عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل و السير ط. دار القلم

بَعْثُ الرَّجِيعِ
وَكَانَ فِي صَفَرٍ عَلَى رَأْسِ سِتَّةٍ وَثَلاثِينَ شَهْرًا مِنْ مُهَاجَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي مُوسَى بن إسماعيل، فثنا إِبْرَاهِيمُ قَالَ: أَنَا ابْنُ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ أَسِيدِ بْنِ جَارِيَةَ الثَّقَفِيُّ حَلِيفُ بَنِي زُهْرَةَ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشَرَةً عَيْنًا، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَاصِمَ بْنَ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيَّ جَدَّ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ [1] حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالْهَدْأَةِ بَيْنَ عُسْفَانَ وَمَكَّةَ، ذَكَرُوا لِحَيٍّ مِنْ هُذَيْلٍ يُقَالُ لَهُمْ: بَنُو لِحْيَانَ، فَنَفَرُوا لَهُمْ بِقَرِيبٍ مِنْ مِائَةِ رَجُلٍ رَامٍ، فَاقْتَصُّوا آثَارَهُمْ حَتَّى وَجَدُوا مَأْكَلَهُمُ التَّمْرَ فِي مَنْزِلٍ نَزَلُوهُ، فقالوا: تمر يثرب، فاتبعوا آثارهم، فلما أحسن بِهِمْ عَاصِمٌ وَأَصْحَابُهُ لَجَأُوا إِلَى مَوْضِعٍ فَأَحَاطَ بِهِمُ الْقَوْمُ، فَقَالُوا: انْزِلُوا فَأَعْطُوا بِأَيْدِيكُمْ، وَلَكُمُ الْعَهْدُ وَالْمِيثَاقُ، وَأَنْ لا نَقْتُلَ مِنْكُمْ أَحَدًا. فَقَالَ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتٍ: أَيُّهَا الْقَوْمُ، أَمَّا أَنَا فَلا أَنْزِلُ فِي ذِمَّةِ كَافِرٍ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ أَخْبِرْ عَنَّا نَبِيَّكَ، فَرَمَوْهُمْ بِالنَّبْلِ، فَقَتَلُوا عَاصِمًا، وَنَزَلَ إِلَيْهِمْ ثَلاثَةُ نَفَرٍ عَلَى الْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ، مِنْهُمْ: خُبَيْبٌ، وَزَيْدُ بْنُ الدَّثِنَةِ، وَرَجُلٌ آخَرُ، فَلَمَّا اسْتَمْكَنُوا مِنْهُمْ أَطْلَقُوا أَوْتَارَ قِسِيِّهِمْ، فَرَبَطُوهُمْ بِهَا، فَقَالَ الرَّجُلُ الثَّالِثُ: هَذَا أَوَّلُ الْغَدْرِ، وَاللَّهِ لا أَصْحَبُكُمْ، إِنَّ لِي بهؤلاء أسوة، يريد القتلى، فجروه وَعَالَجُوهُ، فَأَبَى أَنْ يَصْحَبَهُمْ، فَانْطَلَقَ بِخُبَيْبٍ وَزَيْدِ بْنِ الدَّثِنَةِ حَتَّى بَاعُوهُمَا بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ، فَابْتَاعَ بَنُو الْحَارِثِ بْنِ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلٍ خبيبا، وكان خبيب هو قَتَلَ الْحَارِثَ بْنَ عَامِرٍ يَوْمَ بَدْرٍ، فَلَبِثَ خُبَيْبٌ عِنْدَهْمُ أَسِيرًا حَتَّى أَجْمَعُوا قَتْلَهُ، فَاسْتَعَارَ خبيب من بعض بنات الحرث مُوسَى يَسْتَحِدُّ بِهَا، فَأَعَارَتْهُ فَدَرَجَ بُنَيٌّ [2] لَهَا وَهِيَ غَافِلَةٌ حَتَّى أَتَاهُ، فَوَجَدْتُهُ مُجْلِسَهُ عَلَى فخذه، والموسى بيده، قالت:
__________
[ (1) ] أنظر صحيح البخاري كتاب المغازي باب غزوة الرجيع وركل وذكوان وبئر معونة ... (5/ 40) .
[ (2) ] ورد في شرح المواهب أن الصبي هو: أبو الحسين بن الحارث بن عامر بن نوفل.

(2/58)


فَفَزَعْتُ فَزْعَةً عَرَفَهَا خُبَيْبٌ، فَقَالَ: أَتَخْشِينَ أَنْ أَقْتُلَهُ؟ مَا كُنْتُ لأَفْعَلَ ذَلِكَ، قَالَتْ:
وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ أَسِيرًا خَيْرًا مِنْ خُبَيْبٍ، وَاللَّهِ لَقَدْ وَجَدْتُهُ يَوْمًا يَأْكُلُ قُطْفًا مِنْ عِنَبٍ فِي يَدِهِ، وَإِنَّهُ لَمُوثَقٌ بِالْحَدِيدِ، وَمَا بِمَكَّةَ مِنْ ثَمَرَةٍ، وَكَانَتْ تَقُولُ: أَنَّهُ لَرِزْقٌ رَزَقَهُ الله خبيبا.
فلما خرجوا به من الْحَرَمِ لِيَقْتُلُوهُ فِي الْحِلِّ، قَالَ لَهُمْ خُبَيْبٌ: دعوني أصلي ركعتين، فتركوه فرجع رَكْعَتَيْنِ وَقَالَ: وَاللَّهِ لَوْلا أَنْ تَحْسَبُوا أَنَّ مَا بِي جَزَعٌ لَزِدْتُ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ أَحْصِهِمْ عَدَدًا، وَاقْتُلُهُمْ بَدَدًا، وَلا تُبْقِ مِنْهُمْ أَحَدًا، ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
فَلَسْتُ أُبَالِي حِينَ أَقْتُلُ مُسْلِمًا ... عَلَى أَيِّ شِقٍّ كَانَ لِلَّهِ مَصْرَعِي
وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الإِلَهِ وَإِنْ يَشَأْ ... يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ
ثُمَّ قَامَ إِلَيْهِ أَبُو سَرْوَعَةَ عُقْبَةُ بْنُ الْحَارِثِ فَقَتَلَهُ. وكان خبيب هو سن لكل مسلم قتل صَبْرا الصَّلاة، وَأَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابه يَوْمَ أُصِيبُوا خَبَرَهُمْ، وَبَعَثَ نَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَى عَاصِمِ بْنِ ثَابِتٍ حِينَ حَدَّثُوا أَنَّهُ قُتِلَ أَنْ يُؤْتُوا بِشَيْءٍ مِنْهُ يُعْرَفُ، وَكَانَ قَتَلَ عَظِيمًا مِنْ عُظَمَائِهِمْ، فبعث الله لعاصم مثل الظلة من الدبر فَحَمَتْهُ مِنْ رُسُلِهِمْ، فَلَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَقْطَعُوا مِنْهُ شَيْئًا. كَذَا رُوِّينَا فِي هَذَا الْخَبَرِ مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ فِي جَامِعِهِ وَفِيهِ: أَنَّ خُبَيْبًا هَذَا قَتَلَ الْحَارِثَ بْنَ عَامِرٍ يَوْمَ بَدْرٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ بِمَعْرُوفٍ. وَإِنَّمَا الَّذِي قَتَلَ الْحَارِثَ بْنَ عَامِرٍ خُبَيْبُ بْنُ إِسَافِ بن عنب بْنِ عَمْرِو بْنِ خَدِيجِ بْنِ عَامِرِ بْنِ جسم بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ. وَخُبَيْبُ بْنُ عَدِيٍّ لَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ أَرْبَابِ المغازي.
وروينا عن ابن إسحق قال: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ بَعْدَ أُحُدٍ رَهْطٌ مِنْ عضل وَالْقَارَةِ [1] ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فِينَا إِسْلامًا، فَابْعَثْ مَعَنَا نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِكَ يُفَقِّهُونَنَا فِي الدين، ويقرؤوننا الْقُرْآنَ، وَيُعَلِّمُونَنَا شَرَائِعَ الإِسْلامِ، فَبَعَثَ [2] مَعَهُمْ نَفَرًا سِتَّةً مِنْ أَصْحَابِهِ، وَهُمْ: مَرْثَدُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيُّ، حَلِيفُ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَخَالِدُ بْنُ الْبَكَيْرِ اللَّيْثِيُّ، حَلِيفُ بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَعَاصِمُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ أَبِي الأقلح أخو بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ [3]
__________
[ (1) ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: عضل والقارة من الهون بن خزيمة بن مدركة.
[ (2) ] وعند ابن هشام: فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم نفرا ستة من أصحابه.
[ (3) ] وعند ابن هشام: أخو بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الأوس.

(2/59)


وخبيب بْنُ عَدِيٍّ أَخُو بَنِي جَحْجبَا بْنِ كُلْفَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَزَيْدُ بْنُ الدَّثِنَةِ [1] أَخُو بَنِي بَيَاضَةَ [2] ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَارِقٍ حَلِيفُ بَنِي ظَفَرٍ [3] . وَأَمَّرَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْقَوْم مَرْثَدَ بْنَ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيَّ، فَخَرَجُوا مَعَ الْقَوْمِ، حَتَّى إِذَا كَانُوا عَلَى الرَّجِيعِ- مَاءٍ لِهُذَيْلٍ [4]- غَدَرُوا بِهِمْ، فَاسْتَصْرَخُوا عَلَيْهِمْ هُذَيْلا، فَلَمْ يَرُعِ الْقَوْم وهم فِي رِحَالِهِمْ إِلَّا الرِّجَال بِأَيْدِيهِمُ السُّيُوفُ قَدْ غَشَوْهُمْ، فَأَخَذُوا أَسْيَافَهُمْ لَيَقْتُلُوا الْقَوْمَ [5] ، فَقَالُوا لَهُمْ: إِنَّا وَاللَّهِ لا نُرِيدُ قَتْلَكُمْ، وَلَكِنَّا نُرِيدُ أَنْ نُصِيبَ بِكُمْ شَيْئًا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَلَكُمْ عَهْدُ اللَّه وَمِيثَاقُهُ أَنْ لا نَقْتُلَكُمْ فَأَبَوْا.
فَأَمَّا مَرْثَدٌ وَخَالِدٌ وَعَاصِمٌ [6] فَقَالُوا: وَاللَّهِ لا نَقْبَلُ مِنْ مُشْرِكٍ عَهْدًا [7] وَقَاتَلُوا حَتَّى قُتِلُوا [8] . فَلَمَّا قُتِلَ عَاصِمٌ أَرَادَتْ هُذَيْلٌ أَخْذَ رَأْسِهِ لِيَبِيعُوهُ مِنْ سلافَةَ بِنْتِ سَعْدِ بْنِ شَهِيدٍ، وَكَانَتْ قَدْ نَذَرَتْ حِينَ أَصَابَ ابْنَيْهَا يَوْمَ أُحُدٍ: لَئِنْ قَدَرْتُ عَلَى رَأْسِ عَاصِمٍ
__________
[ (1) ] وعند ابن هشام: زيد بن الدثنة بن معاوية.
[ (2) ] وعند ابن هشام: أخو بني بياضة بن عمرو بن زريق بن عبد حارثة بن مالك بن غضب بن جشم بن الخزرج.
[ (3) ] وعند ابن هشام: حليف بني ظفر بن الخزرج بن عمر بن مالك بن الأوس.
[ (4) ] وعند ابن هشام: ماء لهذيل بناحية الحجاز على صدور الهدأة.
[ (5) ] وعند ابن هشام: فأخذوا أسيافهم ليقاتلوهم.
[ (6) ] وعند ابن هشام: فأما مرثد بن أبي مرقد وخالد بن البكير وعاصم بن ثابت.
[ (7) ] وعند ابن هشام: والله لا نقبل من مشرك عهدا ولا عقدا أبدا، فقال عاصم بن ثابت:
ما علتي وأنا جلد نابل ... والقوس فيها وتر عنابل
تزل عن صفحتها المعابل ... الموت حق والحياة باطل
وكل ما حم الإله نازل ... بالمرء والمرء إليه آثل
إن لم أقاتلكم فأمي هابل
قال ابن هشام: هابل: ثاكل.
وقال عاصم بن ثابت أيضا:
أبو سليمان وريش المقعد ... وضالة قبل الجحيم الموقد
إذا النواجي افترشت لم أرعد ... ومخبأ من جلد ثور أجرد
ومؤمنا بما على محمد وقال عاصم بن ثابت أيضا:
أبو سليمان ومثلي رامي ... وكان قومي معشرا كراما
وكان عاصم بن ثابت يكنى: أبا سليمان.
[ (8) ] وعند ابن هشام: ثم قاتل القوم حتى قتل وقتل صاحباه.

(2/60)


لَتَشْرَبَنَّ فِيهِ الْخَمْرَ [1] . قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ: وجعلت لمن جاءت بِرَأْسِهِ مِائَةَ نَاقَةٍ.
رَجْعٌ إِلَى خَبَرِ ابْن إسحق: فَمَنَعَهُ الدبر [2] ، فَلَمَّا حَالَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ قَالُوا: دَعُوهُ حَتَّى يُمْسِي [3] فَنَأْخُذَهُ فَبَعَثَ اللَّهُ الْوَادِي، فَاحْتَمَلَ عَاصِمًا فَذَهَبَ بِهِ، وَقَدْ كَانَ عَاصِمٌ أعصى اللَّهَ عَهْدًا [4] أَنْ لا يَمَسَّهُ مُشْرِكٌ وَلا يَمَسَّ مُشْرِكًا أَبَدًا [5] .
وَأَمَّا زَيْدُ بْنُ الدَّثِنَةِ وَخُبَيْبٌ وَابْنُ طَارِقٍ [6] فَلانُوا وَرَقُّوا، وَرَغَبُوا فِي الحيوة، فَأَعْطُوا بِأَيْدِيهِمْ، فَأَسَرُوهُمْ، ثُمَّ خَرَجُوا بِهِمْ إِلَى مكة ليبعوهم بِهَا، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالظَّهْرَانِ انْتَزَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْن طَارِقٍ يَدَهُ مِنَ الْقِرَانِ، ثُمَّ أَخَذَ سَيْفَهُ وَاسْتَأْخَرَ عَنِ [7] الْقَوْمِ، فَرَمَوْهُ بِالْحِجَارَةِ حتى قتلوه، فقبر بِالظَّهْرَانِ يَرْحَمُهُ اللَّهُ. وَأَمَّا خُبَيْبٌ وَزَيْدٌ فَقَدِمُوا بهما مكة فباعوهما مِنْ قُرَيْشٍ بِأَسِيرَيْنِ مِنْ هُذَيْل كَانَا بِمَكَّةَ [8] فَابْتَاعَ خُبَيْبًا حُجَيْرُ بْنُ أَبِي أَهَابٍ التَّمِيمِيُّ، حَلِيفُ بَنِي نَوْفَلٍ لِعُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَامِرٍ لَيَقْتُلَهُ بِأَبِيهِ [9] . وَأَمَّا زَيْدُ بْنُ الدَّثِنَةِ فابتاعه صفوان بن أمية بِأَبِيهِ [10] فَأَخْرَجَهُ مَعَ مَوْلًى لَهُ يُقَالُ لَهُ: نَسْطَاسٌ، إِلَى التَّنْعِيمِ، خَارِجِ الْحَرَمِ لِيَقْتُلَهُ [11] وَاجْتَمَعَ رَهْطٌ مِنْ قُرَيْشٍ فِيهِمْ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، فَقَالَ لَهُ أَبُو سُفْيَانَ حِينَ قُدِّمَ لِيُقْتَلَ: أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ يَا زَيْدُ، أَتُحِبُّ أَنَّ محمدا الآن
__________
[ (1) ] وعند ابن هشام: لتشربن في قحفة الخمر.
[ (2) ] وعند ابن هشام: فمنعته الدبر.
[ (3) ] وعند ابن هشام: دعوه حتى يمسي فتذهب عنه.
[ (4) ] وعند ابن هشام: وقد كان عاصم قد أَعْطَى اللَّهَ عَهْدًا أَنْ لا يَمَسَّهُ مُشْرِكٌ ...
[ (5) ] وعند ابن هشام: فكان عمر بنا خطاب رضي الله عنه يقول حين بلغه أن الدبر منعته: يحفظ الله العبد المؤمن، كان عاصم نذر أَنْ لا يَمَسَّهُ مُشْرِكٌ وَلا يَمَسَّ مُشْرِكًا أبدا في حياته، فمنعه الله بعد وفاته كما امتنع في حياته.
[ (6) ] وعند ابن هشام: وأما زيد بن الدثنة وخبيب بن عدي وعبد الله بن طارق ...
[ (7) ] وعند ابن هشام: واستأخر عند القوم.
[ (8) ] وعند ابن هشام: وأما خبيب بن عدي وزيد بن الدثنة فقدموا بهما مكة. قال ابن هشام: فباعوهما مِنْ قُرَيْشٍ بِأَسِيرَيْنِ مِنْ هُذَيْل كَانَا بِمَكَّةَ. قال ابن إسحاق: فأبتاع خبيبا ...
[ (9) ] وعند ابن هشام: وكان أبو إهاب أخا الحارث بن عامر لأمه ليقتله بأبيه. قال ابن هشام: الحارث بن عامر خال أبي إهاب، وأبو إهاب أحد بني أسيد بن عمرو بن تميم، ويقال: أحد بني عدس بن زيد بن عبد الله بن دارم، من بني تميم.
[ (10) ] وعند ابن هشام: ليقتله بأبيه أمية بن خلف، وبعث به صفوان بن أمية مع مولى له يقال له: فسطاس إلى التنعيم.
[ (11) ] وعند ابن هشام: وأخرجوه من الحرم ليقتلوه.

(2/61)


عِنْدَنَا مَكَانَكَ نَضْرِبُ عُنُقَهُ، وَأَنَّكَ فِي أَهْلِكَ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أُحِبُّ أَنَّ مُحَمَّدًا الآنَ فِي مَكَانِهِ الَّذِي هُوَ فِيهِ تُصِيبُهُ شَوْكَةٌ تؤذيه، وأني لجالس في أهلي، قال: يقول أَبُو سُفْيَانَ، مَا رَأَيْتُ مِنَ النَّاسِ أَحَدًا يُحِبُّ أَحَدًا كَحُبِّ أَصْحَابِ مُحَمَّد مُحَمَّدا، ثُمَّ قَتَلَهُ نَسْطَاسٌ، يَرْحَمُهُ اللَّهُ. وَرَأَيْتُ فِي كِتَابِ (ذَيْلِ الْمُذَيَّلِ) لأَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ، لِحَسَّانِ بْنِ ثَابِتٍ يُرْثِي أَصْحَابَ الرَّجِيعِ السِّتَّةَ:
أَلا لَيْتَنِي فِيهَا شَهِدْتُ ابْنَ طَارِقٍ ... وَزَيْدًا وَمَا تُغْنِي الأَمَانِي وَمَرْثَدَا
وَدَافَعْتُ عَنْ حِبِّي خُبَيْبٍ وَعَاصِمٍ ... وَكَانَ شِفَاءً لَوْ تَدَارَكْتُ خَالِدَا
وَذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ: أَنَّ الْبَعْثَ كَانُوا عَشَرَةً، وَذَكَرَ السِّتَّةَ الَّذِينَ ذَكَرْنَاهُمْ وَزَادَ:
وَمُعَتِّبُ بْنُ عُبَيْدٍ، وَهُوَ أَخُو عَبْد اللَّهِ بْن طَارِقٍ لأُمِّهِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْبَاقِينَ. وَذَكَرَ ابْنُ عُقْبَةَ أَيْضًا: مُعَتِّبَ بْنَ عُبَيْدٍ فِيهِمْ، وَذَكَرَ أَنَّ الَّذِي قِيلَ لَهُ: أَتُحِبُّ أَنَّ مُحَمَّدا مَكَانَكَ؟ هُوَ:
خُبَيْبُ بْنُ عَدِيٍّ حِينَ رُفِعَ الْخَشَبَةِ، فَقَالَ: لا وَاللَّهِ، فَضَحِكُوا مِنْهُ،
قَالَ: وَقَالَ خُبَيْبٌ:
اللَّهُمَّ إِنِّي لا أَجِدُ إِلَى رَسُولِكَ رَسُولا غَيْرَكَ، فَأَبْلِغْهُ مِنِّي السَّلامَ، وَزَعَمُوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الَّذِي قُتِلا فِيهِ: «وَعَلَيْكُمَا» أَوْ «عَلَيْكَ السَّلامُ، خُبَيْبٌ قَتَلَتْهُ قُرَيْشٌ»
وَلا يَدْرُونَ أَذَكَرَ زَيْدَ بْنَ الدَّثِنَةِ مَعَهُ أَمْ لا، وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ رَمَوْا زَيْدَ بْنَ الدَّثِنَةِ بِالنَّبْلِ وَأَرَادُوا فِتْنَتَهُ فَلَمْ يَزْدَدْ إِلَّا إِيَمَانًا وَتَثْبِيتًا، وَزَعَمُوا أَنَّ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ دَفَنَ خُبَيْبًا.
قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَرَوَى عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ قَالَ: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلَى خُبَيْبِ بْنِ عَدِيٍّ لأُنْزِلَهُ مِنَ الْخَشَبَةِ، فَصَعِدْتُ خَشَبَتَهُ لَيْلا، فَقَطَعْتُ عَنْهُ وَأَلْقَيْتُهُ، فَسَمِعْتُ وَجْبَة [1] خَلْفِي، فَالْتَفَتُّ فَلَمْ أَرَ شَيْئًا.
وَقَالَ ابْنُ عُقْبَةَ، وَاشْتَرَكَ فِي ابْتِيَاعِ خُبَيْبٍ زَعَمُوا: أَبُو إِهَابِ بْنُ عُزَيْزٍ وَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، وَالأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ، وَعُبَيْدَةُ بْنُ حَكِيمٍ بن الأَوْقَصِ، وَأُمَيَّةُ بْنُ أَبِي عُتَبْةَ، وَبَنُو الْحَضْرَمِيِّ، وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَهُمْ أَبْنَاءُ مَنْ قُتِلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَدَفَعُوهُ إِلَى عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ فَسَجَنَهُ فِي دَارِهِ- الْحَدِيثَ.
وَكَانَ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى فِي الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَلْمِزُونَهُمْ وَفِيهِمْ مِنَ الْقُرْآنِ:
__________
[ (1) ] أي صوتا قويا.

(2/62)


وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا [1] إِلَى أَنْ ذَكَرَهُمْ فَقَالَ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ [2] الآيَةَ. وَمِمَّا قَالَهُ حَسَّانٌ يَهْجُو هُذَيْلا:
لَعَمْرِي لَقَدْ شَانَتْ هُذَيْلَ بْنَ مُدْركِ ... أَحَادِيثُ كَانَتْ فِي خُبَيْبٍ وَعَاصِمِ
أَحَادِيثُ لِحِيَانٍ صَلَوْا بِقَبِيحِهَا ... وَلَِحْيَانُ رَكَّابُونَ شَرَّ الْجَرَائِمِ [3]
هُمُ غَدَرُوا يَوْمَ الرجيع وأسلمت ... أمانتهم ذا عفة ومكارم [4]
قبيلة ليس الوفاء يهمهم ... وإن ظلموا لم يدفعوا كف ظالم
إِذَا النَّاسُ حَلُّوا بِالْفَضَاءِ رَأَيْتَهُمْ ... بِمَجْرَى مَسِيلِ الْمَاءِ بَيْنَ الْمَخَارِمِ
مَحَلُّهُمْ دَارُ الْبَوَارِ وَرَأْيُهُمْ ... إذا نابهم أمر كرأي البهائم
الدبر: ذكر النحل.
__________
[ (1) ] سورة البقر: الآية 204.
[ (2) ] سورة البقرة: الآية 207.
[ (3) ] وعند ابن هشام: ولحيان جرامون شرّ الجرائم.
[ (4) ] وما بعده عند ابن هشام:
رسول رسول الله غدرا ولم تكن ... هذيل توقي منكرات المحارم
فسوف يرون النصر يوما عليهم ... بقتل الذي تحميه دون الحرائم
أبابيل وبر شمس دون لحمه ... حمت لحم شهاد عظام الملاحم
لعل هذيلا أن يراد بمصابه ... مصارع قتلى أو مقاما لمأثم
ونوقع فيهم وقعة ذات صولة ... يوافي بها الركبان أهل المواسم
بأمر رسول الله إن رسوله ... رأى رأى ذي حزم بلحيان عالم

(2/63)


قِصَّةُ بِئْرِ مَعُونَةَ
وَكَانَ فِي صَفَرٍ عَلَى رَأْسِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مِنْ أُحُدٍ،
عِنْدَ ابْنِ إسحق، قَالَ: وَكَانَ مِنْ حَدِيثِهِمْ، كَمَا حَدَّثَنِي أَبِي إسحق بْنُ يَسَارٍ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن الحارث بن هشام [عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ] [1] وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، قَالُوا: قَدِمَ أَبُو بَرَاءٍ عَامِرُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جَعْفَرٍ مُلاعِبُ الأَسِنَّةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ الإِسْلامَ وَدَعَاهُ إِلَيْهِ، فَلَمْ يُسْلِمْ وَلَمْ يَبْعُدْ عَنِ الإِسْلامِ، وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، لَوْ بَعَثْتَ رِجَالا مِنْ أَصْحَابِكَ إِلَى أَهْلِ نَجْدٍ فَدَعَوْتَهُمْ إِلَى أَمْرِكَ رَجَوْتُ أَنْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني أَخْشَى أَهْلَ نَجْدٍ عَلَيْهِمْ [2] قَالَ أَبُو بَرَاءٍ: أَنَا لَهُمْ جَار، فَابْعَثْهُمْ فَلْيَدْعُوا النَّاسَ إِلَى أَمْرِكَ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُنْذِرَ بْنَ عَمْرٍو أَخِي بَنِي سَاعِدَةَ الْمعنق ليموت [3] فِي أَرْبَعِينَ [4]
- وَعَنْ غَيْرِ ابْنِ إسحق فِي سَبْعِينَ [5] رَجُلا مِنْ أَصْحَابِهِ مِنْ خِيَارِ المسلمين- فساروا حتى نزلوا ببئر مَعُونَةَ، وَهِيَ بَيْنَ أَرْضِ بَنِي عَامِرٍ وَحَرَّةِ بَنِي سُلَيْمٍ، كِلا الْبَلَدَيْنِ مِنْهَا قَرِيبٌ، وَهِيَ إلى حرة بني سليم أقرب، فلما أنزلوها بَعَثُوا حَرَامَ بْنَ مِلْحَانَ بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عَدُوِّ اللَّهِ عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ، فَلَمَّا أَتَاهُ لَمْ يَنْظُرْ فِي كِتَابِهِ حَتَّى عَدَا عَلَى الرَّجُلِ فَقَتَلَهُ، ثم استصرخ عليهم بني عامر،
__________
[ (1) ] وردت في الأصل: وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بن عمرو بن حزم، وما أثبتناه من سيرة ابن هشام.
[ (2) ] وعند ابن هشام: «إني أخشى عليهم أهل نجد» .
[ (3) ] بمعنى المسرع والمبادر إلى الشهادة.
[ (4) ] وعند ابن هشام: منهم: الحارث بن الصمة، وحرام بن ملحان أخو بني عدي بن النجار، وعروة بن أسماء بن الصلت السلمي، ونافع بن بديل بن ورقاء الخزاعي، وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر الصديق في رجال مسمين من خيار المسلمين.
[ (5) ] وهذا ما أثبته البخاري ومسلم في صحيحهما.

(2/64)


فَأَبَوْا أَنْ يُجِيبُوهُ إِلَى مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ وَقَالُوا: لَنْ نَخْفِرَ أَبَا بَرَاءٍ، وَقَدْ عَقَدَ لَهُمْ عَقْدًا وَجِوَارًا، فَاسْتَصْرَخَ عَلَيْهِمْ قَبَائِلَ مِنْ سُلَيْمٍ عُصَيَّةَ وَرَعْلا [1] ، فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ، ثُمَّ خَرَجُوا حَتَّى غَشَوُا الْقَوْمَ، فَأَحَاطُوا بِهِمْ فِي رِحَالِهِمْ، فَلَمَّا رَأَوْهُمْ أَخَذُوا سُيُوفَهُمْ فَقَاتَلُوهُمْ حَتَّى قُتِلُوا إِلَى آخِرِهِمْ رَحِمَهُمُ اللَّهُ [2] إِلَّا كَعْبَ بْنَ زَيْدٍ أَخَا بَنِي دِينَارِ بْنِ النَّجَّارِ، فَإِنَّهُمْ تَرَكُوهُ وَبِهِ رَمَقٌ، فَارْتُثَّ [3] مِنْ بَيْنِ الْقَتْلَى، فَعَاشَ حَتَّى قُتِلَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ شَهِيدًا رحمه الله.
وكان في سرح القوم عمر بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ، وَرَجُلٌ آخَرُ مِنَ الأَنْصَارِ أَحَدُ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: هُوَ الْمُنْذِرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُقْبَةَ بن أحيحة بن الجلاح.
قال ابن إسحق: فَلَمْ يُنْبِئْهُمَا بِمُصَابِ أَصْحَابِهِمَا إِلَا الطَّيْرُ تَحُومُ عَلَى الْعَسْكَرِ فَقَالا: وَاللَّهِ إِنَّ لِهَذِهِ الطَّيْرِ لَشَأْنًا، فَأَقْبَلا يَنْظُرَانِ [4] ، فَإِذَا الْقَوْمُ فِي دِمَائِهِمْ، وَإِذَا الْخَيْلُ الَّتِي أَصَابَتْهُمْ وَاقِفَةٌ، فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ لعمر بْنِ أُمَيَّةَ: مَاذَا تَرَى؟ قَالَ: نَرَى [5] أَنْ نلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فَنُخْبِرَهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ: لَكِنِّي مَا كُنْتُ لأَرْغَبَ بِنَفْسِي عَنْ مَوْطِنٍ قُتِلَ فِيهِ الْمُنْذِرُ بْنُ عَمْرٍو [6] ، ثُمَّ قَاتَلَ الْقَوْمَ حَتَّى قُتِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَأَخَذُوا عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ أَسِيرًا، فَلَمَّا أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ مِنْ مُضَرَ أَخَذَهُ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ وَجَزَّ نَاصِيَتَهُ وَأَعْتَقَهُ عَنْ رَقَبَةٍ زَعَمَ أَنَّهَا كَانَتْ عَلَى أُمِّهِ. فَخَرَجَ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِالْقَرْقَرَةِ مِنْ صَدْرِ قَنَاة، أَقْبَلَ رَجُلانِ مِنْ بَنِي عَامِرٍ [7] حَتَّى نَزَلَا مَعَهُ فِي ظِلٍّ هُوَ فِيهِ، فكان مع العامرين عَقْدٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجِوَارٌ، لَمْ يَعْلَمْ بِهِ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ، وَقَدْ سَأَلَهُمَا حِينَ نَزَلا مِمَّنْ أَنْتُمَا؟ فَقَالَا: مِنْ بَنِي عَامِرٍ، فَأَمْهَلَهُمَا، حَتَّى إِذَا نَامَا عَدَا عَلَيْهِمَا فَقَتَلَهُمَا، وَهُوَ يَرَى أَنْ قد أصاب بهما ثؤرة مِنْ بَنِي عَامِرٍ فِيمَا أَصَابُوا مِنْ أَصْحَابِ رسول الله
__________
[ (1) ] وعند ابن هشام: عصية ورعل وذكوان.
[ (2) ] وعند ابن هشام: ثم قاتلوهم حتى قتلوا من عند آخرهم يرحمهم الله.
[ (3) ] أي حمل من أرض المعركة جريحا.
[ (4) ] وعند ابن هشام: فأقبلا لينظرا.
[ (5) ] وعند ابن هشام: أرى.
[ (6) ] وعند ابن هشام: وما كنت لتخبرني عن الرجال ...
[ (7) ] قال ابن هشام: من بني كلاب، وذكر أبو عمرو المدني أنهما من بني سليم

(2/65)


صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَلَمَّا قَدِمَ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«لَقَدْ قَتَلْتَ قَتِيلَيْنِ لأَدِينَّهُمَا، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَذَا عَمَلُ أَبِي بَرَاءٍ، قَدْ كُنْتُ لِهَذَا كَارِهًا مُتَخَوِّفًا، فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا بَرَاءٍ، فَشَقَّ عَلَيْهِ إِخْفَارُ عَامِرٍ إِيَّاهُ، وَمَا أَصَابَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبَبِهِ [1] .
وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ يُحَرِّضُ بَنِي أَبِي بَرَاءٍ عَلَى عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ:
بَنِي أُمِّ الْبَنِينِ أَلَمْ يَرُعْكُمْ ... وَأَنْتُمْ مِنْ ذَوَائِبِ أَهْلِ نَجْدٍ
تَهَكُّمُ عَامِرٍ بِأَبِي بَرَاءٍ ... لِيُخْفِرَهُ وَمَا خَطَأٌ كَعَمْدِ
أَلَا أَبْلِغْ رَبِيعَةَ ذَا الْمَسَاعِي ... فَمَا أَحْدَثْتُ فِي الْحَدَثَانِ بَعْدِي
أَبُوكَ أَبُو الْحُرُوبِ أَبُو بَرَاءٍ ... وَخَالُكَ مَاجِدٌ حَكَمُ بْنُ سَعْدِ
- أُمُّ الْبَنِينِ هِيَ أُمُّ أَبِي الْبَرَاءِ مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ [2] فَحَمَلَ رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي بَرَاءٍ عَلَى عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ فَطَعَنَهُ بِالرُّمْحِ، فَوَقَعَ فِي فَخِذِهِ فَأَشْوَاهُ-[3] وَوَقَعَ عَنْ فَرَسِهِ، فَقَالَ هَذَا عَمَلُ أَبِي بَرَاءٍ، إِنْ أَنَا مِتُّ فَدَمِي لِعَمِّي، فَلا يتبعن بِهِ، وَإِنْ أَعِشْ فَسَأَرَى رَأْيِي [4] . قَالَ أَبُو عُمَرَ: ذَكَرَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ ثُمَامَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ حَرَامَ بْنَ مِلْحَانَ، وَهُوَ خَالُ أَنَسٍ، طُعِنَ يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ فِي رَأْسِهِ، فَتَلَقَّى دَمَهُ بِكَفِّهِ، ثُمَّ نَضَحَهُ عَلَى رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ وَقَالَ: فُزْتُ وَرُبِّ الْكَعْبَةِ.
وَقِيلَ: إِنَّ حَرَامَ بْنَ مِلْحَانَ ارْتُثَّ يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ، فَقَالَ الضَّحَّاكُ بْنُ سفيان الكلابي-
__________
[ (1) ] وعند ابن هشام: بسببه وجواره، وكان فيمن أصيب عامر بن فهيرة، قال ابن إسحاق: فحدثني هشام بن عروة عن أبيه أن عامر بن الطفيل كان يقول: من رجل منهم لَمَّا قُتِلَ رَأَيْتَهُ رُفِعَ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، حتى رأيت السماء دونه؟ قال: هو عامر بن فهيرة. قال ابن إسحاق: وقد حدثني بعض بني جبار بن سلمى بن مالك بن جعفر قال: - وكان جبار فيمن حضرها يومئذ مع عامر ثم أسلم- فكان يقول: إن مما دعاني إلى الإسلام أي طعنت رجلا منهم يومئذ بالرمح بين كتفيه، فنظرت إلى سنان الرمح حين خرج من صدره، فسمعته يقول: فزت والله، فقلت في نفسي: وما فاز؟ ألست قد قتلت الرجل؟ قال: حتى سألت بعد ذلك عن قوله، فقالوا: الشهادة، فقلت فاز لعمر والله.
[ (2) ] وعند ابن هشام في السيرة: قال ابن هشام:
حكم بن سعد: من القين بن جسر، وأم البنين بنت عمرو بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ صعصعة، وهي أم البراء.
[ (3) ] أشواه: أي أخطأه فلم يصيبه بمقتل.
[ (4) ] وعند ابن هشام: فسأرى رأي فيما أتى لي.

(2/66)


وَكَانَ مُسْلِمًا يَكْتُمُ إِسْلامَهُ- لامْرَأَةٍ مِنْ قَوْمِهِ، هل كل فِي رَجُلٍ إِنْ صَحَّ كَانَ نِعْمَ الْمَرَاعِي، فَضَمَّتْهُ إِلَيْهَا، فَعَالَجَتْهُ، فَسَمِعَتْهُ يَقُولُ:
أَتَتْ عَامِرٌ ترجوا الْهَوَادَةَ بَيْنَنَا ... وَهَلْ عَامِرٌ إِلَّا عَدُوٌّ مُدَاجِنُ
إِذَا مَا رَجَعْنَا ثُمَّ لَمْ تَكُ وَقْعَةٌ ... بِأَسْيَافِنَا فِي عَامِرٍ أَوْ نُطَاعِنُ
فَلا تَرْجُوَنَّا أَنْ تُقَاتِلَ بَعْدَنَا ... عَشَائِرَنَا وَالْمَقْرُبَاتُ الصَّوَافِنُ
فَوَثَبُوا عَلَيْهِ فَقَتَلُوهُ، وَالأَوَّلُ أَصَحُّ. وَقُتِلَ يَوْمَئِذٍ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ، قَتَلَهُ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ،
مِنْ طريق يونس بن بكير عن ابن إسحق عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: مَنِ الرَّجُلُ الَّذِي لَمَّا قُتِلَ رَأَيْتَهُ رُفِعَ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ حَتَّى رَأَيْتَ السَّمَاءَ دُونَهُ، ثُمَّ وُضِعَ فَقَالَ لَهُ: هُوَ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ.
وَرَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ يُونُسَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ، زَعَمَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ قُتِلَ يَوْمَئِذٍ فَلَمْ يُوجَدْ جَسَدُهُ حِينَ دَفَنُوا، يَرَوْنَ أَنَّ الْمَلائِكَةَ دفنته، رحمه الله، والله أعلم بالصواب.

وممن استشهد يَوْمِ بِئْرِ مَعُونَةَ
عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ، مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، قَدِيمُ الإِسْلامِ، أَسْلَمَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَارَ الأَرْقَمِ بْنِ أَبِي الأَرْقَمِ، وَالْحَكَمُ بْنُ كَيْسَانَ، مَوْلَى بَنِي مَخْزُومٍ، وَالْمُنْذِرُ بْنُ مُحَمَّد بْن عُقْبَةَ بْنِ أُحَيْحَةَ بْنِ الْجَلاحِ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ عَمْرِو بْنِ مِحْصَنٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ الصِّمَّةِ بْنِ عَمْرٍو ابْنَا عَتِيكِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَبْذُولٍ، وَأُبَيُّ بْنُ مُعَاذِ بْنِ أَنَسِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ عمرو بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ وَأَخُوهُ أَنَسٌ، وَابْنُ إسحق وَابْنُ عُقْبَةَ يُسَمِّيَانِهِ: أَوْسًا، وَالْوَاقِدِيُّ يَقُولُ: أَنَّ أَنَسًا هَذَا مَاتَ فِي خِلافَةِ عُثْمَانَ، وَأَبو شَيْخِ ابْنُ أُبَيِّ بْنِ ثَابِتِ بْنِ الْمُنْذِرِ بن حرام بن عمرو بن زيد مناة بن عدي بن عمرو بن مالك بن النَّجَّارِ، وَحَرَامٌ وَسُلَيْمٌ ابْنَا مِلْحَانَ بْنِ خَالِدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ حَرَامِ بْنِ جُنْدُبِ بْنِ عَامِرِ بْنِ غَنْمِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ، وَاسْمُ مِلْحَانَ مَالِكٌ، وَهُمَا أَخَوا أُمِّ سُلَيْمٍ أُمِّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَأَخَوَا أُمِّ حَرَامٍ امْرَأَةِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، وَمَالِكٌ وَسُفْيَانُ ابْنَا ثَابِتٍ مِنَ الأَنْصَارِ مِنْ بَنِي النَّبِيتِ، وَذَلِكَ مِمَّا انْفَرَدَ بِهِ مُحَمَّد بْن عُمَرَ الْوَاقِدِيُّ، لَمْ يُوجَدْ ذِكْرُ مَالِكٍ وَسُفْيَانَ فِي شُهَدَاءِ بِئْرِ مَعُونَةَ عَنْ غَيْرِ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ، وعروة بن أسماء بْنِ الصَّلْتِ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ مِنْ حُلَفَائِهِمْ، وَقُطْبَةُ بْنُ عَبْدِ عَمْرِو بْنِ

(2/67)


مَسْعُودِ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَبْدِ الأَشْهَلِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ دِينَارٍ، وَالْمُنْذِرُ بْنُ عَمْرِو بْنِ خنيس بن لوذان بن عبد ود بن زَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ سَاعِدَةَ وهو أميرهم، ومعاذ بن ماعص بن قيس بن خلدة بن عامر بْنِ زُرَيْقٍ وَأَخُوهُ عَائِذٌ، وَغَيْرُ الْوَاقِدِيِّ يَقُولُ: جُرِحَ مُعَاذٌ بِبَدْرٍ وَمَاتَ مِنْهُ بِالْمَدِينَةِ، وَقِيلَ فِي عَائِذٍ: مَاتَ بِالْيَمَامَةِ، وَمَسْعُودُ بْنُ سَعْدِ بْنِ قَيْسِ بْنِ خَلْدَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ زُرَيْقٍ عِنْدَ الْوَاقِدِيِّ، وَأَمَّا ابْنُ الْقَداحِ فَقَالَ: مَاتَ بِخَيْبَرَ، وَخَالِدُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ رِزَاحِ بْنِ ظَفَرٍ وَقِيلَ: بَلْ قُتِلَ خَالِدُ بْنُ ثَابِتٍ بِمُؤْتَةَ، وَسُفْيَانُ بْنُ حَاطِبِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ رَافِعِ بْنِ سُوَيْدِ بْنِ حَرَامِ بْنِ الْهَيْثَمِ بْنِ ظَفَرٍ، وَسَعْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ ثقفٍ، وَاسْمُهُ: كَعْبُ بْنُ مَالِكِ بْنِ مَبْذُولٍ، وَابْنُهُ الطُّفَيْلُ، وَابْنُ أَخِيهِ سَهْلُ بْنُ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ ثقف، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ قَيْسِ بْنِ صِرْمَةَ بْنِ أَبِي أَنَسِ بْنِ صِرْمَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ، وَنَافِعُ بْنُ بُدَيْلِ بْنِ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيُّ، وَفِيهِ يَقُولُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ يُرْثِيهِ:
رَحِمَ اللَّهُ نَافِعَ بْنَ بُدَيْلِ ... رَحْمَةَ الْمُبْتَغَى ثَوَابَ الْجِهَادِ
صَابِرًا صَادِقَ اللِّقَاءِ إِذَا مَا ... أَكْثَرَ الْقَوْمُ قَالَ قَوْلَ السَّدَادِ
ذَكَرَ هَؤُلاءِ الْمُسْتَشْهِدِينَ: أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ فِي كِتَابِهِ (ذَيْلِ الْمُذَيَّلِ) مِنْ رِوَايَةِ ابْن عَبْد الْبَرِّ، عَنْ أَبِي عُمَرَ أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن الْجسُورِ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ أَحْمَدَ بْنِ الفضل بن الْعَبَّاسِ الْخَفَّافِ عَنْهُ، وَمِنْ أَصْلِ أَبِي عُمَرَ بن عبد البر نقلت.
وعند ابْنِ سَعْدٍ: فِيهِمْ الضَّحَّاكُ بْنُ عَبْدِ عَمْرِو بْنِ مَسْعُودِ بْنِ عَبْدِ الأَشْهَلِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ دِينَارِ بْنِ النَّجَّارِ، وَذَكَرَ ابْنُ الْقَدَّاحِ فِيهِمْ: عَمْرَو بْنَ مَعْبَدِ بْنِ الأَزْعَرِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْعَطَّافِ بْنِ ضُبَيْعَةَ مِنْ بَنِي عمرو بن عوف، واسمه عند ابن إسحق: عَمْرٌو، وَهُوَ عِنْدَ ابْنِ الْقَدَّاحِ: عُمَيْرٌ، وَذَكَرَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ: خَالِدَ بْنَ كَعْبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ مَبْذُولِ بْنِ عَمْرِو بْنِ غَنْمِ بْنِ مَازِنِ بْنِ النَّجَّارِ فِي شُهَدَاءِ بِئْرِ مَعُونَةَ، وَذَكَرَ أَبُو عُمَرَ النَّمِرِيُّ فِي الاسْتِيعَابِ: سُهَيْلَ بْنَ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ فِيهِمْ، وَأَظُنُّهُ سَهْلَ بْنَ عَامِرٍ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، عَلَى أَنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي تَرْجَمَتَيْنِ، إِحْدَاهُمَا فِي بَابِ سَهْلٍ وَالأُخْرَى فِي بَابِ سُهَيْلٍ، وَالْمُخْتَلَفُ فِي قَتْلِهِ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ مُخْتَلَفٌ فِي حُضُورِهِ، فَأَرْبَابُ الْمَغَازِي مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْكُلَّ قُتِلُوا إِلَّا عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ، وَكَعْبَ بن زيد بن قيس بن مالك بن كعب بن عبد الأشهل بن حارثة بن دِينَارٍ، فَإِنَّهُ جُرِحَ يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ وَمَاتَ

(2/68)


بِالْخَنْدَقِ.
وَقَالَ ابْن سَعْدٍ: لَمَّا أُحِيطَ بِهِمْ قَالُوا: اللَّهُمَّ إِنَّا لا نَجِدُ مَنْ يُبَلِّغُ رَسُولَكَ مِنَّا السَّلامَ غَيْرَكَ، فَأَقْرِئْهُ مِنَّا السَّلامَ، فَأَخْبَرَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ بِذَلِكَ، فَقَالَ: «وَعَلَيْهِمُ السَّلامُ» وَقَالَ: فُقِدَ عَمْرو بْنُ أُمَيَّةَ عَامِر بْن فُهَيْرَة مِنْ بَيْنِ الْقَتْلَى، فَسَأَلَ عَنْهُ عَامِرَ بْنَ الطُّفَيْلِ فَقَالَ: قَتَلَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي كِلابٍ يُقَالُ لَهُ: جبارُ بْنُ سَلْمَى، فَلَمَّا قَتَلَهُ قَالَ: فُزْتَ وَاللَّهِ، وَرُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ، فَأَسْلَمَ جُبَارُ بْنُ سَلْمَى لِمَا رَأَى من قتلى عَامِرِ بْنِ فُهَيْرَةَ، وَرَفْعِهِ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْمَلائِكَةَ وَارَتْ جُثَّتَهُ وَأُنْزِلَ عِلِّيِّينَ» .
وَرُوِّينَا عَنِ ابْنِ سَعْدٍ قال: أنا الفضل بن ديكن، فثنا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَاصِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَدَ عَلَى أَحَدٍ مَا وَجَدَ عَلَى أَصْحَابِ بِئْرِ مَعُونَةَ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْن يَحْيَى قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ عَنْ إسحق بْن عَبْد اللَّهِ بْن أَبِي طَلْحَةَ عْنَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: دَعَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الَّذِينَ قَتَلُوا أَصْحَابَ بِئْرِ مَعُونَةَ ثَلاثِينَ صَبَاحًا، يَدْعُو عَلَى رَعْلٍ وَلَحْيَانَ وَعُصَيَّةَ، عَصَتِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ.
قَالَ أَنَسٌ: أَنْزَلَ اللَّهُ فِي الَّذِينَ قُتِلُوا بِبِئْرِ مَعُونَةَ قُرْآنًا قَرَأْنَاهُ ثُمَّ نُسِخَ بَعْدُ «أَنْ بلغوا قوامنا أَنْ قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عَنَّا وَرَضِينَا عَنْهُ» كَذَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَهُوَ يُوهِمُ أَنَّ بَنِي لَحْيَانَ مِمَّنْ أَصَابَ الْقُرَّاءَ يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَصَابَ هَؤُلاءِ رَعْلٌ وَذَكْوَانُ وَعُصَيَّةُ وَمَنْ صَحِبَهُمْ مِنْ سُلَيْمٍ. وَأَمَّا بَنُو لَحْيَانَ فَهُمُ الَّذِينَ أَصَابُوا بَعْثَ الرَّجِيعِ، وَإِنَّما أَتَى الْخَبَرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُمْ كُلِّهِمْ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، فَدَعَا عَلَى الَّذِينَ أَصَابُوا أَصْحَابَهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ دُعَاءً وَاحِدًا.

(2/69)


غزوة بني النضير
وهي عند ابن إسحق: في شهر ربيع الأول على رأس خمسة أَشْهُرٍ مِنْ وَقْعَةِ أُحُدٍ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: قَالَ الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ: كَانَتْ عَلَى رَأْسِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْعَةِ بَدْرٍ، قَبْلَ أُحُدٍ.
قَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: وَكَانُوا قَدْ دَسُّوا إِلَى قُرَيْشٍ فِي قِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحَضُّوهُمْ عَلَى الْقِتَالِ وَدَلُّوهُمْ عَلَى العورة.
قال ابن إسحق وَغَيْرُهُ: ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَنِي النَّضِيرِ لِيَسْتَعِينَهُمْ فِي دية ذينك القتيلين للذين قَتَلَ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ [1] لِلْجِوَارِ الَّذِي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عَقَدَ لَهُمَا [2] ، وَكَانَ بَيْنَ بَنِي النَّضِيرِ وَبَنِي عَامِرٍ عَقْدٌ وَحِلْفٌ، فَلَمَّا أَتَاهُمْ رَسُول اللَّهِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَعِينُهُمْ فِي دِيَتِهِمَا [3] قَالُوا: نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، نُعِينُكَ عَلَى مَا أَحْبَبْتَ مِمَّا اسْتَعَنْتَ بِنَا عَلَيْهِ، ثُمَّ خَلا بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ وَقَالُوا: إِنَّكْمُ لَنْ تَجِدُوا الرَّجُلَ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ هَذِهِ، ورَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى جَنْبِ جِدَارٍ مِنْ بُيُوتِهِمْ قَاعِدٌ، فَمَنْ رَجُلٌ يَعْلُو عَلَى هَذَا الْبَيْتِ فَيُلْقِي عَلَيْهِ صَخْرَةً فَيُرِيحُنَا مِنْهُ، فَانْتَدَبَ لِذَلِكَ عَمْرَو بْنَ جحاشِ بْنِ كَعْبٍ، أَحَدُهُمْ، فَقَالَ: أَنَا لِذَلِكَ، فَصَعِدَ لِيُلْقِيَ عَلَيْهِ صَخْرَةً كَمَا قَالَ، ورَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فيهم أبو بكر وعمرو وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم.
وَقَالَ ابْنُ سَعْدٍ: فَقَالَ سَلامُ بْنُ مِشْكَمٍ (يَعْنِي لِلْيَهُودِ) لا تَفْعَلُوا، وَاللَّهِ لَيُخْبَرَنَّ بِمَا هَمَمْتُمْ بِهِ، وَإِنَّهُ لنقض العهد الذي بيننا وبينه.
__________
[ (1) ] وعند ابن هشام: يستفيهم في دية ذينك القتيلين من بني عامر اللذين قتل عمرو بن أمية الضمري.
[ (2) ] وعند ابن هشام: لِلْجِوَارِ الَّذِي كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم عقد لهما، كما حدثني يزيد بن رومان.
[ (3) ] وعند ابن هشام: يستعينهم في دية ذينك القتيلين.

(2/70)


رجع إلى خبر ابن إسحق قَالَ: فَأَتَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَبَرُ مِنَ السَّمَاءِ بِمَا أَرَادَ الْقَوْمُ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعا إلى المدينة، فلما استلبث النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابه قَامُوا فِي طَلَبِهِ، فَلَقُوا رَجُلا مِنَ الْمَدِينَةِ مُقْبِلا فَسَأَلُوهُ [1] ، فَقَالَ: رَأَيْتُهُ دَاخِلا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَأَقْبَلَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى انتهوا إليه، فأخبر الخبر هم بِمَا كَانَتْ أَرَادَتْ يَهُودُ مِنَ الْغَدْرِ بِهِ [2] . قال ابن عقبة: ونزل في ذلك: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ [3] الآية.
رجع إلى خبر ابن إسحق: فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بِالتَّهَيُّؤِ لِحَرْبِهِمْ وَالسَّيْرِ إِلَيْهِمْ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ ابن أم مكتوم فيما قال ابن هشام، وَقَالَ: ثُمَّ سَارَ بِالنَّاسِ حَتَّى نَزَلَ بِهِمْ [4] فحاصرهم ست ليال ونزل تحريم الخمر.
قال ابن إسحق: فَتَحَصَّنُوا مِنْهُ فِي الْحُصُونِ، فَأَمَر رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَطْعِ النَّخْلِ [5] وَالتَّحْرِيقِ فِيهَا، فَنَادُوهُ أَنْ: يَا مُحَمَّدُ، قَدْ كُنْتَ تَنْهَى عَنِ الْفَسَادِ وَتُعِيبُهُ عَلَى مَنْ صَنَعَهُ، فَمَا بَالُ قَطْعِ النَّخِيلِ [6] وَتَحْرِيقُهَا؟ وَقَدْ كَانَ رَهْطٌ مِنْ بَنِي عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ مِنْهُمْ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولٍ، وَوَدِيعَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ أَبِي قَوْقَلٍ، وَسُوَيْدٌ وَدَاعِسٌ [قد] [7] بَعَثُوا إِلَى بَنِي النَّضِيرِ أَنِ اثْبُتُوا وَتَمَنَّعُوا، فَإِنَّا لَنْ نُسَلِّمَكُمْ، إِنَّ قُوتِلْتُمْ قَاتَلْنَا مَعَكُمْ، وَإِنْ أُخْرِجْتُمْ خَرَجْنَا مَعَكُمْ، فَتَرَبَّصُوا ذَلِكَ مِنْ نَصْرِهِمْ فَلَمْ يَفْعَلُوا، وَقَذَفَ اللَّه فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، فَسَأَلُوا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُجْلِيَهُمْ وَيَكُفَّ عَنْ دِمَائِهِمْ، عَلَى أَنَّ لَهُمْ مَا حَمَلَتِ الإِبِلُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا الْحلقةَ [8] ، فَفَعَل، فَاحْتَمَلُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ مَا اسْتَقَلت بِهِ الإِبِلُ، فَكَانَ الرَّجُلُ يَهْدِمُ بَيْتَهُ عن نجاف [9] بابه، فيضعه على بعير فَيَنْطَلِقُ بِهِ، فَخَرَجُوا إِلَى خَيْبَرَ، وَمِنْهُمْ مَنْ سَارَ إِلَى الشَّامِ [10] ، وَخَلَّوُا الأَمْوَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم،
__________
[ (1) ] وعند ابن هشام: فلقوا رجلا مقبلا من المدينة فسألوه عنه ...
[ (2) ] وعند ابن هشام: بما كانت اليهود أرادت من الغدر به.
[ (3) ] سورة المائدة: الآية 11.
[ (4) ] قال ابن هشام: وذلك في شهر ربيع الأول، فحاصرهم ست ليال، ونزل تحريم الخمر.
[ (5) ] وعند ابن هشام: النخيل.
[ (6) ] وعند ابن هشام: النخل.
[ (7) ] زيدت على الأصل من سيرة ابن هشام.
[ (8) ] أي السلاح أو الدروع.
[ (9) ] النجاف: الناتئ المشرف على الشيء، يقال: نجاف الغار ونجاف الباب.
[ (10) ] وعند ابن هشام: فكان أشرافهم من سار منهم إلى خبير: سلام بن أبي الحقيق، وكنانة بن الربيع بن أبي

(2/71)


فَكَانَتْ لَهُ خَاصَّةً، يَضَعُهَا حَيْثُ يَشَاءُ [1] ، وَلَمْ يَسْلَمْ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ إِلا رَجُلانِ يَامِينُ بن عمرو بن كعب ابن عم عَمْرِو بْنِ جَحَّاشٍ [2] ، وَأَبُو سَعِيدِ بْنُ وَهْبٍ [3] ، أسلما فأحرزا أموالهما بِذَلِكَ.
وَيُقَالُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِيَامِينَ: أَلَمْ تَرَ إِلَى مَا لَقِيتُ مِنَ ابْنِ عَمِّكَ، وَمَا هَمَّ بِهِ مِنْ شَأْنِي، فَجَعَلَ يَامِينُ جَعْلا لِمَنْ يَقْتُلُهُ فَقُتِلَ، وَنَزَلَ فِي أَمْرِ بَنِي النَّضِيرِ سورة الحشر.
قَالَ ابْنُ عُقْبَةَ: وَلَحِقَ بَنُو أَبِي الْحُقَيْقِ بِخَيْبَرَ، وَمَعَهُمْ آنِيَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْ فِضَّةٍ، قَدْ رَآهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ حِينَ خَرَجُوا بِهَا، وَعَمَدَ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ عَلَى قُرَيْشٍ، فَاسْتَغْوَاهُمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَنْصَرَهُمْ، وَبَيَّنَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثَ أَهْلِ النِّفَاقِ وَمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْيَهُودِ.
وَفِيمَا ذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ مِنَ الْخَبَرِ عَنْ بَنِي النَّضِيرِ: أَنَّهُمْ حِينَ هَمُّوا بِغَدْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَعْلَمَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ، وَنَهَضَ سَرِيعًا إِلَى الْمَدِينَةِ، بَعَثَ إِلَيْهِمْ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ أَنِ اخْرُجُوا مِنْ بَلَدِي، فَلا تُسَاكِنُونِي بِهَا وَقَدْ هَمَمْتُمْ بِمَا هَمَمْتُمْ بِهِ مِنَ الْغَدْرِ، وَقَدْ أَجَّلْتُكُمْ عَشْرًا فَمَنْ رُؤِيَ بَعْدَ ذَلِكَ ضَرَبْتُ عُنُقَهُ، فَمَكَثُوا عَلَى ذَلِكَ أَيَّامًا يَتَجَهَّزُونَ، وَأَرْسَلُوا إِلَى ظَهْرٍ [4] لَهُمْ بِذِي الْجَدْرِ، وَتَكَارُوا [5] مِنْ ناس من أشجع إِبِلا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمُ ابْنُ أُبَيٍّ: لا تَخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ، وَأَقِيمُوا فِي حُصُونِكُمْ، فَإِنَّ مَعِيَ أَلْفَيْنِ مِنْ قَوْمِي وَمِنَ الْعَرَبِ يَدْخُلُونَ حِصْنَكُمْ [6] فيموتون عمن آخرهم، وتمدكم قريظة وحلفاؤكم من
__________
[ () ] الحقيق، وحيي بن أخطب، فلما نزلوها دان لهم أهلها. قال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر أن حدث أنهم استقلوا بالنساء والأبناء والأموال، معهم الدفوف والمزامير، والقيان يعز فن خلفهم، وأن فيهم لأم عمرو صاحبه عروة بن الورد العبسي التي ابتاعوا منه، وكانت إحدى نساء بني غفار، بزهاء وفخر ما رثى مثله من حي من الناس في زمانهم....
[ (1) ] وعند ابن هشام: فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المهاجرين الأوليين دون الأنصار، إلا أن سهل بن حنيف وأبا دجانة سماك بن خرشة ذكرا فقرا، فأعطاهما رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ...
[ (2) ] وَعِنْدَ ابن هشام: يامين بن عمير أبو كعب بن عمرو بن جحاش.
[ (3) ] وعند ابن هشام: وأبو سعد بن وهب.
[ (4) ] أي إبلهم.
[ (5) ] أي استأجروا.
[ (6) ] وعند ابن سعد: وأقيموا في حصنكم، فإن معي ألفين من قومي وغيرهم من العرب، يدخلون معكم حصنكم.

(2/72)


غَطَفَانَ،
فَطَمِعَ حُيَيٌّ فِيمَا قَالَ ابْنُ أُبَيٍّ، فَأَرْسَلَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّا لا نَخْرُجُ مِنْ دِيَارِنَا فَاصْنَعْ مَا بَدَا لَكَ، فَأَظْهَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلّم التكبير، وكبير الْمُسْلِمُونَ لِتَكْبِيرِهِ وَقَالَ:
«حَارَبْتُ يَهُودَ»
فَسَارَ إِلَيْهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَصْحَابِهِ، فَصَلَّى الْعَصْرَ بِفِنَاءِ [1] بَنِي النَّضِيرِ، وَعَلِيٌّ يَحْمِلُ رَايَتَهُ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةَ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ، فلما رأوا رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ قَامُوا عَلَى حُصُونِهِمْ مَعَهُمُ النَّبْلُ وَالْحِجَارَةُ، وَاعْتَزَلَتْهُمْ قُرَيْظَةُ فَلَمْ تُعِنْهُمْ، وَخَذَلَهُمُ ابْنُ أُبَيٍّ وَحُلَفَاؤُهُمْ مِنْ غَطَفَانَ فَيَئِسُوا [2] مِنْ نَصْرِهِمْ،
فَحَاصَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَطَّعَ نَخْلَهُمْ، وَقَالُوا: نَحْنُ نَخْرُجُ عَنْ بِلادِكَ، فَقَالَ: «لا أَقْبَلُهُ الْيَوْمَ، وَلَكِنِ اخْرُجُوا مِنْهَا وَلَكُمْ دِمَاؤُكُمْ وَمَا حَمَلَتِ الإِبِلُ إِلا الْحَلْقَةَ» ، فَنَزَلَتْ يَهُودُ عَلَى ذَلِكَ، وَكَانَ حَاصَرَهُمْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فَكَانُوا يُخَرِّبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ، ثُمَّ أَجْلاهُمْ عَنِ الْمَدِينَةِ، وَوَلِيَ إِخْرَاجَهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، وحملوا النساء والصبيان، وتحملوا على ستمائة بَعِيرٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَؤُلاءِ فِي قَوْمِهِمْ بِمَنْزِلَةِ بَنِي الْمُغِيرَةِ فِي قُرَيْشٍ» ، فَلَحِقُوا بِخَيْبَرَ،
وَحَزِنَ الْمُنَافِقُونَ عَلَيْهِمْ حُزْنًا شَدِيدًا، وَقَبَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأَمْوَالَ وَالْحَلْقَةَ، فَوَجَدَ مِنَ الْحَلْقَةِ خمسين درعا، وخمسين بيضة، وثلاثمائة وَأَرْبَعِينَ سَيْفًا، وَكَانَتْ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ صَفْيًا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم [خالصة له] [3] حَبْسًا لِنَوَائِبِهِ، وَلَمْ يَخْمِسُهَا، وَلَمْ يُسْهِمْ مِنْهَا لأَحَدٍ، وَقَدْ أَعْطَى نَاسًا مِنْ أَصْحَابِهِ، وَوَسَّعَ فِي النَّاسِ مِنْهَا.
وَذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَاكِمُ فِي كِتَابِ (الإِكْلِيلِ) لَهُ بِإِسْنَادِهِ إِلَى الْوَاقِدِيِّ، عَنْ مَعْمَرِ بْنِ رَاشِدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أُمِّ الْعَلاءِ قَالَتْ: طَارَ لَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ فِي الْقُرْعَةِ، فَكَانَ فِي مَنْزِلِي حَتَّى تُوُفِّيَ، قَالَتْ: فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُهَاجِرُونَ فِي دُورِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، فَلَمَّا غَنِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِي النَّضِيرِ، دَعَا ثَابِتَ بْنَ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ، فَقَالَ: «ادْعُ لِي قَوْمَكَ» فَقَالَ ثَابِتٌ: الْخَزْرَجَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الأَنْصَارَ كُلَّهَا» فَدَعَا لَهُ الأَوْسَ وَالْخَزْرَجَ، فَتَكَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ ذَكَرَ الأَنْصَارَ وَمَا صَنَعُوا بِالْمُهَاجِرِينَ، وَإِنْزَالَهُمْ إِيَّاهُمْ فِي مَنَازِلِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَأَثَرَتَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ قَالَ: «إِنْ أَحْبَبْتُمْ قسمت بينكم وبني الْمُهَاجِرِينَ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ، وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ من
__________
[ (1) ] وعند ابن سعد: بفضاء.
[ (2) ] وعند ابن سعد: فأيسوا.
[ (3) ] زيدت على الأصل من الطبقات.

(2/73)


السُّكْنَى فِي مَنَازِلِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَإِنْ أَحْبَبْتُمْ أَعْطَيْتُهُمْ وَخَرَجُوا مِنْ دُورِكُمْ» ؟ فَتَكَلَّمَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فَقَالا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بل تقسم بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَيَكُونُونَ فِي دُورِنَا كَمَا كَانُوا، وَنَادَتِ الأَنْصَارُ: رَضِينَا وَسَلَّمْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ ارْحَمِ الأَنْصَارَ، وَأَبْنَاءَ الأَنْصَارِ، فَقَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَأَعْطَى الْمُهَاجِرِينَ، وَلَمْ يُعْطِ أَحَدًا مِنَ الأَنْصَارِ شَيْئًا،
إِلا رَجُلَيْنِ كَانَا مُحْتَاجَيْنِ:
سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ، وَأَبَا دُجَانَةَ، وَأَعْطَى سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ سَيْفَ ابْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ، وَكَانَ سَيْفًا لَهُ ذِكْرٌ عِنْدَهُمْ.
وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ جَابِرٍ الْبَلاذُرِيُّ فِي كِتَابِ (فُتُوحِ الْبُلْدَانِ) لَهُ:
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم قال الأنصار لَيْسَتْ لإِخْوَانِكُمْ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ أَمْوَالٌ، فَإِنْ شِئْتُمْ قَسَمْتُ هَذِهِ وَأَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ جَمِيعًا، وَإِنْ شِئْتُمْ أَمْسَكْتُمْ أَمْوَالَكُمْ، وَقَسَمْتُ هَذِهِ فِيهِمْ خَاصَّةً، فقالوا: بل أقسم هَذِهِ فِيهِمْ، وَأَقْسِمْ لَهُمْ مِنْ أَمْوَالِنَا مَا شِئْتَ، فَنَزَلَتْ:
وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ [1]
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
جَزَاكُمُ اللَّهُ يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ خَيْرًا، فَوَاللَّهِ مَا مَثَلُنَا وَمَثَلُكُمْ إِلا كَمَا قَالَ الْغَنَوِيُّ:
جَزَى اللَّهُ عَنَّا جَعْفَرًا حِينَ أَزْلَفَتْ ... بِنَا نَعْلُنَا فِي الْوَاطِئِينَ فَزَلَّتِ
أَبَوْا أَنْ يَمَلُّونَا وَلَوْ أَنَّ أُمَّنَا ... تُلاقِي الَّذِي يَلْقَوْنَ مِنَّا لَمَلَّتِ
قَالَ: وَكَانَتْ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ خَالِصَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ يَزْرَعُ تَحْتَ النَّخْلِ فِي أَرْضِهِمْ، فَيَدَّخِرُ مِنْ ذَلِكَ قُوتَ أَهْلِهِ وَأَزْوَاجِهِ سَنَةً، وَمَا فَضُلَ جَعَلَه فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلاحِ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ قال: حدثني إسحق قال: أنا حبان، فثنا جُوَيْرِيَةُ بْنُ أَسْمَاءَ، عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّقَ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ، قَالَ: وَلَهَا يَقُولُ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ:
وَهَانَ عَلَى سَرَاةِ بَنِي لُؤَيٍّ ... حَرِيقٌ بِالْبُوَيْرَةِ مُسْتَطِيرُ
فَأَجَابَهُ أَبُو سُفْيَانَ بن الحرث:
أَدَامَ اللَّهُ ذَلِكَ مِنْ صَنِيعٍ ... وَحَرَّقَ فِي نواحيها السّعير
__________
[ (1) ] سورة الحشر: الآية 9.

(2/74)


ستعلم ابنا منها بنزة ... وتعلم أَيَّ أَرْضَيْنَا تَضِيرُ [1]
هَذِهِ رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ.
وَقَالَ أبو عمر والشيباني وَغَيْرُهُ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ الْحَارِثِ قَالَ:
لَعَزَّ عَلَى سَرَاةِ بَنِي لُؤَيٍّ ... حَرِيقٌ بِالْبُوَيْرَةِ مستطير
ويروى بالبويلة.
وَذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ وَأَبَا سَلَمَةَ الْبُوَيْلَةَ مِنْ أَرْضِهِمْ، فَأَجَابَهُ حَسَّانٌ:
أَدَامَ اللَّهُ ذَلِكُمْ حَرِيقًا ... وَضَرَّمَ فِي طَوَائِفِهَا السعير
هم أتوا الْكِتَابَ فَضَيَّعُوهُ ... فَهُمْ عُمْيٌ عَنِ التَّوْرَاةِ بُورُ
هذه أشبه بالصواب من الرواية الأولى.
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري في كتاب المغازي باب حديث بني النضير ... (5/ 23) .

(2/75)


غزوة ذات الرقاع [1]
قال ابن إسحق: ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ بَعْدَ غَزْوَةِ بَنِي النَّضِيرِ شَهْرَ رَبِيعٍ [2] ، - وَقَالَ الْوَقَّشِيُّ الصَّوَابُ شَهْرَيْ رَبِيعٍ وَبَعْضِ جُمَادَى- ثُمَّ غَزَا نَجْدًا يُرِيدُ بَنِي مُحَارِبٍ وَبَنِي ثَعْلَبَةَ مِنْ غَطَفَانَ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةَ أَبَا ذَرٍّ الْغِفَارِيَّ، وَيُقَالُ: عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ، وَقَالَ: حَتَّى نَزَلَ نَخْلا، وَهِيَ غَزْوَةُ ذَاتِ الرِّقَاعِ، وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لأَنَّهُمْ رَقَّعُوا فِيهَا رَايَاتِهِمْ [3] ، وَيُقَالُ: ذَاتُ الرِّقَاعِ، شَجَرَةٌ بِذَلِكَ الْمَوْضِعِ [4] وَقِيلَ:
لأَنَّ أَقْدَامَهُمْ نَقِبَتْ، فَكَانُوا يَلُفُّونَ عَلَيْهَا الْخِرَقَ، وَقِيلَ: بَلِ الْجَبَلُ الَّذِي نَزَلُوا عَلَيْهِ كَانَتْ أَرْضُهُ ذَاتَ أَلْوَانٍ تُشْبِهُ الرقاع.
قال ابن إسحق: فَلَقِيَ بِهَا جَمْعًا مِنْ غَطَفَانَ، فَتَقَارَبَ النَّاسُ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ حَرْبٌ، وَقَدْ خَافَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، حَتَّى صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّاسِ صَلاةَ الْخَوْفِ، ثُمَّ انْصَرَفَ بِالنَّاسِ.
قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: وَكَانَ ذَلِكَ أول ما صلاها. وبين الرواة خلف فِي صَلاةِ الْخَوْفِ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ.
رَجْعٌ إلى الأول:
قال ابن إسحق: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ رَجُلا مِنْ بَنِي مُحَارِبٍ يُقَالُ لَهُ: غورثُ قَالَ لِقَوْمِهِ مِنْ غَطَفَانَ وَمُحَارِبٍ: أَلَا أَقْتُلُ لَكُمْ مُحَمَّدًا؟ قَالُوا: بَلَى، وَكَيْفَ تَقْتُلُهُ؟ قَالَ: أَفْتِكُ بِهِ، قال:
__________
[ (1) ] وكانت في السنة الرابعة للهجرة، وقيل في السنة الخامسة منها.
[ (2) ] وعند ابن هشام: شهر ربيع الآخر وبعض جمادى.
[ (3) ] وعند ابن هشام: وإنما قيل لها غزوة ذات الرقاع ...
[ (4) ] وعند ابن هشام: يقال لها: ذات الرقاع.

(2/76)


فَأَقْبَلَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ جَالِسٌ، وَسَيْفُهُ فِي حِجْرِهِ [1] فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ: أَنْظُرُ إِلَى سَيْفِكَ هَذَا؟ قَالَ: «نَعَمْ» [2] فَأَخَذَهُ، فَاسْتَلَّهُ، ثُمَّ جَعَلَ يَهُزُّهُ وَيَهُمُّ فَيَكْبِتُهُ اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ:
يَا مُحَمَّدُ أَمَا تَخَافُنِي؟ قَالَ: «لا، وَمَا أَخَافُ مِنْكَ» قَالَ: وَفِي يَدِي السَّيْفُ [3] قَالَ: لا، بَلْ يَمْنَعُنِي اللَّهُ مِنْكَ» قَالَ: ثُمَّ عَمِدَ إِلَى سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فرده عليه، فأنزل الله تبارك وتعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ الآيَةَ [4] . وَقَدْ رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ أَيْضًا أَبُو عَوَانَةَ وَفِيهِ: فَسَقَطَ السَّيْفُ مِنْ يَدِهِ، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «مَنْ يَمْنَعُكَ» ؟ قَالَ: كُنْ خَيْرَ آخِذٍ، قَالَ: تَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ» ؟ قَالَ الأَعْرَابِيُّ: أُعَاهِدُكَ أَنِّي لا أُقَاتِلُكَ، وَلا أَكُونُ مَعَ قَوْمٍ يُقَاتِلُونَكَ، قَالَ: فَخَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبِيلَهُ، فَجَاءَ إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ: جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ خَيْرِ النَّاسِ.
قُلْتُ: وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي غَزْوَةِ ذِي أمر خَبَرٌ لِرَجُلٍ يُقَالُ لَهُ:
دُعْثُورُ بْنُ الْحَارِثِ، مِنْ بَنِي مُحَارِبٍ يُشْبِهُ هَذَا الْخَبَرَ، قَامَ عَلَى رَأْسِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسَّيْفِ، فَقَالَ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي الْيَوْمَ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّه» وَدَفَعَ جِبْرِيلُ فِي صَدْرِهِ، فَوَقَعَ السَّيْفُ مِنْ يَدِهِ، فَأَخَذَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «من يمنعك مني» ؟ قال: لا أحد، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ثم أتى قومه فجعل يدعوهم إلى الإسلام ونزلت:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ الآيَةَ،
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخَبَرَيْنِ وَاحِدٌ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَمْرِ بَنِي النَّضِيرِ كَمَا سَبَقَ فَاللَّهُ أَعْلَمُ،
وَفِي انْصِرَافِهِ عليه السلام من هذه الغزوة أبطأ حمل جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بِهِ، فَنَخَسَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَانْطَلَقَ مُتَقَدِّمًا بَيْنَ يَدَيِ الرِّكَابِ ثُمَّ قَالَ: «أَتَبِيعُنِيهِ» فَابْتَاعَهُ مِنْهُ، وَقَالَ لَهُ: لَكَ ظَهْرُهُ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى الْمَدِينَةِ أَعْطَاهُ الثَّمَنَ وَوَهَبَ لَهُ الْجَمَلَ.
وَقَالَ ابْن سَعْدٍ: قَالُوا: قَدِمَ قَادِمٌ الْمَدِينَةَ بِجلبٍ لَهُ، فَأَخْبَرَ أَصْحَابَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ أَنْمَارَ وَثَعْلَبَةَ قَدْ جَمَعُوا لَهُمُ الْجُمُوعَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [5] ، فَخَرَجَ لَيْلَةَ السبت لعشر خلون من المحرم من أربعمائة من أصحابه، ويقال سبعمائة، فمضى
__________
[ (1) ] وعند ابن هشام: وسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجره.
[ (2) ] قال ابن هشام: وكان محلى بفضة.
[ (3) ] وعند ابن هشام: قال: أما تخافني وفي يدي السيف.
[ (4) ] سورة المائدة: الآية 11.
[ (5) ] وعند ابن سعد: فاستخلف على المدينة عثمان بن عفان، وخرج ليلة السبت ...

(2/77)


حَتَّى أَتَى مَحَالَّهُمْ بِذَاتِ الرّقَاعِ [1] ، فَلَمْ يَجِدْ في محالهم [أحدا] [2] إِلَّا نِسْوَةً [3] .
وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِعَالَ بْنَ سُرَاقَةَ بَشِيرًا بِسَلامَتِهِ وسلامة الْمُسْلِمِينَ، قَالَ: وَغَابَ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً.
وَرُوِّينَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى أَنَّهُمْ نُقِّبَتْ أَقْدَامُهُمْ [4] ، فَلَفُّوا عَلَيْهَا الْخِرَقِ، فَسُمِّيَتْ غَزْوَةَ ذَاتِ الرّقَاعِ [5] ، وَجُعِلَ حَدِيثُ أَبِي مُوسَى هَذَا حُجَّة فِي أَنَّ غَزْوَةَ ذَاتِ الرّقَاعِ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ خَيْبَرَ، وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا مُوسَى إِنَّمَا قَدِمَ مَعَ أَصْحَابِ السَّفِينَتَيْنِ بَعْد هَذَا بِثَلاثِ سِنِينَ، وَالْمَشْهُورُ فِي تَارِيخِ غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ مَا قَدَّمْنَاهُ، وَلَيْسَ فِي خَبَرِ أَبِي مُوسَى مَا يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.
وَغورثٌ: مُقَيَّدٌ بِالْغَيْنِ مُعْجَمَةٍ وَمُهْمَلَةٍ، وَهُوَ عِنْدَ بعضهم مصغر بالعين المهملة.
__________
[ (1) ] وعند ابن سعد: وهو جبل فيه بقع حمزة وسواد وبياض، قريب من النخيل بين السعد والشقرة ...
[ (2) ] زيدت على الأصل من الطبقات.
[ (3) ] إلى هنا انتهى كلام ابن سعد، وتتمة الكلام: فأخذهن وفيهن جارية وضيئة، وهربت الأعراب إلى رؤوس الجبال.
[ (4) ] أي رقت وتحرقت أقدامهم بسبب مشيهم حفاة، فلفوا عليها الرقاع.
[ (5) ] أنظر صحيح البخاري كتاب المغازي باب غزوة ذات الرقاع (5/ 52) .

(2/78)