المعجب في تلخيص أخبار المغرب
ص -72-
فصل في ملك بني عَبَّاد
بإشْبِيلِيَّة
وإذ ذكرنا أحوال ملوك الأندلس المتغلبين عليها بعد الفتنة على ما شرطنا
من الإجمال، فلنرجع إلى ذكر مملكة إشبيلية خصوصًا من جزيرة الأندلس،
وذكر من ملكها, فبذلك يتصل نسق الأخبار عما نريده، ويتطرق لنا القول
فيما نقصده؛ لأن ملك إشبيلية هو كان السبب في دخول يوسف بن تاشفين مع
المرابطين الأندلس، على ما سيذكر إن شاء الله تعالى، فنقول:
أما أحوال إشبيلية فإنها كانت في طاعة الفاطميين، أعني: علي بن حمود،
والقاسم بن حمود، ويحيى بن علي بن حمود، أيام كان الأمر دائرًا بينهم
على ما تقدم ذكره؛ فلما زحف يحيى بن علي بالبرابر إلى قرطبة، وهرب
القاسم بن حمود منها وقصد إشبيلية -وقد كان ابناه محمد والحسن مقيمين
بها-اجتمع أمر أهل إشبيلية واتفق رأيهم على إخراج محمد والحسن عنها قبل
وصول القاسم أبيهما؛ فأخرجوهما. وجاء القاسم فمنعوه دخول البلد أيضًا،
واتفقوا على تقديم رجل منهم يرجع إليه أمرهم وتجتمع به كلمتهم؛ فتوارد
اختيارهم بعد مَخْض الرأي وتنقيح التدبير، على القاضي أبي القاسم محمد
بن إسماعيل بن عباد اللخمي؛ لما كانوا يعلمونه من حصافة عقله، وسعة
صدره، وعلو همته، وحسن تدبيره؛ فعرضوا عليه ما رأوه من ذلك، فتهيب
الاستبداد، وخاف عاقبة الانفراد أولًا، وأبى ذلك إلا على أن يختاروا له
من أنفسهم رجالًا سماهم؛ لكي يكونوا له أعوانًا ووزراء وشركاء، ولا
يقطع أمرًا دونهم، ولا يحدث حدثًا إلا بمشورتهم -وهؤلاء المسمون هم:
الوزير أبو بكر محمد بن الحسن الزُّبَيْدي1، ومحمد بن يريم الألهاني،
وأبو الأصبغ عيسى بن حجاج الحضرمي، وأبو محمد عبد الله بن علي الهوزني،
في رجال آخرين ذهبت عني أسماؤهم إلا أني أعرف قبائلهم وبيوتهم- ففعلوا
ذلك وأجابوه إلى ما أراد. ولم يزل يدبر أمر إشبيلية, وهؤلاء المذكورون
وزراؤه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- هو أبو بكر، محمد بن الحسن بن عبيد الله بن مذحج الزبيدي الأندلسي
الإشبيلي: عالم باللغة والأدب، شاعر. توفي بإشبيلية سنة 379هـ/989م.
"الأعلام، الزركلي: 82/6".
ص -73-
وكان له من الولد إسماعيل، وهو الأكبر،
يُكنى أبا الوليد؛ وعباد, يكنى أبا عمرو؛ فأما إسماعيل فخرج إلى لقاء
البربر بعد أن حدث لأبيه أمل في التغلب على ما كان البربر يملكونه من
الحصون القريبة من إشبيلية، بعسكر من جند إشبيلية، فالتقى هو وصاحب
صنهاجة؛ فأسلمت إسماعيلَ عساكرُه، وكان أول قتيل، وقطع رأسه وسِير به
إلى مالقة، إلى إدريس بن علي الفاطمي، كما تقدم.
وبقي الأمر كذلك، والقاضي أبو القاسم يدبر الأمور أحسن تدبير، وكان
صالحًا مصلحًا، إلى أن مات في شهور سنة 439.
ولاية المعتضد بالله العبادي
ثم ولي ما كان يليه بعده من أمور إشبيلية وأعمالها، ابنه أبو عمرو عباد
بن محمد بن إسماعيل بن عباد، فجرى على سَنن أبيه في إيثار الإصلاح وحسن
التدبير وبسط العدل، مدة يسيرة. ثم بدا له أن يستبد بالأمور وحده؛ وكان
شهمًا صارمًا حديد القلب شجاع النفس بعيد الهمة ذا دهاء، وواتته مع هذا
المقادير؛ فلم يزل يعمل في قطع هؤلاء الوزراء واحدًا واحدًا، فمنهم من
قتله صبرًا، ومنهم من نفاه عن البلاد، ومنهم من أماته خمولًا وفقرًا،
إلى أن تم له ما أراده من الاستبداد بالأمر، وتلقب بـ المعتضد بالله.
وقيل: إنه ادعى أنه وقع إليه هشام المؤيد بالله، ابن الحكم المستنصر
بالله؛ وكان الذي حمله على تدبير هذه الحيلة ما رآه من اضطراب أهل
إشبيلية، وخاف قيام العامة عليه؛ لأنهم سمعوا بظهور من ظهر من أمراء
بني أمية بقرطبة، كالمستظهر، والمستكفي، والمعتد؛ فاستقبحوا بقاءهم
بغير خليفة. وبلغه أنهم يطلبون من أولاد بني أمية من يقيمونه؛ فادعى ما
ادعاه من ذلك، وذكر أن هشامًا عنده بقصره، وشهد له خواص من حشمه، وأنه
في صورة الحاجب له المنفذ لأموره؛ وأمر بالدعاء له على المنابر. فاستمر
ذلك من أمره سنين، إلى أن أظهر موته ونعاه إلى رعيته في سنة 455,
واستظهر بعهدٍ عَهِدَه له هشام المذكور فيما زعم، وأنه الأمير بعده على
جميع جزيرة الأندلس.
ولم يزل المعتضد هذا يدوخ1 الممالك وتدين له الملوك من جميع أقطار
الأندلس، وكان قد اتخذ خُشبًا في ساحة قصره جللها2 برءوس الملوك
والرؤساء
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- دوخ الممالك أو البلاد: سار فيها حتى عرفها, ولم تخفَ عليه طرقها
وأحوالها. ودوخ الرجل وأداخه: أذله وأخضعه.
2- جلل الشيء: غَطَّاه أو عَمَّهُ.
ص -74-
عوضًا عن الأشجار التي تكون في القصور؛
وكان يقول: في مثل هذا البستان فليتنزه.
وجملة أمر هذا الرجل أنه كان أوحد عصره شهامة وصرامة وشجاعة قلب وحدة
نفس؛ كانوا يشبهونه بأبي جعفر المنصور من ملوك بني العباس؛ كان قد
استوى في مخافته ومهابته القريب والبعيد، لا سيما منذ قتل ابنه وأكبر
ولده المرشح لولاية عهده صبرًا. وكان سبب ذلك أن ولده المذكور -وكان
اسمه إسماعيل- كان يبلغه عنه أخبار مضمونها استطالة حياته وتمني وفاته،
فيتغاضى المعتضد ويتغافل تغافل الوالد، إلى أن أدى ذلك التغافل إلى أن
سكر إسماعيل المذكور ليلة وتسور سور القصر الذي فيه أبوه، في عُبْدان
وأراذل معه، ورام الفتك بأبيه؛ فانتبه البوابون والحرس، فهرب أصحاب
إسماعيل، وأخذ بعضهم فأقر وأخبر بالكائنة على وجهها؛ وقيل: إن إسماعيل
لم يكن معهم وإنما بعثهم على ذلك، وجعل لمن قتل أباه المعتضد جُعْلًا
سَنِيًّا، فالله أعلم. فقبض المعتضد على ابنه إسماعيل هذا واستصفى
أمواله وضرب عنقه؛ فلم يبق أحد من خاصته إلا هابه من حينئذ.
وبلغني أنه قتل رجلًا أعمى بمكة كان يدعو عليه بها؛ كان هذا الرجل من
بادية إشبيلية؛ كان المعتضد قد وضع يده على بعض مال لهذا الرجل الأعمى،
وذهب باقي ماله حتى افتقر، ورحل إلى مكة، فلم يزل يدعو على المعتضد بها
إلى أن بلغه عنه ذلك، فاستدعى بعض من يريد الحج وناوله حُقًّا1 فيه
دنانير مطلية بالسم، وقال: لا تفتح هذا حتى تدفعه إلى فلان الأعمى
بمكة؛ وسلم عليه عنا! فاتفق أن سلم الرجل ومعه الحق، فحين وصل مكة لقي
الأعمى ودفع إليه الحق، وقال: هذا من عند المعتضد؛ فأنكر ذلك الأعمى،
وقال: كيف يظلمني بإشبيلية ويتصدق عليَّ بالحجاز؟ فلم يزل الرجل يخفضه
إلى أن سكن وأخذ الحق، فكان أول شيء فعله أن فتح الحق وعمد إلى دينار
من تلك الدنانير فوضعه في فمه، وجعل يقلب سائرها بيده، إلى أن تمكن منه
السم، فما جاء الليل حتى مات؛ فاعجب لرجل بقاصية المغرب يعتني بقتل رجل
بالحجاز!.
وقتل على هذه الصورة رجلًا من المؤذنين من أهل إشبيلية؛ فر منه إلى
طليطلة، فكان يدعو عليه بها في الأسحار، مقدرًا أنه قد أمن غائلته إذ
صار في مملكة غيره. فلم يزل يعمل فيه الحيلة إلى أن بعث من قتله فجاءه
برأسه.
وكان أكبر من يناويه2 من المتغلبين المجاورين له وأشدهم عليه: البربر
في صنهاجة، وبنو برزال الذين بقرمونة وأعمالها من نواحي إشبيلية؛ فلم
يزل يصرف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الحق: وعاء صغير ذو غطاء، يُتخذ من عاج, أو زجاج، أو من غيرهما.
2- يناويه: يناوئه: يعاديه, أو يفاخره ويباريه.
ص -75-
الحيلة تارة ويجهز الجيوش أخرى إلى أن
استنزلهم؛ ففرق كلمتهم وشتت منتظم أمرهم، ونفاهم عن جميع تلك البلاد
وصفت له أموره.
كان له عَيْنٌ1 بقرمونة يكتب له بأخبار البربر؛ بلغ من لطف حيلة
المعتضد, وقد أراد أن يكتب إلى ذلك الرجل الذي جعله عينًا له بقرمونة
كتابًا في بعض أمره، أن استدعى رجلًا من بادية إشبيلية شديد البله كثير
الغفلة، وقال له: اخلع ثيابك؛ وألبسه جبة جعل في جيبها كتابًا وخاط
عليه، وقال له: اخرج إلى قرمونة، فإذا وصلت بقربها فاجمع حُزمة حطب
وادخل بها البلد وقف حيث يقف أصحاب الحطب، ولا تبعها إلا لمن يشتريها
منك بخمسة دراهم؛ وكان قد قرر هذا كله مع صاحبه الذي بقرمونة؛ فخرج
البدوي كما أمره المعتضد، فلما قرب من قرمونة جمع حزمة من الحطب، ولم
يكن قبل هذا يعاني جمعه؛ فجمع حزمة صغيرة ودخل بها البلد، ووقف في موقف
الحطابين، فجعل الناس يمرون عليه ويسومون منه حزمته، فإذا قال: لا
أبيعها إلا بخمسة دراهم، ضحك من يسمع هذا القول منه ومر عنه؛ فلم يزل
كذلك إلى أن أجنه الليل والناس يسخرون منه، فبعضهم يقول: هذا آبِنُوس!
ويقول الآخر: لا بل هو عود هندي! وما أشبه هذا؛ حتى مر به صاحب
المعتضد، فقال له: بكم تبيع حزمتك هذه؟ فقال: بخمسة دراهم! فقال: قد
اشتريتها فاحملها إلى البيت؛ فقام يحملها والرجل بين يديه حتى بلغ
بيته، فوضع الحزمة ودفع إليه الخمسة الدراهم. فلما أخذها وهم بالانصراف
قال له: أين تريد في هذا الوقت وقد علمت خوف الطريق؟ فبت الليلة عندي،
فإذا أصبحت رجعت إلى منزلك؛ فأجابه؛ فأدخله إلى بيت وقدم له طعامًا،
وسأله كأنه لا يعرفه: من أين أنت؟ فقال: أنا من بادية إشبيلية؛ قال: يا
أخي، ما الذي جاء بك إلى هذا الموضع وقد علمت نكد البربر وشؤمهم وهوان
الدماء عليهم؟! فقال: حملتني على هذا الحاجة! ولم يظهر له أن المعتضد
أرسله؛ فلم يزل الرجل يحادثه إلى أن أخذه النوم، فلما رأى غلبة النوم
عليه قال له: تجرد من ثوبك هذا فهو أهنأ لنومك وأروح لجسمك! فتجرد
الرجل ونام، وأخذ صاحب المعتضد الجبة ففتق جيبها، واستخرج الكتاب فقرأه
وكتب جوابه، وجعله في جيب الجبة وخاط عليه كما كان؛ فلما أصبح الرجل
لبس جبته، ورجع إلى إشبيلية وقصد باب دار الإمارة واستأذن، فأُدخل على
المعتضد، فقال له: اخلع تلك الجبة؛ وكساه ثيابًا حسانًا فرح بها
البدوي، وخرج من عنده فرحًا يرى أنه قد خلع عليه؛ ولم يعلم فيم ذهب ولا
بم جاء! وأخذ المعتضد الكتاب من جيب الجبة فقرأه وتمم ما أراد من أمره.
وله في تدبير ملكه وإحكام أمره حيل وآراء عجيبة لم يسبق إلى أكثرها،
يطول تعدادها ويخرج عن حد التلخيص بسطها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- العين: الجاسوس.
ص -76-
ولما قتل ابنه إسماعيل -كما تقدم- وكان
لقبه المؤيد، عهد بعده إلى ابنه أبي القاسم محمد بن عباد بن محمد بن
إسماعيل بن عباد، ولقبه بـ المعتمد على الله؛ فحسنت سيرة أبي القاسم
هذا في حياة أبيه وبعد وفاته.
أولية المرابطين في
مَرَّاكُش
وفي إمارة المعتضد بالله هذا نزل لمتونة ومسوفة -قبيلتان عظيمتان من
البربر- رحبة مراكش؛ فتخيروها دار ملكهم لتوسطها البلاد. وكانت إذ
نزلوها غَيْضَة1 لا عمران بها، وإنما سميت بعبد أسود كان يستوطنها يخيف
الطريق, اسمه مراكش. فاستوطنها البربر كما ذكرنا، وقدموا عليهم رجلًا
منهم اسمه تاشُفين بن يوسف.
وكان المعتضد في كل وقت يستطلع أخبار العُدوة؛ هل نزل البربر رحبة
مراكش؟ وذلك لما كان يراه في ملحمة كانت عنده أن هؤلاء القوم خالعوه أو
خالعو ولده ومخرجوه من ملكه؛ فلما بلغه نزولهم جمع ولده وجعل ينظر
إليهم مصعدًا ومصوبًا ويقول: يا ليت شعري من تناله معرة2 هؤلاء القوم،
أنا أو أنتم؟ فقال له أبو القاسم من بينهم: جعلني الله فداك, وأنزل بي
كل مكروه يريد أن ينزله بك! فكانت دعوة وافقت المقدار3.
وكان نزول لمتونة ومسوفة قبيلتي المرابطين رحبة مراكش، في صدر سنة 463،
وانفصالهم عنها جملة واحدة في وسط سنة 540؛ فكانت مدة إقامتهم في الملك
منذ نزلوا رحبة مراكش إلى أن انفصلوا عنها وأخرجهم عنها المصامدة،
نحوًا من ست وسبعين سنة.
ثم توفي المعتضد بالله في شهر رجب من سنة 464، واختُلف في سبب وفاته،
فقيل: إن ملك الروم سمه في ثياب أرسل بها إليه, وقيل: إنه مات حتف
أنفه, فالله أعلم.
ولاية أبي القاسم بن عباد
المعتمد على الله
ثم قام بالأمر من بعده, ابنه أبو القاسم محمد بن عباد بن محمد بن
إسماعيل بن عباد؛ وزاد إلى المعتمد على الله: الظافر بحول الله. وكان
المعتمد هذا يشبه بهارون الواثق بالله4 من ملوك بني العباس، ذكاء نفس
وغزارة أدب. وكان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-الغيضة: الأجمة، أو الموضع يكثر فيه الشجر ويلتفُّ.
2- المعرة: الأذى والمساءة والمكروه.
3- المقدار: القَدَر.
4- هو أبو جعفر، هارون بن محمد بن هارون الرشيد، الملقب بالواثق: من
خلفاء الدولة=
ص -77-
شعره كأنه الحُلل المنشرة. واجتمع له من
الشعراء وأهل الأدب ما لم يجتمع لملك قبله من ملوك الأندلس. وكان
مقتصرًا من العلوم على علم الأدب وما يتعلق به وينضم إليه. وكان فيه مع
هذا من الفضائل الذاتية ما لا يحصى، كالشجاعة والسخاء والحياء
والنزاهة، إلى ما يناسب هذه الأخلاق الشريفة. وفي الجملة فلا أعلم خصلة
تحمد في رجل إلا وقد وهبه الله منها أوفر قسم، وضرب له فيها بأوفى سهم.
وإذا عُدَّت حسنات الأندلس من لدن فتحها إلى هذا الوقت؛ فالمعتمد هذا
أحدها، بل أكبرها.
ولي أمر إشبيلية بعد أبيه، وله سبع وثلاثون سنة. واتفقت له المحنة
الكبرى بخلعه وإخراجه عن ملكه في شهر رجب الكائن في سنة 484؛ فكانت مدة
ولايته إلى أن خُلع وأُسر عشرين سنة؛ كانت له في أضعافها مآثر أعيا على
غيره جمعها في مائة سنة أو أكثر منها. وكانت له -رحمه الله- همة في
تخليد الثناء وإبقاء الحمد.
عبد الجليل بن وَهْبُون
الشاعر*
كان من جملة شعرائه رجل من أهل مدينة مُرْسِية اسمه عبد الجليل بن
وهبون، كان حسن الشعر, لطيف المأخذ, حسن التوصل إلى دقيق المعاني؛ أنشد
يومًا بين يدي المعتمد -رحمه الله- بعضُ الحاضرين بيتين لعبد الجليل بن
وهبون هذا, قالهما قديمًا قبل وصوله إلى المعتمد، وهما: من البسيط
قل الوفاء, فما تلقاه في أحدٍ
ولا يمر لمخلوقٍ على بالِ
وصار عندهم عنقاء مُغْرِبةً
أو مثل ما حدثوا عن ألف مثقالِ!1
فأُعجب المعتمد بهما وقال: لمن هذان البيتان؟ فقالوا: هما
لعبد الجليل بن وهبون أحد خدم مولانا! فقال المعتمد عند ذلك: هذا والله
اللؤم البحْت؛ رجل من خدامنا والمنقطعين إلينا يقول: أو مثل ما حدثوا
عن ألف مثقال! وهل يتحدث أحد عنا بأسوأ من هذه الأحدوثة؟ وأمر له بألف
مثقال. فلما دخل عليه يتشكر له قال له: يا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= العباسية. ولد ببغداد، وولي الخلافة بعد وفاة أبيه المعتصم بالله سنة
227 هـ، وتوفي سنة 232هـ/ 847م. "تاريخ بغداد، الخطيب البغدادي:
15/14".
* ترجمته في: بغية الملتمس: 387؛ تاريخ الأدب العربي "فروخ": 4/ 665.
1- العنقاء المغربة: كلمة لا أصل لها، يقال: إنها طائر عظيم لا تُرى
إلا في الدهور، ثم كثر ذلك حتى سموا الداهية عنقاء مغربة، قال الشاعر:
ولولا سليمان الخليفة حلَّقتْ
به من يد الحجاج عنقاء مُغْرِبِ
وزعم بعضهم أن العنقاء طائر يظهر عند مغرب الشمس، وقال آخرون: العنقاء
المغرب: طائر لم يره أحد. "لسان العرب، ابن منظور: 3136/4 -مادة عنق".
ص -78-
أبا محمد، هل عاد الخبر عِيانًا؟ قال: إي
والله يا مولاي؛ ودعا له بطول البقاء؛ فلما هم بالانصراف قال له: يا
عبد الجليل، الآن حدِّث بها لا عنها، يعني: ألف مثقال.
وله -رحمه الله1- شعر كثير بَرَّز في أكثره وأجاد ما أراد، وسيمر منه
في أضعاف أخباره ما يشهد له بالتبريز، عند ذوي التمييز؛ فمما اختاره من
شعره قوله: من الكامل
عَلِّل فؤادك قد أَبَلَّ عليلُ
واغنم حياتك فالبقاء قليلُ2
لو أن عمرك ألف عام كامل
ما كان حقًّا أن يقال طويلُ
أكذا يقود بك الأسى نحو الردى
والعود عود والشَّمول شَمولُ3
لا يستبيكَ الهم نفسك عَنْوَةً
والكأس سيف في يديك صقيلُ4
بالعقل تزدحم الهموم على الحشا
فالعقل عندي أن تزول عقولُ!
ومن شعره السيار، لا بل الطيار، قوله في مملوك له صغير كان
يتصرف بين يديه، أهداه له صاحب طليطلة؛ اسم المملوك سيف: من البسيط
سموه سيفًا وفي عينيه سيفانِ
هذا لقتلي مسلولٌ وَهَذانِ5
أما كفت قَتلة بالسيف واحدة
حتى أتيح من الأجفان ثنتانِ
أسرته وثناني غُنْجُ مُقْلَته
أسيره، فكلانا آسر عانِي6
يا سيف, أمسك بمعروف أسير هوًى
لا يبتغي منك تسريحًا بإحسانِ!7
ومن شعره الرشيق المليح, الخفيف الروح، الذي حكى الماء سلاسة
والصخر ملاسة، قوله في هذا المملوك وقد عذّر: من مخلع البسيط
تم له الحسن بالعِذَارِ
واقترن الليل بالنهارِ8
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- يعني: المعتمد بن عباد.
2- علل فلانًا بطعام أو غيره: شغله به ولهاه، وعلل المريض: عالجه من
علته. أبل العليل: برئ. غنِم الشيء غنْمًا: فاز به.
3- الأسى: الحزن. الردى: الهلاك، الموت. الشمول: من أسماء الخمر.
4- استباه: أسره، أو استماله وجذبه. عنوة: أي: قسرًا وقهرًا وغلبة.
الصقيل: المجلوّ.
5- سيف مسلول: مشهر، مخرج من غمده.
6- العاني: الأسير، أو الذليل.
7- سرَّح فلانًا: أطلقه، أو أرسله، أو أخلاه من عمله، وسرح المرأة:
طلقها.
8- العذار: جانب اللحية.
ص -79-
أخضر في أبيض تبدى
ذلك آسي وذا بَهَارِي1
فقد حوى مجلسي تمامًا
إن كان من رِيقِه
عُقَارِي2
وبينا هو يومًا في قبة له يكتب شيئًا، أو يطالع، وعنده بعض
كرائمه، فدخلت عليه الشمس من بعض الكُوَى الكائنة فيها، فقامت دونه
تستره من الشمس، فقال -رحمه الله- بديهًا: من البسيط
قامت لتحجبَ ضوء الشمس قامتها
عن ناظري، حُجبَتْ عن ناظر الغيرِ3
علمًا لعمرك منها أنها قمرٌئ
هل تكسفُ الشمسَ إلا صورة القمر!
وبينا جارية من كرائمه قائمة على رأسه تسقيه والكأس في يدها،
إذ لمع البرق فارتاعت؛ فقال -رحمه الله- بديهًا: من السريع
رِيعَتْ منَ البرقِ وفي كفها
برْق من القهوة لمَّاع4
عجبتُ منها وهي شمس الضحى
كيف من الأنوار ترتاع!
وله مع هذا مقاطع حسان كان يرتجلها في مجالس
أنسه، ولاستدعاء خاصة جلسائه، منعني من استيفائها قلة ما على خاطري
منها.
وسيمر من شعره الذي قاله في أيام محنته ما يفجر الصُّمَّ، ويزعزع
الشُّمَّ5. وكان لا يستوزر وزيرًا إلا أن يكون أديبًا شاعرًا حسن
الأدوات، فاجتمع له من الوزراء الشعراء ما لم يجتمع لأحد قبله.
أبو الوليد بن زَيْدُون*
فمن جملة وزرائه الوزير الأجلّ ذو الرياستين، أبو الوليد أحمد بن
عبد الله بن أحمد بن زيدون، ذو الأدب البارع، والشعر الرائع، أحد شعراء
الأندلس المجيدين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الآس: شجر دائم الخضرة، أبيض الزهر، ذو رائحة طيبة. البهار: زهر طيب
الرائحة، ينبت في الربيع، ويقال له: العرار.
2- العقار: الخمر.
3- الغير: غير الدهر: أحداثه, وأحواله المتغيرة.
4- ريعت: فزعت. القهوة: من أسماء الخمر.
5- الصم: الصخور، والشم: الجبال.
* ترجمته في: بغية الملتمس: 186؛ وفيات الأعيان: 139/1؛ البداية
والنهاية: 111/12؛ شذرات الذهب: 312/3؛ كشف الظنون : 278، 841؛ إيضاح
المكنون: 485/1؛ معجم المؤلفين: 284/1؛ الأعلام: 158/1؛ تاريخ الأدب
العربي "فروخ": 588/4؛ جذوة المقتبس: 121؛ المطرب من أشعار أهل المغرب:
164.
ص -80-
وفحولها المبرزين. كان إذا نسب أنساك
كُثيِّرًا1، وإذا مدح أزرى بزُهير2، واذا فخر أناف3 على امرئ القيس4؛
فمن جملة مقاطعه التي تشهد له بجودة الطبع وإتقان الصنعة قوله: من
البسيط
بيني وبينك ما لو شئتَ لم يضع
سر إذا ذاعت الأسرار لم يَذِعِ
يا بائعًا حظه مني ولو بُذِلتْ
ليَ الحياة بحظي منه لم أبعِ
يكفيك أنك إن حمَّلت قلبي ما
لا تستطيع قلوب الناس, يستطعِ
تِهْ أَحتملْ، واستطلْ أَصبرْ، وعِزَّ أهنْ
وولِّ أُقبلْ، وقلْ أَسمعْ، ومرْ أُطعْ!
وهو القائل -رحمه الله- يخاطب بني جهور، وكان قد وزر لهم قبل
وزارته للمعتمد؛ لأن أصله من مدينة قرطبة، فنالته منهم محنة، فخرج عن
قرطبة إلى إشبيلية وافدًا على المعتمد، فعلت رتبته عنده؛ فكان يبلغه عن
بني جهور ما يسوءه في نفسه وقرابته بقرطبة، فقال يخاطبهم: من الطويل
بني جهور أحرقتمو بجفائكم
فؤادي، فما بال المدائح تعبقُ
تعدونني كالعنبر الورد، إنما
تفوح لكم أنفاسُه حين يُحرقُ
ومن نسيبه الذي يختلط بالروح رقة, ويمتزج بأجزاء الهواء
لطافة، قصيدته التي قالها يتشوق ابنة المهدي: ولادة5، وهي بقرطبة وهو
بإشبيلية: من البسيط
أضحى التنائي بديلًا من تدانينا
وناب عن طِيب لقيانا تجافينَا6
بِنْتُم وبِنَّا, فما ابتلت جوانحنا
شوقًا إليكم, ولا جفت مآقينِا7
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- هو كثير بن عبد الرحمن، المعروف بكثير عزة: شاعر حجازي غزل، عاش في
العصر الأموي، وكانت وفاته سنة 105هـ/723م. "الأغاني، أبو الفرج
الأصفهاني: 2/9-38".
2- هو زهير بن أبي سلمى بن رياح المزني: شاعر جاهلي مُقدَّم مجيد، عُرف
بحكمته ورويته ونفاذ بصيرته. توفي نحو 13 ق. هـ/نحو 609م. " الشعر
والشعراء، ابن قتيبة: 76/1". وأزرى بالشيء: تهاون به وقصر.
3- أناف عليه: أشرف.
4- هو امرؤ القيس بن حجر الكندي: أمير الشعراء في الجاهلية. توفي نحو
80 ق. هـ/نحو 545م. "الأغاني، أبو الفرج الأصفهاني: 76/9".
5- كذا وردت، والصواب: ولادة بنت المستكفي بالله، وهي شاعرة، أديبة،
كانت تخالط الشعراء، وتساجل الأدباء. توفيت سنة 484هـ/ 1092م. "بغية
الملتمس، الضبي: 547"
6- التنائي: التباعد. التداني: التقارب. التجافي: التباعد.
7- بان بَيْنًا: ابتعد. المآفي: العيون، أو أطرافها.
ص -81-
نكاد حين تناجيكم ضمائرنا
يقضي علينا الأسى لولا
تأسينَا1
حالت لفقدكم أيامنا فغدت
سُودًا وكانت بكم بيضًا ليالينَا2
إذ جانب العيش طَلْقٌ من تألفنا
ومورد اللهو صافٍ من تصافينَا3
وإذ هصرنا غصون الأنس دانيةً
قطوفها فجنينا منه ما شينَا4
ليُسقَ عهدُكم عهدُ السرور فما
كنتم لأرواحنا إلا رياحينَا5
مَنْ مُبلِغ ملبسينا بانتزاحهمُ
حزنًا مع الدهر لا يبلى ويُبلينَا6
أن الزمان الذي ما زال يضحكنا
أُنْسًا بقربهم قد عاد يُبكينَا!
غِيظ العِدَا من تساقينا الهوى فدعوْا
بأن نَغَصَّ فقال الدهر: آمينَا7
فانحل ما كان معقودًا بأنفسنا
وانبت ما كان موصولًا بأيدينَا8
وقد نكون وما يُخشى تفرقُنا
فاليوم نحن وما يُرجى تلاقينَا
ما حقنا أن تُقروا عين ذي حسد
بنا، ولا أن تسروا كاشحًا فينَا9
يا ليت شعري ولم نعتب أعاديَكمْ
هل نال حظًّا من العُتْبى أعادينَا10
لم نعتقد بعدكم إلا الوفاءَ لكم
رأيًا, ولم نتقلد غيره دينَا11
كنا نرى اليأس تُسْلينا عوارضُه
وقد يئسنا, فما لليأس يغرينا!12
يا ساريَ البرق غادِ القصر فاسق به
من كان صِرْف الهوى والود يسقينَا13
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- ناجاه مناجاة ونِجاء: سارَّه. الأسى: الحزن. التأسي: التجلد
والتصبر.
2- حالت: تغيرت.
3- الطلق "من الوجوه": الضاحك المستبشر، ومن الأيام والليالي: المشرق
الخالي من الحر والبرد والريح والمطر وكل أذًى. تألفنا: اجتماعنا
وتوافقنا. صافى فلانًا: صدقه المحبة والمودة, وتصافيا: تخالصا في الود.
4- هصر الغصن: جذبه وأماله، أو عطفه وكسره من غير فصل. ما شينا: ما
شئنا.
5- الرياحين: جمع الريحان: نبات طيب الرائحة.
6- انتزح فلان: ابتعد.
7- غص بالماء ونحوه غصًّا وغَصَصًا: وقف في حلقه فلم يكد يسيغه.
8- انبت: انقطع.
9- قرت العين: هدأت وسكنت، كناية عن الرضا والسرور. الكاشح: العدو
المبغض.
10- أعتب فلانًا: أرضاه بعد العتاب. وعتب عليه: لامه. العتبى: الرضا.
11- تقلد الأمر: احتمله.
12- تسلينا: تنسينا.
13- الساري: السائر ليلًا. غاد القصر: باكره. الصرف: المحض، الخالص.
ص -82-
واسأل هنالك هل عيني تُذكِّرني
إلفًا تذكُّره أمسى يُعنِّينَا1
ويا نسيمَ الصَّبَا بلغ تحيتنا
من لو على البعد حيًّا كان يُحْيينَا
من لا يرى الدهر يَقضينا مُساعَفَةً
فيه, وإن لم يكن عنا يُقاضينَا2
وبيت ملك كأن الله أنشأه
مسكًا, وقد أنشأ الله الوَرَى طينَا3
أو صاغه وَرِقًا محضًا وتَوَّجه
من ناصع التِّبْرِ إبداعًا وتحسينَا4
إذا تأوَّد آدَته رفاهيةٌ
تُدمي العقول وأدمته البُرَى لِينَا5
كأنما نبتت في صحن وَجْنَته
زُهْرُ الكواكب تعويذًا وتزيينَا
ما ضر أن لم نكن أكفاءَهُ شرفًا
وفي المودة كافٍ من تكافينَا6
ولا تحسَبوا نأيكم عنا يغيرنا
إذ طال ما غيَّر النأْيُ المحبينَا7
والله ما طلبت أهواؤُنا بدلًا
منكم ولا أنصرفت عنكم أمانينَا
ولا استفدنا خليلًا عنك يَشغَلنا
ولا اتخذنا بديلًا منك يُسلينَا
يا روضةً طال ما أجنت لواحظنا
وردًا جناه الصِّبا غضًّا ونَسْرينَا8
ويا حياةً تملَّأْنا بزهرتها
مُنًى ضُروبًا ولذَّاتٍ أفانينَا9
ويا نعيمًا حضرنا من غضارته
في وَشْيِ نُعمى سحبنا ذيلها حينَا10
لسنا نسميكِ إجلالًا وتَكْرمةً
فقدرك المعتلي عن ذاك يُغنينَا
إذِ انفردتِ فما شُوركتِ في صفة
فحسْبُكِ الوصف إيضاحًا وتبيينًا
يا جنةَ الخلدِ أُبدلنا بسَلْسلها
والكوثرِ العذبِ زُقُّومًا وغِسْلِينَا11
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- يعنينا: يتعبنا.
2- المساعفة: يقال: ساعف فلانًا وأسعفه: واتاه وقرُب منه في مصافاة
ومعاونة.
3- الورى: الخلق.
4- صاغ المعدن: سبكه، أو صنعه على مثال مستقيم. الورق: الفضة. التبر:
الذهب.
5- تأود: تعوج وتثنى. آدته: قوته وآزرته. البرى: جمع البُرَة: الخلخال.
6- الأكفاء: جمع الكفء: المماثل.
7- النأي: البُعْدُ.
8- اللواحظ: العيون. الغض: الطري النضر.
9- تملأ من الشيء: شبع، ومنه: ملأت منه عيني: أعجبني منظره، فأدمتُ
النظر إليه.
10- الغضارة: السعة والنعمة.
11- السلسل: الماء العذب الصافي، السهل المرور في الحلق. الزقوم: شجرة
مرة كريهة الرائحة،=
ص -83-
كأننا لم نبِتْ والوصل ثالثنا
والسعد قد غض من أجفان
واشينَا1
سِرَّانِ في خاطر الظلماء يكتمنا
حتى يكاد لسان الصبح يُفشينَا2
لا غَرْوَ في أن ذكرنا الحزن حين نهت
عنه النُّهَى، وتركنا الصبر ناسينَا3
أنَّا قرأنا الأسى يوم النوى سُورًا
مكتوبة وأخذنا الصبر تلقينَا4
إن كان قد عز في الدنيا اللقاءُ ففي
مواقف الحشر نلقاكم، ويكفينَا5
أما هواك فلم نعدل بمَنْهله
شَرْبًا وإن كان يروينا فيُظمينَا6
لم يخفَ أُفْقُ جمال أنت كوكبُهُ
سالين عنه، ولم نهجره قالينَا7
ولا اختيارًا تجنَّبناك عن كَثَبٍ
لكن عدتنا على كره عوادينَا8
نأسى عليك إذا حثت مُشَعْشَعة
فيها الشَّمول وغنانا مغنينَا9
لا أكؤس الراح تبدي من شمائلنا
سيما ارتياحٍ ولا الأوتار تلهينَا10
دومي على العهد -ما دمنا- محافظةً
فالحر من دان إنصافًا كما دينَا11
فما ابتغينا خليلًا منك يحبسنا
ولا استفدنا حبيبًا عنك يغنينَا12
ولو صبا نحونا من عُلْوِ مطلعه
بدر الدُّجَى لم يكن حاشاك يصبينَا13
أولي وفاءً وإن لم تبذلي صلة
فالذكر يقنعنا والطيف يكفينَا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= ثمرها طعام أهل النار. قال تعالى:
{إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ، طَعَامُ الْأَثِيمِ}
[الدخان: 43].
الغسلين: ما يسيل من جلود أهل النار كالقيح وغيره. قال تعالى:
{وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ}
[الحاقة: 36].
1- غض البصر: كفه وخفضه. الواشي: الذي ينقل أخبار المحبين، ويسعى إلى
إفساد علاقاتهم.
2- أفشى الخبر أو السر: نشره وأذاعه.
3- النهى: العقل.
4- الأسى: الحزن. النوى: البعد. تلقينا: يقال: لقنه الكلام: ألقاه إليه
ليعيده.
5- عز الشيء: قل فلا يكاد يوجد، وعز عليه الأمر: اشتد. الحشر: أي: يوم
القيامة.
6- المنهل: المورِد، المشرَب.
7- القالي: المبغض.
8- عدا عليه عدوًا وعدوانًا: ظلمه وتجاوز الحد. العوادي: جمع العادية,
مؤنث العادي: العدو. وعوادي الدهر: نوائبه.
9- مشعشعة: أي: خمر مشعشعة: ممزوجة بالماء. الشمول: من أسماء الخمر.
10- الشمائل: الطباع. السيما: العلامة. قال تعالى:
{سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ} [الفتح:29].
11- دان فلان: اعتقد أو أطاع وخضع، أو جازى، أو أحسن.
12- الخليل: الصاحب, أو الرفيق، أو الحبيب.
13- صبا: مال، أو حن وتشوق.
ص -84-
وفي الجواب قناع لو شفعت به
بيض الأيادي التي ما
زلت تُولينَا1
عليكِ مني سلام الله ما بقيتْ
صَبابة منك تخفيها فتخفينَا2
أوردتها على الاختيار لا على النسق، ولعل في كثير مما تركت
منها أحسن مما أوردت، وإنما منعني من استيفائها الوفاء بشرط التلخيص.
ومن شعره -رحمه الله-، مما قاله في مدة صباه: من البسيط
أخذت ثلث الهوى غصبًا ولي ثلث
وللمحبين فيما بينهم ثلثُ
تالله لو حلف العشاق أنهمو
موتى من الوجد يوم البَيْنِ ما حنَثُوا3
قوم إذا هجروا من بعد ما وصلوا
ماتوا، فإن عاد من يهوَوْنه بُعِثُوا
ترى المحبين صرعى في عِرَاصهم
كفتية الكهف ما يدرون ما لبثُوا4
ومما قال -رحمه الله- يتشوق ابنة المهدي المذكورة5 ومعاهده
بقرطبة، وضمنها بيت أبي الطيب6 في أول قصيدته الكافورية7: من البسيط
بِمَ التعلل لا أهل ولا وطن
ولا نديم ولا كأس ولا سكنُ؟!8
قصيدة أولها: من البسيط
هل تذكرون غريبًا عاده شجن
من ذكركم وجفا أجفانه الوَسَنُ9
يخفي لَوَاعِجَه والشوق يفضحه
فقد تساوى لديه السر والعلنُ10
يا ويلتاه! أيبقى في جوانحه
فؤاده وهو بالأطلال مرتهنُ11
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- أولى فلانًا معروفًا: صنعه إليه.
2- الصبابة: رقة الشوق وحرارته.
3- البين: البعد والفراق. حنث في يمينه حنثًا: لم يبر فيها وأثم.
4- صرعى: جمع صريع: المطروح أرضًا. العراص: جمع العرصة: ساحة الدار.
5- هي ابنة المستكفي كما أوضحنا سابقًا.
6- هو أبو الطيب المتنبي، أحمد بن الحسين الجعفي الكندي، الشاعر
العباسي المشهور، المتوفى سنة 354هـ/ 965م.
7- الكافورية: أي: التي قالها في كافور الإخشيدي سلطان مصر في زمانه.
والقصيدة في ديوانه: 281/2.
8- النديم: الصاحب على الشراب.
9- الشجن: الحزن. الوسن: النعاس.
10- اللواعج: جمع اللاعج: الهوى المحرق.
11- الجوانح: الضلوع، الواحدة: جانحة. الأطلال: ما بقي شاخصًا من
الديار، الواحد: طلل.
ص -85-
وأرق العين والظلماء عاكفة
وَرْقاء قد شفها، أو شفني، حزنُ1
فبتُّ أشكو وتشكو فوق أَيْكَتها
وبات يهفو ارتياحًا بيننا الغُصُنُ2
يا هل أجالس أقوامًا أحبهم
كنا وكانوا على عهد فقد ضَغِنُوا3
أو تحفظون عهودًا لا أضيعها
إن الكرام بحفظ العهد تُمتحنُ
ومنها:
إن كان عادكم عيد فرُبَّ فتًى
بالشوق قد عاد من ذكراكم حَزَنُ4
وأفردته الليالى من أَحِبَّته
فبات ينشدها مما جنى الزمنُ:
بم التعلل لا أهل ولا وطن
ولا نديم ولا كأس ولا سكن؟!
أبو بكر بن عَمَّار*
ومنهم الوزير أبو بكر محمد بن عمار5، ذو النفس العصامية، والآداب
الأهتمية؛ كان أحد الشعراء المجيدين على طريقة أبي القاسم محمد بن هانئ
الأندلسي6، وربما كان أحلى منزعًا منه في كثير من شعره. ولشعره ديوان
يدور بين أيدي أهل الأندلس، ولم أُلْفِ أحدًا ممن أدركتْه سِنِّى من
أهل الآداب الذين أخذت عنهم إلا رأيته مقدمًا له مؤثرًا لشعره، وربما
تغالى بعضهم فشبهه بأبي الطيب، وهيهات!.
فمن قصائده المشهورة التي أجاد فيها ما أراد: قصيدته التي كتب بها من
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- أرق العين: منعها. عاكفة: مقيمة، ملازمة. ورقاء: حمامة. شفه الحزن:
أنحله وأهزله.
2- الأيكة: الشجر الكثيف الملتف. هفا الغصن: تحرك واضطرب.
3- ضغن عليه: حقد وأبغضه بغضًا شديدًا.
4- عاد الشيء فلانًا: أصابه مرة بعد أخرى، وعاد الشيء: أتاه مرة بعد
أخرى. وعاد إليه وله وعليه: رجع, وارتد.
* ترجمته في: شذرات الذهب 356/3؛ المطرب من أشعار المغرب: 169؛ وفيات
الأعيان: 425/4؛ الأعلام: 310/6؛ معجم المؤلفين: 74/11؛ تاريخ الأدب
العربي "فروخ": 638/4؛ هدية العارفين: 74/2.
5- هو أبو بكر، محمد بن عمار بن الحسين بن عمار المَهْرِيّ، نسبة إلى
مَهْرَة، وهي قبيلة عربية من قضاعة، ويقال له أيضًا: الشِّلْبي
والأندلسي، ويلقب بذي الوزارتين.
6- هو أبو القاسم، محمد بن هانئ بن محمد بن سعدون الأزدي الأندلسي:
شاعر مجيد، كان عند المغاربة كالمتنبي عند المشارقة. توفي سنة 362هـ/
973م. "شذرات الذهب، ابن العماد. 41/3".
ص -86-
سرقسطة حين فرق المعتضد بالله بينه وبين
المعتمد -لأنه شغله عن كثير من أمره فنفاه- وهي: من الطويل
عليَّ، وإلا ما بكاء الغمائم
وفيَّ، وإلا ما نياح الحمائمِ
وعني أثار الرعد صرخة طالبٍ
لثأر وهز البرق صفحة صارمِ1
وما لبست زهر النجوم حِدَادها
لغيري, ولا قامت له في مآتمِ2
وفي هذه القصيدة يقول -يمدح المعتضد بالله-:
إذا ركِبوا فانظره أول طاعنٍ
وإن نزلوا فارصده آخرَ طاعمِ3
أبى أن يراه الله إلا مقلدًا
حَمِيلة سيفٍ أو حَمَالة غارمِ4
ومن جيد نسيبه قوله في قصيدة يمدح بها المعتضد بالله: من
الكامل
جاه الهوى -فاستشعروه- عاره
ونعيمه -فاستعذبوه- أُوارُه5
لا تطلبوا في الحب عزًّا إنما
عُبدانه في حكمه أحرارُه6
قالوا: أضربك الهوى فأجبتهم
يا حبذاه وحبذا إضرارُه
قلبي هو اختار السَّقام لجسمه
زِيًّا، فخلوه وما يختارُه
عيرتموني بالنحول وإنما
شرف المُهَنَّد أن ترق شِفارُه7
وشمتم لفراق من آلفتُهُ
ولربما حجب الهلال سِرارُه8
أحسِبتم السُّلوان هب نسيمه
أو أن ذاك النوم عاد غِرارُه9
إن كان أعيا القلب من حرب الجَوَى
خذلته من دمعى إذًا أنصارُه10
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الصارم: السيف القاطع.
2- النجوم الزهر: المتلألئة.
3- رصده رصْدًا ورصَدًا: رقبه.
4- في رواية:
"أبى أن يراه الله غير مقلدٍ
حمالة سيف............."
الحميلة: علاقة السيف ونحوه. الحمالة: الدية، أو الغرامة يحملها قوم عن
قوم.
5- الجاه: المنزلة والقدر. الأوار: اللهب، أو حر الشمس والنار.
6- العبدان: العبيد، الواحد: عبد.
7- المهند: السيف المصنوع في الهند. الشفار: جمع الشفرة: ما عُرِّض
وحُدِّد من الحديد، كحد السيف والسكين والخنجر وغير ذلك.
8- السرار: سرار الشهر: آخر ليلة فيه، ويقال: استسرَّ القمر: خفي ليلة
السرار.
9- السلوان: النسيان مع طيب نفس. الغرار: القليل من النوم.
10- أعيا: تعب. الجوى: حرقة الحب والوجد.
ص -87-
من قدَّ قلبي إذ تثنى قده
وأقام عذري إذ أطل عذارُه1
أم من طوى الصبح المنير نِقَابه
وأحاط بالليل البَهيم خمارُه2
غصنٌ ولكن النفوس رياضه
رَشَأٌ, ولكن القلوب عَرَارُه3
سخرت ببدر التِّمِّ غُرَّتُه كما
أزرت على آفاقه أزرارُه4
ما زال ليل الوصل من فَتَكاته
تَسري إليَّ بعَرْفِه أسحارُه5
ويجود روض الحسن من وجناته
دمعي فيندى رَنْدُه وبَهَارُه6
حتى سقاني الدهر كأس فِرَاقه
فسكرتُ سُكرًا لا يفيق خُمَارُه7
ووقفت في مثل المُحصَّب موقفًا
للبَيْن من حب القلوب جِمَارُه8
حيران أعمى الطَّرْف وهو سماؤه
وأذاب فيه القلب وهو قرارُه9
ولئن يُذِبْه وهو مثواه فكم
قد أحرقت عود العفارة نارُه10
إن يهنه أني أضعت لحبه
قلبي وذاعت عنده أسرارُه
فليهن قلبي أن شكاه وشاحه
لسواره فاقتص منه سوارُه!11
فوحسنه لقد انتدبت لوصفه
بالبخل لولا أن حِمْصًا دارُه
بلد رمتنى بالمُنى أغصانه
وتفجرت لي بالندى أنهارُه
ولابن عمار هذا مع المعتمد أخبار عجيبة عُني
بجمعها أهل الأندلس، وأنا إن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- قد القلب: شقه.
2- النقاب: القناع تجعله المرأة على مارن أنفها تستر به وجهها. ليل
بهيم: شديد السواد. الخمار: ثوب تغطي به المرأة رأسها.
3- الرشأ: ولد الظبية إذا قوي وتحرك ومشى مع أمه. العرار: نبات طيب
الرائحة.
4- بدر التم: القمر ليلة اكتماله.
5- فتكاته: يقال: فتك فتكًا: ركب ما تدعو إليه نفسه غير مبالٍ. العرف:
الرائحة الطيبة.
الأسحار: جمع السَّحَر: آخر الليل قبيل طلوع الفجر.
6- يجوده: يصيبه، يقال: جاد المطر الأرض: أصابها، وجاد المطر القوم: عم
أرضهم وشملهم.
الرند: شجر طيب الريح، أو الآس. البهار: زهر طيب الريح، ينبت في
الربيع.
7- الخمار من "الخمر": ما يصيب شاربها من ألمها وصداعها، أو ما خالط
الإنسان من سكر الخمر.
8- المحصب: موضع رمي الجمار بمنًى. الجمار: جمع الجمرة: الحصاة
الصغيرة.
9- الطرف: العين، أو النظر. القرار: المكان المنخفض, يجتمع فيه الماء.
10- المثوى: المقام، مكان الإقامة.
11- الوشاح: نسيج عريض يرصع بالجوهر، تشده المرأة بين عاتقها
وكَشْحَيها.
ص -88-
شاء الله مورد منها ما لا يخل بالشرط الذي
التزمته، ولا يخرج عن الحد الذي رسمته، حسبما بقي على خاطري من ذلك؛
لأني كنت في حداثة سني قد صرفت عنايتي إلى أخبار ابن عمار هذا مع
المعتمد، لما تضمنتْه من الآداب. وقد فتشت خِزانة حفظي فلم ألف1 فيها
إلا نبذة يسيرة، وأنا موردها إن شاء الله عز وجل.
فابن عمار هذا هو محمد بن عمار، يكنى أبا بكر، أصله من شِلْب، من قرية
من أعمالها يقال لها شنبوس. مولده ومولد آبائه بها. كان خامل2 البيت
ليس له ولا لأسلافه في الرياسة في قديم الدهر ولا حديثه حظ، ولا ذُكِرَ
منهم بها أحد. ورد مدينة شلب طفلًا فنشأ بها، وتعلم علم الأدب على
جماعة، منهم: أبو الحجاج يوسف بن عيسى الأعلم3. ثم رحل إلى قرطبة فتأدب
بها، ومهر في صناعة الشعر، فكان قُصَارَاهُ التكسب به، فلم يزل يجول في
الأندلس مسترفدًا لا يخص بمدحه الملوك دون غيرهم، بل لا يبالي ممن أخذ
ولا من استعطف من ملك أو سُوقة، وله في ذلك خبر ظريف:
وذلك أنه ورد في بعض سفراته شلب، لا يملك إلا دابة لا يجد علفها، فكتب
بشعر إلى رجل من وجوه أهل السوق، فكان قدره عند ذلك الرجل أن ملأ له
المخلاة شعيرًا ووجه بها إليه؛ فرآها ابن عمار من أجل الصلات وأسنى
الجوائز. ثم اتفق أن علت حال ابن عمار وساعده الجد ونهض به البخت،
وانتهى أمره أن ولاه المعتمد على الله مدينة شلب وأعمالها، أول ما أفضى
الأمر إليه، فدخلها ابن عمار في موكب ضخم وجملة عبيد وحشم، وأظهر نخوة
لم يظهرها المعتمد على الله حين وليها أيام أبيه المعتضد بالله؛ فكان
أولَ شيء سأل عنه، الرجلُ صاحبُه صاحبُ الشعير، فقال: ما صنع فلان، أهو
حي؟ قالوا: نعم؛ فأرسل إليه بمخلاته بعينها بعد أن ملأها دراهم، وقال
لرسوله: قل له: لو ملأتها بُرًّا لملأناها تبرًا.
ولم يزل ابن عمار على الحال التي ذكرناها، من التقلب في بلاد الأندلس
للاستجداء والاستعطاف، إلى أن ورد على المعتضد بالله أبي عمرو، فامتدحه
بقصيدته المشهورة التي أولها: من الكامل
أَدِرِ الزجاجة فالنسيم قد انبرى
والنجم قد صرف العِنان عن السُّرَى4
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- لم ألف: لم أجد.
2- الخامل: يقال: خَمَل الرجل: خفي فلم يُعرف, ولم يُذكر.
3- هو يوسف بن عيسى بن سليمان النحوي، المعروف بالأعلم، ويكنى أبا
الحجاج: عالم باللغة والأدب والشعر، من أهل شنتمرية. توفي سنة 476 هـ
بإشبيلية. "الصلة، ابن بشكوال: 524".
4- انبرى: عرض. العنان: سير اللجام الذي تُمسك به الدابة، استعاره
للنجم. وصرف الشيء صرفًا: رده عن وجهه. السرى: السير في الليل.
ص -89-
والصبح قد أهدى لنا كافوره
لما استرد الليل منا العنبرَا1
وفيها قال يمدح المعتضد:
عَبَّادٌ المُخْضَرُّ نائل كفه
والجو قد لبس الرداء الأغبرَا2
قَدَّاح زَنْد المجد لا ينفك من
نار الوغى إلا إلى نار القِرَى3
يختار أن يهب الخريدة كاعبًا
والطِّرْف أجرد والحسام مُجوهرَا4
وفي هذه القصيدة يقول في وصف وقعة أوقعها المعتضد بالبربر:
شقيتْ بسيفك أمة لم تعتقد
إلا اليهود وإن تسموا بربرَا
أثمرت رمحك من رءوس كُماتهم
لما رأيت الغصن يعشق مُثمرَا5
وخضبت سيفك من دماء نُحورهم
لما عهدت الحسن يلبس أحمرَا6
ومن أبيات هذه القصيدة بيت لم أسمع لمتقدم ولا متأخر بمثله،
وهو قوله:
السيف أفصح من زيادٍ خطبةً
في الحرب إن كانت يمينك منبرَا7
ولما أنشد المعتضد هذه القصيدة استحسنها وأمر له
بمال وثياب ومَرِكَب، وأمر أن يكتب في ديوان الشعراء؛ فكان كذلك. ثم
تعلق بالمعتمد على الله وهو إذ ذاك شاب، فلم تزل حاله معه تتزيد،
ومَوَاتُّ8 خدمته له تقوى وتتأكد، إلى أن صار ابن عمار ألزق بالمعتمد
من شعرات قَصِّه9، وأدنى إليه من حبل وريده10؛ كان المعتمد لا يستغني
عنه ساعة من ليل ولا نهار.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الكافور: شجر يتخذ منه مادة شفافة، رائحتها عطرية، وطعمها مر، وهو
أصناف كثيرة. العنبر: مادة صلبة، لا طعم لها ولا ريح إلا إذا سُحقت أو
أُحرقت.
2- لبس الرداء الأغبر: أي: علاه الغبار، أو اشتد غباره، أو تلون بلون
الغبار.
3- الوغى: الحرب. القرى: ما يقدم للضيف من طعام وشراب.
4- الخريدة: الفتاة العذراء البكر. الكاعب: الفتاة التي نهد ثديها، أي:
ارتفع وبرز. الطرف: العتيق الكريم من الخيل. الأجرد: القليل الشعر.
الحسام: السيف. مجوهر: مرصع بالجوهر.
5- الكماة: جمع الكَمِي: البطل أو الفارس التام السلاح.
6- خضبت: صبغت، لطخت. النحور: جمع النحر: أعلى الصدر.
7- زياد: يعني زياد بن أبيه، وهو من خطباء بني أمية المشهورين.
8- المواتُّ: جمع ماتَّة: الحرمة أو الوسيلة.
9- القص: عظم الصدر المغروز فيه أطراف الأضلاع من الجانبين.
10- حبل الوريد: عرق تزعم العرب أنه من الوتين، وهو الشريان الرئيس
الذي يغذي جسم الإنسان بالدم النقي الخارج من القلب. وهو من قوله
تعالى:
{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ,}
"ق: 16".
ص -90-
ثم اتفق أن ولي المعتمد على الله شلب من
قبل أبيه، فاستوزر ابن عمار هذا في تلك الولاية، وسلم إليه جميع أموره،
فغلب عليه ابن عمار غلبة شديدة، وساءت السمعة عنهما... فاقتضى نظر
المعتضد التفريق بينهما، ونفى ابن عمار عن بلاده حسبما تقدم الإيماء
إليه. فلم يزل ابن عمار مغتربًا في أقاصي بلاد الأندلس، إلى أن توفي
المعتضد بالله، فاستدعاه المعتمد، وقربه أشد تقريب، حتى كان يشاركه
فيما لا يشارك فيه الرجل أخاه ولا أباه.
وله معه أيام كونهما بشلب خبر عجيب؛ وذلك أن المعتمد استدعاه ليلة إلى
مجلس أنسه، على ما كانت العادة جارية به، إلا أنه في تلك الليلة زاد
في التحفِّي1 به والبر له على المعتاد، فلما جاء وقت النوم أقسم
المعتمد عليه: لتضعن رأسك معي على وساد واحد! فكان ذلك. قال ابن عمار:
فهتف بي هاتف في النوم يقول: لا تغتر أيها المسكين؛ إنه سيقتلك ولو
بعد حين! قال: فانتبهت من نومي فَزِعًا, وتعوذت, ثم عدت, فهتف بي
الهاتف على حالته الأولى, فانتبهتُ، ثم عدت، فسمعته ثالثة؛ فانتبهت
فتجردت من أثوابي والتففت في بعض الحصُر، وقصدت دهليز القصر مستخفيًا
به، وقد أزمعت على أني إذا أصبحت خرجت مستخفيًا حتى آتي البحر فأركبه
وأقصد بلاد العدوة فأكون في بعض جبال البربر حتى أموت. فانتبه المعتمد
فافتقدني فلم يجدني، فأمر بطلبي، فطُلبتُ له في نواحي القصر، وخرج هو
بنفسه يتوكأ على سيفه والشمعة تُحمل بين يديه؛ فكان هو الذي وقع علي؛
وذلك أنه أتى دهليز القصر يفتقد الباب هل فتح؛ فوقف بإزاء الحصير الذي
كنت فيه، فكانت مني حركة فأحس بي، وقال: ما هذا يتحرك في هذا الحصير؟
ثم أمر به فنُفض، فخرجت عريانًا ليس علي إلا السراويل! فلما رآني فاضت
عيناه دموعًا وقال: يا أبا بكر، ما الذي حملك على هذا؟ فلم أر بُدًا من
أن صدقته، فقصصت عليه قصتي من أولها إلى آخرها، فضحك وقال: يا أبا بكر،
أضغاث أحلام، هذه آثار الخُمار، ثم قال لي: وكيف أقتلك؟ أرأيت أحدًا
يقتل نفسه؟ وهل أنت عندي إلا كنفسي؟ فتشكر له ابن عمار ودعا له بطول
البقاء، وتناسى الأمر فنسيه، ومرت على ذلك الأيام والليالي، إلى أن كان
من أمره ما سيأتي الإيماء إليه، فصدقت رؤيا ابن عمار، وقتل المعتمد
نفسه كما قال!.
ولما أفضى الأمر إلى المعتمد كما ذكرنا، سأله ابن عمار ولاية شلب، وهي
كانت بلده ومنشأه كما تقدم؛ فأجابه المعتمد إلى ذلك وولاه إياها
أَنْبَهَ ولاية؛ جعل إليه جميع أمورها، خارجها وداخلها. فاستمرت ولاية
ابن عمار عليها إلى أن اشتد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- تَحفَّى بفلان: احتفل به.
ص -91-
شوق المعتمد إليه، وضعف عن احتمال الصبر
عنه؛ فاستدعاه وعزله عنها واستوزره؛ فكانت حاله معه شبيهة بحال جعفر بن
يحيى1 مع الرشيد.
ولم يزل المعتمد يعده لكل أمر جليل، ويؤهله لكل رتبة عالية. وكان ابن
عَمَّار مع هذا لا يناط به أمر إلا اضطلع به وكان فيه كالسكة المحماة.
واشتهر أمره ببلاد الأندلس حتى كان ملك الروم الأدفنش إذا ذُكر عنده
ابن عمار قال: هو رجل الجزيرة! وكان ابن عمار هو الذي رده عن قصد
إشبيلية وقرطبة وأعمالهما؛ وذلك أنه خرج في جيوش ضخمة يقصد بلاد
المعتمد طامعًا فيها، فخافه الناس، وامتلأت صدور أهل تلك الجهات رعبًا
منه، وتيقنوا ضعفهم عن دفاعه؛ فتولى ابن عمار رده بألطف حيلة وأيسر
تدبير, وذلك أنه أقام سُفرة شطرنج في غاية الإتقان والإبداع، لم يكن
عند ملك مثلها، جعل صورها من الآبنوس2 والعود الرطب والصندل3، وحلاها
بالذهب، وجعل أرضها في غاية الإتقان؛ فخرج من عند المعتمد رسولًا إلى
الأدفنش، فلقيه في أول بلاد المسلمين، أعظم الأدفنش قدومه وبالغ في
إكرامه، وأمر وجوه دولته بالتردد إلى خبائه والمسارعة في حوائجه؛ فأظهر
ابن عمار تلك السفرة، فرآها بعض خواص الأدفنش، فنقل خبرها إليه. وكان
العلج -أعني: الأدفنش- مولعًا بالشطرنج، فلما لقي ابن عمار سأله: كيف
أنت في الشطرنج؟ وكان ابن عمار فيه طبقةً عالية، فأخبره بمكانه منه؛
فقال له: بلغني أن عندك سفرة في غاية الإتقان! قال ابن عمار: نعم؛
فقال: كيف السبيل إلى رؤيتها؟ فقال ابن عمار لترجمانه: قل له: أنا آتيك
بها على أن ألعب معك عليها، فإن غلبتني فهي لك، وإن غلبتك فلي حكمي!
فقال له الأدفنش: هلمها لننظر إليها. فأمر ابن عمار من جاء بها، فلما
وُضعت بين يدي العلج صَلَّب وقال: ما ظنت أن إتقان الشطرنج يبلغ إلى
هذا الحد! ثم قال لابن عمار: كيف قلت؟ فأعاد عليه الكلام الأول، فقال
له الأدفنش: لا ألعب معك على حكم مجهول لا أدري ما هو، ولعله شيء لا
يمكنني! فقال ابن عمار سر ما أراده لرجال وثق بهم من وجوه دولة
الأدفنش، وجعل لهم أموالًا عظيمة على أن يؤازروه على أمره، ففعلوا.
فتعلقت نفس العلج بالسفرة، وشاور خاصته فيما رسمه ابن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- هو أبو الفضل، جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي: وزير الرشيد العباسي.
وُلد ونشأ ببغداد، وكان الرشيد يدعوه: أخي، فانقادت له الدولة، يحكم
بما يشاء فلا تُرد أحكامه، إلى أن نقم الرشيد على البرامكة، فقتله في
مقدمتهم. "تاريخ بغداد، الخطيب البغدادي: 152/7".
2- الآبنوس: شجر ينبت في الحبشة والهند، خشبه أسود صلب، ويصنع منه بعض
الأدوات والأواني والأثاث.
3- الصندل: شجر خشبه طيب الرائحة، يظهر طيبها بالدلك والإحراق.
ص -92-
عمار، فهونوا عليه وقالوا له: إن غلبته
كانت عندك سفرة ليس عند ملك مثلها، وإن غلبك فما عساه أن يحتكم؟ وقبحوا
عنده إظهار الملك العجز عن شيء يطلب منه، وقالوا له: إن طلب ابن عمار
ما لا يمكن, فنحن لك برده عن ذلك. ولم يزالوا به حتى أجاب، وأرسل إلى
ابن عمار فجاء ومعه السفرة، فقال له: قد قبلت ما رسمته! فقال له ابن
عمار: فاجعل بيني وبينك شهودًا -أسماهم له- فأمر الأدفنش بهم فحضروا،
وافتتحا يلعبان. وكان ابن عمار -كما ذكرنا- طبقة بالأندلس؛ لا يقوم له
أحد فيها؛ فغلب الأدفنش غلبة ظاهرة لجميع الحاضرين، لم يكن للعلج فيها
مطعن. فلما حقت الغلبة قال ابن عمار: هل صح أن لي حكمي؟ قال: نعم، فما
هو؟ قال: أن ترجع من ههنا إلى بلادك! فاسود وجه العلج وقام وقعد، وقال
لخواصه: قد كنت أخاف من هذا حتى هونتموه عليَّ! في أمثال لهذا القول،
وهم بالنكث والتمادي لوجهه، فقبحوا ذلك عليه، وقالوا له: كيف يجمل بك
الغدر وأنت ملك ملوك النصارى في وقتك! فلم يزالوا به حتى سكن، وقال: لا
أرجع حتى آخذ إتاوة عامين خلاف هذه السنة! فقال ابن عمار: هذا كله لك!
وجاءه بما أراد، فرجع وكف الله بأسه، ودفعه بحوله وحسن دفاعه عن
المسلمين. ورجع ابن عمار إلى إشبيلية وقد امتلأت نفس المعتمد سرورًا
به.
ثم إن المعتمد حدث له أمل في التغلب على مرسية وأعمالها، وهي التي تعرف
بـ تُدْمِير1؛ وكانت بيد أبي عبد الرحمن محمد بن طاهر، كان هو المتغلب
عليها والمدبر لأمرها، فجهز المعتمد جيوشًا عظيمة، وتكفل له ابن عمار
بأخذها وإخراج ابن طاهر عنها؛ فولاه ما تولى من ذلك. وخرج ابن عمار حتى
نزل على مرسية، فأخذها وأخرج ابن طاهر عنها. فلحق ابن طاهر حين خرج من
مرسية ببني عبد العزيز ببلنسية؛ فكان بها إلى أن مات -رحمه الله-.
ولما تغلب ابن عمار على مرسية دار ملك بني طاهر كما ذكرنا، حدثته نفسه
وسول له سوء رأيه أن يستبد بأمره، وأن يضبط تلك البلاد لنفسه؛ فلم يزل
يصرف الحيلة في ذلك إلى أن تم له بعضه ودانت له مرسية وأعمالها، وطمع
في ملك بلنسية؛ إلى أن قام عليه رجل من أهل مرسية يقال له: ابن رشيق،
كان أبوه من عرفاء الجند بها؛ وكان ابن عمار قد خرج لبعض أمره، فدعا
ابن رشيق هذا إلى نفسه، وقامت معه العامة وبعض الجند، فسمع ابن عمار
بذلك، فجاء يركض حتى أتى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- تدمير: كورة في شرق الأندلس، قاعدتها مُرْسية، وكان يحكمها قبل
الفتح العربي أمير قوطي من قرابة لذريق اسمه: تيودمير، وباسم هذا
الأمير سمى العرب هذه الكورة. وقيل: بل سموها تدمير تشبيهًا لها بتدمر
من بلاد الشام. وتقع تدمير شرقي قرطبة، وبينهما مسافة سبعة أيام للراكب
القاصد. "معجم البلدان، الحموي: 19/2".
ص -93-
المدينة وقد غلَّقت أبوابها دونه؛ فحاصرها
بمن معه أيامًا، فامتنعت عليه ولم يقدر على دخولها؛ فبقي حائرًا لا
يدري ما يصنع ولا أين يتوجه، وقد كان بلغ المعتمد قيامه عليه وخلع يده
من طاعته, فلم ير إلا الهروب ملجأ, فهرب حتى لحق ببني هود بسرقسطة،
فأقام عندهم حتى ثقل عليهم وخافوا غائلته؛ وبغَّضه في عيونهم ما فعل مع
صاحبه وولي نعمته، فأخرجوه عن بلادهم.
ولم تزل البلاد تتقاذفه، وملوكها تَشْنأه1، إلى أن وقع في حصن من حصون
الأندلس في غاية المنعة يدعى شَقورة2، كان المتغلب عليه رجل يقال له:
ابن مبارك، فأكرم وفادته وأحسن نزله، ثم بدا له بعد أيام فقبض عليه
وقيده وجعله في سجنه. فلما رأى ابن عمار ذلك منه قال له: لا عليك أن
تكتب إلى ملوك الأندلس بكوني عندك وتعرضني عليهم، فما منهم إلا من يرغب
في؛ فمن كان أشدهم رغبة جعل لك مالًا ووجهتَ بي إليه! ففعل ابن مبارك
ذلك، فما عرضه على أحد من ملوك الأندلس إلا رغب فيه. وكتب فيمن كتب إلى
المعتمد...
وفي ذلك يقول ابن عمار: من السريع
أصبحتُ في السوق يُنادى على
رأسي بأنواع من المالِ
والله ما جار على ماله
من ضمني بالثمن الغالِي!
وفي هذا السجن يقول ابن عمار وقد استدعى نورة3 يستنظف بها
فتعذرت عليه، فاستدعى موسى فأُتي بها، فقال في ذلك: من المجتث
بؤسى شَقُورة عندي
أربى على كل بوسَى4
فقدت هارون فيها
فظَلْتُ أطلب موسَى!5
وبعث المعتمد على الله من رجاله من تسلم ابن عمار من يد ابن
مبارك، بعد أن بعث إليه بمال وخيل، وأمر المعتمد الذين تسلموا ابن عمار
أن يزيدوا في الاحتياط عليه وتقييده. فخرجوا به حتى وافوا قرطبة، ووافق
ذلك كون المعتمد بها، فدخلها ابن عمار أشنع دخول وأسوأه، على بغل بين
عِدْلي تِبْن، وقيوده ظاهرة للناس. وقد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- تشنأه: تبغضه.
2- شقورة: حصن منيع شمالي مرسية، وهو رأس جبل عظيم، يخرج من أسفله
نهران، أحدهما يمر بقرطبة، وثانيهما يمر ببلنسية.
3- النورة: حجر الكلس، أو أخلاط من أملاح الكالسيوم والباريون تستعمل
لإزالة الشعر.
4- البؤسى: البؤس: المشقة، أو الفقر. أربى: زاد.
5- في البيت إشارة إلى موسى -عليه السلام- وأخيه هارون الذي ناصره وشد
أزره. وفي قوله: "أطلب موسى" تورية لطيفة؛ إذ يحتمل المعنى: موسى -عليه
السلام-، أو الآلة التي يحلق بها الشعر.
ص -94-
كان المعتمد أمر بإخراج الناس خاصة وعامة
حتى ينظروا إليه على تلك الحال. وقد كان قبل هذا إذا دخل قرطبة اهتزت
له وخرج إليه وجوه أهلها وأعيانهم ورؤساؤهم، فالسعيد منهم من يصل إلى
تقبيل يده أو يرد عليه ابن عمار السلام، وغيرهم لا يصل إلا إلى تقبيل
رِكابه أو طرف ثوبه، ومنهم من ينظر إليه على بعد لا يستطيع الوصول
إليه. فسبحان مُحيل الأحوال ومُديل الدول!.
فدخل ابن عمار قرطبة كما ذكرنا، بعد العزة القعساء1, والملك الشامخ،
والرياسة الفارعة2، ذليلًا خائفًا فقيرًا لا يملك إلا ثوبه الذي عليه؛
فسبحان من سلبه ما وهبه، ومنعه ما كان به أمتعه.
وأحبر بعض الموكلين به ما اتفق لهم معه من فرط ذكائه وسرعة فطنته، قال:
لما قربنا من قرطبة بحيث يرانا الناس، خرج فارس من البلد يركض يقصدنا،
فلما رآه ابن عمار -وكان معتمًّا- أزال العمامة عن رأسه، فجاء الفارس
حتى وصل إلينا، فنظر إلى ابن عمار ودخل معنا في الصف فمشى، فسألناه
فِيمَ جاء؟ فقال: الذي جئت فيه صنعه هذا الرجل قبل أن أصل إليه! فعلمنا
أنه أُرسل ليزيل عمامته.
فأدخل على المعتمد على الله على الحالة التي ذكرت، يرسف في قيوده3؛
فجعل المعتمد يعدد عليه أياديه ونعمه، وابن عمار في ذلك كله مطرق لا
ينبس4، إلى أن انقضى كلام المعتمد؛ فكان من جواب ابن عمار أن قال: ما
أنكر شيئًا مما يذكره مولانا -أبقاه الله-، ولو أنكرته لشهدت علي به
الجمادات فضلًا عمن ينطق؛ ولكنى عثرت فأقل، وزللت فاصفح! فقال المعتمد:
هيهات؛ إنها عثرة لا تقال! وأمر به فأحدر في النهر إلى إشبيلية، فدُخل
به إشبيلية على الحال التي دخل عليها قرطبة، وجعل في غرفة على باب قصر
المعتمد المعروف بالقصر المبارك -وهو باقٍ إلى وقتنا هذا- فطال سجنه
هناك.
كتبت عنه في هذا السجن قصائد لو توسل بها إلى الدهر لنزع عن جوره، أو
إلى الفلك لكف عن دَوْره؛ فكانت رُقًى5 لم تنجع، ودعوات لم تسمع،
وتمائم6 لم تنفع، فمنها قوله: من الطويل
سجاياك إن عافيتَ أندَى وأسجَحُ
وعذرك إن عاقبتَ أجلى وأوضحُ7
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- القعساء: الثابتة.
2- الفارعة: العالية.
3- رسف في قيده رَسْفًا ورسيفًا: مشى فيه مشيًا رويدًا.
4- لا ينبس: لا ينطق، لا تتحرك شفتاه بشيء.
5- الرقى: جمع رقية: العوذة التي يرقى بها المريض ونحوه.
6- التمائم: جمع تميمة: ما يعلق في العنق لدفع العين.
7- السجايا: جمع سجية: الطبيعة والخُلُق. سجح الشيء سجحًا وسجاحةً:
سهُل ورفق.
ص -95-
وإن كان بين الخطتين مَزِية
فأنت إلى الأدنى من
الله تجنحُ1
حنانيك في أخذي برأيك، لا تطع
عِدَاي ولو أثنوا عليك وأفصحُوا2
فإن رجائي أن عندك غير ما
يخوض عدوي اليوم فيه ويمرحُ3
ولم لا وقد أسلفتُ وُدًّا وخدمة
يَكُرَّان في ليل الخطايا فيصبحُ4
وهبني وقد أعقبت أعمال مفسد
أما تفسد الأعمال ثُمَّتَ تَصلُحُ
أقلني بما بيني وبينك من رضًا
له نحو روح الله باب مُفتَّحُ
وعَفِّ على آثار جُرْم سلكتُها
بهبَّة رُحْمى منك تمحو وتُمصِحُ5
ولا تلتفت قول الوشاة ورأيهم
فكل إناء بالذي فيه يرشَحُ6
سيأتيك في أمري حديث وقد أتى
بزُور بني عبد العزيز موشحُ7
وما ذاك إلا ما علمت فإنني
إذا ثُبت لا أنفك آسو وأجرحُ8
كأني بهم لا دَرَّ لله دَرُّهم
أشاروا تجاهي بالشمات وصرحُوا
وقالوا: سيجزيه فلان بفعله
فقلت: وقد يعفو فلان ويصفحُ!
ألا إن بطشًا للمؤيد يرتمي
ولكن حلمًا للمؤيد يرجَحُ9
وماذا عسى الواشون أن يتزيدوا
سوى أن ذنبي واضح مُتصححُ؟!
نعم, لي ذنب غير أن لحلمه
صَفاة يزل الذنب عنها فيسفحُ10
عليه سلام كيف دار به الهوى
إلي فيدنو أو علي فينزحُ11
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- تجنح: تميل.
2- حنانيك: مصدر من المصادر المثناة التي تجب إضافتها إلى ضمير المخاطب
في الغالب، وهي مثناة لفظًا من دون المعنى، ويراد بها التكرير، ومعنى
حنانيك على هذا التعريف: تحنُّنًا بعد تحنن، أو حنانًا بعد حنان. أثنى
على الرجل: امتدحه.
3- خاض القوم في الحديث خوضًا: تفاوضوا فيه. يمرح: يتبختر ويختال
وينشط.
4- أسلفت: قدمت. كر: رجع، أو عاد مرة بعد أخرى. الخطايا: الآثام
والذنوب.
5- عَفَّى على الأثر: محاه وأزاله، وعفى فلان على ما كان منه: جاء
بالصلاح بعد الفساد. تُمصح: تُزيل، تُذهب.
6- يرشح: ينضح، يسيل.
7- الزور: الكذب، الباطل.
8- ثاب فلان: رجع. آسو: أُداوي، أُطبِّب.
9- البطش: العنف والشدة. يرجح: يثقل، يقال: رجحت إحدى الكفتين الأخرى:
مالت بالموزون.
10- الصفاة: الضخرة الملساء. زل: زلِق. سفح: سال، انصب.
11- ينزح: يبتعد.
ص -96-
ويهنيه إن متُّ السُّلوُ فإنني
أموت ولي شوق إليه مبرحُ1
وبين ضلوعي من هواه تميمة
ستنفع لو أن الحمام يُجلّحُ2
ولما بلغت المعتمد هذه القصيدة وأنشدت بين يديه، كان بحضرته
رجل من البغداديين، فجعل يزري على هذا البيت: وبين ضلوعي... ويقول: ما
أراد بهذا المعنى؟ فكان من جواب المعتمد -رحمه الله- أن قال: أما لئن
سلبه الله المروءة والوفاء، لما أعدمه الفطنة والذكاء؛ إنما نظر إلى
بيت الهذلي3 من طرف خفي، وهو: من الكامل
وإذا المنية أنشبت أظفارها
ألفيتَ كل تميمة لا تنفعُ!4
ولم يزل ابن عمار هذا بسجن المعتمد، إلى أن قتله
صبرًا في شهور سنة 479.
وتلخيص خبر قتله، أنه لما طال سجنه كتب إليه بالقصيدة التي تقدم
إنشادها، فأدركت المعتمدَ بعضُ الرقة، فوجه إليه ليلًا وهو في بعض
مجالس أنسه، فأتي به يرسف في قيوده، فجعل المعتمد يعدد مننه عليه
وأياديه قِبَله، فلم يكن لابن عمار جواب ولا عذر، غير أنه أخذ في
البكاء، وجعل يترقق للمعتمد ويمسح عِطْفيه ويستجلب من الألفاظ كل ما
يقدر أنه يزرع له الرأفة في قلب المعتمد؛ فتم له بعض ما أراد من ذلك،
وعطفت المعتمد عليه سابقته وقديم حرمته؛ فقال له قولًا يتضمن العفو عنه
تعريضًا لا تصريحًا؛ وأمر برده إلى محبسه؛ فكتب ابن عمار من فوره بما
دار له مع المعتمد إلى ابنه الراضي بالله، فوافاه الكتاب وبحضرته قوم
كانت بينهم وبين ابن عمار إِحَن5 قديمة؛ فلما قرأ الراضي الكتاب قال
لهم: ما أرى ابن عمار إلا سيتخلص؛ فقالوا له: ومن أين علم مولانا ذلك؟
فقال: هذا كتاب ابن عمار يخبرني فيه أن مولانا المعتمد قد وعده
بالخلاص؛ فأظهر القوم الفرح وهم يبطنون غيره؛ فلما قاموا من مجلس
الراضي نشروا حديث ابن عمار أقبح نشر، وزادوا فيه زيادات قبيحة صُنت
هذا الكتاب عن ذكرها. فبلغ المعتمد ذلك، فأرسل إلى ابن عمار
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- السلو: النسيان مع طيب نفس. شوق مبرح: شديد.
2- جلح: سار سيرًا شديدًا، وجلح فلان: أقدم ومضى.
3- الهذلي: هو أبو ذؤيب، خويلد بن خالد بن محرث الهذلي: شاعر فحل
مخضرم، سكن المدينة، واشترك في الغزو والفتوح، وهلك أبناؤه الخمسة
بالطاعون في مصر. توفي نحو 27هـ/648م. "خزانة الأدب، البغدادي -صادر-:
203/1"
4-أنشب الشيء في غيره: أعلقه به. ألفاه: وجده وصادفه. والبيت في جمهرة
أشعار العرب للقرشي:جـ 185/2.
5- الإحن: الأحقاد.
ص -97-
وقال له: هل أخبرت أحدًا بما كان بيني
وبينك البارحة؟ فأنكر ابن عمار كل الإنكار، فقال المعتمد للرسول: قل
له: الورقتان اللتان استدعيتَهما، كتبت في إحداهما القصيدة، فما فعلتَ
بالأخرى؟ فادعى أنه بيَّض فيها القصيدة؛ فقال المعتمد: هلم المسوَّدة!
فلم يجد جوابًا، فخرج المعتمد حنِقًا وبيده الطبرزين1 حتى صعد الغرفة
التي فيها ابن عمار، فلما رآه علم أنه قاتله، فجعل ابن عمار يزحف
وقيوده تثقله، حتى انكب على قدمي المعتمد يقبلهما، والمعتمد لا يثنيه
شيء؛ فعلاه بالطبرزين الذي في يده، ولم يزل يضربه به حتى بَرَد2.
ورجع المعتمد فأمر بغسله وتكفينه، وصلى عليه ودفنه بالقصر المبارك.
فهذا ما انتهى إلينا من خبر ابن عمار ملخَّصًا حسبما بقي على خاطري.
رجع الحديث عن بني عباد
ولم يزل المعتمد هذا في جميع مدة ولايته والأيام تساعده، والدهر على ما
يريده يؤازره ويعاضده، إلى أن انتظم له في ملكه من بلاد الأندلس ما لم
ينتظم لملك قبله، أعنى: من المتغلبين. ودخلت في طاعته مدن من مدائنها
أعيت الملوك وأعجزتهم، وامتدت مملكته إلى أن بلغت مدينة مرسية، وهي
التي تعرف بـ تدمير، بينها وبين إشبيلية نحو من اثنتي عشرة مرحلة، وفي
خلال ذلك مدن متسعة وقرًى ضخمة.
وكان تغلبه على قرطبة، وإخراجه ابن عكَّاشة منها يوم الثلاثاء لسبع
بقين من صفر سنة 471. ثم رجع إلى إشبيلية واستخلف عليها3 ولده عبادًا
ولقبه بـ المأمون، وهو أكبر ولده، ولد له في حياة أبيه المعتضد، وسماه
عبادًا، فكان المعتضد يضمه إليه ويقول: يا عباد، يا ليت شعري من
المقتول بقرطبة، أنا أو أنت؟ فكان المقتولَ بها عبادٌ هذا في حياة أبيه
المعتمد، وفي السنة التي زال عنهم الملك فيها.
أول أمر المرابطين بالأندلس
ولما كانت سنة 479 جاز المعتمد على الله البحر قاصدًا مدينة مراكش إلى
يوسف بن تاشفين، مستنصرًا به على الروم، فلقيه يوسف المذكور أحسن لقاء،
وأنزله أكرم نُزُل، وسأله عن حاجته، فذكر أنه يريد غزو الروم، وأنه
يريد إمداد أمير المسلمين إياه بخيل ورجال؛ ليستعين بهم في حربه. فأسرع
أمير المسلمين المذكور
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الطبرزين: سلاح قديم يشبه الفأس.
2- برد الرجل: مات.
3- يعني: على قرطبة.
ص -98-
إجابته إلى ما دعاه إليه؛ وقال له: أنا أول
منتدب لنصرة هذا الدين، ولا يتولى هذا الأمر أحد إلا أنا بنفسي!.
فرجع المعتمد إلى الأندلس مسرورًا بإسعاف أمير المسلمين إياه في
طِلْبَته1، ولم يدر أن تدميره في تدبيره؛ وسل سيفًا يحسبه له ولم يدر
أنه عليه؛ فكان كما قال أبو فراس2: من الطويل
إذا كان غير الله للمرء عُدة
أتته الرَّزايا من وجوه الفوائدِ3
كما جرت الحنفاء حَتْفَ حُذيفة
وكان يراها عُدة للشدائدِ!4
فأخذ أمير المسلمين يوسف بن تاشفين في أهبة العبور إلى جزيرة
الأندلس؛ وذلك في شهر جمادى الأولى من السنة المذكورة، فاستنفر من قدر
على استنفاره من القواد وأعيان الجند ووجوه قبائل البربر؛ فاجتمع له
نحو من سبعة آلاف فارس في عدد كثير من الرَّجل؛ فعبر البحر بعسكر ضخم،
وكان عبوره من مدينة سبتة، فنزل المدينة المعروفة بالجزيرة الخضراء،
وتلقاه المعتمد في وجوه أهل دولته، وأظهر من بره وإكرامه فوق ما كان
يظنه أمير المسلمين، وقدم إليه من الهدايا والتحف والذخائر الملوكية ما
لم يظنه يوسف عند ملك؛ فكان هذا أول ما أوقع في نفس يوسف التشوف5 إلى
مملكة جزيرة الأندلس.
ثم إنه فصل عن الخضراء بجيوشه قاصدًا شرقي الأندلس، وسأله المعتمد دخول
إشبيلية دار ملكه ليستريح فيها أيامًا حتى تزول عنه وعثاء السفر6، ثم
يقصد قصده، فأبى عليه وقال: إنما جئت ناويًا جهاد العدو، فحيثما كان
العدو توجهت وجهه.
وكان الأدفنش -لعنه الله- محاصرًا لحصن من حصون المسلمين يعرف بحصن
الليط؛ فلما بلغه عبور البربر أقلع عن الحصن راجعًا إلى بلاده,
مستنفرًا عساكره ليلقى بهم البربر.
وتوجه يوسف المذكور إلى شرقي الأندلس يقصد ذلك الحصن المحاصر،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الطلبة: المطلوب، أو الحاجة.
2- هو أبو فراس, الحارث بن سعيد بن حمدان الحمداني: أمير, شاعر, فارس.
تقلد منبج وحرَّان وأعمالهما، وأسره الروم مدة طويلة. توفي سنة
357هـ/968م. "يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر، الثعالبي: 57/1، وفيات
الأعيان، ابن خلكان: 58/2". والبيتان في ديوانه: 88.
3- الرزايا: المصائب.
4- حذيفة: هو حذيفة بن بدر، والحنفاء: فرسه.
5- تَشَوَّف للشيء وإليه: تَطلَّع، وتشوف أمرًا: طمح له.
6- وعثاء السفر: شدته ومشقته.
ص -99-
والإصلاح بين المعتمد على الله وبين رجل
كان تغلب على مرسية يقال له: ابن رشيق -قد تقدم ذكره في أخبار ابن
عمار- فأصلح بينهما يوسف أمير المسلمين، على أن يخرج له ابن رشيق عن
مرسية، ويعوضه المعتمد عن ذلك مالًا جعله له، ويوليه في جهة إشبيلية
ولاية؛ فأجابه ابن رشيق إلى ذلك؛ وتسلم المعتمد مرسية وأعمالها.
ولقي يوسف أمير المسلمين ملوك الأندلس الذين كان عليهم طريقه، كصاحب
غرناطة، والمعتصم بن صُمادح1 صاحب المَريَّة، وابن عبد العزيز أبو بكر
صاحب بَلَنْسية.
وقعة الزَّلَّاقة
ثم إن يوسف المذكور استعرض جنده على حصن الرقة؛ فرأى منهم ما يسره،
فقال للمعتمد على الله: هلم ما جئنا له من الجهاد وقصد العدو؛ وجعل
يظهر التأفف من الإقامة بجزيرة الأندلس، ويتشوق إلى مراكش، ويصغر قدر
الأندلس، ويقول في أكثر أوقاته: كان أمر هذه الجزيرة عندنا عظيمًا قبل
أن نراها، فلما رأيناها وقعت دون الوصف!, وهو في ذلك كله يُسر حَسْوًا
في ارتغاء2! فخرج المعتمد بين يديه قاصدًا مدينة طليطلة، واجتمع
للمعتمد أيضًا جيش ضخم من أقطار الأندلس.
وانتدب الناس للجهاد من سائر الجهات، وأمد ملوك الجزيرة يوسف والمعتمد
بما قدروا عليه من خيل ورجال وسلاح، فتكامل عدد المسلمين من المتطوعة
والمرتزقة3 زُهاء عشرين ألفًا، والتقوا هم والعدو بأول بلاد الروم.
وكان الأدفنش -لعنه الله- قد استنفر الصغير والكبير، ولم يدع في أقاصي
مملكته من يقدر على النهوض إلا استنهضه، وجاء يجر الشوك والشجر؛ وإنما
كان مقصوده الأعظم قطع تشوف البرابرة عن جزيرة الأندلس، والتهيب عليهم.
فأما ملوك الأندلس فلم يكن منهم أحد إلا يؤدي إليه الإتاوة4، وهم كانوا
أحقر في عينه, وأقل من أن يحتفل لهم!.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- هو محمد بن معن بن محمد بن صمادح التجيبي الأندلسي، الملقب
بـ"المعتصم بالله, الواثق بفضل الله". توفي سنة 484هـ/1091م. "الأعلام،
الزركلي: 106/7".
2- "يسر حسوًا في ارتغاء": مثل يضرب لمن يريك أنه يعينك، وإنما يجر
النفع إلى نفسه. وقال أبو زيد والأصمعي: أصله الرجل يُؤتى باللبن؛
فيظهر أنه يريد الرغوة خاصة، ولا يريد غيرها، فيشربها، وهو في ذلك ينال
من اللبن. ومنه قال الكميت الأسدي:
فإني قد رأيت لكم صُدُودًا
وتَحْسَاءً بعلة مُرتَغينَا
"مجمع الأمثال، الميداني:
417/2".
3- المرتزقة: الذين ينخرطون في الجيش أو القتال طمعًا بالغنيمة، أو
لِقَاءَ مبلغ من المال يأخذونه.
4- الإتاوة: الجزية، أو الخراج.
ص -100-
ولما تراءى الجمعان من المسلمين والنصارى،
رأى يوسف وأصحابه أمرًا عظيمًا هالهم من كثرة عددٍ، وجودة سلاح وخيل،
وظهور قوة؛ فقال للمعتمد: ما كنت أظن هذا الخنزير -لعنه الله- يبلغ هذا
الحد!.
وجمع يوسف أصحابه وندب لهم من يعظهم ويذكرهم؛ فظهر منهم من صدق النية
والحرص على الجهاد واستسهال الشهادة ما سر به يوسف والمسلمون.
وكان ترائيهم يوم الخميس، وهو الثاني عشر من شهر رمضان؛ فاختلفت الرسل
بينهم في تقرير يوم الزحف ليستعد الفريقان؛ فكان من قول الأدفنش -لعنه
الله-: الجمعة لكم، والسبت لليهود وهم وزراؤنا وكتابنا وأكثر خدم
العسكر منهم، فلا غنى بنا عنهم، والأحد لنا؛ فإذا كان يوم الاثنين كان
ما نريده من الزحف. وقصد -لعنه الله- مخادعة المسلمين واغتيالهم، فلم
يتم له ما قصد...
فلما كان يوم الجمعة تأهب المسلمون لصلاة الجمعة ولا أمارة عندهم
للقتال، وبنى يوسف بن تاشفين الأمر على أن الملوك لا تغدر؛ فخرج هو
وأصحابه في ثياب الزينة للصلاة؛ فأما المعتمد فإنه أخذ بالحزم، فركب هو
وأصحابه شاكِّي السلاح1، وقال لأمير المسلمين: صل في أصحابك؛ فهذا يوم
ما تطيب نفسي فيه، وها أنا من ورائكم؛ وما أظن هذا الخنزير إلا قد أضمر
الفتك بالمسلمين. فأخذ يوسف وأصحابه في الصلاة، فلما عقدوا الركعة
الأولى ثارت في وجوههم الخيل من جهة النصارى، وحمل الأدفنش -لعنه الله-
في أصحابه؛ يظن أنه قد انتهز الفرصة؛ وإذا المعتمد وأصحابه من وراء
الناس، فأغنى ذلك اليوم غَناء2 لم يشهد لأحد من قبله؛ وأخذ المرابطون
سلاحهم فاستووا على متون الخيل، واختلط الفريقان؛ فأظهر يوسف بن تاشفين
وأصحابه من الصبر وحسن البلاء والثبات ما لم يكن يحسبه المعتمد؛ وهزم
الله العدو، واتبعهم المسلمون يقتلونهم في كل وجه، ونجا الأدفنش -لعنه
الله- في تسعة من أصحابه؛ فكان هذا أحد الفتوح المشهورة بالأندلس، أعز
الله فيه دينه وأعلى كلمته، وقطع طمع الأدفنش -لعنه الله- عن الجزيرة،
بعد أن كان يقدر أنها في ملكه، وأن رءوسها خدم له؛ وذلك كله بحسن نية
أمير المسلمين.
وتسمى هذه الوقعة عندهم وقعة الزلاقة. وكان لقاء المسلمين عدوهم -كما
ذكرنا- في يوم الجمعة الثالث عشر من شهر رمضان الكائن في سنة 480. ورجع
يوسف بن تاشفين وأصحابه عن ذلك المشهد منصورين, مفتوحًا لهم وبهم. فسُر
بهم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- "شاكي السلاح": يقال: شك فلان في السلاح: لبِسه تامًّا.
2- الغناء: النفع والكفاية.
ص -101-
أهل الأندلس، وأظهروا التيمن بأمير
المسلمين والتبرك به، وكثر الدعاء له في المساجد وعلى المنابر، وانتشر
له من الثناء بجزيرة الأندلس ما زاده طمعًا فيها, وذلك أن الأندلس كانت
قبله بصدد التَّلاف، من استيلاء النصارى عليها وأخذهم الإتاوة من
ملوكها قاطبة. فلما قهر الله العدو وهزمه على يد أمير المسلمين، أظهر
الناس إعظامه، ونشأ له الود في الصدور.
ثم إنه أحب أن يجول في الأندلس على طريق التفرج والتنزه، وهو يريد غير
ذلك؛ فجال فيها ونال من ذلك ما أحب، وفي خلال ذلك كله يظهر إعظام
المعتمد وإجلاله، ويقول مصرحًا: إنما نحن في ضيافة هذا الرجل وتحت
أمره، وواقفون عند ما يحده.
بين المعتصم بن صمادح
والمعتمد بن عباد
وكان ممن اختص بأمير المسلمين من ملوك الجزيرة وحظي عنده واشتد
تقريب أمير المسلمين له: أبو يحيى محمد بن معن بن صمادح المعتصم صاحب
المرية. وكان المعتصم هذا قديم الحسد للمعتمد، كثير النفاسة1 عليه؛ لم
يكن في ملوك الجزيرة من يناويه2 غيره، وربما كانت بينهما في بعض
الأوقات مراسلات قبيحة. وكان المعتصم يعيبه في مجالسه وينال منه, ويمنع
المعتمد من فعل مثل ذلك مروءته ونزاهة نفسه وطهارة سريرته وشدة
ملوكيته. وقد كان المعتمد قبل عبور أمير المسلمين بيسير، توجه إلى شرقي
الأندلس يتطوف على مملكته ويطالع أحوال عماله ورعيته؛ فلما دانى أول
بلاد المعتصم، خرج إليه في وجوه أصحابه، وتلقاه لقاء نبيلًا، وعزم عليه
ليدخلن بلاده؛ فأبى المعتمد ذلك. ثم اتفقا بعد طول مُرَاوَدة3 على أن
يجتمعا في أول حدود بلاد المعتصم وآخر حدود بلاد المعتمد، فكان ذلك
واصطلحا في الظاهر. واحتفل المعتصم في إكرامه, وأظهر من الآلات
السلطانية والذخائر الملوكية المعدة لمجالس الأنس ما ظنه مُكْمِدًا4
للمعتمد مثيرًا لغمه. وقد أعاذ الله المعتمد من ذلك، وصان خلقه الكريم
عنه، وعصمه بفضله منه؛ ثم افترقا بعد أن أقام المعتمد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- النفاسة: يقال: نافس فلانًا في الشيء: سابقه وباراه فيه، ومنه: نفس
الشيء وبه على فلان: حسده ولم يره أهلًا له.
2- يناويه: يناوئه: يباريه, أو يعاديه، أو يفاخره.
3- المراودة: يقال: راوده عن الأمر، وعليه: داراه، وراوده على الأمر:
طلب منه فعله. وراوده مراودة ورِوادًا: خادعه وراوغه.
4- مكمدًا: يقال: كمد الرجل: كتم حزنه، أو حزن حزنًا شديدًا، وأكمد
الحزن فلانًا: غَمَّه.
ص -102-
عنده في ضيافته ثلاثة أسابيع، ورجع المعتمد
إلى بلاده. وبإثر ذلك عبر إلى مراكش؛ ولم يزل ما بينه وبين المعتصم
معمورًا إلى أن عبر أمير المسلمين كما ذكرنا، فلقيه المعتصم بهدايا
فاخرة وتحف جليلة، وتلطف في خدمته حتى قربه أمير المسلمين أشد تقريب؛
وكان يقول لأصحابه: هذان رجلا هذه الجزيرة؛ يعني: المعتصم والمعتمد.
وكان أكبر أسباب تقريب أمير المسلمين إياه، ثناء المعتمد عليه عند أمير
المسلمين، ووصفه إياه عنده بكل فضل؛ ولم يكن المعتصم بعيدًا من أكثر ما
وصفه به.
ولما اشتد تمكن المعتصم من أمير المسلمين، بدا له أن يسعى في تغيير
قلبه على المعتمد وإفساد ما بينهما -حسن له ذلك سوء رأيه ودنس سريرته
وضعف بصره بعواقب الأمور، وليقضي الله أمرًا كان مفعولاً، وليبلغ القدر
ميقاته؛ وإذا أراد الله تمام أمر هيأ له أسبابًا- فشرع المعتصم فيما
أراده من ذلك, ولم يدر أنه ساقط في البئر التي حفر، وقتيل بالسلاح الذي
شهر، فكان من جملة ما ألقى إلى أمير المسلمين، أن جعل يقرر عنده عجب
المعتمد بنفسه، وفَرْط كِبْره، وأنه لا يرى أحدًا كفؤًا له. وزعم أنه
قال له في بعض الأيام -وقد قال له المعتصم: طالت إقامة هذا الرجل
بالجزيرة، يعني: أمير المسلمين-: لو عوجْتُ له إصبعي ما أقام بها ليلة
واحدة هو ولا أصحابه, وكأنك تخاف غائلته؛ وأي شيء هذا المسكين وأصحابه؟
إنما هم قوم كانوا في بلادهم في جهد من العيش، وغلاء من السعر، جئنا
بهم إلى هذه البلاد نطعمهم حسبة وائتجارًا1، فإذا شبعوا أخرجناهم عنها
إلى بلادهم! إلى أمثال هذا القول من تحقير أمرهم. وأعانه على ذلك قوم
من وجوه الأندلس، إلى أن بلغوا ما أرادوه من تغير قلب يوسف أمير
المسلمين على المعتمد.
وقد كان أمير المسلمين ضرب لنفسه ولأصحابه أجلًا وحد له ولهم مدة
يقيمونها في الجزيرة لا يزيدون عليها. وإنما فعل ذلك تطييبًا لقلب
المعتمد وتسكينًا لخاطره؛ فلما انقضت تلك المدة أو قاربت، عبر أمير
المسلمين إلى العدوة وقد وغِر صدره وتغيرت نفسه: من الطويل
وما النفس إلا نطفة في قرارةٍ
إذا لم تُكدَّر كان صفوًا غديرُها2
هذا مع ما ذكرنا من طمعه في الجزيرة وتشوفه إلى مملكتها؛
وظهرت للمعتمد قبل عبوره أشياء عرف بها أنه غُيِّر عليه!.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- احتسب فلان الأجر على الله: ادخره، وفعل الشيئ حسبة: أي مدخرا أجره
على الله. ائتجر فلان ائتجارا: طلب الثواب بصدقة ونحوها.
2- النطفة: القطرة، أو المني ، أو الماء الصافي. القرارة: المكان
المنخفض يندفع إليه الماء ويستقر فيه.
ص -103-
نكبة بني عباد
ورجع أمير المسلمين إلى مراكش وفي نفسه من أمر الجزيرة المُقِيم
المُقعِد؛ فبلغني أنه قال لبعض ثقاته من وجوه أصحابه: كنت أظن أني قد
ملكت شيئًا، فلما رأيت تلك البلاد، صغرت في عيني مملكتي؛ فكيف الحيلة
في تحصيلها؟ فاتفق رأيه ورأي أصحابه على أن يراسلوا المعتمد يستأذنونه
في رجال من صلحاء أصحابهم رغبوا في الرباط بالأندلس ومجاهدة العدو
والكون ببعض الحصون المصاقبة1 للروم إلى أن يموتوا؛ ففعلوا، وكتبوا إلى
المعتمد بذلك، فأذن لهم، بعد أن وافقه على ذلك ابن الأفطس المتوكل صاحب
الثغور, وإنما أراد يوسف وأصحابه بذلك أن يكون قوم من شيعتهم مبثوثين
بالجزيرة في بلادها، فإذا كان أمر من قيام بدعوتهم أو إظهار لمملكتهم
وجدوا في كل بلد لهم أعوانًا.
وقد كانت قلوب أهل الأندلس -كما ذكرنا- قد أُشْرِبت2 حب يوسف وأصحابه،
فجهز يوسف من خيار أصحابه رجالاً انتخبهم، وأمَّر عليهم رجلاً من
قرابته يسمى بُلُجِّين، وأسر إليه ما أراده، فجاز بلجين المذكور، وقصد
المعتمد من ملوك الجزيرة فقال له: أين تأمرني بالكون؟ فوجه معه المعتمد
من أصحابه من ينزله ببعض الحصون التي اختارها لهم، فنزل حيث أنزلوه هو
وأصحابه. وأقاموا هناك إلى أن ثارت الفتنة على المعتمد، وكان مبدؤها في
شوال من سنة 483 بأخذ جزيرة طريف المقابلة لطنجة من العدوة، دون مقدمة
ظاهرة توجب ذلك، فتشعبت جموعه وأهواؤُها ملتئمة، وانتثرت بلاده وقلوب
أهلها على محبته منتظمة.
ولما أخذ المرابطون جزيرة طريف ونادوا فيها بدعوة أمير المسلمين، انتشر
ذلك في الأندلس، وزحف القوم الذين قدمنا ذكرهم، الكائنون في الحصون،
إلى قرطبة؛ فحاصروها وفيها عباد بن المعتمد الملقب بـ المأمون، وقد
تقدم ذكره، وهو من أكبر ولده؛ فدخلوا البلد، وقتل عباد هذا بعد أن أبلى
عذرًا، وأظهر في الدفاع عن نفسه جَلَدًا وصبرًا؛ ذلك في مستهل صفر
الكائن في سنة 484؛ فزادت الإحنة3 والمحنة، واستمرت في غُلَوائها4
الفتنة.
وأجمعت على الثورة بحضرة إشبيلية طائفة، فأُعلم المعتمد بما اعتقدته
الطائفة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- صاقب المكان مصاقبةً وصقابًا: قاربه، ودنا منه، وواجهه.
2- أُشربت قلوبهم: أُشبعت.
3- الإحنة: الحقد والضغْن.
4- الغلواء: الغلو، وغلواء الشباب: أوله وحِدَّته.
ص -104-
المذكورة، وكشف له عن مرادها، وأثبت عنده
سوء اعتقادها، وأغري بتمزيق أديمها1 وسفك دمها، وحض على هتك حريمها
وكشف حرمها؛ فأبى له ذلك مجده الأثيل2، ورأيه الأصيل، ومذهبه الجميل،
وما حباه الله3 به من حسن اليقين، وصحة العقل والدين؛ إلى أن أمكنتهم
الغِرَّة4 يوم الثلاثاء منتصف رجب من السنة المذكورة، فقاموا بجيش غير
مستنصر، واسْتَنْسَرُوا بُغاثًا غير مُسْتَنْسَر5؛ فبرز هو من قصره،
سيفه بيده، وغلالته6 تَرِفُّ7 على جسده، لا دَرَقة8 له ولا درع عليه؛
فلقي على باب من أبواب المدينة يسمى باب الفرج فارسًا من الداخلين
مشهور النجدة شاكي السلاح، فرماه الفارس برمحٍ قصيرِ أنابيبِ القناة،
طويلِ شفرة السنان؛ فالتوى الرمح بغلالته وخرج تحت إبطه، وعصمه الله
منه، ودفعه بفضله عنه؛ وصب هو سيفه على عاتق الفارس فشقه إلى أضلاعه
فخر صريًعا، وانهزمت تلك الجموع، ونزل المتسنِّمون9 للأسوار عنها؛ وظن
أهل إشبيلية أن الخناق قد تنفَّس.
فلما كان عصر ذلك اليوم، عاودهم القوم، فظُهر على البلد من واديه،
ويُئس من سكنى ناديه، وبلغ فيه الأمل حاسده وشانيه10، وشبت النار في
شوانيه، فانقطع عندها الأمل والقول، وذهبت القوة من أيدي أهلها
والحَوْل. وكان الذي ظهر عليها من جهة البر، رجل من أصحاب يوسف أمير
المسلمين يعرف بحُدَير بن واسْنُو؛ ومن الوادي رجل يعرف بالقائد أبي
حمامة مولى بني سُجُّوت؛ والتوت الحال أيامًا يسيرة، إلى أن ورد الأمير
سِيرُ بن أبي بكر بن تاشفين -وهو ابن أخي أمير المسلمين- بعساكر
متظاهرة، وحشود من الرعية وافرة، والناس في خلال هذه الأيام قد خامرهم
الجزع11، وخالط قلوبهم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الأديم: الجلد.
2- الأثيل: الأصيل.
3- حباه الله: اختصه.
4- الغرة: الغفلة في اليقظة.
5- استنسر: تشبه بالنسر. البغاث: طائر صغير أبغث اللون، أصغر من الرخم،
بطيء الطيران. وفي المثل: "إن البغاث في أرضنا يستنسر" ومعناه: من
جاورنا عز بنا.
6- الغلالة: ثوب رقيق يُلبس تحت الدثار.
7- ترف: تضطرب وتتحرك.
8- الدرقة: ترس من جلد ليس فيه خشب ولا عَقَب.
9- تسنَّم السور: علاه.
10- الشانئ: المبغض.
11- خامرهم: خالطهم ومازجهم. الجزع: عدم الصبر على المصيبة.
ص -105-
الهلع1، يقطعون السبل سياحة، ويعبرون النهر
سباحة، ويتولجون2 مجاري الأقذار، ويترامون من شرفات الأسوار، حرصًا على
الحياة. والموفون بالعهد، المقيمون على صريح الود، ثابتون؛ إلى أن كان
يوم الأحد لإحدى وعشرين ليلة خلت من رجب من السنة المذكورة، وهذا يوم
الكائنة العظمى، والطامة الكبرى3، فيه حُمَّ4 الأمر الواقع، واتسع
الخَرْق5 على الراقع، ودُخل البلد من واديه، وأصيب حاضره وباديه، بعد
أن جد الفريقان في القتال، واجتهدت الفئتان في النزال، وظهر من دفاع
المعتمد -رحمه الله- وبأسه، وتراميه على الموت بنفسه، ما لا مزيد عليه،
ولا تناهيَ لخَلْقٍ إليه، وفي ذلك يقول المعتمد بعد ما نزل بالعدوة
أسيرًا حسيرًا6: من مجزوء الكامل
لما تماسكت الدموعْ
وتَنَهْنَه القلب
الصَّديعْ7
قالوا: الخضوع سياسةٌ
فليبدُ منك لهم خضوعْ
وألذ من طعم الخضو
ع على فمي السم
النَّقيعْ8
إن تستلب عنى الدُّنَا
ملكي وتسلمني الجموعْ9
فالقلب بين ضلوعه
لم تُسلم القلبَ
الضلوعْ
لم أُستلب شرف الطبا
ع أيُسلب الشرفُ
الرفيعْ
قد رُمْتُ يوم نِزالهم
ألا تُحصِّنني
الدروعْ10
وبرزت ليس سوى القميـ
ـص عن الحشا شيء دَفُوعْ
وبذلت نفسي كي تسيـ
ـل إذا يسيل بها النَّجِيعْ11
أجلي تأخر، لم يكن
بهواي ذلي والخشوعْ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الهلع: الجزع الشديد.
2- يتولجون: يدخلون.
3- الطامة الكبرى: القيامة، قال تعالى:
{فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى، يَوْمَ يَتَذَكَّرُ
الْإِنْسَانُ مَا سَعَى,} [النازعات: 34، 35]. والطامة: الداهية تفوق ما سواها.
4- حُم الأمر: قُضي، وحم الشيء: دنا أو قرُب.
5- الخرق: الثقب في الثوب وغيره.
6- الحسير: من لا غطاء على رأسه، ومن الجنود: من لا درع له ولا
مِغْفَر.
7- تنهنه فلان عن الشيء: كف وامتنع. الصديع: المشقوق.
8- السم النقيع: القاتل.
9- استلب الشيء: انتزعه قهرًا. أسلم فلانًا: خذله وأهمله وتركه لعدوه
وغيره.
10- رمتُ: أردتُ وابتغيتُ.
11- النجيع: دم الجوف.
ص -106-
ما سرت قَطُّ إلى القتا
ل وكان من أملي الرجوعْ
شِيَم الأُلى أنا منهمو
والأصل تَتْبعه الفروعْ!1
فشُنت الغارة في البلد، ولم يترك البربر لأحد من
أهلها سَبدًا ولا لَبَدًا2، وانتهبت قصور المعتمد نهبًا قبيحًا، وأخذ
هو قبضًا باليد، وجُبر على مخاطبة ابنيه: المعتد بالله، والراضي بالله،
وكانا بمعقلين من معاقل الأندلس المشهورة، لو شاءا أن يمتنعا بهما لم
يصل أحد إليهما، أحد الحصنين يسمى رُندَة، والآخر مارْتُلَة؛ فكتب
إليهما -رحمه الله-، وكتبت السيدة الكبرى أمهما، مستعطفينِ مسترحمينِ،
مُعلِمينِ أن دم الكل منهم مُسترهَن بثبوتهما. فأنفا من الذل، وأبيا
وضع أيديهما في يد أحد من الناس بعد أبيهما. ثم عطفتهما عواطف الرحمة،
ونظرا في حقوق أبويهما المقترنة بحق الله عز وجل. فتمسك كل منهما
بدينه، ونبذ دنياه، ونزلا عن الحصنين بعد عهود مبرمة، ومواثيق محكمة.
فأما المعتد بالله فإن القائد الواصل إليه قبض عند نزوله على كل ما كان
يملكه. وأما الراضي بالله فعند خروجه من قصره قُتل غِيلةً3 وأخفي جسده.
ورُحل بالمعتمد وآله، بعد استئصال جميع أحواله، ولم يصحب من ذلك كله
بُلْغة4 زاد؛ فركب السفين، وحل بالعدوة محل الدفين؛ فكان نزوله من
العدوة بطنجة؛ فأقام بها أيامًا، ولقيه بها الحصري الشاعر5، فجرى معه
على سوء عادته من قبح الكُدْية6 وإفراط الإلحاف7، فرفع إليه أشعارًا
قديمة قد كان مدحه بها، وأضاف إلى ذلك قصيدة استجدها عند وصوله إليه.
ولم يكن عند المعتمد في ذلك اليوم مما زود به فيما بلغني أكثر من ستة
وثلاثين مثقالًا، فطبع عليها وكتب معها بقطعة شعر يعتذر من قلتها -سقطت
من حفظي- ووجه بها إليه. فلم يجاوبه عن القطعة، على سهولة الشعر على
خاطره وخفته عليه. كان هذا الرجل -أعني الحصري- الأعمى-
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الشيم: الطباع أو الخصال.
2- السبد: القليل من الشعر. اللبد: الصوف.
يقال: ما له سبد ولا لبد: ما له قليل ولا كثير.
3- الغيلة: الاغتيال، وقتل غيلة: على غفلة منه.
4- البلغة: ما يكفي لسد الحاجة ولا يفضل عنها.
5- هو أبو الحسن، علي بن عبد الغني الفهري الحصري: شاعر من أهل
القيروان. سكن الأندلس مدة، وتوفي في طنجة سنة 488هـ/1095م. "الأعلام،
الزركلي: 300/4".
6- الكدية: حرفة السائل المُلِحّ.
7- الإلحاف: يقال: ألحف السائل إلحافًا: ألحَّ بالمسألة.
ص -107-
أسرع الناس في الشعر خاطرًا، إلا أنه كان
قليل الجيد منه؛ فحركه المعتمد على الله على الجواب بقطعة أولها: من
مجزوء الرمل
قُلْ لمن قد جمع العلم
وما أحصى صوابَهْ
كان في الصرة شعر
فتنظَّرْنا جوابَهْ
قد أثبناك فهلَّا
جلب الشعر ثوابَهْ؟
ولما اتصل بزعانفة1 الشعراء وملحفي أهل الكدية ما صنع
المعتمد -رحمه الله- مع الحصري، تعرضوا له بكل طريق، وقصدوه من كل فج
عميق2، فقال في ذلك رحمه الله: من الكامل
شعراء طنجة كلهم والمغرب
ذهبوا من الإغراب أبعد مذهبِ3
سألوا العسير من الأسير وإنه
بسؤالهم لأحق فاعجبْ واعجبِ4
لولا الحياء وعزة لَخْمِية
طَيَّ الحَشَا ساواهمُ في المطلبِ
قد كان إن سُئل الندى يُجزل وإن
نادى الصريخُ ببابه اركبْ يركبِ5
وله في هذا المعنى رحمه الله: من الرمل
قُبح الدهر فماذا صنعا
كلما أعطى نفيسًا
نزعَا6
قد هوى ظلمًا بمن عادتُهُ
أن ينادي كل من يهوَى لعَا!7
مَنْ إذا الغيث هَمَى منهمرًا
أخجلته كفه فانقطعَا8
مَنْ غَمامُ الجَوْد من راحته
عصفتْ ريح به فانتشعَا9
مَنْ إذا قيل الخَنا صُمَّ وإن
نطق العافون هَمْسًا سَمِعَا10
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الزعانف: جمع الزعنفة: كل جماعة ليس أصلهم واحدًا، أو رديء كل شيء
ورُذَالُه.
2- الفج: الطريق الواسع البعيد.
3- أغرب الشاعر: أتى بالغريب البعيد عن الفهم، وأغرب في الأمر: بالغ
فيه.
4- العسير: الشديد، الصعب.
5- يُجزل: يُكثر. الصريخ: الاستغاثة، أو المستغيث، أو المغيث. وفي عجز
البيت خلل عروضي.
6- النفيس: العظيم القيمة.
7- لعًا: لفظ معناه: الدعاء للعاثر بأن يرتفع من عثرته، يقال: لعًا
لفلان، وفي الدعاء عليه بالتعس يقال: لا لعًا لك.
8- الغيث: المطر. همى: انصب ماؤه. انهمر المطر: انسكب بقوة.
9- الجود: المطر الغزير الذي لا مطر فوقه.
10- الخنا: الفحش في الكلام, العافون: طالبو المعروف.
ص -108-
قل لمن يطمع في نائله
قد أزال اليأس ذاك الطمعَا1
راح لا يملك إلا دعوة
جبر الله العُفاةَ
الضُّيَّعَا!
وأقام المعتمد بطنجة -رحمه الله- أيامًا على الحال التي تقدم
ذكرها، ثم انتقل إلى مدينة مِكْنَاسة2، فأقام بها أشهرًا، إلى أن نفذ
الأمر بتسييرهم إلى مدينة أغمات3؛ فأقاموا بها إلى أن توفي المعتمد
-رحمه الله-، ودفن بها فقبره معروف هناك. وكانت وفاته في شهور سنة 87،
وقيل: سنة 88، فالله أعلم، وسنه يوم توفي إحدي وخمسون سنة.
فمن أحسن ما مر بي مما رُثي به المعتمد على الله مقطوعة من شعر ابن
اللبانة4 أولها: من البسيط
لكل شيء من الأشياء ميقاتُ
وللمنى من مناياهن غاياتُ5
والدهر في صِبْغة الحرباء منغمسٌ
ألوان حالاته فيها استحالاتُ6
ونحن من لُعَب الشَّطْرنج في يده
وربما قُمرتْ بالبيدق الشاةُ7
فانفُضْ يديك من الدنيا وساكنها
فالأرض قد أقفرت, والناس قد ماتُوا
وقل لعالمها الأرضيِّ قد كتمتْ
سريرة العالم العلوي أَغْماتُ
طوت مظلتها، لا بل مذلتها
من لم تزل فوقه للعز راياتُ
من كان بين الندى والبأس، أنصُله
هِنديَّة وعطاياه هُنيداتُ8
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- النائل: العطاء.
2- مكناسة: مدينة في المغرب، في بلاد البربر، بينها وبين مراكش أربع
عشرة مرحلة نحو الشرق، وقيل: مكناسة: حصن بالأندلس من أعمال ماردة.
"معجم البلدان، الحموي: 181/5".
3- أغمات: مدينة في المغرب، قرب مراكش، بينهما مسيرة يوم. فيها أصناف
كثيرة من الفواكه والخيرات. وظل قبر المعتمد معروفًا فيها إلى أمد بعيد
بعد وفاته. "معجم البلدان، الحموي: 225/1".
4- هو أبو بكر، محمد بن عيسى بن محمد اللخمي الداني، المعروف بابن
اللبانة: أديب، شاعر، عارف بالأخبار. توفي بميورقة سنة 507هـ/1113م.
"معجم المؤلفين، كحالة: 108/11".
5- الميقات: الموعد.
6- الحرباء: دويبة على شكل سام أبرص، مخططة الظهر، تستقبل الشمس
نهارها، وتدور معها كيف دارت، وتتلون ألوانًا، ويُضرب بها المثل في
الحزم والتلون. استحال الشيء: تحول، أو اعوجَّ بعد استواء.
7- قمر فلانًا قمْرًا: غلبه في لعب القمار. البيدق: من أدوات الشطرنج.
8- أنصله: سيوفه. هندية: مصنوعة في الهند، وهي أجود أنواع السيوف.
هنيدات: جمع هنيدة: اسم للمائة من الإبل.
ص -109-
أنكرت إلا التواء للقيود به
وكيف تنكر في الروضات حياتُ
وقلت: هن ذؤاباتٌ فَلِمْ عُكست
من رأسه نحو رجليه الذؤاباتُ1
رأوه ليثًا فخافوا منه عادية
عذرتهم فلعُدْوَى الليث عاداتُ2
وله قصيدة يرثيهم3 بها، وهي كثيرة الجيد، أولها: من البسيط
تبكي السماء بدمع رائحٍ غادى
على البهاليل من أبناء عبَّادِ4
على الجبال التي هُدت قواعدها
وكانت الأرض منهم ذات أوتادِ
والرابيات عليها اليانعات ذوتْ
أنوارها فغدت في خفض أوْهادِ5
عِرِّيسةٌ دخلتها النائبات على
أساود لهم فيها وآسادِ6
وكعبةٌ كانت الآمال تعمرها
فاليوم لا عاكف فيها ولا بادِ7
تلك الرماح رماح الخط ثقَّفَها
خَطْب الزمان ثِقافًا غير معتادِ8
والبِيض بِيض الظُّبا فَلَّت مضاربها
أيدي الردى وثنتها دون إغمادِ9
لما دنا الوقت لم تخلف له عِدَةٌ
وكل شيء لميقات وميعادِ10
كم من دراريِّ سعد قد هوت ووهت
هناك من درر للمجد أفرادِ11
نُورٌ ونَوْرٌ فهذا بعد نعمته
ذوى وذاك خبا من بعد إيقادِ12
يا ضيف أقفر بيت المَكْرُمات فخذ
في ضم رَحْلك واجمع فضْلة الزادِ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الذؤابات: جمع الذؤابة: شعر مقدم الرأس.
2- العادية: مؤنث العادي: العدو، أو الخيل المغيرة، وعوادي الدهر:
نوائبه.
3- أي: يرثي بني عباد.
4- البهاليل: جمع البهلول: الشريف الجامع لصفات الخير.
5- اليانعات: الثمار الناضجة. الأوهاد: ما انخفض من الأرض، الواحدة:
وَهْدة.
6- العريسة: الشجر الكثيف الملتف، يكون مأوى للأسد.
7- العاكف: المقيم، الملازم.
8- الخط: موضع في البحرين اشتهر بصناعة الرماح، فكانت تُنسب إليه.
ثقَّفها: قوَّمها. الخطب: الأمر الشديد يكثر فيه التخاطب.
9- البيض: السيوف. الظبا: جمع الظُّبة: حد السيف. فلَّت: تثلَّمت. أغمد
السيف إغمادًا: وضعه في غِمْده.
10- العدة: الموعد.
11- هوت: سقطت. وهت: ضعفت.
12- خبا: تلاشى, وخمد بريقه.
ص -110-
ويا مُؤمِّل واديهم ليسكنَه
خف القطين وجف الزرع بالوادِي1
ضلت سبيل الندى بابن السبيل فسرْ
لغير قصد فما يهديك من هادِي
وفيها يقول:
نسيتُ إلا غداة النهر كونهمُ
في المنشآت كأموات بألحادِ2
والناس قد ملئوا العِبْرين واعتبروا
من لؤلؤ طافيات فوق أزبادِ3
حُطَّ القناع فلم تُستر مخدرة
ومُزقت أوجه تمزيق أبرادِ4
تفرقوا جيرة من بعد ما نشئوا
أهلًا بأهل وأولادًا بأولادِ
حان الوداع فضجت كل صارخةٍ
وصارخ من مُفدَّاة ومن فادِي
سارت سفائنهم والنوْح يتبعها
كأنها إبل يحدو بها الحادِي5
كم سال في الماء من دمع وكم حملت
تلك القطائع من قِطْعات أكبادِ
من لي بكم يا بني ماء السماء إذا
ماء السماء أبى سُقْيًا حَشَا الصادِي6
وهي طويلة جدًّا، وهذا ما اخترت له منها.
أبو بكر الداني*
وابن اللبانة هذا هو أبو بكر محمد بن عيسى7، من أهل مدينة دانية، وهي
على ساحل البحر الرومي، كان يملكها مجاهد العامري وابنه علي الموفق على
ما تقدم.
ولابن اللبانة هذا أخ اسمه عبد العزيز، وكانا شاعرين، إلا أن عبد
العزيز منهما لم يرض الشعر صناعة ولا اتخذه مكسبًا، وإنما كان من جملة
التجار. وأما أبو بكر فرضيه بضاعة، وتخيره مكسبًا، وأكثر منه، وقصد به
الملوك فأخذ جوائزهم، ونال
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- خف القطين: رحلوا، والقطين: السكان.
2- المنشآت: السفن. الألحاد: القبور.
3- العبران -مثنى العبر- من النهر: شاطئه وناحيته. الأزباد: جمع
الزَّبَد: الرغوة.
4- القناع: ثوب تغطي به المرأة رأسها. المخدرة: المرأة المصونة في
خِدْرها. الأبراد: الأثواب.
5- الحادي: سائق الإبل.
6- الصادي: الظمآن.
* ترجمته في: شذرات الذهب: 20/4؛ كشف الظنون: 993، 1963؛ إيضاح
المكنون: 98/1، 562/2؛ هدية العارفين: 83/2؛ معجم المؤلفين: 108/11؛
الأعلام: 322/6.
7- ...ابن محمد اللخمي الداني...
ص -111-
أسنى الرتب عندهم. وشعره نبيل المأخذ، وهو
فيه حسن المَهْيَع1، جمع بين سهولة الألفاظ ورشاقتها، وجودة المعاني
ولطافتها؛ كان منقطعًا إلى المعتمد، معدودًا في جملة شعرائه؛ لم يفد
عليه إلا آخر مدته؛ فلهذا قل شعره الذي يمدحه به.
وكان -رحمه الله- مع سهولة الشعر عليه وإكثاره منه، قليل المعرفة
بعلله، لم يُجِدِ الخوض في علومه، وإنما كان يعتمد في أكثره على جودة
طبعه وقوة قريحته؛ يدل على ذلك قوله في قصيدة له, سيرد ما أختاره منها
في موضعه: من الكامل
من كان ينفق من سواد كتابه
فأنا الذي من نور قلبى أُنفقُ
ولما خلع المعتمد على الله، وأخرج من إشبيلية، لم يزل أبو
بكر هذا يتقلب في البلاد، إلى أن لحق بجزيرة مُيُرْقَةَ2، وبها مبشر
العامري المتلقب بـ الناصر؛ فحظي عنده وعلت حاله معه، وله فيه قصائد
أجاد فيها ما شاء؛ فمنها قصيدة ركب فيها طريقة لم أسمع بها لمتقدم ولا
متأخر، وذلك أنه جعلها من أولها إلى آخرها، صدر البيت غزل وعجزه مدح،
وهذا لم أسمع به لأحد؛ وأول القصيدة: من الكامل
وضحت وقد فضحت ضياء النِّير
فكأنما التحفت ببشر مبشرِ3
وتبسمت عن جوهر فحسبته
ما قلدتْه محامدي من
جوهرِ
وتكلمت فكأن طِيب حديثها
مُتِّعتُ منه بطيب مسك أذْفَرِ4
هزت بنغْمة لفظها نفسي كما
هُزت بذكراه أعالي المنبرِ
أذنبت واستغفرتها فجرت على
عاداته في المذنب المستغفرِ
جادت علي بوصلها فكأنه
جدوى يديه على المُقل المُقْتِرِ5
ولثَمْتُ فاها فاعتقدت بأنني
من كفه سُوِّغْتُ لَثْم الخنصرِ6
سمحت بتعنيقى فقلت: صنيعةٌ
سمحت علاه بها فلم تتعذرِ
نَهْد كقسوة قلبه في معركٍ
وحشًا كلين طباعه في محضَرِ
ومعاطفٌ تحت الذوائب خلتُها
تحت الخوافق ما له من سَمْهَرِي7
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- المهيع: الطريق البين الواضح.
2- في معجم البلدان وغيره: "ميورقة". وهي أكبر جزائر الأندلس في بحر
الروم.
3- وضحت: ظهرت وبانت.
4- مسك أدفر: جيد إلى الغاية.
5- الجدوى: العطية. المقتر: الفقير المعدم.
6- الخنصر: الإصبع الصغرى.
7- المعاطف: جوانب الجسد. الذوائب: جمع الذؤابة: شعر مقدم الرأس.
الخوافق: الأعلام=
ص -112-
حسُنت أمامي في خمار مثل ما
حسُن الكَمِيُّ أمامه في مِغْفَرِ1
وتوشحت فكأنه في جَوْشَن
قد قام عنبره مقام العِثْيرِ2
غمزت ببعض قسيه من حاجب
ورنَت ببعض سهامه من مَحْجِرِ3
أومت بمصقول اللحاظ فخلته
يومي بمصقول الصفيحة مُشْهَرِ4
وضعت حشاياها فويق أرائكٍ
وضع السروج على الجياد الضُّمَّرِ5
من رامة أو رومة، لا علم لي
أأتت عن النعمان أم عن قيصرِ6
بنت الملوك فقل لكسرى فارس
تعزى وإلا قل لتبع حميرِ7
عاديت فيها غُرَّ قومي فاغتدوا
لا أرضهم أرضي ولا هم معشرِي8
وكذلك الدنيا عهدنا أهلها
يتعافرون على الثريد الأعفرِ9
طافت علي بجمرة من خمرة
فرأيت مِرِّيخا براحة مشترِي10
فكأن أنملها سيوف مبشر
وقد اكتست عَلَق النَّجيع الأحمرِ11
مَلِك أَزِرَّةُ بُرْدِهِ ضُمت على
بأس الوصي, وعزْمة الإسكندرِ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= والرايات. السمهري: رمح منسوب إلى سَمْهَر، وهو رجل كان يصنع الرماح
ويقومها.
1- الخمار: ثوب تغطي به المرأة رأسها. الكمي: البطل التام السلاح.
المغفر: زَرَد ينسج من الدروع على قدر الرأس، يُلبس تحت القلنسوة.
2- توشحت: لبست الوشاح. الجوشن: الدِّرْع، أو الصدر. العثير: الغُبار.
3- القسي: جمع القوس: آلة على هيئة هلال، ترمى بها السهام. رنت: أدامت
النظر مع سكون طرْف. المحجر "من العين": ما أحاط بها.
4- أومت: أومأت. الصفيحة: وجه كل شيء عريض، كوجه السيف أو اللوح أو
الحجر. المشهر: المسلول.
5- الأرائك: جمع الأريكة: المقعد المنجد. السروج: جمع السَّرج: رحل
الدابة. الجياد الضمر: المهزولة.
6- رامة: موضع في البادية. رومة: اسم مدينة في بلاد الروم, النعمان: هو
النعمان بن المنذر ملك الحيرة. قيصر: أي: قيصر الروم.
7- تعزى: تنسب.
8- المعشر: أهل الرجل.
9- عافر الرجل غيره: صارعه محاولًا إلقاءَه في العَفَر، وعافر فلان في
الشيء: عالجه ليصل منه إلى ما يريد. الثريد: ما يثرد من الخبز، أي: يفت
ثم يبل بمرق.
10- المريخ والمشتري: كوكبان في الفضاء.
11- العلق: الدم الغليظ أو الجامد، أو القطعة منه، قال تعالى:
{خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} [العلق: 2]. النجيع: دم الجوف.
ص -113-
هذا ما اخترت له منها.
ومن نسيبه المليح, الخفيف الروح قوله يتغزل ويمدح مبشرًا هذا: من
الكامل
هلَّا ثناك علي قلب مُشْفِقٌ
فترى فراشًا في فراش يُحرقُ
قد صرتُ كالرَّمَق الذي لا يُرتجى
ورجعت كالنفَس الذى لا يلحقُ1
وغرِقتُ في دمعي عليك وغمني
طرْفي, فهل سبب به أتعلقُ؟2
هل خُدعة بتحية مخفية
في جنب موعدك الذي لا يصدقُ
أنت المنية والمُنى، فيك استوى
ظل الغمامة والهَجير المحرقُ3
لك قَدُّ ذابلةِ الوشيج ولونها
لكن سِنانك أكحل لا أزرقُ4
ويقال: إنكَ أيكة حتى إذا
غنيتَ قيل: هو الحمام الأوْرَقُ5
يا من رشقْتُ إلى السُّلُو فردني
سبقت جفونك كل سهم يرشقُ6
لو في يدي سحر وعندي أخْذة
لجعلت قلبك بعض حينٍ يعشَقُ
لتذوقَ ما قد ذقت من ألم الجَوَى
وترِقَّ لي مما تراه وتُشفِقُ7
جسدي من الأعداء فيك؛ لأنه
لا يستبين لطرف طَيْف يَرْمُقُ8
لم يدر طيفك موضعي من مضجعي
فعذرتُه في أنه لا يطرُقُ9
جفت عليك منابتي ومنابعي
فالدمع يَنْشَغُ والصَّبابة تُورِقُ10
وكأن أعلام الأمير مبشرٍ
نُشرتْ على قلبى فأصبح يخفقُ11
وفيها يقول، يصف لعب الأسطول في يوم المهرجان:
بُشرى بيوم المهرجان فإنه
يوم عليه من احتفائك رَوْنَقُ12
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الرمق: بقية الروح.
2- غمني: أحزنني.
3- الهجير: نصف النهار وقت اشتداد الحر.
4- الوشيج: ما نبت من القنا والقصب ملتفًّا. سنانك أكحل: يريد سنان
عينه.
5- الأيكة: الشجر الكثيف الملتف.
6- السلو: النسيان مع طيب نفس. رشق الشيء رشقًا: رماه. ومنه: رشقه
ببصره: أحده إليه.
7- الجوى: حرقة الحب والوجد.
8- رمقه رَمْقًا: نظر إليه، ورمقه ببصره: أتبعه بصره يتعهده وينظر إليه
ويرقبه.
9- يطرق: يزور ليلًا.
10- ينشغ: يسيل. الصبابة: رقة الشوق وحرارته.
11- يخفق: يتحرك ويضطرب.
12- الاحتفاء: الاحتفال. الرونق: الحُُسْن والجمال.
ص -114-
طارت بنات الماء فيه وريشها
ريش الغراب وغير ذلك شَوْذَقُ1
وعلى الخليج كتيبة جرارة
مثل الخليج كلاهما يتدفقُ2
وبنو الحروب على الجواري التي
تجري كما تجري الجياد السُّبَّقُ3
ملأ الكُمَاة ظهورها وبطونها
فأتت كما يأتي السحاب المغدِقُ4
خاضت غدير الماء سابحة به
فكأنما هي في سراب أيْنُقُ5
عجبًا لها! ما خلت قبل عِيَانها
أن يحمل الأسد الضوارِيَ زورقُ
هزت مجاديفًا إليك كأنها
أهداب عين للرقيب تحدقُ6
وكأنها أقلام كاتب دولةٍ
في عُرْض قِرْطاس تخُطُّ وتمشُقُ7
وله فيها إحسان كثير. وله من قصيدة يتغزل: من الطويل
فؤادي مُعَنًّى بالحسان مُعنَّت
وكل موقى في التصابي موقتُ8
ولي نفس يخفى ويخفُت رقةً
ولكن جسمى منه أخفى وأخفتُ
وبي ميت الأعضاء حي دَلالُه
غرامي به حي وصبري ميتُ
جعلت فؤادي جَفْن صارم جَفْنه
فيا حر ما يَصلى به حين يُصْلَتُ9
أذل له في هجره وهو ينتمي
وأسكن بالشكوى له وهو يسكتُ
وما انبت حبل منه إذ كان في يدي
لرَيحان رَيْعان الشبيبة منبِتُ10
ومن جيد ماله من قصيدة يمدح بها مبشرًا ناصر الدولة أولها:
من الكامل
راق الربيع ورقَّ طبع هوائه
فانظر نضارة أرضه وسمائِهِ 11
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الشوذق: الصقر، أو الشاهين.
2- الكتيبة: الفرقة العظيمة من الجيش.
3- الجواري: السفن.
4- الكماة: الأبطال المدجَّجون بالسلاح. السحاب المغدق: الكثير المطر.
5- السراب: الآل. الأينق: جمع الناقة: أنثى البعير.
6- تحدق: تشدد النظر.
7- مشق في الكتابة: مد حروفها، أو أسرع فيها.
8- مُعنًّى: متعب. مُعنَّت: من عنت الرجل: وقع في مشقة وشدة.
9- الجفن: الغمد. الصارم: السيف. يصلى: يحرق. يُصلَت السيف: يُسَل،
يُشْهر.
10- انبت: انقطع.
11- النضارة: البهجة, والرونق, والحسن.
ص -115-
واجعل قرين الورد فيه سُلافة
يحكي مشعشعها مصعد
مائِهِ1
لولا ذبول الورد قلت بأنه
خد الحبيب عليه صِبْغ حيائِهِ
هيهاتَ أين الورد من خد الذي
لا يستحيل عليك عهد وفائِهِ2
الورد ليس صفاته كصفاته
والطير ليس غناؤها كغنائِهِ
يتنفس الإصباح والريحان من
حركات معطفه, وحسن رُوَائِِهِ3
ويجول في الأرواح رَوْح ما سرت
رَيَّاه من تلقائه بلقائهِ4
صرف الهوى جسمي شبيه خياله
من فرْط خفته وفرط خفائهِ
ومن أحسن ما على خاطري له بيتان يصف بهما خالًا، وهما: من
البسيط
بدا على خده خال يزينه
فزادني شغفًا فيه إلى شغفِ5
كأن حبة قلبي عند رؤيته
طارت فقال لها: في الخد منه قفي!6
ولابن اللبانة هذا إحسان كثير، منعني من استقصائه خوف
الإطالة، وأيضًا فلأن هذا الكتاب ليس موضوعًا لهذا الباب؛ وإنما يأتي
منه فيه ما تدعو إليه ضرورة سياق الحديث.
رجع الحديث إلى أخبار
المعتمد
ثم رجع بنا القول إلى أخبار المعتمد على الله.
وبلغني أن رجلًا رأى في منامه قبل الكائنة العظمى على بني عباد بأشهر
يسيرة وهو بمدينة قرطبة، كأن رجلاً أتى حتى صعد المنبر واستقبل الناس
بوجهه ينشدهم رافعًا صوته: من الرمل
رب رَكْبٍ قد أناخوا عِيسَهم
في ذُرا مجدهم حين بسقْ7
سكت الدهر زمانًا عنهم
ثم أبكاهم دمًا حين
نَطَقْ!
فما كان إلا أشهر يسيرة حتى وقع بهم, وأبكاهم
الدهر كما قال.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- السلافة: أفضل الخمر وأخلصها.
2- يستحيل: يتغير.
3- الرواء: المنظر الحسن.
4- الريا: الريح الطيبة.
5- الشغف: شدة الحب والولع.
6- حبة القلب: سُوَيداؤه.
7- بَسَقَ: علا وارتفع.
ص -116-
وبلغ من حال المعتمد على الله بأغمات، أن
آثر حظياته وأكرم بناته أُلجئت إلى أن تستدعي غَزْلاً من الناس تسد
بأجرته بعض حالها، وتصلح به ما ظهر من اختلالها. فأدخل عليها فيما أدخل
غزل لبنت عَرِيف شرطة أبيها؛ كان بين يديه يَزَع الناس1 يوم بروزه، لم
يكن يراه إلا ذلك اليوم. واتفق أن السيدة الكبرى أم بنيه اعتلت، وكان
الوزير أبو العلاء زهر بن عبد الملك بن زهر2 بمراكش؛ قد استدعاه أمير
المسلمين لعلاجه؛ فكتب إليه المعتمد راغبًا في علاج السيدة ومطالعة
أحوالها بنفسه. فكتب إليه الوزير مؤديًا حقه ومجيبًا له عن رسالته
ومسعفًا له في طلبته3. واتفق أن دعا له في أثناء الرسالة بطول البقاء؛
فقال المعتمد في ذلك: من الوافر
دعا لي بالبقاء وكيف يهوَى
أسير أن يطول به البقاءُ
أليس الموت أروح من حياة
يطول على الشقي بها الشَّقاءُ4
فمن يك من هواه لقاء حب
فإن هواي من حتْفي اللقاءُ5
أأرغب أن أعيش أرى بناتي
عواريَ قد أضر بها الحَفَاءُ6
خوادم بنت من قد كان أعلى
مراتبه إذا أبدو النداءُ
وطرد الناس بين يدي ممرِّي
وكفهمو إذا غص الفناءُُ7
وركض عن يمين أو شمال
لنظم الجيش إن رفع
اللواءُ8
يُعنِّيه أمام أو وراء
إذا اختل الأمام أو الوراءُ9
ولكن الدعاء إذا دعاه
ضمير خالص نفع الدعاءُ
جُزيتَ أبا العلاء جزاء بَرٍّ
نوى برًّا وصاحبك العلاءُ10
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- يزع الناس: يكفهم ويمنعهم.
2- هو أبو العلاء، زهر بن عبد الملك بن محمد بن مروان بن زهر: طبيب،
فيلسوف، وزير، من أهل إشبيلية. نشأ في شرق الأندلس، وسكن قرطبة، وتوفي
سنة 525هـ/1131م. "الأعلام، الزركلي: 50/3".
3- المسعف: المعين، المساعد. الطلبة: المطلوب، من طلب الشيء: التمسه
وأراده.
4- أروح: أكثر راحة.
5- الحتف: الهلاك, الموت.
6- الحفاء: المشي بلا خف ولا نعل.
7- الفناء: الساحة في الدار، أو بجانبها. وغص الفناء: امتلأ بالوفود
والزائرين.
8- اللواء: الراية أو العلم.
9- يعنيه: يتعبه.
10- البر: الخير، المحسن. العلاء: الرفعة والسمو.
ص -117-
سيُسلي النفْس عما فات علمى
بأن الكل يدركه الفناءُ1
وورد عليه أغمات، أبو بكر بن اللبانة المتقدم الذكر، ملتزمًا
عهد الوفاء، قاضيًا ما يجب عليه من شكر النُّعمى؛ فسر المعتمد بوروده،
فلما أزمع2 ابن اللبانة على السفر، استنفد المعتمد وُسْعَه ووجه إليه
بعشرين مثقالًا وثوبين، وكتب إليه معها: من الوافر
إليك النَّزْر من كف الأسير
فإن تقبل تكن عين الشكورِ3
تقبَّلْ ما يذوب له حياء
وإن عذرتْه حالاتُ الفقيرِ!
ولا تعجب لخطب غض منه
أليس الخسف ملتزم
البدورِ؟4
ورجِّ لجبره عقبى نداه
فكم جبرت يداه من كسيرِ5
وكم أعلت علاه من حضيضٍ
وكم حطت ظُباه من أميرِ6
وكم من منبر حنت إليه
أعالي مرتقاه، ومن
سريرِ
زمان تزاحفت عن جانبيه
جياد الخيل بالموت
المُبيرِ7
فقد نظرت إليه عيون نحس
مضت منه بمعدوم النظيرِ
نحوس كن في عقبى سعود
كذاك تدور أقدار القديرِ
وكم أحظى رضاه من حظي
وكم شهرت علاه من شهيرِ8
زمان تنافست في الحظ منه
ملوك قد تجور على الدهورِ!9
بحيث يطير بالأبطال ذُعْر
ويُلفَى ثَمَّ أرجح من ثبيرِ10
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الفناء: الزوال، الهلاك.
2- أزمع على السفر: عزم عليه, وتهيأ له.
3- النزر: القليل، اليسير.
4- الخطب: الأمر الشديد يكثر فيه التخاطب. غض منه: خفضه، ونقصه، وحط من
قدره. الخسف: يقال: خسف القمر خسفًا: ذهب ضوءه أو نقص.
5- الندى: الجود والكرم. جبر العظم الكسير: أصلحه، ومنه: جبر عظمه:
أصلح شئونه وعطف عليه، وجبر الفقير واليتيم: كفاه حاجته.
6- الحضيض: ما سفل من الأرض. الظبى: جمع الظبة: حد السيف.
7- المبير: المهلك، يقال: بار الشيء بوْرٍا وبوارًا: هلك، وأباره:
أهلكه.
8- الحظي: الذي يفضل على غيره في المحبة، يقال: حظي فلان عند الناس:
علا شأنه وأحبوه، وأحظاه السلطان: قربه واختصه وأدناه.
9- تنافست الملوك: تبارت وتسابقت. تجور: تظلم.
10- يلفى: يوجد. أرجح: أثقل، أرزن. ثبير: جبل في الحجاز.
ص -118-
فامتنع ابن اللبانة من قبول ذلك عليه،
وصرفه بجملته إليه؛ وكتب مجيبًا له عن شعره: من الوافر
سقطت من الوفاء على خبير
فذرني والذي لك في ضميرِي
تركت هواك وهو شقيق ديني
لئن شُقت برودي عن غدورِ1
ولا كنتُ الطليق من الرَّزايا
لئن أصبحت أُجحف بالأسيرِ2
أسير ولا أصير إلى اغتنامٍ
معاذ الله من سوء المصيرِ
إذا ما الشكر كان وإن تناهى
على نعمى فما فضل الشكورِ؟
جَذيمة أنت والأيام خانت
وما أنا من يقصر عن قصيرِ3
أنا أدرى بفضلك منك إني
لبست الظل منه في الحَرُورِ4
غني النفس أنت وإن ألحت
على كفيك حالات الفقيرِ
تُصرِّف في الندى حيل المعالي
فتسمُحُ من قليلٍ بالكثيرِ5
أُحدث منك عن نبع غريبٍ
تفتح عن جَنَى زهر نضيرِ6
وأعجب منك أنك في ظلام
وترفع للعفاة منار نورِ
رويدك سوف توسعني سرورًا
إذا عاد ارتقاؤك للسريرِ7
وسوف تحلني رتب المعالي
غَداةَ تحل في تلك القصورِ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الشقيق: الأخ. البرود: الأثواب.
2- الرزايا: المصائب. أجحف به: اشتد بالإضرار به.
3- جذيمة: هو جذيمة بن الأبرش اللخمي ملك العراق، وقصير: هو قصير بن
سعد اللخمي الذي يضرب به المثل فيقال: "لأمر ما جَدَع قصيرٌ أنفه".
"مجمع الأمثال، الميداني: 196/2". ولجذيمة وقصير قصة مفصلة في كتب
الأمثال والأدب، خلاصتها: أن الزباء ملكة الجزيرة قتلت جذيمة ثأرًا
لأبيها، فجدع قصير أنفه، وأوهم الزباء أن قومه جدعوا أنفه لميله
بالولاء إليها، فصدقته ووثقت به. فتآمر عليها مع قومه، فدخلوا قصرها
وقتلوها ثأرًا لجذيمة. "مجمع الأمثال، الميداني: 233/1".
4- الحرور: حر الشمس. قال تعالي:
{وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ، وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا
النُّورُ، وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ,} [فاطر: 20-22].
5- سمُح سماحة وسموحة: بذل في العسر واليسر عن كرم وسخاء. والسماحة:
الجود والكرم، أو السهولة واللين.
6- الجنى: ما يُجنى من الشجر. النضير: الحسن المشرق.
7- السرير: أي: سرير الملك.
ص -119-
تزيد على ابن مروان عطاءً
بها وأنيفُ ثَمَّ على
جريرِ1
تأهبْ أن تعود إلى طلوع
فليس الخسف ملتزم البدورِ
فراجعه المعتمد بهذه الأبيات:
من الخفيف
رد بِرِّي بغيًا علي وبرًّا
وجفا فاستحق لومًا وشُكْرَا
حاط نزري إذ خاف تأكيد ضري
فاستحق الجفاء إذ حاط نَزْرَا
فإذا ما طويت في البعض حمدًا
عاد لومي في البعض سرًّا وجهرَا
يا أبا بكر الغريب وفاء
لا عَدِمناك في المغارب ذُخرَا
أي نفع يجدي احتياط شفيقٍ
متُّ ضرًّا فكيف أرهب ضُرَّا؟2
فأجابه ابن اللبانة رحمه الله:
من الخفيف
أيها الماجد السَّمَيْدَعُ عذرًا
صَرْفي البر إنما كان برَّا3
حاشَ لله أن أجيح كريمًا
يتشكى فقرًا وكم سد فقرَا4
لا أزيد الجفاء فيه شُقوقًا
غدر الدهر بى لئن رمت غدرَا5
ليت لي قوة, أوَآوي لركن
فترى للوفاء مني سِرَّا؟!6
أنت علمتني السيادة حتى
ناهضت همتي الكواكب قدرَا7
ربحت صفْقة أزيل بُرودًا
عن أديمي بها وألبس فخرَا8
وكفاني كلامك الرطب نيْلًا
كيف ألفي درًّا وأطلب تِبْرَا؟!9
لم تمت, إنما المكارم ماتت
لا سقى الله بعدك الأرض قَطْرَا10
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- ابن مروان: هو عبد الملك بن مروان، الخليفة الأموي المتوفى سنة
86هـ/705م. جرير: هو جرير بن الخطفي، الشاعر الأموي المتوفى سنة 110هـ/
728م.
2- الشفيق: المشفق، من شفق عليه: رق له وعطف عليه.
3- الماجد: الشريف الخيِّر. السميدع: السيد الكريم السخي، أو الرئيس
الشجاع.
4- "أجيح كريمًا": يقال: جاح فلان: هلك مال أقربائه، وجاحت المصيبة
المال: أهلكته واستأصلته.
5- الشقوق: الصدوع, أو الثقوب.
6- آوى إلى المكان: لجأ إليه.
7- ناهض فلان: قاوم، والمراد هنا: سابق وبارى.
8- الصفقة: العقد، أو البيعة، أو ضرب اليد عند البيع علامة إنفاذه.
9- ألفى الشيء: وجده. التبر: الذهب.
10- القطر: المطر.
ص -120-
ومما قاله المعتمد من الشعر عند موته, وأمر
أن يكتب على قبره: من البسيط
قبرَ الغريب سقاك الرائح الغادي
حقًّا ظَفِرتَ بأشلاء ابن عبادِ1
بالحلم, بالعلم, بالنُّعمى إذا اتصلت
بالخصب إن أجدبوا بالرِّيِّ للصادِي2
بالطاعن, الضارب, الرامي إذا اقتتلوا
بالموت أحمر بالضِّرغامة العادِي3
بالدهر في نِقَم بالبحر في نعم
بالبدر في ظلم بالصدر في النادِي4
نعم هو الحق حاباني به قدر
من السماء فوافاني لميعادِ5
ولم أكن قبل ذاك النعش أعلمه
أن الجبال تهادَى فوق أعوادِ6
كفاك فارفُقْ بما استودعت من كرم
رجاك كل قَطُوب البرق رَعَّادِ7
يبكي أخاه الذي غيبت وابلَه
تحت الصفيح بدمع رائح غادِي8
حتى يجودك دمع الطل منهمرًا
من أعين الزهر لم تبخل بإسعادِ9
ولا تزل صلوات الله دائمةً
على دفينك لا تُحصى بتَعْدادِ
وكان للمعتمد على الله هذا ولد يلقب بـ فخر الدولة، رشحه
للملك من بعده، وجعله ولي عهده، ولقبه بـ المؤيد بنصر الله؛ فعاقته
الفتنة عن مراده، وحالت الأقدار بينه وبين إصداره وإيراده؛ فما برح
بفخر الدولة هذا تغير الأيام بعد الفتنة، إلى أن أسلم نفسه في السوق،
وتعلم من الصنائع صنعة الصُّوَّاغ، فمر به محمد بن اللبانة المتقدم
الذكر شاعر أبيه، فقال في ذلك: من البسيط
أذكى القلوب أسًى، أبكى العيون دما
خَطْب وجدناك فيه يشبه العدمَا10
أفراد عِقْد المنى منا قدِ انتثرت
وعَقْد عروتنا الوثقى قد انفصمَا11
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الأشلاء: الأعضاء، الواحد: شلو. وأشلاء الإنسان: أعضاؤه بعد التفرق
والبِلَى.
2- الصادي: الظمآن.
3- الضرغامة: الضرغام: الأسد الضاري الشديد.
4- النادي: مجلس القوم.
5- حاباه: اختصه ومال إليه. وافاه: أتاه، أو أدركه.
6- تهادى: مشى متمايلًا، ومنه: تهادى فلان بين رجلين: اعتمد عليهما من
ضعف.
7- استودع فلانًا وديعة: استحفظه إياها. الرعاد: السحاب الكثير الرعد.
8- الوابل: المطر الشديد. الصفيح: الحجارة.
9- الطل: المطر الخفيف. منهمرًا: منصبًّا. الإسعاد: المعاونة.
10- أذكى القلوب: أشعلها. الأسى: الحزن. العدم: الموت، الهلاك.
11- انتثرت: تفرقت. انفصم: انفك، انحل، انفصل.
ص -121-
شكاتنا فيك يا فخر الهدى عظُمت
والرزء يعظم فيمن قدره
عظمَا1
طُوِّقتَ من نائبات الدهر مِخْنقة
ضاقت عليك، وكم طوقْتَنا نعمَا2
وعاد كونك في دكان قارعة
من بعد ما كنت في قصر حكى إِرَمَا3
صرَّفت في آله الصواغ أُنْمُلة
لم تدر إلا الندى والسيف والقلمَا
يد عهدتك للتقبيل تبسطها
فتستقل الثريا أن تكون فمَا
يا صائغًا كانت العليا تصاغ له
حليًا وكان عليه الحلي منتظمَا
للنفخ في الصًّور هول ما حكاه سوى
هول رأيناك فيه تنفخ الفَحَمَا4
وددت إذ نظرت عيني إليك به
لو أن عيني تشكو قبل ذاك عمَى
ما حطك الدهر لما حط من شرف
ولا تحيَّف من أخلاقك الكرمَا5
لُحْ في العلا كوكبًا إن لم تلح قمرًا
وقم بها ربوة إن لم تقم علَمَا
واصبر فربتما أحمدت عاقبة
من يلزم الصبرَ يحمد غِبَّ ما لزمَا
والله لو أنصفتك الشهب لانكسفت
ولو وفى لك دمع المُزْن لانسجمَا6
بكى حديثك حتى الدر حين غدَا
يحكيك رَهْطًا وألفاظًا ومبتسمَا7
وروضة الحسن من أزهارها عرِيت
حزنًا عليك لأن أشبهْتَها شِيَمَا8
بعد النعيم ذوى الريحان حين رأى
ريحانك الغض يذوي بعد ما نعمَا9
لم يرحم الدهر فضلًا أنت حامله
من ليس يرحم ذاك الفضل لا رُحمَا
شقيقك الصبح إن أضحى بشارقة
وأنت في ظلمة فالصبح قد ظلمَا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الشكاة: الشكوى. الرزء: المصيبة.
2- نائبات الدهر: مصائبه. المخنقة: القلادة.
3- القارعة "من الطريق": وسطه. إرم: قوم منهم عاد، وقيل: مدينة كبيرة
لهم.
4- الصور: آلة كالقرن يُنفخ فيها.
5- تحيف الشيء: أخذ من حافاته وتنقصه.
6- انكسفت: احتجبت. المزن: السحاب يحمل المطر. انسجم: سال وانصب.
7- الرهط: الأهل.
8- الشيم: الطباع، الخصال.
9- الغض: النضر، الطري، اللين. يذوي: يذبل. |