من القتل من
الذي هم عليه من الخلاف والتخوف لكم، على مثل ما وُصف. من الذي هو في
ظُلمة الصَّيْب. يجعل أصابعَه في أذنيه من الصواعق حَذَرَ الموت. يقول:
والله مُنْزِل ذلك بهم من النَّقْمة. أي هو محيط بالكافرين:
{يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} أي: لشدة ضوء الحق:
{كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ
قَامُوا} أي:
يعرفون الحق ويتكلمون به. فهم من قولهم به على استقامة فإذا ارتكسوا
منه في الكفر قاموا متحيرين:
{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} أي: لما تركوا من الحق بعد معرفته:
{إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 20].
ثم قال:
{يَا
أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ}
للفريقين جميعًا: من الكفار والمنافقين. أي وحِّدوا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المغمر: الساذج الذي لم يجرب الأمور.
ج / 2 ص -130-
ربّكم:
{الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ، الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ
بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ
الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا
وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 21،22]
قال ابن هشام: الأندادُ: الأمثالُ: واحدهم نِد. قال لَبيد بن ربيعة:
أحْمَدُ الله فلا نِدَّ له
بيديْه الخيرُ ما شاء فَعَلْ
وهذا البيت في قصيدة له.
قال ابن إسحاق: أي لا تُشركوا بالله غيرَه من الأنداد التي لا تنفع ولا
تضر، وأنتم تعلمون أنه لا ربَّ لكم يرزقكم غيره، وقد علمتم أن الذي
يدعوكم إليه الرسول من توحيده هو الحق لا شك فيه.
{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} أي: في شك مما جاءكم:
{فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ
دُونِ اللَّهِ}
أي: من استطعتم من أعوانكم على ما أنتم عليه:
{إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا
فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ
أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 23، 24] أي: لمن كان على مثل ما أنتم عليه من الكفر.
ثم رغَّبهم وحذَّرهم نقضَ الميثاق الذي أخذ عليهم لنبيه -صلى الله عليه
وسلم- إذا جاءهم وذكر لهم بدء خلقهم حين خلقهم، وشأن أبيهم آدم عليه
السلام وأمره، وكيف صنع به في خالف عن طاعته، ثم قال:
{يَا بَنِي إِسْرائيلَ}
للأحبار من يهود:
{اذْكُرُوا
نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} أي:
بلائي عندكم وعند آبائكم، لما كان نجاهم به من فرعون وقومه:
{وَأَوْفُوا بِعَهْدِي} الذي أخذتُ في أعناقكم لنبيي أحمد، إذا جاءكم
{أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} أنجز لكم ما وعدتكم على تصديقه واتباعه بوضع ما كان عليكم من
الآصار والأغلال التي كانت في أعناقكم بذنوبكم التي كانت من أحداثكم:
{وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} أي: أن أنزل بكم ما أنزلت بمن كان قبلكم من النقمات التي قد عرفتم
من المسخ وغيره.
{وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا
أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} وعندكم من العلم فيه ما ليس عند غيركم:
{وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ، وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ
وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 41، 42] أي: لا تكتموا ما عندكم من المعرفة برسولي ومما
جاء به، وأنتم تجدونه عندكم فيما تعلمون من الكتب التي بأيديكم:
{أتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ
وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44]، أي: أتنْهوْن الناسَ عن الكفر بما عندكم من النبوة
والعهد من التوراة وتتركون أنفسكم، أي وأنتم تكفرون بما فيها من عهدي
إليكم في تصديق رسولي، وتنقضون ميثاقي، وتجحدون ما تعلمون من كتابي.
ثم عدَّد عليهم أحداثهم، فذكر لهم العجل وما صنعوا فيه، وتوبته عليهم،
وإقالته إياهم، ثم قولهم:
{أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً}
[النساء: 153].
ج / 2 ص -131-
قال
ابن هشام: جهرة، أى: ظاهرًا لنا لا شيء يستره عنا. قال أبو الأخْزَر
الحَمانِيُّ واسمه قتيبة:
يجهر أجوافَ المياه السَّدُم1
وهذا البيت في أرجوزة
له.
يجهر: يقول: يظهر الماء، ويكشف عنه ما يستره من الرمل وغيره.
قال ابن إسحاق: وأخْذَ الصاعقة إياهم عند ذلك لغرّتهم، ثم إحياءَه
إياهم بعد موتهم وتظليله عليهم الغمام، وإنزاله عليهم المن والسلوى،
وقوله لهم:
{ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّة} [البقرة: 58] أي: قولوا ما أمركم به أحطّ به ذنوبَكم عنكم،
وتبديلهم ذلك من قوله: استهزاءً بأمره، وإقالته إياهم ذلك بعد هُزْئهم.
قال ابن هشام: المنُّ شيء كان يسقط في السَّحَر على شجرهم،
فَيَجْتَنونه حُلوًا مثل العسل فيشربونه ويأكلونه. قال أعشَى بني قَيْس
بن ثَعْلبة:
لو أطعِموا المنَّ والسلْوَى مكانَهُمُ
ما أبصر الناسُ طُعْمًا فيهمُ نَجَعَا2
وهذا البيت في قصيدة له،
والسّلْوى: طير واحدتها: سَلْواة ويقال: إنها السُّمَاني، ويقال للعسل
أيضًا: السَّلْوى. وقال خالد بن زُهير الهُذَلي:
وقاسَمَها بالله حقّا لأنتم
ألذ من السَّلْوَى إذا ما نَشُورُها
وهذا البيت في قَصيدة له
وحِطَّة: أي حُطَّ عنا ذنوبَنا.
قال ابن إسحاق: وكان من تبديلهم ذلك كما حدثني صالح بن كَيْسان عن صالح
مولى التَّوْءَمة بنت أمية بن خلف، عن أبي هريرة ومن لا أتهم، عن ابن
عباس، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: دخلوا الباب الذي أمروا
أن يدخلوا منه سُجَّدًا يزحفون، وهم يقولون حِنْط في شعير. قال ابن
هشام: ويروى: حنطة في شعيرة.
قال ابن هشام: ويروي حنطة في شعيرة.
قال ابن إسحاق: واستسقاءَ موسى لقومهِ، وأمرَه إِياه أن يضربَ بعصاه
الحجرَ،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 السدم: هي المياة القديمة.
2 نجع: نفع.
ج / 2 ص -132-
فانفجرت لهم منه اثنتا عشرة عينًا، لكل سِبْط1 عين يشربون منها، قد
عَلم كُلُّ سِبْط عينَه التي منها يشرب، وقولهم لموسى عليه السلام:
{لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ
لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا
وَفُومِهَا}
[البقرة: 60].
قال ابن هشام: الفوم: الحنطة. قال أمية بن أبي الصَّلت الثقفي:
فوقَ شِيزَى مثل الجوابي عليها
قِطَعٌ كالوَذِيلِ في نِقْي فُومِ2
قال ابن هشام: الوذيل:
قطع الفضة، والفوم: القمح، واحدته: فومة. وهذا البيت في قصيدة له.
{وَعَدَسِهَا
وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي
هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ}.
قال ابن إسحاق: فلم يفعلوا، ورفْعه الطور فوقَهم ليأخذوا ما أوتوا،
والمسخ الذي كان فيهم، إذ جعلهم قردةً بإحْداثهم، والبقرة التي أراهم
الله عز وجل بها العبرة في القتيل الذي اختلفوا فيه، حتى بيَّن الله
لهم أمره، بعد التردد على موسى عليه السلام في صفة البقرة، وقسوة
قلوبهم بعد ذلك حتى كانت كالحجارة أو أشد قسوة، ثم قال تعالى:
{وَإِنَّ
مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ
مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا
لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} أي:
وإن من الحجارة لألين من قلوبكم عما تدعون إليه من الحق.
{وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}.
ثم قال لمحمد عليه الصلاة والسلام ولمن معه من المؤمنين يؤْيسهم منهم
{أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ
مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ
مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}
[البقرة: 75] وليس قوله "يسمعون التوراةَ" أنّ كلهم قد سمعها، ولكنه
فريق منهم، أي خاصة.
قال ابن إسحاق: فيما بلغني عن بعض أهل العلم: قالوا لموسى: يا موسى، قد
حيل بينَنا وبين رؤية الله، فأسمعنا كلامَه حين يكلمك، فطلب ذلك موسى
عليه السلام من ربه، فقال له: نعم مُرْهُم فليطَّهروا، أو ليطهروا
ثيابَهم، وليصوموا، ففعلوا، ثم خرج بهم حتى أتى بهم الطورَ فلما غشيهم
الغمامُ أمرهم موسى فوقعوا سُجّدًا وكلمه ربه، فسمعوا كلامه تبارك
وتعالى، يأمرهم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 السبط الجماعة، وهي كالقبيلة في أولاد إسماعيل من العرب.
2 الشيزى: خشب أسود صلب تصنع منه الأمشاط والقطاع وغيرها يقال هو
الأبنوس والجوابي: الحياض يجبى إليها الماء، أي يجمع.
ج / 2 ص -133-
وينهاهم، حتى عقلوا عنه ما سمعوا، ثم انصرف بهم إلى بني إسرائيل، فلما
جاءهم حرَّف فريق منهم ما أمرهم به، وقالوا، حين قال موسى لبني
إسرائيل: إن الله قد أمركم بكذا وكذا، قال ذلك الفريق الذي ذكر الله عز
وجل: إنما قال كذا وكذا، خلافًا لما قال الله لهم، فهم الذين عنى الله
عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم.
ثم قال تعالى:
{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا} أي: بصاحبكم رسول الله، ولكنه إليكم خاصة،
{وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا}: لا تحدثوا العرب بهذا، فإنكم قد كنتم تستفتحون به عليهم، فكان
فيهم فأنزل الله عز وجل فيهم:
{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا
بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ
اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا
تَعْقِلُونَ} [البقرة: 76] أي تقرون بأنه نبي، وقد عرفتم أنه قد أخذ له الميثاق
عليكم باتباعه، وهو يخبركم أنه النبي الذي كنا ننتظر ونجد في كتابنا،
اجحدوه ولا تقروا لهم به، يقول الله عز وجل:
{أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا
يُعْلِنُونَ، وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا
أَمَانِيَّ}.
[البقرة: 77، 78].
قال ابن هشام، عن أبي عُبَيْدة: إلا أمانيّ، إلا قراءة؛ لأن الأمي:
الذي يقرأ ولا يكتب. يقول: لا يعلمون الكتاب، إلا أنهم يقرءونه.
قال ابن هشام: عن أبي عُبيدة ويونس، أنهما تأولا ذلك عن العرب في قول
الله عز وجل، حدثني أبو عُبَيدة بذلك.
قال ابن هشام: وحدثني يونس بن حبيب النحويُّ وأبو عُبَيدة: أن العرب
تقول: تمنَّى، في معنى قرأ. وفى كتاب الله تبارك وتعالى:
{وَمَا
أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا
تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ}
[الحج: 82] قال: وأنشدني أبو عُبَيْدة النحوي:
تمنَّى كتابَ الله أولَ ليلهِ
وآخرَهُ وافى حِمامُ المقادِرِ
وأنشدني أيضًا:
تمنَّى كتابَ الله في الليلِ خاليًا
تَمنِّيَ داودَ الزَّبورَ على رِسْلِ
وواحدة الأماني:
أمنيَّة. والأماني أيضًا: أن يتمنى الرجلُ المالَ أو غيرَه.
قال ابن إسحاق:
{وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ}
أي: لا يعلمون الكتاب ولا يدرون ما فيه، وهم يجحدون نبوتك بالظن.
{وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً
قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ
عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 80].
ج / 2 ص -134-
ما
ادعاه يهود في عذاب الآخرة: قال ابن إسحاق: وحدثني مولى لزيد بن ثابت
عن عِكْرمة، أو عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس، قال: قَدِمَ رسولُ
الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة، واليهود تقول: إنما مدة
الدنيا سبعةُ آلاف سنة، وإنما يُعذب الله الناسَ في النار بكل ألف سنة
من أيام الدنيا يومًا واحدًا في النار من أيامِ الآخرة، وإنما هي سبعة
أيام ثم ينقطع العذاب. فأنزل الله في ذلك من قولهم:
{وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً
قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ
عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ، بَلَى
مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ}
[البقرة: 80، 81] أي: من عمل بمثل أعمالكم، وكفر بمثل
ما كفرتم به، يحيط كفره بما له عند الله من حسنة
{فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أي: خُلْد أبدًا
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ
الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 82] أي: من آمن بما كفرتم به، وعمل بما تركتم من دينه
فلهم الجنة خالدين فيها، يخبرهم أن الثواب بالخير والشر مقيم على أهله
أبدًا، لا انقطاع له.
قال ابن إسحاق: ثم قال الله عز وجل يؤنبهم:
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ} أي: ميثاقكم،
{لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي
الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا
قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ}
أي: تركتم ذلك كله ليس بالتنقص:
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ} [البقرة: 84].
قال ابن هشام: تسفكون: تصبُّون. تقول العرب: سَفك دمَه، أي صبَّه وسفك
الزق أي هراقه. قال الشاعر:
وكنا إذا ما الضيفُ حَلَّ بأرضِنا
سفكنا دماءَ البُدْنِ في تُرْبةِ الحالِ
قال ابن هشام: يعني
"بالحال": الطين الذي يخالطه الرمل، وهو الذي تقول له العرب: السَّهلة.
وقد جاء في الحديث: أن جبريل لما قال فرعونُ:
{آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو
إِسْرائيلَ} [يونس: 90] أخذ من حال البحر وحَمْأته، فضرب به وجه فرعون. والحال:
مثل الحمأة.
قال ابن إسحاق:
{وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ
وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ}.
على أن هذا حق من ميثاقي عليكمَ:
{ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ
فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ
بِالْإثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [البقرة: 85] أي: أهل الشرك: حتى يُسفكوا دماءَهم معهم، ويخرجوهم
من ديارهم معهم.
{وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ} وقد عرفتم أن ذلك عليكم في دينكم: {وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ} في كتابكم
{إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ
بِبَعْضٍ}،
ج / 2 ص -135-
أتفادونهم مؤمنين بذلك، وتخرجونهم كفارًا بذلك:
{فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ
الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ، أُولَئِكَ
الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلا
يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} [البقرة: 85، 86] فأنبهم الله عز وجل بذلك من فعلهم، وقد حرَّم
عليهم في التوراة سفكَ دمائِهم. وافترض عليهم فيها فداء أسراهم.
فكانوا فريقين، منهم بنو قَيْنقاع ولَفُّهم1، حلفاء الخزرج والنضير
وقريظة ولَفُّهم، حلفاء الأوس. فكانوا إذا كانت بين الأوس والخزرج حرب،
خرجت بنو قَيْنقاع مع الخزرج وخرجت النضير وقريظة مع الأوس يظاهر كل
واحد من الفريقين حلفاءه على إخوانه حتى يتسافكوا. دماءهم بينهم،
وبأيديهم التوراة يعرفون فيها ما عليهم وما لهم، والأوس والخزرج أهل
شرك يعبدون الأوثان. لا يعرفون جنةً ولا نارًا، ولا بَعْثًا ولا قيامة،
ولا كتابًا، ولا حلالًا ولا حرامًا، فإذا وَضعت الحرب أوزارَها افتدوا
أساراهم تصديقًا لما في التوراة، وأخذَ به بعضُهم من بعضٍ، يفتدي بنو
قينقاع من كان من أسراهم في أيدي الأوس وتفتدي النضير وقريْظة ما في
أيدي الخزرج منهم. ويُطِلُّون2 ما أصابوا من الدماء، وقَتْلى من قُتلوا
منهم فيما بينهم، مظاهرة لأهل الشرك عليهم. يقول الله تعالى لهم حين
أنبهم بذلك:
{أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} أي: تفاديه بحكم التوراة وتقتله، وفي حكم التوراة ألا تفعل، تقتله
وتُخرجه من داره وتُظاهر عليه من يُشركُ بالله، ويعبد الأوثان من دونه،
ابتغاء عَرَض الدنيا. ففى ذلك من فعلِهم مع الأوْس والخزرج -فيما
بلغني- نزلت هذه القصة.
ثم قال تعالى:
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ
بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ} أي: الآيات التي وُضعت على يديه، من إحياء الموتى، وخلْقهِ من
الطين كهيئة الطير، ثم ينفخ فيه فيكون طيرًا بإذن الله، وإبراء
الأسقام، والخبر بكثير من الغيوب: مما يدخرون في بيوتهم، وما رد عليهم
من التوراة مع الإِنجيل، الذي أحدث الله إليه. ثم ذكر كفرَهم بذلك كله،
فقال:
{أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ
اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ}، ثم قال تعالى:
{وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ}: في أكِنَّة. يقول عز وجل:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لفهم: من عد فيهم.
2 يطلون: يبطلون.
ج / 2 ص -136-
{بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ،
وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا
مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ
كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ
اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ}
[البقرة: 89] قال ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عُمر بن قتادة عن أشياخ من
قومه، قال: قالوا: فينا والله وفيهم نزلت هذه القصة، كنا قد عَلَوْناهم
ظَهْرًا في الجاهلية ونحن أهل الشرك وهم أهل كتاب فكانوا يقولون لنا:
إن نبيًّا يُبعث الآن نتبعه قد أظَلَّ زمانهُ، نقتلكم معه قتلَ عادٍ
وإرَم. فلما بعث الله رسولَه -صلى الله عليه وسلم- من قريش فاتبعناه
كفروا به يقول الله:
{فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ
عَلَى الْكَافِرِينَ، بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ
يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ
مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}
أي أن جعله في غيرهم،
{فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ}.
قال ابن هشام: فباءوا بغضب: أي اعترفوا به واحتملوه. قال أعْشَى بني
قَيْس بن ثَعْلبة:
أصالحُكم حتى تبوءوا بمِثلها
كصرْخَةِ حُبْلَى يَسَّرَتْها قبيلُها1
قال ابن هشام: يسرتها.
أجلستها للولادة. وهذا البيت في قصيدة له.
قال ابن إسحاق: فالغضب على الغضب، لغضبه عليهم فيما كانوا ضيَّعوا من
التوراة، وهى معهم، وغضب بكفرهم بهذا النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي
أحدث الله إليهم.
ثم أنَّبهم برفع الطور عليهم، واتخاذهم العجلَ إلهًا دون ربِّهم، يقول
الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم:
{قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ
خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ} [البقرة: 94]، أي ادعوا بالموت على أي الفريقين أكذب عند الله،
فأبَوْا ذلك على رسول الله -صلى الله عليه وسلم. يقول الله جل ثناؤه
لنبيه عليه الصلاة والسلام:
{وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ}، أي: بعلمهم بما عندهم من العلم بك، والكفر بذلك فيقال: لو تمنوه
يوم قال ذلك لهم ما بقي على وجه الأرض يهودي إلا مات. ثم ذكر رغبتهم في
الحياة الدنيا وطول العمر، فقال تعالى:
{وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ}، اليهود،
{وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ
أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ
يُعَمَّرَ} [البقرة: 96]، أي: ما هو بمنجيه من العذاب، وذلك أن المشركَ لا
يرجو بعثًا بعدَ الموت، فهو يحب طولَ الحياة، وأن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 القبيلة: القابلة وهي من تستقبل الولد.
ج / 2 ص -137-
اليهوديَّ قد عرف ما له في الآخرة من الخِزْي بما ضَيَّع مما عنده من
العلم. ثم قال تعالى:
{قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى
قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ}
[البقرة: 97].
سؤال اليهود الرسول، وإجابته: قال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بنُ عبد
الرحمن بن أبي حُسَيْن المَكِّي، عن شَهْر بن حَوْشَب الأشْعَري، أن
نفرًا من أحبار يهود جاءوا رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: يا
محمدُ، أخبرنا عن أربعٍ نسألك عنهنَّ، فإن فعلتَ ذلك اتبعناك وصدقناك،
وآمنا بك. قال: فقال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "عليكم بذلك
عهدُ الله وميثاقُه لئن أنا أخبرتُكم بذلك لتصدِّقُنَّنِى؟" قالوا:
نعم، قال: "فاسئلوا عما بَدَا لكم". قالوا: فأخبرنا كيف يشبه الولدُ
أمَّه، وإنما النطفة من الرجل؟ قال: فقال لهم رسول الله -صلى الله عليه
وسلم: "أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل، هل تعلمون أن نطفة الرجل
بيضاء غليظة ونطفة المرأة صفراء رقيقة فأيتهما علت صاحبتها كان لها
الشبه"، قالوا: اللهم نعم. قالوا: فأخْبرنا كيف نومُك؟ فقال: "أنشدكم
بالله وبأيامه عند بني إسرائيل هل تعلمون أن نومَ الذي تزعمون أني لستُ
به تنام عينه وقلبه يقظان؟" فقالوا: اللهم نعم قال: "فكذلك نومي، تنام
عيني وقلبي يقظان". قالوا: فأخبرنا عما حرَّم إسرائيلُ على نفسه؟ قال:
"أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل هل تعلمون أنه كان أحَبَّ
الطعام والشراب إليه ألبانُ الإِبل ولحومها وأنه اشتكى شكوى فعافاه
الله منها فحرَّم على نفسه أحبّ الطعام والشراب إليه شكرًا لله فحرم
على نفسه لحومَ الإِبل وألبانها" قالوا: اللهم نعم. قالوا: فأخبرنا عن
الروح؟ قال: "أنشدكم بالله وبأيامِهِ عند بني إسرائيل، هل تعلمونه
جبريلَ، وهو الذي يأتيني؟" قالوا: اللهم نعم، ولكنه يا محمد لنا عدو،
وهو ملك، إنما يأتي بالشدة وبسفك الدماء، ولولا ذلك لاتبعناك، قال:
فأنزل الله عز وجل فيهم:
{قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى
قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً
وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}...
إلى قوله تعالى:
{أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ
أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ، وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ
لا يَعْلَمُونَ، وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ
سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ
كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ}
[البقرة: 100-103].
اليهود يُنكرون نبوة سليمان عليه السلام ورد الله عليهم: قال ابن
إسحاق: وذلك أن رسولَ الله، صلى الله عليه وسلم -فيما بلغني- لما ذكر
سليمان بن داود في المرْسَلين، قال
ج / 2 ص -138-
بعضُ
أحبارهم: ألا تعجبون من محمد، يزعم أن سليمان بن داود كان نبيًّا،
والله ما كان إلا ساحرًا. فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهم:
{وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} أي: باتباعهم السحر وعملهم به:
{وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ
وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ}.
قال ابن إسحاق: وحدثني بعض من لا أتهم عن عِكْرمة، عن ابن عباس، أنه
كان لِقول: الذي حرم إسرائيلُ على نفسه زائدتا الكَبْد، والكُلْيتان
والشحْم، إلا ما كان على الظَّهْر، فإن ذلك كان يُقَرَّب للقربان،
فتأكله النار.
كتابه صلى الله عليه وسلم إلى يهود خيبر: قال ابن إسحاق: وكتب رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- إلى يهود خيبر، فيما حدثني مولَى زيد بن
ثابت، عن عِكْرمة أو عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس: بسم الله الرحمن
الرحيم: من مُحمدٍ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صاحبِ موسى وأخيه،
والمصدِّق لما جاء به موسى: ألا إن الله قد قال لكم يا معشرَ أهل
التوراة، وإنكم لَتَجِدُون ذلك في كتابكم:
{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى
الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا
يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي
وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي
التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ
شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ
الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا
عَظِيمًا} [الفتح: 29].
وإني أنشدكم بالله، وأنشدكم بما أنزل عليكم، وأنشدكم بالذي أطْعم من
كان قبلكم من أسباطكم المن والسلْوَى، وأنشدكم بالذي أيبس البحر
لآبائكم حتى أنجاهم من فرعون وعمله، إلاَّ أخبرتموني: هل تجدون فيما
أنزل الله عليكم أن تؤمنوا بمحمد؟ إن كنتم لا تجدون ذلك في كتابكم فلا
كُرْه عليكم.
{قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256] فأدعوكم إلى الله وإلى نبيه.
قال ابن هشام: شطؤه: فراخه وواحدته: شطأة. تقول العرب قد أشطأ الزرع،
إذا أخرج فراخَه. وأزَره: عاونه، فصار الذي قبله مثلَ الأمهات. قال
امرؤ القيس بن حُجْر الكِنْديُّ:
بِمَحْنيةٍ قد آزر الضَّالَ نَبتُها
مَجَرَّ جيوش غانمين وخُيَّب1
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المحنية والمحناة ما انعطف من الوادي والجمع محان، والضال: شجر تعمل
منه القسي.
ج / 2 ص -139-
وهذا
البيت في قصيدة له. وقال حُمَيد بن مالك الأَرْقَط، أحد بني ربيعة بن
مالك بن زَيْد مَناة:
زَرْعًا وقَضبًا مُؤْزَرَ النباتِ1
وهذا البيت في أرجوزة
له، وسوقه: جمع ساق، لساق الشجرة.
ما نزل في أبي ياسر وأخيه: قال ابن إسحاق: وكان ممن نزل فيه القرآن،
بخاصة من الأحبار وكفار يهود، الذي كانوا يسألونه ويتعنتونه ليُلبسوا
الحقَّ بالباطل -فيما ذُكر لي عن عبد الله بن عباس وجابر بن عبد الله
بنِ رئاب- أن أبا ياسر بن أخْطَبَ مرَّ برسول الله -صلى الله عليه
وسلم- وهو يتلو فاتحة البقرة:
{الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 1، 2] فأتى أخاه حُيَي بن أخطب في رجال من يهود، فقال:
تَعَلَّموا والله، لقد سمعتُ محمدًا يتلو فيما أنزل عليه:
{الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ} فقالوا: أنت سمعتَه؟ فقال: نعم، فمشى حُيي بن أخطب في أولئك النفر
من يهود إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا له: يا محمد، ألم
يُذكر لنا أنك تتلو فيما أنزل إليك:
{الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ}؟ فقال
رسول الله -صلى الله عليه وسلم:
"بَلَى" قالوا: أجاءك به جبريل من عند الله؟ فقال:
"نعم"،
قالوا: لقد بعث الله قبلكَ أنبياءَ، ما نعلمه بيَّن لنبي منهم ما مدة
مُلكِهِ، وما أكْل2 أمته غيرك، فقال حُيِي بن أخطب، وأقبل على من معه،
فقال لهم: الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، فهذه إحدى
وسبعون سنة، أفتدخلون في دين إنما مدة ملكه وأكْل أمته إحدى وسبعون
سنة؟ ثم أقبل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا مُحمدُ، هل
مع هذا غيره؟ قال:
"نعم"، قال: ماذا؟ قال:
{المص}
[الأعراف: 1] قال: هذه والله أثقل وأطول، الألف واحدة واللام ثلاثون،
والميم أربعون، والصاد تسعون، فهذه إحدى وستون ومائة سنة. بخ هل مع هذا
يا محمد غيره؟ قال:
"نعم"
{الَر}
قال: هذه والله أثقل وأطول، الألف واحدة، واللام ثلاثون، والراء
مائتان، فهذه إحدى وثلاثون ومائتان، هل مع هذا غيره يا محمد؟ قال:
"نعم"
{الَمر}. قال: هذه والله أثقلُ وأطول، الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم
أربعون، والراء مائتان، فهذه إحدى وسبعون ومائتا سنة. ثم قال: لقد
لُبِّس علينا أمرُك يا محمد، حتى ما ندري أقليلًا أعطيت أم كثيرًا؟ ثم
قاموا عنه، فقال أبو ياسر لأخيه حيي بن أخطب ولمن معه من الأحبار: ما
يدريكم لعله قد جُمع هذا كلُّه لمحمد،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 القضبة: الشجرة التي امتدت أغصانها.
2 الأكل: الرزق.
ج / 2 ص -140-
إحدى
وسبعون، وإحدى وستون ومائة، وإحدى وثلاثون ومائتان، وإحدى وسبعون
ومائتان، فذلك سبع مائة وأربع وثلاثون سنة، فقالوا: لقد تشابه علينا
أمره. فيزعمون أن هؤلاء الآيات نزلت فيه:
{مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ
مُتَشَابِهَاتٌ}
[آل عمران: 7].
قال ابن إسحاق: وقد سمعتُ من لا أتهم من أهل العلم يذكر: إن هؤلاء
الآيات إنما أنزلن في أهل نجران، حين قَدِموا على رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- يسألونه عن عيسى ابن مريم عليه السلام.
قال ابن إسحاق: وقد حدثني محمدُ بن أبي أمامة بن سَهْل بن حُنَيْف، أنه
قد سمع: أن هؤلاء الآيات إنما أنزلن في نفر من يهود، ولم يفسر ذلك لي.
فالله أعلم أي ذلك كان.
كفر اليهود بالإِسلام وما نزل في ذلك: قال ابن إسحاق: وكان فيما بلغني
عن عِكْرِمة مولى ابن عباس، أو عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس: أن
يهودَ كانوا يستفتحون على الأوْس والخزرج برسول الله -صلى الله عليه
وسلم- قبل مبعثه، فلما بعثه الله من العربِ كفروا به، وجحدوا ما كانوا
يقولون فيه. فقال لهم مُعاذ بن جبل، وبِشر بن البراء بن معرور، أخو بني
سَلمة: يا معشر يهود، اتقوا الله وأسْلِموا، فقد كنتم تستفتحون علينا
بمحمد ونحن أهل شرك، وتخبروننا أنه مبعوث، وتصفونه لنا بصفته، فقال
سَلاَّم بن مِشْكَم، أحد بني النَّضِير: ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو
بالذي كنا نذكره لكم؟ فأنزل الله في ذلك من قولهم:
{وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا
مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ
كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ
اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة: 89].
وقال ابن إسحاق: وقال مالك بن الصَّيْف، حين بُعث رسول الله، صلى الله
عليه وسلم -وذَكر لهم ما أخذ عليهم له من الميثاق، وما عَهِد الله
إليهم فيه: والله ما عُهِد إلينا في محمد عهدٌ وما أخذ له علينا من
ميثاق، فأنزل الله فيه:
{أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ
أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}
.[البقرة: 100]
وقال أبو صَلُوبا الفَطْيُوني لرسول الله -صلى الله عليه وسلم: يا
محمدُ ما جئتنا بشيءٍ نعرفه، وما أنزل الله عليك من آية فنتبعك لها.
فأنزل الله تعالى في ذلك من قوله:
{وَلَقَدْ
أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا
الْفَاسِقُونَ} [البقرة: 99].
وقال رافع بن حُرَيْمِلة، ووهب بن زيد لرسول الله -صلى الله عليه وسلم:
يا محمد، ائتنا
ج / 2 ص -141-
بكتاب
تُنزله علينا من السماء نقرؤه، وفَجِّر لنا أنهارًا نتبعْك ونصدقْك،
فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهما:
{أَمْ
تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ
قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ
سَوَاءَ السَّبِيلِ} .[البقرة: 108]
قال ابن هشام: سواء: وسط السبيل. قال حسان بن ثابت:
يا وَيْحَ أنصارِ النبي ورهطهِ
بعد المُغَيَّب في سَواءِ المُلْحَدِ1
وهذا البيت في قصيدة له
سأذكرها في موضعها إن شاء الله تعالى.
قال ابن إسحاق: وكان حُيي بن أخطب وأخوه أبو ياسر بن أخطب من أشد يهودٍ
للعرب حسدًا، إذ خَصَّهم الله تعالى برسوله -صلى الله عليه وسلم- وكانا
جاهدَيْن في رَدِّ الناس بما استطاعا. فأنزل الله تعالى فيهما:
{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ
بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ
بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى
يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ} [البقرة: 109].
تنازع اليهود والنصارى عندَ الرسول -صلى الله عليه وسلم: قال ابن
إسحاق: ولما قَدِم أهلُ نجران من النصارى على رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- أتتهم أحبارُ يهود، فتنازعوا عندَ رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- فقال رافع بن حُرَيْملة: ما أنتم على شيء وكَفَر بعيسى
وبالإِنجيل، فقال رجل من أهل نجران من النصارى لليهود: ما أنتم على
شيء، وجَحَد نبوةَ موسى وكفر بالتوراة، فأنزل الله تعالى في ذلك من
قولهم:
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ
النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ
الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ
فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا
فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [البقرة: 113] أي: كل يتلو في كتابه تصديقَ ما كفر به، أي يكفر
اليهودُ بعيسى، وعندهم التوراة فيها ما أخذ الله عليهم على لسان موسى
عليه السلام بالتصديق بعيسى عليه السلام، وفى الإِنجيل ما جاء به عيسى
عليه السلام، من تصديق موسى عليه السلام، وما جاء به من التوراة من عند
الله، وكل يكْفُر بما في يد صاحبه.
قال ابن إسحاق: وقال رافع بن حُرَيْمِلة لرسول الله -صلى الله عليه
وسلم: يا محمدُ، إن كنت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الملحد القبر، اسم مفعول من ألحد.
ج / 2 ص -142-
رسولًا
من الله كما تقول، فقل للهِ فليكلمنا حتى نسمعَ كلامَه. فأنزل الله
تعالى في ذلك من قوله:
{وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ
تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ
قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ
يُوقِنُونَ} [البقرة: 118].
وقال عبد الله بن صُوريا الأعور الفِطْيُوني لرسول الله -صلى الله عليه
وسلم: ما الهُدَى إلا ما نحن عليه، فاتبعنا يا محمد تَهْتَدِ، وقالت
النصارى مثل ذلك. فأنزل الله تعالى في ذلك من قول عبد الله بن صُوريا
وما قالت النصارى:
{وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ
مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [البقرة: 135] ثم القصة إلى قول الله تعالى:
{تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا
كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 141].
ما قالته اليهود عند صرف القبلة إلى الكعبة: قال ابن إسحاق: ولما
صُرِفت القبلة عن الشام إلى الكعبة، وصُرفت في رجب على رأس سبعةَ عشرَ
شهرًا من مَقْدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة، أتى رسولَ
الله -صلى الله عليه وسلم- رفاعةُ بن قَيْس، وقَرْدَم بن عَمرو، وكعب
بن الأشْرف، ورافع بن أبي رافع، والحجاج بن عمرو، حليف كعب بن الأشرف،
والربيع بن الربيع بن أبي الحُقَيق، وكنانة بن الربيع بن أبي الحُقيق،
فقالوا: يا محمد، ما ولاَّك عن قبلتك التي كنت عليها وأنت تزعم أنك على
ملة إبراهيم ودينه؟ ارجع إلى قبلتك التي كنت عليها نتبعْك ونصدقْك،
وإنما يريدون بذلك فتنته عن دينه. فأنزل الله تعالى فيهم:
{سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ
قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ
وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ،
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى
النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا
الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ
يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ}. أي: ابتلاء واختبار،
{وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} أي: من الفتن، أي الذين ثبَّت الله،
{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}، أي: إيمانكم بالقبلة الأولى، وتصديقكم نبيكم، واتباعكم إياه إلى
القبلة الآخرة، وطاعتكم نبيكم فيها، أي ليعطينكم أجرهما جميعًا،
{إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 143].
ثم قال تعالى:
{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ
قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}
[البقرة: 144].
قال ابن هشام: شطره: نحوَه وقصده. قال عُمر بن أحمر الباهلي -وباهلة بن
يَعْصر بن سعد بن قَيْس بن عيلان- يصف ناقة له:
ج / 2 ص -143-
تعدو بنا شَطْرَ جَمْعٍ وهى عاقدةٌ
قد كارَبَ العَقْدُ من إيفادها الحَقَبا1
وهذا البيت في قصيدة له.
وقال قَيْس بن خُوَيْلد الهُذَلي يصف ناقته:
إن النَّعوسَ بها داءٌ مُخامِرها
فَشَطْرَها نظرُ العَيْنين مَحْسور
وهذا البيت
في أبيات له.
قال ابن هشام: والنعوس: ناقته، وكان بها داء فنظر إليها نظر حسير، من
قوله: {وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك: 4].
{وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ
الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ،
وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا
تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا
بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ
أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا
لَمِنَ الظَّالِمِينَ}.
قال ابن إسحاق: إلى قوله تعالى:
{وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ
الْجَاهِلِينَ} [البقرة: 147].
كتمانهم ما في التوراة: وسأل معاذ بن جبل، أخو بني سَلَمة، ثم وسعد بن
معاذ، أخو بني عبد الأشْهل وخارجة بن زَيْد، أخو بَلْحارث بن الخزرج،
نفرًا من أحبار يهود عن بعض ما في التوراة، فكتموهم في إياه، وأبوا أن
يخبروهم عنه. فأنزل الله تعالى فيهم:
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ
وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ
أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة: 159].
جوابهم النبي عليه السلام حين دعاهم إلى الإِسلام: قال: ودعا رسولُ
الله -صلى الله عليه وسلم- اليهودَ من أهل الكتاب إلى الإِسلام ورغبهم
فيه، وحذَّرهم عذاب الله ونقمته. فقال له رافع بن خَارجة، ومالك بن
عَوْف: بل نتبع يا محمد ما وجدنا عليه آباءَنا، فهم كانوا أعلم وخيرًا
منا. فأنزل الله عز وجل في ذلك من قولهما:
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ
نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ
آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ}
[البقرة: 170].
جمعهم في سوق بني قينقاع: ولما أصاب الله عز وجل قريشًا يَوْمَ بدر جمع
رسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- يهودَ في سوق بني قَيْنقاع، حين قدم
المدينة، فقال: يا معشر يهود،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ناقة عاقدة: إذا جعلت ذنبها بين فخذيها في أول حملها، وإيفادها
إشرافها، والحقب حبل بشد به الرحل إلى بطن الناقة.
ج / 2 ص -144-
أسْلِمُوا قبل أن يُصيبكم الله بمثل ما أصاب به قريشًا، فقالوا له: يا
محمد، لايغرنَّك من نفسِك أنك قتلتَ نفرًا من قريش، كانوا أغْمارًا1 لا
يعرفون القتال،إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نحنُ الناسُ، وأنك لم
تَلْقَ مثلَنا، فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهم:
{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى
جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ، قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي
فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى
كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ
يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً
لِأُولِي الْأَبْصَارِ} [آل عمران: 12، 13].
دخوله -صلى الله عليه وسلم- بيت المِدْرَاس: قال: ودخل رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- بَيْتَ المِدْرَاس2 على جماعة من يهود، فدعاهم إلى
الله فقال له النعمان بن عمرو، والحارث بن زيد: على أيّ دين أنت يا
محمد؟ قال: على ملة إبراهيم ودينه قالا: فإن إبراهيم كان يهوديُّا،
فقال لهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم: فهلُمَّ إلى التوراة، فهي
بيننا وبينَكم، فأبَيَا عليه. فأنزل الله تعالى فيهما:
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ
يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ
يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ
قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ
وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}
[آل عمران: 23، 24].
تنازع اليهود والنصارى في إبراهيمَ عليه السلام: وقال أحبارُ يهودَ
ونصارى نجران حين اجتمعوا عندَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
فتنازعوا فقالت الأحبار: ما كان إبراهيم إلا يهوديًّا وقالت النصارى من
أهل في نجران: ما كان إبراهيم إلا نَصْرانيًّا. فأنزل الله عز وجل
فيهم:
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا
وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ
شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ
اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ،
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا
أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا
تَعْقِلُونَ، هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ
عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ
يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ، مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ
يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا
وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ
بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ
آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ}.[آل
عمران: 65، 68].
ما نزل في إيمانهم غُدْوَة وكفرهم عَشِيًّا: وقال عبد الله بن صَيْف،
وعَدِي بن زيد، والحارث بن عَوْف، بعضُهم لبعض: تعالَوْا نؤمنُ بما
أنزل على محمد وأصحابه غُدَوة، ونكفر به عشية، حتى نَلبس عليهم دينَهم
لعلهم يصنعون كما نصنع، ويرجعون عن دينه. فأنزل الله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الأغمار: السذج الذين لم يجربوا الأمور.
2 المدارس: البيت الذي يدرس فيه اليهود كتابهم والمدراس أيضًا من يدرس
لهم.
ج / 2 ص -145-
تعالى
فيهم:
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ
وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ
مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ
آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ
يَرْجِعُونَ، وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ
إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا
أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ
بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران: 71-73].
ما نزل في قول أبي رافع أتريد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى: وقال
أبو رافع القُرظيُّ حين اجتمعت الأحبار من يهود، والنصارى من أهل نجران
عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ودعاهم إلى الإسلام: أتريد منا يا
محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى ابن مريم؟ وقال رجل من أهل نجران
نصراني، يقال له: الريِّس، ويروى: الرُّبيِّس، والرئيس: أو ذاك تريد
منا يا محمد وإليه تدعونا؟ أو كما قال. فقال رسول الله -صلى الله عليه
وسلم: معاذ الله أن أعبد غير الله أو آمر بعبادة غيره، فما بذلك بعثني
الله، ولا أمرني أو كما قال. فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهما:
{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ
وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ
دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ
تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ}...
إلى قوله تعالى:
{بَعْدَ
إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}
[آل عمران: 79-80].
قال ابن هشام: الربانيون: العلماء الفقهاء السادة؟ واحدهم: رَبَّاني.
قال الشاعر:
لو كنتُ مُرتهِنًا في القَوْس أفْتَنني
منها الكلامُ وربانيَّ أحبارِ
قال ابن هشام: القوس:
صومعة الراهب. وأفتنني، لغة تميم. وفتنني، لغة قيس.
قال جرير:
لا وَصْلَ إذ صَرمتْ هندٌ ولو وقفت
لاستنزلتني وذا المِسْحَيْن في القَوْسِ
أي صومعة الراهب.
والرباني: مشتق من الرب، وهو السيد. وفي كتاب الله:
{فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا}
[يوسف: 41] أي: سيده. قال ابن إسحاق: {وَلا
يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ
أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ
مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 80].
ج / 2 ص -146-
ما نزل
في أخذ الميثاق عليهم: قال ابن إسحاق: ثم ذكر ما أخذ الله عليهم، وعلى
أنبيائهم من الميثاقِ بتصديقه إذ هو جاءهم، وإقرارهم، فقال:
{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ
مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا
مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ
وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ
فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ}
إلى آخر القصة.
سعيهم في الوقيعة بين الأنصار: قال ابن إسحاق: ومر شَأس بن قيْس، وكان
شيخًا قد عسا1، عظيم الكفر شديد الضّغْن على المسلمين، شديد الحسد لهم،
على نفر من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الأوْس والخزرج،
في مجلس قد جمعهم، يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من ألفتهم وجماعتهم،
وصلاح ذات بينهم على الإسلام، بعد الذي كان بينهم من العداوة في
الجاهلية. فقال: قد اجتمع ملأ بني قَيْلة بهذه البلاد، والله ما لنا
معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار. فأمر فتى شابًا من يهود كان معهم،
فقال: اعمدْ إليهم، فاجلس معهم، ثم اذكر يومَ بُعاث وما كان قبله،
وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار يوم بعاث: وكان يوم بعاث
يومًا اقتتلت فيه الأوس والخزرج وكان الظفر فيه يومئذ للأوس على
الخزرج، وكان على الأوس يومئذ حُضَيْر بن سِماك الأشهلي: أبو أسَيْد بن
حُضيْر؟ وعلى الخزرج عمرو بن النعمان البياضي، فقُتلا جميعًا.
قال ابن هشام: قال أبو قَيْس بن الأسلت:
على أنْ قد فُجِعْتُ بذي حِفاظٍ
فعاودني له حزن رَصينُ2
فإما تقتلوه فإن عَمْرًا
أعَضَّ برأسِهِ عَضَبٌ سنين3
وهذان البيتان في قصيدة
له. وحديث يوم بُعاث أطول مما ذكرت، وإنما منعني من استقصائه ما ذكرت
من القطع4.
قال ابن هشام: سنين، مسنون، من سَنَّه إذا شَحذَه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 عسا الشيخ: كبر.
2 الحفاظ: شدة الغضب: والرصين: الثابت.
3 العضب: السيف القاطع.
4 يقصد القطع لسيرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
ج / 2 ص -147-
قال
ابن إسحاق: ففعل. فتكلم القوم عند ذلك وتنازعوا وتفاخروا، حتى تواثب
رجلان من الحيين على الرُّكب، أوْس بن قَيْظِي، أحد بني حارثة بن
الحارث، من الأوْس، وجَبَّار بن صَخْر، أحد بني سَلمة من الخزرج،
فتقاولا ثم قال أحدهما لصاحبه: إن شئتم رددناها الآن جَذَعة، فغضب
الفريقان جميعًا، وقالوا: قد فعلنا موعدكم الظاهرة -والظاهرة: الحرة-
السلاحَ السلاحَ. فخرجوا إليها. فبلغ ذلك رسولَ الله -صلى الله عليه
وسلم- فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين حتى جاءهم، فقال: يا
معشر المسلمين، الله الله، أبدعْوى، الجاهلية، وأنا بينَ أظهرِكم بعد
أن هداكم الله للإسلام، وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية
واستنقذكم به من الكفر، وألَّف به من قلوبكم؟! فعرف القوم أنها نَزْغة1
من الشيطان، وكيد من عدوهم، فبكوا وعانق الرجال من الأوس والخزرج
بعضُهم بعضًا، ثم انصرفوا مع رسول، الله -صلى الله عليه وسلم- سامعين
مطيعين، قد أطفأ الله عنهم كَيْد عدو الله شَأس بن قيس. فأنزل الله
تعالى في شأس بن قيس وما صنع:
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ
وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ، قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ
لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا
وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [آل عمران: 98،99].
وأنزل الله في أوْس بن قَيْظي وجبار بن صخر ومن كان معهما من قومهما
الذين صنعوا ما صنعوا، عما أدخل عليهم شأس من أمر الجاهلية:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ
كَافِرِينَ، وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ
آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ
فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا
وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 100-102]. إلى قوله تعالى:
{وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 105].
ما نزل في قولهم: ما اتبع محمدًا إلا شرارنا: قال ابن إسحاق: ولما أسلم
عبدُ الله بن سلام وثعلبةُ بن سَعْية، وأسيد بن سعية، وأسد بن عُبَيد،
ومن أسلم من يهود معهم، فآمنوا وصدَّقوا ورغبوا في الإسلام، ورسخوا
فيه، قالت أحبار يهود، أهل الكفر منهم: ما آمن بمحمد ولا اتبعه إلا
شرارنا، ولو كانوا من أخيارنا ما تركوا دين آبائهم وذهبوا إلى غيره.
فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهم:
{لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ
يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آل عمران: 113].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 نزغ الشيطان بينهم: أفسد وأغرى.
ج / 2 ص -148-
قال
ابن هشام: آناء الليل: ساعات الليل: وواحدها: إنْي. قال المُتنَخِّلُ
الهُذَلي، واسمه مالك بن عُوَيْمر، يرثي أثيْلة ابنه:
حُلْوٌ ومُر كعَطْفِ القِدْحِ شيمتهُ
في كُلِّ إنْي قضاه الليلُ يَنْتَعلُ
وهذا البيت في قصيدة له
وقال لبيد بن ربيعة يصف حمارَ وَحْشٍ:
يُطَرِّب آناءَ النهار كأنه
غَوِي سقاه في التِّجارِ نديمُ1
وهذا البيت في قصيدة له،
ويقال: إني مقصور، فيما أخبرني يونس.
{يُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ
وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 114].
ما نزل في نَهْي المسلمين عن مباطنة اليهود: قال ابن إسحاق: وكان رجال
من المسلمين يواصلون رجالًا من اليهود، لما كان بينهم من الجوار
والحِلف، فأنزل الله تعالى فيهم ينهاهم عن مباطنتهم:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ
دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ
بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ
أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ،
هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ
وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ} [آل عمران: 118، 119]، أي تؤمنون بكتابكم، وبما مضى من الكتب قبل
ذلك وهم يكفرون بكتابكم، فأنتم كنتم أحق بالبغضاء لهم منهم لكم:
{وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا
عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ
إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}
[آل عمران: 119] إلى آخر القصة.
دخول أبي بكر بيت المدراس: ودخل أبو بكر الصديق بيت المدراس على يهود،
فوجد منهم ناسًا كثيرًا قد اجتمعوا إلى رجل منهم، يقال له فِنْحاص،
وكان من علمائهم وأحبارهم، ومعه في حَبْر من أحبارهم، يقال له: أشْيع،
فقال أبو بكر لفنحاص: ويحك! يا فنحاص! اتق الله وأسْلمْ؟ فوالله إنك
لتعلم أن محمدًا لرسول الله، قد جاءكم بالحق من عنده، تجدونه مكتوبًا
عندكم في التوراة والإنجيل. فقال فنحاص لأبي بكر: والله يا أبا بكر، ما
بنا إلى الله من فقر، وإنه إلينا لفقير، وما نتضرع إليه كما يتضرع
إلينا، وإنا عنه لأغنياء، وما هو عنا بغني، ولو
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الغوي: المفسد. والتجار: بائعو الخمر. والمفرد تاجر.
ج / 2 ص -149-
كان
عنا غنيًا ما استقرضنا أموالَنا، كما يزعم صاحبُكم، ينهاكم عن الربا
ويُعْطيناه ولو كان عنا غنيًا ما أعطانا الربا قال: فغضِب أبو بكر،
فضرب وجْهَ فنحاص ضربًا شديدًا، وقال: والذي نفسي بيده، لولا العهد
الذي بيننا وبينكم لضربت رأسك، أيْ عدوَّ الله. قال: فذهب فِنْحاص إلى
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا محمد، انظر ما صنع بي صاحبك،
فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأبي بكر:
"ما حملك على ما صنعتَ؟" فقال أبو بكر: يا رسول الله، إن عدو الله قال قولًا عظيمًا: إنه
زعم أن الله فقير وأنهم أغنياء فلما قال ذلك غضبتُ لله مما قال، وضربت
وجهه. فجحد ذلك فِنحاص، وقال: ما قلت ذلك. فأنزل الله تعالى فيما قال
فنحاص ردًا عليه وتصديقًا لأبي بكر:
{لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ
فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ
الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ}
[آل عمران: 181].
ونزل في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وما بلغه في ذلك من الغضب
{وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ
وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا
وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران: 186].
ثم قال فيما قال فنحاص والأحبار معه من يهود:
{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ
ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا
يَشْتَرُونَ، لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا
وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا
تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ}
يعني
فنحاص، وأشْيَع وأشباههما من الأحبار، الذين يفرحون بما يصيبون من
الدنيا على ما زينوا للناس من الضلالة، ويحبونه أن يُحمدوا بما لم
يفعلوا أن يقول الناس: علماء، وليسوا بأهل علم، لم يحملوهم على هُدى
ولا حَق، ويحبون أن يقول الناس: قد فعلوا.
أمر اليهود المؤمنين بالبخل: قال ابن إسحاق: وكان كَرْدَمُ بن قيس،
حليف كعب بن الأشرف، وأسامة بن حبيب، ونافع بن أبي نافع، وبَحْري بن
عَمرو، وحُيي بن أخْطَب، ورفاعة بن زَيْد بن التابوت، يأتون رجالًا من
الأنصار كانوا يخالطونهم، ينتصحون لهم، من أصحابِ رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- فيقولون لهم: لا تنفقوا أموالَكم فإنا نخشى عليكم الفقر في
ذهابها، ولا تُسارعوا في النفقة فإنكم لا تدرون علامَ يكون؟ فأنزل الله
فيهم:
{الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ
وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}،
أي: من التوراة، التي فيها تصديق ما جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم،
{وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا، وَالَّذِينَ
يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ}،
إلى قوله تعالى:
{وَكَانَ
اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا}.
ج / 2 ص -150-
اليهود
–لعنهم الله– يجحدون الحقَّ: قال ابن إسحاق: وكان رفاعة بن زيْد بن
التابوت من عظماء يهود، إذا كلم رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- لوى
لسانَه، وقال: أرْعنا سمعَك يا محمد، حتى نفهمك، ثم طعن في الإِسلام
وعابه. فأنزل الله فيه:
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ
يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ،
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا
وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا، مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ
الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا
وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا}، أي راعنا سمعك:
{لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ
قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا
لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا
يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} وكَلم
رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- رؤساءَ من أحبارِ يهود، منهم: عبد
الله بن صُوريا الأعور، وكعب بن أسد، فقال لهم: يا معشر يهود، اتقوا
الله وأسلموا، فوالله إنكم لتعلمون أن الذي جئتكم به لحق، قالوا: ما
نعرف ذلك يا محمد: فجحدوا ما عرفوا، وأصروا على الكفر، فأنزل الله
تعالى فيهم:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا
مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا
فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا
أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا}
[النساء: 47].
قال ابن هشام: نطمس: نمسحها فنسويها، فلا يُرى فيها عينٌ ولا أنف ولا
فم، ولا شيء بما يُرَى في الوجه، وكذلك:
{فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ}
[القمر: 37] المطموس العين: الذي ليس بين جفنيه شق. ويقال: طمست
الكتابَ والأثر، فلا يرى منه شيء. قال الأخطل، واسمه الغَوْث1 بن
هُبَيْرة بن الصَّلْت التَّغْلبي، يصف إبلًا كَلَّفها ما ذكر:
وتُكْلِيفُناهَا كلَّ طامسةِ الصُّوَى
شطونٍ ترى حِرْباءَها يتململُ2
وهذا البيت في قصيدة له:
قال ابن هشام: واحدة الصُّوَى: صُوَّة. والصُّوَى: الأعلام التي يُستدل
بها على الطرق والماء.
قال ابن هشام: يقول: مُسِحت فاستوت بالأرض، فليس فيها شيء ناتئ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المشهور أن اسمه غياث بن غوث بن مصلت ويكنى أبا مالك.
2 الشطون: البعيد، والحرباء دويبة صغيرة تتلون في الشمس ألوانًا لها
أربع قوائم جمعها حرابي.
ج / 2 ص -151-
مَنْ
حَزَّب الأحزاب: قال ابن إسحاق: وكان الذين حَزَّبوا الأحزابَ من قريش
وغطفان وبني قريظة: حُيي بن أخْطَب، وسلام، ابن أبي الحُقَيق، أبو
رافع، والربيع بن الربيع بن أبي الحُقَيق وأبو عَمَّار، ووَحْوَح بن
عامر، وهَوْذة بن قيس. فأما وَحْوَح، وأبو عَمَّار، وهَوْذة فمن بني
وائل، وكان سائرهم من بني النضير. فلما قدموا على قريش قالوا: هؤلاء
أحبار يهود، وأهل العلم بالكتاب الأول، فسلوهم، دينُكم خير أم دينُ
محمد؟ فسألوهم، فقالوا: بل دينُكم خير من دينه، وأنتم أهْدَى منه وممن
اتبعه. فأنزل الله تعالى فيهم:
{أَلَمْ
تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ
بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ}.
قال ابن هشام: الجبت عند العرب: ما عُبد من دون الله تبارك وتعالى:
والطاغوت: كل ما أضل عن الحقِّ. وجَمْع الجِبْت: جُبوت وجمع الطاغوت
طَوَاغيت.
قال ابن هشام: وبلغنا عن ابن أبي نَجِيح أنه قال: الجبت: السحر
والطاغوت: الشيطان.
{وَيَقُولُونَ
لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا
سَبِيلًا} [النساء: 51] قال ابن إسحاق: إلى قوله تعالى:
{أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ
فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا} [النساء: 54].
إنكار اليهودِ التنزيلَ: قال ابن إسحاق: وقال سُكَيْن وعَدي بن زيد: يا
محمد، ما نعلم أن الله أنزل على بَشر من شيء بعد موسى. فأنزل الله
تعالى في ذلك من قولهما:
{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ
وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى
وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ
زَبُورًا، وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ
وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى
تَكْلِيمًا، رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ
لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ
عَزِيزًا حَكِيمًا}.
ودخلت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جماعة منهم، فقال لهم: أمَا
والله إنكم لتعلمون أني رسول من الله إليكم؟ قالوا: ما نعلمه، وما نشهد
عليه. فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهم:
{لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ
بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النساء: 166].
اتفاقهم على طرح الصخرة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم: وخرج رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- إلى بني النَّضير يستعينهم في دِية
العامرييْن اللَّذَيْن قتلَ عمرو بنُ أمية الضَّمْري.
ج / 2 ص -152-
فلما
خلا بعضُهم ببعض قالوا: لن تجدوا محمدًا أقربَ منه الآنَ، فَمَنْ رجل
يظهر على هذا البيت فيطرح عليه صخرةً فيريحنا منه؟ فقال عَمرو بن جحاش
بن كعب: أنا فأتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الخبر، فانصرف عنهم.
فأنزل الله تعالى فيه، وفيما أراد هو وقومه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ
عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ
فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}.
ادِّعاؤهم أنهم أحباء الله: وأتى رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم-
نعمانُ بن أضاء، وبَحْري بن عَمرو، وشأس بن عَدي، فكلموه وكلمهم رسولُ
الله -صلى الله عليه وسلم- ودعاهم إلى الله، وحذَّرهم نِقْمته، فقالوا،
ما تُخوفنا يا محمد، نحن والله أبناءُ الله وأحباؤه، كقول النصارى.
فأنزل الله تعالى فيهم:
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ
وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ
بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ
يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا
وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ}.
إنكارهم نزول كتاب من بعد موسى: قال ابن إسحاق: ودعا رسولُ الله -صلى
الله عليه وسلم- يهودَ إلى الإسلام ورغبهم فيه، وحذرهم غيرَ الله
وعقوبته، فأبَوْا عليه، وكفروا بما جاءهم به، فقال لهم معاذ بن جبل
وسعد بن عُبادة، وعقبة بن وهب: يا معشر يهود، اتقوا الله، فوالله إنكم
لتعلمون أنه رسول الله، لقد كنتم تذكرونه لنا قبلَ مبعثه وتصفونه لنا
بصفته؟ فقال رافع بن حُرَيْملة، ووهب بن يَهُوذا: ما قلنا لكم هذا قط،
وما أنزل الله من كتاب بعدَ موسى ولا أرسل بشيرًا ولا نذيرًا بعدَه.
فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهما:
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ
عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ
بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
ثم قص عليهم خبرَ موسى وما لقى منهم، وانتقاضهم عليه وما ردوا عليه من
أمر الله حتى تاهوا في الأرض أربعين سنة عقوبةً.
رجوعهم إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- في حكم الرجم: قال ابن إسحاق:
وحدثني ابنُ شهاب الزهري أنه سمع رجلًا من مُزَيْنة، من أهل العلم،
يحدِّث سعيدَ بن المسيَّب، أن أبا هريرة حدثهم: أن أحبار يهود اجتمعوا
في بيت المِدْراس، حين قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينةَ،
وقد زنى رجلٌ منهم بعد إحصانه بامرأة من يهودَ قد أحصنت، فقالوا:
ابعثوا بهذا الرجلِ وهذه المرأة إلى محمد، فَسَلوه كيف الحكم فيهما،
وولوه الحكم عليهما، فإن عمل فيهما بعملكم من التجبية -والتجبية: الجلد
بحبل من ليف مَطْلى بقارٍ، ثم تُسَوَّد
ج / 2 ص -153-
وجوههما ثم يُحملان على حِمَاريْن وتجعل وجوههما من قِبلِ أدبار
الحمارين- فاتبعوه، فإنما هو مَلِك، وصدقوه: وإن هو حكم فيهما بالرجم
فإنه نبي، فاحذروه على ما في أيديكم أن يَسْلبَكُموه، فأتوه، فقالوا:
يا محمد هذا رجل قد زنى بعد إحصانه بامرأة قد أحصنت، فاحكم فيهما، فقد
وليناك الحكم فيهما. فمشى رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- حتى أتى
أحبارَهم في بيت المدْرَاس فقال: يا معشر يهود أخرجوا إليَّ علماءَكم،
فأخرج له عبد الله بن صوريا.
قال ابن إسحاق: وقد حدثني بعضُ بني قُرَيْظة: أنهم قد أخرجوا إليه
يومئذ، مع ابن صُوريا، أبا ياسر بن أخْطَب، ووهب بن يَهُوذا، فقالوا:
هؤلاء علماؤنا. فسألهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى حَصَّل
أمرَهم، إلى أن قالوا لعبد الله بن صوريا: هذا أعلم من بقيَ بالتوراة.
قال ابن هشام: من قوله: "وحدثني بعض بني قريظة"، إلى: "أعلم من بقي
بالتوراة" من قول ابن إسحاق، وما بعده من الحديث الذي قبله.
فخلا به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان غلامًا شابًّا من أحدثهم
سِنا، فألَظَّ به1 رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المسألة، يقول له:
يابن صُوريا، أنْشُدك الله وأذكِّرك بأيامِهِ عند بني إسرائيلَ، هل
تعلم أن الله حكم فيمن زنَى بعد إحصانهِ بالرجم في التوراة؟ قال: اللهم
نعم، أما والله يا أبا القاسم إنهم ليعرفون أنك لنبي مُرْسَل ولكنهم
يحسدونك. قال: فخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأمر بهما فرُجما
عند باب مسجده في بني غَنْمِ بن مالك بن النجار: ثم كفر بعد ذلك ابن
صُوريا، وجحد نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن إسحاق: فأنزل الله تعالى فيهم:
{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي
الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ
تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ
سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ} أي: الذين بعثوا منهم من بعثوا وتخلفوا، وأمروهم به من تحريف الحكم
عن مواضعه، ثم قال:
{يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ
أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ}،
أي: الرجم، {فَاحْذَرُوا}
[المائدة: 41] إلى آخر القصة.
قال ابن إسحاق: وحدثني محمدُ بن طلحة بن يزيد بن رَكَانة عن إسماعيل عن
إبراهيم، عن ابن عباس، قال: أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
برجمهما، فرُجما بباب مسجده، فلما وجدَ اليهوديُّ مَسَّ الحِجارة قام
إلى صاحبته فجنأ عَليْها2، يقيها مَسَّ الحجارةِ، حتى قُتلا جميعًا،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ألظ به: ألح عليه.
2 جنا: انحنى.
ج / 2 ص -154-
قال:
وكان ذلك مما صنع الله لرسوله -صلى الله عليه وسلم- في تحقيق الزنا
منهما.
قال ابن إسحاق: وحدثني صالح بن كَيْسان، عن نافع مولى عبد الله بن عُمر
عن عبد الله بن عمر، قال: لما حكَّموا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
فيهما، دعاهم بالتوراة وجلس حَبْر منهم يتلوها، وقد وضع يده على آية
الرجم، قال: فضرب عبدُ الله بن سَلام يد الحَبْر ثم قال: هذه يا نبي
الله آية الرجم، يأبى أن يتلوَها عليك. فقال لهم رسول الله -صلى الله
عليه وسلم:
"ويحكم يا معشر يهود ما دعاكم إلى ترك حُكم الله وهو بأيديكم؟" قال:
فقالوا: أما والله إنه قد كان فينا يُعمل به، حتى زنا رجل منا بعد
إحصانه، من بيوت الملوك وأهل الشرف، فمنعه الملك من الرجم، ثم زنا رجل
بعده، فأراد أن يرجمه، فقالوا: لا والله، حتى ترجم فلانًا، فلما قالوا
له ذلك اجتمعوا فأصلحوا أمرهم على التجبية، وأماتوا ذكر الرجم والعمل
به. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"فأنا أول من أحيا أمرَ الله وكتابه وعمل به"، ثم أمر بهما فرُجما عندَ باب مسجده. وقال عبد الله بن عمر: فكنت
فيمن رجمهما.
ظلمهم في الدية: قال ابن إسحاق: وحدثني داودُ بن الحُصَيْن عن عكْرمة،
عن ابن عباس: أن الآيات من المائدة التي قال الله فيها:
{فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ
عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ
بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة: 42] إنما نزلت في الدية بين بني النضير وبين بني قُريظة،
وذلك أن قتلى بني النضير، وكان لهم شرف، يؤدون الديةَ كاملة، وأن بني
قريظة كانوا يؤدون نصفَ الدية، فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- فأنزل الله ذلك فيهم، فحملهم رسولُ الله -صلى الله
عليه وسلم- على الحقِّ في ذلك، فجعل الديةَ سواء.
قال ابن إسحاق: فالله أعلم أي ذلك كان.
رغبتهم في فتنة الرسول -صلى الله عليه وسلم: قال ابن إسحاق: وقال كعب
بن أسد، وابن صلوبا، وعبد الله بن صُوريا، وشَأس بن قيس، بعضهم لبعض:
اذهبوا بنا إلى محمد، لعلنا نفتنه عن دينه، فإنما هو بشر، فأتَوْه،
فقالوا له: يا محمد، إنك قد عرفت أنا أحبار يهود وأشرافهم وسادتهم،
وأنا إن اتبعناك اتبعتك يهود، ولم يخالفونا، وأن بيننا وبين بعض قومنا
خصومة، أفنحاكمهم إليك فتقضي لنا عليهم، ونؤمن بك ونصدقك، فأبى ذلك
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عليهم. فأنزل الله فيهم:
{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ
أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا
أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا
يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ
كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ، أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ
يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}.
ج / 2 ص -155-
إنكارهم نبوةَ عيسى عليه السلام: قال ابن إسحاق: وأتى رسولَ الله -صلى
الله عليه وسلم- نفرٌ منهم: أبو ياسر بن أخْطب، ونافع بن أبي نافع
وعازر بن أبي عازر، وخالد، وزيد، وإزار بن أبي إزار، وأشْيع. فسألوه
عمن يؤمن به من الرسل؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم:
{قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ
إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ
وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ
النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ
وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}. فلما ذَكر عيسى ابن مريم جحدوا نبوته، وقالوا: لا نؤمن بعيسى ابن
مريم ولا بمن آمن به، فأنزل الله تعالى فيهم:
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ
آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ
قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ}
[المائدة: 59].
ادعاؤهم أنهم على الحق: وأتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رافعُ بن
حارثة، وسلام بن مِشْكم، ومالك بن الصيْف، ورافع بن حُرَيملة، فقالوا:
يا محمد، ألستَ تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه، وتؤمن بما عندنا من
التوراة، وتشهد أنها من الله حقّ؟ قال: بلَى، ولكنكم أحدثتم وجحدتم ما
فيها مما أخذ الله عليكم من الميثاق فيها، وكتمتُم منها ما أمرتم أن
تبينوه للناس، فبَرئْتُ من إحداثِكم قالوا: فإنا نأخذ بما في أيدينا،
فإنا على الهدَى والحق، ولا نؤمن بك، ولا نتبعك. فأنزل الله تعالى
فيهم:
{قُلْ يَا
أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا
التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ
وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ
طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}.
إشراكهم بالله: قال ابن إسحاق: وأتى رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم-
النَّحَّامُ بن زيد، وقَرْدَم بن كعب، وبَحْري بن عَمْرو، فقالوا له:
يا محمد، أما تعلم مع الله إلهًا غيرَه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم:
"الله لا إله إلا هُوَ، بذلك بُعثت، وإلى ذلك أدعو". فأنزل الله فيهم وفى قولهم:
{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي
وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ
وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً
أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ
وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ، الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ
الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ
خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}.
نهْيُ الله المؤمنين عن موادتهم: وكان رفاعةُ بن زيد بن التابوت،
وسُوَيد بن الحارث قد أظهرا الإِسلام ونافقا، فكان رجال من المسلمين
يوادونهم. فأنزل الله تعالى فيهما:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا
دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ
قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ
كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 57]. إلى قوله:
{وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ
وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا
يَكْتُمُونَ}.
ج / 2 ص -156-
سؤالهم
عن قيام الساعة: وقال جَبَل بن أبي قُشَيْر، وشَمْوِيل بن زَيْد، لرسول
الله -صلى الله عليه وسلم: يا محمدُ، أخبرنا، متى تقومُ الساعةُ إن كنت
نبيًّا كما تقول؟ فأنزل الله تعالى فيهما:
{يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا
عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ
ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً
يَسْأَلونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا
عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 187].
قال ابن هشام: "أيان مُرْسَاها" متى مرساها، قال قيس بن الحُدَادِيَّةِ
الخُزاعي:
فجئتُ ومُخْفَى السِّرِّ بيني وبينَها
لأسألها أيان من سار راجعُ؟
وهذا البيت في قصيدة له، ومُرساها: منهاها، وجمعه: مَرَاسٍ. وقال
الكُمَيْت بن زيد الأسدي:
والمصيبين بابَ ما أخطأ النا
سُ ومُرْسَى قواعد الإِسلامِ
وهذا البيت في قصيدة له.
ومُرْسَى السفينة حيث تنتهي. وحَفِي عنها -على التقديم والتأخير- يقول:
يسألونك عنها كأنك حَفِيّ بهم تخبرهم بما لا تخبر به غيرهم.
والحَفِيُّ: البَرُّ المتعهد. وفي كتاب الله:
{إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم: 47] وجمعه: أحفياء. وقال أعشى بني قَيْس بن ثعلبة:
فإن تسألي عني فيا رُبُّ سائلٍ
حَفِي عن الأعشَى به حيثُ أصْعدا1
وهذا البيت في قصيدة له.
والحفي أيضًا: المُستحفي عن علم الشيء، المبالغ في طلبه.
ادعاؤهم أن عُزَيْرًا ابن الله: قال ابن إسحاق: وأتى رسولَ الله -صلى
الله عليه وسلم: سلاَّمُ بنُ مِشْكم، ونعمان بن أبي أوفى أبو أنس،
ومحمود ثم ابن دِحْية، وشاس بن قيس، ومالك بن الصَّيف، فقالوا له: كيف
نتبعك وقد تركت قبلَتنا، وأنت لا تزعم أن عُزيرًا ابن الله؟ فأنزل الله
عز وجل في ذلك في قولهم:
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى
الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ
يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ
اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة: 30] إلى آخر القصة.
قال ابن هشام: يضاهئون: أي: يُشاكل قولُهم قولَ الذين كفروا، نحو أن
تحدِّث بحديث فيحدث آخر بمثله، فهو يضاهيك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أصعد: سار في البلاد.
ج / 2 ص -157-
طلبهم
كتابًا من السماء: قال ابن إسحاق: وأتى رسولَ الله -صلى الله عليه
وسلم- محمودُ بن سَيْحان، ونُعمان بن أضاء، وبَحْري بن عمرو، وعُزَيْز
بن أبي عُزَيْز، وسَلاَّم بن مِشْكم، فقالوا: أحقٌّ يا محمد أن هذا
الذي جئت به لحق من عند الله؟ فإنا لا نراه متسقًا كما تتسق التوراة.
فقال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم:
"أما والله إنكم لتعرفون أنه من عند الله، تجدونه مكتوبًا عندكم في
التوراة، ولو اجتمعت الإِنسُ والجنُّ على أن يأتوا بمثله ما جاءوا به"، فقالوا عند ذلك، وهم جميع: فنحاص، وعبدُ الله بن صوريا، وابن
صلوبا، وكنانة بن الربيع بن أبي الحُقَيق، وأشيْع، وكعب بن أسد،
وشَمْوِيل بن زيد، وجبل بن سُكَينة: يا محمد، أما يعلِّمك هذا إنس ولا
جن؟ قال: فقال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم: أما والله إنكم
لتعلمون أنه من عند الله. تجدون ذلك مكتوبًا عندكم في التوراة؟ فقالوا:
يا محمد، فإن الله يصنع لرسوله إذا بعثه ما يشاء ويقدره منه على ما
أراد، فأنزلْ علينا كتابًا من السماء نقرؤه ونعرفه، وإلا جئناك بمثل ما
تأتي به. فأنزل الله تعالى فيهم وفيما قالوا:
{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا
بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ
بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}
[الإسراء: 88] قال ابن هشام: الظهير: العَوْن. ومنه قول العرب: تظاهروا
عليه، أي تعاونوا عليه. قال الشاعر:
يا سَمِىَّ النبيِّ أصبحتَ للدين
قوامًا وللإِمام ظهيرَا
أي عَوْنا وجمعه ظُهراء.
سؤالهم له -صلى الله
عليه وسلم- عن ذي القرنين: قال ابن إسحاق: وقال حُيي بن أخطب، وكعب بن
أسَد، وأبو رافع، وأشْيع، وشَمْويل بن زيد، لعبد الله بن سَلاَّم حين
أسلم: ما تكون النبوة في العرب، ولكن -صاحبك مَلك، ثم جاءوا رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- فسألوه عن ذي القرنين فقص عليهم ما جاءَه من الله
تعالى فيه، مما كان قص على قريش وهم كانوا ممن أمر قريشًا أن يسألوا
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عنه، حين بعثوا إليهم النَّضر بن
الحارث، وعُقبة بن أبي مُعَيْط.
تهجمهم على ذات الله: قال ابن إسحاق: وحُدثت عن سعيد بن جُبير أنه قال:
أتى رهطٌ من يهود إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: يا
محمدُ، هذا الله خَلَقَ الخلْقَ، فمن خلق الله؟ قال: فغضب رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- حتى انتقع لونُهُ، ثم ساورهم غضبًا لربه. قال:
فجاءه جبريلُ عليه السلام فسكَّنه، فقال: خَفِّضْ عليك يا محمد، وجاءه
من الله بجوابِ ما سألوه عنه:
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ
يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}.
ج / 2 ص -158-
قال:
فلما تلاها عليهم قالوا: فصف لنا يا محمد كيف خَلْقُه كيف ذِراعه؟ كيف
عَضده. فغضب رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- أشد من غضبه،الأول،
وساورهم، فأتاه جبريل عليه السلام، فقال له مثلَ ما قال له أولَ مرة،
وجاءه من الله تعالى بجوابِ ما سألوه. يقول الله تعالى:
{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا
قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ
بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}.
قال ابن إسحاق: وحدثني عُتبة بن مُسلم، مولى بني تيم، عن أبي سَلَمة بن
عبد الرحمن، عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
يقول: "يوشك الناسُ أن يتساءلوا بينَهم حتى يقول قائلُهم: هذا الله خَلَقَ
الخَلْقَ، فمن خلق الله؟ فإذا قالوا ذلك فقولوا:
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ
يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}
ثم ليتفُل الرجل عن يساره ثلاثًا، وليستعذْ بالله من الشيطان الرجيم".
قال ابن هشام: الصمد: الذي يُصمَد إليه، ويُفْزَع إليه. قالت هند بنت
مَعْبد بن نَضْلة تبكي عَمرو بن مسعود، وخالد بن نَضْلة، عميها
الأسديين، وهما اللذان قتل النعمان بن المنذر اللخمي، وبني الغَرِيين1
اللَّذيْن بالكوفة عليها:
ألا بَكَرَ الناعي بَخَيْرَيْ بني أسدْ
بعمرو بن مسعود وبالسيِّد الصَّمَدْ
ذكر نصارى
نجران وما أنزل الله فيهم:
معنى العاقب والسيد والأسقف: قال ابن إسحاق: وقَدِم على رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- وفدُ نصارَى نَجران، ستون راكبًا، فيهم أربعةَ عشرَ
رجلًا من أشرافهم، وفي الأربعةَ عشرَ منهم ثلاثةُ نفر إليهم يئول
أمرُهم: العاقب، أميرُ القوم وذو رأيهم، وصاحب مشورتهم، والذي لا
يُصْدرون إلا عن رأيه، واسمه عبدُ المسيح والسيد لهم، ثمالهم2 وصاحبُ
رَحْلهم ومجتَمعهم، واسمه الأيْهم، وأبو حارثة بن علقمة، أحد بني بكر
بن وائل، أسْقُفهم وحَبْرهم وإمامهم، وصاحب مِدْرَاسِهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الغريان: المشهوران كانا بالكوفة وهما بناءان طويلان يقال هما قبر
مالك وعقيل نديمي جذيمة الأبرش وسميا الغريين؛ لأن النعمان بن المنذر
كان يغريهما بدم من يقتله
يوم بؤسه. وانظر لسان العرب ج19 ص358.
2 ثمال القوم: من يرجعون إليه ويقوم بأمرهم.
ج / 2 ص -159-
وكان
أبو حارثة قد شَرُف فيهم، ودرس كتبَهم، حتى حَسُن علمه في دينهم، فكانت
ملوك الروم من النصرانية قد شرفوه ومولوه وأخدموه، وبَنَوْا له
الكنائس، وبسطوا عليه الكرامات، لما يبلغهم عنه من علمه واجتهاده في
دينهم.
إسلام كُوز بن علقمة: فلما رجعوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
من نجران، جلس أبو حارثة على بغلة له موجِّهًا إلى رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- وإلى جنبه أخ له، يقال له: كُوز بن علقمة -قال ابن هشام:
ويقال: كرز- فعثرت بغلة أبي حارثة، فقال كوز: تعس الأبعد: يريد رسول
الله -صلى الله عليه وسلم: فقال له أبو حارثة: بل وأنت تَعستْ! فقال:
ولم يا أخي؟ قال: والله إنه للنبي الذي كنا ننتظر، فقال له كوز: ما
يمنعك منه وأنت تعلم بذا؟ قال: ما صنع بنا هؤلاء القوم، شَرَّفونا
ومَولونا وأكرمونا، وقد أبوْا إلا خِلاَفه، فلو فعلتُ نزعوا منا كلَّ
ما ترى. فأضمر عليها منه أخوه كُوز بن علقمة، حتى أسلمَ بعد ذلك. فهو
كان يُحدِّث عنه هذا الحديث فيما بلغني.
رؤساء نجران وإسلام ابن رئيس: قال ابن هشام: وبلغني أن رؤساء نجران
كانوا يتوارثون كتبًا عندَهم. فكلما مات رئيسٌ منهم فأفْضَت الرياسة
إلى غيره، ختم على تلك الكُتب خاتمًا مع الخواتم التي كانت قبله ولم
يكسِرها، فخرج الرئيسُ الذي كان على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-
يمشي فعثر، فقال له ابنه: تعس الأبعد، يريد النبي -صلى الله عليه وسلم-
فقال له أبوه: لا تفعل، فإنه نبي، واسمه في الوضائع -يعني: الكتب- فلما
مات لم تكن لابنهِ هِمَّة إلا أن شد فكسر الخواتم، فوجد فيها ذِكْرَ
النبي -صلى الله عليه وسلم- فأسلم فحسُن إسلامُهُ وحج، وهو الذي يقول:
إليكَ تعدو قَلِقًا وَضينُها
مُعْترِضًا في بطنِها جَنينُها
مخالفًا دينَ النصارى دينُها
قال ابن هشام: الوضين:
الحزام، حزام الناقة، وقالَ هشام بن عروة: وزاد فيه أهلُ العراق:
مُعترضًا في بطنِها جنينُها
فأما أبو عُبَيدة
فأنشدناه فيه.
صلاتهم إلى جهة المشرق: قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير،
قال: لما قدموا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة، فدخلوا
عليه مسجده حين صلى العصر، عليهم ثياب الحِبرات1، جُبَب وأردية، في
جمال رجال بني الحارث بن كعب. قال: يقول
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 برود من اليمن.
ج / 2 ص -160-
بعضُ
من رآهم من أصحاب النبيّ -صلى الله عليه وسلم- يومئذ: ما رأينا وفدًا
مثلَهم، وقد حانت صلاتُهم، فقاموا في مسجدِ رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- يصلون: فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دَعُوهم فصلَّوْا
إلى المشرق.
أسماؤهم ومعتقداتهم: قال ابن إسحاق: فكانت تسمية الأربعةَ، عشرَ، الذين
يئول إليهم أمرهم: العاقبُ وهو عبد المسيح والسَّيد وهو الأيْهم، وأبو
حارثة بن عَلْقَمة أخو بني بكر بن وائل، وأوْس والحارث، وزَيْد، وقيْس،
و يزيد، ونبيه، وخوَيْلد، وعمرو، وخالد، وعبد الله، ويُحَنَّس، في ستين
راكبًا فكلم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منهم أبو حارثة بن علقمة،
والعاقب عبد المسيح، والأيهم السيد وهم من النصرانية -على دين الملك،
مع اختلاف من أمرهم، يقولون: هو الله، ويقولون: هو والد الله. ويقولون:
هو ثالث ثلاثة وكذلك قول النصرانية فهم يحتجون في قولهم: "هو الله"
بأنّه كان يُحيي الموتى، ويبرئ الأسقام، ويخبر بالغيوب، ويخلق من الطين
كهيئة الطير، ثم ينفِخ فيه فيكون طائرًا، وذلك كلُّه بأمر الله تبارك
وتعالى:
{وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ}.
ويحتجون في قولهم: إنه ولد الله بأنهم يقولون: لم يكن له أب يُعلم، وقد
تكلم في المهد، وهذا لم يصنعه أحد من ولد آدم قبله.
ويحتجون في قولهم: "إنه ثالثُ ثلاثة" بقول الله: فَعَلْنا، وأمرْنا،
وخلقْنا، وقَضَيْنا، فيقولون: لو كان واحدًا ما قال إلا فعلتُ، وقضيتُ،
وأمرتُ، وخلقتُ ولكنه هو وعيسى ومريم، ففي كل ذلك من قولهم قد نزل
القرآن.. فلما كلَّمه الحَبْران، قال لهما رسول الله صلى الله عليه
وسلم:
"أسْلِما"
قالا: قد أسلمنا، قال:
"إنكما لم
تُسلما فأسْلِما"، قالا:
بلَى، قد أسلمنا قبلك: قال:
"كذبتما،
يمنعكما من الإِسلام دعاؤكما لله ولدًا، وعبادتكما الصليب، وأكلكما
الخنزير"، قالا: فمن أبوه يا محمد؟ فصمت عنهما رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- فلم يجبهما.
ما نزل فيهم من القرآن: فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهم، واختلاف
أمرهم كله، صدر سورة آل عمران، إلى بضع وثمانين آية منها، قال جل وعز:
{الم، اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران: 1، 2] فافتتح السورة بتنزيه نفسه عما قالوا، وتوحيده
إياه بالخلق والأمر، لا شريك له فيه، ردًّا عليهم ما ابتدعوا من الكفر،
وجعلوا معه من الأنداد، واحتجاجًا بقولهم عليهم في صاحبهم، ليعرفهم
بذلك ضلالتهم: فقال:
{الم، اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} ليس معه غيره شريك
ج / 2 ص -161-
في
أمره
{الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران: 1، 2] الحي الذي لا يموت، وقد مات عيسى وصُلب في قولهم.
والقيوم القائم على مكانه من سلطانه في خلقه لا يزول، وقد زال عيسى في
قولهم عن مكانه الذي كان به، وذهب عنه إلى غيره.
{نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} أي بالصدق فيما اختلفوا فيه،
{وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ}: التوراة على موسى، والإِنجيل على عيسى، كما أنزل الكتب على من كان
قبله:
{وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ}، أي: الفصل بين الحق والباطل فيما اختلف فيه الأحزاب من أمر عيسى
وغيره،
{إِنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا بآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ
عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ}، أي: أن الله منتقم ممن كفر بآياته، بعد علمه بها، ومعرفته بما جاء
منه فيها.
{إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي
السَّمَاءِ} أي: قد علم ما يريدون، وما يكيدون، وما يضاهون بقولهم في عيسى، إذ
جعلوه إلهًا وربًّا، وعندهم من، علمه غير ذلك، غِرَّة بالله، وكُفرًا
به.
{هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ}، أي: قد كان عيسى ممن صُور في الأرحام، لا يدفعون ذلك ولا ينكرونه
كما صُور غيره من ولد آدم، فكيف يكون إلهًا وقد كان بذلك المنزل. ثم
قال تعالى إنزاهًا لنفسه، وتوحيدًا لها مما جعلوا معه:
{لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} العزيز في انتصاره ممن كفر به إذا شاء، الحكيم في حجته وعذره إلى
عباده.
{هُوَ
الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ
أُمُّ الْكِتَابِ}، فهن حجة الرب، وعِصمة العباد، ودَفْع الخصوم والباطل، ليس لهن
تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه:
{وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} لهن تصريف وتأويل، ابتلى الله فيهنَّ العباد، كما ابتلاهم في
الحلال والحرام، ألا يُصْرَفن إلى الباطل، ولا يُحرَّفن عن الحق. يقول
عز وجل:
{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} أي: ميل عن الهدى،
{فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ}، أي: ما تصرف منه، ليصدقوا به ما ابتدعوا وأحدثوا، لتكون لهم حجة،
ولهم على ما قالوا شبهة:
{ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ}،
أي: اللبس،
{وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} ذلك على ما رَكِبوا من الضلالة في قولهم: خَلَقْنا وقَضَيْنا.
يقول:
{وَمَا
يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ}
أي: الذي به أرادوا، ما أرادوا
{إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا
بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} فكيف يختلف وهو قول واحد، من رب واحد. ثم ردوا تأويل المتشابه على
ما عرفوا من تأويل المحكمة التي لا تأويل لأحد فيها إلا تأويل واحد،
واتسق بقولهم الكتاب، وصدَّق بعضُه بعضًا، فنفذت به الحُجة، وظهر به
العذر، وزاح به الباطل، ودمغ به الكفر. يقول الله تعالى في مثل هذا:
{وَمَا يَذَّكَّرُ} في مثل هذا:
{إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ، رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ
إِذْ هَدَيْتَنَا}. أي: لا تمل -قلوبنا، وإن ملنا بأحداثنا.
{وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} ثم قال:
{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ
وَأُولُو الْعِلْمِ} بخلاف ما قالوا:
{قَائِمًا بِالْقِسْطِ}، أي: بالعدل فيما يريد
{لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ
اللَّهِ الْإِسْلامُ}،
أي: ما أنت عليه يا محمد: التوحيد للرب، والتصديق
ج / 2 ص -162-
للرسل.
{وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ
مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ}
أي: الذي جاءك، أي في أن الله الواحد الذي ليس له شريك
{بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ
اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ، فَإِنْ حَاجُّوكَ}، أي: بما يأتون به من الباطل من قولهم: خَلَقْنا وفَعلْنا
وأمَرْنا، فإنما هى شُبهةُ باطلٍ قد عرفوا ما فيها من الحق:
{فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ}، أي: وحده
{وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
وَالْأُمِّيِّينَ} الذين لا كتاب لهم
{أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ
تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ
بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 20].
ما نزل من القرآن فيما اتبعه اليهود والنصارى: ثم جمع أهل الكتابين
جميعًا، وذكر ما أحدثوا وما ابتدعوا، من اليهود والنصارى، فقال:
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ
النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ
بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ} [آل عمران: 21]، إلى قوله:
{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} أي: رب العباد، والملك الذي لا يقضى فيهم غيره
{تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ
تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ
الْخَيْرُ}، أي: لا إله غيرك
{إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، أي: لا يقدر على هذا غيرك بسلطانك وقدرتك
{تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي
اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ
مِنَ الْحَيِّ} بتلك
القدرة
{وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 26، 27] لا يقدر على ذلك غيرك، ولا يصنعه إلا أنت أي:
فإن كنت سلطت عيسى على الأشياء التي بها يزعمون أنه إله، من إحياء
الموتى، وإبراء الأسقام والخلق للطير من الطين، والإِخبار عن الغيوب،
لأجعله به آية للناس، وتصديقًا له في نبوته التي بعثته بها إلى قومه،
فإن من سلطاني وقدرتي ما لم أعطه: تمليكَ الملوك بأمر النبوة، ووضعها
حيث شئت، وإيلاج الليل في النهار، والنهار في الليل، وإخراج الحي من
الميت، وإخراج الميت من الحي، ورزق من شئت من بر أو فاجر بغير حساب:
فكل ذلك لم أسلط عيسى عليه، ولم أملِّكه إياه، أفلم تكن لهم في ذلك
عِبرة وبينة! أن لو كان ذلك كله إليه، وهو في علمهم يهرب من الملوك،
وينتقل منهم في البلاد، من بلد إلى بلد.
ما نزل من القرآن في وعظ المؤمنين وتحذيرهم: ثم وعظ المؤمنين وحذَّرهم،
ثم قال:
{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ} أي: إن كان هذا من قولكم حقًّا، حُبًّا للّه وتعظيمًا له،
{فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}
أي: ما مضى من كفركم،
{وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ}
فأنتم تعرفونه وتجدونه في كتابكم:
{فَإِنْ تَوَلَّوْا}، أي: على كفرهم،
{فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ}.
ما نزل في خلق عيسى وخبر مريم وزكريا: ثم استقبل لهم أمرَ عيسى عليه
السلام، وكيف كان في بدء ما أراد الله به، فقال:
{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ
عِمْرَانَ
ج / 2 ص -163-
عَلَى الْعَالَمِينَ، ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ
سَمِيعٌ عَلِيمٌ} ثم ذكر أمر امرأة عمران، وقولها: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا
فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا}،
أي: نذرته فجعلته عتيقًا، تعبُّده لله، لا ينتفع به لشيء من الدنيا
{فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، فَلَمَّا
وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ
أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى}، أي: ليس الذكر كالأنثى كما جعلتها محررًا لك نذيرة،
{وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ
وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}، يقول الله تبارك وتعالى:
{فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا
حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} بعد أبيها وأمها.
قال ابن هشام: كفَّلها: ضمَّها.
خبر زكريا ومريم عليهما السلام: قال ابن إسحاق: فذكَّرها باليتم، ثم قص
خبرَها وخبرَ زكريا وما دعا به، وما أعطاه إذْ وهب له يحيى. ثم ذكر
مريمَ، وقول الملائكة لها: {يَا
مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى
نِسَاءِ الْعَالَمِينَ، يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي
وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} يقول الله عز وجل:
{ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ
لَدَيْهِمْ}، أي:
ما كنت معهم
{إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ}.
قال ابن هشام: أقلامهم: سهامهم، يعني: قِداحهم التي استهموا بها عليها،
فخرج قِدْح زكريا فضمها، فيما قال الحسن بن أبي الحسن البَصري.
كفالة جُرَيج مريم: قال ابن إسحاق: كفلها ههنا جُرَيْج الراهب، رجل من
بني إسرائيل نجار، خرج السهم عليه بحملها، فحملها، وكان زكريا قد
كَفَلها قبل ذلك، فأصابت بني إسرائيل أزمة شديدة، فعجز زكريا عن حملها،
فاستهموا عليها أيهم يكفُلُها فخرج السهم على جُرَيج الراهب بكفولها
فكفَلَها.
{وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ}، أي: ما كنت معهم إذ يختصمون فيها. يخبره بخفيِّ ما كتموا عنه من
العلم عندَهم، لتحقيق نبوته والحجة عليهم بما يأتيهم به بما أخفوا منه.
ثم قال:
{إِذْ
قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ
بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ}،
أي: هكذا كان أمره، لا كما تقولون فيه
{وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ}
أي عند الله {وَمِنَ
الْمُقَرَّبِينَ، وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ
الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 45، 46] يخبرهم بحالاته التي يتقلب فيها في عمره، كتقلب
بني آدم في أعمارهم، صغارًا وكبارًا، إلا أن الله خصه بالكلام في مهده
آيةً لنبوته، وتعريفًا للعباد بمواقع قدرته.
{قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ
قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ}.
ج / 2 ص -164-
أي:
يصنع ما أراد، ويخلق ما يشاء من بشر أو غير بشر:
{إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ} مما يشاء وكيف شاء،
{فَيَكُونُ}
كما أراد ثم أخبرها بما يريد به، فقال:
{وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ}
التي كانت فيهم من عهد موسى قبله {وَالْإنْجِيلَ}،
كتابًا آخر أحدثه الله عز وجل إليه لم يكن عندهم إلا ذكره أنه كائن من
الأنبياء بعده،
{وَرَسُولًا
إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ
رَبِّكُمْ} أي: يحقق بها نبوتي، أني رسول منه إليكم
{أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ
فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ} الذي بعثني إليكم، وهو ربكم
{وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ}.
قال ابن هشام: الأكمه: الذي يُولد أعمى. قال رؤبة بن العَجَّاج:
هَرَّجْتُ فارتدَّ ارتداد الأكْمه
وجمعه: كُمْه. قال ابن
هشام: هَرَّجت: صحتُ بالأسد، وجلبتُ عليه. وهذا البيت في أرجوزة له.
{وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا
تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ
لَآيَةً لَكُمْ}، أني رسول الله من الله إليكم،
{إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ
التَّوْرَاةِ}
أي: لما سبقني عنها،
{وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ}،
أي: أخبركم به أنه كان عليكم حرامًا فتركتموه، ثم أحله لكم تخفيفًا
عنكم فتصيبون يُسره وتخرجون من تِباعاتِه1
{وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ
وَأَطِيعُونِ، إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ}
أي: تبريًا من الذي يقولون فيه، واحتجاجًا لربه عليهم
{فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}، أي: هذا الذي قد حملتكم عليه وجئتكم به
{فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ} والعدوان عليه،
{قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ
أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ} هذا قولهم الذي أصابوا به الفضل من ربهم
{وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} لا ما يقول هؤلاء الذين يحاجُّونك فيه
{رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ
فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ}
أي هكذا كان قولهم وإيمانهم.
رفع عيسى عليه السلام: ثم ذكر سبحانه وتعالى رفْعَه عيسى إليه حين
اجتمعوا لقتله، فقال:
{وَمَكَرُوا
وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} ثم أخبرهم ورد عليهم فيما أقروا لليهود بصَلْبه، كيف رفعه وطهره
منهم، فقال:
{إِذْ
قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تباعاته: جمع تبعة: الظلامة.
ج / 2 ص -165-
وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا}،
إذ هموا منك بما هموا
{وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى
يَوْمِ الْقِيَامَةِ} ثم القصة، حتى انتهى إلى قوله:
{ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ} يا محمد
{مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ}
القاطع الفاصل الحق، الذي لا يخالطه الباطل، من الخبر عن عيسى، وعما
اختلفوا فيه من أمره، فلا تقبلنَّ خبرًا غيره.
{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ}
"فاستمع"
{كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ
فَيَكُونُ، الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ}، أي: ما جاءك من الخبر عن عيسى
{فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} أي: قد جاءك الحق من ربك فلا تمتريَنَّ فيه، وإن قالوا: خُلق عيسى
من غير ذَكر فقد خَلقت آدم من تراب، بتلك القدرة من غير أنثى ولا ذكر،
فكان كما كان عيسى لحمًا ودمًا، وشَعْرًا وبَشرًا، فليس خَلْق عيسى من
غير ذَكر بأعجب من هذا.
{فَمَنْ
حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} أي: من بعدما قصصت عليك من خبره، وكيف كان أمره،
{فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا
وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ
فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ}.
قال ابن هشام: قال أبو عُبَيْدة: نبتهل: ندعو باللعنة، قال أعْشَى بني
قَيْس بن ثَعْلَبة:
لا تقْعُدَنَّ وقد أكَّلْتَها حَطبًا
نعوذُ من شرِّها يومًا ونبتهلُ
وهذا البيت في قصيدة له.
يقول: ندعو باللعنة. وتقول العرب: بَهل الله فلانًا، أي لعنه، وعليه
بَهْلةُ الله، قال ابن هشام: ويقال: بُهْلة الله، أي لعنة الله، ونبتهل
أيضًا: نجتهد، في الدعاء.
قال ابن إسحاق:
{إِنَّ هَذَا} الذي جئت به من الخبر عن عيسى
{لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ} من أمره
{وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ، فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ
بِالْمُفْسِدِينَ، قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى
كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا
اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا
أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا
بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} فدعاهم إلى النَّصَف، وقطع عنهم الحجة.
إباؤهم الملاعنة: فلما أتى رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- الخبرُ من
الله عنه، والفَصْلُ من القضاء بينَه وبينهم، وأمر بما أمر به من
ملاعنتهم إن ردوا ذلك عليه، دعاهم إلى ذلك، فقالوا له: يا أبا القاسم،
دعنا ننظر في أمرنا، ثم نأتيك بما نريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه.
فانصرفوا عنه، ثم خَلَوْا بالعاقب، وكان ذا رأيهم، فقالوا: يا عبدَ
المسيح، ماذا ترى؟ فقال: والله أيا معشر النصارى لقد عَرَفتم أن محمدًا
لنبي مرسل، ولقد جاءكم بالفَصْل من خبرِ صاحبِكم،
ج / 2 ص -166-
ولقد
علمتم ما لاعن قوم نبيًّا قط فبقي كبيرُهم، ولا نبت صغيرهم، وإنه
الاستئصال منكم إن فعلتم، فإن كنتم قد أبيتم إلا إلْف دينِكم،
والإِقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم، فوادعوا الرجلَ، ثم
انصرِفوا إلى بلادكم. فأتَوْا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا:
يا أبا القاسم، قد رأينا ألا نُلاعنك، وأن نتركَك على دينِك ونرجع على
ديننا، ولكن ابعثْ معنا رجلًا من أصحابك ترضاه لنا، يحكم بيننا في
أشياء اختلفنا فيها من أموالِنا، فإنكم عندنا رِضًا.
أبو عبيْدة يتولى أمرهم: قال محمد بن جعفر فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم:
"ائتونى العَشِية أبعث معكم القوىَّ الأمين". قال: فكان عمر بن الخطاب يقول: ما أحببتُ الإمارة قط حبِّي إياها
يومئذٍ، رجاء أن أكونَ صاحبَها، فرُحْتُ إلى الظهرِ مُهَجِّرًا، فلما
صلّى بنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الظهرَ سَلَّم، ثم نظر عن
يمينه وعن يسارِه، فجعلت أتطاولُ له ليراني، فلم يزلْ يلتمس ببصره حتى
رأى أبا عُبيدة بن الجراح، فدعاه فقال:
"اخرجْ معهم،
فاقضِ بينَهم بالحقِّ فيما اختلفوا فيه"،
قال عمر: فذهب بها أبو عُبَيْدة.
أخبار عن المنافقين:
قال ابن إسحاق: وقدم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المدينة -كما حدثني
عاصمُ بن عُمر بن قَتادة- وسيد أهلها عبد الله بن أبي بن سلول العَوْفي
ثم أحد بني الحُبْلَى، لا يختلف عليه في شرفه من قومه اثنان، لم تجتمع
الأوس والخزرج قبله ولا بعدَه على رجل من أحد الفريقين -حتى جاء
الإسلامُ-غيرِه، ومعه في الأوْس رجل هو في قومه من الأوس شريف مطاع،
أبو عامر عبد عَمرو بن صَيْفي بن النعمان، أحد بني ضُبَيْعة بن زيد،
وهو أبو حَنْظلة، الغسيل يومَ أحُد، وكان قد ترهب في الجاهلية ولبس
المُسوح، وكان يقال له: الراهب. فشقيا بشرفهما وضَرَّهما.
فأما عبد الله بن أبي فكان قومه قد نظموا له الخرز يتوجوه ثم يملكوه
عليهم، فجاءهم الله تعالى برسوله صلى الله عليه وسلم وهُم على ذلك.
فلما انصرف قومُه عنه إلى الِإسلام ضغن، ورأى أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قد استلبه مُلْكًا. فلما رأى قومه قد أبَوْا إلا الإسلام دخل
فيه كارهًا مُصِرا على نفاق وضَغَن.
وأما أبو فأبى إلا الكفرَ والفراقَ لقومهِ حين اجتمعوا على الِإسلام،
فخرج منهم إلى مكة ببضعةَ عشرَ رجلًا مفارقًا للإِسلام ولرسول الله صلى
الله عليه وسلم، فقال رسول الله
ج / 2 ص -167-
صلى
الله عليه وسلم -كما حدثني محمدُ بن أبي أمامة عن بعض آل حنظلة بن أبي
عامر-:
"لا تقولوا: الراهب، ولكن قولوا الفاسق".
قال ابن إسحاق: وحدثني جعفر بن عبد الله بن أبي الحكم، وكان قد أدرك
وسَمِعَ، وكان راويةً: أن أبا عامر أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم
حين قدم المدينة، قبل أن يخرج إلى مكة فقال: ما هذا الدين الذي جئتَ
به؟ فقال:
"جئت بالحنيفية دين إبراهيم"، قال: فأنا عليها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنك لستَ عليها"، قال، بلى، قال: إنك أدخلت يا محمد في الحنيفية ما ليس منها، قال:
"ما فعلتُ، ولكنى جئت بها
بيضاء نقية"، قال:
الكاذب أماته الله طريدًا غريبًا وحيدًا -يعرض برسول الله صلى الله
عليه وسلم- أي أنك جئتَ بها كذلك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أجل، فمن كذب ففعل الله تعالى ذلك به"،
فكان هو ذلك عدو الله، خرج إلى مكة، فلما افتتح رسولُ الله صلى الله
عليه وسلم مكةَ خرج إلى الطائف. فلما أسلم أهل الطائف لحق بالشام. فمات
بها طريدًا غريبًا وحيدًا.
وكان قد خرج معه عَلْقمة بن عُلاثة بن عوف بن الأحْوص بن جعفر بن كلاب،
وكنانة بن عبد ياليل بن عمرو بن عُمير الثقفى، فلما مات اختصما في
ميراثه إلى قيصر، صاحب الروم. فقال قيصر: يرث أهلُ المدر أهلَ المدر1،
ويرث أهلُ الوَبْرِ أهلَ الوبر2، فورثه كنانة بن عبد ياليل بالمدر دون
علْقمة، قال كعبُ بنُ مالك لأبى عامر فيما صنع:
معاذَ الله من عَمل خبيثٍ
كَسَعْيِكَ في العشيرةِ عبد عمرو
فإما قُلتَ لي شرفٌ ونخلٌ
فَقِدْمًا بعتَ إيمانًا بكفرِ
قال ابن هشام: ويروى:
فإما قلت لي شرفٌ ومالٌ
قال ابن إسحاق: وأما عبد
الله بن أبي فأقام على شرفه في قومه مترددا حتى غلبه الإسلام، فدخل فيه
كارهًا.
قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن مسلم الزهري، عن عُروة بن الزبير، عن
أسامة بن زيد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أهل المدر: من يسكنون المدن.
2 أهل الوبر: من يسكنون الخيام.
ج / 2 ص -168-
بن
حارثة حِبِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ركب رسولُ الله صلى
الله عليه وسلم إلى سعد بن عُبادة يعوده من شَكْو أصابه على حمار عليه
إكافٌ1، فوقه قطيفة فَدَكِية2، مُخْتَطمة3 بحبل من ليف، وأردفني رسول
الله صلى الله عليه وسلم خلفه: قال: فمر بعبد الله بن أبي، وهو في ظل
مُزَاحمَ أطُمِه4.
قال ابن هشام: مزاحم: اسم الأطم.
قال ابن إسحاق: وحوله رجال من قومه. فلما رآه رسول الله صلى الله عليه
وسلم تَذَمم5 من أن يجاوزه حتى ينزل، فنزل فسلَّم ثم جلس قليلًا، فتلا
القرآن ودعا إلى الله عز وجل، وذكَّر بالله وحذَّر، وبشَّر وأنذر قال:
وهو زَامُّ لا يتكلم، حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من
مقالته، قال: يا هذا، إنه لا أحسن من حديثك هذا إن كان حَقا فاجلس في
بيتك فمن جاءك له فحدثْه إياه، ومن لم يأتك فلا تَغُتَّه6 به، ولا تأته
في مجلسه بما يكره منه. قال: قال عبد الله بن رواحة في رجال كانوا عنده
من المسلمين: بلى، فاغشَنا به، وائتنا في مجالسنا ودورنا وبيوتنا، فهو
والله ما نحبُّ ومما أكرمنا الله به وهدانا له، فقال عبد الله بن أبي
حين رأى من خلاف قومه ما رأى:
متى ما يكنْ مولاكَ خَصْمك لا تزل
تَذِلَّ ويَصْرعْك الذين تُصارعُ
وهل ينهض البازي بغيرِ جناحِه
وإن جُذَّ يومًا ريشُه فهو واقعُ
قال ابن هشام: البيت
الثانى عن غير ابن إسحاق.
قال ابن إسحاق: وحدثني الزهري، عن عُروة بن الزبير، عن أسامة، قال:
وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل على سعد بن عبادة، وفي وجهه
ما قال عدو الله ابن أبىّ، فقال:والله يا رسولَ الله إني لأرى في وجهِك
شيئًا، لكأنك سمعت شيئًا تكرهه، قال:"أجل"، ثم أخبره بما قال ابن أبي:
فقال سعد: يا رسول الله! ارفق به. فوالله لقد جاءنا الله بك، وإنا
لنَنْظِمَ له الخرز لنتوِّجَه. فوالله إنه ليرى أن قد سَلَبْتَهُ
مُلكًا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الإكاف: برذعة الحمار.
2 منسوبة إلى فدك قرية بالحجاز.
3 الخطام حبل يجعل على أنف الدابة تمسك به.
4 الأطم: الحصن.
5 تذمم: استحيا.
6 غته: ثقل عليه.
ج / 2 ص -169-
ذكر من اعتلَّ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة:
قال ابن إسحاق: وحدثني هشام بن عُروة، وعُمر بن عبد الله بن عُروة، عن
عُروة بن الزبير عن عائشة رضى الله عنها، قالت: لما قدِم رسول الله صلى
الله عليه وسلم المدينة، قدمها وهي أوبأ أرضِ الله من الحمى. فأصاب
أصحابَه منها بلاءٌ وسَقَمٌ. فصرف الله تعالى ذلك عن نبيه صلى الله
عليه وسلم قالت: فكان أبو بكر، عامر بن فُهَيْرَة، وبلال، موليا أبي
بكر، مع أبي بكر في بيت واحد. فأصابتهم الحمى، فدخلتُ عليهم أعودهم.
وذلك قبل أن يُضْرَب علينا الحجابُ. وبهم ما لا يعلمه إلا الله من شدة
الوَعْك. فدنوتُ من أبي بكر. فقلت له: كيف تجدك يا أبتِ؟ فقال:
كلُّ امرئ مُصَبَّح في أهلِهِ
والموتُ أدْنَى من شِراكِ نَعْلِهِ
قالت: فقلت: والله ما
يدري أبي ما يقول: قالت: ثم دنوتُ إلى عامر بن فُهَيْرة فقلت له: كيف
تجدك يا عامر؟ فقال:
لقد وجدتُ الموتَ قبلَ ذَوْقِه
إن الجبانَ حَتْفهُ مِنْ فَوْقهِ
كلُّ امرئ مجاهد بطَوْقِهِ
كالثَّوْرِ يحمى جلدهَ برَوْقهِ1
بطوقه يريد: بطاقته.
فيما قال ابن هشام: قالت: فقلتُ: والله ما يدري عامر ما يقول! قالت:
وكان بلال إذا تركته الحمى اضْطَجع بفناء البيت ثم رفع عقيرتَه فقال:
ألا ليتَ شِعْري هل أبيتنَّ ليلة
بفَخ وحولي إِذْخر وجليلُ2
وهل أرِدَنْ يومًا مياهَ مجنَّةٍ
وهل يَبْدُوَنْ لي شامة وطُفيل3
قال ابن هشام: شامة
وطفيل: جبلان بمكة.
دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم بنقل وباء المدينة إلى مهيعة: قالت
عائشة رضي الله عنها: فذكرتُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمعت
منهم. فقلت: إنهم ليهْذُون وما يَعْقِلون من شدة الحمى. قالت: فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"اللهم حَبِّبْ إلينا المدينةَ كما حَبَّبت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 روقه: قرنه.
2 فخ: موضع خارج مكة والإذخر نبات يظهر بمكة طيب الرائحة والجليل نوع
من النبات وهو ما يسمونه الثمام.
3 المجنة: اسم سوق للعرب في الجاهلية.
ج / 2 ص -170-
إلينا
مكة، أو أشد. وبارك لنا في مدها وصاعها وانقل وباءها إلى مَهْيَعَة"، ومَهْيَعة: الجُحْفَة.
قال ابن إسحاق: وذكر ابنُ شهاب الزهري، عن عبد الله بن عَمرو بن العاص:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة هو وأصحابُه ثم
أصابتهم حُمَّى المدينة. حتى جَهدوا مرضًا. وصرف الله تعالى ذلك عن
نبيه صلى الله عليه وسلم، حتى كانوا ما يصلون إلا وهم قعود. قال: فخرج
عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يُصلون كذلك. فقال لهم:
"اعلموا
أن صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم".
قال: فتجشَّم المسلمون القيام على ما بهم من الضعف والسُّقْم التماسَ
الفضل.
بدء قتال المشركين: قال ابن إسحاق: ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم
تهيأ لحربه. قام فيما أمره الله به من جهاد عَدوِّه. وقِتال من أمره
الله به ممن يليه من المشركين. مشركي العرب، وذلك بعد أن بعثه الله
تعالى بثلاث عشرة سنة.
تاريخ الهجرة:
بالإسناد المتقدم عن عبد الملك بن هشام. قال: حدثنا زياد بن عبد الله
البَكَّائي. عن محمد بن إسحاق المَطلِبى. قال: قَدِم رسول الله صلى
الله عليه وسلم المدينة يومَ الاثنين حين اشتد الضحاء وكادت الشمس
تعتدل. لثنتي عشرة ليلةً مضت من شهر ربيع الأول، وهو التاريخ. فيما قال
ابن هشام.
قال ابن إسحاق: ورسول. الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ابنُ ثلاثٍ
وخمسين سنة. وذلك بعد أن بعثه الله عز وجل بثلاث عشْرة سنة. فأقام بها
بقيةَ شهر ربيع الأول. وشهر ربيع الاخر، وجُمادَيَيْن، ورجبًا، وشعبان،
وشهر رمضان، وشوال، وذا القعدة، وذا الحجة -وولي تلك الحَجّة المشركون-
والمحرم، ثم خرج غازيًا في صفر على رأس اثني عشر شهرًا من مقدمه
المدينة.
غزوة وَدَّان:
وهي أول غزواته عليه الصلاة والسلام
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة سعد بن عبادة. قال ابن إسحاق: حتى
بلغ وَدَّان، وهي غزوة الأبْواء، يريد قريشًا وبني ضمْرة بن بكر بن عبد
مُناة بن كنانة، فوادعته فيها بنو ضَمْرة، وكان الذي وادعه منهم عليهم
مَخْشِي بن عمرو الضَّمْريُّ،
ج / 2 ص -171-
وكان
سيِّدَهم في زمانه ذلك، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى
المدينة، ولم يلقَ كيدًا فأقام بها بقيةَ صفر، وصدرًا من شهر ربيع
الأول.
قال ابن هشام: وهي أول غزوة غزاها.
سرية عُبَيْدة بن الحارث:
وهي أول راية عقدها عليه الصلاة والسلام
قال ابن إسحاق: وبعث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، في مقامِه ذاك
بالمدينة عُبَيْدةَ بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف بن قُصي، في ستين
أو ثمانين راكبًا من المهاجرين، ليس فيهم من الأنصار أحد، فسار حتى بلغ
ماءً بالحجاز، بأسفل ثنيَّة المُرَّة، فلقي بها جمعًا عظيمًا من قريش
فلم يكن بينهم قتال، إلا أن سعد بن أبي وقاص قد رمَى يومئذ بسهم، فكان
أول سهم رُمي به في الِإسلام.
ثم انصرف القومُ عن القوم، وللمسلمين حامية. وفر من المشركين إلى
المسلمين المقداد بن عمرو البهراني، حليف بني زهرة، وعتبة بن غزوان بن
جابر المازنى، حليف بني نوفل بن عبد مناف، وكانا مسلمين، ولكنهما خرجا
ليتوصلا بالكفار. وكان على القوم عكرمة بن أبي جهل.
قال ابن هشام: حدثني ابن أبي عَمرو بن العلاء، عن أبي عمرو المدنى: أنه
كان عليهم مِكْرَز بن حفص بن الأخْيَف، أحد بني مَعيص بن عامر بن لُؤَي
بن غالب بن فهر.
قال ابن إسحاق: فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه، في غزوة عُبَيْدة بن
الحارث. قال ابن هشام: وأكثر أهل العلم بالشعر ينكر هذه القصيدة لأبى
بكر1 رضى الله عنه:
أمِنْ طَيْفِ سَلْمى بالبطاحِ الدَّمائِثِ
أرِقْتَ وأمر في العشيرةِ حادثِ2
ترى من لُؤي فِرقةً لا يصدُّها
عن الكفرِ تذكيرٌ ولا بَعْث باعثِ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ويشهد لصحة من أنكر أن تكون له، ما روى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري
عن عروة عن عائشة قالت: "كذب من أخبركم أن أبا بكر قال بيت شعر فى
الإسلام" رواه البخاري عن أبي المتوكل عن عبد الرزاق.
2 الدمائث: ما لان من الرمل.
ج / 2 ص -172-
رسول أتاهم صادقٌ فتكَذَّبوا
عليه وقالوا: لست فينا بماكِثِ
إذا ما دَعَوْناهم إلى الحقِّ أدبروا
وهَرُّوا هَرِيرَ المجْحِراتِ اللواهثِ1
فكم قد مَتَتْنا فيهمُ بقرابةٍ
وتَرْكِ التُّقى شيء لهم غيرُ كارثِ2
فإن يرجعوا عن كفرِهم
وعقوقِهم فما طَيباتُ الحِل مثلُ الخبائثِ
وإن يركبوا
طغيانَهم وضلالَهم
فليس عذاب الله عنهم بلابثِ
ونحن أناس من ذؤابةِ غالب
لنا العزُّ منها في الفروعِ الأثائثِ3
فأولِي بربِّ الراقِصات عشيَّةً
حَراجيجُ تُحْدَى في السَّريحِ الرثائثِ4
كأدْم ظباءٍ حولَ مكة عكَّفٍ
يَرِدْنَ حِياضَ البئْرِ ذات النبائثِ5
لئن لَم يُفيقوا عاجلًا من ضلالِهم
ولستُ إذا آليْتُ قولًا بحانثِ
لتَبْتَدِرَنَّهم غارة ذاتُ مَصْدَقٍ
تُحرِّمُ أطهارَ النساءِ الطوامثِ
تغادرُ قَتْلَى تَعْصِبُ الطيرُ حولَهم
ولاترأفُ الكفارَ رأفَ ابنِ حارثِ6
فأبلغْ بني سَهمٍ لديْك رسالةً
وكل كفورٍ يبتغي الشر باحث
فإن تَشْعَثوا عِرض على سوءِ رأيِكم
فإنِّي من أعراضِكم غيرُ شاعثِ7
فأجابه عبد الله بن
الزبعرى السَّهْمي، فقال:
أمِنْ رسمِ دارٍ أقفرت بالعَثاعِثِ
بكيتَ بعينٍ دمعُها غيرُ لابثِ8
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هروا: وثبوا. والمجحرات: الملجئات إلى مواضعها.
2 متتنا: اتصلنا، والكارث: المحزن.
3 الأثائث: المجتمعة.
4 أولي: أحلف، الراقصات: الإبل الراقصة وهو نوع من المشي لها،
والحراجيج: الطوال. والسريح ما يربط في أخفاف الإبل مخافة أن تصيبها
الحجارة. والرثائث: البالية.
5 الظباء للأدم: التى ظهورها سود وبطونها بيض، والنبائت: ما يخرج من
تراب البئر عند حفره.
6 تعصب: تجتمع، وابن حارث: هو عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب.
7 تشعثوا: تفرقوا.
8 العثائث: أفاع لا تنبث شيئًا.
ج / 2 ص -173-
ومن عَجَبِ الأيامِ والدهرُ كله
له عجب من سابقاتٍ وحادثِ
لجيشٍ أتانا ذي عُرامٍ يقوده
عُبَيدةُ يُدْعَى في الهياجِ ابنَ حارثِ1
لنتركَ أصنامًا بمكةَ عُكَّفًا
مواريثَ موروثٍ كريمٍ لوارثِ
فلما لقيناهم بسُمْرِ رُدَيْنَةٍ وجُرْدٍ
عِتاقٍ في العَجاجِ لَوَاهِثِ2
وبيضٍ كأن المِلحَ فوقَ متونِها
بأيدِي كمُاةٍ كالليوثِ العوائثِ3
نقيمُ بها إصْعارَ من كان مائلًا
ونشفي الذُّحولَ عاجلًا غيرَ لابثِ4
فكَفُّوا على خوفٍ شديدٍ وهيْبةٍ
وأعجبهم أمر لهمِ أمرُ رائثِ5
ولو أنهم لم يفعلوا ناحَ نِسوة
أيامَى لهم، ن بينِ نسْءٍ وطامثِ6
وقد غُودرتْ قتلَى يخبرُ عنهمُ
حَفِي بهم أو غافلٌ غيرُ باحثِ7
فأبلغْ أبا بكر لديك رسالةً
فما أنت عن أعراضِ فِهْر بماكثِ
ولما تَجِبْ مني يمينٌ غليظةٌ
تُجدد حربًا حَلْفةً غيرَحانث
قال ابن هشام: تركنا
منها بيتًا واحدًا، وأكثر أهل العلم بالشعر ينكر هذه القصيدة لابن
الزبعرى.
قال ابن إسحاق: وقال سعد بن أبي وقاص في رميته تلك فيما يذكرون:
ألا هل أتى رسولَ الله أني
حَميْتُ صحابتي بصدورِ نَبْلي
أذودُ بها أوائلَهم ذيادًا
بكلِّ حُزُونة وبكلِّ سَهْلِ8
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذو عرام: ذو شدة.
2 السمر الردينية: الرماح المنسوبة إلى ردينة، امرأة كانت تثقف الرماح.
والجرد: السريعة، والعجاج: الغبار.
3 العوائث: المفسدات.
4 الإصعار: الميل. والذحول. طلب الثأر.
5 الرائث: المتمهل في الأمور.
6 النسء: التي تأخر حيضها مظنة الحمل.
7 الحفي: المتهم.
8 الحزونة: الأرض الوعرة: والسهل ما انبسط من سطح الأرض.
ج / 2 ص -174-
فما يَعْتَدُّ رام في عَدُوّ
بسهمٍ يا رسولَ الله قبلي
وذلك أن دينَكَ دينُ صِدْقٍ
وذو حق أتيتَ به وعَدْل
يُنَجَّى المؤمنوِن به ويُجزِي
بهِ الكفارَ عندَ مقام مَهْلِ1
فمهلًا قد غوِيتَ فلا تعبني
غَويَّ الحيِّ وَيْحَك يابنَ جَهْلِ2
قال ابن هشام: وأكثر أهل
العلم بالشعر ينكرها لسعد.
قال ابن إسحاق: فكانت رايةُ عبيدة بن الحارث -فيما بلغني- أولَ راية
عقدها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام، لأحد من المسلمين.
وبعض العلماء يزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه حين أقبل من
غزوة الأبواء، قبل أن يصل إلى المدينة.
سرية حمزة إلى سيف البحر:
وبعث في مقامه ذلك حمزةَ بن عبد المطلب بن هاشم إلى سيف البحر، من
ناحية الحِيص في ثلاثين راكبًا من المهاجرين، وليس فيهم من الأنصار
أحد، فلقي أبا جهل بن هشام بذلك الساحل في ثلاثمائة راكب من أهل مكة،
فحجز بينهم مَجْدِيُّ بن عمرو الجهني. وكان موادعًا للفريقين جميعًا،
فانصرف بعضُ القوم عن بعض، ولم يكن بينهم قتال.
وبعض الناس يقول: كانت راية حمزة أول راية عقدها رسول الله صلى الله
عليه وسلم لأحد من المسلمين، وذلك أنَّ بَعْثَهُ، وبعث عُبَيْدة كانا
معًا، فشُبِّه ذلك على الناس. وقد زعموا أن حمزة قد قال في ذلك شعرًا
يذكر فيه أن رايته أول راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن
كان حمزة قد قال ذلك، فقد صدق إن شاء الله، لم يكن يقول إلا حقا، فالله
أعلم أي ذلك كان، فأما ما سمعنا من أهل العلم عندنا، فعُبَيْدة بن
الحارث أول من عُقد له. فقال حمزة في ذلك، فيما يزعمون:
قال ابن هشام: وأكثر أهل العلم بالشعر ينكر هذا الشعر لحمزة رضى الله
عنه:
ألا يا لَقَوْمي للتحلًّمِ والجهْل
وللنقْصِ من رأي الرجالِ وللعَقْلِ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مهل: تثبت.
2 ابن جهل: يريد عكرمة بن أبي جهل.
ج / 2 ص -175-
وللراكِبينا بالمظالمِ لم نَطَأ لهم
حُرماتٍ من سَوَامٍ ولا أهْلِ1
كأنا تَبَلْناهم ولا تَبْلَ عندَنا لهم
غيرُ أمر بالعفافِ وبالعدلِ2
وأمر بإسلامٍ فلا يقبلونه
وينزِلُ منهم مثلَ منزلةِ الهَزْلِ
فما بَرِحوا حتى انتدبْتُ لغارةٍ
لهم حيث حَلُّوا أبْتَغي راحةَ الفَضْلِ
بأمرِ رسولِ الله أول خافقٍ
عليه لواء لم يكن لاحَ من قبلي
لواء لديه النصرُ من ذي
كرامةٍ إلهٍ عزيز فعلُهُ أفضلُ الفعلِ
عَشِيةَ ساروا حاشدين وكلُّنا
مراجله من غيظِ أصحابهِ تَغْلي3
فلما تراديْنا أناخوا فعقَّلوا
مطايا وعَقَّلنا مدَى غَرَضِ النبل4
فقلنا لهم: حبلُ الإلهِ نصيرُنا
وما لكم إلا الضلالةُ من حَبْلِ
فثار أبو جهلٍ هنالك باغيًا
فخابَ وردَّ الله كيدَ أبي جهلِ
وما نحنُ إلا في ثلاثين راكبًا
وهم مائتان بعدَ واحدةٍ فَضل
فَيَا لَلُؤَيّ لا تُطيعوا غَوَاتَكم
وفيئوا إلى الِإسلامِ والمنهجِ السهْلِ
فإني أخاف أن يُصَبَّ عليكُمُ
عذابٌ فتَدعوا بالندامةِ والثُّكْلِ
فأجابه أبو جهَل بن
هشام، فقال:
عجِبتُ لأسبابِ الحفيظةِ والجهلِ
وللشاغبين بالخلافِ وبالبُطْلِ
وللتاركين ما وجدنا جدودَنا
عليه ذَوِي الأحسابِ والسُّؤْدَد الجزْلِ
أتونا بإفكٍ كي يُضلِّوا عقولَنا
وليس مُضلًا إفكَهُم عقلَ ذي عقلِ
فقلنا لهم: يا قومَنا لا تُخالفوا
على قومِكم إن الخلافَ مَدَى الجهل
فإنكم إن تفعلوا تَدْعُ نِسوةٌ
لهنَّ بواكٍ بالرزيةِ والثُّكلِ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 السوام: الإبل السائمة وهي المتروكة في المرعي.
2 تبلناهم: عاديناهم.
3 المراجل: قدور النحاس.
4 أي أناخوا إبلهم بالقرب من بعض فأصحبت المسافة بينهما مرمى النيل.
ج / 2 ص -176-
وإن تَرجِعوا عما فعلتم فإننا
بنو عمِّكمْ أهلُ الحفائظِ والفَضْلِ
فقالوا لنا: إنا وجدنا محمدًا
رضًا لذوي الأحلامِ منا وذي العقلِ
فلما أبوْا إلا الخلافَ وزيَّنوا
جِماعَ الأمورِبالقبيحِ من الفعلِ
تيمَّمتُهم بالساحلَيْنِ بغارة لأتركهم
كالعَصْفِ ليس بذي أصلِ1
فورَّعني مَجْدِيُّ عنهم وصُحْبتي
وقد وَازَروني بالسيوفِ وبالنبلِ2
لإلّ علينا واجب لا نُضيعُهُ
أمين قواه غير مُنْتَكثِ الحبلِ
فلولا ابنُ عمرو كنتُ غادرتُ منهم
ملاحمَ للطير العُكوفِ بلا تَبْل
ولكنه آلى بإلّ فقَلَّصتْ
بأيمانِنَا حَدُّ السيوفِ عن القتلِ
فإن تُبقني الأيامُ أرجعْ عليهمُ
ببيضٍ رِقاقِ الحدّ مُحْدَثةِ الصقلِ
بأيدي حُماةٍ من لُؤَيِّ بنِ غالبٍ
كرامِ المساعي في الجُدوبة والمَحْلِ
قال ابن
هشام: وأكثر أهل العلم بالشعر ينكر هذا الشعر لأبي جهل.
غزوة بواط:
قال ابن إسحاق: ثم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الأول
يريد قريشًا.
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة السائب بن عثمان بن مظعون.
قال ابن إسحاق: حتى بلغ بُواط4، من ناحية رَضْوَى ثم رجع إلى المدينة
ولم يلق كيدًا، فلبث بها بقيةَ شهر ربيع الآخر وبعض جُمادى الأولى.
غزوة العشيرة5:
ثم غزا قريشًا فاستعمل، على المدينة أبا سَلمة بن عبد الأسد فيما قال
ابن هشام.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 العصف: ورق الزرع الأصفر، أو القطع الدقيقة من التبن ونحوه.
2 ورعني: كفني ومنعني. ومجدي هو: ابن عمرو الجهني.
3 الإل العهد.
4 بواط: جبلان فرعان لأصل واحد، أحدهما: جلسي، والآخر غوري وفى الجلسي
بنو دينار ينسبون إلى دينار مولى عبد الملك بن مروان.
5 ويقال فيها أيضا العسيرة والعسيراء وفي البخاري أن قتادة سئل فقال:
العشير.
ج / 2 ص -177-
قال
ابن إسحاق: فسلك على نَقْب بني دينار، ثم على فَيْفاء الخبَار فنزل تحت
شجرة ببطحاء ابن أزهر، يقال لها: ذات الساق، فصلى عندها. فثَمَّ مسجده
صلى الله عليه وسلم، وصُنع له عندها طعام، فأكل منه، وأكل الناسُ معه،
فموضع أثافِيِّ البُرْمة معلوم هنالك، واستُقِي له من ماء به يقال له:
المُشْتَرَب، ثم ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم فترك الخلائقَ
بيسار وسلك شُعبةً يقال لها: شُعبة عبد الله، وذلك اسمها اليوم، ثم
صَبَّ لليسار حتى هبط يَلْيَل، فنزل بمجتمعه ومجتمع الضَّبُوعة، واستقى
من بئر بالضَّبوعة، ثم سلك الفَرْش: فَرْشَ مَلَل، حتى لَقي الطريقَ
بصُحَيْرات اليمام، ثم اعتدل به الطريق، حتى نزل العُشَيْرةَ من بطن
يَنْبُع. فأقام بها جمادَى الأولى وليالي من جمادَى الآخرة، وادعَ فيها
بني مُدلِج وحلفاءَهم من بني ضَمْرة، ثم رجع إلى المدينة ولم يلقَ
كيدًا.
وفى تلك الغزوة قال لعلي بن أبي طالب عليه السلام ما قال.
قال ابن إسحاق: فحدثني يزيد بن محمد بن خَيْثَم المحاربي، عن محمد بن
كَعْب القُرَظي عن محمد بن خَيْثم أبي يزيد، عن عمار بن ياسر، قال: كنت
أنا وعلي بن أبي طالب رفيقين. في غزوة العشيرة، فلما نزلها رسول الله
صلى الله عليه وسلم وأقام بها رأينا أناسًا من بني مُدْلج يعملون في
عين لهم وفى نخل فقال لي علي بن أبي طالب: يا أبا اليقظان، هل لك في أن
تأتي هؤلاء القوم، فننظر كيف يعملون قال: قلت: إن شئتَ قال: فجئناهم،
فنظرنا إلى عملهم ساعة، ثم غشينا النوم. فانطلقت أنا وعلي حتى اضطجعنا
في صُور من النخل1، وفي دَقْعاء2 من التراب فنمنا، فوالله ما أهَبَّنا3
إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم يحركنا برجله. وقد تتربنا من تلك
الدَّقْعاء التي نمنا فيها، فيومئذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
لعلي بن أبي طالب:
"مالك يا أبا تراب"، لما يرى عليه من التراب. ثم قال: "ألا أحدثكما بأشقى الناس رَجُلين؟" قلنا: بلى يا رسول الله؟ قال:
"أحيمر ثمود4 الذي عقر الناقة، والذي يضربك يا عليُّ على هذه -وضع يده
على قَرْنه- حتى يَبُلَّ منها هذه -وأخذ بلحيته-".
قال ابن إسحاق: وقد حدثني بعض أهل العلم: أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم إنما سمي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 صور من النخل: صغار منها.
2 الدقعاء: مالان من التراب.
3 أهبنا: أيقظنا.
4 هو قدار أو قذار بن سالف وأمه قذيرة وهو من التسعة رهط الذين يفسدون
في الأرض ولا يصلحون المذكورين في سورة النمل.
ج / 2 ص -178-
عليًّا
أبا تراب: أنه كان إذا عَتَب على فاطمة في شيءٍ لم يكلمْها، لم يقل لها
شيئًا تكرهه، لا أنه يأخذ ترابا فيضعه على رأسه قال: فكان رسول الله
صلى الله عليه وسلم إذا رآى عليه الترابَ عرف أنه عاتب على فاطمة،
فيقول:
"مالك يا أبا تراب؟" فالله أعلم أي ذلك كان.
سرية سعد بن أبي وقاص:
قال ابن إسحاق: وقد كان بَعْث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بين
ذلك من غزوة سعد بن أبي وقاص، في ثمانية رهْط من المهاجرين، فخرج حتى
بلغ الخرّار من أرض الحجاز، ثم رجع ولم يلقَ كيدا.
قال ابن هشام: ذكر بعضُ أهل العلم أن بعث سعد هذا كان بعد حمزة.
غزوه سفوان:
وهي غزوة بدر الأولى:
قال ابن اسحاق: ولم يقم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة حين قدم
من غزوة العشيرة إلا ليالي قلائل لا تبلغ العشرحتى أغار كرز بن جابر
الفهري على سَرْح المدينة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في
طلَبه، واستعمل على المدينة زَيْد بن حارثة، فيما قال ابن هشام.
قال ابن إسحاق: حتى بلغ واديًا، يقال له: سَفْوان، من ناحية بدر، وفاته
كُرْزُ بنُ جابر، فلم يدركْه، وهي غزوة بدر الأولى، ثم رجع رسول الله
صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فأقام بها بقيةَ جُمَادى الآخرة
ورجبًا وشعبان.
سرية عبد الله بن جحش:
ونزول:
{يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ}
الكتاب الذي
حمله من الرسول: وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدَ الله بن جحش
بن رِئاب الأسدي في رجب، مقفله من بدر الأولى، وبعث معه ثمانية رهط من
المهاجرين، ليس فيهم من الأنصار أحد، وكتب له كتابًا وأمره أن لا ينظر
فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه، فيمضي لما أمره به، ولا يستكره من
أصحابه أحدًا.
ج / 2 ص -179-
وكان
أصحاب ابن جحش في هذه السرية: وكان أصحابُ عبد الله بن جحش من
المهاجرين. ثم من بني عبد شمس بن عبد مناف: أبو حُذَيفة بن عُتْبة بن
ربيعة بن عبد شمس ومن حلفائهم: عبد الله بن جحش، وهو أمير القوم،
وعُكَّاشة بن مِحْصن بن حُرْثان، أحد بني أسد بن خزَيمة، حليف لهم. ومن
بني نَوْفَل بن عبد مناف: عُتبة بن غَزْوان بن جابر، حليف لهم. ومن بني
زُهْرة بن كلاب: سعد بن أبي وقاص. ومن بني عدي بن كعب: عامر بن ربيعة،
حليف لهم من عَنْز بن وائل، وواقد بن عبد الله بن عبد مناف بن عَرِين
بن ثعلبة بن يَرْبوع، أحد بني تميم، حليف لهم، وخالد بن البُكَير، أحد
بني سعد بن لَيْث، حليف لهم. ومن بني الحارث بن فهر: سُهَيْل بن بيضاء.
ابن جحش يفتح الكتاب: فلما سار عبد الله بن جحش يومين فتح الكتاب، فنظر
فيه فإذا فيه: "إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نَخْلة، بين مكة
والطائف، فترصَّدْ بها قريشًا وتَعلَم لنا من أخبارِهم". فلما نظر عبد
الله بن جحش في الكتاب، قال: سمعا وطاعة ثم قال لأصحابه: قد أمرني رسول
الله صلى الله عليه وسلم أن أمضي إلى نَخْلة، أرْصُد بها قريشًا، حتى
آتيه منهم بخبر، وقد نهاني أن أستكره أحدًا منكم. فمن كان منكم يريد
الشهادة ويرغب فيها فلينطلق، ومن كره ذلك فليرجع؟ فأما أنا فماضٍ لأمر
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمضى ومضى معه أصحابهُ، لم يتخلفْ عنه
منهم أحد.
وسلك على الحجاز، حتى إذا كان بمعْدن، فوق الفُرُع، يقال له: بحران،
أضل سعدُ بن أبي وقاص، وعتبةُ بن غزوان بعيرًا لهما، كانا يعتقبانه.
فتخلفا عليه في طلبه، ومضى عبد الله بن جحش وبقيةُ أصحابه حتى نزل
بنَخْلة. فمرت به عِير لقريش تحمل زبيبًا وأدَمًا، وتجارة من تجارة
قريش، فيهما عمرو بن الحَضْرَمي.
قال ابن هشام: واسم الحضرمي: عبدُ الله بن عَبَّاد، ويقال: مالك بن
عَبَّاد، أحد الصَّدِف، واسم الصِّدِف: عمرو بن مالك، أحد السَّكون بن
أشرس بن كِنْدة، ويقال: كِنْدى.
قال ابن إسحاق: وعثمان بن عبد الله بن المغيرة، وأخوه نَوْفل بن عبد
الله المخزوميان، والحكم بن كَيْسان، مولى هشام بن المغيرة.
فلما رآهم القوم هابوهم وقد نزلوا قريبًا منهم، فأشرف لهم عُكَّاشَة بن
محصن، وكان قد حلق رأسَه، فلما رأوه أمنوا، وقالوا عُمَّارٌ، لا بأس
عليكم منهم.. وتشاور القوم فيهم وذلك في آخر يوم من رجب، فقال القوم:
والله لئن تركتم القوم هذه الليلة ليدخلن الحرم، فليمتنعن منكم به،
ولئن قتلتوهم لتقتلنهم في الشهر الحرام فتردد القوم وهابوا الِإقدام
عليهم، ثم شجعوا أنفسَهم عليهم، وأجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم،
وأخذ ما معهم. فرمى واقدُ بنُ عبد الله
ج / 2 ص -180-
التميمي عَمرو بن الحضرمي بسهم فقتله، واستأسر عثمانَ بنَ عبد الله،
والحكمَ بن كَيْسان وأفلت القومَ نوفلُ بن عبد الله فأعجزهم. وأقبل
عبدُ الله بن جحش وأصحابه بالعير وبالأسيرين، حتى قدموا على رسول الله
صلى الله عليه وسلم المدينة.
وقد ذكر بعضُ آل عبد الله بن جحش: أن عبد الله قال لأصحابه: إن لرسول
الله صلى الله عليه وسلم مما غنمنا الخمس وذلك قبل أن يفرض الله تعالى
الخمس من المغانم، فعزل لرسول الله صلى الله عليه وسلم خُمس العير،
وقسَّم سائرها بين أصحابه.
قال ابن إسحاق: فلما قدموا على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم المدينةَ
قال:
"ما أمرتكمِ بقتال في الشهر الحرام". فوقف العيرَ والأسيرين. وأبى أن يأخذ من ذلك شيئًا فلما قال ذلك
رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سُقط في أيدي القوم، وظنوا أنهم قد
هَلكوا، وعنفهم إخوانُهم من المسلمين فيما صنعوا. وقالت قريش: قد استحل
محمد وأصحابه الشهر الحرام، وسفكوا فيه الدمَ، وأخذوا فيه الأموالَ،
وأسروا فيه الرجالَ فقال من يرد عليهم من المسلمين، ممن كان بمكة: إنما
أصابوا في شعبان.
وقالت يهود -تَفاءَلُ بذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم-: عمرو بن
الحضرمي قتله واقد بن عبد الله، عمرو، عمرت الحرب. والحضرمي: حضرت
الحرب، وواقد بن عبد الله وقدت الحرب، فجعل الله ذلك عليهم لا لهم.
فلما أكثر الناسُ في ذلك أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم
{يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ
فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ
وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ
اللَّهِ} [البقرة: 217]، أي إن كنتم قَتلتم في الشهر الحرام فقد صَدُّوكم عن
سبيل الله مع الكفر به، وعن المسجد الحرام، وإخراجكم منه وأنتم أهلُهُ،
أكبر عند الله من قتل من قتلتم منهم
{وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} أي قد كانوا يفتنون المسلم في دينه، حتى يردوه إلى الكفر بعد
إيمانه فذلك أكبرُ عند الله من القتل
{وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ
دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا}
[البقرة: 217]: أي ثم هم مقيمون على أخبث ذلك وأعظمه، غير تائبين ولا
نازعين. فلما نزل القرآن بهذا من الأمر، وفرج الله تعالى عن المسلمين
ما كانوا فيه من الشفق قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم العير
والأسيرين، وبعثت إليه قريش في فداءِ عُثمان بن عبد الله والحكم بن
كَيْسان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لا نفديكموهما حتى يقدمَ صاحبانا -يعنى سعد ابن أبي وقاص، وعُتبة بن
غَزْوان- فإنا نخشاكم عليهما، فإن تقتلوهما، نقتل صاحبيكم". فقدم سعد وعتبة فأفداهما رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم.
فاما الحكم بن كَيْسان فأسلم فحسن إسلامه، وأقام عند رسول الله صلى
الله عليه وسلم حتى
ج / 2 ص -181-
قُتل
يوم بئر معونة شهيدًا. وأما عثمان بن عبد الله فلحق بمكة، فمات بها
كافرًا. طمع أمير السرية في الأجر وما نزل في ذلك من القرآن: فلما تجلى
عن عبد الله بن جحش وأصحابه ما كانوا فيه حين نزل القرآن، طمعوا في
الأجر، فقالوا: يا رسول الله: أنطمع أن تكونَ لنا غزوة نُعْطَى فيها
أجر المجاهدين؟ فأنزل الله عز وجل فيها:
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ
غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 218]، فوضعهم الله عز وجل من ذلك على أعظم الرجاء.
والحديث في هذا عن الزهري ويزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير.
قال ابن إسحاق: وقَد ذكر بعضُ آل عبد الله بن جحش: أن الله عز وجل قسم
الفيء حين أحلَّه، فجعل أربعة أخماس لمن أفاءَه الله، وخُمسًا إلى الله
ورسوله، فوقع على ما كان عبد الله بن جحش صنع في تلك العير.
أول غنيمة للمسلمين: قال ابن هشام: وهي أول غنيمة غنمها المسلمون.
وعَمرو بن الحضرمي أول من قتله المسلمون، وعثمان بن عبد الله، والحكم
بن كيسان أول من أسر المسلمون.
قال ابن إسحاق: فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه في غزوة عبد الله بن
جحش، ويقال: بل عبد الله بن جحش قالها، حين قالت قريش: قد أحل. محمد
وأصحابهُ الشهرَ الحرام وسفكوا فيه الدَم وأخذوا فيه المالَ، وأسروا
فيه الرجالَ، قال ابن هشام: هي لعبد الله بن جحش:
تَعُدُّونَ قتلًا في الحرام عظيمةً
وأعظمُ منه لو يَرَى الرشدَ راشدُ
صدودُكم عما يقول محمدٌ
وكُفْرٌ به والله راءٍ وشاهدُ
وإخراجُكم من مسجدِ الله أهلَه
لئلا يُرى للّهِ في البيتِ ساجدُ
فإنا وإن عَيَّرتمونا بقتله
وأرجف بالِإسلامِ باغٍ وحاسدُ
سَقَينا من ابنِ الحَضرَمي رماحَنا
بنَخْلَةَ لما أوقَدَ الحربَ واقدُ
دما وابنُ عبد الله عثمان بيننا
يُنازعه غُلٌّ من القدِّ عاندُ1
صرف القبلة
إلى الكعبة:
قال ابن إسحاق: ويقالُ: صُرفت القبلة في شعبان على رأس ثمانيةَ عشرَ
شهرًا من مَقْدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 القد: شرك من جلد، والعاند: السائل بالدم غير المنقطع.
ج / 2 ص -182-
غزوة بدر الكبرى1:
قال ابن إسحاق: ثم إن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم سَمِع بأبي سفيان
بن حرب مُقبلًا من الشام في عِير لقريش عظيمة، فيها أموالٌ لقريش
وتجارة من تجاراتهم، وفيها ثلاثون رجلًا من قريش أو أربعون، منهم
مَخْرَمة بن نَوْفل بن أهَيْب بن عبد مناف بن زُهرة، وعمرو بن العاص بن
وائل بن هشام.
قال ابن هشام: ويقال: عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم.
قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن مسلم الزهري، وعاصم بن عمر بن قتادة،
وعبد الله بن أبي بكر ويزيد بن رومان عن عُروة بن الزبير وغيرهم من
علمائنا عن ابن عباس، كل قد حدثني بعض هذا الحديث فاجتمع حديثُهم فيما
سقته من حديث بدر، قالوا: لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي
سفيان مقبلًا من الشام، ندب المسلمين إليهم وقال:
"هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعل الله يُنْفِلُكموها".
فانتدب الناسُ، فخف بعضُهم وثقل بعضُهم، وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم يَلْقَى حربًا. وكان أبو سفيان حين دنا من
الحجاز يتحسس2 الأخبارَ ويسأل من لقي من الرّكبان تخوفا على أمر الناس.
حتى أصاب خبرا من بعض الركبان: أن محمدًا قد استنفر أصحابَه لك ولعيرك،
فحذر عند ذلك، فاستأجر ضَمْضَم بن عَمْرو الغفاري، فبعثه إلى مكة،
وأمره أن يأتي قريشًا فيستنفرهم إلى أموالِهم، ويُخبرهم أن محمدًا قد
عرض لها في أصحابة فخرج ضمضم بن عمرو سريعًا الى مكة.
رؤيا عاتكة بنت عبد المطلب: قال ابن إسحاق: فأخبرني من لا أتهم عن
عكرمة عن ابن عباس، ويزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير، قالا: وقد رأت
عاتكة بنت عبد المطلب، قبل قدوم ضَمْضم مكة بثلاث ليالٍ، رؤيا أفزعتها.
فبعثت إلى أخيها العباس بن عبد المطلب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بدر: اسم بئر حفرها رجل من غفار، ثم من بني النار منهم، اسمه: بدر،
وقيل: هو بدر بن قريش بن يخلد الذي سميت قريش به، وروى يونس عن ابن أبي
زكريا عن الشعبي قال بدر: اسم رجل كانت له بدر.
2 التحسس بالحاء. أن تتسمع الأخبار بنفسك، والتجسس بالجيم: هو أن تفحص
عنها بغيرك، وفي الحديث "لا تجسسوا،
ولا تحسسوا".
ج / 2 ص -183-
فقالت
له: يا أخي، والله لقد رأيتُ الليلة رؤيا أفظعتني، وتخوفْتُ أن يدخل
على قومك منها شر ومصيبة، فاكتم عني ما أحدثك به؟ فقال لها: وما رأيت؟
قالت: رأيت راكبًا أقبل على بعير له، حتى وقف بالأبطَح، ثم صرخ بأعلى
صوته: ألا انفروا يا لَغُدُر لمصارعكم في ثلاث، فأرى الناس اجتمعوا
إليه، ثم دخل المسجد والناس يتبعونه، فبينما هم حوله مثل به1 بعيره على
ظهر الكعبة، صرخ بمثلها: ألا أنفروا يا لغدر لمصارعكم في ثلاث: ثم
مَثَل به بعيره على رأس أبي قُبَيْس، فصرخ بمثلها ثم أخذَ صخرةً
فأرسلها. فأقبلت تَهْوي، حتى إذا كانت بأسفل الجبل أرفضت2. فما بقي
بيتٌ من بيوت مكة، ولا دارٌ إلا دخلتها منها فلقة. قال العباس: والله
إن هذه لرؤيا، وأنتِ فاكتميها، ولا تذكريها لأحد.
ثم خرج العباس، فلقي الوليدَ بنَ عُتبة بن ربيعة، وكان له صديقًا:
فذكرها له، واستكتمه إياها. فذكرها الوليد لأبيه عتبة، ففشا الحديث
بمكة، حتى تحدثت به قريش في أنديتها.
قال العباس: فغدوتُ لأطوفَ بالبيت وأبو جهل بن هشام في رَهْط من قريش
قعود يتحدثون برؤيا عاتكة، فلما رآني أبو جهل قال: يا أبا الفضل إذا
فرغت من طوافك فأقبل إلينا؟ فلما فرغت أقبلتُ حتى جلستُ معهم، فقال لي
أبو جهل: يا بني عبد المطلب؟ متى حدثت فيكم هذه النبية؟ قال: قلت: وما
ذاك؟ قال: تلك الرؤيا التي رأت عاتكة: قال: فقلت: وما رأت؟ قال: يا بني
عبد المطلب، أما رضيتم أن يتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم، قد زعمت
عاتكة في رؤياها أنه قال: انفروا في ثلاث، فسنتربص بكم هذه الثلاث، فإن
يكُ حقًّا ما تقول فسيكون، وإن تمض الثلاث ولم يكن من ذلك شىء، نكتب
عليكم كتابًا أنكم أكذبُ أهل بيت في العرب. قال العباس: فوالله ما كان
مني إليه كبير، إلا أني جحدت ذلك، وأنكرت أن تكون رأت شيئًا قال: ثم
تفرقنا.
فلما أمسيتُ، لم تبق امرأة من بني عبد المطلب إلا أتتني، فقالت: أقررتم
لهذا الفاسق الخبيث أن يقع في رجالكم، ثم قد تناول النساءَ وأنت تسمعُ،
ثم لم يكن عندك غِيَر لشىء بما سمعت، قال: قلت: قد والله فعلت، ما كان
مني إليه من كبير. وايم الله لأتعرضن له، لاكفينَّكُنَّه.
قال فغدوتُ في اليوم الثالث من رؤيا عاتكة، وأنا حديد مُغْضَب أرى أني
قد فاتني منه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مثل به: قام به.
2 لأرفضت: تفتتت.
ج / 2 ص -184-
أمر
أحِب أن أدركَه منه. قال: فدخلت المسجد فرأيته، فوالله إني لأمشي نحوه
أتعرَّضه، ليعود لبعض ما قال فأقع به، وكان رجلًا خفيفًا، حديد الوجه،
حديد اللسان، حديد النظر. قال: إذ خرج نحو باب المسجد يشتدُّ. قال:
فقلت في نفسي: ما له لعنه الله، أكلُّ هذا فَرَق مني أن أشاتمه! قال:
وإذا هو قد سمع ما لم أسمع: صوت ضَمْضم بن عَمرو الغِفاري، وهو يصرخ
ببطن الوادي واقفا على بعيره، قد جدع بعيرَه1، وحوَّل رحلَه، وشق
قميصه، وهو يقول: يا معشرَ قُريش، اللطيمةَ اللطيمةَ2 أموالُكم مع أبي
سفيان قد عَرَض لها محمد في أصحابه، لا أرى أن تدْرِكوها، الغَوْثَ
الغَوْثَ. قال: فشغلني عنه وشغله عني ما جاء من الأمر.
قريش تتجهز للخروج: فتجهز الناسُ سراعًا، وقالوا: أيظن محمد وأصحابُه
أن تكون كعير ابن الحضرمي، كلا والله ليعلَمنَّ غير ذلك. فكانوا بين
رجلين، إما خارج وإما باعث مكانَه رجلًا. وأوعبت قريش، فلما يتخلف من
أشرافِها أحدٌ.
إلا أن أبا لهب بن عبد المطلب تخلف، وبعث مكانه العاصي بن هشام بن
المغيرة، وكان قد لاط3 له بأربعةِ آلاف درهم كانت له عليه، أفلس بها،
فاستأجره بها على أن يجزئ عنه بعثه، فخرج عنه، وتخلف أبو لهب.
قال ابن إسحاق: وحدثني عبدُ الله بن أبي نجيحٍ: أن أمية بن خلف كان
أجمع القعود، وكان شيخًا جليلًا جسيمًا ثقيلًا، فأتاه عُقبة بن أبي
مُعَيْط، وهو جالس في المسجد بين ظهراني قومه، بمجمرة يحملها، فيها نار
ومَجْمَر، حتى وضعها بين يديه، ثم قال: يا أبا علي، استجمر، فإنما أنت
من النساء: قال: قبحك الله وقبَّح ما جئت به؟ قال: ثم تجهز فخرج مع
الناس.
ما وقع بين قريش وكنانة من الحرب قبل بدر: قال ابن إسحاق: ولما فرغوا
من جهازهم وأجمعوا المسيرَ، ذكروا ما كان بينهم وبين بني بكر بن عبد
مناة بن كنانة من الحرب، فقالوا: إنا نخشى أن يأتونا من خلفنا، وكانت
الحرب التي كانت بين قريش وبين بني بكر كما حدثني بعض بني عامر بن
لُؤَي، عن محمد بن سعيد بن المسيب في ابن لحفص بن الأخْيَف، أحد بني
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جدع بعيره: قطع أنفه.
2 اللطيمة: الإبل التي تحمل البز والطيب.
3 لاط: احتبس.
ج / 2 ص -185-
مَعيص
بن عامر بن لُؤَي، خرج يبتغي ضالةً له بضَجنان، وهو غلام حدث في رأسه
ذُؤابة، وعليه حُلَّة له، وكان غلامًا وضيئًا نظيفًا، فمر بعامر بن
يزيد بن عامر بن المُلَوَّح، أحد بني يَعْمَر بن عوف بن كعب بن عامر بن
لَيْث بن بكر بن عبد مَناة بن كنانة، وهو بضَجْنان، وهو سيد بني بكر
يومئذ، فرآه فأعجبه فقال: من أنت يا غلامُ؟ قال: أنا ابنٌ لحفصِ بن
الأخْيف القرشي. فلما ولَّى الغلام، قال عامر بن زيد: يا بني بكر، ما
لكم في قريش من دم؟ قالوا: بلى والله، إن لنا فيهم لدماءً، قال: ما كان
رجل ليقتل هذا الغلام برَجُله إلا كان قد استوفى دمه. قال: فتبعه رجل
من بني بكر، فقتله بدمٍ كان له في قريش؟ فتكلمت فيه قريش، فقال عامر بن
يزيد: يا معشر قريش قد كانت لنا فيكم دماء، فما شئتم؟ إن شئتم فأدُّوا
علينا ما لنا قِبَلَكم، ونؤدي ما لكم قبلنا، وإن شئتم فإنما هى الدماء:
رجل برجل، فتجافوا عما لكم قبلنا، ونتجافى عما لنا قبلكم، فهان ذلك
الغلام على هذا الحي من قريش، وقالوا: صدق، رجل برجل. فلهوا عنه، فلم
يطلبوا به.
قال: فبينما أخوه مكرز بن حَفْص بن الأخيف يسير بمر الظهران، إذ نظر
إلى عامر بن يزيد بن الملَوَّح على جمل له، فلما راه أقبل إليه حتى
أناخ به، وعامر متوشح سيفه، فعلاه مكرز بسيفه حتى قتله، ثم خاض بطنه
بسيفه؟ ثم أتى به مكة، فعلقه من الليل بأستار الكعبة. فلما أصبحت قريش
رأوا سيف عامر بن يزيد بن عامر معلقًا بأستار الكعبة، فعرفوه فقالوا:
إن هذا لسيف عامر بن يزيد، عدا عليه مكرز بن حفص فقتله، فكان ذلك من
أمرهم. فبينما هم في ذلك من حربهم، حجز الإسلامُ بينَ الناس فتشاغلوا
به، حتى أجمعت قريش المسيرَ إلى بدر، فذكروا الذي بينهم وبينَ بني بكر
فخافوهم.
وقال مكرز بن حفص في قتله عامرًا:
لما رأيتُ أنه هُوَ عامر
تذكرت أشلاءَ الحبيبِ الملحَّبِ1
وقلت لنفسى: إنه هُوَ عامرٌ
فلا تَرْهبيه، وانظري أيَّ مَرْكبِ
وأيقنتُ أني إن أجَلِّلْه ضربة
متى ما أصبْه بالفُرافرِ يَعْطَبِ
خفضتُ له جأشي وألقيتُ كَلْكَلي
على بطلٍ شاكي السلاحِ مُجَرَّب2
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المحلب: الذي ذهب لحمه، وأصل اللحب تقطيع اللحم طولا.
2 الكلكل: الصدر.
ج / 2 ص -186-
ولم أك لما التف روعي وروعه
عصارة هجن من نساء ولا أب
حللت به وتري ولم أنس ذحله
إذا ما تناسى ذحله كل عيهب1
قال ابن
هشام: الفرافر في غير هذا الموضع: الرجل الأضبط، وفى هذا الموضع:
السيف، والعيهب: الذي لا عقل له، ويقال لتيس الظباء وفحل النعام:
العيهب. قال الخليل: العيهب: الرجل الضعيف عن إدراك وتره.
قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير، قال: لما
أجمعت قريش المسير ذكرت الذي كان بينها وبين بني بكر، فكاد ذلك يثنيهم،
فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي، وكان من أشراف
بني كنانة، فقال لهم: أنا لكم جار من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء
تكرهونه، فخرجوا سراعًا.
خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال ابن إسحاق: وخرج رسول الله صلى
الله عليه وسلم في ليال مضت من شهر رمضان في أصحابه، قال ابن هشام: خرج
يوم الاثنين لثمان ليالٍ خلون من شهر رمضان، واستعمل عمرو ابن أم
مكتوم، ويقال اسمه: عبد الله بن أم مكتوم أخا بني عامر بن لُؤي، على
الصلاة بالناس، ثم رد أبا لبابة من الروحاء، واستعمله على المدينة.
اللواء والرايتان: قال ابن إسحاق: ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير بن
هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار. قال ابن هشام: وكان أبيض.
قال ابن إسحاق: وكان أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم رايتان سوداوان
إحداهما مع علي بن أبي طالب، يقال لها: العقاب، والأخرى مع بعض
الأنصار.
عدد إبل المسلمين إلى بدر: قال ابن إسحاق: وكانت إبل أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم يومئذ سبعين بعيرًا، فاعتقبوها فكان رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وعلي بن أبي طالب، ومرثد بن أبي مرثد الغنوي يعتقبون
بعيرًا، وكان حمزة بن عبد المطلب، وزيد بن حارثة، وأبو كبشة، وأنسة،
موليا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتقبون بعيرًا، وكان أبو بكر،
وعمر، وعبد الرحمن بن عوف يعتقبون بعيرًا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الذحل: الثأر.
ج / 2 ص -187-
قال
ابن إسحاق: وجعل على السَّاقة قيس بن أبي صعصعة أخا بني مازن بن
النجار. وكانت راية الأنصار مع سعد بن معاذ، فيما قال ابن هشام.
الطريق إلى بدر: قال ابن إسحاق: فسلك طريقه من المدينة إلى مكة، على
نَقْب المدينة، ثم على العقيق، ثم على ذي الحُليفة، ثم على أولات
الجَيْش.
قال ابن هشام،: ذات الجيش.
قال ابن إسحاق: ثم مر على تُرْبان، ثم على مَلَل، ثم غَميس الحَمام من
مَرَرَيْن، ثم على صُحَيْرات اليمام، ثم على السَّيالة، ثم على فَجِّ
الرَّوْحاء، ثم على شَنُوكة، وهي الطريق المعتدلة، حتى إذا كان بعرق
الظبية -قال ابن هشام: الظبية: عن غير ابن إسحاق- لقوا رجلًا من
الأعراب، فسألوه عن الناس فلم يجدوا عنده خبرًا. فقال له الناس: سلِّم
على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أوفيكم رسول الله؟ قالوا: نعم،
فسلَّم عليه، ثم قال: إن كنت رسول الله فأخبرني عما في بطن ناقتي هذه.
قال له سَلَمة بن سلامة بن وَقش: لا تسأل رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وأقبل عليَّ فأنا أخبرك عن ذلك. نزوت عليها، ففي بطنها منك
سَخْلة1، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"مَهْ
أفحشْتَ على الرجل"، ثم أعرض
عن سَلمة.
ونزل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سَجْسج وهي بئر الرَّوْحاء ثم
ارتحل منها، حتى إذا كان بالمنْصَرَف، ترك طريق مكة بيسار، وسلك ذات
اليمين على النازية، يريد بدرًا، فسلك في ناحية منها، حتى جَزَع
واديًا2، يقال له رُحْقان، بين النازية وبين مَضِيق الصَّفْراء، ثم على
المضيق، ثم انصب منه، حتى إذا كان قريبًا من الصفراء، بعثَ بَسْبَس بن
الجُهَني حليفَ بني ساعدة، وعَدِي بن أبي الزّغْباء الجهني، حليف بني
النجار، إلى بدر يتحسسان له الأخبار، عن أبي سفيان بن حرب وغيره، ثم
ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قدمها. فلما استقبل في
الصَّفراء، وهي قرية بين جَبَلين، سأل عن جبليهما ما اسماهما؟ فقالوا:
يقال لأحدهما، هذا مُسْلح، وللآخر: هذا مُخْزِئ، وسأل عن أهلهما فقيل:
بنو النار وبنو حُراق، بطنان من بني غِفار فكرههما رسولُ الله صلى الله
عليه وسلم والمرور بينهما، وتفاءل بأسمائهما وأسماء3 أهلهما: فتركهما
رسول الله صلى الله عليه وسلم والصفراء بيسار، وسلك ذات اليمين على واد
يقال له: ذَفِرَان، فجزع فيه، ثم نزل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 السخلة في الأصل: الصغير من الضأن واستعارها لولد الناقة.
2 قطعه عرضا.
3 ليس هذا من باب الطير والتشاؤم فقد كان ينهى عنه صلى الله عليه وسلم،
ولكن هذا من باب كراهية الاسم القبيح.
ج / 2 ص -188-
وأتاه
الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم، فاستشار الناس، وأخبرهم عن قريش،
فقام أبو بكر الصديق، فقال وأحسن، ثم قام عمر بن الخطاب، فقال وأحسن،
ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله، امضِ لما أراك الله فنحن
معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى:
{اذْهَبْ
أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24]. ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون،
فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى بَرْك الغماد1 لجالدنا معك من دونه،
حتى تبلغه. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرًا، ودعا له به.
استشارة الأنصار: ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أشيروا عليَّ أيها الناس" وإنما يريد الأنصار، وذلك أنهم عدد الناس، وأنهم حين بايعوه
بالعقبة، قالوا: يا رسول الله، إنا بُرآء من ذمامِك حتى تصل إلى
ديارنا، فإذا وصلت إلينا، فأنت في ذمتنا نمنعك مما نمنع منه أبناءَنا
ونساءَنا. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوَّف ألا تكون الأنصار
ترى عليها نصره إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير
بهم إلى عدو من بلادهم. فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم،
قال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: "أجل":
قال: فقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على
ذلك عهودَنا ومواثيقنا، على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت
فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق، لو استعرضت بنا هذا البحر فخُضته لخضناه
معك، ما تخلَّف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدًا، إنَّا
لَصُبُرٌ في الحرب، صُدُقٌ في اللقاء، لعل الله يُريك منا ما تقر به
عينُك، فسِر بنا على بركة الله. فسُر رسول الله صلى الله عليه وسلم
بقول سعد، ونشَّطه ذلك، ثم قال: "سيروا وأبشروا، فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأنى
الآن أنظر إلى مصارع القوم".
ثم ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذَفران، فسلك على ثَنايا،
يقال لها: الأصَافِر، ثم انحط منها إلى بلد يقال له: الدَّبَّة، وترك
الحَنَّان بيمين وهو كَثيب عظيم كالجبل العظيم، ثم نزل قريبًا من بدر
فركب هو ورجل من أصحابه.
قال ابن هشام: الرجل هو أبو بكر الصديق.
قال ابن إسحاق: كما حدثني محمد بن يحيى بن حبان: حتى وقف على شَيْخ من
العرب، فسأله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 موضع بناحية اليمن، وقيل إنها مدينة بالحبشة.
ج / 2 ص -189-
عن
قريش، وعن محمد وأصحابه، وما بلغه عنهم؟ فقال الشيخ: لا أخبركما حتى
تخبراني ممن أنتما؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إذا أخبرتنا أخبرناك".
قال: أذاك بذاك؟ قال:
"نعم". قال الشيخ: فإنه بلغني أن محمدًا وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا، فإن
كان صدق الذي أخبرني، فهم اليوم بمكان كذا وكذا، للمكان الذي به رسول
الله صلى الله عليه وسلم وبلغني أن قريشًا خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان
الذي أخبرني صدقني فهم اليوم بمكان كذا وكذا للمكان الذي فيه قريش.
فلما فرغ من خبره، قال: ممن أنتما؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"نحن من ماء"،
ثم انصرف عنه. قال يقول الشيخ: ما من ماء، أمن ماء العراق؟
قال ابن هشام: يقال: ذلك الشيخ: سفيان الضَّمْري.
قال ابن إسحاق: ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه، فلما
أمسى بعث علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، في
نفر من أصحابه، إلى ماء بدر، يلتمسون الخبر له عليه -كما حدثني يزيد بن
رومان، عن عروة بن الزبير- فأصابوا رَاويةً1 لقريش فيها أسْلَم، غلام
بني الحجَّاج، وعَرِيض أبو يسار، غلام بني العاص بن سعيد، فأتوا بهما
فسألوهما، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي، فقالا: نحن سقاة
قريش، بعثونا نسقيهم من الماء فكره القومُ خبرَهما، ورجوا أن يكونا
لأبي سفيان، فضربوهما. فلما أذلقوهما2 قالا: نحن لأبي سفيان، فتركوهما.
وركع رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجد سجدتيه، ثم سلم، وقال: "إذا صدقاكم ضربتموهما، وإذا كذباكم تركتموهما، صدقا، والله إنهما
لقريش، أخبراني عن قريش؟"
قالا: هم والله وراء هذا الكَثيب الذي ترى بالعُدْوة القُصْوى
-والكثيب: العَقَنْقَل- فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"كم القوم؟"
قالا: كثير؟ قال: "ما عدتهم؟" قالا: لا ندري، قال:
"كم ينحرون كل يوم؟"
قالا: يومًا تسعًا، ويومًا عشرًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"القوم فيما بين التسعمائة والألف".
ثم قال لهما:
"فمن فيهم من
أشراف قريش؟" قالا: عتبة
بنِ ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو البخْتَري بن هشام، وحَكيم بن حِزام،
ونوْفل بن خوَيلد، والحارث بن عامر بن نَوْفل، وطُعَيْمة بن عَدِي بن
نَوْفل، والنَّضْر بن الحارث، وزَمَعَة بن الأسود، وأبو جهل بن هشام،
وأمية بن خلف، ونُبَيه، ومُنَبّه ابنا الحجاج، وسُهَيل بن عمرو، وعَمرو
بن عبد ود. فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس، فقال:
"هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ3 كبدها".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الرواية: الإبل التي يسقى الماء عليها.
2 أذلقه: بالغ في ضربة.
3 أفلاذ: قطع، انظر ما في هذا الحديث من البلاغة في كتاب المجازات
النبوية للشريف الرضي طبعة مصطفى الحلبي بتحقيقنا.
ج / 2 ص -190-
قال
ابن إسحاق: وكان بَسْبَس بن عمرو، وعدي بن أبي الزَّغْباء قد مضيا حتى
نزلا بدرًا، فأناخا إلى تل قريب من الماء، ثم أخذا شَنًّا لهما1 يسقيان
فيه، ومجدي بن عمرو الجهني على الماء فسمع عدي وبسبس جاريتين من جواري
الحاضر2، وهما يَتلازمان3 على الماء، والملزومة4 تقول لصاحبتها: إنما
تأتي العيرُ غدًا أو بعد غدٍ، فأعمل لهم، ثم أقضيك الذي لك، قال
مَجْدِي: صدقتِ، ثم خلَّص بينهما. وسمع ذلك عَدي وبَسْبس، فجلسا على
بعيريهما، ثم انطلقا حتى أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبراه
بما سمعا.
نجاة أبي سفيان بالعير: وأقبل أبو سفيان بن حرب، حتى تقدم العير
حذَرًا، حتى ورد الماء؟ فقال لمجدي بن عمرو: هل أحسستْ أحدًا؟ فقال: ما
رأيت أحدًا أنكره، إلا أني قد رأيت راكبين قد أناخا إلى هذا التل، ثم
استقيا في شَنٍّ لهما، ثم انطلقا. فأتى أبو سفيان مُناخَهما، فأخذ من
أبعارِ بعيريهما، ففته، فإذا فيه النوى؟ فقال: هذه والله علائف يثرب.
فرجع إلى أصحابه سريعًا، فضرب وجه عيره عن الطريق، فساحَلَ بها5، فترك
بدرًا بيسار وانطلق حتى أسرع.
قال: وأقبلت قريش، فلما نزلوا الجُحْفة، رأى جُهَيم بن الصَّلْت بن
مَخْرمة بن عبد المطلب بن عبد مناف رؤيا، فقال: إني رأيت فيما يرى
النائم، وإنى لبين النائم واليقظان، إذ نظرت إلى رجل قد أقبل على فرس
حتى وقف، ومعه بعير له؟ ثم قال: قُتل عُتبة بن ربيعة، وشَيْبة بن
ربيعة، وأبو الحكم بن هشام، وأمية بن خَلَف، وفلان وفلان، فعدد رجالًا
ممن قُتل يوم بدرِ، من أشراف قريش، ثم رأيته ضرب في لَبَّة بعيره، ثم
أرسله في العسكر؟ فما بقي خباء من أخْبية العسكر إلا أصابه نَضْح من
دمه.
قال: فبلغتْ أبا جهل؟ فقال: وهذا أيضًا نبي آخر من بني المطلب، سيعلم
غدًا من المقتول إن نحن التقينا.
قال ابن إسحاق: ولما رأى أبو سفيان أنه قد أحْرز عيره، أرسل إلى قريش:
أنكم إنما خرجتم لتَمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم، فقد نجاها الله،
فارجعوا؟ فقال أبو جهل بن هشام: والله لا نرجع حتى نرد بدرًا -وكان بدر
موسمًا من مواسم العرب، يجتمع لهم به
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الشن: الزق البالي.
2 الحاضر: النازلون على الماء.
3 التلازم: تعلق الغريم بغريمه.
4 الملزومة: المدينة.
5 أخذ بها طريق الساحل.
ج / 2 ص -191-
سوق كل
عام- فنقيم عليه ثلاثًا، فننحر الجُزر، ونطعم الطعام ونُسْقي الخمر،
وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجَمْعنا، فلا يزالون
يهابوننا أبدًا بعدها، فامضوا.
وقال الأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي: وكان حليفًا لبني زُهرة
وهم بالجُحْفة: يا بني زُهرة، قد نجَّى الله لكم أموالكم، وخَلَّص لكم
صاحبكم مَخْرمة بن نوفل، وإنما نفرتم لتمنعوه وماله، فاجعلوا لي
جُبْنَها وارجعوا، فإنه لا حاجة لكم بأن تخرجوا في ضَيْعة، لا ما يقول
هذا، يعني أبا جهل. فرجعوا، فلم يشهدها زُهْرِيّ واحد، أطاعوه وكان
فيهم مُطاعًا، ولم يكن بقي من قريش بطن إلا وقد نَفر منهم ناس، إلا بني
عَدِي بن كعب، لم يخرج منهم رجل واحد، فرجعت بنو زهرة مع الأخنس بن
شَرِيق، فلم يشهد بدرًا من هاتين القبيلتين أحد، ومشى القوم. وكان بين
طالب بن أبي طالب -وكان في القوم- وبين بعض قريش محاورة، فقالوا:
واللَه لقد عرفنا يا بني هاشم، وإن خرجتم معنا، أن هواكم لمع محمد:
فرجع طالب إلى مكة مع من رجع، وقال طالب بن أبي طالب:
لا هُمَّ إما يَغْزُوَنَّ طالبْ
في عُصبةٍ محالف مُحاربْ
في مِقْنبٍ من هذه المقانبْ
فليكن المسلوب غيرَ السالبْ1
وليكن المغلوب غير الغالب
قال ابن هشام: قوله
"فليكن المسلوب"، وقوله: "وليكن المغلوب" عن غير واحد من الرواة للشعر.
قريش تنزل بالعدوة والمسلمون ببدر: قال ابن إسحاق: ومضت قريش حتى نزلوا
بالعُدْوَة القُصْوَى من الوادي، خلف العَقَنْقَل وبطن الوادي، وهو
يَلْيَل، بين بدر وبين العَقَنْقَل الكثيب الذي خلفه قريش، والقُلُب2
ببدر في العُدْوة الدنيا من بطن يَلْيَل إلى المدينة.
وبعث الله السماء، وكان الوادي دَهْسًا3، فأصاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم وأصحابه منها ما لَبَّد لهم الأرضَ، ولم يمنعهم عن السير،
وأصاب قريشًا منها ما لم يقدروا على أن يرتحلوا جمعه. فخرج رسول الله
صلى الله عليه وسلم يبادرهم إلى الماء، حتى إذا جاء أدنى ماء من بدر
نزل به.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المقنب: الجماعة من الخيل.
2 القلب: جمع قليب: البئر القديم مذكر وقد يؤنث.
3 الدهس: المكان اللين السهل الذي ليس برمل ولا تراب.
ج / 2 ص -192-
قال
ابن إسحاق: فحُدثت عن رجال من بني سَلمة، أنهم ذكروا: أن الحُباب بن
المنذر بن الجَموح قال: يا رسول الله؟ أرأيتَ هذا المنزل، أمنزلًا
أنزلَكه الله ليس لنا أن نتقدمه، ولا نتأخر عنه، أم هو الرأيُ والحربُ
والمكيدة؟ قال:
"بل هو الرأي والحرب والمكيدة".
فقال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى
ماء من القوم، فننزله ثم نُغَوِّر ما وراءه من القُلُب، ثم نبني عليه
حوضًا فنمْلؤه ماء، ثم نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون، فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "لقد أشرتَ بالرأي". فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الناس فسار حتى إذا
أتى أدنى ماء من القوم نزل عليه، ثم أمر بالقُلُب فغُوِّرت، وبنى
حَوْضا على القُلُب الذي نزل عليه فملئ ماء، ثم قذفوا فيه الآنية.
قال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر أنه حُدث: أن سعد بن معاذ
قال: يا نبي الله، ألا نبتني لك عريشًا تكون فيه، ونُعد عندك ركائبك،
ثم نلقى عدونا فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا، كان ذلك ما أحببنا،
وإن كانت الأخرى، جلست على ركائبك، فلحقت بمن وراءنا، فقد تخلف عنك
أقوام، يا نبي الله، ما نحن بأشد لك حبًّا منهم، ولو ظنوا أنك تلقى
حربًا ما تخلفوا عنك، يمنعك الله بهم، يناصحونك ويجاهدون معك، فأثنى
عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا ودعا له بخير، ثم بني لرسول
الله صلى الله عليه وسلم عريشٌ، فكان فيه ارتحال قريش ودعاء الرسول
عليهم: قال ابن إسحاق: وقد ارتحلت قريش حين أصبحت، فأقبلت، فلما رآها
رسول الله صلى الله عليه وسلم تَصوَّب من العَقَنْقَل -وهو الكثيب الذي
جاءوا منه إلى الوادي- قال:
"اللهم هذه قريش قد أقبلت بخُيلائها وفخرها، تُحادُّك وتكذِّب رسولَك،
اللهم فنصرَك الذي وعدتنى، اللهم أحِنْهم1 الغداة".
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -وقد رأى عتبةُ بن ربيعة في
القوم على جمل له أحمر-:
"إن يكن في أحد
من القوم خير فعند صاحب الجمل الأحمر، إن يطيعوه يَرْشُدوا".
وقد كان خُفاف بن أيماء بن رَحَضة الغِفاري، أو أبوه أيماء بن رحضة
الغفاري، بعث إلى قريش، حين مروا به، ابنًا له بجزائره2 أهداها لهم،
وقال: إن أحببتم أن نمدكم بسلاح ورجال فعلنا. قال: فأرسلوا إليه مع
ابنه: أن وصَلَتْك رَحِم، قد قضيت الذي عليك فلعَمْري لئن كنا إنما
نقاتل الناس فما بنا من ضعف عنهم، ولئن كنا إنما نقاتل الله، كما يزعم
محمد، فما لأحد بالله من طاقة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحنهم: أهلكهم.
2 الجزائر: الذبائح.
ج / 2 ص -193-
فلما
نزل الناس أقبل نفرٌ من قريش حتى وردوا حوضَ رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فيهم حكيم بن حزام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"دعوهم"، فما شرب منه رجل يومئذ إلا قُتل، إلا ما كان من حَكيم بن حزام،
فإنه لم يُقتل، ثم أسلم بعد ذلك، فحسن إسلامه. فكان إذا جهد في يمينه،
قال: لا والذي نجاني من يوم بدر.
قال ابن إسحاق: وحدثني أبي: إسحاق بن يسار، وغيره من أهل العلم، عن
أشياخ من الأنصار، قالوا: لما اطمأن القوم، بعثوا عُمَير بن وهب
الجُمَحي فقالوا: احْزُروا لنا أصحاب محمد، قال: فاستجال بفرسه حول
العسكر ثم رجع إليهم، فقال: ثلاثمائة رجل، يزيدون قليلًا أو ينقصون،
ولكن أمهلوني حتى أنظر أللقوم كمين أو مدد؟ قال: فضرب في الوادي حتى
أبعد، فلم ير شيئًا، فرجع إليهم فقال: ما وجدت شيئا، ولكني قد رأيت، يا
معشر قريش، البَلايا1 تحمل المنايا، نواضح2 يَثْرب تحمل الموتَ الناقع،
قوم ليس معهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم، والله ما أرى أن يُقتل رجل
منهم، حتى يَقتل رجلًا منكم، فإذا أصابوا منكم أعدادهم فما خيرُ العيش
بعد ذلك؟ فروا رأيكم.
فلما سمع حكيم بن حزام ذلك مشى في الناس، فأتى عُتبة بن ربيعة، فقال:
يا أبا الوليد، إنك كبير قريش وسيدها، والمطاع فيها، هل لك إلى أن لا
تزال تُذكر فيها بخير إلى آخر الدهر؟ قال: وما ذاك يا حكيم؟ قال: ترجع
بالناس، وتحمل أمرَ حليفك عَمرو بن الحضرمي، قال: قد فعلتُ، أنت عليَّ
بذلك، إنما هو حليفي، فعلي عقلُه وما أصيب من ماله، فأت ابن الحنظلية.
الحنظلية ونسبها: قال ابن هشام: والحنظلية أم أبي جهل، وهي أسماء بنت
مُخَرَّبة، أحد بني نَهْشِل بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد
مناة بن تميم فإني لا أخشى أن يشجر أمر الناس غيره، يعني أبا جهل بن
هشام. ثم قام عُتبة بن ربيعة خطيبًا، فقال: يا معشر قريش، إنكم والله
ما تصنعون بأن تلْقَوْا محمدًا وأصحابه شيئًا، والله لئن أصبتموه لا
يزال الرجل ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه، قَتل ابنَ عمه وابنَ
خاله، أو رجلًا من عشيرته، فارجعوا وخلوا بين محمد وبين سائر العرب،
فإن أصابوه فذاك الذي أردتم، وإن كان غير ذلك ألفاكم ولم تَعَرَّضوا
منه ما تريدون.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 النوق التي تربط على قبر الأموات لا تعلف ولا تسقى حتى تموت كان
يفعلها بعض العرب الذي يقر بالبعث إلا أنه يظن أنه يحشر عليها الميت
وقت بعثه.
2 النواضح: الإبل التي يستقى الماء عليها.
ج / 2 ص -194-
قال
حَكيم: فانطلقتُ حتى جئتُ أبا جهل، فوجدته قد نَثَل1 دِرْعًا له من
جرابها، فهو يَهْنِئها2 -قال ابن هشام: يُهيئها- فقلتُ له: يا أبا
الحكم إن عتبة أرسلني إليك بكذا وكذا، للذي قال، فقال: انتفخ والله
سَحْرُه حين رأى محمدًا وأصحابه، كلا والله لا نرجع حتى يحكم الله
بيننا وبينَ محمد، وما بعتبة ما قال، ولكنه قد رأى أن محمدًا وأصحابه
أكلةَ جَزُور، وفيهم ابنه، فقد تخوَّفكم عليه. ثم بعث إلى عامر بن
الحَضْرمي، فقال: هذا يريد أن يرجع بالناس، وقد رأيت ثأرك بعينك، فقم
فأنشد خُفْرَتَك، ومقتل أخيك.
فقام عامر بن الحَضْرمي فاكتشف ثم صرخ: واعَمْراه. واعَمْراه، فحميت
الحرب، وحَقِب3 الناس، واستوثقوا على ما هم عليه من الشَّرِّ. وأفسد
على الناس الرأيُ الذي دعاهم إليه عتبة.
فلما بلغ عُتبة قول أبي جهل "انتفخ والله سَحْرُه"، ال: سيعلم
مُصَفِّرُ استِه4 من انتفخ سَحْرُه، أنا أم هو؟
قال ابن هشام: السَّحْر: الرئة وما حولها مما يعلق بالحلقوم من فوق
السرة. وما كان تحت السرة، فهو القُصْب، ومنه قوله: رأيت عَمرو بن لحي
يجر قُصْبَه في النار. قال ابن هشام: حدثني بذلك أبو عبيدة.
ثم التمس عُتبة بَيْضةً ليُدخلها في رأسه، فما وجد في الجيش بيضة تسعه
من عظم هامته. فلما رأى ذلك اعتجر5 على رأسه بُبرد له.
مقتل الأسود بن عبد الأسد المخزومي: قال ابن إسحاق: وقد خرج الأسود بن
عبد الأسد المخزومي، وكان رجلًا شَرِسًا سيِّئ الخُلُق، فقال: أعاهد
الله لأشربنَّ من حوضِهم، أو لأهدِمَنَّه. أو لأموتَنَّ دونه، فلما
خرج، خرج إليه حمزة بن عبد المطلب، فلما التقيا ضربه حمزة فأطن6 قدمَه
بنصف ساقه، وهو دون الحَوْض فوقع على ظهره تشخب رجله دما نحو أصحابه،
ثم حبا إلى الحَوْض حتى اقتحم فيه، يريد أن يبر بيمينه، وأتبعه حمزةُ
فضربه حتى قتله في الحوض.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 نثل: أخرج.
2 يهنئها: يطليها بعكر الزيت.
3 حقب الناس: اشتدوا.
4 كناية عن الدعة فقد كان الإنسان البعيد عن الحرب يتطيب بالخلوق، وقد
قصد المبالغة لإهانته بذكر استه وإنما هو تطييب البدن.
5 اعتجر: تعمم.
6 أطن: أطار.
ج / 2 ص -195-
دعاء
عتبة إلى المبارزة: قال: ثم خرج بعدُ عتبة بن ربيعة، بين أخيه شَيْبة
بن ربيعة وابنه الوليد بن عُتبة، حتى إذا فَصل من الصف دعا إلى
المبارزة، فخرج إليه فِتية من الأنصار ثلاثة وهم: عَوْف، ومعُوّذ، ابنا
الحارث وأمهما عفراء ورجل آخر، يقال: هو عبد الله بن رَوَاحةَ فقالوا:
من أنتم؟ فقالوا: رهط من الأنصار قالوا: ما لنا بكم من حاجة، ثم نادى
مناديهم: يا محمد، أخرجْ إلينا أكْفاءَنا من قومنا؟ فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم:
"قم يا عُبيدة
بن الحارث، وقم يا حمزة، وقم يا علي"،
فلما قاموا ودنوا منهم، قالوا: من أنتم؟ قال عُبيدة: عبيدة، وقال حمزة:
حمزة، وقال عليّ: علي؛ قالوا: نعم، أكْفاء كرام، فبارز عبيدة، وكان أسن
القوم، عُتبة بن ربيعة وبارز حمزة شَيْبة بن ربيعة وبارز علي الوليد بن
عتبة. فأما حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله، وأما علي فلم يمهل الوليد أن
قتله، واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتين، كلاهما أثبت صاحبه1، وكَرَّ
حمزة وعليّ بأسيافهما على عُتبة فذَفَّفا2 عليه، واحتملا صاحبهما
فحازاه إلى أصحابه.
قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عُمر بن قتادة: أن عُتبة بن ربيعة قال
للفتية من الأنصار حين انتسبوا: أكفاء كرام، إنما نريد قومنا.
التقاء الفريقين: قال ابن إسحاق: ثم تزاحف الناس ودنا بعضُهم من بعض،
وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن لا يحملوا حتى
يأمرَهم، وقال: إن اكتنفكم القوم فانضحوهم عنكم بالنَّبْل، ورسول الله
صلى الله عليه وسلم في العريش، معه أبو بكر الصديق.
فكانت وقعة بدر يوم الجمعة صبيحة سبع عشرة من شهر رمضان.
قال ابن إسحاق: كما حدثني أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين.
ضرب الرسول ابن غزية: قال ابن إسحاق: وحدثني حَبَّان بن واسع بن
حَبَّان عن أشياخ من قومه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عَدَّل
صفوفَ أصحابه يوم بدر، وفي يده قدح3 يعدل به القوم، فمر بسَواد بن
غَزِيَّة، حليف بني عدي بن النجار، قال ابن هشام: يقال، سَوَّاد،
مثقلة، وسواد في الأنصار غير هذا، مخفف وهو مُسْتَنْتل4 من الصف، قال
ابن هشام: ويقال مُسْتَنصلِ5 من الصف فطعن في بطنه بالقدْح، وقال:
"استوِ يا سَوَّاد" فقال: يا رسول الله، أوجعتني وقد بعثك الله بالحق والعدل، قال:
فأقدْني6 فكشف رسولُ الله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أثبته: جرحه جراحة بالغة.
2 ذففا عليه: أسرعا قتله.
3 قدح: سهم.
4 مستنتل: متقدم.
5 مستنصل: خارج.
6 أقدني: اقتص لي من نفسك.
ج / 2 ص -196-
صلى
الله عليه وسلم عن بطنه، وقال:
"استقدْ"، قال: فاعتنقه فقبَّل بطنه: فقال:
"ما حملك على هذا يا سَواد؟" قال: يا رسول الله، حضر ما ترى، فأردت أن يكون آخرُ العهد بك أن
يمسَّ جلدي جلدَك. فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير، وقاله
له.
الرسول يناشد ربه النصر: قال ابن إسحاق: ثم عدَّل رسول الله صلى الله
عليه وسلم الصفوف ورجع إلى العريش فدخله، ومعه فيه أبو بكر الصديق، ليس
معه فيه غيره، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يناشد ربَّه ما وعده من
النصر، ويقول فيما يقول: "اللهم إن تَهْلك هذه العصابة اليوم لا تُعْبد"، وأبو بكر يقول: يا نبي الله، بعضَ مُناشدتك ربك، فإن الله مُنْجِز
لك ما وعدك. وقد خفق1 رسول الله صلى الله عليه وسلم خَفْقةً وهو في
العريش، ثم انتبه فقال:
"أبشرْ يا أبا بكر، أتاك نصرُ الله، هذا جبريل آخذٌ بعنان فرس يقوده،
على ثناياه النَّقْعُ".
أول شهيد من المسلمين: قال ابن إسحاق: وقد رُمِي مِهْجع، مولى عمر بن
الخطاب بسهم فقُتل فكان أول قتيل من المسلمين ثم رُمي حارثة بن
سُرَاقة، أحد بني عَدِي بن النجار، وهو يشرب من الحَوْض، بسهم فأصاب
نحره، فقُتل.
قال: ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس فحرَّضهم، وقال:
"والذي نفس محمد بيده، لا يقاتلهم اليومَ رجلٌ فيُقتل صابرًا محتسبًا،
مُقبلًا غير مُدْبر، إلا أدخله الله الجنة". فقال عُمَيْر بن الحُمام أخو بني سَلمة، وفى يده تمرات يأكلهن:
بَخْ بَخْ2، أفما بيني وبين أن أدخلِ الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء، ثم
قذف التمرات من يده وأخذ سيفه، فقاتل القومَ حتى قُتل.
قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عُمر بن قَتادة: أن عوف بن الحارث، وهو
ابن عفراء قال يا رسول الله، ما يُضْحك3 الرب من عبده؟ قال:
"غَمْسه يَده في العدو حاسرًا". فنزع درعًا كانت عليه فقذفها، ثم أخذ سيفَه فقاتل القوم حتى قُتل.
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عبد الله بن
ثعلبة بن صُعَيْر العُذْري، حليف بني زُهرة، أنه حدثه: لما التقى
الناسُ، ودنا بعضُهم من بعض، قال أبو جهل بن هشام: اللهم أقطَعنا
للرحم، وآتانا بما لا يُعْرف، فأحِنْه4 الغَداةَ. فكان هو المستفتح5.
قال ابن إسحاق: ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ حفنة من
الحَصْباء فاستقبل قريشًا بها، ثم قال:
"شاهتِ
الوجوهُ"، ثم نَفَحهم بها، وأمر أصحابه فقال:
"شُدُّوا"
فكانت الهزيمة، فقتَل الله تعالى من قَتل من صناديد قريش، وأسَر من أسر
من أشرافهم. فلما وضع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 خفق: أخذته سنة خفيفة من النوم.
2 كلمة تقال في حالة الإعجاب.
3 أي يرضيه غاية الرضا مع تبشير وإظهار كرامة.
4 أحنه، أهلكه.
5 المستفتح: المبتدئ لنفسه.
ج / 2 ص -197-
القومُ
أيديهم يأسرون ورسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش، وسعد بن معاذ
قائمٌ على باب العريش، الذي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، متوشِّح
السيف، في نفر من الأنصار يحرسون رسول الله صلى الله عليه وسلم، يخافون
عليه كَرَّة العدو، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم -فيما ذكر لي-
في وجه سَعْد بن معاذ الكراهية لما يصنع الناس، فقال له رسول الله صلى
الله عليه وسلم:
"والله لكأنك يا سعدُ تكره ما يصنع القوم؟" قال:أجل والله يا رسول الله، كانت أول وقعة أوقعها الله بأهل
الشرك. فكان الِإثخان في القتل بأهل الشرك أحبَّ إلي من استبقاء
الرجال.
قال ابن إسحاق: وحدثني العباس بن عبد الله بن معبد، عن بعض أهله، عن
ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يومئذ: "إني قد عرفت أن رجالًا من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرهًا، ولا حاجة
لهم بقتالنا: فمن لقي منكم أحدًا من بني هاشم فلا يقتُله ومن لقي أبا
البَخْتَري بن هشام بن الحارث بن أسد فلا يقتله، فإنه إنما أخرج
مُسْتكرَهًا".
قال: فقال أبو حُذيفة: أنقتل آباءَنا وأخواتنا وعشيرتنا. ونترك العباس؟
والله لئن لقيتُه لألحِمنه السيف -قال ابن هشام: ويقال: لألجمنه السيف-
قال: فبلغت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال لعمر بن الخطاب:
"يا أبا حفص
-قال عمر: والله إنه لأول يوم كَنَّاني فيه رسول الله صلى الله عليه
وسلم بأبي حَفْص-
أيضرب وجه عم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف؟" فقال عمر: يا رسول الله، دعني فلأضرب عنقهُ بالسيف، فوالله لقد
نافق فكان أبو حذيفة يقول: ما أنا بآمن من تلك الكلمة التي قلتُ يومئذ،
ولا أزال منها خائفًا إلا أن تكفرها عني الشهادة. فقتل يوم اليمامة
شهيدًا.
قال ابن إسحاق: وإنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل أبي
البَخْتَري؛ لأنه كان أكفَّ القوم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو
بمكة، وكان لا يؤذيه، ولا يبلغه عنه شيء يكرهه، وكان ممن قام في نقض
الصحيفة التي كتبت قُريش على بني هاشم وبني المطلب. فلقيه المجَذَّر بن
زياد البَلَوي، حليف الأنصار، ثم من بني سالم بن عَوْف، فقال المجَذَّر
لأبي البَخْتري: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهانا عن قتلك
-ومع أبي البَختري زميل1 له، قد خرج معه من مكة، وهو جُنادة بن مُلَيحة
بنت زهير بن الحارث بن أسد، وجنادة رجل من بني لَيْث واسم أبي
البَخْتري: العاص-قال: وزميلي؟ فقال له المجذر: لا والله، ما نحن
بتاركي زميلك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الزميل: من يزامله فيركب معه على بعير واحد.
ج / 2 ص -198-
198#
ما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بك وحدك؟ فقال: لا والله،
إذن لأموتن أنا وهو جميعًا، لا تتحدث عني نساءُ مكة أني تركت زميلي
حرصًا على الحياة. فقال أبو البَخْتري حين نازله المجذّر وأبى إلا
القتال، يرتجز:
لن يُسْلِمَ ابنُ حُرةٍ زميلَهْ
حتى يموتَ أو يَرى سبيلَهْ
فاقتتلا، فقتله المجذّر
بن زياد. وقال المجذر بن زياد في قتله أبا البَخْتري:
إما جَهِلْتَ أو نسيتَ نسبي
فأثبِت النسبةَ أني من بَلِي
الطاعنين برماحِ اليَزني
والضاربين الكبشَ حتى ينحني
بشِّر بيُتمِ من أبوه البَخْتري
أو بَشِّرن بمثلِها من بَني
أنا الذي يُقال أصلي من بَلي
أطعنُ بالصَّعْدةِ حتى تَنْثَني1
وأعبِطِ القِرْنَ بعَضْبٍ مَشْرَفي
أرْزِمُ للموتِ كإرزامِ المَرِي2
فلا ترى مجذَّرًا يَفْرِي فَرِي3
قال ابن هشام: "المَري"
عن غير ابن اسحاق. والمَري: الناقة التي يستنزل لبنها على عُسر.
قال ابن إسحاق: ثم إن المجذَّر أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فقال: والذي بعثك بالحق لقد جهدتُ عليه أن يَستأسر فآتيك به، فأبى إلا
أن يُقاتلني، فقاتلتُهُ فقتلتُه.
قال ابن هشام: أبو البَخْتري: العاص بن هشام بن الحارث بن أسد.
مقتل أمية بن خلف: قال ابن إسحاق: حدثني يحيى بن عبد الله بن الزبير،
عن أبيه، قال ابن إسحاق: وحدثنيه أيضًا عن عبد الله بن أبي بكر
وغيرهما، عن عبد الرحمن بن عوف قال: كان أمية بن خلف لي صديقًا بمكة،
وكان اسمي عبد عمرو، فتسمَّيت، حين أسلمتُ، عبدَ الرحمن، ونحن بمكة،
فكان يلقاني إذ نحن بمكة فيقول: يا عبد عمرو، أرغبت عن اسم سماكَه
أبواك؟ فأقول: نعم، فيقول: فإني لاأعرف الرحمن، فاجعل بيني وبينك شيئًا
أدعوك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الصعدة في الأصل: عصا الرمح، وقد أطلق هنا على الرمح صعدة.
2 أعبط: أقتل، والعضب: السيف القاطع، وأرزم: أحن.
3 فرى: عمل عملا أتى فيه بأمر عجيب.
ج / 2 ص -199-
به،
أما أنت فلا تجيبني باسمك الأول، وأما أنا فلا أدعوك بما لا أعرف، قال:
فكان إذا دعاين: يا عبد عمرو، لم أجبه. قال: فقلت له: يا أبا علي،
اجعلْ ما شئت، قال: فأنت عبد الإله، قال: فقلت: نعم، قال: فكنت إذا
مررت به قال: يا عبد الِإله فأجيبه، فأتحدث معه حتى إذا كان يوم بدر
مررتُ به، وهو واقف مع ابنه، علي بن أمية، آخذ بيده ومعي أدراع قد
استلبتها، فأنا أحملها فلما رآني قال لي: يا عبد عمرو، فلم أجبه، فقال:
يا عبد الِإله؟ فقلت:نعم، قال: هل لك فيّ، فأنا خير لك من هذه الأدراع
التي معك؟ قال: قلت نعم، ها الله ذا1. قال: فطرحتُ الأدراع من يدي،
وأخذت بيده ويد ابنه، وهو يقول: ما رأيتُ كاليوم قط، أما لكم حاجة في
اللبن؟ قال: ثم خرجت أمشي بهما.
قال ابن هشام: يريد باللبن، أن من أسرني افتديت منه بإبل كثيرة اللبن.
قال ابن إسحاق: حدثني عبد الواحد بن أبي عَوْن، عن سعد بن إبراهيم، عن
عبد الرحمن بن عوف، قال: قال لي أمية بن خلف، وأنا بينه وبين ابنه، آخذ
بأيديهما: يا عبد الِإله، مَن الرجل منكم المعلَّم بريشة نعامة في
صدره؟ قال: قلت ذاك حمزة بن عبد المطلب، قال: ذاك الذي فعل بنا
الأفاعيل، قال عبد الرحمن: فوالله إني لأقودهما إذ رآه بلال معي، وكان
هو الذي يعذّب بلالًا بمكة على ترك الِإسلام، فيُخرجه إلى رمضاء مكة
إذا حميت، فيُضجعه على ظهره ثم يأمر بالصَّخرة العظيمة فتوضع على صدره
ثم يقول: لا تزال هكذا أو تفارق دين محمد، فيقول بلال: أحَدٌ أَحَدٌ.
قال: فلما رآه، قال رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوتُ إن نجا قال: قلت:
أي بلال، أبأسيري قال: لا نجوت إن نجا. قال: قلت أتسمع يابن السوداء،
قال: لا نجوتُ إن نجا. قال: ثم صرخ بأعلى صوته. يا أنصارَ الله، رأس
الكفر أميةُ بن خلف، لا نجوت إن نجا. قال: فأحاطوا بنا حتى جعلونا في
مثل المُسْكة2 وأنا أذُبُّ عنه. قال: فأخلف3 رجلٌ السيفَ، فضرب رِجْل
ابنه فوقع، وصاح أمية صيحة ما سمعتُ مثلَها قط. قال: فقلتْ: انجُ بنفسك
ولا نجاءَ بك فوالله ما أغني عنك شيئًا. قال: فهبروهما بأسيافهم حتى
فرغوا منهما، قال: فكان عبد الرحمن يقول: يرحم الله بلالًا، ذهبت
أدراعي وفَجَعني بأسيري.
الملائكة تشهد وقعة بدر: قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي بكر
أنه حُدث عن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ها: حرف تنبيه: وذا: اسم إشارة يشير به إلى نفسه.
2 المسكة: الحلقة.
3 أحلف: سل.
ج / 2 ص -200-
ابن
عباس قال: حدثني رجل من بني غِفار، قال: أقبلتُ أنا وابن عم لي حتى
أصعدنا في جبل يُشرف بنا على بدر، ونحن مُشركان، ننتظر الوقعة على من
تكون الدَّبْرة1، فننتهب مع من ينتهب. قال: فبينا نحن في الجبل إذ دنت
منا سحابة، فسمعنا فيها حَمْحَمة الخيل، فسمعت قائلًا يقول: أقدْم
حَيْزومُ2 فأما ابن عمي فانكشف قناعُ قلبه، فمات مكانَه، وأما أنا
فكِدْت أهلِك، ثم تماسكت.
قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي بكر، عن بعض بني ساعدة، عن أبي
أسَيد مالك بن ربيعة، وكان شهد بدرًا، قال، بعد أن ذهب بصرُه: لو كنتُ
اليوم ببدر ومعي بصري لأريتكم الشِّعْب الذي خرجتْ منه الملائكة، لا
أشك فيه ولا أتمارى.
قال ابن إسحاق: وحدثني أبي إسحاق بن يسار، عن رجال من بني مازن بن
النجار، عن أبي داود المازني، وكان شهد بدرًا، قال: إني لأتبع رجلًا من
المشركين يوم بدر لأضربه، إذ وقع رأسُه قبل أن يصلَ إليه سيفي، فعرفت
أنه قد قتله غيري.
قال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم عن مِقْسم، مولى عبد الله بن الحارث،
عن عبد الله بن عباس، قال: كانت سِيما الملائكة يوم بدر عمائمَ بيضًا
قد أرسلوها على ظهورهم، ويوم حُنين عمائم حمرًا.
قال ابن هشام: وحدثني بعضُ أهل العلم أن علي بن أبي طالب قال: العمائم
تيجان العرب وكانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيضًا وقد أرخوها على
ظهورهم، إلا جبريل فإنه كانت عليه عمامة صفراء.
قال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم عن مِقْسَم، عن ابن عباس، قال: ولم
تقاتل الملائكة في يوم سوى بدر من الأيام، وكانوا يكونون فيما سواه من
الأيام عَددًا ومَددًا لا يضربون.
مقتل أبي جهل: قال ابن إسحاق: وأقبل أبو جهل يومئذ يرتجز، وهو يقاتل
ويقول:
ما تَنْقِم الحربُ العَوانُ مني
بازلُ عامَيْن حديث سِني3
لمثلِ هذا ولدتني أمي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الدبرة: الدائرة.
2 أقدم: كلمة تزجر بها الخيل وحيزوم هو فرس جبريل عليه السلام.
3 الحرب العوان جمع عون: الحرب الشديدة التي قوتل فيها مرة بعد أخرى،
والبازل من الإبل الذي خرج سنه فهو في ذلك يصل لذروة مرحلة الشباب.
ج / 2 ص -201-
قال
ابن هشام: وكان شعار أصحاب رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر:
أحَدٌ أحَدٌ.
قال ابن إسحاق: فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من عَدوه، أمر
بأبى جهل أن يُلْتمس في القتلى.
وكان أول من لقي أبا جهل، كما حدثني ثَوْر بن يزيد عن عِكْرمة، عن ابن
عباس، وعبد الله بن أبي بكر أيضًا قد حدثني ذلك قالا: قال معاذ بن عمرو
بن الجموح، أخو بني سَلمة: سمعت القوم وأبو جهل في مثل الحَرَجة -قال
ابن هشام: الحَرَجة: الشجر الملتف. وفي الحديث عن عمر بن الخطاب: أنه
سأل أعرابيًّا عن الحَرَجة؟ فقال: هي شجرة من الأشجار لا يوصل إليها،
وهم يقولون: أبو الحَكم لا يُخلص إليه. قال: فلما سمعتها جعلته من
شأني، فصمَدْتُ نحوَه، فلما أمكنني حملت عليه، فضربته ضربة أطنَّت
قدمَه1 بنصف ساقه، فوالله ما شبهتها حين طاحت إلا بالنواة تطيح من تحت
مِرْضخة النوى حين يُضرب بها2. قال: وضربني ابنه عِكرمة على عاتقي،
فطرح يدي، فتعلقت بجلْدة من جَنْبي، وأجهضني3 القتالُ عنه، فلقد قاتلت
عامة يومي، وإني لأسحبها خلفي، فلما آذتني وضعت عليها قدمي، ثم تمطيت
بها عليها حتى طرحتها.
قال ابن إسحاق: ثم عاش بعد ذلك حتى كان زمان عثمان.
ثم مر بأبي جهل وهو عَقير: مُعَوّذ بن عفراء، فَضَرَبه حتى أثبته،
فتركه وبه رمق. وقاتل مُعَوذ حتى قُتل، فمر عبد الله بن مسعود بأبي
جهل، حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُلتمس في القتلى، وقد
قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم -فيما بلغنى-: "انظروا -إن خفي
عليكم في القتلى-إلى أثر جُرح في ركبته؛ فإني ازدحمت يوماَ أنا وهو على
مأدُبة لعبد الله بن جُدْعان، ونحن غلامان، وكنت أشفَّ منه بيَسير،
فدفعتُهُ فوقع على ركبتيه، فجحش4 في إحداهما جَحْشًا لم يزل أثره به".
قال عبد الله بن مسعود: فوجدته بآخر رَمَق فعرفته، فوضعت رجلي على
عُنقه، قال: وقد كان ضبَث بن مرة بمكة، فآذاني ولكزني، ثم قلت له: هل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أطنت قدمه: أطارتها.
2 مرضخة النوى: التي يدق بها النوى.
3 أجهضني: غلبني.
4 جحش: خدش.
ج / 2 ص -202-
أخزاك
الله يا عدوَّ الله؟ قال: وبماذا أخزاني أعْمَدُ من رجل قتلتموه1،
أخْبرني لمن الدائرة اليومُ؟ قال: قلت للّه ولرسوله.
قال ابن هشام: ضَبَثَ: قبض عليه ولَزِمه. قال ضابئ بن الحارث
البُرْجمي:
فأصبحت مما كان بَيْني وبينَكم
من الودِّ مثلَ الضابثِ الماءَ باليدِ
قال ابن هشام: ويقال:
أعَارٌ على رجل قتلتموه، أخبرني لمن الدائرة اليوم؟
قال ابن إسحاق: وزعم رجال من بني مخزوم، أن ابن مسعود كان يقول: قال
لي: لقد ارتقيت مرتقى صعبًا يا رُوَيْعي الغنم قال: ثم احتززت رأسَه ثم
جئت به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، هذا رأس عدو
الله أبي جهل؟ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "آلله الذي لا
إله غيره -قال: وكانت يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال: قلتُ
نعم، والله الذي لا إله غيره، ثم ألقيت رأسَه بين يدي رسول الله صلى
الله عليه وسلم فحمد الله.
قال ابن هشام: وحدثني أبو عبيدة وغيره من أهل العلم بالمغازي: أن عمر
بن الخطاب قال لسعيد بن العاص، ومر به: إني أراك كأن في نفسك شيئًا،
أراك تظن أني قتلت أباك، إني لو قتلته لم أعتذر إليك من قتله ولكني
قتلت خالي العاص بن هشام بن المغيرة، فأما أبوك فإني مررت به وهو يبحث
بحث الثور بروقه2 فحدت عنه، وقصد له ابن عمه على فقتله.
حديث عُكاشة بن مِحْصَن: قال ابن إسحاق: وقاتل عُكَّاشة بن مِحْصَن بن
حُرْثان الأسدي حليف بني عبد شمس بن عبد مناف يوم بدر بسيفه حتى انقطع
في يده، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه جِذْلًا3 من حَطب،
فقال:
"قاتلْ بهذا يا عُكَّاشة"، فلما أخذه من رسول الله صلى الله عليه وسلم هزه، فعاد سيفًا في
يده طويل القامة، شديد المتْن، أبيض الحديدة، فقاتل به حتى فتح الله
تعالى على المسلمين، وكان ذلك السيف يُسمى: العَوْن. ثم لم يزل عنده
يَشْهد به المشاهد مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، حتى قُتل في
الرِّدَّة، وهو عنده، قتله طُليحة بن خُوَيلد الأسدي، فقال طُليحة في
ذلك:
فما ظنكم بالقومِ إذ تقتلونهم
أليسوا وإن لم يُسْلموا برجالِ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي ليس على عار فلن أبعد أن أكون رجلا قتله قومه.
2 الروق: القرن.
3 الجذل: أصل الشجرة.
ج / 2 ص -203-
فإن تك أذاودٌ أصِبْنَ ونِسْوة
فلن تذهبوا فِرْغًا بقتلِ حِبال1
نصبْت لهم صدرَ الحِمالةِ
إنها معاودة قِيلَ الكُماة نَزَالِ2
فيومًا تراها في الجِلالِ مَصُونةً
ويومًا تراها غيرَ ذاتِ جِلالِ3
عشيَّةَ غادرتُ ابنَ أقرمَ ثاويًا
وعُكَّاشة الغَنْمِي عندَ حجالِ
قال ابن هشام: حِبال:
ابن طُلَيحة4 بن خُوَيلد.وابن أقْرَم: ثابت بن أقْرم الأنصاري.
قال ابن إسحاق: وعُكَّاشة بن محصن الذي قال لرسول الله صلى الله عليه
وسلم حين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"يدخل الجنة سبعون ألفًا من أمتي على صورة القمر ليلة البدر". قال: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم، قال:
"إنك منهم -أو اللهم اجعله منهم-"، فقام رجل من الأنصار، فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني
منهم، فقال:
"سبقك بها
عُكَّاشة وبردت الدعوةُ"5.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما بلغنا عن أهله:
"منا خيرُ فارس في العرب"، قالوا: ومن هو يا رسول الله؟ قال:
"عُكَّاشة بن مِحْصَن"، فقال ضرار بن الأزْور الأسدي: ذاك رجل منا يا رسول الله، قال:
"ليس منكم ولكنه منا للحِلْف".
قال ابن هشام: ونادى أبو بكر الصديق ابنَه عبد الرحمن، وهو يومئذ مع
المشركين، فقال أين مالي يا خبيثُ؟ فقال عبد الرحمن:
لم يَبْقَ غيرُ شِكَّةٍ ويَعْبوبْ
وصارمٌ يَقْتلُ ضُلاَّلَ الشِّيبْ6
فيما ذكر لي عن عبد
العزيز بن محمد الدَّرَاوَرْدي.
طرح المشركين في القليب: قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن رومان عن عُروة
بن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الأذواد: جمع ذود، ما بين الثلاثة إلى العشرة من الإبل. والفرغ: أن
يطل الدم.
2 الحمالة: اسم فرس. ونزال: اسم فعل أمر بمعنى أنزل.
3 الجلال ما يلبسه الفرس لصيانته.
4 هو ابن أخيه لا ابنه وهو: حبال بن مسلمة بن خويلد.
5 بردت الدعوة: ثبتت.
6 الشكة: السلاح. واليعبوب: الفرس الكثير الجري.
ج / 2 ص -204-
الزبير
عن عائشة، قالت: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقتلى أن
يُطرحوا في القَليب طُرحوا فيه، إلا ما كان من أمية بن خلف، فإنه انتفخ
في دِرْعه فملأها، فذهبوا ليحركوه، فتزايل لحمه، فأقروه وألقوا عليه ما
غيبه من التراب والحجارة. فلما ألقاهم في القليب، وقف عليهم رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقال:
"يأهلَ القَليب. هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقًّا؟ فإني قد وجدت ما وعدني
ربي حقًّا".
قالت: فقال له أصحابه: يا رسول الله. أتكلم قومًا مَوْتَى؟ فقال لهم:
"لقد علموا أن ما وعدَهم ربُّهم حقًّا".
قالت عائشة: والناس يقولون: لقد سمعوا ما قلت لهم، وإنما قال لهم رسول
الله صلى الله عليه وسلم:
"لقد
علموا".
قال ابن إسحاق: وحدثني حُمَيد الطويل، عن أنس بن مالك، قال: سمع أصحابُ
رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، رسولَ الله صلى الله عليه وسلم من جَوف
الليل وهو يقول:
"يأهلَ القَليب، يا عتبةَ بن ربيعة، ويا شَيْبة بن ربيعة، ويا أمية بن
خلف، ويا أبا جهل بن هشام، فعدَّد من كان منهم في القَليب: هل وجدتم ما
وعدَ ربُّكم حقًّا؟ فإني قد وجدتُ ما وعدني ربي حقًّا؟" فقال المسلمون: يا رسول الله، أتنادي قومًا قد جيفُوا؟ قال:
"ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يستطيعون أنَ يجيبوني".
قال ابن إسحاق: وحدثني بعضُ أهل العلم: أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال يوم هذه المقالة:
"يأهل القَليب،
بئس عشيرةُ النبي كنتم لنبيكم، كذبتموني وصدقني الناس، وأخرجتموني
وأواني الناس، وقاتلتموني ونصرني الناس"، ثم
قال:
"هل وجدتم ما وعدَكم ربُّكم حقًّا؟ للمقالة التي قال".
شعر حسان في ذلك: قال ابن إسحاق: وقال حسانُ بن ثابت:
عرفتُ ديارَ زَيْنبَ بالكَثيبِ
كخَطِّ الوَحْي في الورقِ القَشيبِ
تداولُها الرياحُ وكل جَوْنٍ
من الوَسْمِي منهمر سكوبِ1
فأمسى رسمها خَلَقًا وأمستْ
يبابًا بعدَ ساكِنِها الحبيبِ
فدعْ عنك التذكُّرَ كلَّ يومٍ
ورُدَّ حرارةِ الصدرِ الكئيبِ
ج / 2 ص -205-
وخَبِّر بالذي لا عَيْبَ فيه
بصِدْقٍ غيرِ إخبارِ الكذوبِ
بما صنع المليكُ غَداةَ بدر
لنا في المشركين من النَّصيبِ
غداةَ كأن جَمَعَهُئم حِراءٌ
بدتْ أركانُة جُنْح الغروبِ
فلاقَيناهُمُ منا بجَمْع
كأسْد الغابِ مردانٍ وشيبِ
أمامَ محمد قد وازروه
على الأعداءِ في لَفْحِ الحروبِ
بأيديهم صَوارمُ مُرهَفات
وكلُّ مجرَّب خَاظِي الكُعوبِ1
بنو الأوسِ الغَطارفُ وازرَتْها
بنو النجارِ في الدينِ الصليبِ2
فغادرنا أبا جهل صريعًا
وعُتبةَ قد تركنا بالجَبوبِ3
وشَيْبةَ قد تركنا في رجال
ذوي حسبٍ إذا نُسبوا حسيبِ
يناديهم رسولُ الله لما
قذفناهم كباكِبَ في القَليبِ4
ألم تجدوا كلامي كان حَقُّا
وأمرُ الله يأخدُ بالقَلوبِ؟
فما نطقوا، ولو نطقوا
لقالوا:
صدقتَ وكنتَ ذا رأيٍ مُصيبِ
قال ابن إسحاق: ولما أمر
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُلقوا في القَليب، أخذ عتبة بن
ربيعة، فسُحب إلى القليب. فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم -فيما
بلغني- في وجه أبي حذيفة بن عُتبة، فإذا هو كئيب قد تغير لونه، فقال:
"يا أبا حذيفة، لعلك قد دخلك من شأن أبيك شيء؟" أو كما قال صلى الله
عليه وسلم فقال: لا والله يا رسول الله، ما شككتُ في أبي ولا في مصرعه،
ولكني كنت أعرف من أبي رأيًا وحلمًا وفضلًا، فكنت أرجو أن يهديه ذلك
إلى الِإسلام، فلما رأيت ما أصابه، وذكرت ما مات عليه من الكفر، بَعْدَ
الذي كنت أرجو له، أحزنني ذلك، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم
بخير، وقال له خيرًا.
الفتية الذين نزل فيهم
{إِنَّ
الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ}
وكان الفتية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الخاظي: المكتنز.
2 الغطارف: السادة. والصليب: القوي.
3 الجبوب: وجه الأرض.
4 الكباكب: الجماعات.
ج / 2 ص -206-
الذين
قُتلوا ببدر، فنزل فيهم من القرآن، فيما ذكر لنا:
{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ
قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ
قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا
فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}
[النساء:97] فتية مُسَمَّين: من بني أسد بن عبد العزى بن قصي: الحارث
بن زمعة بن الأسود بن عبد المطلب بن أسد.
ومن بني مخزوم: أبو قيس بن الفاكه بن المغيرة بن عبد الله بن عُمر بن
مخزوم، وأبو قَيْس بن الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم.
ومن بني جمَح: علي بن أمية بن خلف بن وهب بن حُذافة بن جُمَح.
ومن بني سهم: العاص بن مُنَبه بن الحجاج بن عامر بن حُذيفة بن سعد بن
سهم.
وذلك أنهم كانوا أسلموا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فلما
هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة حبسهم آباؤهم وعشائرهم
بمكة وفتنوهم فافتتنوا، ثم ساروا مع قومهم إلى بدر فأصيبوا به جميعًا.
فيء بدر: ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بما في العسكر، مما
جَمع الناس، فجُمع، فاختلف المسلمون فيه، فقال من جمعه: هو لنا. وقال
الذين كانوا يقاتلون العدو ويطلبونه: والله لولا نحن ما أصبتموه، لنحن
شَغلْنا عنكم القوم حتى أصبتم ما أصبتم، وقال الذين كانوا يحرسون رسول
الله صلى الله عليه وسلم مخافةَ أن يُخالف إليه العدو: والله ما أنتم
بأحق به منا، والله لقد رأينا أن نقتل العدو إن منحنا الله تعالى
أكتافه، ولقد رأينا أن نأخذ المتاع حين لم يكن دونَه من يمنعه، ولكنا
خِفنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كَرَّة العدو، فقمنا دونَه فما
أنتم بأحق به منا.
قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الرحمن بن الحارث وغيره من أصحابنا عن
سليمان بن موسى عن مكحول، عن أبي أمامة الباهلي -واسمه صُدَيُّ بن
عَجْلان فيما قال ابن هشام- قال: سألت عُبادة بن الصامت عن الأنفال،
فقال: فينا أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل، وساءت فيه أخلاقنا،
فنزعه الله من أيدينا، فجعله إلى رسوله، فقسمه رسول الله صلى الله عليه
وسلم بين المسلمين عن بَوَاء. يقول: على السواء.
قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي بكر، قال: حدثني بعضُ بني ساعدة
عن أبي أسَيد الساعدي مالك بن ربيعة، قال: أصبتُ سيف بني عائط
المخزوميين الذي يسمَّى المَرْزُبان يوم
ج / 2 ص -208-
بدر،
فلما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناسَ أن يردوا ما في أيديهم
من النَّفْل، أقبلتُ حتى ألقيته في النفل. قال: وكان رسول الله صلى
الله عليه وسلم لا يمنع شيئًا سُئله، فعرفه الأرقم بن أبي الأرقم،
فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعطاه إياه.
بُشرى الفتح: قال ابن إسحاق: ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عندَ
الفتح عبدَ الله بن رَواحة بشيرًا إلى أهل العالية، بما فتح الله عز
وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين، وبعث زَيد بن حارثة
إلى أهل السَّافلة. قال أسامة بن زيد: فأتانا الخبر -حين سَوَّيْنا
الترابَ على رُقية ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، التي كانت عند
عثمان بن عفان. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خَلفني عليها مع
عثمان- أن زيد بن حارثة قد قدم. قال: فجئته وهو واقف بالمصلى قد غشيه
الناس، وهو يقول: قُتل عتبة بن ربيعة، وشيْبة بن ربيعة، وأبو جهل بن
هشام، وزَمْعَة بن الأسود، وأبو البَخْتري العاص بن هشام، وأمية بن
خلف، ونُبيه ومُنبه ابنا الحجاج. قال: قلت: يا أبتِ، أحقٌّ هذا؟ قال:
نعم، والله يا بني.
الرجوع إلى المدينة: ثم أقبل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قافلًا إلى
المدينة، ومعه الأسارى من المشركين، وفيهم عُقبة بن أبي مُعَيْط،
والنَّضر بن الحارث، واحتمل رسول الله صلى الله عليه وسلم معه النفل
الذي أصيب من المشركين، وجعل على النفل عبدَ الله بن كعب بن عمرو بن
عَوْف بن مبذول بن غَنْم بن مازن بن النجار فقال راجز من المسلمين قال
ابن هشام: يقال: إنه عدي بن أبي الزَّغْباء:
أقِمْ لها صدورَها يا بَسْبَسُ
ليس بذي الطَّلْحِ لها مُعَرَّسُ
ولا بصحراءِ غُمَيْر مَحْبَس
إن مطايا القومِ لا تُخَيَّس1
فحمْلُها على الطريق أكْيَس
قد نصر الله وفرَّ الأخْنَسُ
ثم أقبل رسول الله صلى
الله عليه وسلم حتى إذا خرج من مَضيق الصفراء نزل على كثيب بين المضيق
وبين النازية -يقال له: سير- إلى سَرْحة به فقسم هنالك النفل الذي أفاء
الله على المسلمين من المشركين على السواء، ثم ارتحل رسول الله صلى
الله عليه وسلم، حتى إذا كان بالروحاء لقيه المسلمون يهنئونه بما فتح
الله عليه ومن معه من المسلمين، فقال لهم سَلَمة بن سلامة -كما حدثني
عاصم بن عُمر بن قتادة، ويزيد بن رُومان-: ما الذي تهنئوننا به؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لا تخيس: لا تحبس.
ج / 2 ص -209-
قال:
تقول سَوْدة: والله إني لعندهم إذ أتينا، فقيل: هؤلاء الأسارى، قد أتى
بهم. قالت: فرجعتُ إلى بيتي، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم فيه، وإذا
أبو يزيد سُهيل بن عمرو في ناحية الحجرة، مجموعة يداه إلى عُنقه بحبل
قالت: فلا والله ما ملكت نفسي حين رأيت أبا يزيد كذلك أن قلت: أي أبا
يزيد: أعطيتم بأيديكم، ألا مُتم كرامًا، فوالله ما أنبهني إلا قول رسول
الله صلى الله عليه وسلم من البيت:
"يا سَوْدة، أعلى الله ورسوله تُحرّضين؟!" قالت: قلتُ: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق، ما ملكت نفسي حين
رأيت أبا يزيد مجموعة يداه إلى عنقه أن قلتُ ما قلتُ.
الإيصاء بالأسارى: قال ابن إسحاق: وحدثني نُبيه بن وهب، أخو بني عبد
الدار، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أقبل بالأسارى فرقهم بين
أصحابه، وقال:
"استوصوا بالأسارى خيرًا". قال: وكان أبو عزيز بن عُمَير بن هاشم، أخو مُصْعَب بن عُمير
لأبيه وأمه في الأسارى.
قال: فقال أبو عزيز: مَرَّ بي أخي مُصْعب بن عُمير ورجل من الأنصار
يأسرني، فقال: شد يديك به، فإن أمه ذات متاع، لعلها تفديه منك، قَال
وكنت في رَهط من الأنصار حين أقبلوا بي من بدر، فكانوا إذا قدَّموا
غداءهم وعشاءهم خصوني بالخبز، وأكلوا التمر، لوصية رسول الله صلى الله
عليه وسلم إياهم بنا، ما تقع في يد رجل منهم كسرة خبز إلا نفحني بها.
قال: فأستحيي فأردها على أحدهم، فيردها عليَّ ما يمسها.
بلوغ مصاب قريش في رجالها إلى مكة: قال ابن هشام: وكان أبو عزيز صاحب
لواء المشركين ببدر بعد النَّضر بن الحارث، فلما قال أخوه مُصْعب بن
عُمَير لأبى اليَسَر، وهو الذي أسره، ما قال، قال له أبو عَزيز: يا
أخي، هذه وَصاتُك بي، فقال له مُصْعَب: إنه أخي دونَك. فسألتْ أمه عن
أغلى ما فُدِي به قُرشي، فقيل لها: أربعة ألاف درهم، فبعثته بأربعة
الاف درهم، ففدته بها.
قال ابن إسحاق: وكان أول من قدم مكة بمصاب قريش الحَيْسُمان بن عبد
الله الخُزاعي، فقالوا: ما وراءك؟ قال: قُتل عُتبة بن ربيعة، وشَيْبة
بن ربيعة، وأبو الحكم بن هشام، وأمية بن خَلف، وزَمْعة بن الأسود،
ونُبيه ومُنبه ابنا الحجاج، وأبو البَخْتري بن هشام، فلما جعل يعدد
أشرافَ قريش قال صفوان بن أمية، وهو قاعد في الحِجْر: والله إن يَعْقل
هذا فاسئلوه عني فقالوا: ما فعل صَفْوان بن أمية؟ قال: ها هو ذاك
جالسًا في الحِجْر، وقد والله رأيت أباه وأخاه حين قُتلا.
ج / 2 ص -210-
قال
ابن إسحاق: وحدثني حُسين بن عبد الله بن عُبيد الله بن عباس، عن
عِكْرمة مولى ابن عباس، قال: قال أبو رافع مولى رسول الله صلى الله
عليه وسلم: كنتُ غلامًا للعباس بن عبد المطلب، وكان الِإسلام قد أدخلنا
أهل البيت، فأسلم العباس وأسلمت أم الفضل وأسلمتُ وكان العباس يهاب
قومَه ويكره خلافَهم وكان يكتم إسلامه، وكان ذا مال كثير متفرق في
قومه، وكان أبو لهب قد تخلَّف عن بدر، فبعث مكانه العاصي بن هشام بن
المغيرة، وكذلك كانوا صنعوا، لم يتخلف رجل إلا بعث مكانه رجلًا، فلما
جاءه الخبر عن مصاب أصحاب بدر من قريش، كبته الله وأخزاه، ووجدنا في
أنفسنا قوةً وعِزًّا. قال: وكنت رجلًا ضعيفًا، وكنت أعمل الأقداح،
أنحتها في حُجرة زمزم، فوالله إني لجالس فيها أنحت أقداحي، وعندي أمُّ
الفضل جالسة، وقد سَرَّنا ما جاءنا من الخبر، إذ أقبل أبو لهب يجر
رجليه بِشَر. حتى جلس على طُنُب الحجرة1، فكان ظهره إلى ظهري. فبينما
هو جالس إذ قال الناس: هذا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب -قال ابن
هشام: واسم أبي سفيان المغيرة- قد قدم. قال: فقال أبو لهب: هلمَّ
إليَّ، فعندك لعمري الخبر، قال: فجلس إليه والناس قيام عليه، فقال:
يابن أخي، أخبرني كيف كان أمر الناس؟ قال: والله ما هو إلا أن لقينا
القومَ فمنحناهم أكتافنا يقودوننا كيف شاءوا، ويأسروننا كيف شاءوا،
وايم الله مع ذلك ما لُمت الناس، لقينا رجالًا بيضًا، على خَيْل بُلْق،
بين السماء والأرض، والله ما تُليق شيئًا2، ولا يقوم لها شيء. قال أبو
رافع: فرفعت طُنُب الحجرة بيدي، ثم قلت: تلك والله الملائكة قال: فرفع
أبو لهب يده فضرب بها وجهي ضربةً شديدة. قال: وثاورْتُه3 فاحتملني فضرب
بي الأرض، ثم برك عليَّ يضربني، وكنت رجلًا ضعيفًا. فقامت أم الفضل إلى
عمود من عُمد الحجرة، فأخذته فضربته فلَعت4 في رأسه شَجَّة منْكَرة،
وقالت: استضعفته أن غاب عنه سيدُه؟ فقام مُولِّيا ذليلا، فوالله ما عاش
إلا سبعَ ليالٍ حتى رماه الله بالعَدَسة5 فقتلته.
قال ابن إسحاق: وحدثني يحيى بن عَبَّاد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه
عَبَّاد، قال: ناحت قريش على قتلاهم، ثم قالوا: لا تفعلوا فيبلُغَ
محمدًا وأصحابَه، فيشمَتوا بكم ولا تبعثوا في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 طنب الحجرة: طرفها.
2 لا تبقى شيئا.
3 ثاورته: وثبت إليه.
4 لعت: شقت.
5 العدسة: بثرة خطرة تخرج في الجسم تشبه الطاعون تقتل صاحبها سريعا.
ج / 2 ص -211-
أسراكم
حتى تسْتأنوا بهم لا يأرب1 عليكم محمد وأصحابه في الفداء. قال وكان
الأسود بن المطَّلب قد أصيب له ثلاثة من ولده، زَمعة بن الأسود، وعَقيل
بن الأسود، والحارث بن زَمعة، وكان يحب أن يبكي على بنيه، فبينما هو
كذلك إذ سمع نائحةً من الليل، فقال لغلام له، وقد ذهب بصره: انظر هل
أحِلَّ النَّحْب، هل بكت قريش على قتلاها؟ لعلى أبكي على أبي حكيمة،
يعني زمعة، فإن جوفي قد احترق قال: فلما رجع إليه الغلام قال: إنما هي
امرأة تبكي على بعير لها أضلته. قال: فذاك حين يقول الأسود:
أتبكي أن يَضلَّ لها بعيرٌ
ويمنعُها من النومِ السُّهودُ
فلا تبكي على بَكْر ولكن
على بدرٍ تقاصرتِ الجُدودُ
على بدرٍ سَرَاةِ بني هُصيْصٍ
ومخزومٍ ورَهْط أبي الوليدِ
وبَكِّي إن بكيتِ على عَقيل
وبكّي حارثًا أسَدَ الأسودِ
وبكيِّهم ولا تَسَمى جميعًا
وما لأبي حَكيمةَ من نَدِيدِ2
ألا قد ساد بعدَهُمُ رجال
ولولا يومُ بدر لم يَسُودوا
قال ابن هشام: هذا
إقواء، وهي مشهورة من أشعارهم، وهي عندنا إكفاء3. وقد أسقطنا من رواية
ابن إسحاق ما هو أشهر من هذا.
قال ابن إسحاق: وكان في الأسارى أبو وَداعة بن ضُبَيْرة السَّهْمي،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن له بمكة ابنًا كَيِّسًا تاجرًا
ذا مال، وكأنكم به قد جاءكم في طلب فداء أبيه"، فلما قالت قريش: لا
تعجلوا بفداء أسراكم لا يأرب عليكم محمد وأصحابه، قال المطلب بن أبي
وَداعة -وهو الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عني-: صدقتم، لا
تعجلوا، وانسلَّ من الليل فقدم المدينة، فأخذ أباه بأربعة آلاف درهم،
فانطلق به.
فداء سُهَيل بن عمرو: قال، ثم بعثت قريش في فداء الأسارى، فقدم مِكْرَز
بن حفص بن الأخْيف في فداء سُهَيل بن عمرو، وكان الذي أسره مالك بن
الدُّخْشُم، أخو بني سالم بن عوف، فقال:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي تأخروا في فدء أسراكم حتى لا يشتد عليكم في الفداء.
2 تسمى: تسامى. والنديد: الشبيه.
3 الإقواء والإكفاء: عيوب في قافية الشعر.
ج / 2 ص -212-
أسرتُ سُهيْلا فلا أبتغي
أسيرًا به من جميعِ الأممْ
وخِنْدف تعلم أنَّ الفتى
فتاها سُهَيل إذا يُظَّلَمْ
ضربتُ بذي الشَّفْر حتى انثنى
وأكرهتُ نفسي على ذي العَلَمْ
وكان سُهَيل رجلًا أعلم
من شفته السُّفْلَى1.
قال ابن هشام: وبعض أهل العلم بالشعر ينكر هذا الشعر لمالك بن
الدُّخْشُم.
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن عمرو بن عطاء، أخو بني عامر بن لُؤَي،
أن عمر بن الخطاب قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله،
دعني أنزع ثنيتي سَهل بن عمرو، ويَدْلَع2 لسانه، فلا يقوم عليك خطيبًا
في موطن أبدًا: قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لا
أمثِّل به فيمثل الله بي وإن كنت نبيًّا".
قال ابن إسحاق: وقد بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر في
هذا الحديث: "إنه عسى أن يقوم مقامًا لا تَذمُّه".
قال ابن هشام: وسأذكر حديث ذلك المقام في موضعه إن شاء الله تعالى.
قال ابن إسحاق: فلما قاولهم فيه مِكْرَز وانتهى إلى رضاهم، قالوا: هات
الذي لنا، قال: اجعلوا رجلي مكان رجله، وخلوا سبيله حتى يبعث إليكم
بفدائه، فخَلَّوْا سبيل سُهَيل، وحبسوا مِكْرزًا مكانه عندهم، فقال
مِكْرز:
فديتُ بأذوادٍ ثِمانٍ سِبا فَتى
ينال الصميمَ غُرمُها لا المواليا
رهنْتُ يدي والمالُ أيسرُ من يدي
عليَّ ولكني خَشيت المخازِيَا
وقلتُ: سُهيلٌ خيرُنا فاذهبوا به
لأبنائِنا حتى نُديرَ الأمانيا
قال ابن هشام: وبعض أهل
العلم بالشعر ينكر هذا لمِكْرَز.
أسر عمرو بن أبي سفيان: قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي بكر،
قال: كان عمرو بن أبي سفيان بن حرب، وكان لبنت عقبة بن أبي مُعَيْط
-قال ابن هشام: أم عمرو بن أبي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الأعلم: مشقوق الشفة العليا وليس السفلى.
2 يدلع: يخرج.
ج / 2 ص -213-
سفيان
بنت أبي عمرو، وأخت أبي مُعَيط بن أبي عمرو- أسيرًا في يَدَيْ رسول
الله صلى الله عليه وسلم، من أسرى بدر.
قال ابن هشام: أسره علي بن أبي طالب.
قال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر، قال: فقيل لأبي سفيان: أفد
عَمرًا ابنك، قال: أيجمع عليَّ دمي ومالي؟ قتلوا حَنْظلة، وأفْدِي
عَمرًا! دعوه في أيديهم يُمسكوه ما بدا لهم.
قال: فبينما هو كذلك، حبوس بالمدينة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم
إذ خرج سعدُ بن النعمان بن أكَّال، أخو بني عَمرو بن عَوْف ثم أحد بني
معاوية معتمرًا ومعه مُرَيَّةٌ له، وكان شيخًا مسلما، في غنم له
بالنَّقيع1 فخرج من هنالك معتمرًا، ولا يخشى الذي صُنع به، لم يظن أنه
يُحبس بمكة، إنما جاء معتمرًا. وقد كان عَهِدَ قريشًا لا يَعْرضون لأحد
جاء حاجًّا أو معتمرًا إلا بخير، فعدا عليه أبو سفيان بن حرب بمكة
فحبسه بابنه عَمْرو، ثم قال أبو سفيان:
أرهطَ ابنِ أكَّالٍ أجيبوا دُعاءَه
تعاقدتم لا تُسلموا السَّيدَ الكَهْلاَ
فإن بني عَمْرو لئامٌ أذِلةٌ
لئن لم يَفُكُّوا عن أسيرِهم الكَبْلا
فأجابه حسان بن ثابت
فقال:
لو كان سعد يومَ مكةَ مُطلقًا
لأكثر َفيكم قبلَ أن يُؤْسَرَالقَتْلا
بعَضْبٍ حُسَامٍ أو بصفراءَ نبعةٍ
تحنُّ إذا ما أنْبِضَتْ تَحْفِزُ النَّبلا2
ومشى بنو عمرو بن عوف
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبروه خبره، وسألوه أن يعطيَهم
عمرو بن أبي سفيان فيفكوا به صاحبهم، ففعل رسول الله صلى الله عليه
وسلم: فبعثوا به إلى أبي سفيان، فخلى سبيل سعد.
قصة زينب بنت الرسول وزوجها أبي العاص: قال ابن إسحاق: وقد كان في
الأسارى أبو العاص بن الربيع بن عبد العُزَّى بن عبد شمس، خَتْن رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وزوج ابنته زينب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 موضع قرب المدينة.
2 العضب: السيف القاطع. والصفراء النبعة: القوس المصنوعة من شجرة
النبع. وتحن: بصوت وترها. وأنبضت: تحرك وتر القوس استعدادًا للانطلاق.
وتحفز النبلا: ترميه.
ج / 2 ص -214-
قال
ابن هشام: أسرهِ خِرَاش بن الصِّمَّة، أحد بني حرام.
قال ابن إسحاق: وكان أبو العاص من رجال مكة المعدودين، مالًا، وأمانة،
وتجارة، وكان لهالة بنت خوَيْلد، وكانت خديجة خالته. فسألت خديجة رسول
الله صلى الله عليه وسلم أن يزوجه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم
لا يخالفها، وذلك قبل أن ينزل عليه الوحي، فزوَّجه، وكانت تعده بمنزلة
ولدها: فلما أكرم الله رسوله صلى الله عليه وسلم بنبوته آمنت به خديجة
وبناته، فصدَّقْنه، وشَهدْن أن ما جاء به الحق، ودِنَّ بدينه، وثبت أبو
العاص على شركه.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد زوج عُتبة بن أبي لهب رُقية، أو
أم كلثوم1. فلما بادى قريشًا بأمر الله تعالى وبالعداوة، قالوا: إنكم
قد فَرَّغْتم محمدًا من همه، فردُّوا عليه بناتِهِ، فاشغلوه بهنَّ
فمشوا إلى أبي العاص فقالوا له: فارق صاحبتك ونحن نزوجك أي امرأة من
قريش شئتَ، قال: لا والله، إني لا أفارق صاحبتي، وما أحب أن لي بامرأتي
امرأةً من قريش. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يثني عليه في
صِهْره خيرًا، فيما بلغني، ثم مشوا إلى عُتبة بن أبي لهب، فقالوا له:
طَلِّق بنت محمد ونحن ننكحك أي امرأة من قريش شئتَ: فقال: إن زوجتموني
بنت أبان بن سعيد بن العاص، أو بنت سعيد بن العاص فارقتها، فزوجوه بنت
سعيد بن العاص وفارقها، ولم يكن أدخل بها فأخرجها الله من يده كرامة
لها، وهوانًا له، وخَلَفَ عليها عثمانُ بن عفان بعده.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يُحل بمكة ولا يُحرم مغلوبًا على
أمره، وكان الِإسلام قد فرَّق بين زينب بنت رسول الله صلى الله عليه
وسلم حين أسلمت وبين أبي العاص بن الربيع، إلا أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم كان لا يقدر أن يفرق بينهما، فأقامت معه على إسلامها وهو على
شركه، حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما صارت قريش إلى بدر،
صار
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كانت رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت عتبة بن أبي لهب،
وأم كلثوم تحت عتيبة، فطلقاهما بعزم أبيهما وأمهما حين نزلت
{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [المسد: 1] فأما عتيبة فدعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يسلط
الله عليه كلبًا من كلابه فافترسه الأسد من بين أصحابه، وهم نيام حوله،
وأما عتبة ومعتب ابنا أبي لهب، فأسلما ولهما عقب. انظر الروض الأنف
بتحقيقنا ج3 ص68.
ج / 2 ص -215-
فيهم
أبو العاص بن الربيع فأصيب في الأسارَى يوم بدر، فكان بالمدينة عند
رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن إسحاق وحدثني يحيى بن عَبَّاد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه
عباد، عن عائشة قالت: لما بعث أهلُ مكة في فداءِ أسرائهم، بعثت زينب
بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في فداء أبي العاص بن الربيع بمال
وبعثت فيه بقلادةٍ لها كانت خديجة أدخلتها بها على أبي العاص حين بنى
عليها قالت: فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رَقَّ لها رِقةً
شديدة وقال:
"إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها، وتردوا عليها مالَها، فافعلوا؟" فقالوا: نعم يا رسول الله. فأطلقوه وردوا عليها الذي لها.
خروج زينب إلى المدينة:
قال: وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قد أخذ عليه، أو وعد رسول
الله صلى الله عليه وسلم ذلك، أن يخلي سبيل زينب، أو كان فيما شرط عليه
في إطلاقه، ولم يظهر ذلك منه ولا من رسول الله صلى الله عليه وسلم
فيُعلم ما هو، إلا أنه لما خرج أبو العاص إلى مكة وخُلي سبيله، بعث
رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة ورجلًا من الأنصار مكانه،
فقال: كونا ببطن يأجَج حتى تمر بكما زينب، فتصحباها حتى تأتياني بها.
فخرجا مكانَهما، وذلك بعد بدر بشهر أو شَيْعِه1، فلما قدم أبو العاص
مكة أمرها باللحوق بأبيها، فخرجت تَجَّهز.
قال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر، قال: حُدثت عن زينب أنها
قالت: بينا أنا أتجهز بمكة للحوق بأبي لقيتني هند بنت عتبة، فقالت: يا
بنت محمد، ألم يبلغني أنك تريدين اللحوق بأبيك؟ قالت: ما أردتُ ذلك،
فقالت: أي ابنة عمي، لا تفعلي، إن كانت لك حاجة بمتاع مما يرفق بك في
سفرك، أو بمال تتبلغين به إلى أبيك، فإن عندي حاجتك، فلا تَضْطَني2 مني
فإنه لا يدخل بين النساء ما بين الرجال. قالت: والله ما أراها قالت ذلك
إلا لتفعل، قالت: ولكني خِفتُها، فأنكرت أن أكون أريد ذلك، وتجهزت.
فلما فرغت بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم من جهازها قَدَّم لها
حَمُوها كِنانةُ بن الربيعِ أخو زوجها بعيرًا، فركبته، وأخذ قوسَه
وكنانته، ثم خرج بها نهارا يقود بها، وهي في هَوْدج
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 شيعه: قريب منه.
2 أي لا تستحي.
ج / 2 ص -216-
لها.
وتحدث بذلك رجال من قريش، فخرجوا في طلبها حتى أدركوها بذي طُوى، فكان
أول من سبق إليها هبَّار بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى،
والفِهْري، فروَّعها هَبَّار بالرُّمح وهي في هودجها، وكانت المرأة
حاملًا -فيما يزعمون- فلما رِيعتْ طرحتْ ذا بطنها. وبرك حموها كنانة،
ونثر كنانته، ثم قال: والله لا يدنو مني رجل إلا وضعت فيه سهمًا،
فتكَرْكر1 الناس عنه. وأتى أبو سفيان في جلَّة من قريش فقال: أيها
الرجل، كف عنا نبلَك حتى نكلمَك فكف، فأقبل أبو سفيان حتى وقف عليه،
فقال: إنك لم تُصب، خرجت بالمرأة على رءوس الناسِ علانية، وقد عرفتَ
مصيبتَنا ونكبتَنا، وما دخل علينا من محمد فيظن الناس إذا خرجت بابنته
إليه علانية على رءوس الناس من بين أظهرنا، أن ذلك عن ذُلّ أصابنا عن
مصيبتنا التي كانت، وأن ذلك منا ضَعْف ووَهْن، ولعَمري ما لنا بحبسها
عن أبيها من حاجة، ومالنا في ذلك من ثُؤْرة2، ولكن ارجع بالمرأة، حتى
إذا هدأت الأصواتُ، وتحدث الناس أن قد رددناها، فسُلَّها سِرًّا،
وألحقها بأبيها قال: ففعل. فأقامت لياليَ، حتى إذا هدأت الأصواتُ خرج
بها ليلًا حتى أسلمها إلى زيد بن حارثة وصاحبه، فقدما بها على رسول
الله صلى الله عليه.
قال ابن إسحاق: فقال عبد الله بن رواحة: أو أبو خَيْثمة، أخو بني سالم
بن عوف في الذي كان من أمر زينب -قال ابن هشام: هي لأبى خيثمة-:
أتاني الذي لا يقدرُ الناسُ قَدْرَه
لزينَب فيهم من عُقوقٍ ومَأثَم
وإخراجُها لم يُخْزَ فيها محمدٌ
على مَأقِطٍ وبيننا عِطْرُ مَنْشَمِ3
وأمسى أبو سفيانَ من حِلْفِ ضَمْضَمً
ومن حربنا في رَغْمَ أنفٍ ومَنْدم
قرنَّا ابنَه عَمرًا ومولَى يمينه
بذي حَلَقٍ جَلْد ِالصَّلاصلِ مُحكَمِ4
فأقسمْتُ لا تَنْفكُّ منا كتائب
سُراةُ خَميسٍ في لُهامٍ مُسَوَّمِ5
نزوعُ قريش الكفرِ حتى نَعُلَّها
بخاطمةٍ فوقَ الأنوفِ بميْسَمِ6
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تكركر: رجع.
2 الثؤرة: طلب الثأر.
3 المأقط: معترك الحرب، ومنشم امرأة كانت تبيع العطر فتحالف قوم على
الموت في قتال عدوهم وغمسوا أيديهم في عطرها فماتوا جميعا فضرب به
المثل في الشؤم.
4 ذي حلق: السلاسل. والصلاصل: صوت الحديد.
5 السراة: السادة، والخميس: الجيش، واللهام: الكثير، والمسوم: المعلم.
6 نزوع: نسوق، نعلها: نعيد عليهم الكرة.
ج / 2 ص -217-
ننزلهم أكنافَ نجدٍ ونخلةٍ
وإن يُتْهموا بالخيلِ والرَّجْلِ نُتهِمِ1
يد الدهرِ حتى لا يُعَوَّجُ سِربُنا
ونُلحقهم آثارَ عادٍ وجُرْهم2
ويندَم قومٌ لم يُطيعوا محمدًا
على أمرِهم وأيّ حين تَنَدُّمِ
فأبلغْ أبا سفيانَ إما لَقِيتَه
لئن أنتَ لم تُخلصْ سجودًا وتُسْلم
فأبشرْ بخزْيٍ في الحياةِ معُجَّلٍ
وسِرْبالِ قارٍ خالدًا في جَهنمِ
قال ابن هشام: ويروى:
وسربال نار.
قال ابن إسحاق: ومولى يمين أبي سفيان، الذي يعني: عامر بن الحضرمي: كان
في الأسَارَى وكان حلف الحضرمي إلى حرب بن أمية.
قال ابن هشام: مولى يمين أبي سفيان، الذي يعني: عُقبة بن عبد الحارث بن
الحضرمي، فأما عامر بن الحضرمي فقتل يوم بدر.
ولما انصرف الذين خرجوا إلى زينب لقيتهم هند بنت عتبة فقالت لهم:
أفي السِّلمِ أعْيارٌ جَفاءً وغِلظةً
وفي الحربِ أشباهُ النساءِ العَوارِكِ3
وقال كنانة بن الربيع في
أمر زينب، حين دفعها إلى الرجلين:
عَجبتُ لهبَّارٍ وأوباقِ قومِهِ
يريدون إخفاري ببنتِ محمدِ
ولستُ أبالي ما حَيِيتُ عديدهم
وما استجمَعَتْ قبضًا يَدِي بالمهتدِ
قال ابن إسحاق: حدثني
يزيد بن أبي حبيب، عن بُكَير بن عبد الله بن الأشَجّ، عن سليمان بن
يسار، عن أبي إسحاق الدَّوْسي. عن أبي هريرة. قال: بعث رسولُ الله صلى
الله عليه وسلم سَرِيَّة أنا فيها. فقال لنا:
"إن ظفرتم بهبَّار بن الأسود، أو الرجل الآخر الذي سبق معه إلى زينب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الأكناف: النواحي. نجد ما ارتفع من أرض الحجاز. ونخلة موضع قريب من
مكة وأتهم: أتى تهامة وهي ما انخفض من أرض الحجاز.
2 يد الدهر: أي أبد الدهر. والسرب: الطريق.
3 الأعيار: الحمير. والعوارك: الحيض.
ج / 2 ص -218-
-قال ابن هشام: وقد سمى ابنُ إسحاق الرجلَ في حديثه وقال: هو نافع بن
عبد قيس-
فحرِّقوهما
بالنار" قال، فلما كان الغدُ بعث إلينا. فقال:
"إني كنت أمرتُكم بتحريق هذين الرجلين إن أخذتموهما. ثم رأيت أنه لا
ينبغي لأحد أن يعذِّب بالنارِ إلا الله، فإن ظفرتم بهما فاقتلوهما".
إسلام أبي العاص بن الربيع:
قال ابن إسحاق: وأقام أبو العاص بمكة، وأقامت زينب عند رسول الله صلى
الله عليه وسلم بالمدينة. حين فرق بينهما الِإسلام. حتى إذا كان قُبَيل
الفتح، خرج أبو العاص تاجرًا إلى الشام، وكان رجلًا مأمونًا، بمال له
وأموال لرجال من قريش، أبضعوها معه، فلما فرغ من تجارته وأقبل قافلًا،
لقيته سَرِيَّة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأصابوا ماله، وأعجزهم
هاربًا، فلما قدمت السرية بما أصابوا من ماله، أقبل أبو العاص تحت
الليل حتى دخل على زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستجار
بها، فأجارته، وجاء في طلب مالهِ، فلما خرج رسولُ الله صلى الله عليه
وسلم إلى الصبح كما حدثني يزيدُ بن رومان فكبر وكبر الناس معه، صرخت
زينبُ من صُفَّة النساء: أيها الناس، إني قد أجرتُ أبا العاص بن
الربيع، قال: فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة أقبل
على الناس، فقال:
"أيها الناس! هل سمعتم ما سمعت؟"
قالوا: نعم؟ قال:
"والذي نفس
محمد بيده ما علمت بشيء من ذلك حتى سمعت ما سمعتُ، إنه يُجير على
المسلمين أدناهم". ثم انصرف رسول اللة صلى الله عليه وسلم، فدخل على ابنته، فقال:
"أي بُنَية، أكرمي مثواه، ولا يخلصنَّ إليك، فإنك لا تحلين له".
قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي بكر: أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم بعث إلى السَّرية الذين أصابوا مال أبي العاص، فقال لهم: "إن هذا الرجل منا حيثُ قد علمتم، أصبتم له مالًا، فإن تُحسنوا وتردوا
عليه الذي له، فإنا نُحب ذلك، وإن أبيتم فهو فَيْءُ الله الذي أفاء
عليكم، فأنتم أحقُّ به"،
فقالوا: يا رسول الله، بل نرده عليه، فردوه عليه، حتى إن الرجل ليأتي
بالدَّلْوِ، ويأتي الرجل بالشَّنَّة وبالِإداوة1، حتى إن أحدهم ليأتي
بالشَظاظ2، حتى ردوا عليه مالَه بأسرِه، لا يفقد منه شيئًا، ثم احتمله
إلى مكة، فأدى إلى كلِّ ذى مال من قريش مالَه، ومن كان أبضع معه، ثم
قال: يا معشر قريش، هل بقي لأحد منكم عندي مال لم يأخذه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الشنة: السقاء البالي، والإداوة: الإناء الصغير من الجلد.
2 الشظاظ: خشبة عقفاء تدخل فى عروتي الكيس، والجمع: أشظة.
ج / 2 ص -219-
قالوا:
لا. فجزاك الله خيرًا، فقد وجدناك وفِيًّا كريمًا، قال: فأنا أشهدُ أن
لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، والله ما منعني من الإسلام
عنده إلا تخوّفي أن تظنوا أني أردت أن آكلَ أموالَكم، فلما أداها الله
إليكم وفرغت منها أسلمتُ. ثم خرج حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه
وسلم.
قال ابن إسحاق: وحدثني داودُ بن الحُصَيْن عن عِكرمة عن ابن عباس قال:
رد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم زينبَ على النكاح الأول لم
يُحدثْ شيئًا1 بعد ستِ سنين.
قال ابن هشام: وحدثني أبو عبيدة: أن أبا العاص بن الربيع لما قَدِم من
الشام ومعه أموال المشركين، قيل له: هل لك أن تُسلم وتأخذ هذه الأموال،
فإنها أموال المشركين؟ فقال أبو العاص: بئس ما أبدأ به إسلامي أن أخون
أمانتي.
قال ابن هشام: وحدثني عبد الوارث بن سعيد التنَوري، عن داود بن أبي
هند، عن عامر الشَّعبي، بنحو من حديث أي عبيدة عن أبي العاص.
قال ابن إسحاق: فكان ممن سُمى لنا من الأسارى ممن مُنَّ عليه بغير
فداء، من بني عبد شمس بن عبد مناف: أبو العاص بن الربيع بن عبد
العُزَّى بن عبد شمس مَنَّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن
بعثت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بفدائه. ومن بني مخزوم بن
يقظة: المطَّلب بن حَنْطَب بن الحارث بن عُبَيدة بن عُمر بن مخزوم، كان
لبعض بني الحارث بن الخزرج، فتُرك في أيديهم حتى خَلَّوا سبيله. فلحق
بقومه.
قال ابن هشام: أسره خالد بن زَيْد، أبو أيوب الأنصاري، أخو بني
النجَّار.
قال ابن إسحاق: وَصَيْفي بن أبي رفاعة بن عابد بن عبد الله بن عُمر بن
مخزوم، تُرك في أيدي أصحابه، فلما لم يأتِ أحد في فدائه أخذوا عليه
ليبعثنَّ إليهم بفدائه، فخلَّوْا سبيله، فلم يَفِ لهم بشيء فقال حسان
بن ثابت في ذلك:
وما كان صَيفيٌّ ليُوفي ذمةً
قَفا ثعلبٍ أعيا ببعضِ الموارِدِ
قال ابن هشام: وهذا
البيت في أبيات له.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ويعارضه حديث عمرو بن شعيب أنه ردها عليه بنكاح جديد، ويمكن الجمع
بينهما أنه ردها عليه على مثل النكاح الأول في الصداق مثلا.
ج / 2 ص -220-
قال
ابن إسحاق: وأبو عزَّة، عَمرو بن عبد الله بن عثمان بن أهَيْب بن
حُذافة بن جُمَح، كان محتاجًا ذا بنات، فكلم رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فقال: يا رسول الله لقد عرفتَ مالي من مال، وإني لذو حاجة، وذو
عيال، فامنُنْ عليَّ؟ فمنَّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذ
عليه ألا يظاهر عليه أحدًا. فقال أبو عزة في ذلك، يمدح رسول الله صلى
الله عليه وسلم ويذكر فضله في قومه:
مَنْ مُبلغ عني الرسولَ محمدًا
بأنك حقٌّ والمليكُ حَميدُ
وأنت امرؤ تدعو إلى الحقِّ والهدَى
عليك من الله العظيمِ شهيدُ
وأنتَ امرؤ بوِّئتَ فينا مَباءةً
لها درجاتٌ سَهْلةٌ وصعودُ1
فإنك من حاربته لمُحارَبٌ
شَقِيّ ومن سالمته لسعيدُ
ولكن إذا ذُكرْتُ بدرًا وأهلَه
تأوَّب ما بي حَسرةٌ وقعودُ2
ثمن الفداء: قال ابن
هشام: كان فداء المشركين يومئذ أربعة آلاف درهم للرجل، إلى ألف درهم،
إلا من لا شيء له، فمنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه.
إسلام عُمير بن وَهْب بعد تحريض صفوان له على قتل الرسول
قال ابن إسحاق: وحدثني محمدُ بن جعفر بن الزبير، عن عُروة بن الزبير
قال: جلس عُمَيْر بن وهب الجُمحي مع صفوان بن أمية بعد مُصاب أهل بدر
من قريش -في الحِجْر- بيسير، وكان عُمير بن وهب شَيْطانًا من شياطين
قريش، وممن كان يُؤذِي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه،
ويَلْقَون منه عناءً وهو بمكة، وكان ابنهُ وهب بن عُمَيْر في أسارى
بدر.
قال ابن هشام: أسره رفاعة بن رافع أحد بني زُرَيْق.
قال ابن إسحاق: حدثني محمد بن جَعْفر بن الزُّبير، عن عُروة بن الزبير،
قال: فذكر أصحابَ القَليب ومُصابهم، فقال صفوان: والله إنْ في العيش
بعدهم خيرٌ؟ قال له عُمير: صدقتَ والله، أما والله لولا دَيْن عليَّ
ليس له عندي قضاء، وعيالٌ أخشى عليهم الضَّيْعةَ بعدي، لركبت إلى محمد
حتى أقتلَه، فإن لي قبلهم علة: ابني أسير في أيديهم قال: فاغتنمها
صفوان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بوئت: نزلت.
2 تأوب: رجع.
ج / 2 ص -221-
وقال:
عليَّ دينُك، أنا أقضيه عنك، وعيالُك مع عيالي أواسيهم.ما بَقُوا، لا
يَسَعُني شيء ويعجز عنهم فقال له عُمَير: فاكتم شأني وشأنك قال: أفعل.
قال: ثم أمر عُمير بسيفه، فشُحِذ له وسُمَّ، ثم انطلق حتى قَدِم
المدينة فبينا عمر بن الخطاب في نفر من المسلمين يتحدثون عن يوم بدر،
ويذكرون ما أكرمهم الله به، وما أراهم من عدوهم، إذ نظر عمر إلى
عُمَيْر بن وهب حين أناخ على باب المسجد متوشحًا السيفَ، فقال: هذا
الكلب عدوُّ الله عُمَيْر بن وَهْب، والله ما جاء إلا لشرٍّ. وهو الذي
حَرَّش بينَنا، وحَزَرنا1 للقوم يوم بدر.
ثم دخل عُمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله، هذا
عدو الله عُمَيْر بنَ وَهْب قد جاء متوشِّحًا سيفَه: قال:
"فأدخلْه عليَّ"،
قال: فأقبل عمر حتى أخذ بحمَّالة سيفه فرط عُنقه فلبَّبه بها، وقال
لرجال ممن كانوا معه من الأنصار: ادخلوا على رسول الله صلى الله عليه
وسلم فاجلسوا عنده، واحذروا عليه من هذا الخبيث، فإنه غير مأمون، ثم
دخل به على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمر آخذ بحمالة سيفه في عنقه،
قال:
"أرسلْه يا عمر، ادْنِ يا عُمير؟" فدنا ثم قال: انعموا صباحًا، وكانت تحيةَ أهلِ الجاهليةِ بينَهم،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"فقد أكرمنا الله بتحيةٍ خير من تحيتك يا عُمير، بالسلام: تحية أهل
الجنة". فقال: أما والله يا محمد إن كنتُ بها لحديثُ عهد. قال:
"فما جاء بك يا عمير؟" قال: جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم فأحْسنوا فيه، قال:
"فما بال السيفُ في عنقك؟" قال: قبَّحها الله من سيوف، وهل أغنتْ عنا شيئًا؟ قال:
"اصدقْني، ما الذي جئتُ له؟" قال: ما جئتُ إلا لذلك. قال:
"بل قعدتَ أنت وصفوان بن أمية في الحِجْر، فذكرتما أصحابَ القليب من
قريش، ثم قلت، لولا دين عليَّ وعيال عندي لخرجت حتى أقتلَ محمدًا،
فتحمل لك صفوان بدينك وعيالك، على أن تقتلني له، والله حائل بينك وبين
ذلك"، قال عُمَيْر: أشهد أنك رسول الله، قد كنا يا رسول الله نكذّبك بما
كنت تأتينا به من خبر السماء، وما ينزل عليك من الوحي، وهذا أمر لم
يحضره إلا أنا وصفوان، فوالله إني لأعلم ما أتاك به إلا الله، فالحمد
للّه الذي هداني للإِسلام وساقني هذا المساق، ثم شهد شهادةَ الحقِّ.
فقال
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 حرش: أفسد، والحرز: تقدير العدد تخمينا.
ج / 2 ص -222-
رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "فقهوا أخاكم في دينه، واقرئوه القرآن،
وأطلقوا له أسيره"، ففعلوا.
ثم قال: يا رسولَ الله، إني كنت جاهدًا على إطفاء نور الله، شديد الأذى
لمن كان على دين الله عز وجل، وأنا أحب أن تأذنَ لي، فأقدم مكة،
فأدعوهم إلى الله تعالى، وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، لعل الله
يهديهم، وإلا آذيتهم في دينهم كما كنت أوذي أصحابك في دينهم؟ فأذن له
رسول الله صلى الله عليه وسلم فلحق بمكة، وكان صفوان بن أمية حين خرج
عُمَيْر بن وهب، يقول: أبشروا بوقعة تأتيكم الآن في أيام، تنسيكم وقعة
بدر، وكان صفوان يسأل عنه الركبان، حتى قدم راكب فأخبره عن إسلامه،
فحلف أن لا يكلمه أبدًا، ولا ينفعه بنفع أبدًا.
قال ابن إسحاق: فلما قدم عُمير مكة، أقام بها يدعو إلى الإسلام، ويؤذِي
من خالفه أذًى شديدًا، فأسلم على يديه ناس كثير.
قال ابن إسحاق: وعُمير بن وهب، أو الحارث بن هشام، قد ذكر لي أحدهما،
الذي رأى إبليس حين نكص على عقبيه يوم بدر، فقيل: أين، أي سُراق؟
ومَثَلَ1 عدو الله فذهب، فأنزل الله تعالى فيه:
{وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ
لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ}. فذكر استدراج إبليس إياهم، وتشبهه بسُراقة بن مالك بن جُعْشم لهم،
حين ذكروا ما بينهم وبين بني بكر بن عبد مَناة بن كنانة في الحرب التي
كانت بينهم. يقول الله تعالى:
{فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ}
ونظر عدو الله إلى جنود الله من الملائكة، قد أيد الله بهم رسولَه صلى
الله عليه وسلم والمؤمنين على عدوهم
{نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي
أَرَى مَا لا تَرَوْنَ}. وصدق عدو الله، رأى ما لم يَرَوْا، وقال:
{إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ}[الأنفال: 48] فذكر لي أنهم كانوا يَرَوْنه في كل منزل في صورة
سراقة لا ينكرونه، حتى إن كان يوم بدر، والتقى الجمعان نكص على عقبيه،
فأوردهم ثم أسلمهم.
قال ابن هشام: نكص: رجع: قال أوْس بن حجر، أحد بني أسْد بن عَمرو بن
تميم:
نكصتُم على أعقابِكم يومَ جئتُمُ
تُزَجُّونَ أنفالَ الخميسِ العَرَمْرَمِ
وهذا البيت في قصيدة له.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مثل: ذهب في الأرض واختفى.
ج / 2 ص -223-
قال
ابن إسحاق: وقال حسان بن ثابت:
قومي الذين هُمُ آوَوْا نبيَّهم
وصدَّقوه وأهلُ الأرضِ كُفَّارُ
إلا خصائصَ أقوامٍ همُ سَلَفٌ
للصالحين مع الأنصارِ أنصارُ
مُسْتبشرين بقَسْمِ الله قولُهم
لما أتاهم كريمُ الأصلِ مُختارا
أهلًا وسهلًا ففى أَمْنٍ وفى
سَعَةٍ نعمَ النبي ونعمَ القَسْمُ والجارُ
فأنزلوه بدارٍ لا يُخاف بها
من كان جارَهمُ دارًا هىَ الدارُ
وقاسَمُوه بها الأموالَ إذ قدموا
مهاجرين
وقَسْمُ الجاحدِ النارُ
سِرنا وساروا إلى بَدْرٍ لِحيْنهمُ
لو يعلمون
يقينَ العلمِ ما ساروا
دَلاَّهُمُ بغرورٍ ثم أسْلَمهم
إن الخبيثَ لمن والاَه غَزَّارُ
وقال إني لكم جَار فأوردَهم
شَرَّ المواردِ فيه الخِزْي والعارُ
ثم التقينا فولَّوْا عن سَراتِهمُ
من مُنْجدينَ ومنهم فرقة غاروا1
قال ابن هشام: أنشدني
قولَه: "لما أتاهم كريمُ الأصلِ مختارُ" أبو زيد الأنصاري.
المطْعِمون من قريش:
قال ابن إسحاق: وكان المطعمون2 من قريش، ثم من بني هاشم بن عبد
مناف: العباس بن عبد المطلب بن هاشم.
ومن بني عبد شمس بن عبد مناف: عُتبة بن ربيعة بن عبد شمس.
ومن بني نَوْفل بن عبد مناف: الحارث بن عامر بن نَوْفل، وطُعَيْمة بن
عدي بن نوفل، يعتقبان ذلك.
ومن في أسد بن عبد العُزَّى: أبا البخْتري بن هشام بن الحارث بن أسد.
وحكيم بن حزام بن خويلد بن أسد: يعتقبان ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 السراة: الخيار. وغاروا: تفرقوا.
2 من يطعمون الحجيج أيام الموسم.
ج / 2 ص -224-
ومن
بني عبد الدار بن قُصي: النَّضْر بن الحارث بن كَلَدة بن علقمة بن عبد
مناف بن عبد الدار.
قال ابن هشام: ويقال: النضر بن الحارث بن عَلْقمة بن كَلَدة بن عبد
مناف بن عبد الدار.
قال ابن إسحاق: ومن بني مخزوم بن يقظة: أبا جهل بن هشام بن المغيرة بن
عبد الله بن عمر بن مخزوم.
ومن بني جُمح: أمية بن خلف بن وَهْب بن حُذافة بن جُمَح.
ومن بني سَهْم بن عَمرو: نُبَيها ومُنبِّهًا ابني الحجاج بن عامر بن
حُذيفة بن سعد بن سَهْم، يعتقبان ذلك.
ومن بني عامر بن لُؤَي: سُهيل بن عبد شمس بن عبد وُدّ بن نَصْر بن مالك
بن حِسْل بن عامر.
أسماء خيل المسلمين يوم بدو:
قال ابن هشام: وحدثني بعض أهل العلم: أنه كان مع المسلمين يوم بدر من
الخيل، فرس مَرْثَد بن أبي مَرْثَد الغَنَوِي، وكان يقال له: السبل
وفرس المِقْداد بن عَمْرو البَهْراني، وكان يقال له: بَعْزجة، ويقال
له: سَبْحة وفرس الزبير بن العوام، وكان يقال له: اليَعْسوب. قال ابن
هشام: ومع المشركين مائة فرس.
نزول سورة الأنفال تصف أحداث بدر:
قال ابن إسحاق: فلما انقضى أمر بدر، أنزل الله عز وجل فيه من القرآن
الأنفال بأسرها، فكان مما نزل منها في اختلافهم في النفل حين اختلفوا
فيه:
{يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ
وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 1] فكان عُبادة بن الصامت -فيما بلغني- إذا سُئل عن
الأنفال، قال: فينا معشر أهل بدر نزلت، حين اختلفنا في النفل يوم بدر،
فانتزعه الله من أيدينا حين ساءت فيه أخلاقُنا، فردَّه على رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فقسمه. بيننا عن بَوَاء -يقول على السواء- وكان في
ذلك تقوى الله وطاعته، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم وصلاح ذات
البين.
ثم ذكر القومَ ومسيرَهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين عرف
القومُ أن قريشًا
ج / 2 ص -225-
قد
ساروا إليهم، وإنما خرجوا يريدون العير طمعًا في الغنيمة، فقال:
{كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ، يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ
مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ
يَنْظُرُونَ}: أي كراهية للقاء القوم، وإنكارًا لمسير قريش، حين ذكروا لهم
{وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ
وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ}: أي الغنيمة دون الحرب
{وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ
دَابِرَ الْكَافِرِينَ}
[الأنفال: 57]: أي بالوقعة التي أوقع بصناديد قريش وقادتهم يوم بدر
{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ}: أي لدعائهم حين نظروا إلى كثرة عدوهم، وقلة عددهم {فَاسْتَجَابَ
لَكُمْ} بدعاء رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ودعائكم
{أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ، إِذْ
يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ}: أي أنزلت عليكم الأمنة حين نمتم لا تخافون
{وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} للمطر الذي أصابهم تلك الليلة، فحبس المشركين أن يسبقوا إلى الماء،
وخلى سبيل المسلمين إليه
{لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ
وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ} [الأنفال: 11]: أي ليذهب عنكم شك الشيطان، لتخويفه إياهم عدوهم
واستجلاد1 الأرض لهم، حتى انتهوا إلى منزلهم الذي سبقوا إليه عدوَّهم.
ثم قال تعالى:
{إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا
الَّذِينَ آمَنُوا}: أي آزروا الذين امنوا
{سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا
فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ، ذَلِكَ
بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}
[الأنفال: 12، 13]، ثم قال:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا
زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ، وَمَنْ يُوَلِّهِمْ
يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا
إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ
جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}: أي تحريضًا لهم على عدوهم لئلا ينكلوا عنهم إذا لقوهم، وقد وعدهم
الله فيهم ما وعدهم.
ثم قال تعالى، في رمي رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم بالحصباء من
يده، حين رماهم:
{وَمَا
رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى}: أي لم يكن ذلك برميتك، لولا الذي جعل الله فيها من نصرك، وما ألقى
في صدور عدوك منها حين هزمهم الله
{وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا} [الأنفال: 17]: أي ليعرف المؤمنين من نعمته عليهم في إظهارهم على
عدوهم، وقلة عددهم، ليعرفوا بذلك حقه، ويشكروا بذلك نعمته.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الاستجلاد: الشدة.
ج / 2 ص -226-
ثم
قال:
{إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ}: أي لقول أبي جهل: اللهم أقطعنا للرحمِ، وآتانا بما لا يُعرف،
فأحْنه الغَداة. والاستفتاح: الإنصاف في الدعاء.
يقول الله جل ثناؤه:
{وَإِنْ تَنْتَهُوا}: أي
لقريش
{فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ}: أي بمثل الوقعة التي أصبناكم بها يوم بدر:
{وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ
اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ}
[الأنفال: 19]: أي أن عددكم وكثرتكم في أنفسكم لن تغنيَ عنكم شيئًا،
وأني مع المؤمنين، أنصرهم على من خالفهم.
ثم قال تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا
تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ}.
أي لا تخالفوا أمره وأنتم تسمعون لقوله، وتزعمون أنكم منه،
{وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا
يَسْمَعُونَ}:
أي كالمنافقين الذين يظهرون له الطاعة، ويُسرون له المعصية
{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ
الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ}:
أي المنافقين الذين نهيتكم أن تكونوا مثلهم، بُكم عن الخير، صُم عن
الحق، لا يعقلون: لا يعرفون ما عليهم في ذلك من النقمة والتَّباعة1
{وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأسْمَعَهُمْ}2، أي لأنفذ لهم الذي قالوا بألسنتهم، ولكن القلوب خالفت ذلك منهم،
ولو خرجوا معكم
{لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ}
ما وفوا لكم بشيء مما خرجوا عليه
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ
إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}:
أي للحرب التي أعزكم الله بها بعد الذل، وقواكم بها بعد الضعف، ومنعكم
بها من عدوكم بعد القهر منهم لكم
{وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ
تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ
بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ،
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ
وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}
أى لا تظهروا له من الحق ما يرضى به منكم، ثم تخالفوه في السر إلى
غيره، فإن ذلك هلاك لأماناتكم، وخيانة لأنفسكم.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ
لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ
لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}: أي
فصلًا بين الحق والباطل، ليظهر الله به حقكم، ويطفئ به باطل من خالفكم.
ثم ذَكَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بنعمته عليه، حين مكر به القوم
ليقتلوه أو يُثبتوه أو يخرجوه
{وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}: أي فمكرت بهم بكيدي المتين حتى خلصتك منهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 التباعة: طلب الشخص بما ارتكب من المظالم.
2 لم يأت بجزء من الآية وهو
{وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ}.
ج / 2 ص -227-
ما نزل
في غرة قريش واستفتاحهم على أنفسهم: ثم ذكر غِرة قريش واستفتاحهم على
أنفسهم، إذ قالوا
{اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ} أي ما جاء به محمد
{فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ} كما أمطرتها على قوم لوط
{أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 27] أي بعض ما عذبت به الأمم قبلنا، وكانوا يقولون: إن
الله لا يعذبنا ونحن نستغفره، ولم يعذب أمة ونبيها معها حتى يخرجه
عنها. وذلك من قولهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم، فقال
تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم، يذكر جهالتهم وغرتهم واستفتاحهم على
أنفسهم، حين نعى سوء أعمالهم:
{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ
اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33] أي لقولهم: إنا نستغفر ومحمد بين أظهرنا، ثم قال
{وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ} وإن كنت بين أظهرهم، وإن كانوا يستغفرون كما يقولون
{وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}: أي من آمن بالله وعبده: أي أنت ومن أتبعك،
{وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا
الْمُتَّقُونَ}
الذين يحرمون حرمته ويقيمون الصلاة عنده: أي أنت ومن آمن بك
{وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ، وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ
عِنْدَ الْبَيْتِ}
التي يزعمون أنه يدفع بها عنهم
{إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً}
قال ابن هشام: المكاء: الصفير. والتصدية التصفيق. قال عنترة بن عَمرو
بن شداد العبْسي:
ولرُبَّ قِرْنٍ قد تركتُ مُجَدَّلًا
تَمكُو فريصتُهُ كشِدْقِ الأعْلمِ1
يعني: صوت خروج الدم من
الطعنة، كأنه الصفير: وهذا البيت في قصيدة له. وقال الطِّرِمَّاح بن
حكيم الطائي:
لها كلَّما رِيعت صَداة ورَكْدةَ
بمُصْدَانِ أعلَى ابنَي شَمامِ البَوائنِ2
وهذا البيت في قصيدة له.
يعني الأرْوِية، يقول: إذا فزعت قرعت بيدها الصَّفاةَ ثم ركدت -تسمع
صدى قرعها بيدها الصَّفاة- مثل التصفيق. والمُضْدان: الحِرْز وابنا
شمام جبلان.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مجدلا: وقع على الأرض. والفريصة: جزء فى مرجع الكتف. والأعلم مشقوق
الشفة العليا، ويريد به الجمل.
2 صداة: تصفير، والركدة: السكون، والمصدان: الجدران، وابنا شمام:
هضبتان بجبل شمام، والبوائن: المبتعدة.
ج / 2 ص -228-
قال
ابن إسحاق: وذلك ما لا يرضي الله عز وجل ولا يحبه، ولا ما افترض عليهم،
ولا ما أمرهم به
{فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [الأنفال: 34، 35]: أي لما أوقع بهم يوم بدر من القتل.
قال ابن إسحاق: وحدثني يحيى بن عَبَّاد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه
عباد، عن عائشة قالت: ما كان بين نزول:
{يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ}
[المزمل: 1]، وقول الله تعالى فيها:
{وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ
قَلِيلًا، إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا، وَطَعَامًا ذَا
غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا} إلا يسير، حتى أصاب الله قريشًا بالوقعة يوم بدر.
قال ابن هشام: الأنكال: القيود واحدها: نِكْل. قال رُؤبة بن العَجَّاج:
يكفيك نِكْلي بغي كلِّ نِكْلِ
وهذا البيت في أرجوزة
له.
ما نزل في معاوني أبي سفيان: قال ابن إسحاق: ثم قال الله عز وجل:
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا
عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ
حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ
يُحْشَرُونَ} يعني النفر الذين مشوا إلى أبي سفيان، وإلى من كان له مال من قريش
في تلك التجارة، فسألوهم أن يُقَووهم بها على حرب رسول الله صلى الله
عليه وسلم، ففعلوا.
ثم قال
{قُلْ
لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ
وَإِنْ يَعُودُوا} لحربك
{فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ}
أي من قتل منهم يوم بدر.
ما نزل من الأمر بقتال الكفار: ثم قال تعالى:
{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ
كُلُّهُ لِلَّهِ}:
أي حتى لا يُفتن مؤمن عن دينه، ويكون التوحيد للّه خالصًا ليس له فيه
شريك، ويُخلَع ما دونه من الأنداد
{فَإِنِ
انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ، وَإِنْ
تَوَلَّوْا} عن أمرك إلى ما هم عليه من كفرهم
{فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ} الذي أعزكم ونصركم عليهم يوم بدر في كثرة عددهم وقلة عددكم
{نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الأنفال: 39، 40].
ثم أعلمهم مَقاسِمَ الفيء وحكمه فيه، حين أحله لهم، فقال
{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ
خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى
وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ
وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ
الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
[الأنفال: 41] أي يوم فرقت فيه بين الحق والباطل بقدرتى يوم التقى
الجمعان منكم ومنهم
{إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا} من الوادي
{وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى}
من الوادي إلى مكة
{وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ}:
ج / 2 ص -229-
أي عير
أبي سفيان التي خرجتم لتأخذوها، وخرجوا ليمنعوها عن غير ميعاد منكم ولا
منهم {وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ} أي ولو كان ذلك عن ميعاد منكم ومنهم ثم بلغكم كثرة عددهم، وقلة
عددكم ما لقيتموهم
{وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} أي ليقضي ما أراد بقدرته من إعزاز الإسلام وأهله وإذلال الكفر
وأهله عن غير بلاء منكم ففعل ما أراد من ذلك بلطفه، ثم قال
{لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ
بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 42] أي ليكفر من كفر بعد الحجة لما رأى من الآية
والعبرة، ويؤمن من آمن على مثل ذلك.
ثم ذكر لطفه به وكيده له، ثم قال:
{إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ
كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ
اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الأنفال:43] فكان ما أراك من ذلك نعمه من نعمه عليهم، شجعهم بها
على عدوهم، وكف بها عنهم ما تُخوِّف عليهم من ضعفهم، لعلمه بما فيهم.
قال ابن هشام: تخوف: مبدلة من كلمة ذكرها ابن إسحاق ولم أذكرها1.
{وَإِذْ
يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا
وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ
مَفْعُولًا} [الأنفال: 44] أي ليؤلف بينهم على الحرب للنقمة ممن أراد الانتقام
منه، والإنعام على من أراد إتمام النعمة عليه من أهل ولايته.
ثم وعظهم وفهمهم وأعلمهم الذي ينبغي لهم أن يسيروا به في حربهم، فقال
تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً} تقاتلونهم في سبيل الله عز وجل
{فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} الذي له بذلتم أنفسكم، والوفاء له بما أعطيتموه من بيعتكم
{لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا
تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا}
أي لا تختلفوا فيتفرق أمركم
{وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} أي
وتذهب حدتكم
{وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 45، 46] أي أني معكم إذا فعلتم ذلك
{وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا
وَرِئَاءَ النَّاسِ}:
أي لا تكونوا كأبي جهل وأصحابه، الذين قالوا: لا نرجع حتى نأتي بدرًا
فننحر به الجُزر ونسقي بها الخمر، وتعزف علينا فيها القيان، وتسمع
العرب: أي لا يكون أمركم رياءً، ولا سُمعةً، ولا التماس ما عند الناس،
وأخلصوا للّه النية والحِسْبة في نصر دينكم، وموازرة نبيكم، لا تعملوا
إلا لذلك ولا تطلبوا غيره.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يقال: إنها تخوفت ولذلك أصلح ابن هشام اللفظ.
ج / 2 ص -230-
ثم قال
تعالى:
{وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا
غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ}.
قال ابن هشام: وقد مضى تفسير هذه الآية.
قال ابن إسحاق: ثم ذكر الله تعالى أهل الكفر، وما يلقون عند موتهم،
ووصفهم بصفتهم وأخبر نبيه صلى الله عليه وسلم عنهم، حتى انتهى إلى أن
قال:
{فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ
خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأنفال: 57] أي فنكِّل بهم من ورائهم لعلهم يعقلون
{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ
الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} إلى قوله تعالى:
{وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ
إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} [الأنفال: 59] أي لا يضيع لكم عند الله أجره في الآخرة، وعاجل خلفه
في الدنيا ثم قال تعالى:
{وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا}: أي إن دعوك إلى السلم على الإسلام فصالحهم عليه
{وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} إن الله كافيك
{إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.
قال ابن هشام: جنحوا للسَّلْم: مالوا إليك للسَّلْم. الجنوح: الميل.
قال لَبيد بن ربيعة:
جُنوحُ الهالِكي على يَدَيْه
مُكِبًّا يَجْتَلي نُقَبَ النِّصالِ1
وهذا البيت في قصيدة له
والسَّلْم أيضًا: الصلح، وفىِ كتاب الله عز وجل: {فَلا تَهِنُوا
وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ}[محمد: 35]،
ويقرأ: "إلى السِّلْم"، وهو ذلك المعنى. قال زُهَير بن أبي سُلْمى:
وقد قلتما إن نُدْرِك السّلْمَ واسعًا
بمالٍ ومعروفٍ من القولِ نَسْلَم
وهذا البيت في قصيدة له.
قال ابن هشام: وبلغني عن الحسن بن أبي الحسن البَصري، أنه كان يقول:
{وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ} للإِسلام. وفى كتاب الله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً}،[البقرة: 208] ويقرأ "في السَّلم" وهو الِإسلام. قال أمية بن أبي
الصَّلْت:
فما أنابُوا لسَلْمٍ حين تُنْذِرُهم
رُسْلُ الإلهِ وما كانوا له عَضُدا
وهذا البيت في قصيدة له.
وتقول العرب لدَلْو تُعمل مستطيلة: السَّلْم. قال طَرَفة بن العبد أحد
بني قَيْس بن ثَعْلبة، يصف ناقة له:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الهالكي: الحداد والصيقل نسبه إلى أول من عمل الحدادة وهو الهالك بن
أسد. ونقب النصال: جرب الحديد.
ج / 2 ص -231-
لها مِرْفقانِ أفتلانِ كأنما
تمرُّ بسَلمَي دالجٍ مُتشدد1
وهذا البيت في قصيدة له.
{وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ} هو من وراء ذلك
{هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ} بعد
الضعف
{وَبِالْمُؤْمِنِينَ، وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} على الهدى الذي بعثك الله به إليهم {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ
قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} بدينه الذي جمعهم عليه
{إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.[الأنفال:
62، 63].
ثم قال تعالى:
{يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ،
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ
يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ
يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا
بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [الأنفال: 64، 65]: أي لا يقاتلون على نية ولا حق ولا معرفة بخير
ولا شَر.
قال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي نَجيح عن عطاء بن أبي رَباح، عن
عبد الله بن عباس قال: لما نزلت هذه الآية اشتد على المسلمين، وأعظموا
أن يُقاتل عشرون مائتين، ومائة ألفًا، فخفف الله عنهم، فنسختها الآيه
الأخرى،
{الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا
فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ
وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ
وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:
66] قال: فكانوا على الشِّطر من عدوهم لم ينبغ لهم أن يفروا منهم، وإذا
كانوا دون ذلك لم يجب عليهم قتالهم، وجاز لهم أن يتحوزوا عنهم.
قال ابن إسحاق: ثم عاتبه الله تعالى في الأسارى، وأخذ المغانم، ولم يكن
أحد قبله من الأنبياء يأكل مغنما من عدو له.
قال ابن إسحاق: حدثني محمد أبو جعفر بن علي بن الحسين، قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم:
"نصرت بالرعب، وجُعلت لي
الأرض مسجدًا وطهورًا، وأعطيت جوامعَ الكلم، وأحلت لي الغنائمُ ولم
تُحْلَل لنبي كان قبلي، وأعطيت الشفاعة، خمس لم يؤتهن نبي قبلي".
قال ابن إسحاق: فقال:
{مَا كَانَ
لِنَبِيٍّ}: أي قبلك
{أَنْ يَكُونَ
لَهُ أَسْرَى} من عدوه
{حَتَّى
يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ}، أي يثخن2 عدوه، حتى ينفيه من الأرض
{تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا}:
أي المتاع، الفداء بأخذ الرجال
{وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ}: أي قتلهم لظهور الدين
الذي يريد إظهاره، والذي تدرك به الآخرة
{لَوْلا
كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ}:
أي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الدالج: الذي لحمل الدلو من البئر إلى الحوض ليفرغها فيه، فهو يمشي
متمهلا.
2 الإثخان هنا: التضييق.
ج / 2 ص -232-
من
الأسارَى والمغانم،
{عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 67، 68]: أي لولا أنه سبق مني أني لا أعذِّب إلا بعد
النهي، ولم يك نهاهم، لعذبتكم فيما صنعتم، ثم أحلَّها له ولهم رحمة
منه، وعائدة من الرحمن الرحيم،
{فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ
إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
[الأنفال: 69] ثم قال:
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ
الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ
خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ
رَحِيمٌ} [الأنفال: 70]
وحض المسلمين على التواصل، وجعل المهاجرين والأنصار أهل ولاية الدين
دون من سواهم، وجعل الكفار بعضهم أولياء بعض، ثم قال
{إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ
كَبِيرٌ}
[الأنفال: 73] أي إلا يوال المؤمن من دون الكافر، وإن كان ذا رحم به:
{تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ} أي شبهة في الحق والباطل، وظهور الفساد في إلأرض بتولي المؤمن
الكافر دون المؤمن.
ثم رد المواريث إلى الأرحام ممن أسلم بعد الولاية من المهاجرين
والأنصار دونهم إلى الأرحام التي بينهم، فقال:
{وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ
فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى
بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} أي بالميراث
{إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنفال: 75].
من حضر بدرا من المسلمين:
قال ابن إسحاق: وهذه تسمية من شهد بدرًا من المسلمين، ثم من قريش، ثم
من بني هاشم بن عبد مناف وبني المطلب بن عبد مناف بن قُصي بن كلاب بن
مُرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فِهْر بن مالك بن النَّضْر بن كِنانة.
محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد المرسلين، ابن عبد الله بن عبد
المطلب بن هاشم، وحمزة بن عبد المطلب بن هاشم، أسد الله، وأسد رسوله،
عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن
هاشم، وزَيْد بن حارثة بن شرَحْبيل بن كعب بن عبد العُزَّى بن امرئ
القيس الكلبي، أنعم الله عليه ورسوله صلى الله عليه وسلم قال ابن هشام:
زيد بن حارثة بن شَراحيل بن كعب بن عبد العُزى بن امرئ القيس بن عامر
بن النعمان بن عامر بن عبد وُدّ بن عَوْف بن كِنانة بن بكر بن عَوْف بن
عُذْرة بن زيد الله بن رُفَيْدة بن ثَوْر بن كعب بن وَبْرة.
قال ابن إسحاق: وأنسَة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو كَبْشة
مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن هشام: أنَسة: حَبشي، وأبو كبشة: فارسي.
ج / 2 ص -233-
قال
ابن إسحاق: وأبو مَرْثَد كَنَّاز بن حِصْن بن يربوع بنِ عمرو بن يربوع
بن خَرَشة بن سعد بن طريف بن جِلاَّنَ بن غنْم بن غَني بن يَعْصر بن
سعد بن قَيْس بن عَيْلان.
قال ابن هشام: كَنَّاز بن حُصيْن.
قال ابن إسحاق: وابنه مَرْثد بن أبي مرثد، حليفا حَمزة بن عبد المطلب،
وعُبيدة بن الحارث بن المطلب. وأخواه الطّفَيْل بن الحارث، والحُصَيْن
بن الحارث ومِسْطَح، واسمه عَوْف بن أثَاثة بن عَبَّاد بن المطلب. اثنا
عشر رجلًا.
ومن بني عبد شمس بن عبد مناف: عُثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن
عبد شمس، تخلف على امرأته رُقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فضرب
له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه، قال: وأجْرِي يا رسول الله،
قال: "وأجْرُك"، وأبو حذيفة بن ربيعة بن عبد شمس وسالم، مولى أبي
حذيفة.
قال ابن هشام: واسم أبي حُذيفة: مِهْشَم.
قال ابن هشام: وسالم، سائبة لثُبَيتة بنت يَغار بن زيد بن عُبيد بن زيد
بن مالك بن عَوْف بن عَمرو بن عوف بن مالك بن الأوس، سيَّبته فانقطع
إلى أبي حذيفة فتبناه ويقال: كانت ثُبيتة بنت يَعار تحت أبي حذيفة بن
عتبة، فأعتقت سالمًا سائبة، فقيل: سالم مولى أبي حذيفة.
قال ابن إسحاق: وزعموا أن صُبيحًا مولى أبي العاص بن أمية بن عبد شمس
تجهز للخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مرض، فحمل على بعيره
أبا سَلمة بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم ثم شَهد
صُبيح بعد ذلك المشاهد كلها مع رسول صلى الله عليه وسلم.
وشهد بدرًا من حلفاء بني عبد شمس، ثم من بني أسد بن خُزَيمة: عبد الله
بن جحش بن رئاب بن يَعْمَر بن صَبْرة بن مُرة بن كبير بن غَنْم بن
دُودان بن أسد، وعُكَّاشة بن مِحْصن بن حُرْثان بن قيس بن مرة بن كبير
بن غَنْم بن دودان بن أسد وشجاع بن وهب بن ربيعة بن أسد بن صُبَيْب بن
مالك بن كَبير بن غَنْم بن دُودان بن أسد، وأخوه عُقبة بن وهب، ويزِيد
بن رُقَيْش بن رِئاب بن يَعْمَر بن صَبْرة بن مُرة بن كبير بن غنْم بن
دودان بن أسد، وأبو سِنان بن مِحْصَن بن حُرْثان بن قيس، أخو عُكَّاشة
بن مِحْصَن، وابنه سِنان بن أبي سِنان ومُحْرِز بن نَضْلة بن عبد الله
بنمُرة بن كبير بن غَنْم بن دودان بن أسد، وربيعة بن أكثم بن سَخْبَرة
بن عَمرو بن لكَيْز بن عامر بن غَنم بن دودان بن أسد.
ج / 2 ص -234-
ومن
حلفاء بني كبير بن غَنْم بن دُودان بن أسد: ثَقْف بن عمرو، وأخواه:
مالك بن عمرو ومُدْلج بن عمرو.
قال ابن هشام: مِدْلاج بن عمرو.
قال ابن إسحاق: وهم من بني حجْش، آل بني سُلَيم. وأبو مخشي حليف لهم.
ستة عشر رجلًا.
قال ابن هشام: أبو مَخْشِي طائي، واسمه: سُوَيْد بن مَخْشِي.
قال ابن إسحاق: ومن بني نوفل بن عبد مناف: عُتبة بن غَزْوان بن جابر بن
وهب بن نسَيب بن مالك بن الحارث بن مازن بن منصور بن عِكْرمة بن
خَصَفَة بن قَيْس بن عَيْلان، وخَبَّاب، مولى عُتبة بن غَزْوان رجلان.
ومن بني أسد بن عبد العزى بن قصي: الزبير بن العوام بن خُوَيلد بن
أسَد، وحاطب بن أبي بَلْتعة، وسعد مولى حاطب. ثلاثة نفر.
قال ابن هشام: حاطب بن أبي بَلْتعة، واسم أبي بَلْتعة: عَمرو، لخمي،
وسعد مولى حاطب، كلبي.
قال ابن إسحاق: ومن بني عبد الدار بن قصي: مُصْعَب بن عُمَير بن هاشم
بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي، وسُوَيبط بن سعد بن حُرَيْملة بن
مالك بن عُمَيْلة بن السَّباق بن عبد الدار بن قصي، رجلان.
ومن بني زهرة بن كلاب: عبد الرحمن بن عَوْف بن عبد عَوْف بن عبد بن
الحارث بن زُهرة، وسعد بن أبي وقاج / 2 ص -وأبو وقاص مالك بن أهَيْب بن عبد
مناف بن زُهْرة- وأخوه عُمَير بن أبي وقاص.
ومن حلفائهم: المقداد بن عَمْرو بن ثعلبة بن مالك بن ربيعة بن ثمامة بن
مطرود بن عمرو بن سعد بن زُهير بن ثَوْر بن ثعلبة بن مالك بن الشَّريد
بن هَزْل بن قائش بن دُرَيْم بن القَّيْن بن أهْود بن بَهْراء بن عمرو
بن الحاف بن قُضاعة -قال ابن هشام: ويقال: هزل بن فاس بن ذر- ودَهِير
بن ثَوْر.
قال ابن إسحاق: وعبد الله بن مسعود بن الحارث بن شَمْخ بن مخزوم بن
صَاهِلة بن كَاهل بن الحارث بن تميم بن سعد بن هُذَيْل، ومسعود بن
ربيعة بن عمرو بن سعد بن عبد العُزَّى بن حَمَالة بن غالب بن مُحَلِّم
بن عائذة بن سُبَيْع بن الهَوْن بن خُزَيمة، من القَارَة.
ج / 2 ص -235-
قال
ابن هشام: القَارَة: لقب لهم. ويقال:
قد أنْصَفَ القَارَةَ من رَامَاهَا
وكانوا رُماة.
قال ابن إسحاق: وذو الشمالين بن عبد عَمرو بن نَضلة بن غُبْشان بن
سُلَيم بن مَلكان بن أفصى بن حارثة بن عمرو بن عامر، من خُزاعة.
قال ابن هشام: وإنما قيل له: ذو الشمالين؛ لأنه كان أعسر، واسمه
عُمَير. قال ابن إسحاق: وخَبَّاب بن الأرت، ثمانية نفر.
قال ابن هشام: خَبَّاب بن الأرت، من بني تميم، وله عَقِب، وهم بالكوفة،
ويقال: خُبَّاب من خُزاعة.
قال ابن إسحاق: ومن بني مخزوم بن يَقَظة بن مُرة: أبو سَلَمة عَتيق بن
عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تَيْم. قال ابن هشام: اسم أبي
بكر: عبد الله، وعَتيق: لقب، لحُسن وجهه وعتقه.
قال ابن إسحاق: وبلال، مولى أبي بكر، وبلال مُوَلَّد من مولدي بني
جُمَح، اشتراه أبو بكر من أمية بن خلف، وهو بلال ابن رَباح، لا عَقِب
له، وعامر بن فهَيْرة.
قال ابن هشام: عامر بن فُهَيرة، مُوَلَّد من مُولدي الأسْد، أسود،
اشتراه أبو بكر منهم.
قال ابن إسحاق: وصُهَيْب بن سِنان، من النَّمِر بن قاسط.
قال ابن هشام: النمر بن قاسط بن هِنْب بن أفْصى بن جَديلة بن أسد بن
ربيعة بن نزار ويقال: أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار،
ويقال: صهيب، مولى. عبد الله بن جُدْعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن
تَيْم ويقال: إنه رومي. فقال بعض من ذكر أنه من النمر بن قاسط: إنما
كان أسيرًا في الروم فاشتُرِيَ منهم، وجاء في الحديث عن النبي صلى الله
عليه وسلم:
"صُهيب سابقُ الروم".
قال ابن إسحاق: وطلحة بن عُبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن
تَيْم، كان بالشام، فقدم بعد أن رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من
بدر، فكلمه. فضرب له بسهمه فقال: وأجْرِي يا رسول الله؟ قال:
"وأجرك".
خمسة نفر.
قال ابن إسحاق: ومن بني مخزوم بن يَقَظة بن مُرة: أبو سَلَمة بن عبد
الأسد. واسم
ج / 2 ص -236-
أبى
سَلمة: عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عمر بن مخزوم، وشمَّاس بن
عثمان بن الشَّريد بن سُوَيْد بن هَرْمي بن عامر بن مخزوم.
قال ابن هشام: واسم شَمَّاس: عثمان، وإنما سُمي شماسًا؛ لأن شَماسًا من
الشَّمامِسة قَدِم مكة في الجاهلية، وكان جَميلًا، فعجب، الناس من
جماله. فقال عُتبة بن ربيعة وكان خال شماس: ها أنا آتيكم بشماس أحسن
منه، فأتى بابن أخته عثمان فسُمي شَماسًا، فيما ذكر، ابن شهاب الزهري
وغيره.
قال ابن إسحاق: والأرْقم بن أبي الأرْقم، واسم أبي الأرْقم: عبد مناف
بن أسد وكان أسد يُكنى: أبا جُنْدب بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وعمار
بن ياسر.
قال ابن هشام: عمار بن ياسر، عَنْسي، من مِذْحَج.
قال ابن إسحاق: ومُعَتِّب بن عَوْف بن عامر بن الفضل بن عَفيف بن كُليب
بن حُبْشِيَّة بن سَلُول بن كعب بن عمرو، حليف لهم من خزاعة، وهو الذي
يُدْعَى: عَيْهامة. خمسة نفر.
ومن بني عدي بن كعب: عُمر بن الخطاب بن نُفَيْل بن عبد العُزَّى بنِ
رباح بن عبد الله بن قُرْط بن رَزَاح بن عَدي، وأخوه زيد بن الخطاب.
ومِهْجَع، مولى عمر بن الخطاب، من أهل اليمن، وكان أول قتيل من
المسلمين بين الصفَّين يوم بدر، رُمِي بسهم.
قال ابن هشام: مِهْجع، من عَكّ بن عدنان.
قال ابن إسحاق: وعمرو بن سُرَاقة بن المعْتَمِر بن أنَس بن أذاة بن عبد
الله بن قُرْط بن رِياح بن رَزاح بن عَدي بن كعب، وأخوه عبد الله بن
سُراقة، وواقد بن عبد الله بن عبد مناف بن عُمر بن ثعلبة بنِ يَرْبوع
بن حَنْظَلة بن مالك بن زَيد مناة بن تميم، حليف لهم، وخوْلي بن أبي
خَوْلى، ومالك بن أبي خَوْلى، حليفان لهم. قال ابن هشام: أبو خَوْلي،
من بني عجل بن لُجَيْم بن صَعْب بن علي بن بكر بن وائل.
قال ابن إسحاق: وعامر بن ربيعة، حليف آل الخطاب، من عِنْز بن وائل.
قال ابن هشام: عِنْز بن وائل بن قاسط بن هُنْب بن أفْصى بن جَديلة بن
أسد بن ربيعة بن نزار، ويقال: أفْصى: بن دُعْمِي بن جديلة.
قال ابن إسحاق: وعامر بن البُكَير بن عبد يَالِيل بن ناشب بن غِيرَة،
من بني سعد بن ليْت، وعاقل بن البُكَيْر وخالد بن البُكَيْر، وإياس بن
البُكَيْر، حلفاء بني عدي بن كعب، وسعيد بن زيد بن عَمرو بن نُفيل بن
عبد العُزَّى بن عبد الله بن قِرْط بنِ رياح بن عدي بن كعب، قدم من
الشأم بعد ما قَدِم رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدر، فكلمه، فضرب
له رسول
ج / 2 ص -237-
الله
صلى الله عليه وسلم بسهمه، قال: وأجري يا رسول الله؟ قال:
"وأجرك". أربعة عشر رجلًا.
ومن بني جُمَح بن عَمرو بن هُصَيْص بن كعب: عثمان بن مظعون بن حبيب بن
وَهْب بن حُذافة بن جُمَح، وابنه السائب بن عثمان، وأخواه قُدامة بن
مَظعون، وعبد الله بن مَظْعون، ومَعْمَر بن حَبيب بن وهْب بن حُذافة بن
جُمَح، خمسة نفر.
ومن بني سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن خنيس بن حذافة بن قيس بن عدي بن
سعد بن سهم. رجل.
قال ابن إسحاق: من بني عامر بن لؤي، ثم من بني مالك بن حسل بن عامر:
أبو سَبْرة بن أبي رُهْم بن عبد العُزى بن أبي قيس بن عبد وُد بن نصر
بن مالك بن حِسْل، وعبد الله بن مَخْرَمة بن عبد العُزى بن قيْس بن عبد
وُد بن نصر بن مالك، وعبد الله بن سُهَيل بن عمرو بن عبد شمس بن عبد
وُدّ بن نصر بن مالك بن حِسْل -كان خرج مع أبيه سهيل بن عمرو، فلما نزل
الناس بدرًا فر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشهدها معه-
وعُمَيْر بن عَوْف، مولى سُهَيل بن عمرو، وسعد بن خَوْلة، حليف لهم.
خمسة نفر.
قال ابن هشام: سعد بن خَوْلة من اليمن.
قال ابن إسحاق: ومن بني الحارث بن فِهْر: أبو عُبيدة بن الجراح، وهو
عامر بن عبد الله بن الجراح بن هلال بن أهَيْب بن ضَبَّة بن الحارث،
وعمرو بن الحارث بن زُهَير بن أبي شداد بن ربيعة بن هلال بن أهَيْب بن
ضَبَّة بن الحارث، وسُهَيْل بن وهب بن ربيعة بن هلال بن أبي أهَيْب بن
ضَبَّة بن الحارث، وأخوه صفوان بن وَهْب، وهما ابنا بيضاء وعَمرو بن
أبي سَرْح بن ربيعة بن هلال بن أهَيْب بن ضَبَّة بن الحارث. خمسة نفر.
فجميع من شهد بدرًا من المهاجرين، ومن ضرب له رسول الله صلى الله عليه
وسلم بسهمه وأجره، ثلاثة وثمانون رجلًا.
قال ابن هشام: كثير من أهل العلم، غير ابن إسحاق، يذكرون في المهاجرين
ببدر، في بني عامر بن لؤي: وهب بن سعد بن أبي سَرْح، وحاطب بن عمرو.
وفي بني الحارث بن فهر: عياض بن زهير.
قال ابن إسحاق: وشهد بدرًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من
المسلمين، ثم من
ج / 2 ص -238-
الأنصار، ثم من الأوس بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر، ثم من بني
عبد الأشهل بن جُشَم بن الحارث بن الخزرج بن عَمرو بن مالك بن الأوس:
سعد بن مُعاذ بن النعمان بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشْهل وعَمرو
بن مُعاذ بن النعمان، والحارث بن أوْس بن معاذ بن النعمان، والحارث بن
أنس بن رافع بن امرئ القيس.
ومن بني عُبَيْد بن كعب بن عبد الأشهل: سعد بن زيد بن مالك بن عُبَيْد.
ومن بني زَعُورا بن عبد الأشهل -قال ابن هشام: ويقال: زُعُورا- سَلَمة
بن سلامة بن وَقَش بن زُغبة، وعَبَّاد بن بِشر بن وَقَش بن زغبة بن
زعورا، وسَلَمة بن ثابت بنِ وَقَش، ورافع بن يزيد بن كُرْز بن سَكَن بن
زَعُورا، والحارث بن خزمة بن عدي بن أبي بن غَنْم بن سالم بن عَوْف بن
عمرو بن عوف بن الخزرج حليف لهم من بني عَوْف بن الخزرج، ومحمد بن
مَسْلمة بن خالد بن عدي بن مَجْدَعة بن حارثة بن الحارث حليف لهم من
بني حارثة بن الحارث، وسَلَمة بن أسْلم بن حَريش بن عدي بن مَجْدَعة بن
حارثة بن الحارث، حليف لهم من بني حارثة بن الحارث.
قال ابن هشام: أسلم: بن حُرَيْس بن عَدِي قال ابن إسحاق: وأبو
الهَيْثَم بن التَّيهان، وعُبيد بن التَّيهان.
قال ابن هشام: ويقال: عتيك بن التَّيهان.
قال ابن إسحاق: وعبد الله بن سَهْل. خمسة عشر رجلًا.
قال ابن هشام: عبد الله بن سهل: أخو بني زَعُورا، ويقال: غَسَّان.
قال ابن إسحاق: ومن بني ظَفَر، ثم من بني سَوَاد بن كعب، وكعب: هو
ظَفَر. قال ابن هشام: ظفر: بن الخزرج بن عَمرو بن مالك بن الأوْس:
قَتَادة بن النعمان بن زيد بن عامر بن سوَاد، وعُبَيْد بن أوْس بن مالك
بن سَوَاد. رجلان. قال ابن هشام: عُبَيْد بن أوْس الذي يقال له:
مُقَرِّن؛ لأنه قَرَن أربعةَ أسرى في يوم بدر. وهو الذي أسر عَقيل بن
أبي طالب يومئذ.
قال ابن إسحاق: ومن بني عبد بن رِزَاح بن كعب: نصر بن الحارث بن عَبْد،
ومُعَتِّب بن عبد.
ومن حلفائهم، من بَلِيٍّ: عبد الله بن طارق، ثلاثة نفر.
ج / 2 ص -239-
ومن
بني حارثة بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس: مسعود بن سعد
بن عامر بن عَدي بن جُشَم بن مَجْدعة بن حارثة.
قال ابن هشام: ويقال: مسعود بن عبد سعد.
قال ابن إسحاق: وأبو عَبْس بن جَبْر بن عمرو بن زيد بن جُشَم بن
مَجْدعة بن حارثة.
ومن حلفائهم، ثم من بلي: أبو بُرْدَة بن نِيَار، واِسمه: هَانئ بن
نيَار بن عمرو بن عُبَيْد بن كلاب بن دُهَمان بن غنْم بن ذُبْيان بن
هُمَيْم بن كاهل بن ذُهْل بن هَني بن بَلي بن عمرو بن الحاف بن قُضاعة.
ثلاثة نفر.
قال ابن إسحاق: ومن بني عَمْرو بن عَوْف بن مالك بن الأوْس، ثم من بني
ضُبَيْعة بن زيد بن مالك بن عَوْف بن عمرو بن عَوْف: عاصم بن ثابت بن
قَيْس. وقيس أبو الأقْلح بن عِصْمة بن مالك بن أمَة بن ضُبَيْعة
ومُعَتِّب بن قُشَير بن مُلَيْل بن زيد بن العَطَّافِ بن ضُبَيْعة،
وأبو مُلَيْل بن الأزْعَر بن زيد بن العَطَّاف بن ضُبَيعة وعَمرو بن
مَعْبد بن الأزْعَر بن زيد بن العطاف بن ضُبَيْعة.
قال ابن هشام: عُمَير بن مَعْبد.
قال ابن إسحاق: وسهل بن حنيف بن واهب بن العكيم بن ثعلبة بن مجدعة بن
الحارث بن عمرو، وعمرو الذي يقال له: بَحْزَج بن حَنَس بن عوف بن عمرو
بن عوف. خمسة نفر.
ومن بني أمية بن زيد بن مالك: مُبَشِّر بن عبد المنذر بن زَنْبر بن زيد
بن أمية، ورفاعة بن عبد المنذر بن زَنْبر، وسعد بن عُبَيْد بن النعمان
بن قَيْس بن عمرو بن زيد بن امية. وعُوَيْم بن ساعدة، ورافع ابن
عُنْجدة -وعُنْجدة أمه، فيما قال ابن هشام- وعُبَيْد بن أبي عُبَيْد،
وثعلبة بن حَاطب.
وزعموا أن أبا لُبابة بن عبد المنذر: والحارث بن حاطب خرجا مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم فرجعهما، وأمَّر أبا لبابة على المدينة، فضرب
لهما بسهمين مع أصحاب بدر. تسعة نفر.
قال ابن هشام: ردهما: من الرَّوْحاء.
قال ابن هشام: وحاطب بن عمرو بن عُبَيْد بن أمية واسم أبي لبابة:
بَشير.
ج / 2 ص -240-
قال
ابن إسحاق: ومن بني عُبيد بن زيد بن مالك: أنَيْس بن قَتَادة بن ربيعة
بن خالد بن الحارث بن عُبيد.
ومن حلفائهم من بَلِيٍّ: مَعْن بن عدي بن الجدّ بن العَجْلان بن
ضُبَيْعة، ثابت بن أقْرَم بن ثعلبة بن عدي بن العَجْلان، وعبد الله بن
سَلَمة بن مالك بن الحارث بن عدي بن العَجْلان، وزيد بن أسلم بن ثعلبة
بن عدي بن العَجْلان ورَبْعي بن رافع بن زيد بن حارثة بن الجَدِّ بن
العجلان. وخرج عاصم بن عدي بن الجَد بن العَجْلان، فرده رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وضرب له بسهمه مع أصحاب بدر1. سبعة نفر.
ومن بني ثعلبة بن عمرو بن عوف: عبد الله بن جُبَيْر بن النعمان بن أمية
بن البُرك -واسم البُرك: امرؤ القيس بن ثَعلبة- وعاصم بن قيس.
قال ابن هشام: عاصم بن قيس: ابن ثابت بن النعمان بن أمية بن امرئ القيس
بن ثعلبة.
قال ابن إسحاق: وأبو ضَيَّاح بن ثابت بن النعمان بن أمية بن امرئ القيس
بن ثعلبة، وأبو حَنَّة.
قال ابن هشام: وهو أخو أبي ضَيَّاح، ويقال: أبو حَبَّة. ويقال لامرئ
القيس: البُرك بن ثعلبة.
قال ابن إسحاق: وسالم بن عُمير بن ثابت بن النعمان بن أمية بن امرئ
القيس بن ثعلبة.
قال ابن هشام: ويقال: ثابت: بن عمرو بن ثعلبة.
قال ابن إسحاق: والحارث بن النعمان بن أمية بن امرئ القيس بن ثعلبة،
وخَوَّات بن جُبَيْر بن النعمان، ضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم
بسهم مع أصحاب بدر. سبعة نفر.
ومن بني جَحْجَبِي بن كُلْفة بن عوف بن عَمرو بن عوف: مُنْذِر بن محمد
بن عُقْبة بن أحَيْحَة بن الجلاح بن الحَريش بن جَحْجَبِي بن كلفة.
قال ابن هشام: ويقال: الحَريس بن جَحْجَبي.
قال ابن إسحاق: ومن حلفائهم من بني أنَيْف: أبو عَقيل بن عبد الله بن
ثَعْلبة بن بَيْحان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ورده لأنه بلغه شيء عن أهل مسجد الضرار وكان قد استخلفه على قباء
والعالية فرده لنظر في ذلك.
ج / 2 ص -241-
بن
عامر بن الحارث بن مالك بن عامر بن أنيْف بن جُشَم بن عبد الله بن
تَيْم بن إرَاش بن عامر بن عُمَيْلة بن قَسْمِيل بن فَرَان بن بَلِي بن
عمرو بن الحَاف بن قُضاعة. رجلان.
قال ابن هشام: ويقال تَميم بن إرَاشة، وقِسْميل بن فَارَان.
قال ابن إسحاق: ومن بني غنْم بن السَّلْم بن امرئ القيس بن مالك بن
الأوْس: سعد بن خيْثمة بن الحارث بن مالك بن كعب بن النحَّاط بن كعب بن
حارثة بن غَتم، ومُنذر بن قُدامة بن عَرفجة ومالك بن قُدامة بن
عَرْفجة.
قال ابن هشام: عرفجة: ابنُ كعب بن النحاط بن كَعب بن حارثة بن غَنْم.
قال ابن إسحاق: والحارث بن عَرْفجة، وتميم، مولى بني غَنْم. خمسة نفر.
قال ابن هشام: تميم: مولى سعد بن خيثمة.
قال ابن إسحاق: ومن بني معاوية بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف: جَبْر
بن عَتيك بن الحارث بن قيس.بن هَيْشة بن الحارث بن أمية بن معاوية،
ومالك بن نُميلة، حليف لهم من مزينة، والنعمان بن عَصَر، حليف لهم من
بَلِي: ثلاثة نفر.
فجميع من شهد بدرًا من الأوس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن ضرب
له بسهمه وأجره، أحدٌ وستون رجلًا.
قال ابن إسحاق: وشهد بدرًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من
المسلمين، ثم من الأنصار ثم من الخزرج بن حارثة بن ثعلبة بن عَمرو بن
عامر، ثم من بني الحارث بن الخزرج، ثم من بني امرئ القيس بن مالك بن
ثَعْلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج: خارجة بن زَيْد بن أبي
زُهَير بن مالك بن امرئ القيس، وسعد بن رَبيع بن عمرو بن أبي زُهير بن
مالك بن امرئ القيس، وعبد الله بن رَوَاحة بن ثعلبة بن امرئ القيس بن
عمرو بن امرئ القيس، وخَلاَّد بن سُوَيْد بن ثعلبة بن عمرو بن حارثة بن
امرئ القيس. أربعة نفر.
ومن بني زيد بن مالك بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج:
بَشير بن سعد بن ثعلبة بن خِلاس بن زيد -قال ابن هشام: ويقال: جُلاس،
وهو عندنا خطأ- وأخوه سِماك بن سعد. رجلان.
ومن بني عدي بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج: سُبيع بن قيس بن
عَيْشة بن أمية بن مالك بن عامر بن عدي، وعَبَّاد بن قيس بن عَيْشة،
أخوه.
ج / 2 ص -242-
قال
ابن هشام: ويقال: قيس: بن عَبَسة بن أمية.
قال ابن إسحاق: وعبد الله بن عَبْس، ثلاثة نفر.
ومن بني أحمر بن حارثة بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج:
يزيد بن الحارث بن قيس بن مالك بن أحمر، وهو الذي يُقال له: ابن
فُسْحُم. رجل.
قال ابن هشام: فُسْحُم أمه، وهي امرأة من القَيْن بن جَسْر.
قال ابن إسحاق: ومن بني جُشم بن الحارث بن الخزرج، وزيد بن الحارث بن
الخزرج، وهما التوءم: خُبَيْب بن إساف بن عِتَبة بن عَمرو بن خَديج بن
عامر بن جُشَم، وعبد الله بن زيد بن ثعلبة بن عبد رَبِّه بن زيد، وأخوه
حُرَيْث بن زيد بن ثعلبة، زعموا، وسُفيان بن بشر. أربعة نفر.
قال ابن هشام: سفيان بن نَسْر بن عمرو بن الحارث بن كعب بن زيد.
قال ابن إسحاق: ومن بني جِدَارة بن عوف بن الحارث بن الخزرج: تميم بن
يعار بن قيس بن عدي بن أمية بن جِدارة، وعبد الله بن عُمير من بني
حارثة.
قال ابن هشام: ويقال: عبد الله بن عُمير بن عدي بن أمية بن جِدَارة.
قال ابن إسحاق: وزيد بن المزَيَّن بن قيس بن عدي بن أمية بن جِدَارة.
قال ابن هشام: زيد بن المُريِّ.
قال ابن إسحاق: وعبد الله بن عُرْفطة بن عدي بن أمية بن جدارة، أربعة
نفر.
ومن بني الأبْجَر، وهم بنو خُدْرة، بن عوف بن الحارث بن الخزرج: عبد
الله بن ربيع بن قيس بن عَمرو بن عباد بن الأبْجر، رجل. ومن بني عوف بن
الخزرج، ثم من بني عبيد بن مالك بن سالم بن غنم بن عوف بنِ الخزرج وهو
بنو الحُبلى -قال ابن هشام: الحُبلى: سالم بن غنْم بن عوف، وإنما سُمي
الحُبلى، لعظم بطنه- عبد الله بن عبد الله بن أبي بن مالك بن الحارث بن
عبيد المشهور بابن سلول، وإنما سلول امرأة، وهي أم أبيّ: وأوْس بن
خَوْلي بن عبد الله بن الحارث بن عبيد. رجلان.
ومن بني جَزْء بن عدي بن مالك بن سالم بن غَنْم: زيد بن وديعة بن عمرو
بن قَيْس بن جَزْء، وعقبة بن وهب بن كَلَدَة، حليف لهم من بني عبد الله
بن غطفان، ورفاعة بن عُمر بن زيد
ج / 2 ص -243-
بن
عمرو بن ثعلبة بن مالك بن سالم بن غَنْم، وعامر بن سَلَمة بن عامر،
حليف لهم من أهل اليمن. قال ابن هشام: ويقال: عَمْرو بن سَلَمة وهو من
بَلِيٍّ، من قُضاعة.
قال ابن إسحاق: وأبو حُمَيْضة مَعبد بن عَبَّاد بن قُشَيْر بن
المقَدَّم بن سالم بن غَنْم.
قال ابن هشام: مَعْبد بن عبادة بن قَشْغَر بن المقدَّم، ويقال: عُبادة
بن قَيْس بن المقَدَّم.
قال ابن إسحاق: وعامر بن البُكَيْر، حليف لهم، ستة.نفر.
قال ابن هشام: عامر بن العُكَيْر، ويقال: عاصم بن البُكَيْر.
قال ابن إسحاق: ومن بني سالمِ بن عَوْف بن عمرو بن الخَزْرج، ثم من بني
العَجْلان بن زيد بن غنْم بن سالم: نَوْفل بن عبد الله ابن نَضْلة بن
مالك بن العَجلان. رجل.
ومن بني أصرم بن فهر بن ثعلبة بن غنم بن سالم بن عوف -قال ابن هشام:
هذا غنم بن عوف، أخو سالم بن عَوْف بن عمرو بن عوف بن الخزرج، وغنم بن
سالم، الذي قبله على ما قال ابن إسحاق- عُبادة بن الصامت بن قَيْس بن
أصرم، وأخوه أوْس بن الصامت، رجلان.
ومن بني دَعْد بن فِهر بن ثعلبة بن غَنْم: النعمان بن مالك بن ثعلبة بن
دَعْد، والنعمان الذي يقال له. قَوْقل. رجل.
ومن بني قُرْيوش بن غَنْم بنِ أمية بن لَوْذان بن سالم -قال ابن هشام:
ويقال قرْيوس بن غنْم- ثابت بن هَزّال بن عمرو بن قُرْيوش، ر جل.
ومن بني مَرْضَخة بن غَنْم بن سالم: مالك بن الدُّخْشم بن مَرْضَخة،
رجل.
قال ابن هشام: مالك بن الدُّخشم: بن مالك بن الدخشم بن مَرْضَخة.
قال ابن إسحاق: ومن بني لَوْذان بن سالم: ربيع بن إياس بن عَمْرو بن
غَنْم بن أمية بن لَوْذان، وأخوه ورقة بن إياس، وعمرو بن إياس حليف لهم
من أهل اليمن، ثلاثة نفر.
قال ابن هشام: ويقال: عمرو بن إياس، أخو ربيعة وورقة.
قال ابن إسحاق: ومن حلفائهم من بَلي، ثم من بني غُصَيْنة -قال ابن
هشام: غُصَينة: أمهم، وأبوهم عمرو بن عمارة- المجذَّرَ بن ذياد بن عمرو
بن زُمْزمة بن عمر بن عمارة بن مالك بن غُصَيْنة بن عمرو بن بُتَيرة بن
مَشْنُوّ بن قَسْر بن تَيْم بن إرَاش بن عامر بن عُمَيلة بن قِسْمِيل
بِن فَرَان بن بليّ بن عَمرو بن الحَاف بن قُضاعة.
ج / 2 ص -244-
قال
ابن هشام: ويقال: قَسْر بن تميم بن إرَاشة، وقِسْميل بن فَارَان. واسم
المجذّر عبد الله.
قال ابن إسحاق: وعُبادة بن الخَشْخاش بن عمرو بن زُمْزُمَة، ونَحَّاب
بن ثَعلبة بن حَزمة بن أصْرم بن عمرو بن عمارة.
قال ابن هشام: ويقال بحَّاث بن ثعلبة.
قال ابن إسحاق: وعبد الله بن ثعلبة بن حَزَمة بن أصرم. وزعموا أن عُتبة
بن ربيعة بن خالد بن معاوية -حليف لهم- من بهراء، قد شهد بدرًا، خمسة
نفر.
قال ابن هشام: عتبة بن بَهْز، من بني سليم.
قال ابن إسحاق: ومن بني ساعدة بن كعب بن الخزرجِ، ثم من بني ثعلبة بن
الخزرج بن ساعدة: أبو دُجانة، سَمَّاك بن خرَشة. قال ابن هشام: أبو
دجانة: سِماك بن أوس بن خَرَشة بن لَوْذان بن عبد وُدّ بن زيد بن
ثعلبة.
قال ابن إسحاق: والمنذِر بن عمرو بن خُنَيْس بن حارثة بن لَوْذان بن
عبد وُدّ بن زيد بن ثعلبة. رجلان.
قال ابن هشام: ويقال: المنذر: ابن عمرو بن خَنْبَش. قال ابن إسحاق: ومن
بني البَدِيِّ بن عامر بن عوف بن حارثة بن عمرو بن الخزرج بن ساعدة:
أبو أسَيد مالك بن ربيعة بن البَدِي، ومالك بن مسعود وهو إلى البَدِي.
رجلان.
قال ابن هشام: مالك بن مسعود: ابن البَدِي، فيما ذكر لي بعض أهل العلم.
قال ابن إسحاق: ومن بني طَريف بن الخزرج بن ساعدة: عبدُ رَبِّهِ بن
حَقِّ بن أوْس بن وَقش بن ثعلبة بن طريف. رجل.
ومن حلفائهم، من جُهينة: كعبُ بن حِمار بن ثعلبة.
قال ابن هشام: ويقال: كعب: ابن جَمَّاز، وهو من غُبْشَان.
قال ابن إسحاق: وضَمْرة وزياد وبَسْبس، بنو عمرو.
قال ابن هشام: ضَمْرة وزياد، ابنا بِشْر.
قال ابن إسحاق: وعبد الله بن عامر، بن بَلِى. خمسة نفر.
ج / 2 ص -245-
ومن
بني جُشَم بن الخزرج، ثم من بني سلمة بن سعد بن علي بن أسد بن ساردة بن
تزيد بن جشم بن الخزرج، ثم من بني حرام بن كعب بن غنم بن كعب بن سلمة:
خراش بن الصِّمَّة بن عمرو بن الجَموح بن زيد بن حرام، والحُبَاب بن
المنذِر بن الجموح بن زَيْد بن حرام وعُمَير بن الحُمام بن الجموح بن
زيد بن حرام وتميم مولى خراش بن الصِّمَّة، وعبد الله بن عمرو بن حرام
بن ثعلبة بن حرام، ومعُاذ بن عمرو بن الجَموح ومُعوذ بن عمرو بن الجموح
بن زيد بن حرام، وخَلاَّد بن عمرو بن الجموح بن زيد بن حرام وعُقبة بن
عامر بن نابى بن زيد بن حرام، وحبيب بن أسْوَد، مولى لهم، وثابت بن
ثَعْلبة بن زيد بن الحارث بن حرام. اثنا عشر رجلًا.
قال ابن هشام: وكل ما كان ههنا الجَموح، فهو الجَموح بن زيد بن حرام،
إلا ما كان من جد الصِّمَّة بن عمرو، فإنه الجموح بن حرام.
قال ابن هشام: عُمَير بن الحارث: ابن لَبْدَة بن ثعلبة.
قال ابن إسحاق: ومن بني عُبَيْد بن عَدي بن غَنْم بن كعب بن سَلِمة، ثم
من بني خنساء بن سنان بن عبيد: بِشر بن البَرَّاء بن مَعْرُور بن صخر
بن مالك بن خَنْساء، والطُّفَيْل بن مالك بن خنساء، والطُّفيل بن
النعمان بن خنساء، وسنان بن صَيْفي بن صَخر بن خَنْساء، وعبد الله بن
الجَدِّ بن قيس بن صخر بن خنساء، وعُتبة بن عبد الله بن صخر بن خنساء،
وجَبَّار بن صخر بن أمية بن خنساء، وخارجة بن حُمَيِّر، وعبد الله بن
حُمَيِّر، حليفان لهم من أشجع، من بني دُهْمان. تسعة نفر.
قال ابن هشام: ويقال: جَبَّار: بن صَخْر بن أمية بن خُنَاس. قال ابن
إسحاق: ومن بني خُنَاس بن سِنان بن عُبيد: يزيد بن المنذِر بن سَرْح بن
خُنَاس، ومِعْقل بن المنذر بن سرح بن خُناس، وعبد الله بن النعمان بن
بَلْدُمَة.
قال ابن هشام: ويقال: بُلْذُمَة وبُلْدُمَة.
قال ابن إسحاق: والضَّحَّاك بن حارثة بن زيد بن ثَعْلبة بن عُبَيْد بن
عَدِي، وسَوَاد بن زُرَيق بن ثعلبة بن عُبَيْد بن عدي.
قال ابن هشام: ويقال: سَوَاد: بن رِزْن بن زيد بن ثعلبة.
قال ابن إسحاق: ومَعْبد بن قَيْس بن صخر بن حَرام بن ربيعة بن عَدي بن
غَنْم بن كعب بن سَلِمة. ويقال: معبد بن قَيْس: ابن صَيْفي بن صخْر بن
حرام بن ربيعة، فيما قال ابن هشام.
قال ابن إسحاق: وعبدُ الله بن قَيْس بن صَخْر بن حَرام بن ربيعة بن عدي
بن غَنْم. سبعة نفر.
ومن بني النعمان بن سنان بن عُبيد: عبدُ الله بن عبد مناف بن النعمان،
وجابر بن عبد الله
ج / 2 ص -246-
بن
رِئاب بن النعمان، وخُلَيْدة بن قَيْس بن النعمان. والنُّعمان بن
سِنان، مولى لهم. أربعة نفر. ومن بني سَوَاد بن غَنْم بن كَعْب بن
سلمة، ثم من بني حَديدة بن عمرو بن غَنْم بن سواد -قال ابن هشام: عمرو
بن سواد، ليس لسَوَاد ابن يقال له غنم-: أبو المنذر، وهو يزيد بن عامر
بن حَديدة، وسُلَيم بن عمرو بن حديدة وقُطبة بن عامر بن حديدة وعنترة
مولى سُلَيم بن عمرو. أربعة نفر.
قال ابن هشام: عنترة، من بني سُلَيم بن منصور، ثم من بني ذَكْوان.
قال ابن إسحاق: ومن بني عدي بن نابي بن عَمرو بن سَوَاد بن غَنْم:
عَبْس بن عامر بن عدي، وثعلبة بن غَنَمة بنِ عدي، وأبو اليَسَر، وهو
كعب بن عمرو بن عَبَّاد بن عمرو بن غنْم بن سواد، وسَهْل بن قَيْس بن
أبي بن كعب بن القَيْن بن كعب بن سَوَاد، وعمرو بن طَلْق ببن زيد بن
أمية بن سنان بن كعب بن غَنْم، ومُعاذ بن جبل بن عمرو بن أوْس بن عائذ
بن عَدي بن كعب بن عدي بن أدي بن سعد بن علي بن أسَد بن سارِدة بن
تَزيد بن جُشَم بن الخزرج بن حارثة بن ثعلبة بن عَمرو بن عامر. ستة
نفر.
قال ابن هشام: أوْس: ابن عبَّاد بن عدي بن كعب بن عمرو بن أدي بن سعد.
قال ابن هشام: وإنما نَسب ابن إسحاق معاذ بن جبل في بني سَوَاد، وليس
منهم؛ لأنه فيهم.
قال ابن إسحاق: والذين كسروا آلهة بني سَلمة: مُعاذ بن جبل، وعبد الله
بن أنيس وثعلبة بن غَنمة وهم في بني سواد بن غَنْم.
قال ابن إسحاق: ومن بني زُرَيق بن عامر بن زريق بن عبد حارثة بن مالك
بن غضب بن جُشَم بن الخزرج، ثم من بني مُخَلَّد بن عامر بن زريق -قال
ابن هشام: ويقال: عامر: ابن الأزْرق- قَيْس بن محصن بن خالد بن مخلد.
قال ابن هشام: ويقال: قيس: ابن حصن.
قال ابن إسحاق: وأبو خالد وهو الحارث بن قَيْس بن خالد بن مُخَلَّد،
وجُبَير بن إياس بن خالد بن مُخَلَّد، وأبو عُبادة، وهو سعد بن عثمان
بن خَلَدَة بن مُخَلَّد، وأخوه عقبة بن عثمان بن خَلَدة بن مُخلَّد،
وذَكْوان بن عبد قيس بن خَلَدة بن مُخَلَّد ومسعود بن عامر بن خَلَدة
بن مُخَلَّد. سبعة نفر.
ومن بني خالد بن عامر بن زُرَيق: عَبَّاد بن قيس بن عامر بن خالد. رجل.
ومن بني خالد بن عامر بن زُرَيق: أسعد بن يزيد بن الفاكِه بن زيد بن
خَلَدة، والفاكِه بن بِشر بن الفاكه بن زيد بن خَلَدة.
ج / 2 ص -247-
قال
ابن هشام: بُسْر بن الفاكه.
قال ابن إسحاق: ومُعاذ بن ماعِص بن قَيْس بن خَلَدة، وأخوه: عائذ بن
ماعِص بن قيس بن خَلَدة، ومسعود بن سعد بن قيس بن خَلَدة. خمسة نفر.
ومن بني العجلان بن عمرو بن عامر بن زُرَيق: رفاعة بن العجلان وأخوه
خَلاد بن رافع بن مالك بن العَجْلان، وعُبيد بن زيد بن عامر بن
العَجلان. ثلاثة نفر.
ومن بني بَياضة بن عامر بن زُرَيق: زياد بنِ لَبيد بن ثعلبة بن سِنان
بن عامر بن عدي بن أميَّة بن بَياضة، وفرْوة بن عمرو بن وَذْفة بن عبيد
بن عامر بن بياضة.
قال ابن هشام: ويقال: وَدْفَة.
قال ابن إسحاق: وخالد بن قَيْس بن مالك بن العَجْلان بن عامر بن بَياضة
ورُجَيْلة بن ثعلبة بن خالد بن ثَعْلبة بن عامر بن بَياضة.
قال ابن هشام: ويقال: رُخَيْلة.
قال ابن إسحاق: وعَطية بن نُوَيْرة بن عامر بن عطية بن بَياضة، وخليفة
بن عدي بن عمرو بن مالك بن عامر بن فُهَيْرة بن بياضة. ستة نفر. قال
ابن هشام: ويقال: عُلَيفة.
قال ابن إسحاق: ومن بني حَبيب بن عبد حارثة بن مالك بن غضب بن جُشَم بن
الخزرج: رافع بن المعَلَّى بن لَوْذان بن حارثة بن عدي بن زيد بن ثعلبة
بن زيد مناة بن حبيب رجل.
قال ابن إسحاق: ومن بني النجار، وهو تَيْم الله بن ثعلبة بن عمرو بن
الخزرج، ثم من بني غَنْم بن مالك بن النجار، ثم من بني ثعلبة بن عبد
عوف بن غنم: أبو أيوب خالد بن زيد بن كليب بن ثعلبة. رجل.
ومن بني عُسَيْرة بن عبد عَوْف بن غَنْم: ثابت بن خالد بن النعمان بن
خنساء بن عسيرة. رجل. قال ابن هشام: ويقال: عُسَيْر، وعُشَيْرة.
قال ابن إسحاق: ومن بني عمرو بن عَوْف بن غَنْم: عُمارة بن حَزْم بنِ
زيد بن لَوْذان بن عَمرو، وسُراقة بن كعب بن عبد العُزى بن غزِيَّة بن
عمرو. رجلان.
ج / 2 ص -248-
ومن
بني عُبَيْد بن ثعلبة بن غَنْم: حارثة بن النعمان بن زيد بن عُبَيْد،
وسُلَيم بن قيس بن قَهْد: واسم قَهْد: خالد بن قَيس بن عُبيد. رجلان.
قال ابن هشام: حارثة بن النعمان: ابن نَفْع بن زيد.
قال ابن إسحاق: ومن بني عائذ بن ثعلبة بن غنم -ويقال عابد فيما قال ابن
هشام-: سُهَيْل بن رافع بن أبي عمرو بن عَائذ، وعَدِي بن الزَّغْباء،
حليف لهم من جُهَينة. رجلان.
ومن بني زيد بن ثَعلبة بن غَنْم: مسعود بن أوْس بن زيد، وأبو خُزَيْمة
بن أوس بن زيد بن أصْرَم بن زيد، ورافع بن الحارث بن سَوَاد بن زيد.
ثلانة نفر.
ومن بني سَوَاد بن مالك بن غنم: عَوْف، ومُعَوّذ، ومُعاذ، بنو الحارث
بن رفاعة بن سَوَاد، وهم بنو عَفْراء.
قال ابن هشام: عفراء بنت عُبيد بن ثَعْلبة بن غَنْم بن مالك بن النجار،
ويقال: رِفاعة: بن الحارث بن سواد.
قال ابن إسحاق: والنعمان بن عمرو بن رِفاعة بن سَوَاد، ويقال:
نُعَيْمان فيما قال ابن هشام.
قال ابن إسحاق: وعامر بن مُخلد بن الحارث بن سَوَاد، وعبد الله بن
قَيْس بن خالد بن خَلَّدة بن الحارث بن سَوَاد، وعُصَيْمة، حليف لهم من
أشْجَع، ووَديعة بن عَمرو، حليف من جُهَينة، وثابت بن عَمْرو بن زيد بن
عَدِي بن سَوَاد. وزعموا أن أبا الحمراء، مولى الحارث بن عفراء، قد شهد
بدرًا. عشرة نفر.
قال ابن هشام: أبو الحمراء، مولى الحارث بن رفاعة.
قال ابن إسحاق: ومن بني عامر بن مالك بن النجار -وعامر: مبذول- ثم من
بني عَتيك بن عمرو بن مَبْذول: ثعلبة بن عمرو بن مِحْصَن بن عَمرو بن
عَتيك، وسَهْل بن عتيك بن عمرو بن النعمان بن عَتيك، والحارث بن
الصِّمَّة بن عمرو بن عَتيك، كُسر به بالروحاء فضرب له رسول الله صلى
الله عليه وسلم بسهمه. ثلاثة نفر.
ومن بني عَمرو بن مالك بن النجار -وهم بنو حُدَيْلة- ثم من بني قيس بن
عبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار.
قال ابن هشام: حُدَيلة بنت مالك بن زيد الله بن حبيب بن عبد حارثة بن
مالك بن غَضْب بن جُشَم بن الخزرج، وهي أم معاوية بن عمرو بن مالك بن
النجار، فبنو معاوية ينتسبون إليها.
ج / 2 ص -249-
قال
ابن إسحاق: أبي بن كعب بن قَيْس، وأنس بن معُاذ بن أنس بن قيس. رجلان.
ومن بني عَدي بن عمرو بن مالك بن النجار.
قال ابن هشام: وهم بنو مَغَالة بنت عوف بن عبد مَناة بن عمرو بن مالك
بن كنانة بن خُزَيمة، ويقال: إنها من بني زُرَيْق، وهي أم عدي بن عمرو
بن مالك بن النجار، فبنو عدي ينسبون إليها
أوْسُ بن ثابت بن المُنذر بن حَرام بن عمرو بن زيد مَناة بن عَدي، وأبو
شيخ أبي بن ثابت بن المنذِر بن حرام بن عمرو بن زيد مَناة بن عدي.
قال ابن هشام: أبو شيخ بن أبَيُّ بن ثابت، أخو حسان بن ثابت. قال ابن
إسحاق: وأبو طلحة، وهو زيد بن سَهْل بن الأسود بن حَرام بن عَمرو بن
زيد بن عدي. ثلاثة نفر.
ومن بني عدي بن النجار، ثم من بني عدي بن عامر بن غنم بن النجار: حارثة
بن سُراقة بن الحارث بن عدي بن مالك بن عدي بن عامر، وعُمرو بن ثعلبة
بن وَهْب بن عدي بن مالك بن عدي بن عامر وهو أبو حَكيم، وسَليط بن
قَيْس بن عمرو بن عتيك بن مالك بن عدي بن عامر، وأبو سَليط، وهو
أسَيْرة بن عمرو، وعمرو أبو خارجة بن قَيْس بن مالك بن عدي بن عامر،
وثابت بن خَنساء بن عمرو بن مالك بن عدي بن عامر، وعامر بن أمية بن زيد
بن الحَسْحَاس بن مالك بن عَدي بن عامر، ومُحْرِز بن عامر بن مالك بن
عدي بن عامر، وسَوَاد بن غَزِيّة بن أهَيْب، حليف لهم من بَلِي. ثمانية
نفر.
قال ابن هشام: ويقال: سَوَّاد.
قال ابن إسحاق: ومن بني حَرَام بن خنْدب بن عامر بن غَنْم بن عَدي بن
النجار: أبو زيد قَيْس بن سَكَن بن قَيْس بن زَعُوراء بن حرام، وأبو
الأعْور بن الحارث بن ظالم بن عَبْس بن حرام.
قال ابن هشام: ويقال: أبو الأعور: الحارث بن ظالم.
قال ابن إسحاق: وسُلَيْم بن مِلْحان، وحرام بن مِلْحان -واسم ملحان:
مالك بن خالد بن زيد بن حرام. أربعة نفر.
ج / 2 ص -250-
ومن
بني مازن بن النجار، ثم من بني عَوْف بن مَبْذول بن عَمرو بن غنم بن
مازن بن النجار: قَيس بن أبي صَعْصعة، واسم أبي صَعْصعة: عمرو بن زيد
بن عوف، وعبد الله بن كعب بن عَمرو بن عَوْف وعُصَيْمة، حليف لهم من
بني أسد بن خُزَيمة. ثلاثة نفر.
ومن بني خنساء بن مبذول بن عمرو بن مازن: أبو داود عُمَيْر بن عامر بن
مالك بن خَنْساء، وسُراقة بن عمرو بن عَطِية بن خَنْساء. رجلان.
ومن بني ثَعْلَبة بن مازن بن النجار: قَيْس بن مُخَلَّد بن ثعلبة بن
صَخْر بن حبيب بن الحارث بن ثعلبة. رجل.
ومن بني دينار بن النجار، ثم من بني مسعود بن عبد الأشهل بن حارثة بن
دينار بن النجار: النُّعمان بن عبدِ عمرو بن مسعود، والضحَّاك بن عبد
عمرو بن مسعود، وسُلَيم بن الحارث بن ثعلبة بن كعب بن حارثة بن دينار،
وهو أخو الضحاك، والنعمان ابني عبد عمرو، لأمهما، وجابر بن خالد بن عبد
الأشهل بن حارثة، وسعد بن سُهَيْل بن عبد الأشهل. خمسة نفر.
ومن بني قَيس بن مالك بن كعب بن حارثة بن دينار بن النجار: كعب بن زيد
بن قيس وبُجَيْر بن أبي بُجَيْر، حليف لهم. رجلان.
قال ابن هشام: بُجَير: من عَبْس بن بغيض بن رَيْث بن غَطَفان، ثم من
بني جَذيمة بن رَوَاحة.
قال ابن إسحاق: فجميع من شهد بدرًا من الخزرج مئة وسبعون رجلًا.
قال ابن هشام: وأكثر أهل العلم يذكر في الخزرج ببدر، في بني العَجْلان
بن زيد بن غنم بن سالم بن عمرو بن عوف بن الخزرج: عِتْبان بن مالك بن
عَمرو بن العَجْلان، ومُلَيْل بن وَبَرة بن خالد بن العَجْلان، وعِصْمة
بن الحُصَيْن بن وَبَرة بن خالد بن العَجْلان.
وفى بني حَبيب بن عبد حارثة بن مالك بن غَضب بن جُشم بن الخزرج، وهم في
بني زُرَيق هلال بن المعَلَّى بن لَوْذان بن حارثة بن عَدِي بن زيد بن
ثَعْلبة بن مالك بن زيد مناة بن حبيب.
قال ابن إسحاق: فجميع من شهد بدرًا من المسلمين، من المهاجرين والأنصار
من شهدها منهم، ومن ضُرب له بسهمه وأجره، ثلاثمائة رجل وأربعة عشر
رجلًا، من المهاجرين ثلاثة وثمانون رجلًا، ومن الأوس واحد وستون رجلًا،
ومن الخزرج مائة وسبعون رجلًا.
ج / 2 ص -251-
من استُشهد من المسلمين يوم بدر:
واستشهد من المسلمين يوم بدر، مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، من
قريش، ثم من بني المطلب بن عبد مناف: عُبيدة بن الحارث بن المطلب، قتله
عُتبة بن ربيعة، قطع رجله، فمات بالصفراء. رجل.
ومن بني زُهرة بن كلاب: عُمير بن أبي وقاص بن أهَيْب بن عبد مناف بن
زُهرة، وهو أخو سعد بن أبي وقاص، فيما قال ابن هشام، وذو الشِّمالين بن
عبد عمرو بن نَضْلة، حليف لهم من خزاعة ثم من بني غُبْشان. رجلان.
ومن بني عدي بن كعب بن لُؤَي: عاقل بن البُكَيْر. حليف لهم من بني سعد
بن ليث بن بكر بن عبد مَناة بن كنانة، ومِهْجَع، مولى عمر بن الخطاب.
رجلان.
ومن بني الحارث بن فِهر: صفوان بن بَيْضاء رجل. ستة نفر.
من الأنصار: ومن الأنصار: ثم من بني عمرو بن عوف: سعد بن خَيْثمة،
ومُبَشَّر بن عبد المنذر بن زَنبر. رجلان.
ومن بني الحارث بن الخزرج: يزيد بن الحارث، وهو الذي يقال له. ابن
فُسْحُمْ. رجل.
ومن بني سَلمة، ثم من بني حرام بن كعب بن غنم بن كعب بن سلمة: عُمَيْر
بن الحُمام. رجل.
ومن بني حبيب بن عبد حارثة بن مالك بن غضب بن جُشم: رافع بن المعلَّى.
رجل.
ومن بني النجار: حارثة بن سراقة بن الحارث. رجل.
ومن بني غَنْم بن مالك بن النجار: عَوْف ومُعَوذ، ابنا الحارث بن رفاعة
بن سواد، وهما ابنا عفراء. رجلان. ثمانية نفر.
من قُتل ببدر من المشركين:
وقتل من المشركين يوم بدر من قُريش، ثم من بني عبد شس بن عبد مناف:
حَنْظَلة بن أبي سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس، قتله زيدُ بن حارثة،
مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال ابن هشام، ويقال: اشترك
فيه حَمزة وعلي وزيد، فيما قال ابن هشام.
قال ابن إسحاق: والحارث بن الحَضْرمي، وعامر بن الحَضْرمي حليفان لهم،
قتل عامرًا:
ج / 2 ص -252-
عَمَّار بن ياسر، وقتل الحارثَ: النعمانُ بن عصر، حليف للأوس، فيما قال
ابن هشام. وعُمَير بن أبي عُمير، وابنه: موليان لهم. قتل عُمير بن أبي
عمير: سالمٌ مولى أبي حذيفة، فيما قال ابن هشام.
قال ابن إسحاق: وعُبيدة بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس، قتله
الزبيرُ بن العوام، والعاص بن سعيد بن العاص بن أمية، قتله علي بن أبي
طالب. وعقبة بن أبي مُعَيط بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس، قتله عاصم
بن ثابت بن أبي الأقْلح، أخو بني عمرو بن عوف، صبرًا1.
قال ابن هشام: ويقال: قتله علي بن أبي طالب.
قال ابن إسحاق:.وعتبة بن ربيعة عبد شمس، قتله عُبيدة بن الحارث بن
المطلب.
قال ابن هشام: اشترك فيه هو وحمزة وعلىٌّ.
قال ابن إسحاق: وشَيْبة بن ربيعة بن عبد شمس، قتله حمزةُ بن عبد
المطلب. والوليد بن عتبة بن ربيعة، قتله علي بن أبي طالب، وعامر بن عبد
الله، حليف لهم من بني أنمار بن بَغيض، قتله علي بن أبي طالب: اثنا عشر
رجلًا.
ومن بني نوفل بن عبد مناف: الحارث بن عامر بن نَوْفل، قتله -فيما
يذكرون- خَبيبُ بنِ أبي إساف، أخو بني الحارث بن الخزرج، وطُعَيْمة بن
عدي بن نوْفل، قتله علي بن أبي طالب، ويقال: حمزة بن عبد المطلب.
رجلان.
ومن بني أسد بن عبد العُزَّى بن قصي: زَمَعَة بن الأسْوَد بن المطلب بن
أسد.
قال ابن هشام: قتله ثابتُ بن الجِذْع، أخو بني حرام، فيما قال ابن
هشام.
ويقال: اشترك فيه حمزةُ وعلي بن أبي طالب وثابت.
قال ابن إسحاق: والحارث بن زَمَعة، قتله عمار بن ياسر -فيما قال ابن
هشام- وعقيل بن الأسْود بن المطلب، قتله حمزة وعلي، اشتركا فيه -فيما
قال ابن هشام- وأبو البَخْتَري، وهو العاص بن هشام بن الحارث بن أسد،
قتله المجَذَّر بنِ ذياد البَلَوِي.
قال ابن هشام: أبو البَخْتري: العاص بن هاشم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قتل صبرا: شدت يداه ورجلاه، أو أمسك به أحد ليقتل.
ج / 2 ص -253-
قال
ابن إسحاق: ونَوْفَل بن خُوَيلد بن أسد، وهو ابن العَدَوية، عدي بن
خُزاعة، وهو الذي قرن أبا بكر الصديق، وطلحةَ بن عُبيد الله حين أسلما
في حبل، فكانا يُسميان: القرينين لذلك، وكان من شياطين قريش، قتله علي
بن أبي طالب. خمسة نفر.
ومن بني عبد الدار بن قُصَي: النضرُ بن الحارث بن كَلَدة بن عَلْقمة بن
عبد مناف بن عبد الدار، قتله علي بن أبي طالب صبرًا عند رسول الله صلى
الله عليه وسلم بالصفراء، فيما يذكرون.
قال ابن هشام: بالأثيل1. قال ابن هشام: ويقال: النضر بن الحارث بن
عَلْقمة بن كَلَدَة بن عبد مناف.، قال ابن إسحاق: وزيد بن مُلَيص مولى
عُمَير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار. رجلان.
قال ابن هشام: قتل زيدَ بن مُلَيْص بلالُ بنُ رَباح، مولى أبي بكر،
وزيد حليف لبني عبد الدار، من بني مازن بن مالك بن عمرو بن تميم،
ويقال: قتله المِقْداد بن عمرو.
قال ابن إسحاق: ومن بني تَيْم بن مرة: عُمَير بن عثمان بن عَمرو بن كعب
بن سعد بن تَيْم.
قال ابن هشام: قتله عليُّ بن أبي طالب. ويقال: عبدُ الرحمن بن عوف.
قال ابن إسحاق: وعثمان بن مالك بن عُبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب،
قتله صُهَيْب بن سِنان: رجلان.
ومن بني مخزوم بن يَقَظة بن مُرَّة: أبو جهل بن هشام -واسمه عَمرو بن
هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عَمرو بن مخزوم- ضربه مُعاذ بن عمرو بن
الجَموح، فقطع رجله، وضرب ابنه عِكْرمة يد معاذ فطرحها، ثم ضربه
مُعَوّذ بن عفراء حتى أثبته2، ثم تركه وبه رَمَق. ثم ذَفَّفَ عليه3
عبدُ الله بن مسعود، واحتز رأسَه، حين أمر رسول الله صلى الله عليه
وسلم أن يلتمس في القتلى، والعاص بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن
عُمر بن مخزوم، قتله عمر بن الخطاب، ويزيد بن عبد الله، حليف لهم من
بني تميم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الأثيل: موضع قريب من المدينة.
2 أثبته: جرحه جراحة بالغة لا يقوم معها.
3 ذفف عليه: أسرع قتله.
ج / 2 ص -254-
قال
ابن هشام: ثم أحد بني عَمْرو بن تميم، وكان شُجاعًا، قتله عمَّار بن
ياسر.
قال ابن إسحاق: وأبو مسافع الأشعري، حليف لهم، قتله أبو دُجانة الساعدي
-فيما قال ابن هشام- وحَرْملة بن عمرو، حليف لهم.
قال ابن هشام: قتله خارجة بن زَيْد بن أبي زهير، أخو بَلْحارث بن
الخزرج، ويقال: بل علي بن أبي طالب -فيما قال ابن هشام- وحرملة، من
الأسد.
قال ابن إسحاق: ومسعود بن أبي أمية بن المغيرة، قتله علي بن أبي طالب
-فيما قال ابن هشام- وأبو قَيْس بن الوليد بن المغيرة.
قال ابن هشام: قتله حمزة بن عبد المطلب.
قال ابن إسحاق: وأبو قَيْس بن الفاكه بن المُغيرة، قتله علي بن أبي
طالب، ويقال: قتله عمار بن ياسر، فيما قال ابن هشام.
قال ابن إسحاق: ورِفاعة بن أبي رِفاعة بن عابد بن عبد الله بن عُمر بن
مخزوم، قتله سعد بن الربيع، أخو بَلْحارث بن الخزرج، فيما قال ابن
هشام: والمنذِر بن أبي رفاعة بن عابد قتله مَعْن بن عدي بن الجَدّ بن
العَجْلان حليف بني عُبيد بن زيد بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف فيما
قال ابن هشام، وعبد الله بن المنذِر ابن أبي رفاعة بن عابد، قتله علي
بن أبي طالب، فيما قال ابن هشام.
قال ابن إسحاق: والسائب بن أبي السائب بن عابد بن عبد الله بن عمر بن
مخزوم.
قال ابن هشام: السائب بن أبي السائب شريك رسول الله صلى الله عليه وسلم
الذي جاء فيه الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم الشريكُ
السائبُ لا يُشاري ولا يُماري" وكان أسلم فحسن إسلامه -فيما بلغنا-
والله أعلم.
وذكر ابنُ شهاب الزهري عن عبيد الله بن عُتبة، عن ابن عباس: أن السائب
بن أبي السائب بن عبد الله بن عُمر بن مخزوم ممن بايع رسول الله صلى
الله عليه وسلم من قريش، وأعطاه يوم الجِعِرَّانة من غنائم حُنين.
قال ابن هشام: وذكر غير ابن إسحاق: أن الذي قتله الزبير بن العوام.
ج / 2 ص -255-
قال
ابن إسحاق: والأسود بن عبد الأسَد بن هلال بن عبد الله بن عُمر بن
مخزوم، قتله حمزة بن عبد المطلب، وحاجب بن السائب بن عُوَيْمر بن عمر
بن عائذ بن عبد بن عمران بن مَخْزوم -قال ابن هشام: ويقال: عائذ: ابن
عمران بن مخزوم، ويقال: حاجز بن السائب- والذي قتل حاجبَ بن السائب:
عَلي بن أبي طالب.
قال ابن إسحاق: وعُوَيْمر بن السائب بن عُوَيْمر، قتله النعمان بن مالك
القَوْقَلي مبارزةً، فيما قال ابن هشام.
قال ابن إسحاق: وعَمْرو بن سُفيان، وجابر بن سُفيان، حليفان لهم من
طيئ، قتل عَمرًا يزيدُ بن رُقَيش، وقتل جابرًا: أبو بُرْدَة بن نَيَّار
فيما قال ابن هشام.
قال ابن إسحاق: سبعة عشر رجلًا.
ومن بني سَهْم بن عمرو بن هُصَيْص بن كعب بن لؤي: مُنَبِّه بن الحجاج
بن عامر بن حُذيفة بن سعد بن سهم، قتله أبو اليَسَر، أخو بني سَلِمة،
وابنه العاص بن مُنَبِّه بن الحجاج قتله علي بن أبي طالب، فيما قال ابن
هشام. ونبَيْه بن الحجاج بن عامر قتله حمزة بن عبد المطلب وسعد بن أبي
وقاص اشتركا فيه، فيما قال ابن هشام، وأبو العاص بن قَيْس بن عَدِي بن
سعد بن سهم.
قال ابن إسحاق: وعاصم بن عَوْف بن ضُبَيْرة بن سعيد بن سَهْم، قتله أبو
اليَسَر، أخو بني سلمة، فيما قال ابن هشام: خمسة نفر.
ومن بني جُمح بن عمرو بن هُصَيْص بن كعب بن لؤي: أمية بن خلف بن وهب بن
جُمَح، قتله رجل من الأنصار من بني مازن.
قال ابن هشام: بل قتله مُعاذ بن عفراء وخارجة بن زيد وخَبيب بن إساف،
اشتركوا في قتله.
قال ابن إسحاق: وابنه علي بن أمية بن خَلف، قتله عَمَّار بن ياسر،
وأوْس بن مِعْير بن لوذان بن سعد بن جُمَح، قتله علي بن أبي طالب فيما
قال ابن هشام، ويقال: قتله الحُصَيْن بن الحارث بن المطلب وعثمان بن
مَظْعون، اشتركا فيه، فيما قال ابن هشام. قال ابن إسحاق: ثلاثة نفر.
ومن بني عامر بن لؤي: معاوية بن عامر،.حَليف لهم من عبد القَيْس، قتله
علي بن أبي طالب ويقال: قتله عُكَّاشة بن مِحْصَن، فيما قال ابن هشام.
ج / 2 ص -256-
قال
ابن إسحاق: ومَعْبد بن وهب، حليف لهم من بني كَلْب بن عوف بن كعب بن
عامر بن لَيْث، قتل معبدًا خالد وإياس ابنا البُكَير، ويقال: أبو
دُجانة، فيما قال ابن هشام. رجلان.
قال ابن هشام: فجميع من أحصى لنا من قَتْلى قريش يوم بدر. خمسون رجلًا.
قال ابن هشام: حدثني أبو عُبيدة، عن أبي عمرو: أن قتلى بدر من المشركين
كانوا سبعين رجلًا، والأسرى كذلك، وهو قول ابن عباس، وسعيد بن
المسيَّب، وفى كتاب الله تبارك وتعالى
{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} [آل عمران: 165] بقوله لأصحاب أحد -وكان من استشهد منهم سبعين
رجلًا- يقول: قد أصبتم يوم بدر مثلَيْ من استُشهد منكم يوم أحد، سبعين
قتيلًا وسبعين أسيرًا. وأنشدني أبو زيد الأنصاري لكعب بن مالك:
فأقام بالعَطَنِ المعَطَّن منهم
سبعون: عُتبة منهم والأسْوَدُ
قال ابن هشام: يعني قتلى
بدر. وهذا البيت في قصيدة له في حديث يوم أحد، سأذكرها إن شاء الله
تعالى في موضعها.
قال ابن هشام: وممن لم يذكر ابنُ إسحاق من هؤلاء السبعين القتلى.
من بني عبد شمس بن عبد مناف: وهب بن الحارث، من بني أنْمار بن بَغيض،
حليف لهم وعامر بن زيد، حليف لهم من اليمن رجلان.
ومن بني أسد بن عبد العُزَّى: عقبة بن زيد، حليف لهم من اليمن، وعُمير
مولى لهم. رجلان.
ومن بني عبد الدار بن قصي: نُبَيْه بن زيد بن مُلَيْص، وعُبَيد بن
سَليط، حليف لهم من قيس. رجلان.
ومن بني تيم بن مرة: مالك بن عبيد الله بن عثمان، وهو أخو طلحة بن عبيد
الله بن عثمان أسر فمات في الأسَارى، فعُد في القتلى، ويقال: وعمرو بن
عبد الله بن جدعان. رجلان.
ومن بني مخزوم بن يقظة: حُذَيفة بن أبي حُذَيفة بن المغيرة، قتله سعد
بن أبي وقاص وهشام بن أبي حذيفة بن المغيرة، قتله صُهَيْب بن سنان،
وزهير بن أبي رفاعة، قتله أبو أسَيْد مالك بن ربيعة، والسائب بن أبي
رفاعة. قتله عبد الرحمن بن عوف، وعائذ بن السائب بن عويمر، أسر ثم
افتُدي فمات في الطريق من جِراحةٍ جرحه إياها حمزةُ بن عبد المطلب،
وعُمَيْر حليف لهم من طيئ، وخيار، حليف لهم من القارة، سبعة نفر.
ومن بني جُمح بن عمرو: سَبْرة بن مالك، حليف لهم. رجل.
ومن بني سهم بن عمرو: الحارث بن مُنَبِّه بن الحجاج، قتله صُهَيْب بن
سنان، وعامر بن عوف بن ضُبيرة أخو عاصم بن ضبيرة، قتله عبد الله بن
صلمة العجلاني، ويقال: أبو دُجانة، رجلان.
ج / 2 ص -257-
ذكر أسرى قريش يوم بدر:
قال ابن إسحاق: وأسر من المشركين من قريش يوم بدر، من بني هاشم بن عبد
مناف: عقيل بن أبي طالب بن عبد المطَّلب بن هاشم، ونوفل بن الحارث بن
عبد المطَّلب بن هاشم.
ومن بني المطَّلب بن عبد مناف: السائب بن عُبَيد بن عبد يزيد بن هاشم
بن المطَّلب ونُعمان بن عمَرو بن عَلْقمة بن المطلب. رجلان.
ومن بني عبد شمس بن عبد مناف: عمرو بن أبي سفيان بن حرب بن أمية بن عبد
شمس والحارث بن أبي وجزة بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس. ويقال: ابن
أبي وَحرة، فيما قال ابن هشام.
قال ابن إسحاق: وأبو العاص بن الربيع بن عبد العُزَّى بن عبد شمس، وأبو
العاص بن نوفل بن عبد شمس.
ومن حلفائهم: أبو رِيشَة بن أبي عمرو وعمرو بن الأزْرق وعُقبة بن عبد
الحارث بن الحَضْرَمي، سبعة نفر.
ومن بني نوفل بن عبد مناف: عدي بن الخِيار بن عدي بن نوفل وعثمان بن
عبد شمس ابن أخي غَزْوان بن جابر، حليف لهم من بني مازن بن منصور وأبو
ثَوْر، حليف لهم. ثلاثة نفر.
ومن بني عبد الدار بن قصي: أبو عَزيز بن عُمَيْر بن هاشم بن عبد مناف
بن عبد الدار، والأسود بن عامر، حليف لهم. ويقولون: نحن بنو الأسود بن
عامر بن عمرو بن الحارث بن السباق. رجلان.
ومن بني أسد بن عبد العزى بن قصي: السائب بن أبي حُبَيْش بن المطلب بن
أسد، والحُوَيْرث بن عباد بن عثمان بن أسد.
قال ابن هشام: هو الحارث بن عائذ بن عُثمان بن أسد.
قال ابن إسحاق: وسالم بن شَمَّاخ، حليف لهم: ثلاثة نفر.
ومن بني مخزوم بن يقظة بن مرة: خالد بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن
عُمر بن مخزوم، وأمية بن أبي حذَيفة بن المغيرة، والوليد بن الوليد بن
المغيرة، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم،
وصيفي بن أبي رفاعة بن عابد بن عبد الله؛ وأبو المنذر
ج / 2 ص -258-
بن أبي
رفاعة بن عابد بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وأبو عطاء عبد الله بن أبي
السائب بن عبد الله بن عمر بن مخزوم والمطلب بن حنطب بن الحارث بن عبيد
بن عمر بن مخزوم، وخالد بن الأعلم، حليف لهم، وهو كان -فيما يذكرون-
أول من ولى فارا منهزما، وهو الذي يقول:
ولسنا على الأدبارِ تَدْمى كلومُنا
ولكن على أقدامِنا يَقْطُرُ الدمُ1
تسعة نفر.
قال ابن هشام: ويروى: "لسنا على الأعقاب".
وخالد بن الأعلم، من خزاعة؛ ويقال: عُقيلي.
قال ابن إسحاق: ومن بني سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب: أبو وَداعة بن
ضُبَيرة بن سعيد بن سعد بن سَهْم، كان أوِل أسير أفتدي من أسرى بدر
افتداه ابنه المطلب بن أبي وَداعة؛ وفرْوة بن قيْس بن عدي بن حُذافة بن
سعد بن سهم، حنظلة بن قبيصة بن حذافة بن سعد بن سهم، والحجاج بن قيس بن
عدي بن سعد بن سهم. أربعة نفر.
ومن بني جُمَح بن عمرو بن هصيص بن كعب: عبد الله بن أبي بن خلف بن وهب
بن حُذافة بن جُمَح، وأبو عَزَّة عمرو بن عبد بن عثمان بن وُهَيب بن
حذافة بن جُمَح، والفاكه، مولى أمية بن خلف، ادعاه بعد ذلك رَباح بن
المغترف، وهو يزعم أنه من بني شَمَّاخ بن مُحارِب بنِ فهر -ويقال: إن
الفاكه: ابن جرول بن حِذْيم بن عوف بن غضب بن شَماخ بن مُحارب بن فِهر-
ووهب بن عمير بن وهب بن خَلف بن وهب بن حُذافة بن جُمَح، وربيعة بن
دَرَّاج بن العَنْبس بن أهْبان بن وهب بن حذافة بن جمح، خمسة نفر.
ومن بني عامر بن لؤي: سُهيل بن عمرو بن عبد شمس بن عبد وُدّ بن نصر بن
مالك بن حِسْل بن عامر، أسره مالك بن الدُّخْشُم، أخو بني سالم بن
عَوْف، وعبد بن زَمَعة بن قيس بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن
حِسْل بن عامر، وعبد الرحمن بن مَشْنوء بن وَقْدان بن قيس بن عبد شمس
بن عبد وُدّ بن مالك بن حِسْل بن عامر. ثلاثة نفر.
ومن بني الحارث بن فهر: الطُّفَيل بن أبي قنَيْع، وعُتبة بن عمرو بن
جَحْدم. رجلان.
قال ابن إسحاق: فجميع من حفظ لنا من الأسارى ثلاثة وأربعون رجلا.
قال ابن هشام: وقع من جملة العدد رجل لم نذكر اسمه، وممن لم يذكر ابن
إسحاق من الأسارى:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الكلوم: الجراحات.
ج / 2 ص -259-
من بني
هاشم بن عبد مناف: عُتبة، حليف لهم من بني فِهر: رجل.
ومن بني المطلب بن عبد مناف: عَقيل بن عمرو، حليف لهم، وأخوه تميم بن
عمرو، وابنه. ثلاثة نفر.
ومن بني عبد شمس بن عبد مناف: خالد بن أسيد بن أبي العِيص، وأبو
العَريض يَسار، مولى العاص بن أمية. رجلان.
ومن بني نوفل بن عبد مناف: نَبْهان، مولى لهم. رجل.
ومن بني أسد بن عبد العزي: "عبيد الله بن حميد بن زهير بن الحارث. رجل.
ومن بني عبد الدار بن قصي: عَقِيل، حليف لهم من اليمن. رجل.
ومن في تَيْم بن مرة: مُسَافع بن عِياض بن صَخْر بن عامر بن كعب بن سعد
بن تَيْم، وجابر بن الزبير، حليف لهم. رجلان.
ومن بني مخزوم بن يقظة: قيس بن السائب. رجل.
ومن بني جُمَح بن عمرو: عمرو بن أبي بن خلف، وأبو رُهْم بن عبد الله،
حليف لهم، وحليف لهم ذهب عنى اسمه، وموليان لأمية بن خلف، أحدهما
نِسْطاس، وأبو رافع، غلام أمية بن خلف، ستة نفر.
ومن بني سَهْم بن عمرو: أسلم: مولى نُبيه بن الحجاج. رجل.
ومن بني عامر بن لؤي: حبيب بن جابر، والسائب بن مالك رجلان.
ومن بني الحارث بن فهر: شافع وشَفيع، حليفان لهم من أرض اليمن رجلان1.
ما قيل من الشعر في يوم بدر:
قال ابن إسحاق: وكان مما قيل من الشعر فى يوم بدر، وتراد به القوم
بينهم لما كان فيه، قول حمزة بن عبد المطلب، يرحمه الله:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 راجع أنساب وأخبار من حضر بدرا وشهداء بدر من المسلمين والقتلى من
المشركين وأسرى المشركين في الروض الأنف بتحقيقنا ج3 ص99 وما بعدها.
ج / 2 ص -260-
قال
ابن هشام: وأكثر أهل العلم بالشعر ينكرها ونقيضتها:
ألم ترَ أمرًا كان من عَجَبِ الدهرِ
وللحَيْن أسبابٌ مُبَينة الأمْرِ1
وما ذاك إلا أن قومًا أفادهم
فخانوا تَواصٍ بالعقوقِ وبالكفرِ2
عشية راحُوا نحوَ بدرٍ بجمعِهم
فكانوا رهونًا للركيةِ من بَدْرِ3
وكنا طلبنا العيرَ لم نبغِ غيرَها
فساروا إلينا فالتقينا على قَدْرِ
فلما التقينا لم تكنْ مَثْنَويَّةٌ
لنا غير طعنٍ بالمثقفة السُّمْر4
وضربٍ ببيضٍ يختلي الهامَ حَدُّها
مُشهَّرة الألوانِ بيِّنة الأثر5
ونحن تَركنا عُتبةَ الغي ثاويا
وشَيْبة في القتلى تَجَرْجَمَ في الجَفْرِ6
وعمرو ثَوَى فيمن ثَوَى من حُماتِهم
فشُقَّتْ جيوبُ النائحاتِ على عمرو
جيوبُ نساءٍ من لُؤَيِّ بنَ غالبٍ
كرامً تفرعْنَ الذوائبَ منْ فِهرِ7
أولئك قومٌ قُتِّلوا فى ضلالِهم
وخَلَّوا لواءً غيرَ مُحْتَضَرِ النصرِ
لِواءُ ضلالٍ قاد إبليسُ أهلَه
فخاس بهم، إن الخبيثَ إلى غَدْر8
وقال لهم، إذ عاينَ الأمرَ واضحًا
بَرِئْتُ إليكم ما بيَ اليومَ من صَبْرِ
فإني أرى ما لا تَرَوْنَ وإنني
أخاف عقابَ الله والله ذو قَسْرِ9
فقدَّمهم للحَيْن حتى تورطوا
وكان بما لم يَخْبُر القومُ ذا خُبْرِ
فكانوا غَداةَ البئرِ ألفًا وجمعُنا
ثلاثُ مئينٍ كالمسَدمة الزُّهْرِ10
وفينا جنودُ الله حين يمدُّنا
بهم فى مقام ثم مُستوْضَحِ الذكرِ
فشد بهم جبريلُ تحتَ لوائِنا
لدى مأزقٍ فيه مناياهمُ تجري
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الحين: الهلاك.
2 أفادهم: أهلكهم.
3 الركية: البئر ذات الماء.
4 مثنوية: رجوع.
5 يختلي: يقطع. والهام: الرءوس. والأثر: بضمتين أثر الجرح والجمع آثار
وأثور وإذا كان بفتح فسكون فهو جوهر السيف.
6 تجرجم: تسقط، والجفر: البئر المتسعة.
7 تفرعن: علون، والذوائب: الأعالي.
8 خاس: غدر.
9 القسر: الغلبة.
10 المسدمة: الفحول من الأبل، والزهر البيض.
ج / 2 ص -261-
فأجابه
الحارث بن هشام بن المغيرة، فقال:
ألا يا لقَومي للصبابةِ والهجرِ
وللحزنِ مني والحرارةِ في الصدرِ1
وللدمعِ من عينيَّ جَوْدًا كأنه
فريدُ هَوَى من سِلكِ ناظمةٍ يجري
على البطلِِ الحلوِ الشمائل إذ ثَوى
رهينَ مقامٍ للرَّكيةِ من بدرِ
فلا تبعُدْن يا عمرُو من ذي قرابةٍ
ومن ذي نِدَامٍ كان ذا خُلُقٍ غمرِ2
فإن يك قوم صادفوا منكَ دَوْلةً
فلا بد للأيام من دُوَلِ الدهرِ
فقد كنتَ في صَرْف الزمانِ الذي مضى
تُريهم هَوانًا مَنك ذا سُبُلٍ وَعْرِ
فإلا أمُتْ يا عمرو أتركْك ثائرًا
ولا ابقِ بُقْيا في إخاءٍ ولا صِهْرِ3
وأقطع ظهرًا من رجالٍ بمعشر
كرامٍ عليهم مثلَ ما قطعوا ظهرِي
أغرَّهم ما جمَّعو من وَشيظةٍ
ونحنُ الصميمُ في القبائلِ من فِهْرِ4
فيا لَلُؤَي ذَبِّبوا عن حريمِكم
وآلهةٍ لا تتركوها لذي الفَخْرِ
توارثها آباؤكم وورثتمُ
أواسيها والبيتَ ذا السقفِ والسِّترِ5
فما لحليمٍ قد أراد هلاكَكم
فلا تَعْذروه آلَ غالب من عُذْرِ
وجدُّوا لمن عاديتمُ وتوازروا
وكونوا جميعًا في التأسِّي وفي الصبرِ
لعلَكم أن تَثأروا بأخيكمُ
ولاشيء إن لم تثأروا بذوي عَمْرو
بمطَّرداتٍ فى الأكفِّ كأنها
وميضٌ تُطيرُ الهامَ بينة الأثرِ6
كأن مَدبَّ الذرِّ فوقَ متونِها
إذا جُرِّدَتْ يومًا لأعدائِها الخُزْرِ7
قال ابن هشام: أبدلنا من
هذه القصيدة كلمتين مما روى ابن إسحاق، وهما "الفخر" في آخر البيت،
و"فما لحليم" في أول البيت لأنه نال فيهما من النبي صلى الله عليه
وسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الصبابة: رقة الحب أو الحب الشديد.
2 الغمر بسكون الميم: الكريم الواسع الخلق، وهذا المعنى هو الذي يقصده
هنا.
3 الثائر: صاحب الثأر.
4 الوشيظة الأتباع الذين ليسوا من القوم.
5 الأواسي: ما تأسس عليها الأبنية.
6 المطردات: المهتزة. أي بسيوف مهتزة.
7 الذر: صغار النمل. والخزر: الناظرون بمؤخرة عيونهم كبرا.
ج / 2 ص -262-
قال
ابن إسحاق: وقال علي بن أبي طالب فى يوم بدر:
قال ابن هشام: ولم أر أحدًا من أهل العلم بالشعر يعرفها ولا نقيضتها،
وإنما كتبناهما لأنه يقال: إن عمرو بن عبد الله بن جُدْعان قُتل يوم
بدر، ولم يذكره ابن إسحاق في القتلى، وذكره في هذا الشعر:
ألم تر أن الله أبلَى رسولَه
بلاءَ عزيز ذي اقتدارٍ وذي فَضلِ
بما أنزل الكفارَ دارَ مذلةٍ
فلاقوا هَوانًا من إسارٍ ومن قَتْلِ
فأمسى رسولُ الله قد عَزَّ نصرُهُ
وكان رسولُ الله أرسل بالعدلِ
فجاء بفرقانٍ من الله مُنْزَلٍ
مُبينة آياتُهُ لذوِي العقلِ
فآمن أقوامٌ بذاك وأيقنوا
فأمْسَوْا بحمدِ الله مجتمعي الشملِ
وأنكر أقوام فزاغت قلوبُهم
فزادهمُ ذو العرشِ خَبْلًا على خَبلِ
وأمكن منهم يومَ بدرٍ رسولَه
وقومًا غِضابًا فعلهم أحسنُ الفعلِ
بأيديهمُ بيضٌ خِفاف عَصوا بها
وقد حادثوها بالجلاءِ وبالصَّقْلِ1
فكم تركوا من ناشئ ذي حَمِّيةٍ
صريعًا ومن ذي نَجْدةٍ منهمُ كَهْلِ
تبيتُ عيونُ النائحاتِ عليهمُ
تجود بإسْبالِ الرشاش وبالوَبْلِ2
نوائحَ تنعى عُتبةَ الغَي وابنَه
وشيبةَ تنعاه وتنعى أبا جَهْلِ
وذا الرِّجْل تنعَى وابنُ جُدعان فيهم
مُسَلِّبَةً حَرَّى مُبينةَ الثُّكْلِ3
ثَوَى منهمُ فى بئرِ بدر عصابةٌ
ذوي نَجَداتٍ في الحروبِ وفي المحْلِ
دعا الغي منهم من دعا فأجابه
وللغي أسبابٌ مُرَمَّقةُ الوصْلِ4
فأضحوا لدى دارِ الجحيمِ بمعزِلٍ
عن الشَّغبِ والعدوانِ في أشغلِ الشُّغلِ
فأجابه الحارث بن هشام
بن المغيرة، فقال:
عجبتُ لأقوامٍ تغنَّى سفيهُهُم
بأمر سَفاهٍ ذي اعتراض "وذي بُطْلِ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 عصوا: ضربوا. وحادثوها: تعهدوها.
2 الإسبال: الإرسال. والرشاش: المطر الضعيف. والوبل: ما كثر من المطر.
3 ذا الرَجْل: هو الأسود الذي قطع حمزة رجله عند الحوض ثم قتله فيها.
والمسلبة: التي تلبس السلاب وهي خرقة سوداء تلبسها الثكلى.
4 المرمقة: الضعيفة.
ج / 2 ص -263-
تغنى بقتلَى يوم بَدْرٍ تتابعوا
كرام المساعي من غلام ومن كهلِ
مصاليتَ بيضٍ من لُؤَيِّ بن غالب
مطاعينَ في الهيجا مَطاعيم في المَحْل1
أصيبوا كرامًا لم يَبيحوا عشيرةً
بقومٍ سواهم نازِحي الدار والأصْلِ
كما أصبحتْ غسانُ فيكم بطانةً
لكم بدلًا منا فيا لك من فِعْل.
عُقوقًا وإثمًا بَيِّنًا وقطيعةً
يَرى جورَكم فيها ذوو الرأي والعقلِ
فإن يك قوم قد مضوا لسبيلهم
وخيرُ المنايا ما يكون من القتلِ
فلا تفرحوا أن تَقْتلوهم فقتلُهم
لكم كائنٌ خَبْلًا مُقيما على خَبْلِ
فإنكم لن تَبرحُوا بعدَ قتلِهم
شتيتًا هَواكم غيرُ مجتمعي الشَّمْلِ
بفقد ابنِ جُدْعان الحميدِ فعالهُ
وعُتبةَ والمدعو فيكم أبا جَهْلِ
وشيْبَة فيهم و الوليد وفيهمُ
أميةُ مأوَى المعتَرين وذو الرِّجْل
أولئك فابْكِ ثم لا تبكِ غيرَهم
نوائحُ تدعو بالرَّزِيَّة والثُّكْلِ
وقولوا لأهلِ المكَّتين تحاشدوا
وسيروا إلى آطامِ يثربَ ذي النخلِ2
جميعًا وحامُوا آل كعبٍ وذَبّبوا
بخالصةِ الألوانِ مُحدَثة الصقْلِ3
وإلا فبيتوا خائفين وأصْبِحوا
أذلَّ لوطءِ الواطئين من النعْلِ
على أنني واللاتِ يا قومُ فاعلموا
بكم واثقٌ أن لا تُقيموا على تَبْل4
سِوى جمعِكم للسابغاتِ وللقَنا
وللبَيْض والبِيض القواطعِ والنَّبلِ5
وقال ضرار بن الخطاب بن
مرداس، أحد بني محارب بن فهر، في يوم بدر:
عجبتُ لفخرِ الأوْسِ والحَيْنُ دائرٌ
عليهم غدًا والدهرُ فيه بصائرُ
وفخر بني النجار إن كان معشر
أصيبوا ببدرٍ كلهم ثَمَّ صابرُ
فإن تك قَتْلى غُودِرتْ من رجالِنا
فإنا رجال بعدَهم سنغادرُ
وترْدِي بنا الجُرْدُ العناجيجُ وسطَكم
بني الأوْسِ حتى يَشْفي النَفَس ثائرُ6
ووسْطَ بني النجارِ سوف نَكُرُّها
لها بالقَنا والدارعين زَوافِرُ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المصاليت: الشجعان.
2 المكتبين: يقصد مكة والطائف. والآطام: جمع أطم. الحصن.
3 ذببوا: أمنعوا.
4 التبل: العداوة.
5 السابغات: صفة لموصوف محذوف أي الدروع السابغات.
6 تردى: تسرع. والجرد: الخيل القصيرات الشعر العتاق. والعناجيج: الطوال
السراع. والثائر: الطالب ثأره.
ج / 2 ص -264-
فنترك صَرْعَى تَعْصِبُ الطيرُ حولَهم
وليس لهم إلا الأمانيَّ ناصرُ1
وَتبْكيهمُ من أهل يثرب نسوة
لهنَّ بها ليل عن النومِ ساهرُ
وذلك أنا لا تزالُ سيوفُنا
بهنَّ دَمٌ -ممن يحاربنَ– مَائرُ2
فإن تَظْفَروا في يومِ بدر فإنما
بأحمدَ أمسى جَدُّكم وهو ظاهرُ
وبالنفرِ الأخيارِ هم أولياؤه
يحامون في اللأواءِ والموتُ حاضرُ
يُعدُّ أبو بكر وحَمزةُ فيهمُ
ويُدعى علي وسْطَ من أنت ذاكرُ
ويُدعى أبو حفصٍ وعثمانُ منهمُ
وسعد إذا ما كان في الحربِ حاضرُ
أولئك لا من نَتَّجتْ فى ديارِها
بنو الأوسِ والنجار حين تُفاخرُ
ولكنْ أبوهمْ من لُؤيِّ بن غالبٍ
إذا عُدت الأنسابُ كعب وعامرُ
هم الطاعنون الخيلَ في كلِّ مَعْرَكٍ
غَداةَ الهِياجِ الأطيبون الأكاثرُ
فأجابه كعب بن مالك، أخو
بني سَلمة، فقال:
عجبت لأمرِ الله والله قادر
على ما أراد، ليس للّهِ قاهرُ
قضَى يومَ بدر أن نلاقِيَ مَعشرًا
بغَوْا وسبيلُ البغي بالناسِ جائرُ
وقد حَشدوا واستنفروا من يليهم
من الناسِ حتى جَمعهم مُتكاثرُ
وسارت إلينا لا تحاولُ غيرَنا
بأجمعِها كعبٌ جميعًا وعامرُ
وفينا رسولُ الله والأوسُ حولَه
له مَعْقِل منهم عزيز وناصرُ
وجَمْعُ بني النجارِ تحت لوائهِ
يُمَثَّوْن في الماذِيِّ والنقعُ ثائر3
فلما لقِيناهم وكل مجاهدٌ
لأصحابهِ مُستَبسلُ النفسِ صابرُ
شَهِدنا بأن الله لا رَبَّ غيرَه
وأن رسولَ الله بالحقِّ ظاهرُ
وقد عريت بيضٌ خِفاف كأنها
مقاييسُ يُزْهِيها لعَيْنيك شاهرُ4
بهن أبدنا جمعَهم فتبدَّدوا
وكان يُلاقي الحَيْن من هو فاجرُ
فكُبَّ أبو جهلٍ صريعًا لوجههِ
وعتبةُ قد غادرْنَه وهو عاثرُ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تعصب: تجتمع.
2 مائر: سائل.
3 الماذي: الدرع اللينة السهلة.
4 يزهيها: يحركها.
ج / 2 ص -265-
وشبيبةُ والتيمىُّ غادرْن فى الوغَى
وما منهمُ إلا بذي العرشِ كافرُ
فأمْسَوْا وقودَ النارِ فىِ مستقرِّها
وكلُّ كفور في جهنمَ صائرُ
تَلَظي عليهم وهْيَ قد شبَّ حَمْيُها
بزُبَرِ الحديدِ والحجارة سجرُ1
وكان رسولُ الله قد قال أقبلوا
فوَلَّوْا وقالوا: إنما أنت ساحرُ
لأمر أراد الله أن يَهلِكوا به
وليس لأمر حَمَّه الله زاجرُ2
وقال عبد الله بن
الزبعري السهمي يبكي قتلَى بدر:
قال ابن هشام: وتروى للأعْشَى بن زُرارة بن النباش، أحد بني أسَيْد بن
عمرو بن تميم، حليف بني نَوْفل بن عبد مناف.
قال ابن إسحاق: حليف بني عبد الدار:
ماذا على بدر وماذا حوله
من فِتيةٍ بيضِ الوجوهِ كرامِ
تركوا نُبَيْهًا خلفَهم ومُنَبِّهًا
وابنَي ربيعة خيرَ خَصْمِ فِئام3
والحارثَ الفياضَ يبرُق وجهُهُ
كالبدرِ جَلَّى ليلةَ الإِظلامِ
والعاصي بنَ مُنَبِّه ذا مِرةٍ
رُمحًا تميمًا غيرَ ذي أوْصامِ4
تَنْمَى به أعراقُهُ وجُدودُه
ومآثر الأخوالِ والأعمامِ
وإذا بكى باكٍ فأعولَ شَجْوهُ
فعلى الرئيسِ الماجدِ ابن هشامِ5
حَيَّا الإِلهُ أبا الوليدِ ورهطَه
ربُّ الأنام، وخَصَّهم بسلامِ
فأجابه حسان بن ثابت
الأنصاري، فقال:
ابْكِ بكت عيناك ثم تبادرَتْ
بدَمٍ –تُعَلُّ غُروبُها-سَجَّامِ6
ماذا بكيتَ به الذين تتابعوا
هَلا ذكرت مكارِمَ الأقوامِ7
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تلظى: تلتهب. وزبر الحديد: قطعه. والساجر: الموقد.
2 حمه: قدره.
3 الفئام: الجماعات.
4 ذو مرة: صاحب قوة. والأوصام: العيوب.
5 الشجون: الحزن.
6 تعل: من العلل وهو الشرب مرة بعد أخرى، والغرب: مجاري الدمع.
والسجام: السائل.
7 تتابعوا: ألقوا بأنفسهم في التهلكة.
ج / 2 ص -266-
وذكرْتَ منا ماجدًا ذا هِمَّةٍ
سَمْحَ الخلائقِ صادقَ الإقدام
أعني النبيَّ أخا المكارمِ والنَّدَى
وأبرَّ من يُولي على الإقْسامِ1
فلمثلهِ ولمثلِ ما يدعو له
كان الممَدَّحَ ثَمَّ غيرَ كَهامِ2
وقال حسان بن ثابت
الأنصاري أيضًا:
تَبَلَتْ فؤادَك فى المنامِ خَريدة
تسقي الضَجيعَ ببارِدٍ بسامِ3
كالمِسْكِ تحلطه بماءِ سحابةٍ
أو عاتقٍ كدم الذبيح مُدَامِ4
نُفُجُ الحقيبةِ بُوصُها متنضدٌ
بَلهاءُ غيرُ وشَيكةِ الإِقسامِ5
بُنيت على قطنٍ أجَمَّ كأنه
فُضُلًا إذا قعدتْ مَدَاكُ رُخامِ6
وتكاد تَكسَل أن تجيءَ فِراشَها
في جِسْمِ خَرْعَبةٍ وحُسنِ قَوَامِ7
أما النهارُ فلا أفترُ ذكرَها
والليل تُوزعني بها أحلامي8
أقسمْت أنساها وأتركُ ذِكرَها
حتى تُنيَّبَ في الضريحِ عظامي9
يا مَنْ لعاذلةٍ تَلومُ سفاهةً
ولقد عَصَيْتُ على الهوى لُوَّامِي
بَكرَتْ عليَّ بسُحْرَةٍ بعدَ الكَرَى
وتقارُبٍ من حادثِ الأيام
زَعمتْ بأن المرءَ يكرُبُ عُمْرَه
عدم لمعتَكِر من الأصْرامِ10
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يولي: يقسم.
2 الكهام: الضعيف.
3 تبلت: أسقت، والجريدة: الحسنة الناعمة.
4 العاتق: الخمر المعتقة.
5 النفج: المرتفعة، الحقيبة: هي ما يجعله الراكب وراءه، استعارها هنا
لردف المرأة. والبوصي: الردف. والبلهاء: الغافلة. والإقسام: جمع قسم
وهو اليمين.
6 قطنها: وسطها. والأجم، أي: لا عظام فيه. والمداك: الحجر الذي يدق
عليه الطيب.
7 الخربعة: حسنة الخلق.
8 توزعني: تغريني.
9 أنساها: أي لا أنساها.
10 المعتكر: الإبل الكثيرة التي يرجع بعضها على بعض. والأصرام:
الجماعات من الإبل.
ج / 2 ص -267-
إن كنتِ كاذبةَ الذي حدَّثتَني
فنجوتِ مَنْجى الحارثِ بنِ هشامِ
تَرك الأحبةَ أن يُقاتل دونَهم
ونجا برأسِ طِمرَّةٍ ولجامِ1
تذر العَناجيج الجيادَ بقفْرةٍ
مرَّ الدَّموكِ بمُحْصَدٍ ورِجَامِ2
مَلأتْ به الفَرْجَيْن فارمدَّت به
وثَوَى أحبتُه بشرِّ مُقامِ3
وبنو أبيه ورَهطُه في مَعْركٍ
نصر الإلهُ به ذوي الإسلام
طحنتْهُمُ، والله يُنفذ أمرَه
حَربٌ يُشَبُّ سعيرُها بضرامِ
لولا الإلهُ وجَرْيُها لتركْنه
جَزَرَ السباعِ ودُسْنَه بحوامِي
من بينِ مأسور يُشدَّ وَثاقُهُ
صَقْر إذا لاقَى الأسنةَ حَامي
ومجدَّلٍ لا يستجيب لدعوةٍ
حتى تزولَ شوامخُ الأعلامِ
بالعارِ والذلِّ المبينِ إذا رأى
بيضَ السيوفِ تَسوق كلَّ هُمامِ
بِيَدَيْ أغر إذا انتمى لم يُخزِهِ
نسبُ القِصار سَمَيْدَعٍ مِقْدامِ4
بيضٌ إذا لاقت حديدًا صَمَّمت
كالبرقِ تحتَ ظلالِ كلِّ غَمامِ
فأجابه الحارث بن هشام، فيما ذكر ابن هشام، فقال:
الله أعلمُ ما تركتُ قتالَهمٍ
حتى حَبَوْا مُهْري بأشقَرَ مُزْبِدِ5
وعرفت أني إن أقاتلْ واحدا
أقتل ولا يَنْكى عَدوِّيَ مَشْهدِي
فصددْتُ عنهم والأحبة فيهمُ
طَمعًا لهم بعقابِ يومٍ مُفْسِدِ
قال ابن إسحاق: قالها الحارث يعتذر من فراره يوم بدر.
قال ابن هشام: تركنا من قصيدة حسان ثلاثة أبيات من آخرها؛ لأنه أقذع
فيها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الطمرة: الفرس كثيرة الجري.
2 العناجيج: الطوال السراع. والدموك: البكرة بآلتها التي تكون عند رأس
البئر، والحصد: الحبل الشديد الفتل؛ والرجام: واحد الرجامين، وهما
الخشبتان اللتان تلقى عليهما البكرة.
3 الفرجان: الفراغان اللذان بين يدي الفرس ورجليها. وأرمدت: أسرعت.
4 القصار: من قصر سعيهم عن كسب المحامد، والسميدع: السيد.
5 المزبد: ما قذف بالزبد.
ج / 2 ص -268-
قال
ابن إسحاق: وقال حسان بن ثابت أيضًا:
لقد علمتْ قريش يومَ بدر
غَداةَ الأسرِ والقَتْلِ الشديدِ
بأنا حينَ تَشْتَجِرُ العوالي
حُماةُ الحربِ يومَ أبي الوليدِ
قتلْنا ابنَي ربيعةَ يومَ سارَا
إلينا فى مُضاعفةِ الحديدِ
وفر بها حكيم يومَ جالت
بنو النجارِ تخطرُ كالأسودِ
وولَّت عند ذاك جموع فِهرٍ
وأسلمها الحُوَيرثُ من بعيدِ
لقد لاقيتمُ ذلاُّ وقتلا
جهيزًا نافذًا تحتَ الوريدِ1
وكلُّ القومِ قد وَلَّوْا جميعًا
ولم يَلْووا على الحسبِ التليدِ
وقال حسان بن ثابت
أيضًا:
يا حارِ قد عَوَّلْتَ غير معُوَّلِ
عند الهياجِ وساعةَ الأحسابِ2
إذ تمتَطى سُرُحَ اليدين نجيبةً
مَرْطَى الجراءِ طويلةَ الأقرابِ3
والقوم خلفك قد تركتَ قتالَهم
ترجو النجاةَ وليس حين ذَهاب
ألاَّ عَطفتَ على ابن أمِّك إذ ثوى
قَعْصَ الأسنةِ ضائعَ الأسلابِ4
عجلَ المليكُ له فأهلك جمعَه
بشَنارِ مُخزيةٍ وسوءِ عذابِ
قال ابن هشام: تركنا
منها بيتًا واحدًا أقذع فيه.
قال ابن إسحاق: وقال حسان بن ثابت أيضًا.
قال ابن هشام: ويقال: بل قالها عبد الله بن الحارث السهمي:
مُسْتشعِري حَلَقِ المَاذِيِّ يقدُمُهم
جَلْدُ النَّحيزةِ ماضٍ غيرُ رِعديدِ5
أعني رسولَ إله الخلقِ فَضَّله
على البريةِ بالتقوَى وبالجودِ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الجهيز: السريع. الوريد: عرق في صفحة العنق.
2 عولت: عزمت.
3 سرح اليدين: سريعتهما. ومرطى الجراء: سريعة الجري. والأقراب:
الخواصر.
4 القعص: القتل بسرعة.
5 المستشعر: اللابس الثوب على جسده بلا حاجز. والماذي: الدروع السهلة
اللينة. والنحيزة: الطبيعة.
ج / 2 ص -269-
وقد زَعمتم بأن تحموا ذمارَكم
وماءُ بدر زعمتم غيرُ مَورودِ
ثم وردْنا ولم نسمع لقولِكم
حتى شَرِبنا رَواءً غير تَصْريدِ1
مُستعصِمين بحبلٍ غيرِ منجذمِ
مُستحكَمٍ من حبالِ الله ممدودِ
فينا الرسولُ وفينا الحقُّ نتبعه
حتى المماتَ ونصر غيرُ محدودِ
وافٍ وماضٍ شهاب يُستضاءُ به
بدرٌ أنارَ على كلِّ الأماجيدِ
قال ابن هشام: بيته:
"مستعصمين بحبل غير منجذم" عن أبي زيد الأنصاري. قال ابن إسحاق: وقال
حسان بن ثابت أيضًا:
خابت بنو أسَدٍ وآب غَزِيُّهمِ
يومَ القليبِ بَسَوْءةٍ وفُضوحِ
منهمِ أبو العاصي تجدَّل مُقْعَصاَ
عن ظهرِ صادقةِ النجاءِ سَبُوحِ2
حَيْناَ له من كل مانع بسلاحهِ
لما ثَوَى بمقامهِ المذبوحِ
والمرءُ زَمْعةُ قد تركْنَ ونَحرُه
يَدْمَى بعاندِ مُعْبَطٍ مَسفوحِ3
متوسِّدًا حُرَّ الجبينِ مُعَفَّرًا
قد عُر مارِنُ أنفِهِ بقُبوحِ4
ونجا ابنُ قيسٍ فى بقيةِ رَهْطِه
بشَفا الرّماق مُوَليًا بجروحِ5
وقال حسان بن ثابت
أيضًا:
ألا ليت شِعْري هل أتى أهلَ مكةٍ
إبارتُنا الكفارَ في ساعةِ العُسْر6
قتلنا سَراةَ القومِ عند مجالِنا
فلم يَرْجعوا إلا بقاصمةِ الظهر7
قتلنا أبا جهلٍ وعُتبةَ قبلَه
وشَيْبةُ يكْبو لليدَيْن وللنحرِ
قتلنا سُوَيْدًا ثم عُتبةَ بعدَه
وطُعمة أيضًا عندَ ثائرةِ القَتْر8
فكم قد قتلنا من كريمٍ مُرَزَّءٍ
له حسبٌ في قومِهِ نابِه الذكرِ
تركناهم للعاوياتِ يَنُبنَهمْ
ويَصْلَوْنَ نارًا بعدُ حَاميةَ القعر9
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الرواء: التكثر من الماء: التصريد: تقليل الشرب.
2 المقعص: من قتل بسرعة. والسبوح: سريعة الجري كأنها تسبح في الماء
لسهولة جريها.
3 العائد: الذي يجري بلا انقطاع. ودم معبط: طري.
4 عر: لطخ.
5 الشفا: الحد.
6 إبارتنا: إهلاكنا.
7 قاصمة الظهر: أي المصيبة التي تقصم الظهور.
8 ثائرة القتر: ما ثار من الغبار.
9 العاويات: الذئاب والسباع ينوبه: يأتيه مرة بعد أخرى.
ج / 2 ص -270-
لَعَمْرك ما حامتْ فوارسُ مالكٍ
وأشياعُهم يومَ التقينا على بدرِ
قال ابن هشام: أنشدني
أبو زيد الأنصاري بيته:
قتلنا أبا جهلٍ وعُتبةَ قبله
وشَيْبةُ يكبو لليدين وللنحر
قال ابن إسحاق: وقال
حسان بن ثابت أيضًا:
نجَّى حكيمًا يومَ بدر شَدُّه
كنجاءِ مُهر من بناتِ الأعْوجِ1
لما رأى بدرًا تسيل جِلاههُ
بكتيبةٍ خضراءَ من بَلْخَزْرَجِ2
لا يَنكُلون إذا لَقُوا أعداءَهم
يمشون عائدةَ الطريقِ المنْهَجِ
كم فيهمُ من ماجدٍ ذي مَنْعةٍ
بطلٍ بمَهلكةِ الجبانِ المُحْرَجِ
ومُسَوَّدٍ يعطي الجزيلَ بكفِّه
حَمَّالِ أثقالِ الدِّيات مُتَوجِ
زَيْنِ النَّدِيِّ مُعاوِدٍ يومَ الوَغَى
ضَرْبَ الكُماةِ بكلِّ أبْيَضَ سَلْجَجِ3
قال ابن هشام: قوله
سَلْجج، عن غير ابن إسحاق.
قال ابن إسحاق: وقال حسان أيضًا:
فما نخشى بحوْلِ الله قومًا
وإن كَثروا وأجمعَتِ الزحوفُ
إذا ما ألَّبوا جمعًا علينا
كفانا حدَّهم رب رءوفُ
سموْنا يومَ بدرٍ بالعوالِي
سِراعًا ما تُضعْضِعْنا الحتوفُ
فلم ترَ عُصبةً فى الناس أنْكَى
لمن عادوا إذا لَقِحَتْ كُشوف4
ولكنا توكَّلْنا وقُلنا
مآثرُنا ومَعْقِلنا السيوفُ
لقيناهُم بها لما سَمَوْنا
ونحنُ عصابةٌ وهُمُ ألوفُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الأعوج: نوع كريم من الخيل.
2 الجلاه: ما يستقبلك من جنبات الوادي. وخضراء: سوداء من كثرة الحديد
الذي عليها.
3 السلجج: الماضي.
4 لقحت: حملت. والكشوف: الناقة التي ضربها الفحل في وقت لا تشتهيه.
والمعنى أن الحرب قد هاجت بعد سكون.
ج / 2 ص -271-
وقال
حسان بن ثابت أيضًا، يهجو بني جُمَح ومن أصيب منهم:
جمحَت بنو جُمَح لِشقْوةِ جدّهمٍ
إن الذليلَ مُوَكَّل بذليلِ
قُتلت بنو جُمَحٍ ببدرٍ عَنْوَة
وتخاذلوا سَعْيًا بكلِّ سبيلِ
جحدُوا الكتابَ وكذبوا بمحمدٍ
والله يُظهرُ دينَ كلِّ رسولِ
لعن الإلهُ أبا خُزيمةَ وابنَه
والخالدَيْن، وصاعِدَ بن عقيلِ
قال ابن إسحاق: وقال
عبيدة بن الحارث بن المطلب فى يوم بدر، وفى قطع رجله حين أصيب، في
مبارزته هو وحمزة وعلي حين بارزوا عدوهم، قال ابن هشام، وبعض أهل العلم
بالشعر ينكرها لعبيدة:
ستبلُغُ عنا أهلَ مكةَ وقعة
يَهُبُّ لها من كان عن ذاك نائيَا1
بعُتبةَ إذ ولَّى وشيبةَ بعدَه
وما كان فيها بِكْرُ عُتبة راضيَا2
فإن تقطعوا رِجلي فإني مُسلم
أرَجِّي بها عيشًا من الله دانيا
مع الحورِ أمثالِ التماثيلِ أُخلصتْ
مع الجنةِ العُليا لمن كان عَاليَا3
وبعْتُ بها عيشًا تعرَّقْتُ صَفْوَه
وعالجتُهُ حتى فقدْتُ الأدانيَا4
فأَكرمني الرحمنُ من فضلِ مَنِّهِ
بثوبٍ من الإسلامِ غطَّى المسَاوِيَا
وما كان مَكْروهًا إلىَّ قتالُهم
غداةَ دعا الأكفاءَ من كان داعيَا
ولم يَبْغِ إذ سالوا النبيَّ سواءنا
ثَلاَثتنا حتى حَضَرْنا المناديا
لقِيناهمُ كالأسْدِ تخطرُ بالقَنا
نُقاتل فى الرحمن من كان عاصيَا
فما بَرِحَتْ أقدامُنا من مقامِنا
ثَلاثتنا حتى أزيروا المنائيا
قال ابن هشام: لما أصيبت
رجل عبيدة قال: أما والله لو أدرك أبو طالب هذا اليوم لعلم أني أحق منه
بما قال حين يقول:
كذبتم وبيتِ الله يُبْزَى محمد
ولما نُطاعِنْ دونَه ونُناضلِ5
ونُسلمه حتى نُصرَّعَ حولَه
ونَذْهَلُ عن أبنائِنا والحلائلِ
وهذان البيتان فى قصيدة
لأبي طالب، وقد ذكرناها فيما مضى من هذا الكتاب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يهب: يستيقظ.
2 بكر عتبة: ابن عتبة البكر.
3 التماثيل: الصور المتقنة الصنع والضمير في أخلصت يعود على الحور
العين، والمعنى خص بها.
4 التعرق: المزج.
5 يبزى: أي لا يبزى والمعنى: لا يقهر.
ج / 2 ص -272-
شعر
كعب بن مالك في رثاء عبيدة: قال ابن إسحاق: فلما هلك عبيدة بن الحارث
من مصاب رجله يوم بدر، قال كعب بن مالك الأنصاري يبكيه:
أيا عَينُ جودي ولا تبخَلي
بدَمْعِكِ حفا ولا تنْزُرِي
على سيدٍ هَدَّنا هُلكهُ
كريم المَشاهِدِ والعُنْصرِ
جريء المقدَّم شاكي السلاحِ
كريم النَّثا طيب المَكسِرِ1
عُبيدة أمسى ولا نرتجيه
لعُرفٍ عرانا ولا مُنْكرِ
وقد كان يحمي غداةَ القتا
لِ حاميةَ الجيش بالمِبترِ
وقال كعب بن مالك أيضًا،
في يوم بدر:
ألا هل أتى غسانَ فى نأيِ دارِها
وأخبَرُ شىءٍ بالأمورِ عليمُها
بأن قد رمتنا عن قسي عداوة
مَعدّ مَعا جُهالُها وحليمُها
لأنا عبدنا الله لم نرْجُ غيرَه
رجاءَ الجِنانِ إذ أتانا زعيمُها
نبي له في قومهِ إرْثُ عِزة
وأعراقُ صِدقِ هذَّبتها أرُومُها2
فساروا وسِرْنا فالتقينا كأننا
أسودُ لِقاء لا يُرجَّى كليمُها3
ضربناهُمُ حتى هوى فى مَكَرِّنا
لمنْحر سَوْءٍ من لُؤي عظيمُها
فولوا ودسناهم ببيضٍ صوارمٍ
سواءٌ علينا حِلفُها وصَميمُها4
وقال كعب بن مالك أيضًا:
لعَمْر أبيكما يا بْنَيْ لُؤَيّ
على زَهْو لديكم وانتِخاءِ5
لَما حامتْ فوارسُكم ببدرٍ
ولا صَبروا به عندَ اللقاءِ6
وردناه بنورِ الله يجلُو
دُجَى الظَّلماءِ عنا والغطاءِ
رسولُ الله يَقْدُمنا بأمر
من أمْرِ الله أحكمَ بالقضاءِ
فما ظفرت فوارسُكم ببدرٍ
وما رَجعوا إليكمْ بالسَّوَاءِ
فلا تعجلْ أبا سُفيانَ وارقُبْ
جيادَ الخيل تطلُعُ من كَداءِ7
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 النثا: ما يتحدث به عن الشخص من خير أو ضر. وطيب المكسر: خال من
العيب.
2 الأورم: الأصول.
3 الكليم: الجريح.
4 حلفها: حليفها، والصميم: الخالص.
5 الانتخاء: الإعجاب.
6 حامت: من الحماية وهي الامتناع.
7 كداء: مكان بمكة.
ج / 2 ص -273-
بنصرِ الله روحُ القدْسِ فيها
ومِيكالٌ، فيا طِيبَ المَلاءِ1
وقال طالب بن أبي طالب،
يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويبكي أصحاب القليب من قريش يوم
بدر:
ألا إن عَيْني أنفدَتْ دمعَها سَكْبًا
تبكى على كعبٍ وما إن ترى كَعْبَا
ألا إن كَعبًا في الحروبِ تخاذلوا
وأرْداهُمُ ذا الدهرِ واجترحوا ذَنْبَا
وعامر تَبكي للملماتِ غُدوة
فيا ليت شِعْري هل أرى لهما قُربَا
هما أخوايَ لن يُعَدَّا لِغَيةٍ
تُعدُّ ولن يُستامَ جارهُما غَصْبَا2
فيا أخوينا عَبدَ شمسٍ ونوفلا
فِدًا لكما لا تبعثوا بينَنا حَرْبَا
ولا تُصبحوا من بعدِ وُدِّ وألفةٍ
أحاديثَ فيها كلُّكم يشتكي النكْبَا
ألم تعلموا ما كان في حربِ داحسٍ
وجيش أبي يكسومَ إذ مَلَئوا الشِّعبَا3
فلولا دفاعُ الله لا شيءَ غيرهُ
لأصبحتمٌ لا تَمنعون لكم سِربَا4
فما إن جَنينا فى قريشٍ عظيمةً
سوى أن حَمَينا خيرَ من وطِئ التُّربا
أخا ثقةٍ في النائباتِ مُرَزا
كريمًا نثاه لا بَخيلًا و لا ذَرْبا5
يطيفُ به العافونَ يغشون بابَه
يَؤُمون بحرًا لا نزورًا ولا صَرْبَا6
فوالله لا تنفكّ نفسي حزينةً
تَمَلْمَلُ حتى تَصدُقوا الخزرجَ الضربا
وقال ضرار بن الخطاب
الفهري، يرثي أبا جهل:
ألا من لِعَيْنٍ باتتِ الليلَ لم تَنَمْ
تُراقب نَجمًا في سوادٍ من الظُّلَمْ
كأن قذى فيها وليس بها قَذًى
سوى عَبْرةٍ من جائلِ الدمع تَنْسَجِمْ
فبلِّغ قريشًا أن خيرَ نَديِّها
وأكرمَ من يمشي بساقٍ على قَدَمْ
ثَوَى يومَ بدرٍ رَهْنَ خَوْصَاءَ رَهنُها
كريمُ المساعي غيرُ وَغْدٍ ولا بَرمْ7
فآليتُ لا تنفَكُّ عيني بعَبْرةٍ
على هالكٍ بعدَ الرئيسِ أبي الحكمْ
على هالك أشجَى لُؤَيَّ بن غالبٍ
أتته المنايا يومَ بدر فلم يَرِمْ8
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 روح القدس: جبريل. وميكال: هو ميكائيل عليهما السلام. والملاء: أراد
الملأ، وهم الأشراف.
2 يقال: هذا الشخص لغية إذا دعي لغير أبيه.
3 انظر حرب داحس فيما سبق من السيرة وهامشها.
4 السرب: النفس.
5 الذرب: الفاسد.
6 الصرب: المنقطع.
7 الخوصاء: البئر الضيقة. والبرم: البخيل.
8 لم يرم: لم يبرح.
ج / 2 ص -274-
ترى كسَرَالخَطّيُّ في نحرِ مُهرِهِ
لدى بائنٍ من لحمه بينها خِذَمْ1
وما كان ليثٌ ساكنٌ بطنَ بِيشةٍ
لدى غَلَلٍ يجرى ببطحاء في أجَمْ2
بأجرأ منه حين تختلف القَنا
وتُدْعَى نَزَالِ في القَماقمةِ البُهمْ3
فلا تجزعوا آلَ المغيرةِ واصبروا
عليه ومن يجزعْ عليه فلم يُلَم
وجِدُّوا فإن الموتَ مَكرمةٌ لَكم
وما بعدَه فى آخر العيشِ من ندَمْ
وقد قلتُ إن الريحَ طيبة لكم
وعِزَّ المقام غير شكّ لذى فَهَمْ
قال ابن هشام: وبعض أهل
العلم بالشعر ينكرها لضرار:
قال ابن إسحاق: وقال الحارث بن هشام، يبكي أخاه أبا جهل:
ألا يا لهفَ نفسي بعَد عمرو
وهل يُغني التلهفُ من قتيلِ
يخبرني المخبِّر أن عَمرًا
أمام القومِ في جَفْر مُحيلِ4
فَقِدْمًا كنت أحْسب ذاك حقُّا
وأنتَ لما تَقَدَّم غيرُ فِيلِ5
وكنتُ بنعمةٍ ما دمتَ حيا
فقد خُلفْتَ في دَرَجِ المسيلِ6
كأني حين أمسى لا أراه
ضعيفُ العَقْد ذو هَم طويلِ7
على عمرو إذا أمسيتُ يومًا
وطَرْفٌ من نَذكُّرِه كليل
قال ابن هشام: وبعض أهل
العلم بالشعر ينكرها للحارث بن هشام، وقوله: "فى جفر" عن غير ابن
إسحاق.
قال ابن إسحاق: وقال أبو بكر بن الأسْوَد بن شُعوب الليثى، وهو شداد بن
الأسود:
تحَيّي بالسلامةِ أمَّ بَكْر
وهل لي بعد قومي مِن سلامِ
فماذا بالقَليبِ قليبِ بدرٍ
من القَيْناتِ والشَّرْبِ الكرامِ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الخطي: الرماح. الخذم، وقد تنطق بالجيم: قطع اللحم.
2 بطن بيشة: مكان تنسب إليه الأسود. الغلل: الماء الجاري في أصول
الشجر، والأجم بضم الميم وفتحها وقد تسكن، مفردها أجمة: الشجر الكثير
الملتف.
3 القماقمة: السادة الكرام، والبهم: الشجعان.
4 الجفر المحيل: للبئر القديمة.
5 غير فيل: أي غير فاسد الرأي.
6 درج المسيل: موطن الذل والغلبة.
7 العقد: العزم.
ج / 2 ص -275-
وماذا بالقليب قليبِ بدرٍ
من الشِّيزَى تُكلَّل بالسنام1
وكم لكِ بالطًّويِّ طَويِّ بدرٍ
من الحَوْماتِ والنَّعَمِ المسام2
وكم لك بالطَّوِيِّ طَوِيِّ بدرٍ
من الغاياتِ والدُّسُعِ العظامِ3
وأصحابِ الكريمِ أبي علي
أخي الكاسِ الكريمةِ والنِّدامِ
وإنك لو رأيتَ أبا عقيلٍ
وأصحاب الثَّنيةِ من نَعامِ4
إذا لظللت من وَجدٍ عليهم
كأمِّ السَّقْب جائلةِ المَرامِ5
يُخبرنا الرسولُ لسَوْفَ نحيا
وكيفَ لقاءُ أصداءٍ وَهَامِ6
قال ابن هشام: أنشدني
أبو عُبيدة النحوي:
يخبِّرنا الرسولُ بأنْ سَنَحْيا
وكيف حياةُ أصداءٍ وهامِ
قال: وكان قد أسلم ثم
ارتد.
وقال ابن إسحاق: وقال أمية بن أبي الصَّلْت، يرثي من أصيب من قُريش يوم
بدر:
ألا بَكِيتِ على الكرا
مِ بني الكرامِ أولى الممادِحْ
كبكا الحمامِ على فرو
عِ الأيْكِ فى الغُصنِ الجوانحْ
يبكين حَرَّى مُستكي
ناتٍ يَرُحْنَ مع الروائحْ
أمثالهنَّ الباكيا
تِ المعولاتِ من النوائحْ
من يَبْكِهمْ يَبْكِ على
حُزْنٍ ويَصدُق كل مادحْ
ماذا ببدرِ فالعَقَن
قَلِ من مَرازبةٍ جَحاجِحْ7
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الشيزي: جفان تصنع من خشب الأبنوس.
2 الطويّ: البئر المطوية بالحجارة، والحومات: القطيع من الإبل.
والمسام: المرسل في المرعى.
3 الدسع: العطايا.
4 النعام: موضع.
5 السقب: ولد الناقة وقت وضعه.
6 الأصداء: جمع صدى وهو ما يتبقى من الميت في قبره. والهام: جمع هامة:
وهى طائر تزعم العرب أنه يخرج من رأس القتيل يصيح اسقوني حتى يؤخذ
بثأره فيسكت.
7 العقنقل: المنعقد من كثبان الرمل. والمرازبة: الرؤساء. كلمة أعجمية.
والجحاجح: السادة.
ج / 2 ص -276-
فمدافع البرْقَين فالحنان
من طَرَفِ الأوَاشِحْ1
شُمْطٍ وشبانٍ بَهَا
ليلٍ مَغاويرِ وحَاوِحْ2
ألا تَرَوْنَ لِمَا أرَى
وقدْ أبانَ لكلِّ لامحْ
أن قد تغيَّر بطنُ مكـ
ـةَ فَهْيَ مُوحشةُ الأباطحْ
من كل بِطريقٍ لبِطري
ق نَقي اللونِ واضحْ3
دُعموصُ أبواب الملو
كِ وجائب لِلخِرقِ فاتح4
من السَّراطمةِ الخَلا
جِمة المَلاوثةِ المَناجِحْ5
القائلين الفاعلين الآ
مرينَ بكلِّ صالحْ
المُطعمين الشحمَ فو
قَ الخبزِ شَحْمًا كالأنافِحْ6
نُقلُ الجفانِ مع الجفا
نِ إلى جفانٍ كالمناضِحْ7
ليست بأصفار لمن
يَعْفو ولا رَح رَحارِحْ8
للضيفِ ثم الضيفِ بعدَ
الضيفِ والبُسُط السَّلاطِحْ9
وُهُبُ المئينَ من المئي
نَ إلى المئينَ من اللواقِحْ10
سَوْق المؤَبَّلِ للمُؤبَّ
لِ صادراتٍ عن بَلادِحْ11
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مدافع: حيث يندفع السيل. البرقين: مكان. والحنان: كثيب الرمل،
والأواشح: مكان.
2 الوحاوح: جمع وحوح: المنكمش الحديد النفس.
3 البطريق: رئيس الأساقفة عند النصارى وهو أيضًا: القائد من قواد الروم
وهو العالم عند اليهود.
4 الدعموص: في الأصل دويبة صغيرة تغوص في الماء، استعارها لمن يكثر
الدخول على الملوك. والجائب: القاطع. والخلاجمة: الطوال. والملاوث:
السادة.
5 السراطمة: واسعو الخلق. والخلاجمة: الطوال. والملاوث: السادة.
6 الأنافح: جمع أنفحة وهو شيء يخرج من بطن البهائم المجترة لونه أصفر
فشبه به الشحم.
7 المناضح: الحياض.
8 الأصفار: الآنية، ويعفو: يطلب المعروف، ورح رحارح: أي واسعة من غير
عمق.
9 السلاطح: الطوال العرائض.
10 اللواقح الحوامل.
11 المؤبل: الإبل الكثيرة وبلادح: موضع.
ج / 2 ص -277-
لكرامِهم فوقَ الكرا
مِ مَزيَّة وَزْنَ الرواجحْ
كتثاقُلِ الأرطال بالقِس
طاسِ في الأيدِي الموائح1
خَذَلتهمُ فئةَ وهم
يَحمون عوراتِ الفضائحْ
الضاربين التَّقدميـ
ـة بالمهنَّدةِ الصفائحْ2
ولقد عناني صوتُهم
من بين مُسْتَسْقٍ وصائحْ
للّه دَرّ بني عَلي
أيم منهم ونَاكحْ
إن لم يُغيروا غارةً
شَعْواءَ تُجْحِر كلَّ نابحْ3
بالمُقْرَبات، المُبعَدا
تِ، الطامحاتِ من الطوَامحْ4
مُرْدًا على جُرْدٍ إلى
أسْدٍ مُكالِبةٍ كوالحْ
ويُلاقِ قِرْنٌ قِرنَه
مَشْيَ المصافِحِ للمصافحْ
بزُهاءِ ألفٍ ثم ألـ
ـفٍ بَيْن ذي بَدَنٍ ورامحْ
قال ابن هشام: تركنا
منها بيتين نال فيهما من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأنشدني
غير واحد من أهل العلم بالشعر بيته:
ويُلاق قِرنٌ قِرْنه
مَشْسي المصافحِ للمصافحْ
وأنشدني أيضًا:
وُهُبُ المئين من المئينَ
إلى المئين من اللواقحْ
سَوْق المؤبل للمؤبل
صادرات عن بلادح
قال ابن إسحاق: وقال
أمية بن أبي الصلت، يبكي زَمعَة بن الأسود، وقَتْلى بني أسد:
عينُ بَكِّي بالمسجلاتِ أبا الـ
ـحارثِ لا تَذْخَرِي عَلَى زَمَعهْ5
وابكي عقيلَ بنَ أسْود أسدَ الـ
ـبأسِ ليومِ الهياجِ والدَّفْعَهْ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الموائح: المتمايله لثقل ما ترفعه.
2 التقدمية: المتقدمين في أول الجيش، والصفائح: العرائض.
3 تجحر: تُلجئ إلى جحر.
4 المقربات: الكريمة التي تكون قرب البيوت اهتمامًا بها، والمبعدات:
التي تبعد في جريها، والطامحات: التي ترفع رءوسها.
5 تذخري: تدخري.
ج / 2 ص -278-
تلك بنو أسَدٍ إخوة الجوْ
زاءِ لا خانَة ولا خَدَعَهْ
هُمُ الأسرةُ الوسيطة من كع
ببٍ وهم ذِرْوةُ السَّنامِ والقَمَعه1
أنبتوا من معاشر شَعَرَ الر
أسِ وهُم ألحقوهم المنَعَهْ
أمسى بنو عمِّهم إذا حضر ال
بأسُ أكبادُهم عليهمُ وَجِعَهْ
وهم المطعِمون إذا قَحطَ القَط
ْرُ وحالت فلا ترى قَزَعَهْ2
قال ابن هشام: هذه
الرواية لهذا الشعر مختلطة؛ ليست بصحيحة البناء، لكن أنشدني أبو مُحْرز
خلف الأحمر وغيره، وروى بعض ما لم يروِ بعض:
عَيْنُ بَكي بالمسبلاتِ أبا الحا
رثِ لا تَذْخَري على زَمَعَهْ
وعقيلَ بنَ أسْوَدٍ أسدَ البأ
سِ ليومِ الهِياجِ والدَّفَعَهْ
فعلَى مثلِ هُلْكِهم خَوَتِ الجوْ
زاءُ، لا خانةٌ ولا خَدَعَهْ
وهمُ الأسرةُ الوسيطةُ من كَع
بٍ، وفيهم كَذِرْوةِ القَمَعَهْ
أنْبتُوا من معاشر شعرَ الرأ
سِ، وهم ألحقوهم المنَعَهْ
فبنو عمِّهم إذا حضر البأ
سُ عليهم أكبادُهم وجِعَهْ
وهم المُطعمُونَ إذا قحط القطْ
رُ وحالت فلا ترى قَزَعَهْ
قال ابن إسحاق: وقال أبو
أسامة، معاويةُ بن زُهَير بن قَيْس بن الحارث بن سعد بن ضُبَيْعة بن
مازن بن عَدي بن جُشَم بن معاوية حليف بني مخزوم، قال ابن هشام: وكان
مشركًا وكان مَرَّ بهُبَيْرة بن أبي وهب وهم منهزمون يوم بدر، وقد أعيا
هُبَيْرة، فقام فألقى عنه درعَه وحمله فمضى به، قال ابن هشام: وهذه أصح
أشعار أهل بدر:
ولما أن رأيتُ القومَ خَفُّوا
وقد زالت نعامتُهم لنَفْر3
وإن تُركَتْ سراةُ القومِ صَرْعَى
كأن خيارَهم أذْباحُ عِتْرِ4
وكانت جُمَّة وافت حِمامًا
ولُقِّينا المنايا يومَ بدرِ5
صُدُّ عن الطريقِ وأدركونا
كأن زُهاءَهم غَطَيَانُ بَحْرِ6
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الوسيطة: الشريفة. والقمعة: السنام.
2 القزعة: القطعة من السحاب المتفرق.
3 زالت، ورويت شالت نعامتهم كناية عن الهلاك فالنعامة باطن القدم ومن
مات شالت رجله فظهرت باطنها.
4 العتر: الصنم الذي يذبح له.
5 الجمة: الجماعة.
6 الغطيان: الفيضان.
ج / 2 ص -279-
وقال القائلون: مَن ابنُ قيس؟
فقلت: أبو أسامة، غير فَخْرِ
أنا الجُشَمِيُّ كيما تَعرفوني
أبَيِّنُ نسبتي نقرًا بنقْر1
فإن تك في الغَلاصمِ من قريش
فإني من معاويَةَ بنِ بكرِ2
فأبلغْ مالكًا لما غُشينا
وعندك مالِ –إن نبأتَ– خُبري3
وأبلغْ إن بلغتَ المرءَ عنا
هُبَيْرة، وهْوَ ذو عِلمٍ وقَدْرِ
بأني إذ دُعيت إلى أفَيْدٍ
كَرَرْتُ ولم يَضِقْ بالكرِّ صدري4
عشيةَ لا يَكَرُّ على مُضافٍ
ولا ذي نَعمةٍ منهم وصِهْر5
فدونكمُ بني لَأيٍ أخاكم
ودونَكِ مالكًا يا أمَّ عمرِو6
فلولا مَشْهدي قامت عليه
مُوَفَّقَةُ القوائمِ أمُّ أجْري7
دَفُوعٌ للقبورِ بمنكبَيْها
كأن بوجهِهَا تحميمُ قِدْرِ8
فأقسمُ بالذي قد كان ربي
وأنصَابٍ لدَى الجمراتِ مُغْرِ9
لسوف ترَوْن ما حَسبي إذا ما
تبدَّلت الجلودُ جلودَ نمرِ
فما إنْ خادر من أسْدِ تَرْج
مُدِل عَنْبَس فى الغيلِ مُجْرِي10
فقد أحمي الأباءةَ من كُلافٍ
فما يدنو له أحد بنقرِ11
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 النقر: الطعن فى النسب، أي إن عبتم نسبي جاوبتكم بمثله.
2 الغلاصم: الأعالي.
3 مال: أصله مالك فرخمه بحذف آخره.
4 أفيد: تصغير وفد اسم للجمع، مثل ركب، ولذلك جاز تصغيره.
5 المضاف: الخائف.
6 بني لأي: جاء به مكبرًا على أصله ويريد به بني لؤي.
7 الموفقة: السبع. والأجر، جمع جرو: وهو ولدها.
8 التحميم: التلطخ بالسواد.
9 الأنصاب: ما يذبحون عنده من الأحجار. ومغر: حمراء.
10 الخادر: الأسد في خدره، والخدر أجمة الأسد. وترج، جبل بالحجاز.
والعنبس: العابس الوجه. والغيل: الشجر الملتف. المجرى: ذو جراء، أي ذو
أشبال.
11 الأباءة: أجمة الأسد. والكلاف: إما أن تكون اسمًا لمكان أو لعله
أراد أنه من شدة كلفه بذلك.
ج / 2 ص -280-
بِخَل تَعجزُ الحُلَفاءُ عنه
يواثبُ كلَّ هَجْهَجَةٍ وزَجْرِ1
بأوشَكَ سَوْرَةً مني إذا ما
حَبَوْتُ له بقَرْقَرَةٍ وهَدْرِ2
ببيضٍ كالأسنَّةِ مُرْهَفَاتٍ
كأن ظُباتِهنَّ جَحيمُ جَمْرِ3
وأكلَفَ مُجنإٍ من جلدِ ثَوْر
وصفراء البُراية ذاتَ أزْرِ4
وأبيضَ كالغديرِ ثَوَى عليه
عُمَيْر بالمداوسِ نصفَ شَهْرِ5
أرَفِّلُ في حمائلهِ وأمشِي
كمِشْيةِ خادرٍ ليثٍ سِبَطْرِ6
يقول ليَ الفتى سَعدٌ هَدِيّا
فقلتُ: لعله تقريبُ غَدْر7
وقلت أبا عَدِيّ لا تَطُرْهم
وذلك اٍن أطعْتَ اليومَ أمري8
كدأبِهمُ بفروةَ إذ أتاهمْ
فظلَّ يُقادُ مكتوفًا بضفرِ9
قال ابن هشام: وأنشدني
أبو مُحْرز خلف الأحمر:
نَصُدُّ عن الطريق وأدركونا
كأن سِراعَهم تيارُ بحرِ
وقوله: مدلّ عنبس في
الغيلِ مُجْري، عن غير ابن إسحاق.
قال ابن إسحاق: وقال أبو أسامة أيضًا:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الخل: الطريق وسط الرمل. والحلفاء: الأصدقاء المتحالفون. والهجهجة:
زجر الأسد بأن تقول له: هج هج.
2 السورة: الحدة. والقرقرة والهدر: من أصوات فحول الإبل.
3 الظباة: جمع ظبة، حد السهم.
4 الأكلف: الترس أسود الظاهر. والمجنأ: المنحني. وصفراء: القوس.
والبرايا ما يتطاير منها حين تصنع.
5 الأبيض: السيف. وعمير: اسم رجل يصقل السيوف. والمداوس: الآلات التي
تصقل بها السيوف.
6 أرفل: أطول. والسبطر: الطويل.
7 الهدي: ما يهدى إلى البيت، ونصبه على إضمار فعل من لفظه.
8 لا تطرهم: لا تقربهم.
9 الدأب: العادة. والضفر: الحبل المفتول.
ج / 2 ص -281-
ألا من مُبلغٍ عني رسولا
مُغَلْغَلةً يُثَبتُها لطيفُ1
ألم تعلمْ مَرَدي يومَ بدر
وقد بَرَقَتْ بجنْبيْكَ الكُفوفُ2
وقد تُركت سَراةُ القومِ صَرْعَى
كأن رءوسهم حَدَجٌ نَقيفُ3
وقد مالت عليك ببطْنِ بدر
خلافَ القومِ داهيةٌ خَصيف4
فنجَّاه من الغَمراتِ عَزْمي
وعونُ الله والأمرُ الحَصيفُ
ومُنقلَبي من الأبواءِ وحْدي
ودونك جَمعُ أعداءٍ وُقوفُ5
وأنتَ لمَنْ أرادكَ مُستكينٌ
بجنبِ كُراشَ مَكلومٌ نَزِيفُ6
وكنت إذا دعاني يومَ كربٍ
من الأصحابِ داعٍ مُستضيفُ7
فأسمعني ولو أحببت نفسي
أخٌ فى مثلِ ذلك أو حليفُ
أرُدُّ فأكشِفُ الغُمَّى وأرْمِي
إذا كَلَحَ المَشافرُ والأنوفُ8
وقِرنٍ قد تركتُ على يديه
ينوءُ كأنه غُصْن قَصيفُ
دلفْتُ له إذا اختلطوا بحَرَّى
مُسَحْسَحةٍ لعانِدِها حَفيفُ9
فذلك كان صُنعي يومَ بدرٍ
وقبلُ أخو مُداراةٍ عَزوفُ10
أخوكم فى السنين كما عَلمتم
وحَربٍ لا يزالُ لها صَريفُ11
ومِقدام لكم لا يَزْدهيني
جَنانُ الليلِ والأنَسُ اللفيفُ12
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المغلغلة: الرسالة. واللطيف: الحازم في أموره.
2 برقت: لمعت.
3 الحدج النقيف: الحنظل المكسور لأخذ الحب منه.
4 الخصيف المتراكم.
5 الأبواء: مكان بين مكة والمدينة وبه قبر آمنة أم الرسول صلى الله
عليه وسلم.
6 كراش: اسم جبل، والمكلوم: الجريح.
7 المستضيف: الواقع في الضيق.
8 المشافر: شفاه الإبل، واستعارها هنا للآدمي.
9 حرى: موجعة: صفة لموصوف محذوف أي طعنة موجعة. المسحسحة: كثيرة سيلان
الدم. والمعاند: العرق الذي لا ينقطع دمه. والحفيف: الصوت.
10 المداراة: مصانعة الناس. والعزوف: المترفع عن الدنايا.
11 السنين: سنين القحط المجدبة. والصريف: الصوت.
12 جنان الليل: ظلمته. الأنس اللفيف: الجماعة الكثيرة.
ج / 2 ص -282-
أخوض الصَّرَّةَ الجمَّاءَ خَوْضاَ
إذا ما الكلْبُ ألجأه الشَّفيفُ1
قال ابن هشام: تركت
قصيدة لأبي أسامة على اللام، ليس فيها ذكر بدر إلا في أول بيت منها
والثاني، كراهة الإكثار.
قال ابن إسحاق: وقالت هند بنت عُتبة بن ربيعة تبكي أباها يوم بدر:
أعينَي جوادا بدمعٍ سَرِبْ
على خيرِ خِنْدِفَ لم ينقلبْ
تداعى له رهطُهُ غُدوةً
بنو هاشمٍ وبنو المطلبْ
يُذيقونه حَدَّ أسيافِهم
يَعُلُّونَه بعد ما قد عَطِبْ
يَجرونه وعفيرُ التراب
على وجههِ عاريًا قد سُلبْ
وكان لنا جَبلًا راسيًا
جميلَ المرآة كثيرَ العُشُبْ2
وأمَّا بُرَيُ فلم أعْنِه
فأوتِي من خير ما يَحتَسب3
وقالت هند أيضًا:
يريبُ علينا دهرُنا فيسوءنا
ويأبَى فما تأتي بشيءٍ يغالبُهْ
أبعدَ قتيلٍ من لؤيِّ بنِ غالبٍ
يُراع أمرؤ إن مات أو مات صاحبُهْ
ألا رُبَّ يوم قد رُزئت مُرَزَّءًا
تروح وتغدو بالجزيلِ مواهبُهْ
فأبلغْ أبا سًفيانَ عني مَالكًا
فإن ألْقَهْ يومًا فسوف أعاتبهْ4
فقد كان حرب يُسعِرُ الحربَ إنه
لكلِّ امرىء في الناسِ مولًى يطالبُهْ5
قال ابن هشام: وبعض أهل
العلم بالشعر ينكرها لهند.
قال ابن إسحاق: وقالت هند أيضًا:
للّهِ عَيْنا مَنْ رَأى
هُلْكا كَهُلْكِ رِجَالِيَهْ
يا رُبَّ باكٍ لي غدا
فى النائباتِ وباكيهْ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الصرة: شدة البرد. الجماء: الشديدة. والشفيف: الريح الشديدة.
2 المرآة: أرادت مرآة العين، فنقلت حركة الهمزة إلى الساكن قبلها فحذفت
الهمزة.
3 بري: مصغر البراء وهو اسم رجل.
4 المالك: الرسالة الشفوية.
5 حرب: والد أبي سفيان.
ج / 2 ص -283-
كما غادروا يومَ القليب
غداةَ تلك الوَاعيهْ1
من كلِّ غيثفى السنيـ
ـن إذا الكواكبُ خاويهْ
قد كنتُ أحذَرُ ما أرى
فاليوم حَقَّ حَذارية
قد كنت أحْذَرُ ما أرى
فأنا الغَداةَ مُوامِيَهْ2
يا رُبَّ قائلةٍ غدًا
يا ويح أمِّ مُعاويهْ
قال ابن هشام: وبعض أهل
العلم بالشعر ينكرها لهند.
قال ابن إسحاق: وقالت هند أيضًا:
يا عينُ بكِّي عُتُبه
شيخًا شديد الرَّقبه
يُطعم يوم المسغبه
يدفع يوم المغلَبه
إني عليه حَرِبَهْ
ملهوفة مُسْتَلبه3
لنهبطنَّ يثربَهْ
بغارةٍ مُنْثعبهْ4
فيها الخيولُ مُقْرَبه
كلُّ جوادٍ سَلْهَبَهْ5
وقالت صفية بنتُ مسافر
بن أبي عَمرو بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، تبكي أهل القليب الذين
أصيبوا يوم بدر من قريش وتذكر مصابَهم:
يا مَن لعين قَذَاها عائرُ الرمدِ
حَدَّ النهارِ وقَرْنُ الشمسِ لم يَقِدِ6
أخبرت أن سَراةَ الأكرمين معًا
قد أحرَزتْهم مناياهُم إلى أمَدِ
وفَرَّ بالقومِ أصحابُ الركابِ ولم
تَعطِفْ غَداتئِذٍ أم على ولدِ
قُومي صَفِيَّ ولا تنسى قرابتَهم
وإن بكيتِ فما تبكين من بُعُدِ
كانوا سقُوبَ سماء البيت فانقصفتْ
فأصبح السَّمْك منها غيرَ ذي عَمَدِ7
قال ابن هشام: أنشدني
بيتها: "كانوا سقوب" بعض أهل العلم بالشعر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الواعية: الصراخ.
2 موامية: أصلها مؤامية وهي الذليلة.
3 الحربة: الحزينة.
4 المنثعبة: سريعة السيلان.
5 السهلية: الفرس الطويلة.
6 القذا: ما يقع في العين من الأذى. والعائر: وجع في العين. وحد
النهار: الفاصل الذي بينه وبين الليل. وقرن الشمس: أعلاها. ولم يقد: لم
يتم نوره.
7 السقوب: عمد الخباء.
ج / 2 ص -284-
قال
ابن إسحاق: وقالت صفية بنت مسافر أيضًا:
ألا يا مَنْ لعينٍ
للتبكي دمعُها فانِ
كغَربي دالجِ يَسْقِي
خِلالَ الغَيِّثِ الدانِ1
وما ليثُ غريفٍ ذو
أظافير وأسنانِ2
أبو شِبْلَيْنِ وَثَّابٌ
شديدُ البطشِ غَرْثانِ3
كحِبِّي إذ تولَّى
ووجوهُ القوم ألوانُ
وبالكفِّ حسام صا
رمٌ أبيضُ ذُكران4
وأنت الطَّاعنُ النجلا
ءَ منها مُزبذ آن5
قال ابن هشام: ويروون
قولها: "وما ليث غريف" إلى آخرها، مفصولًا من البيتين اللذين قبله.
قال ابن إسحاق: وقالت هند بنت أثاثة بن عَبَّاد بن المطلب ترثي عُبيدة
بن الحارث بن المطلب:
لقد ضمِّن الصفراءُ مجدًا وسؤدَدًا
وحِلمًا أصيلًا وافرَ اللُّبِّ والعقْلِ6
عبيدةَ فابكيه لأضيافِ غُربةٍ
وأرملةٍ تهوِي لأشْعثَ كالجَذْلِ7
وبكِّيه للأقوامِ فى كلِّ شَتوةٍ
إذا احمرَّ آفاقُ السماءِ من المَحْلِ
وبكِّيه للأيتامِ والريحُ زَفْرَة
وتشْبيب قِدرٍ طالما أزْبدت تَغْلى8
فإن تُصبح النيرانُ قد مات ضَوْؤها
فقد كان يُذْكِيهنَّ بالحطَبِ الجَزْلِ
لطارقِ ليلٍ أو لملتمسِ القِرَى
ومُسْتنبحٍ أضْحَى لديه على رِسْلِ9
قال ابن هشام: وأكثر أهل
العلم بالشعر ينكرها لهند.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الغرب: الدلو العظيمة. الدالج: السائر بالدلو بين البئر والشجر.
2 الغريف: أجمة الأسد.
3 الغرثان: الجوعان.
4 الذكران: أجود الحديد وأيبسه.
5 المزبد: الذي له زبد وهو الرغوة. وآن: حام.
6 الصفراء: موضع بين مكة والمدينة.
7 الأشعث: المتغير. والجذل: أصل الشجرة.
8 الريح الزفرة: الشديدة. والتشبيب: إيقاد النار تحت القدر. وأزبدت:
رمت بالزبد وهو الرغوة.
9 المستنبح: الضال بالليل فينبح مثل الكلاب فتجاوبه كلاب الحي فيهتدي
إليه. والرسل: هنا الرخاء.
ج / 2 ص -285-
قال
ابن إسحاق: وقالت قُتَيلة بن الحارث، أخت النضر بن الحارث1، تبكيه:
يا راكبًا إن الأثيْل مظنة
من صُبحِ خامسةٍ وأنت مُوَفَّقُ
أبلغْ بها مَيْتًا بأن تحيةً
ما إن تزالُ بها النجائبُ تَخْفقُ
مني إليك وعَبرةً مسفوحةً
جادت بواكفِها وأخرى تخنُقُ2
هل يسمعنِّي النضرُ إن ناديتُهُ
أم كيف يسمع مَيِّتٌ لا ينطقُ
أمحمد يا خيرَ ضنْءِ كريمةٍ
فى قومِها والفحلُ فحلٌ مُعْرقُ3
ما كان ضَرَّك لو مَنَنْت وربما
مَنَّ الفتى وهو المَغيظُ المحْنَقُ
أو كنت قابلَ فديةٍ فليُنفقنَّ
بأعز ما يغلو به ما يُنفَقُ
فالنضرُ أقربُ من أسَرْتَ قرابةً
وأحقُّهم إن كان عِتْقٌ يُعتَقُ
ظلتْ سيوفُ بني أبيه تَنُوشُهُ
للّه أرحامٌ هناك تُشققُ
صَبرًا يُقاد إلى المنية مُتْعَبًا
رَسْف المقيَّد وهُو عانٍ مُوثَقُ
قال ابن هشام: فيقال،
والله أعلم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغه هذا الشعر، قال:
"لو بلغني هذا قبل قتله لمننت عليه".
قال ابن إسحاق: وكان فراغُ رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدر في
عَقِب شهر رمضان أو في شوال.
بحمد الله وحسن توفيقه تم الجزء الثاني من سيرة ابن هشام ويليه الجزء
الثالث إن شاء الله نرجو من الله أن يعين على تمامه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الصحيح: أنها بنت النضر لا أخته.
2 الواكف: السائل.
3 الضن: الأصل. والمعرق: الكريم. |