كتاب المغازي للواقدي بَابُ شَأْنِ
سَرِيّةِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أُنَيْسٍ إلَى سُفْيَانَ بْنِ خَالِدِ
بْنِ نُبَيْحٍ
قَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُنَيْسٍ: خَرَجْت مِنْ الْمَدِينَةِ يَوْمَ
الِاثْنَيْنِ لِخَمْسٍ خَلَوْنَ مِنْ الْمُحَرّمِ عَلَى رَأْسِ
أَرْبَعَةٍ وَخَمْسِينَ شَهْرًا، فَغِبْت اثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً
وَقَدِمْت يَوْمَ السّبْتِ لِسَبْعٍ بَقِينَ مِنْ الْمُحَرّمِ.
قَالَ الْوَاقِدِيّ: حَدّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ
جُبَيْرٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: بَلَغَ رَسُولَ اللّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنّ سُفْيَانَ بْنَ خَالِدِ بْنِ
نُبَيْحٍ الْهُذَلِيّ ثُمّ اللّحْيَانِيّ وَكَانَ نَزَلَ عُرَنَةَ 1
وَمَا حَوْلَهَا فِي نَاسٍ مِنْ قَوْمِهِ وَغَيْرِهِمْ فَجَمَعَ
الْجُمُوعَ لِرَسُولِ اللّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
وَضَوَى إلَيْهِ بَشَرٌ كَثِيرٌ مِنْ أَفْنَاءِ النّاسِ. فَدَعَا
رَسُولُ اللّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَبْدَ اللّهِ
بْنَ أُنَيْسٍ، فَبَعَثَهُ سَرِيّةً وَحْدَهُ إلَيْهِ لِيَقْتُلَهُ
وَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ - صلّى الله عليه
ـــــــ
1 في الأصل: "عزبة"؛ وما أثبتناه من ب. وعرفه: موضع بقرب عرفة، موضع
الحجيج، [شرح الزرقاني على المواهب اللدنية، ج2، ص 76].
(2/531)
وسلم:
"انْتَسِبْ إلَى خُزَاعَةَ". فَقَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُنَيْسٍ: يَا
رَسُولَ اللّهِ مَا أَعْرِفُهُ فَصِفْهُ لِي. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "إنّك إذَا رَأَيْته هِبْته
وَفَرِقْت مِنْهُ وَذَكَرْت الشّيْطَانَ". وَكُنْت لَا أَهَابُ
الرّجَالَ فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللّهِ مَا فَرِقْت مِنْ شَيْءٍ قَطّ.
فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "بَلَى،
آيَةٌ بَيْنَك وَبَيْنَهُ 1 أَنْ تَجِدَ لَهُ قُشَعْرِيرَةً إذَا
رَأَيْته". وَاسْتَأْذَنْت النّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أَنْ أَقُولَ فَقَالَ: "قُلْ مَا بَدَا لَك". قَالَ
فَأَخَذْت سَيْفِي لَمْ أَزِدْ عَلَيْهِ وَخَرَجْت أَعْتَزِي إلَى
خُزَاعَةَ، فَأَخَذْت عَلَى الطّرِيقِ حَتّى انْتَهَيْت إلَى قُدَيْدٍ
، فَأَجِدُ بِهَا خُزَاعَةَ كَثِيرًا، فَعَرَضُوا عَلَيّ الْحُمْلَانَ
وَالصّحَابَةَ فَلَمْ أُرِدْ ذَلِكَ وَخَرَجْت 2 حَتّى أَتَيْت بَطْنَ
سَرِفَ ، ثُمّ عَدَلْت حَتّى خَرَجْت عَلَى عُرَنَةَ ، وَجَعَلْت
أُخْبِرُ مَنْ لَقِيت أَنّي أُرِيدُ سُفْيَانَ بْنَ خَالِدٍ لِأَكُونَ
مَعَهُ حَتّى إذَا كُنْت بِبَطْنِ عُرَنَةَ لَقِيته يَمْشِي،
وَوَرَاءَهُ الْأَحَابِيشُ وَمَنْ اسْتَجْلَبَ وَضَوَى إلَيْهِ.
فَلَمّا رَأَيْته هِبْته، وَعَرَفْته بِالنّعْتِ الّذِي نَعَتَ لِي
رَسُولُ اللّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَأَيْتنِي
أَقْطُرُ 3 فَقُلْت: صَدَقَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَدْ دَخَلْت فِي
وَقْتِ الْعَصْرِ حِينَ رَأَيْته، فَصَلّيْت وَأَنَا أَمْشِي أُومِئُ
إيمَاءً بِرَأْسِي، فَلَمّا دَنَوْت مِنْهُ قَالَ مَنْ الرّجُلُ ؟
فَقُلْت: رَجُلٌ مِنْ خُزَاعَةَ، سَمِعْت بِجَمْعِك لِمُحَمّدٍ
فَجِئْتُك لِأَكُونَ مَعَك. قَالَ أَجَلْ إنّي لَفِي الْجَمْعِ لَهُ.
فَمَشَيْت مَعَهُ وَحَدّثْته فَاسْتَحْلَى حَدِيثِي، وَأَنْشَدْته
شِعْرًا، وَقُلْت: عَجَبًا لِمَا أَحْدَثَ مُحَمّدٌ مِنْ هَذَا الدّينِ
الْمُحْدَثِ فَارَقَ الْآبَاءَ وَسَفّهَ أَحْلَامَهُمْ قَالَ لَمْ
يَلْقَ مُحَمّدٌ أَحَدًا يُشْبِهُنِي قَالَ وَهُوَ يَتَوَكّأُ عَلَى
عَصًا يَهُدّ الْأَرْضَ
ـــــــ
1 في ب: "يبنك وبين ذلك".
2 في ب: "فخرجت أمشي".
3 في الأصل: "أنظر"؛ وما أثبتناه هو قراءة ب.
(2/532)
حَتّى انْتَهَى
إلَى خِبَائِهِ وَتَفَرّقَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ إلَى مَنَازِلَ
قَرِيبَةٍ مِنْهُ وَهُمْ مُطِيفُونَ بِهِ فَقَالَ هَلُمّ يَا أَخَا
خُزَاعَةَ فَدَنَوْت مِنْهُ فَقَالَ لِجَارِيَتِهِ: اُحْلُبِي
فَحَلَبَتْ ثُمّ نَاوَلَتْنِي، فَمَصَصْت ثُمّ دَفَعْته إلَيْهِ فَعَبّ
كَمَا يَعُبّ الْجَمْلُ حَتّى غَابَ أَنْفُهُ فِي الرّغْوَةِ 1 ثُمّ
قَالَ: اجْلِسْ. فَجَلَسْت مَعَهُ حَتّى إذَا هَدَأَ النّاسُ وَنَامُوا
وَهَدَأَ اغْتَرَرْته 2 فَقَتَلْته وَأَخَذْت رَأْسَهُ ثُمّ أَقْبَلْت
وَتَرَكْت نِسَاءَهُ يَبْكِينَ عَلَيْهِ وَكَانَ النّجَاءُ مِنّي حَتّى
صَعِدْت فِي جَبَلٍ فَدَخَلْت غَارًا. وَأَقْبَلَ الطّلَبُ مِنْ
الْخَيْلِ وَالرّجَالِ تَوَزّعُ فِي كُلّ وَجْهٍ وَأَنَا مُخْتَفٍ فِي
غَارِ الْجَبَلِ وَضَرَبَتْ الْعَنْكَبُوتُ عَلَى الْغَارِ وَأَقْبَلَ
رَجُلٌ وَمَعَهُ إدَاوَةٌ ضَخْمَةٌ وَنَعْلَاهُ فِي يَدِهِ وَكُنْت
حَافِيًا، وَكَانَ أَهَمّ أَمْرِي عِنْدِي الْعَطَشَ كُنْت أَذْكُرُ
تِهَامَةَ وَحَرّهَا، فَوَضَعَ إدَاوَتَهُ وَنَعْلَهُ وَجَلَسَ يَبُولُ
عَلَى بَابِ الْغَارِ ثُمّ قَالَ لِأَصْحَابِهِ لَيْسَ فِي الْغَارِ
أَحَدٌ. فَانْصَرَفُوا رَاجِعِينَ وَخَرَجْت إلَى الْإِدَاوَةِ
فَشَرِبْت مِنْهَا وَأَخَذْت النّعْلَيْنِ فَلَبِسْتهمَا. فَكُنْت
أَسِيرُ اللّيْلَ وَأَتَوَارَى النّهَارَ حَتّى جِئْت الْمَدِينَةَ
فَوَجَدْت رَسُولَ اللّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي
الْمَسْجِدِ فَلَمّا رَآنِي قَالَ: "أَفْلَحَ الْوَجْهُ". قُلْت:
أَفْلَحَ وَجْهُك يَا رَسُولَ اللّهِ فَوَضَعْت رَأْسَهُ بَيْنَ
يَدَيْهِ وَأَخْبَرْته خَبَرِي، فَدَفَعَ إلَيّ عَصًا فَقَالَ:
"تَخَصّرْ 3 بِهَذِهِ فِي الْجَنّةِ. فَإِنّ الْمُتَخَصّرِينَ فِي
الْجَنّةِ قَلِيلٌ" فَكَانَتْ عِنْدَ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أُنَيْسٍ
حَتّى إذَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ أَوْصَى أَهْلَهُ أَنْ يُدْرِجُوهَا فِي
كَفَنِهِ. وَكَانَ قَتْلُهُ فِي الْمُحَرّمِ عَلَى رَأْسِ أَرْبَعَةٍ
وَخَمْسِينَ شَهْرًا.
ـــــــ
1 الرغوة: زبد اللبن. [الصحاح، ص 2360].
2 في الأصل: "اغتزيته"؛ وما أثبتناه هو قراءة ب. واغتررته: أي أخذته في
غفلة. [شرح الزرقاني على المواهب اللدنية، ج2، ص 76].
3 التخصر: الاتكاء على قضيب ونحوه. [شرح الزقاني على المواهب اللدنية،
ج2، ص 76].
(2/533)
غزوة القرطاء
1
حدثني خَالِدُ بْنُ إلْيَاسَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مَحْمُودٍ قَالَ:
قَالَ: مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ خَرَجْت فِي عَشْرِ لَيَالٍ خَلَوْنَ
مِنْ الْمُحَرّمِ فَغِبْت تِسْعَ عَشْرَةَ وَقَدِمْت لِلَيْلَةٍ
بَقِيَتْ مِنْ الْمُحَرّمِ عَلَى رَأْسِ خَمْسَةٍ وَخَمْسِينَ شَهْرًا.
حَدّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمّدِ بْنِ أَنَسٍ الظّفَرِيّ،
عَنْ أَبِيهِ وَحَدّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ سَعْدٍ عَنْ جَعْفَرِ
بْنِ مَحْمُودٍ زَادَ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ فِي الْحَدِيثِ
قَالَا: بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
مُحَمّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ فِي ثَلَاثِينَ رَجُلًا، فِيهِمْ عَبّادُ
بْنُ بِشْرٍ وَسَلَمَةُ بْنُ سَلَامَةَ بْنِ وَقْشٍ وَالْحَارِثُ بْنُ
خَزَمَةَ إلَى بَنِي بَكْرِ بْنِ كِلَابٍ وَأَمَرَهُ أَنْ يَسِيرَ
اللّيْلَ وَيَكْمُنَ النّهَارَ وَأَنْ يَشُنّ عَلَيْهِمْ الْغَارَةَ.
فَكَانَ مُحَمّدٌ يَسِيرُ اللّيْلَ وَيَكْمُنُ النّهَارَ حَتّى إذَا
كَانَ بِالشّرَبَةِ 2 لَقِيَ ظُعُنًا، فَأَرْسَلَ رَجُلًا مِنْ
أَصْحَابِهِ يَسْأَلُ مَنْ هُمْ. فَذَهَبَ الرّسُولُ ثُمّ رَجَعَ
إلَيْهِ فَقَالَ قَوْمٌ مِنْ مُحَارِبٍ. فَنَزَلُوا قَرِيبًا مِنْهُ
وَحَلّوا وَرَوّحُوا مَاشِيَتَهُمْ. فَأَمْهَلَهُمْ حَتّى إذَا
ظَعَنُوا أَغَارَ عَلَيْهِمْ فَقَتَلَ نَفَرًا مِنْهُمْ وَهَرَبَ
سَائِرُهُمْ فَلَمْ يَطْلُبْ مَنْ هَرَبَ وَاسْتَاقَ نَعَمًا وَشَاءً
وَلَمْ يَعْرِضْ لِلظّعُنِ. ثُمّ انْطَلَقَ حَتّى إذَا كَانَ
بِمَوْضِعٍ يُطْلِعُهُ عَلَى بَنِي بَكْرٍ بَعَثَ عَبّادَ بْنَ بِشْرٍ
إلَيْهِمْ فَأَوْفَى عَلَى الْحَاضِرِ فَأَقَامَ فَلَمّا رَوّحُوا
مَاشِيَتَهُمْ وَحَلَبُوا وَعَطّنُوا 3 جَاءَ إلَى مُحَمّدِ بْنِ
مَسْلَمَةَ فَأَخْبَرَهُ فَخَرَجَ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ فَشَنّ
عَلَيْهِمْ الْغَارَةَ فَقَتَلَ مِنْهُمْ عَشَرَةً وَاسْتَاقُوا
النّعَمَ وَالشّاءَ ثم انحدروا
ـــــــ
1 القرطاء : بطن من بني بكر. [شرح الزرقاني على المواهب ا للدنية، ج2،
ص 173].
2 في الأصل: "بالسرية"؛ والتصحيح من نسخة ب. والشربة: موضع بين السليلة
والربذة، وقيل هي فيما بين نخل ومعدن بني سليم. [وفاء الوفا، ج2، ص
328].
3 عطنت الإبل: رويت ثم بركت. [القاموس المحيط، ج4، ص 248].
(2/534)
إلَى
الْمَدِينَةِ ، فَمَا أَصْبَحَ حِينَ أَصْبَحَ إلّا بِضَرِيّةَ 1
مَسِيرَةَ لَيْلَةٍ أَوْ لَيْلَتَيْنِ. ثُمّ حَدَرْنَا النّعَمَ
وَخِفْنَا الطّلَبَ وَطَرَدْنَا الشّاءَ أَشَدّ الطّرْدِ فَكَانَتْ
تَجْرِي مَعَنَا كَأَنّهَا الْخَيْلُ حَتّى بَلَغْنَا الْعَدَاسَةَ
فَأَبْطَأَ عَلَيْنَا الشّاءُ بِالرّبَذَةِ 2 فَخَلّفْنَاهُ مَعَ
نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِي يَقْصِدُونَ بِهِ وَطُرِدَ النّعَمُ فَقُدِمَ
بِهِ الْمَدِينَةَ عَلَى النّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-. وَكَانَ مُحَمّدٌ يَقُولُ خَرَجْت مِنْ ضَرِيّةَ، فَمَا رَكِبْت
خُطْوَةً حَتّى وَرَدْت بَطْنَ نَخْلٍ 3 ، فَقُدِمَ بِالنّعَمِ
خَمْسِينَ وَمِائَةِ بَعِيرٍ وَالشّاءِ وَهِيَ ثَلَاثَةُ آلَافِ شَاةٍ
فَلَمّا قَدِمْنَا خَمّسَهُ رَسُولُ اللّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - ثُمّ فَضّ عَلَى أَصْحَابِهِ مَا بَقِيَ فَعَدَلُوا
الْجَزُورَ بِعَشْرٍ مِنْ الْغَنَمِ فَأَصَابَ كُلّ رَجُلٍ مِنْهُمْ.
ـــــــ
1 قال ابن سعد: إن ضرية على سبع ليال من المدينة. [الطبقات، ج2، ص 56].
2 الربذة: قرية بنجد من عمل المدينة على ثلاثة أيام منها، وقيل أربعة
أيام. [وفاء الوفا، ج2، ص 227].
3 نخل: مكان على يومين من المدينة. [وفاء الوفان ج2 ص 381].
(2/535)
غَزْوَةُ بَنِي
لِحْيَانَ
حَدّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ وَهْبٍ أَبُو الْحَسَنِ
الْأَسْلَمِيّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي مَرْوَانَ قَالَ: خَرَجَ
رَسُولُ اللّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِهِلَالِ
رَبِيعٍ الْأَوّلِ سَنَةَ سِتّ فَبَلَغَ غُرَانَ وَعُسْفَانَ 1 ،
وَغَابَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً.
حَدّثَنِي مَعْمَرٌ عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ ابْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ،
وَحَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ
عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ وَغَيْرُهُمَا قَدْ
حَدّثَنِي، وَقَدْ زَادَ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ قَالُوا: وَجَدَ
رَسُولُ اللّهِ - صلّى الله
ـــــــ
1 في الأصل: "غزان"؛ وما أثبتناه نم ب، ومن ابن إسحاق. [السيرة
النبوية، ج3، ص 292]. وغران: اسم وادي الأزرق خلف أمج بميل، وعسفان:
قرية جامعة بين مكة والمدينة على نحو يومين من مكة. [وفاء الوفا، ج2، ص
353، 345].
(2/535)
عليه وسلم
عَلَى عَاصِمِ بْنِ ثَابِتٍ وَأَصْحَابِهِ 1 وَجْدًا شَدِيدًا،
فَخَرَجَ [فِي مِائَتَيْ رَجُلٍ وَمَعَهُمْ عِشْرُونَ فَرَسًا] 2 فِي
أَصْحَابِهِ فَنَزَلَ بِمَضْرِبِ الْقُبّةِ 3 مِنْ نَاحِيَةِ الْجُرْفِ
، فَعَسْكَرَ فِي أَوّلِ نَهَارِهِ وَهُوَ يُظْهِرُ أَنّهُ يُرِيدُ
الشّامَ ، ثُمّ رَاحَ مُبْرِدًا فَمَرّ عَلَى غُرَابَات 4 ، ثُمّ عَلَى
بِينَ 5 حَتّى خَرَجَ عَلَى صُخَيْرَاتِ الثّمَامِ 6 فَلَقِيَ
الطّرِيقَ هُنَاكَ. ثُمّ أَسْرَعَ السّيْرَ حَتّى انْتَهَى إلَى بَطْنِ
غُرَانَ حَيْثُ كَانَ مُصَابُهُمْ فَتَرَحّمَ عَلَيْهِمْ وَقَالَ:
"هَنِيئًا لَكُمْ الشّهَادَةُ!" فَسَمِعَتْ بِهِ لِحْيَانُ فَهَرَبُوا
فِي رُءُوسِ الْجِبَالِ فَلَمْ نَقْدِرْ مِنْهُمْ عَلَى أَحَدٍ،
فَأَقَامَ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ وَبَعَثَ السّرَايَا فِي كُلّ
نَاحِيَةٍ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى أَحَدٍ. ثُمّ خَرَجَ حَتّى أَتَى
عُسْفَانَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - لِأَبِي بَكْرٍ: "إنّ قُرَيْشًا قَدْ بَلَغَهُمْ مَسِيرِي
وَأَنّي قَدْ وَرَدْت عُسْفَانَ ، وَهُمْ يَهَابُونَ أَنْ آتِيَهُمْ
فَاخْرُجْ فِي عَشَرَةِ فَوَارِسَ". فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ فِيهِمْ
حَتّى أَتَوْا الْغَمِيمَ ، ثُمّ رَجَعَ أَبُو بَكْرٍ إلَى رَسُولِ
اللّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَلْقَ أَحَدًا.
فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "إنّ
هَذَا يَبْلُغُ قُرَيْشًا فَيَذْعَرُهُمْ وَيَخَافُونَ أَنْ نَكُونَ
نُرِيدُهُمْ" - وَخُبَيْبُ بْنُ عَدِيّ يَوْمَئِذٍ فِي أَيْدِيهِمْ.
فَبَلَغَ قُرَيْشًا أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قَدْ بَلَغَ الْغَمِيمَ ، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: مَا أَتَى
مُحَمّدٌ الْغَمِيمَ إلّا يُرِيدُ أن يخلص
ـــــــ
1 قتلوا يوم بئر معوفة.
2 زيادة من نسخة ب.
3 هكذا في النسخ؛ ولعله يريد قباء، وهي قرية بعوالي المدينة. [وفاء
الوفا، ج2، ص 357].
4 ويقال غراب؛ بصيغة المفرد كما في ابن أسحاق، وهو جبل بناحية المدينة.
[السيرة النبوية، ج3، ص 392].
5 بين: قرية من قرى المدينة تقرب من السيالة. [معجم ما استعجم، ص
189].
6 ويقال الثمامة؛ كما ذكر السمهودي. [وفاء الوفا ، ج2، ص 273]. ورواه
ابن إسحاق بالياء التحتية بدل المثلثة. [السيرة النبوية، ج3، ص 292].
(2/536)
خُبَيْبًا.
وَكَانَ خُبَيْبٌ وَصَاحِبَاهُ فِي حَدِيدٍ مُوثَقِينَ فَجَعَلُوا فِي
رِقَابِهِمْ الْجَوَامِعَ وَقَالُوا: قَدْ بَلَغَ مُحَمّدٌ ضَجْنَانَ
وَهُوَ دَاخِلٌ عَلَيْنَا فَدَخَلَتْ مَاوِيّةُ عَلَى خُبَيْبٍ
فَأَخْبَرَتْهُ الْخَبَرَ وَقَالَتْ هَذَا صَاحِبُك قَدْ بَلَغَ
ضَجْنَانَ يُرِيدُكُمْ. فَقَالَ خُبَيْبٌ وَهَلْ ؟ قَالَتْ نَعَمْ.
قَالَ خُبَيْبٌ يَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ قَالَتْ: وَاَللّهِ مَا
يَنْتَظِرُونَ بِك إلّا أَنْ يَخْرُجَ الشّهْرُ الْحَرَامُ
وَيُخْرِجُوك فَيَقْتُلُوك وَيَقُولُونَ أَتَرَى مُحَمّدًا غَزَانَا
فِي الشّهْرِ الْحَرَامِ وَنَحْنُ لَا نَسْتَحِلّ أَنْ نَقْتُلَ
صَاحِبَهُ فِي الشّهْرِ الْحَرَامِ ؟ وَكَانَ مَأْسُورًا عِنْدَهُمْ
وَخَافُوا أَنْ يَدْخُلَهَا رَسُولُ اللّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - عَلَيْهِمْ. فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى الْمَدِينَةِ وَهُوَ يَقُولُ: "آيِبُونَ
تَائِبُونَ، عَابِدُونَ لِرَبّنَا حَامِدُونَ اللّهُمّ أَنْتَ
الصّاحِبُ فِي السّفَرِ وَالْخَلِيفَةُ عَلَى الْأَهْلِ اللّهُمّ
أَعُوذُ بِك مِنْ وَعْثَاءِ السّفَرِ وَكَآبَةِ الْمُنْقَلَبِ وَسُوءِ
الْمَنْظَرِ فِي الْأَهْلِ وَالْمَالِ اللّهُمّ بَلّغْنَا بَلَاغًا
صَالِحًا يَبْلُغُ إلَى خَيْرٍ مَغْفِرَةً مِنْك وَرِضْوَانًا" وَغَابَ
رَسُولُ اللّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ
الْمَدِينَةِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً وَكَانَ اسْتَخْلَفَ عَلَى
الْمَدِينَةِ ابْنَ أُمّ مَكْتُومٍ، وَكَانَتْ سَنَةَ سِتّ فِي
الْمُحَرّمِ وَهَذَا أَوّلُ مَا قَالَ هَذَا الدّعَاءَ ذَكَرَهُ
أَصْحَابُنَا كُلّهُمْ.
(2/537)
غَزْوَةُ
الْغَابَةِ
حَدّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عُقْبَةَ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ
الْأَكْوَعِ، عَنْ إيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَغَارَ
عُيَيْنَةُ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ لِثَلَاثٍ خَلَوْنَ مِنْ رَبِيعٍ
الْآخِرِ سَنَةَ سِتّ وَغَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي طَلَبِهِ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ
فَغِبْنَا خَمْسَ لَيَالٍ وَرَجَعْنَا لَيْلَةَ الِاثْنَيْنِ.
وَاسْتَخْلَفَ رسول الله
(2/537)
- صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْمَدِينَةِ ابْنَ أُمّ
مَكْتُومٍ.
حَدّثَنِي مُوسَى بْنُ مُحَمّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ
وَحَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ،
وَعَلِيّ بْنُ يَزِيدَ وَغَيْرُهُمْ فَكُلّ قَدْ حَدّثَنِي بِطَائِفَةٍ
قَالُوا: كَانَتْ لِقَاحُ 1 رَسُولِ اللّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - عِشْرِينَ لِقْحَةً وَكَانَتْ مِنْ شَتّى، مِنْهَا مَا
أَصَابَ فِي ذَاتِ الرّقَاعِ ، وَمِنْهَا مَا قَدِمَ بِهِ مُحَمّدُ
بْنُ مَسْلَمَةَ مِنْ نَجْدٍ . وَكَانَتْ تَرْعَى الْبَيْضَاءَ 2
وَدُونَ الْبَيْضَاءِ ، فَأَجْدَبَ مَا هُنَاكَ فَقَرّبُوهَا إلَى
الْغَابَةِ ، تُصِيبُ مِنْ أَثْلِهَا وَطَرْفَائِهَا وَتَغْدُو فِي
الشّجَرِ -. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ الْغَادِيَةُ تَغْدُو فِي
الْعِضَاهِ أُمّ غَيْلَانَ وَغَيْرِهَا، وَالْوَاضِعَةُ الْإِبِلُ
تَرْعَى الْحَمْضَ ; وَالْأَوَارِكُ الّتِي تَرْعَى الْأَرَاكَ -
فَكَانَ الرّاعِي يَئُوبُ بِلَبَنِهَا كُلّ لَيْلَةٍ عِنْدَ
الْمَغْرِبِ. وَكَانَ أَبُو ذَرّ قَدْ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى لِقَاحِهِ فَقَالَ رَسُولُ
اللّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "إنّي أَخَافُ عَلَيْك
مِنْ هَذِهِ الضّاحِيَةِ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْك، وَنَحْنُ لَا نَأْمَنُ
مِنْ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ وَذَوِيهِ هِيَ فِي طَرَفٍ مِنْ
أَطْرَافِهِمْ". فَأَلَحّ عَلَيْهِ أَبُو ذَرّ فَقَالَ يَا رَسُولَ
اللّهِ ائْذَنْ لِي. فَلَمّا أَلَحّ عَلَيْهِ قَالَ رَسُولُ اللّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "لَكَأَنّي بِك، قَدْ قُتِلَ
ابْنُك، وَأُخِذَتْ امْرَأَتُك، وَجِئْت تَتَوَكّأُ عَلَى عَصَاك".
فَكَانَ أَبُو ذَرّ يَقُولُ: عَجَبًا لِي إنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " لَكَأَنّي بِك " وَأَنَا
أُلِحّ عَلَيْهِ. فَكَانَ وَاَللّهِ عَلَى مَا قَالَ رَسُولُ اللّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَكَانَ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو يَقُولُ لَمّا كَانَتْ لَيْلَةُ
السّرْحِ جَعَلَتْ فَرَسِي سَبْحَةً لَا تَقِرّ ضَرْبًا بِأَيْدِيهَا
وَصَهِيلًا. فَيَقُولُ أَبُو مَعْبَدٍ: وَاَللّهِ إنّ لَهَا شَأْنًا
فَنَنْظُرُ آرِيّهَا 3 فَإِذَا هُوَ مَمْلُوءٌ عَلَفًا، فَيَقُولُ:
عَطْشَى فَيَعْرِضُ الْمَاءَ عَلَيْهَا فَلَا تُرِيدُهُ فَلَمّا طَلَعَ
الْفَجْرُ أَسْرَجَهَا وَلَبِسَ سِلَاحَهُ. وَخَرَجَ حَتّى صَلّى
الصّبْحَ مَعَ رَسُولِ اللّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
فَلَمْ يَرَ شَيْئًا، وَدَخَلَ النبي
ـــــــ
1 اللقاح: الإبل الحوامل ذوات الألبان. [شرح أبي ذر، ص 329].
2 اليضاء: موضع تلقاء حمى الربذة. [معجم ما استعجم، ص 184].
3 الآرى: حبل تشد به الدابة في محبسها. [الصحاح، ص 2267].
(2/538)
- صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْتَهُ وَرَجَعَ الْمِقْدَادُ إلَى
بَيْتِهِ وَفَرَسُهُ لَا تَقِرّ، فَوَضَعَ سَرْجَهَا وَسِلَاحَهُ
وَاضْطَجَعَ وَجَعَلَ 1 إحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى، فَأَتَاهُ
آتٍ فَقَالَ إنّ الْخَيْلَ قَدْ صِيحَ بِهَا. فَكَانَ أَبُو ذَرّ
يَقُولُ: وَاَللّهِ إنّا لَفِي مَنْزِلِنَا، وَلِقَاحُ رَسُولِ اللّهِ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ رُوّحَتْ وَعُطّنَتْ
وَحُلِبَتْ عَتَمَتُهَا 2 وَنِمْنَا، فَلَمّا كَانَ فِي اللّيْلِ
أَحْدَقَ بِنَا عُيَيْنَةُ فِي أَرْبَعِينَ فَارِسًا، فَصَاحُوا بِنَا
وَهُمْ قِيَامٌ عَلَى رُءُوسِنَا، فَأَشْرَفَ لَهُمْ ابْنِي
فَقَتَلُوهُ وَكَانَتْ مَعَهُ امْرَأَتُهُ وَثَلَاثَةُ نَفَرٍ
فَنَجَوْا، وَتَنَحّيْت عَنْهُمْ وَشَغَلَهُمْ عَنّي إطْلَاقُ عُقُلِ
اللّقَاحِ ثُمّ صَاحُوا فِي أَدْبَارِهَا، فَكَانَ آخِرَ الْعَهْدِ
بِهَا. وَجِئْت إلَى النّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
فَأَخْبَرْته وَهُوَ يَتَبَسّمُ. فَكَانَ سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ
يَقُولُ غَدَوْت أُرِيدُ الْغَابَةَ لِلِقَاحِ رَسُولِ اللّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنْ أُبَلّغَهُ لَبَنَهَا، حَتّى
أَلْقَى غُلَامًا لِعَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ كَانَ فِي إبِلٍ
لِعَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فَأَخْطَئُوا مَكَانَهَا وَاهْتَدَوْا
إلَى لِقَاحِ رَسُولِ اللّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
فَأَخْبَرَنِي أَنّ لِقَاحَ رَسُولِ اللّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قَدْ أَغَارَ عَلَيْهَا عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ فِي
أَرْبَعِينَ فَارِسًا، فَأَخْبَرَنِي أَنّهُمْ قَدْ رَأَوْا مَدَدًا
بَعْدَ ذَلِكَ أُمِدّ بِهِ عُيَيْنَةُ. قَالَ سَلَمَةُ فَأَحْضَرْت
فَرَسِي رَاجِعًا إلَى الْمَدِينَةِ حَتّى وَافَيْت عَلَى ثَنِيّةِ
الْوَدَاعِ 3 فَصَرَخْت بِأَعْلَى صَوْتِي: يَا صَبَاحَاهُ ثَلَاثًا،
أُسْمِعُ مَنْ بَيْنَ لَابَتَيْهَا.
فَحَدّثَنِي مُوسَى بْنُ مُحَمّدٍ عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ
مُحَمّدِ بْنِ لَبِيدٍ قَالَ نَادَى: الْفَزَعَ الْفَزَعَ ثَلَاثًا،
ثُمّ وَقَفَ وَاقِفًا عَلَى فَرَسِهِ حَتّى طَلَعَ رَسُولُ اللّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيدِ مُقَنّعًا
فَوَقَفَ وَاقِفًا، فَكَانَ أَوّلَ مَنْ
ـــــــ
1 في ب: "ووضع".
2 في الأصل: "غنمتها"؛ وما أثبتناه من ب. والعتمة: ظلمة الليل، وكانت
الأعراب يسمون الحلاب باسم الوقت. [النهاية، ج3، ص 67].
3 ثنية الوداع: عن يمين المدينة ودونها. [معجم ما استعجم، ص 841]. وقيل
هي ثنية مشرفة على المدينة يطؤها من يريد مكة، وقيل من يريد الشام.
[وفاء الوفا، ج2، ص 277].
(2/539)
أَقْبَلَ
إلَيْهِ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو، عَلَيْهِ الدّرْعُ وَالْمِغْفَرُ
شَاهِرًا سَيْفَهُ فَعَقَدَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِوَاءً فِي رُمْحِهِ وَقَالَ امْضِ حَتّى
تَلْحَقَك الْخُيُولُ إنّا عَلَى أَثَرِك. قَالَ الْمِقْدَادُ:
فَخَرَجْت وَأَنَا أَسْأَلُ اللّهَ الشّهَادَةَ حَتّى أُدْرِكَ
أُخْرَيَاتِ الْعَدُوّ وَقَدْ أَذَمّ 1 بِهِمْ فَرَسٌ لَهُمْ
فَاقْتَحَمَ فَارِسُهُ وَرَدَفَ أَحَدَ أَصْحَابِهِ فَآخُذُ الْفَرَسَ
الْمُذِمّ فَإِذَا هُوَ ضَرَعٌ 2 أَشْقَرُ عَتِيقٌ لَمْ يَقْوَ عَلَى
الْعَدْوِ وَقَدْ غَدَوْا عَلَيْهِ مِنْ أَقْصَى الْغَابَةِ فَحَسِرَ
فَأَرْبِطُ فِي عُنُقِهِ قِطْعَةَ وَتَرٍ وَأُخَلّيهِ وَقُلْت: إنْ
مَرّ بِهِ أَحَدٌ فَأَخَذَهُ جِئْته بِعَلَامَتِي فِيهِ. فَأُدْرِكُ
مَسْعَدَةَ فَأَطْعَنُهُ بِرُمْحٍ فِيهِ اللّوَاءُ فَزَلّ الرّمْحُ
وَعَطَفَ عَلَيّ بِوَجْهِهِ فَطَعَنَنِي وَآخُذُ الرّمْحَ بِعَضُدِي
فَكَسَرْته، وَأَعْجَزَنِي هَرَبًا، وَأَنْصِبُ لِوَائِي فَقُلْت:
يَرَاهُ أَصْحَابِي: وَيَلْحَقُنِي أَبُو قَتَادَةَ مُعَلّمًا
بِعِمَامَةٍ صَفْرَاءَ عَلَى فَرَسٍ لَهُ فَسَايَرْته سَاعَةً وَنَحْنُ
نَنْظُرُ إلَى دُبُرِ مَسْعَدَةَ فَاسْتَحَثّ فَرَسَهُ فَتَقَدّمَ
عَلَى فَرَسِي، فَبَانَ سَبْقُهُ فَكَانَ أَجْوَدَ مِنْ فَرَسِي حَتّى
غَابَ عَنّي فَلَا أَرَاهُ. ثُمّ أَلْحَقُهُ فَإِذَا هُوَ يَنْزِعُ
بُرْدَتَهُ فَصِحْت: مَا تَصْنَعُ ؟ قَالَ خَيْرًا أَصْنَعُ كَمَا
صَنَعْت بِالْفَرَسِ. فَإِذَا هُوَ قَدْ قَتَلَ مَسْعَدَةَ وَسَجّاهُ
بِبُرْدَةٍ. وَرَجَعْنَا فَإِذَا فَرَسٌ فِي يَدِ عُلْبَةَ بْنِ زَيْدٍ
الْحَارِثِيّ فَقُلْت: فَرَسِي هَذَا وَعَلَامَتِي فِيهِ فَقَالَ:
تَعَالَ إلَى النّبِيّ فَجَعَلَهُ مَغْنَمًا.
وَخَرَجَ سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ عَلَى رِجْلَيْهِ يَعْدُو
لِيَسْبِقَ الْخَيْلَ مِثْلَ السّبُعِ. قَالَ سَلَمَةُ: حَتّى لَحِقْت
الْقَوْمَ فَجَعَلْت أَرْمِيهِمْ بِالنّبْلِ وَأَقُولُ حِينَ أَرْمِي:
خُذْهَا مِنّي وَأَنَا ابْنُ الْأَكْوَعِ! فَتَكِرّ عَلَيّ خَيْلٌ مِنْ
خيلهم فإذا
ـــــــ
1 أذمت ركابها القوم أي أعيت وتأخرت عن جماعة الإبل. [الصحاح، ص 1926].
2 الضرع: الضعيف. [الصحاح، ص 1249].س
(2/540)
وُجّهَتْ
نَحْوِي انْطَلَقْت هَارِبًا فَأَسْبِقُهَا، وَأَعْمِدُ إلَى
الْمَكَانِ الْمُعْوِرِ 1 فَأُشْرِفُ عَلَيْهِ وَأَرْمِي بِالنّبْلِ
إذَا أَمْكَنَنِي الرّمْيُ وَأَقُولُ:
خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ الْأَكْوَعِ ... وَالْيَوْمُ يَوْمُ الرّضّعْ 2
فَمَا زِلْت أَكَافِحُهُمْ وَأَقُولُ: قِفُوا قَلِيلًا، يَلْحَقْكُمْ
أَرْبَابُكُمْ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ. فَيَزْدَادُونَ
عَلَيّ حَنَقًا فَيَكِرّونَ عَلَيّ فَأُعْجِزُهُمْ هَرَبًا حَتّى
انْتَهَيْت بِهِمْ إلَى ذِي قَرَدٍ 3. وَلَحِقَنَا رَسُولُ اللّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْخُيُولُ عِشَاءً فَقُلْت:
يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ الْقَوْمَ عِطَاشٌ وَلَيْسَ لَهُمْ مَاءٌ دُونَ
أَحْسَاءِ كَذَا وَكَذَا، فَلَوْ بَعَثْتنِي فِي مِائَةِ رَجُلٍ
اسْتَنْفَذْت مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنْ السّرْحِ وَأَخَذْت بِأَعْنَاقِ
الْقَوْمِ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ – "مَلَكْت فَأَسْجِحْ 4" ثُمّ قَالَ النّبِيّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – "إنّهُمْ لَيُقْرَوْنَ فِي غَطَفَانَ"
فَحَدّثَنِي خَالِدُ بْنُ إلْيَاسَ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ
اللّهِ بْنِ أَبِي جَهْمٍ قَالَ تَوَافَتْ الْخَيْلُ وَهُمْ
ثَمَانِيَةٌ - الْمِقْدَادُ، وَأَبُو قَتَادَةَ، وَمُعَاذُ بْنُ
مَاعِصٍ وَسَعْدُ بْنُ زَيْدٍ، وَأَبُو عَيّاشٍ الزّرَقِيّ، وَمُحْرِزُ
بْنُ نَضْلَةَ وَعُكّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ وَرَبِيعَةُ بْنُ أَكْثَمَ.
حَدّثَنِي مُوسَى بْنُ مُحَمّدٍ عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ
قَتَادَةَ، قَالَ: مِنْ الْمُهَاجِرِينَ ثَلَاثَةٌ الْمِقْدَادُ،
وَمُحْرِزُ بْنُ نَضْلَةَ وَعُكّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ. وَمِنْ
الْأَنْصَارِ: سَعْدُ بْنُ زَيْدٍ، وَهُوَ أَمِيرُهُمْ وَأَبُو عَيّاشٍ
الزّرَقِيّ فَارِسُ جُلْوَةَ 5
ـــــــ
1 مكان معور: أي ذو عورة. [أساب البلاغة ، ص 661].
2 الرضع: جمع راضع وهو اللئيم، وأراد أن هذا اليوم هو يوم هلاك اللئام.
[شرح أبي ذر، ص 329].
3 ذو قرد: على نحو يوم من المدينة مما يلي غطفان، ويقال هو بين المدينة
وخيبر على يومين من المدينة. [وفاء الوفا، ج2، ص 360].
4 أي قدرت فسهل وأحسن العفو، وهو مثل سائر. [النهاية، ج2، ص 146].
5 قال ابن إسحاق: وفرس أبي عياش جلوة. [السيرة النبوية، ج3، ص 296].
(2/541)
وَعَبّادُ بْنُ
بِشْرٍ وأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ وَأَبُو قَتَادَةَ.
قَالَ أَبُو عَيّاشٍ: أَطْلُعُ عَلَى فَرَسٍ لِي، فَقَالَ لِي رَسُولُ
اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "لَوْ أَعْطَيْت فَرَسَك
مَنْ هُوَ أَفْرَسُ مِنْك فَتَبِعَ الْخُيُولَ!". فَقُلْت: أَنَا يَا
رَسُولَ اللّهِ أَفْرَسُ النّاسِ فَرَكَضْته، فَمَا جَرَى بِي
خَمْسِينَ ذِرَاعًا حَتّى صَرَعَنِي الْفَرَسُ. فَكَانَ أَبُو عَيّاشٍ
يَقُولُ فَعَجَبًا إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ: " لَوْ أَعْطَيْت فَرَسَك هَذَا مَنْ هُوَ أَفْرَسُ
مِنْك " وَأَقُولُ: " أَنَا أَفْرَسُ النّاسِ".
قَالُوا: وَذَهَبَ الصّرِيخُ إلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ،
فَجَاءَتْ الْأَمْدَادُ فَلَمْ تَزَلْ الْخَيْلُ تَأْتِي، وَالرّجَالُ
عَلَى أَقْدَامِهِمْ وَالْإِبِلِ وَالْقَوْمُ يَعْتَقِبُونَ الْبَعِيرَ
وَالْحِمَارَ حَتّى انْتَهَوْا إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذِي قَرَدٍ ، فَاسْتَنْقَذُوا عَشْرَ لَقَائِحَ
وَأَفْلَتْ الْقَوْمُ بِمَا بَقِيَ وَهِيَ عَشْرٌ. وَكَانَ مُحْرِزُ
بْنُ نَضْلَةَ حَلِيفًا فِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ فَلَمّا نَادَى
الصّرِيخُ " الْفَزَعَ الْفَزَعَ " كَانَ فَرَسٌ لِمُحَمّدِ بْنِ
مَسْلَمَةَ يُقَالُ لَهُ ذُو اللّمّةِ مَرْبُوطًا فِي الْحَائِطِ،
فَلَمّا سَمِعَ صَاهِلَةَ الْخَيْلِ صَهَلَ وَجَالَ فِي الْحَائِطِ فِي
شَطَنِهِ فَقَالَ لَهُ النّسَاءُ: هَلْ لَك يَا مُحْرِزُ فِي هَذَا
الْفَرَسِ فَإِنّهُ كَمَا تَرَى صَنِيعٌ 1 جَامّ تَرْكَبُهُ فَتَلْحَقُ
اللّوَاءَ ؟ وَهُوَ يَرَى رَايَةَ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ مُرّ بِهَا الْعُقَابَ يَحْمِلُهَا سَعْدٌ.
قَالُوا: فَخَرَجَ فَجَزِعَ وَقَطَعَ وَادِيَ قَنَاةَ فَسَبَقَ
الْمِقْدَادَ، فَيُدْرِكُ الْقَوْمَ بِهَيْقَا 2 فَاسْتَوْقَفَهُمْ
فَوَقَفُوا، فَطَاعَنَهُمْ سَاعَةً بِالرّمْحِ وَيَحْمِلُ عليه مسعدة
ـــــــ
1 الفرس الصنيع: هو الذي يخدمه أهله ويقومون عليه. [شرح أبي ذر، ص
329].
2 هكذا في النسخ؛ ولعله يريد هيفا، وهو موضع على ميل من بئر المطلب.
[وفاء الوفا، ج2، ص 387].
(2/542)
فَطَعَنَهُ
بِالرّمْحِ فَدَقّهُ فِي صُلْبِهِ وَتَنَاوَلَ رُمْحَ مُحْرِزٍ وَعَارَ
1 فَرَسُهُ حَتّى رَجَعَ إلَى آرِيّهِ فَلَمّا رَآهُ النّسَاءُ
وَأَهْلُ الدّارِ قَالُوا: قَدْ قُتِلَ. وَيُقَالُ كَانَ مُحْرِزٌ
عَلَى فَرَسٍ كَانَ لِعُكّاشَةَ بْنِ مِحْصَنٍ يُدْعَى الْجَنَاحَ
قَاتَلَ عَلَيْهِ. وَيُقَالُ الّذِي قَتَلَ مُحْرِزَ بْنَ نَضْلَةَ
أَوْثَارٌ وَأَقْبَلَ عَبّادُ بْنُ بِشْرٍ فَيُدْرِكُ أَوْثَارًا،
فَتَوَاقَفَا فَتَطَاعَنَا حَتّى انْكَسَرَتْ رِمَاحُهُمَا، ثُمّ
صَارَا إلَى السّيْفَيْنِ فَشَدّ عَلَيْهِ عَبّادُ بْنُ بِشْرٍ
فَعَانَقَهُ ثُمّ طَعَنَهُ بِخَنْجَرٍ مَعَهُ فَمَاتَ.
وَحَدّثَنِي عُمَرُ بْنُ أَبِي عَاتِكَةَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ عَنْ
عُرْوَةَ قَالَ كَانَ أَوْثَارٌ وَعَمْرُو بْنُ أَوْثَارٍ عَلَى فَرَسٍ
لَهُمَا يُقَالُ [لَهُ] الْفُرُطُ 2 رَدِيفَيْنِ عَلَيْهِ قَتَلَهُمَا
عُكّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ.
فَحَدّثَنِي زَكَرِيّا بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي
سُفْيَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أُمّ عَامِرِ بِنْتِ يَزِيدَ بْنِ
السّكَنِ قَالَتْ: كُنْت مِمّنْ حَضّ مُحْرِزًا عَلَى اللّحُوقِ
بِرَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَاَللّهِ إنّا
لَفِي أُطُمِنَا نَنْظُرُ إلَى رَهَجِ الْغُبَارِ إذْ أَقْبَلَ ذُو
اللّمّةِ فَرَسُ مُحَمّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ، حَتّى انْتَهَى إلَى
آرِيّهِ فَقُلْت: أُصِيبَ وَاَللّهِ فَحَمَلْنَا عَلَى الْفَرَسِ
رَجُلًا مِنْ الْحَيّ فَقُلْنَا: أَطْلِعْ لَنَا رَسُولَ اللّهِ هَلْ
أَصَابَهُ إلّا خَيْرٌ ثُمّ رَجَعَ إلَيْنَا سَرِيعًا. قَالَ: فَخَرَجَ
مُحْضِرًا 3 حَتّى لَحِقَ رَسُولَ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِهَيْقَا فِي النّاسِ ثُمّ رَجَعَ فَأَخْبَرَنَا
بِسَلَامَةِ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَحَمِدْنَا اللّهَ تَعَالَى عَلَى سَلَامَةِ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ قَالَ:
قَالَ مُحْرِزُ بن
ـــــــ
1 عار فرسه: أي أفلت وذهب على وجهه. [النهاية ، ج3، ص 143].
2 في ب: "القرط".
3 أحضر الفرس، وكذلك الرجل: إذا عدا. [لسان العرب، ج5، ص 277].
(2/543)
نَضْلَةَ:
قَبْلَ أَنْ يَلْتَقِيَ الْقَوْمَ بِيَوْمٍ رَأَيْت السّمَاءَ فُرّجَتْ
لِي، فَدَخَلْت السّمَاءَ الدّنْيَا حَتّى انْتَهَيْت إلَى السّابِعَةِ
وَانْتَهَيْت إلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، فَقِيلَ لِي: هَذَا
مَنْزِلُك. فَعَرَضْتهَا عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَكَانَ مِنْ أَعْبَرِ
النّاسِ فَقَالَ أَبْشِرْ بِالشّهَادَةِ فَقُتِلَ بَعْدَ ذَلِكَ
بِيَوْمٍ.
وَحَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ
أُمّهِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: إنّي لَأَغْسِلُ
رَأْسِي، قَدْ غَسَلْت أَحَدَ شِقّيْهِ إذْ سَمِعْت فَرَسِي جَرْوَةَ
تَصْهَلُ وَتَبْحَثُ بِحَافِرِهَا، فَقُلْت: هَذِهِ حَرْبٌ قَدْ
حَضَرَتْ فَقُمْت وَلَمْ أَغْسِلْ شِقّ رَأْسِي الْآخَرَ فَرَكِبْت
وَعَلَيّ بُرْدَةٌ لِي، فَإِذَا رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصِيحُ الْفَزَعَ الْفَزَعَ قَالَ: وَأُدْرِكُ
الْمِقْدَادَ بْنَ عَمْرٍو فَسَايَرْته سَاعَةً ثُمّ تَقَدّمَهُ
فَرَسِي وَكَانَتْ أَجْوَدَ مِنْ فَرَسِهِ وَقَدْ أَخْبَرَنِي
الْمِقْدَادُ - وَكَانَ سَبَقَنِي - بِقَتْلِ مَسْعَدَةَ مُحْرِزًا.
قَالَ أَبُو قَتَادَةَ لِلْمِقْدَادِ: يَا أَبَا مَعْبَدٍ أَنَا
أَمَوْتُ أَوْ أَقْتُلُ قَاتِلَ مُحْرِزٍ. فَضَرَبَ فَرَسَهُ
فَلَحِقَهُمْ أَبُو قَتَادَةَ، وَوَقَفَ لَهُ مَسْعَدَةُ وَحَمَلَ
عَلَيْهِ أَبُو قَتَادَةَ بِالْقَنَاةِ فَدَقّ صُلْبَهُ وَيَقُولُ
خُذْهَا وَأَنَا الْخَزْرَجِيّ وَوَقَعَ مَسْعَدَةُ مَيّتًا، وَنَزَلَ
أَبُو قَتَادَةَ فَسَجّاهُ بِبُرْدَتِهِ وَجَنّبَ فَرَسَهُ مَعَهُ
وَخَرَجَ يُحْضِرُ فِي أَثَرِ الْقَوْمِ حَتّى تَلَاحَقَ النّاسُ.
قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: فَلَمّا مَرّ النّاسُ وَنَظَرُوا إلَى بُرْدَةِ
أَبِي قَتَادَةَ عَرَفُوهَا فَقَالُوا: هَذَا أَبُو قَتَادَةَ قَتِيلٌ
وَاسْتَرْجَعَ أَحَدُهُمْ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا، وَلَكِنّهُ قَتِيلُ أَبِي قَتَادَةَ،
وَجَعَلَ عَلَيْهِ بُرْدَتَهُ لِتَعْرِفُوا أَنّهُ قَتِيلُهُ. فَخَلّوا
بَيْنَ أَبِي قَتَادَةَ وَبَيْنَ قَتِيلِهِ وَسَلَبِهِ وَفَرَسِهِ".
فَأَخَذَهُ كُلّهُ وَكَانَ سَعْدُ بْنُ زَيْدٍ قَدْ أَخَذَ سَلَبَهُ
فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا وَاَللّهِ
أَبُو قَتَادَةَ قتله ادفعه إليه".
(2/544)
فَحَدّثَنِي
عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ أَبِي قَتَادَةَ،
قَالَ لَمّا أَدْرَكَنِي النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَوْمَئِذٍ وَنَظَرَ إلَيّ قَالَ: "اللّهُمّ بَارِكْ لَهُ فِي شَعَرِهِ
وَبَشَرِهِ!". وَقَالَ: "أَفْلَحَ وَجْهُك". قُلْت: وَوَجْهُك يَا
رَسُولَ اللّهِ قَالَ: قَتَلْت مَسْعَدَةَ ؟ قُلْت: نَعَمْ. قَالَ:
"فَمَا هَذَا الّذِي بِوَجْهِك ؟". قُلْت: سَهْمٌ رُمِيت بِهِ يَا
رَسُولَ اللّهِ. قَالَ: "فَادْنُ مِنّي". فَدَنَوْت مِنْهُ فَبَصَقَ
عَلَيْهِ فَمَا ضَرَبَ 1 عَلَيْهِ قَطّ وَلَا قَاحَ. فَمَاتَ أَبُو
قَتَادَةَ وَهُوَ ابْنُ سَبْعِينَ سَنَةً وَكَأَنّهُ ابْنُ خَمْسَ
عَشْرَةَ سَنَةً. قَالَ وَأَعْطَانِي يَوْمَئِذٍ فَرَسَ مَسْعَدَةَ
وَسِلَاحَهُ وَقَالَ: "بَارَكَ اللّهُ لَك فِيهِ!".
حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ سُحَيْمٍ قَالَ:
قَالَ سَعْدُ بْنُ زَيْدٍ الْأَشْهَلِيّ: لَمّا كَانَ يَوْمُ السّرْحِ
أَتَانَا الصّرِيخُ فَأَنَا فِي بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، فَأَلْبَسُ
دِرْعِي وَأَخَذْت سِلَاحِي، وَأَسْتَوِي عَلَى فَرَسٍ لِي جَامّ
حِصَانٍ يُقَالُ لَهُ النّجْلُ 2 فَأَنْتَهِي إلَى رَسُولِ اللّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ الدّرْعُ وَالْمِغْفَرُ
لَا أَرَى إلّا عَيْنَيْهِ وَالْخَيْلُ تَعْدُو قِبَلَ قَنَاةَ،
فَالْتَفَتَ إلَيّ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَ: "يَا سَعْدُ امْضِ قَدْ اسْتَعْمَلْتُك عَلَى الْخَيْلِ حَتّى
أَلْحَقَك إنْ شَاءَ اللّهُ". فَقَرّبْت فَرَسِي سَاعَةً ثُمّ خَلّيْته
فَمَرّ يُحْضِرُ فَأَمُرّ بِفَرَسٍ حَسِيرٍ فَقُلْت: مَا هَذَا ؟
وَأَمُرّ بِمَسْعَدَةَ قَتِيلِ أَبِي قَتَادَةَ، وَأَمُرّ بِمُحْرِزٍ
قَتِيلًا فَسَاءَنِي، وَأَلْحَقُ الْمِقْدَادَ بْنَ عَمْرٍو، وَمُعَاذَ
بْنَ مَاعِصٍ فَأَحْضَرْنَا وَنَحْنُ نَنْظُرُ إلَى رَهَجِ الْقَوْمِ
وَأَبُو قَتَادَةَ فِي أَثَرِهِمْ وَأَنْظُرُ إلَى ابْنِ الْأَكْوَعِ
يَسْبِقُ الْخَيْلَ أَمَامَ الْقَوْمِ يَرْشُقُهُمْ بِالنّبْلِ
فَوَقَفُوا وَقْفَةً وَنَلْحَقُ بِهِمْ فَتَنَاوَشْنَا سَاعَةً
وَأَحْمِلُ عَلَى حُبَيْبِ بْنِ عُيَيْنَةَ
ـــــــ
1 ضرب الجرح: اشتد وجعه. [أساسب البلاغة، ص 557].
2 في ب: "النخل".
(2/545)
بِالسّيْفِ
فَأَقْطَعُ مَنْكِبَهُ الْأَيْسَرَ وَخَلّى الْعِنَانَ وَتَتَايَعَ 1
فَرَسُهُ فَيَقَعُ لِوَجْهِهِ وَاقْتَحَمَ عَلَيْهِ فَقَتَلَهُ
وَأَخَذْت فَرَسَهُ. وَكَانَ شِعَارُنَا: أَمِتْ أَمِتْ وَقَدْ
سَمِعْنَا فِي قَتْلِ حُبَيْبِ بْنِ عُيَيْنَةَ وَجْهًا آخَرَ.
فَحَدّثَنِي مُوسَى بْنُ مُحَمّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ
إنّ الْمُسْلِمِينَ لَمّا تَلَاحَقُوا هُمْ وَالْعَدُوّ وَقُتِلَ
مِنْهُمْ مُحْرِزُ بْنُ نَضْلَةَ وَخَرَجَ أَبُو قَتَادَةَ فِي
وَجْهِهِ فَقَتَلَ أَبُو قَتَادَةَ مَسْعَدَةَ وَقُتِلَ أَوْثَارٌ
وَعَمْرُو بْنُ أَوْثَارٍ قَتَلَهُمَا عُكّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ وَإِنّ
حُبَيْبَ بْنَ عُيَيْنَةَ كَانَ عَلَى فَرَسٍ لَهُ هُوَ وَفَرَقَةُ
بْنُ مَالِكِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ، قَتَلَهُمْ الْمِقْدَادُ
بْنُ عَمْرٍو. قَالُوا: وَتَلَاحَقَ النّاسُ بِذِي قَرَدٍ ، وَصَلّى
رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْخَوْفِ.
فَحَدّثَنِي سُفْيَانُ بْنُ سَعِيدٍ وَابْنُ أَبِي سَبْرَةَ عَنْ أَبِي
بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي جَهْمٍ عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ
بْنِ عُتْبَةَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ: قَامَ
رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْقِبْلَةِ
وَصَفّ طَائِفَةً خَلْفَهُ وَطَائِفَةً مُوَاجِهَةً الْعَدُوّ فَصَلّى
بِالطّائِفَةِ الّتِي خَلْفَهُ رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ ثُمّ
انْصَرَفُوا فَقَامُوا مَقَامَ أَصْحَابِهِمْ وَأَقْبَلَ الْآخَرُونَ
فَصَلّى بِهِمْ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ فَكَانَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَتَانِ وَلِكُلّ رَجُلٍ مِنْ الطّائِفَتَيْنِ
رَكْعَةٌ.
حَدّثَنِي مَالِكُ بْنُ أَبِي الرّجَالِ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي
بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ مَعْمَرٍ قَالَ: أَقَامَ
رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذِي قَرَدٍ
يَوْمًا وَلَيْلَةً يَتَحَسّبُ 2 الْخَبَرَ، وَقَسَمَ فِي كُلّ مِائَةٍ
مِنْ أَصْحَابِهِ جَزُورًا يَنْحَرُونَهَا، وَكَانُوا خَمْسَمِائَةٍ
وَيُقَالُ كَانُوا سَبْعَمِائَةٍ. قَالُوا: وَاسْتَخْلَفَ رَسُولُ
اللّهِ صلّى
ـــــــ
1 في الأص: "نتابع"؛ وما أثبتناه من ب. والتتايع: التسارع. [الفائق، ص
74].
2 التحسب: الاستخبار. [القاموس المحيط، ج1، ص 55].
(2/546)
الله عليه وسلم
عَلَى الْمَدِينَةِ ابْنَ أُمّ مَكْتُومٍ. وَأَقَامَ سَعْدُ بْنُ
عُبَادَةَ فِي ثَلَاثِمِائَةٍ مِنْ قَوْمِهِ يَحْرُسُونَ الْمَدِينَةَ
خَمْسَ لَيَالٍ حَتّى رَجَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَبَعَثَ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِأَحْمَالِ تَمْرٍ وَبِعَشَرَةِ جَزَائِرَ بِذِي قَرَدٍ . وَكَانَ فِي
النّاسِ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ عَلَى فَرَسٍ لَهُ يُقَالُ لَهُ الْوَرْدُ
وَكَانَ هُوَ الّذِي قَرّبَ الْجُزُرَ 1 وَالتّمْرَ إلَى النّبِيّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا قَيْسُ، بَعَثَك أَبُوك فَارِسًا،
وَقَوّى الْمُجَاهِدِينَ وَحَرَسَ الْمَدِينَةَ مِنْ الْعَدُوّ
اللّهُمّ ارْحَمْ سَعْدًا وَآلَ سَعْدٍ!". ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نِعْمَ الْمَرْءُ سَعْدُ بْنُ
عُبَادَةَ فَتَكَلّمَتْ الْخَزْرَجُ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللّهِ هُوَ
بَيْتُنَا 2 وَسَيّدُنَا وَابْنُ سَيّدِنَا كَانُوا يُطْعِمُونَ فِي
الْمَحْلِ وَيَحْمِلُونَ الْكَلّ 3 وَيَقْرُونَ الضّيْفَ وَيُعْطُونَ
فِي النّائِبَةِ وَيَحْمِلُونَ عَنْ الْعَشِيرَةِ". فَقَالَ النّبِيّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خِيَارُ النّاسِ فِي الْإِسْلَامِ
خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيّةِ إذَا فَقُهُوا فِي الدّينِ" وَلَمّا
انْتَهَى رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى
بِئْرِ هَمّ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ أَلَا تُسَمّي بِئْرَ هَمّ ؟
فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا وَلَكِنْ
يَشْتَرِيهَا بَعْضُكُمْ فَيَتَصَدّقُ بِهَا". فَاشْتَرَاهَا طَلْحَةُ
بْنُ عُبَيْدِ اللّهِ فَتَصَدّقَ بِهَا.
حَدّثَنِي مُوسَى بْنُ مُحَمّدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ أَمِيرُ
الْفُرْسَانِ الْمِقْدَادَ حَتّى لَحِقَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذِي قَرَدٍ .
حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ عَبِيدِ اللّهِ بْنِ رَافِعِ
بْنِ خَدِيجٍ، عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ رِفَاعَةَ عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ
أَبِي مَالِكٍ قَالَ: كَانَ سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ أَمِيرَ القوم،
ـــــــ
1 في ب: "الجزور".
2 في الأصل: "هو بيننا"؛ وما أثبتناه هو قراءة ب.
3 في الأصل: "ويحملون في الكل"؛ وما أثبتناه من نسخة ب. والكل: العيال.
[النهاية، ج4، ص 32].
(2/547)
وَقَالَ
لِحَسّانِ بْنِ ثَابِتٍ: أَرَأَيْت حَيْثُ جَعَلْت الْمِقْدَادَ رَأْسَ
السّرِيّةِ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنّ رَسُولَ اللّهِ اسْتَعْمَلَنِي
عَلَى السّرِيّةِ وَإِنّك لَتَعْلَمُ لَقَدْ نَادَى الصّرِيخُ
الْفَزَعَ فَكَانَ الْمِقْدَادُ أَوّلَ مَنْ طَلَعَ فَقَالَ رَسُولُ
اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "امْضِ حَتّى تَلْحَقَك
الْخُيُولُ". فَمَضَى أَوّلُ ثُمّ تَوَافَيْنَا بَعْدُ عِنْدَ النّبِيّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ مَضَى الْمِقْدَادُ
أَوّلَنَا، فَاسْتَعْمَلَنِي رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَلَى السّرِيّةِ. فَقَالَ حَسّانٌ: يَا ابْنَ عَمّ
وَاَللّهِ مَا أَرَدْت إلّا الْقَافِيَةَ حَيْثُ قُلْت: غَدَاةَ
فَوَارِسِ الْمِقْدَادِ... 1 فَحَلَفَ سَعْدُ بْنُ زَيْدٍ أَلّا
يُكَلّمَ حَسّانًا أَبَدًا. وَالثّبْتُ عِنْدَنَا أَنّ أَمِيرَهُمْ
سَعْدُ بن زيد الأشهلي.
قالوا: وَلَمّا بَلَغَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ أَقْبَلَتْ امْرَأَةُ أَبِي ذَرّ عَلَى نَاقَةِ
رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقَصْوَاءِ
وَكَانَتْ فِي السّرْحِ فَكَانَ فِيهَا جَمَلُ أَبِي جَهْلٍ فَكَانَ
مِمّا تَخَلّصَهُ الْمُسْلِمُونَ فَدَخَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَتْهُ مِنْ أَخْبَارِ
النّاسِ ثُمّ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللّهِ إنّي نَذَرْت إنْ نَجَانِي
اللّهُ عَلَيْهَا أَنْ أَنْحَرَهَا فَآكُلَ مِنْ كَبِدِهَا
وَسَنَامِهَا. فَتَبَسّمَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَقَالَ: "بِئْسَ مَا جَزَيْتهَا أَنْ حَمَلَك اللّهُ عَلَيْهَا
وَنَجّاك ثُمّ تَنْحَرِينَهَا إنّهُ لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللّهِ
وَلَا فِيمَا لَا تَمْلِكِينَ إنّمَا هِيَ نَاقَةٌ مِنْ إبِلِي
فَارْجِعِي إلَى أَهْلِك عَلَى بَرَكَةِ اللّهِ" .
حَدّثَنِي فَائِدٌ مَوْلَى عَبْدِ اللّهِ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ
عَلِيّ، عَنْ جَدّتِهِ سَلْمَى، قَالَتْ نَظَرْت إلَى لَقُوحٍ 2 عَلَى
بَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَالُ لَهَا
السّمْرَاءُ فَعَرَفْتهَا فَدَخَلْت عَلَى رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلت:
ـــــــ
1 انظر ديوان حسان، ص 60. وذكر ابن إسحاق أبيات حسان أيضاً. [السيرة
النبوية، ج3، ص 289].
2 ناقة لقوح: أي غزيرة اللبن. [النهاية، ج4، ص 63].
(2/548)
هَذِهِ
لِقْحَتُك السّمْرَاءُ عَلَى بَابِك. فَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَبْشِرًا، وَإِذَا رَأْسُهَا بِيَدِ
ابْنِ أَخِي عُيَيْنَةَ فَلَمّا نَظَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَفَهَا ثُمّ قَالَ أَيْمَ بِك ؟ فَقَالَ: يَا
رَسُولَ اللّهِ. أَهْدَيْت لَك هَذِهِ اللّقْحَةَ. فَتَبَسّمَ النّبِيّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَبَضَهَا مِنْهُ ثُمّ أَقَامَ
يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ ثُمّ أَمَرَ لَهُ بِثَلَاثِ أَوَاقٍ مِنْ
فِضّةٍ فَجَعَلَ يَتَسَخّطُ. قَالَ: فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللّهِ
أَتُثِيبُهُ عَلَى نَاقَةٍ مِنْ إبِلِك ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نَعَمْ وَهُوَ سَاخِطٌ عَلَيّ".
ثُمّ صَلّى رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظّهْرَ
ثُمّ صَعِدَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَحَمِدَ اللّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ
ثُمّ قَالَ: "إنّ الرّجُلَ لَيُهْدِي لِي النّاقَةَ مِنْ إبِلِي
أَعْرِفُهَا كَمَا أَعْرِفُ بَعْضَ أَهْلِي، ثُمّ أُثِيبُهُ عَلَيْهَا
فَيَظَلّ يَتَسَخّطُ عَلَيّ وَلَقَدْ هَمَمْت أَلّا أَقْبَلَ هَدِيّةً
[إلّا مِنْ قُرَشِيّ أَوْ أَنْصَارِيّ - وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ
يَقُولُ: أَوْ ثَقَفِيّ أَوْ دَوْسِيّ ] 1.
ـــــــ
1 زيادة من ب.
(2/549)
ذِكْرُ مَنْ
قُتِلَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَمِنْ الْمُشْرِكِينَ
مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدٌ مُحْرِزُ بْنُ نَضْلَةَ قَتَلَهُ
مَسْعَدَةُ. وَقُتِلَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ مَسْعَدَةُ بْنُ حَكَمَةَ
قَتَلَهُ أَبُو قَتَادَةَ ; وَأَوْثَارٌ وَابْنُهُ عَمْرُو بْنُ
أَوْثَارٍ قَتَلَهُمَا عُكّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ وَحُبَيْبُ بْنُ
عُيَيْنَةَ قَتَلَهُ الْمِقْدَادُ. وَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ...
(2/549)
|