المعجب في تلخيص أخبار المغرب
ص -146-
ذكر ولاية عبد المؤمن
ثم قام بالأمر من بعده عبد المؤمن بن علي، وبايعه المصامدة، واتفقت على
تقديمه الجماعة. وكان الذين سعوا في تقديمه وهيئوا ذلك له ثلاثة، وهم
من أهل الجماعة: عمر بن عبد الله الصنهاجي المعروف عندهم بعمر أزناج،
وعمر بن ومَزَال -الذي كان اسمه قبل هذا فَصْكة، فسماه ابن تومرت عمر،
يعرفونه بعمر إينْتي- وعبد الله بن سليمان، من أهل تينملّ، من قبيلة
يقال لها: مَسَكَّالة؛ ووافقهم على ذلك سائر أهل الجماعة, وأهل خمسين،
وباقي الموحدين.
وصية ابن تومرت
وذلك أن ابن تومرت قبل موته بأيام يسيرة، استدعى هؤلاء المسمَّيْن
بالجماعة، وأهل خمسين؛ وهم -كما ذكرنا- من قبائل مفترقة لا يجمعهم إلا
اسم المصامدة؛ فلما حضروا بين يديه قام وكان متكئًا، فحمد الله وأثنى
عليه بما هو أهله، وصلى على محمد نبيه -صلى الله عليه وسلم-؛ ثم أنشأ
يترضى عن الخلفاء الراشدين -رضوان الله عليهم-، ويذكر ما كانوا عليه من
الثبات في دينهم، والعزيمة في أمرهم، وأن أحدهم كان لا تأخذه في الله
لومة لائم، وذكر من حد عمر -رضي الله عنه- ابنه في الخمر، وتصميمه على
الحق، في أشباه لهذه الفصول، ثم قال:
... فانقرضت هذه العصابة -نَضَّر الله وجوهها، وشكر لها سعيها، وجزاها
خيرًا عن أمة نبيها-وخبطت1 الناس فتنة تركت الحليم حيران، والعالم
متجاهلًا مداهنًا2؛ فلم ينتفع العلماء بعلمهم, بل قصدوا به الملوك،
واجتلبوا به الدنيا، وأمالوا وجوه الناس إليهم... في أشباه لهذا القول،
إلى هلم جرًّا.
ثم إن الله -سبحانه وله الحمد- من عليكم أيتها الطائفة بتأييده، وخصكم
من بين أهل هذا العصر بحقيقة توحيده، وقيَّض3 لكم من ألفاكم ضُلالاً لا
تهتدون،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- خبط الشيء خبطًا: وَطِئه وطئًا شديدًا، وخبط القوم بسيفه: ضربهم.
2- داهن الرجل مداهنة، ودهانًا: أظهر خلاف ما أضمر، وداهن فلانًا: خدعه
وغشه، أو داراه ولاينه.
3- قيض الله له كذا: قدره له وهيأه، وقيض الله فلانًا لفلان: أتاحه له.
ص -147-
وعُميًا لا تبصرون، لا تعرفون معروفًا، ولا
تنكرون منكرًا، قد فشت فيكم البدع1، واستهوتكم الأباطيل، وزين لكم
الشيطان أضاليل وتُرَّهات أُنزه لساني عن النطق بها، وأربأ2 بلفظي عن
ذكرها؛ فهداكم الله به بعد الضلالة، وبصركم بعد العمى، وجمعكم بعد
الفرقة، وأعزكم بعد الذِّلَّة، ورفع عنكم سلطان هؤلاء المارقين3،
وسيورثكم أرضهم وديارهم؛ ذلك بما كسبته أيديهم، وأضمرته قلوبهم؛ وما
ربك بظلام للعبيد؛ فجددوا لله سبحانه خالص نياتكم، وأروه من الشكر
قولًا وفعلًا ما يزكي به سعيكم، ويتقبل أعمالكم، وينشر أمركم. واحذروا
الفرقة واختلاف الكلمة وشتات الآراء، وكونوا يدًا واحدة على عدوكم؛
فإنكم إن فعلتم ذلك هابكم الناس, وأسرعوا إلى طاعتكم, وكثر أتباعكم,
وأظهر الله الحق على أيديكم. وإلا تفعلوا شَمِلكم الذل وعمكم
الصَّغار4, واحتقرتكم العامة، فتخطفتكم5 الخاصة. وعليكم في جميع أموركم
بمزج الرأفة بالغلظة، واللين بالعنف؛ واعلموا مع هذا أنه لا يصلح أمر
آخر هذه الأمة إلا على الذي صلُح عليه أمر أولها، وقد اخترنا لكم رجلًا
منكم، وجعلناه أميرًا عليكم؛ هذا بعد أن بلوناه6 في جميع أحواله، من
ليله ونهاره، ومدخله ومخرجه، واختبرنا سريرته وعلانيته، فرأيناه في ذلك
كله ثَبْتًا في دينه، متبصرًا في أمره، وإني لأرجو ألا يخلف الظن فيه.
وهذا المشار إليه هو عبد المؤمن؛ فاسمعوا له وأطيعوا ما دام سامعًا
مطيعًا لربه، فإن بدل أو نَكَص7 على عقبه أو ارتاب في أمره، ففي
الموحدين - أعزهم الله- بركة وخير كثير، والأمر أمر الله يقلده من شاء
من عباده.
فبايع القوم عبد المؤمن، ودعا لهم ابن تومرت، ومسح وجوههم وصدورهم
واحدًا واحدًا؛ فهذا سبب إمرة عبد المؤمن -رحمه الله-. ثم توفي ابن
تومرت بعد عهده بيسير، واجتمع أمر المصامدة على عبد المؤمن.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- البدع: جمع البدعة: ما استُحدث في الدين وغيره.
2- رَبَأ بفلان عن الشيء: رفعه ونزَّهه، وربأ الشيءَ: أعلاه ورفعه.
3- المارقون: الخارجون عن الدين أو الجماعة.
4- الصغار: الذل والضَّعة والهوان.
5- تخطَّف الشيء وخطَفه: جذبه وأخذه بسرعة، أو استلبه واختلسه. وفي
التنزيل العزيز:
{وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67]. أي: يقتلون ويسلبون.
6- بلوناه: اختبرناه، امتحناه.
7- نكص: ارتد, وأحجم, وتراجع.
ص -148-
فصل حياة عبد المؤمن* وأعماله
وعُمَّاله
وعبد المؤمن هذا، هو عبد المؤمن بن علي بن عَلَوي الكومي، أمه حرة
كومية أيضًا، من قوم يقال لهم: بنو مُجْبَر. مولده بضَيْعة من أعمال
تلمسان تعرف بـ تاجرا؛ وقيل: إنه كان يقول إذا ذكر كومية: لستُ منهم،
وإنما نحن لقيس عيلان بن مضر بن نِزَار بن مَعَدِّ بن عَدْنان، ولكومة
علينا حق الولادة بينهم والمنشأ فيهم، وهم الأخوال. وهكذا أدركت من
أدركت من أولاده وأولاد أولاده ينتسبون لقيس عيلان بن مضر، وبهذا
استجاز الخطباء أن يقولوا إذا ذكروه بعد ابن تومرت: قسيمه رضي الله عنه
في النسب الكريم.
كان مولده في آخر سنة 487 في أيام يوسف بن تاشفين؛ وكانت وفاته في شهر
جمادى الآخرة سنة 558، ومدة ولايته من حين استوسق1 له الأمر بموت علي
بن يوسف أمير المسلمين -في سنة 37 على التحقيق- إحدى وعشرين سنة، إلى
أن توفي في التاريخ المذكور.
وكان أبيض ذا جسم عَمم2 تعلوه حمرة، شديد سواد الشعر، معتدل القامة،
وضيء الوجه، جَهْوَريَّ الصوت3، فصيح الألفاظ، جَزْل المنطق4. وكان
محبَّبًا إلى النفوس؛ لا يراه أحد إلا أحبه بديهةً. وبلغني أن ابن
تومرت كان يُنشد كلما رآه: من البسيط
تكاملت فيك أخلاقٌ خُصصتَ بها
فكلنا بك مسرورٌ ومغتبطُ
فالسن ضاحكة، والكف مانحة
والصدر منشرح، والوجه منبسطُ
أولاده
كان له من الولد ستة عشر ذكرًا، وهم: محمد، وهو أكبر ولده وولي عهده،
هو الذي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ترجمته في: الأعلام: 170/4.
1- استوسق له الأمر: أمكنه، واستوسق الأمر: انتظم.
2- اعتم الرجل: تم وطال.
3- جَهْوَرَ فلان: رفع الصوت بالقول، ويقال: جهور الصوت، فالرجل
جهوريّ، والصوت كذلك.
4- الجزل من الكلام: القوي الفصيح الجامع.
ص -149-
خلع، وعلي، وعمر، ويوسف، وعثمان، وسليمان،
ويحيى، وإسماعيل، والحسن، والحسين، وعبد الله، وعبد الرحمن، وعيسى،
وموسى، وإبراهيم، ويعقوب.
وزراؤه
وزر له في أول الأمر أبو حفص عمر أزناج، إلى أن استقر الأمر واستقل عبد
المؤمن؛ فأجلى أبا حفص هذا عن الوزارة وربأ1 بقدره عنها، إذ كان عندهم
فوق ذلك؛ واستوزر أبا جعفر أحمد بن عطية، فجمع بين الوزارة والكتابة،
فهو معدود في الكتاب والوزراء. فلم يزل عبد المؤمن يجمعهما له إلى أن
افتتحوا بجاية، فاستكتب عبد المؤمن من أهلها رجلًا من نبهاء الكتاب
يقال له أبو القاسم القالمي -وسيأتي ذكره في كُتَّابه- واستمرت وزارة
أبي جعفر إلى أن قتله عبد المؤمن في شهور سنة 553 واستصفى أمواله. ثم
وزر له عبد السلام الكومي، وكان يدعى المُقرَّب؛ لشدة تقريب عبد المؤمن
إياه، فاستمرت وزارة عبد السلام هذا إلى أن أرسل إليه عبد المؤمن من
قتله خنقًا في شهور سنة 557. ثم وزر له ابنه عمر إلى أن توفي عبد
المؤمن.
كُتَّابه
أبو جعفر أحمد بن عطية المذكور في الوزراء، كان قبل اتصاله بعبد المؤمن
وفي الدولة اللمتونية، يكتب لعلي بن يوسف في آخر أيامه. وكتب عن تاشفين
بن علي بن يوسف؛ فلما انقرض أمرهم هرب وغير هيئته وتشبه بالجند، وكان
محسنًا للرمي، وكان في الجند الذين خرجوا إلى سُوس لقتال ثائر قام
هناك؛ كان الأمير على هذا الجند أبو حفص عمر إينْتي المتقدم الذكر في
أهل الجماعة. فلما انهزم أصحاب ذلك الثائر وقُتل هو وانفضت تلك الجموع،
طلب أبو حفص من يكتب عنه صورة هذه الكائنة إلى الموحدين الذين بمراكش،
فدل على أبي جعفر هذا ونبه على مكانه، فاستدعاه، وكتب عنه إلى الموحدين
رسالة في شرح الحال، أجاد في أكثرها ما شاء، منعني من رسمها في هذا
الموضع ما فيها من الطول؛ فلما بلغت الرسالة عبد المؤمن استحسنها
واستدعى أبا جعفر هذا واستكتبه، وزاده إلى الكتابة الوزارة؛ لما رآه من
شجاعة قلبه وحصافة عقله. فلم يزل وزيره كما ذكرنا إلى أن قتله في
التاريخ الذي ذُكر. وكان سبب قتله -فيما بلغني- أنه كانت عنده بنت أبي
بكر بن يوسف بن تاشفين، التي تعرف بـ بنت الصحراوية؛ وأخوها يحيى فارس
المرابطين المشهور عندهم، يعرف أيضًا بـ يحيى ابن الصحراوية؛ فحظي يحيى
هذا عند الموحدين،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- ربأ بالشيء: رفعه, ونزَّهه.
ص -150-
وقوَّدوه على من وحد من لمتونة، ولم يزل
وجيهًا عندهم, مكرمًا لديهم -وكان خليقًا بذلك- إلى أن نقلت عنه إلى
عبد المؤمن أشياء كان يفعلها وأقوال كان يقولها أحنقته عليه، فتحدث عبد
المؤمن ببعض ذلك في مجلسه، وربما هم بالقبض على يحيى هذا؛ فرأى الوزير
أبو جعفر أن يجمع بين المصلحتين: من نصح أميره، وتحذير صهره؛ فقال
لامرأته أخت يحيى المذكور: قولي لأخيك يتحفظ، وإذا دعوناه غدًا فليعتل
ويُظهر المرض، وإن قدر على الهروب واللحاق بجزيرة مَيُورْقة فليفعل!
فأخبرته أخته بذلك، فتمارض وأظهر أن ألمًا به، فزاره وجوه أصحابه
وسألوه عن علته، فأسر إلى بعضهم -ممن كان يثق به- ما بلغه عن الوزير.
فخرج ذلك الرجل الذي أسر إليه فنقل ذلك كله بجملته إلى رجل من ولد عبد
المؤمن، فكان هذا هو السبب الأكبر في قتل أبي جعفر المذكور. وأمر أمير
المؤمنين عبد المؤمن بتقييد يحيى المذكور وسجنه، فكان في سجنه إلى أن
مات!.
ثم كتب له بعد أبي جعفر هذا: أبو القاسم عبد الرحمن القالمي، من أهل
مدينة بجاية، من ضيعة من أعمالها تعرف بـ قالم، وكتب له معه أبو محمد
عياش بن عبد الملك بن عياش، من أهل مدينة قرطبة.
قضاته
أبو محمد عبد الله بن جَبَل، من أهل مدينة وَهْرَان من أعمال تلمسان.
ثم عبد الله بن عبد الرحمن المعروف بالمالقي، لم يزل قاضيًا له إلى أن
توفي عبد المؤمن، وصدْرًا من خلافة أبي يعقوب.
رَجْع الحديث إلى أخبار عبد
المؤمن
وكان عبد المؤمن مُؤْثرًا لأهل العلم، محبًّا لهم، محسنًا إليهم،
يستدعيهم من البلاد إلى الكون عنده والجوار بحضرته، ويُجري عليهم
الأرزاق الواسعة، ويظهر التنويهَ بهم والإعظام لهم. وقسم الطلبة
طائفتين: طلبة الموحدين، وطلبة الحَضَر؛ هذا بعد أن تسمى المصامدة
بالموحدين، لتسمية ابن تومرت لهم بذلك لأجل خوضهم في علم الاعتقاد الذي
لم يكن أحد من أهل ذلك الزمان في تلك الجهة يخوض في شيء منه.
وكان عبد المؤمن في نفسه سَرِيَّ1 الهمة، نزيه النفس، شديد
الملوكية،كأنه كان وَرِثها كابرًا عن كابر2، ولا يرضى إلا بمعالي
الأمور.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- السري: الشريف، وسريُّ الهمة: شريفها.
2- الكابر: الكبير, أو السيد، أو الجد الأكبر.
ص -151-
أخبرني الفقيه المتفنن أبو القاسم عبد
الرحمن بن محمد بن أبي جعفر الوزير، عن أبيه, عن جده الوزير أبي جعفر،
قال: دخلت على عبد المؤمن وهو في بستان له قد أينعت ثماره، وتفتحت
أزهاره، وتجاوبت على أغصانها أطيارُه، وتكامل من كل جهة حسنه؛ وهو قاعد
في قبة مشرفة على البستان، فسلمتُ وجلستُ، وجعلت أنظر يَمْنة وشَأْمة،
متعجبًا مما أرى من حسن ذلك البستان، فقال لي: يا أبا جعفر، أراك كثير
النظر إلى هذا البستان! قلت: يطيل الله بقاء أمير المؤمنين، والله إن
هذا لمنظر حسن! فقال: يا أبا جعفر، المنظر الحسن هذا؟ قلت: نعم؛ فسكت
عني، فلما كان بعد يومين أو ثلاثة، أمر بعرض العسكر آخذي أسلحتهم، وجلس
في مكان مطل، وجعلت العسكر تمر عليه قبيلةً بعد قبيلة وكتيبةً إثر
كتيبة، لا تمر كتيبة إلا والتي بعدها أحسنُ منها؛ جودة سلاح، وفراهة1
خيل، وظهور قوة؛ فلما رأى ذلك التفت إليَّ وقال: يا أبا جعفر، هذا هو
المنظر الحسن، لا ثمارك وأشجارك؟.
ولم يزل عبد المؤمن -بعد وفاة ابن تومرت- يطوي الممالك مملكةً مملكةً،
ويدوخ البلاد2، إلى أن ذلت له البلاد، وأطاعته العباد.
نهاية المرابطين وآخر من ولي
الأمر منهم
وكان آخر ما استُولي عليه من البلاد التي يملكها المرابطون، مدينة
مراكش، دار ملك أمير المسلمين وناصر الدين علي بن يوسف بن تاشفين؛ وهذا
بعد وفاة أمير المسلمين المذكور حتف أنفه في شهور سنة 537. وكان قد عهد
في حياته إلى ابنه تاشفين، فعاقته الفتنة عن تمام أمره، ولم يتفق له ما
أمله من استقلال ابنه تاشفين المذكور بشيء من الأمور.
وخرج تاشفين بعد وفاة أبيه قاصدًا تلمسان، فلم يتفق له من أهلها ما
يريد، فقصد مدينة وهران -وهي على ثلاث مراحل من تلمسان- فحاصره
الموحدون بها؛ فلما اشتد عليه الحصار خرج راكبًا فرسًا شهباء، عليه
سلاحه، فاقتحم البحر حتى هلك. ويقال: إنهم أخرجوه من البحر وصلبوه ثم
أحرقوه، فالله أعلم بصحة ذلك.
فكانت ولاية تاشفين هذا من يوم وفاة أبيه إلى أن قُتل -كما ذكرنا-
بمدينة وهران، ثلاثة أعوام إلا شهرين. وكان قتله سنة 540, وكان طول هذه
الولاية لا يستقر به قرار ولا تستقيم له حال، تنبو به البلاد، وتتنكر
له الرعية؛ فلم تزل هذه حاله إلى أن كان من أمره ما ذُكر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- فَرُهَ الجواد فراهةً، وفُرُوهةً: جَمُل وحَسُن.
2- دوَّخ البلاد: أخضعها, أو جال فيها وعرف مسالكها.
ص -152-
وبعد دخول عبد المؤمن -رحمه الله- مراكش،
طلب قبر أمير المسلمين، وبحث عنه عبد المؤمن أشد البحث؛ فأخفاه الله
وستره بعد وفاته كما ستره في أيام حياته؛ وتلك عادة الله الحسنى مع
الصالحين المصلحين.
وانقطعت الدعوة بالمغرب لبني العباس بموت أمير المسلمين وابنه، فلم
يُذكروا على منبر من منابرها إلى الآن، خلا أعوام يسيرة بإفريقية، كان
قد ملكها يحيى بن غانية1 الثائر من جزيرة ميورقة على ما سيأتي بيانه.
وكانت مدة المرابطين -من حين نزولهم رحبة مراكش إلى أن انقرض ملكهم
جملةً واحدةً بموت أمير المسلمين وابنه- نحوًا من ست وسبعين سنة.
تغلب عبد المؤمن على بجاية
وقلعة بني حماد
ولما دان لعبد المؤمن جميع أقطار المغرب الأقصى مما كان يملكه
المرابطون -على ما قدمنا- وأطاعه أهلها، جمع جموعًا عظيمة وخرج من
مراكش يقصد مملكة يحيى بن العزيز بن المنصور بن المنتصر الصنهاجي، وكان
يملك بجاية وأعمالها إلى موضع يعرف بـ سيوسيرات. وهذا الموضع هو الحد
فيما بينه وبين لمتونة؛ فقصده عبد المؤمن -كما ذكرنا- في شهور سنة 540،
فحاصر عبد المؤمن بجاية وضيق عليها أشد التضييق، فلما رأى يحيى بن
العزيز أن لا طاقة له بدفاع القوم ولا يدان بمنعهم، هرب في البحر حتى
أتى مدينة بُونة، وهي أول حد بلاد إفريقية، ثم خرج منها حتى أتى
قسطنطينة المغرب، فأرسل إليه عبد المؤمن -رحمه الله- بالجيوش، فاستُنزل
وأُتي به عبد المؤمن، هذا بعد أن عاهد عبد المؤمن أن يؤمن يحيى في نفسه
وأهله.
ودخل عبد المؤمن بجاية وملكها، وملك قلعة بني حَمَّاد، وهي معقل صنهاجة
الأعظم وحِرْزُهُمُ الأمنع، فيها نشأ ملكهم، ومنها انبعث أمرهم.
وكان يحيى هذا وأبوه العزيز وجداه المنصور والمنتصر، وجدهم الأكبر حماد
-من شيعة بني عبيد وأتباعهم والقائمين بدعوتهم؛ ومن بلادهم -أعني
صنهاجة- قامت دعوة بنى عبيد؛ وهم الذين أظهروها ونشروها ونصروها؛ فلم
يزل ملك بني حماد هؤلاء مستمرًّا، ودولتهم قائمة، وأمرهم نافذًا، لا
ينازعهم أحد شيئًا مما في أيديهم؛ إلى أن أخرجهم من ذلك كله وملكه
بأسره وضمه إلى مملكته: أبو محمد عبد المؤمن بن علي في التاريخ الذي
تقدم!.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- هو يحيى بن علي بن يوسف المسوفي، المعروف بابن غانية: أول من ولي
الأندلس من بني غانية. ولد في قرطبة، وتوفي بغرناطة سنة 543 هـ/ 1148م.
"الأعلام، الزركلي: 158/8".
ص -153-
ولما ملك عبد المؤمن بجاية والقلعة
وأعمالها، رتب من الموحدين من يقوم بحماية تلك البلاد والدفاع عنها؛
واستعمل عليها ابنه عبد الله؛ وكر راجعًا إلى مراكش ومعه وفي جنده يحيى
بن العزيز ملك صنهاجة وأعيان دولته؛ فحين وصلوا إلى مراكش أمر لهم
بالمنازل المتسعة والمراكب النبيلة والكُسَى الفاخرة والأموال الوافرة؛
وخص يحيى من ذلك بأجزله، وأسناه وأحفله؛ ونال يحيى هذا عنده رتبة عالية
وجاهًا ضخمًا، وأظهر عبد المؤمن عناية به لا مزيد عليها...
بلغني من طرق عدة أن يحيى بن العزيز كان في مجلس عبد المؤمن يومًا،
فذكروا تعذر الصرف؛ فقال يحيى: أما أنا فعلي من هذا كُلْفة شديدة،
وعبيدي في كل يوم يشكون إليَّ ما يلقون من ذلك، ويذكرون أن أكثر
حوائجهم تتعذر لقلة الصرف -وذلك أن عادتهم في بلاد المغرب أنهم يضربون
أنصاف الدراهم وأرباعها وأثمانها والخراريب، فيستريح الناس في هذا
وتجري هذه الصروف في أيديهم فتتسع بياعاتهم- فلما قام يحيى بن العزيز
من ذلك المجلس، أتبعه عبد المؤمن ثلاثة أكياس صروف كلها وقال لرسوله:
قل له: لا يتعذر عليك مطلوب ما دمت بحضرتنا -إن شاء الله عز وجل-!.
وأقام عبد المؤمن -رحمه الله- بمراكش، مرتبًا للأمور المختصة بالمملكة؛
من بناء دور، واتخاذ قصور، وإعداد سلاح، واستنزال مستعصٍ، وتأمين سبل،
وإحسان إلى رعية، وما هذا سبيله.
ص -154-
فصل أحوال الأندلس بعد سقوط
دولة المرابطين
فأما أحوال جزيرة الأندلس، فإنه لما كان آخر دولة أمير المسلمين أبي
الحسن علي بن يوسف، اختلت أحوالها اختلالاً مفرطاً، أوجب ذلك تخاذل
المرابطين وتواكلهم، وميلهم إلى الدعة، وإيثارهم الراحة، وطاعتهم
النساء؛ فهانوا على أهل الجزيرة، وقلوا في أعينهم، واجترأ عليهم العدو،
واستولى النصارى على كثير من الثغور المجاورة لبلادهم. وكان أيضًا من
أسباب ما ذكرناه من اختلالها، قيام ابن تومرت بسوس، واشتغال علي بن
يوسف به عن مراعاة أحوال الجزيرة.
ولما رأى أعيان بلاد تلك الجزيرة ما ذكرناه من ضعف أحوال المرابطين،
أخرجوا من كان عندهم من الولاة، واستبد كل منهم بضبط بلده. وكادت
الأندلس تعود إلى سيرتها الأولى بعد انقطاع دولة بني أمية. فأما بلاد
أفراغة فاستولى عليها ملك أرغن -لعنه الله-، وملك مع ذلك سرقسطة
-أعادها الله للمسلمين- وكثيرًا من أعمال تلك الجهات.
واتفق أمر أهل بلنسية ومرسية وجميع شرق الأندلس على تقديم رجل من أعيان
الجند اسمه عبد الرحمن بن عياض. وكان عبد الرحمن هذا من صلحاء أمة محمد
وخيارهم؛ بلغني عن غير واحد من أصحابه أنه كان مجاب الدعوة, من عجائب
أمره أنه كان أرق الناس قلبًا وأسرعهم دمعة، فإذا ركب وأخذ سلاحه لا
يقوم له أحد ولا يستطيع لقاءه بطل؛ كان النصارى يعدونه وحده بمائة
فارس، إذا رأوا رايته قالوا: هذا ابن عياض! هذه مائة فارس! فحمى الله
تلك الجهات ودفع عنها العدو ببركة هذا الرجل الصالح. وانتشر له من
الهيبة في صدور النصارى ما ردهم عن البلاد. وأقام ابن عياض هذا بشرقي
الأندلس يحفظ تلك البلاد ويذود عنها إلى أن توفي، رحمه الله ونضَّر
وجهه وشكر له سعيه. لا أتحقق تاريخ وفاته.
وقام بأمر تلك الجهات بعده رجل اسمه محمد بن سعد، المعروف عندهم بـ ابن
مردنيش. كان محمد هذا خادمًا لابن عياض، يحمل له السلاح ويتصرف بين
يديه في حوائجه؛ فلما حضرته الوفاة اجتمع إليه الجند وأعيان البلاد
فقالوا له: إلى
ص -155-
من تسند أمورنا وبمن تشير علينا؟ وكان له
ولد، فأشاروا به عليه؛ فقال: إنه لا يصلح؛ لأني سمعت أنه يشرب الخمر
ويغفل عن الصلاة، فإن كان ولا بد فقدموا عليكم هذا -وأشار إلى محمد بن
سعد- فإنه ظاهر النجدة, كثير الغَناء1، ولعل الله أن ينفع به
المسلمين!.
فاستمرت ولاية ابن سعد على البلاد إلى أن مات في شهور سنة 658.
وأما أهل المرية فأخرجوا من كان عندهم أيضًا من المرابطين؛ واختلفوا
فيمن يقدمونه على أنفسهم؛ فندبوا إليها القائد أبا عبد الله بن ميمون،
ولم يكن منهم، إنما هو من أهل مدينة دانية؛ فأبى عليهم وقال: إنما أنا
رجل منكم، ووظيفتي البحر وبه عُرفت؛ فكل عدو جاءكم من جهة البحر فأنا
لكم به. فقدموا على أنفسكم من شئتم غيري! فقدموا على أنفسهم رجلا منهم
اسمه عبد الله بن محمد، يعرف بـ ابن الرميمي؛ فلم يزل عليها إلى أن
دخلها عليه النصارى من البر والبحر؛ فقتلوا أهلها وسبوا نساءهم وبنيهم
وانتهبوا أموالهم في خبر يطول ذكره.
وملك جيان وأعمالها إلى حصن شَقورة وما والى تلك الثغور، رجل اسمه عبد
الله، لا أعرف اسم أبيه، هو معروف عندهم بـ ابن هَمُشْك؛ وربما ملك عبد
الله هذا قرطبة أيامًا يسيرة.
وأقامت على طاعة المرابطين أغرناطة وإشبيلية.
فهذه جملة أحوال الأندلس في آخر دعوة المرابطين. وفي ضمن هذه الجملة
جزئيات من أخبار الحصون والقلاع والمدن الصغار, أضربتُ عن ذكرها خوفًا
من الإطالة؛ لأنها نكرة، والتعريف بها مخرج إلى الطول.
وقام بمغرب الأندلس دعاة فتن ورءوس ضلالات؛ فاستفزوا2 عقول الجهال،
واستمالوا قلوب العامة؛ من جملتهم رجل اسمه أحمد بن قَسِيٍّ؛ كان في
أول أمره يدعي الولاية، وكان صاحب حيل ورب شَعبذة3، وكان مع هذا يتعاطى
صنعة البيان وينتحل4 طريق البلاغة، ثم ادعى الهداية؛ بلغني ذلك عنه من
طرق صحاح. ثم لم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الغناء: النفع والكفاية.
2- استفزه: استخفه.
3- الشعبذة: الاحتيال.
4- انتحل الشيء: ادعاه لنفسه, وهو لغيره.
ص -156-
يستقم له شيء مما أراد، واختلف عليه
أصحابه. وكان قيامه بحصن مارتلة -وقد تقدم اسم هذا الحصن في أخبار
الدولة العبادية- فأسلمه-كما ذكرنا- أصحابه، واختلفوا عليه، ودسوا إليه
من أخرجه من الحصن بحيلة حتى أخذه الموحدون قبضًا باليد، فعبروا به إلى
العدوة، فأتوا به عبد المؤمن -رحمه الله-، فقال له: بلغني أنك ادعيت
الهداية! فكان من جوابه أن قال: أليس الفجر فجرين: كاذبًا وصادقًا؟
فأنا كنت الفجر الكاذب! فضحك عبد المؤمن وعفا عنه. ولم يزل بحضرته إلى
أنه قتله بعض أصحابه الذين كانوا معه بالأندلس. ولابن قسي هذا أخبار
قبيحة، مضمونها الجراءة على الله سبحانه، والتهاون بأمر الولاية؛ منعني
من ذكرها صرف العناية إلى ما هو أهم منها.
عبور الموحدين إلى الأندلس
ولما انتشرت دعوة المصامدة -كما ذكرنا- بالمغرب الأقصى، تشوف1
إليهم أعيان مغرب الأندلس؛ فجعلوا يفدون في كل يوم عليهم، ويتنافسون في
الهجرة إليهم؛ فدخل في ملكهم كثير من جزيرة الأندلس، كالجزيرة الخضراء،
ورُنْدَة، ثم إشبيلية، وقرطبة، وأغرناطة. وكان الذي فتح هذه البلاد
الشيخ أبو حفص عمر إينْتي المتقدم الذكر في أهل الجماعة. واجتمع على
طاعتهم أهل مغرب الأندلس.
فلما رأى عبد المؤمن ذلك، جمع جموعًا عظيمة، وخرج يقصد جزيرة الأندلس؛
فسار حتى نزل مدينة سبتة، فعبر البحر، ونزل الجبل المعروف بجبل طارق،
وسماه هو جبل الفتح، فأقام به أشهرًا، وابتنى به قصورًا عظيمة، وبنى
هناك مدينة هي باقية إلى اليوم. ووفد عليه في هذا الموضع وجوه الأندلس
للبيعة، كأهل مالقة، وأغرناطة، ورندة، وقرطبة، وإشبيلية، وما والى هذه
البلاد وانضم إليها. وكان له بهذا الجبل يوم عظيم، اجتمع له وفي مجلسه
فيه من وجوه البلاد ورؤسائها وأعيانها وملوكها من العدوة والأندلس ما
لم يجتمع لملك قبله. واستدعى الشعراء في هذا اليوم ابتداءً ولم يكن
يستدعيهم قبل ذلك، إنما كانوا يستأذنون فيؤذن لهم.
محمد بن حَبُّوس الفاسي الشاعر
وكان على بابه منهم طائفة أكثرهم مجيدون؛ فدخلوا، فكان أول من أنشد:
أبو عبد الله محمد بن حبوس2، من أهل مدينة فاس. وكانت طريقته في الشعر
على
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- تشوف: تطلع, طَمِح.
2- هو أبو عبد الله، محمد بن حسين بن عبد الله بن حبوس الفاسي: شاعر من
أهل فاس، ولد ونشأ فيها، وتوفي سنة 570هـ/1174م. "الأعلام، الزركلي:
101/6".
ص -157-
نحو طريقة محمد بن هانئ الأندلسي1، في قصد
الألفاظ الرائعة والقعاقع2 المهولة وإيثار التقعير3؛ إلا أن محمد بن
هانئ كان أجود منه طبعًا وأحلى مَهْيَعًا4؛ فأنشد في ذلك اليوم قصيدة
أجاد فيها ما أراد. أولها: من الكامل
بلغ الزمان بهديكم ما أمَّلا
وتعلمت أيامه أن تعدِلا
وبحسْبه أن كان شيئًا قابلا
وجد الهداية صورة فتشكلا
لم يبق على خاطري منها أكثر من هذين البيتين.
ولابن حبوس هذا قصائد كثيرة. وكان حظيًّا5 عنده, نال في أيامه ثروة,
وكذلك في أيام ابنه أبي يعقوب. وكان في دولة لمتونة مقدمًا في الشعراء،
حتى نقلت إليهم عنه حماقات، فهرب إلى الأندلس، ولم يزل بها مستخفيًا
ينتقل من بلد إلى بلد، حتى انتقلت الدولة المرابطية.
قرأ عليَّ ابنه عبد الله من خط أبيه هذه الحكاية، قال:
دخلت مدينة شلب من بلاد الأندلس، ولي يوم دخلتها ثلاثة أيام لم أطعم
فيها شيئًا، فسألت عمن يقصد إليه فيها، فدلني بعض أهلها على رجل يعرف
بـ ابن الملح، فعمدت إلى بعض الوراقين فسألته سِحاءة ودواة،
فأعطانيهما؛ فكتبت أبياتًا أمتدحه بها، وقصدت داره، فإذا هو في
الدهليز6، فسلمت عليه، فرحب بي ورد علي أحسن رد، وتلقاني أحسن لقاء،
وقال: أحسبك غريبًا! قلت: نعم؛ فقال لي: من أي طبقات الناس أنت؟
فأخبرته أني من أهل الأدب، من الشعراء؛ ثم أنشدته الأبيات التي قلت؛
فوقعت منه أحسن موقع؛ فأدخلني إلى منزله، وقدم إلي الطعام، وجعل
يحدثني؛ فما رأيت أحسن محاضرةً منه. فلما آن الانصراف، خرج ثم عاد ومعه
عبدان يحملان صندوقًا حتى وضعه بين يدي؛ ففتحه فأخرج منه سبعمائة دينار
مرابطية، فدفعها إلي وقال: هذه لك! ثم دفع إلي صرة فيها أربعون
مثقالًا، وقال:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- هو أبو القاسم، محمد بن هانئ بن محمد بن سعدون الأزدي الأندلسي:
أشعر المغاربة، وهو عندهم كالمتنبي عند أهل المشرق. توفي سنة 362هـ/
973م. "شذرات الذهب، ابن العماد: 41/3".
2- القعاقع: جمع القعقعة: حكاية صوت السلاح، أو صوت القعقع وهو نوع من
الطيور، أو تتابع صوت الرعد ونحوه في شدة.
3- قعَّر في كلامه تقعيرًا: تكلم بأقصى حلقه.
4- المهيع: الطريق البين الواضح.
5- حظيًّا: مقربًا.
6- الدهليز: المدخل بين الباب والدار.
ص -158-
هذه من عندي! فتعجبت من كلامه وأشكل علي
جدًّا، وسألته: من أين كانت هذه لي؟ فقال لي: سأحدثك: إني أوقفت أرضًا
من جملة مالي للشعراء، غلتها في كل سنة مائة دينار؛ ومنذ سبع سنين لم
يأتني أحد لتوالي الفتن التي دهمت البلاد؛ فاجتمع هذا المال حتى سِيق
إليك, وأما هذه فمن حر مالي! يعني: الأربعين مثقالًا؛ فدخلت عليه
جائعًا فقيرًا، وخرجت عنه شبعان غنيًّا.
الأصم المرواني الشاعر، ابن الطليق
وأنشده في ذلك اليوم رجل من ولد الشريف الطليق المرواني، كان شريفًا من
جهه أمه: من البسيط
ما للعِدَا جُنَّةٌ أوقى من الهرب1
................
فقال عبد المؤمن رافعًا صوته: إلى أين...إلى أين؟ فقال
الشاعر:
................
أين المفر وخيل الله في الطلبِ!
وأين يذهب من في رأس شاهقة
وقد رمته سماء الله بالشُّهُبِ2
حدث عن الروم في أقطار أندلس
والبحر قد ملأ العِبْرَين بالعربِ3
فلما أتم القصيدة قال عبد المؤمن: بمثل هذا تمدح الخلفاء!
فسمى نفسه خليفة كما ترى...
وجد هذا الشاعر هو الشريف الطليق، طليق النَّعامة؛ وإنما سمي بذلك لأنه
كان محبوسًا في مُطْبِق أبي عامر محمد بن أبي عامر الملقب بالمنصور
القائم بدعوة هشام المؤيد، أقام في ذلك المحبس سنين، فكتب يومًا قصة
يذكر فيها ما آلت إليه حاله من ضيق الحبس وضنك4 العيش، فرفعت إلى ابن
أبي عامر؛ فأخذها في جملة رقاع ودخل إلى داره. فجاءت نعامة كانت هناك،
فجعل يلقي إليها الرقاع، فتبتلع شيئًا وتلقي شيئًا. فألقى إليها رقعة
هذا الشريف في جملة الرقاع وهو لم يقرأها، فأخذتها ثم دارت وألقتها في
حِجْره، فرمى بها إليها ثانية، فدارت القصر كله ثم جاءت وألقتها في
حجره، فرمى بها إليها ثالثة... وفعلت ذلك مرارًا؛ فتعجب من ذلك، وقرأ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الجنة: السُّترة، أو كل ما وقى من سلاح وغيره.
2- الشاهقة: العظيمة الارتفاع، يقال: شهق البناء والجبل ونحوهما
شهوقًا: عظم ارتفاعه.
3- العبران: جانبا النهر, أو شاطئاه.
4- الضنك: الضيق من كل شيء، قال تعالى:
{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} [طه: 124].
ص -159-
الرقعة، وأمر بإطلاقه؛ فسمي بذلك: طليق
النعامة!.
وأنشد في ذلك اليوم رجل من أهل إشبيلية يعرف بـ ابن سيد، ويلقب بـ
اللص: من البسيط
غمضْ عن الشمس واستقصر مدى زُحَلِ
وانظر إلى الجبل الراسي على جبلِ1
أنَّى استقر به، أنى استقل به
أنى رأى شخصه العالي فلم يزلِ
فقال له عبد المؤمن: لقد ثقلتنا يا رجل! فأمر به فأُجلس؛
وهذه القصيدة من خيار ما مدح به؛ لولا أنه كدَّر صفوها بهذه الفاتحة.
الرُّصافي الرفاء الشاعر*
وأنشده في ذلك اليوم الوزير الكاتب أبو عبد الله محمد بن غالب البلنسي
المعروف بالرصافي؛ كان مستوطنًا مدينة مالقة: من البسيط
لو جئتَ نار الهدى من جانب الطُّور
قَبَسْتَ ما شئت من علم ومن نورِ2
من كل زهراء لم ترفع ذؤابتها
ليلًا لسارٍ ولم تشبب لمقرُورِ3
فَيضِيَّة القَدْح من نور النبوة أو
نور الهداية تجلو ظلمة الزورِ4
ما زال يُقضمها التقوى بموقدها
صوَّام هاجرة, قوَّام ديجورِ5
حتى أضاءت من الإيمان عن قَبَس
قد كان تحت رماد الكفر مكفورِ6
نور طوى الله زَنْد الكون منه على
سَقْطٍ إلى زمن المهدى مذخورِ
وآيه كَإِياة الشمس بين يدي
غزو على الملك القيسي منذورِ7
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الراسي: الثابت، الراسخ.
* ترجمته في بغية الملتمس: 119؛ الأعلام: 324/6.
2- الطور: الجبل. قَبَس النار قبسًا: طلبها، أوقدها، وقبس العلم أو
النور: استفاده.
3- تُشبب: تُوقد. المقرور: الذي أصابه البرد.
4- فيضية: نسبة إلى الفيض، وهو الكثير الغزير. القدح: إخراج نار في
الزند بضرب ونحوه، يقال: قدح الزند، وبه: ضربه بحجره ليخرج النار منه،
تجلو: تكشف. الزور: الباطل.
5- قضم الشيء قضمًا: كسره بأطراف أسنانه. الهاجرة: وقت اشتداد الحر في
منتصف النهار. الديجور: الظلمة.
6- مكفور: مستور، مخبأ، مَخفيّ.
7- إياة الشمس: ضَوْءُها، شعاعها.
ص -160-
يا دارُ دارَ أمير المؤمنين بسفح الطَّـ
ـوْدِ طود الهدى،
بُوركتِ في الدورِ1
ذات العِمَادين من عز ومملكة
على الأساسين من قدس وتطهيرِ
ما كان بانيك بالواني الكرامة عن
قصر على مَجْمَع البحرين مقصورِ2
مواطئ من نبي طالما وصلتْ
فيها الخطا بين تسبيحٍ وتكبيرِ
حيث استقلت به نعلاه بُوركتا
فطيبت كل موطوء ومعبورِ3
وحيث قامت قناة الدين تَرْفُل في
لواء نصر على البَرَّين منشورِ4
في كف منشمر البُردَين ذي وَرَع
على التقى وصفاء النفس مفطورِ5
يلقاك في حال غيب من سريرته
بعالم القدس مشهود ومحضورِ6
تَسنَّم الفلك من سخط المرار وقد
تؤدين يا خير أفلاك العلا سيرِي7
فسرن يحملن أمر الله من مَلِك
بالله مستنصر في الله منصورِ
يُومي له بسجود كل محركة
منها، ويُوليه حمدًا كل تصريرِ8
لما تسابقن في بحر الزُّقاق به
تركن شطيه في شك وتحييرِ
أهز من موجه أثناء مسرور؟
أم خاض من لُجِّه أحشاءَ مذعورِ؟
كأنه سالك منه على وَشَلٍ
في الأرض من مُهَج الأسياف مقطورِ9
من السيوف التي ذابت لسَطْوته
وقد رمى نار هَيْجاها بتسعيرِ10
ذو المنشآت الجواري في أَجِرَّتها
شكل الغدائر في سَدْل وتضفيرِ11
أعدى المياه وأنفاس الرياح لها
ما في سجاياه من لين وتعطيرِ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الطود: الجبل العظيم.
2- الواني: الضعيف، البطيء، العاجز.
3- استقل: ارتفع، واستقل القوم: مَضَوْا وارتحلوا. موطوء: اسم مفعول
من: وطئ الشيء وطئًا: داسه. معبور: اسم مفعول من عبر الطريق: قطعه.
4- ترفل: تتبختر.
5- منشمر: اسم فاعل من شمَر الشيء: قَلَّصه وضم بعضه إلى بعض. مفطور:
مخلوق، مطبوع.
6- السريرة: ما يُكتَم ويُسَر في النفس. القدس: البركة، وقَدُس قدسًا:
طَهُرَ.
7- تسنم الشيء: اعتلاه.
8- يومي: يشير.
9- الوشل: الماء القليل يتحلب من جبل أو صخرة، ولا يتصل قطره.
10- السطوة: البطش والقهر. الهيجاء: الحرب.
11- المنشآت الجواري: السفن التي تجري في البحر. سدل الشعر سَدْلًا:
أرخاه وأرسله. ضَفَر الشعر وضَفَّره: نسج بعضه على بعض.
ص -161-
من كل عذراءَ حُبْلَى في ترائبها
رَدْعان من عنبر ورد وكافورِ1
نِجالها بين أيدٍ من مَجَاذفها
يغرَقْن في مثل ماء الورد من جُورِ2
وربما خاضت التيار طائرة
بمثل أجنحة الفُتْخ الكواسيرِ3
كأنما عبرت تختال عائمة
في زاخر من يَدَيْ يمناه معصورِ
حتى رمت جبل الفتحينِ من كَثَبٍ
بساطع من سناه غير مبهورِ4
لله ما جبل الفتحين من جبل
معظم القدر في الأجيال مذكورِ
من شامخ الأنف في سَحْنَائِه طَلَسٌ
له من الغيم جيب غير مزرورِ5
معبرًا بذُراه عن ذُرا ملك
مستمطر الكف والأكناف ممطورِ6
تمسي النجوم على إكليل مَفْرِقه
في الجو حائمة مثل الدنانيرِ
وربما مسحَتْه من ذوائبها
بكل فضل على فَوْدَيْه مجرورِ7
وأَدْرَدٍ من ثناياه بما أخذتْ
منه مقاحم أعواد الدهاريرِ8
مُحَنَّكٍ حَلَبَ الأيام أشطرَها
وساقها سوق حادي العير للعيرِ9
مقيد الخطو جَوَّال الخواطر في
عجيب أمريه من ماضٍ ومنظورِ
قد واصل الصمت, والإطراق مفتكرًا
بادي السكينة, مُغْبَرّ الأساريرِ
كأنه مُكْمَد مما تعبده
خوف الوعيدين من دَكّ وتسييرِ10
أَخلِقْ به وجبال الأرض راجفة
أن يطمئن غدًا من كل محذورِ
كفاه فضلًا أن انتابت مواطئه
نعلَا مليكٍ كريم السعْي مشكورِ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الترائب: عظام الصدر مما يلي الترقوتين: موضع القلادة. الردع:
الزعفران.
2- النجال: جمع النجل: الماء المستنقع.
3- الفتخ: جمع الفتخاء: العُقاب اللينة الجناحين.
4- من كثبٍ: من قُرْبٍ. السنا: البريق واللمعان. مبهور: اسم مفعول من:
بهر الشيء فلانًا: أدهشه وحيره.
5- الشامخ: المرتفع. السحناء: اللون, الهيئة. الطلس: الغُبْرَة إلى
السواد. مزرور: اسم مفعول من: زرَّر الشيء: جمعه جمعًا شديدًا.
6- الذروة: القمة، وذروة كل شيء: أعلاه. الأكناف: النواحي.
7- الفَوْدَانِ: جانبا الرأس.
8- الأدرد: الذي سقطت جميع أسنانه. الدهارير: أول الدهر في الزمان
الماضي، ويقال: دهر دهارير: شديد. والدهارير أيضًا: تصاريف الدهر
ونوائبه.
9- حلب الأيام أشطرها: جَرَّب أمورها: خيرها وشرها.
10- مكمد: من كَمِد الرجل: كتم حزنه، أو حزن حزنًا شديدًا. الدك: الدق؛
الدَّفْع.
ص -162-
مستنشيًا بهما ريح الشفاعة من
ثَرَى إمام بأقصى الغرب مقبورِ
ما انفك آمِل أمر منه بين يدي
يوم القيامة محتوم ومقدورِ
حتى تصدى من الدنيا على رَمَق
يستنجز الوعد قبل النفخ في الصورِ1
مستقبل الجانب الغربي مرتقبًا
كأنه باهت في جو أسميرِ2
لبارق من حسام سله قدر
بالغرب من أفق البيض المشاهيرِ
إذا تألق قيسيًّا أهاب به
إلى شَفًا من مضاع الدين مَوْتورِ3
ملك أتى عِظَمًا فوق الزمان فما
يمر فيه بشيء غير محقورِ
ما عَنَّ في الدين والدنيا له أََرَبٌ
إلا تأتَّى له من غير تعذيرِ4
ولا رمى من أمانيه إلى غرض
إلا هدى سهمَهُ نُجْحُ المقاديرِ5
حتى كأن له في كل آونة
سلطان رِقٍّ على الدنيا وتسخيرِ6
مميَّز الجيش، ملتفًّا مواكبه
من كل مَثْلُول عرش الملك مقهورِ7
من الأُلى خضعوا قسرًا له وعنوْا
لأمره بين منهيٍّ ومأمورِ8
من بعدِ ما عاندوا أمرًا فما تركوا
إذ أمكن العفو ميسورًا لمعسورِ
بقية الحرب، فاتوها وما بهم
في الضرب والطعن سِيمَاءٌ لتقصيرِ9
لا ينكر القوم مما في أكفهم
بيض مَفَاليل أو سُمْرٌ مكاسيرِ10
إذا صدعتَ بأمر الله مجتهدًا
ضربتَ وحدك أعناق الجماهيرِ11
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الرمق: بقية الروح. قبل النفخ في الصور: قبل يوم القيامة.
2- الباهت: الشاحب، المتغير اللون. في جو أسمير: لم يتبين لنا معناها.
3- الشفا: الحرف. قال تعالى:
{وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ
النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا}
[آل عمران: 103]. الموتور "في الأصل": الذي قُتل حميمه.
4- عن: بان وظهر، وعن له الشيء: عرض بباله. الأرب: الحاجة.
5- الغرض: الهدف الذي يُرمى إليه. النجح: الظَّفَر. المقادير: الأقدار.
6- الرق: العبودية. التسخير: أن يُكلِّف الإنسان غيره عملًا بلا أجر،
أو أن يقهره ويكلفه ما لا يريد.
7- المثلول: من ثَلَّ الدار ثَلاًّ: هدمها، أو ثل فلان ثلَلاً: هلك.
8- قسر فلانًا قسرًا: قهره على كره. عنوا: خضعوا وذلوا.
9- السيماء: العلامة.
10- البيض: السيوف. المفاليل: من: انفل السيف: انكسر, أو انثلم حده.
السُّمر: الرماح.
11- صدع بالأمر: بينه وجهر به، قال تعالى:
{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر: 94].
ص -163-
لا يذهبن لتقليل أخو سببٍ
من الأمور، ولا يركن لتكثيرِ1
فالبحر قد عاد من ضرب العصا يَبَسًا
والأرض قد غرِقَتْ من فَوْر تنورِ2
وإنما هو سيف الله قلده
أقوى الهداة يدًا في دفع محذورِ3
فإن يكن بيد المهدي قائمه
فموضع الحد منه حد مشهورِ
والشمس إن ذكرت موسى فما نَسِيَتْ
فتاه يُوشَعَ قمَّاع الجبابيرِ4
وكان الرصافي يوم أنشد هذه القصيدة لم تكمل له عشرون سنة.
وهو من مجيدي شعراء عصره، لا سيما في المقاطيع, كالخمسة الأبيات فما
دونها. وقد رويتُ شعره عن جماعة ممن لقوه، وقد رأيت أن أورد منه هاهنا
نبذة يسيرة تدل على ما وصفناه به، فمن ذلك قوله يصف نهر إشبيلية
الأعظم، وهو نهر لا نظيرَ له في الدنيا: من الكامل
ومُهدَّل الشَّطَّيْنِ تحسَب أنه
متسايل من درة لصفائهِ5
فاءت عليه مع الهجيرة سَرْحَة
صَدِئت لفَيْئَتها صفيحة مائهِ6
فتراه أزرق في غِلالَة سُمْرة
كالدَّارع استلقى بظل لوائهِ7
وله, وقد اجتمع مع إخوان له في بعض العَشَايا, في بستان رجل
يقال له: موسى بن رزق: من الكامل
ما مثلُ موضعك ابنَ رزقٍ موضعُ
روض يرق وجدول يتدفعُ
فكأنما هو من محاجر غادة
فالحسن ينبت في ثَرَاه وينبُعُ8
وعشيةٍ لبست رداء شُحُوبها
والجو بالغيم الدقيق مقنَّعُ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- ركن إليه رَكْنًا وركُونًا: مال إليه وسكن، أو اعتمد عليه.
2- التنور: وجه الأرض، ويقال: كل مَفْجَر ماء تنور، قال تعالى:
{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ}
[هود: 4].
3- قلده السيف: ألقى حمالته في عنقه. المحذور: ما يُتقى ويحترز منه.
4- القماع: الكثير القمع، وقد قمع فلانًا قمعًا: قهره وذلَّله.
الجبابير: الطغاة، الظالمون، المتسلطون.
5- تهدَّل الشيء: تدلَّى أو استرخى.
6- فاءت: رجعت. الهجيرة: الهاجرة: نصف النهار عند اشتداد الحر.
السَّرْحة: واحدة السَّرْح: الماشية.
7- الغلالة: ثوب رقيق يلبس تحت الدثار. الدارع: لابس الدرع.
8- المحاجر: العيون، أو ما يُحيط بها. الغادة: الفتاة الناعمة الشابة.
ص -164-
بلغت بنا أمد السرور تألفًا
والليل نحو فراقنا
يتطلعُ1
فابلُلْ بها رمق من الغَبُوق فقد أتى
من دون قرص الشمس ما يُتوقَّعُ2
سقطت فلم يملك نديمك ردها
فوددت يا موسى لو انك يوشعُ3
وله يصف عشية أيضًا في موضع هذا الرجل المتقدم الذكر: من
الطويل
محل ابن رزق جر فيه ذُيُوله
من المُزْن ساقٍ يُحسن الجَرَّ والسقيَا4
ذكرت عشيًّا فيك -لا ذُم عهده-
وإن نحن لم نَهْتَع ببهجته لُقْيَا5
ولم يعتلق بي منك عند افتراقنا
سوى عَبَقٍ من مسك قُبْلتك اللَّمْيَا6
وكنت أُراني في الكَرى وكأنني
أناول كالدينار من ذهب الدنيَا
فلما انطوى ذاك الأصيل وحسنُهُ
على ساعة من أنسنا، صحت الرؤيَا
وله يصف دولابًا: من مخلع البسيط
وذي حنينٍ يكاد شوقًا
يختلس الأنفس اختلاسَا7
لما غدا للرياض جارًا
قال له المَحْل لا مِساسَا8
يبتسم الروض حين يبكي
بأدمع ما رأيْنَ باسَا9
من كل جفن يسُلُّ سيفًا
صار له غمده رئاسَا10
وله وقد رأى صبيًّا يتباكى ويجعل من ريقه على عينيه، يحكي
بذلك الدموع:
من الطويل
عذيريَ من جَذْلانَ يبدي كآبة
وأضلعه مما يحاوله صِفْرُ11
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- التألف: التجمع، أو الأنس والمحبة، يقال: ألفه إلفًا وإلافًا: أنس
به وأحبه، وألَّف بينهما: جمع.
2- الغبوق: شراب العشي.
3- النديم: الصاحب على الشراب.
4- المزن: جمع المزنة: السحابة الماطرة.
5- هَتَع الرجل: أقبل مسرعًا.
6- اعتلق الشيء بالشيء: نَشِب فيه واستمسك به. اللميا: اللمياء: الشفة
فيها سمرة، يقال: لميتْ الشفة: اسمرت، وقد استعار الشاعر هذه الصفة
للقبلة.
7- اختلس الشيء: أخذه, أو استلبه في نُهْزَة.
8- المحل: الجدب، القحط.
9- الباس: البأس: الشدة أو المشقة.
10- رئاس السيف: مقبضه أو قائمه.
11- الجذلان: المسرور. الصفر: الخالي.
ص -165-
أُمَيْلد ميَّاس إذا قاده الصِّبا
إلى مُلَح الإدلال أيده السحرُ1
يبل مآقي زهرتيه بريقه
ويحكى البُكا عمدًا كما ابتسم
الزهرُ
ويوهم أن الدمع بَلَّ جفونه
وهل عُصرت يومًا من النرجس الخمرُ؟
وقال يصف نائمًا قد تحبب العرق على خده: من الكامل
ومهفهفٍ كالغصن إلا أنه
سل التثني النوم عن أثنائهِ2
أضحى ينام وقد تحبب خده
عرقًا فقلت: الورد رُشَّ بمائهِ3
وللرصافي هذا افتنان في الآداب. وكان -رحمه
الله- عفيف الطُّعْمة, نزيه النفس، لا يحب أن يشتهر بالشعر مع إجادته
في كثير منه.
وصل الحديث عن عبد المؤمن بن
علي
وأقام عبد المؤمن بجبل الفتح، مرتبًا للأمور، ممهدًا للمملكة؛ وأعيان
البلاد يفدون عليه في كل يوم، إلى أن تم له ما أراد من إصلاح ما استولى
عليه من جزيرة الأندلس.
فولى مدينة إشبيلية وأعمالها ابنه يوسف، وهو الذي ولي الأمور بعده على
ما سيأتي بيانه؛ وترك معه بها من أشياخ الموحدين وذوي الرأي والتحصيل
منهم من يرجع إليه في أموره، ويعوِّل عليه فيما ينويه.
وولى قرطبة وأعمالها أبا حفص عمر إينتي.
وولى أغرناطة وأعمالها ابنه عثمان بن عبد المؤمن، يكنى أبا سعيد، وكان
من نبهاء أولاده ونجبائهم وذوي الصرامة منهم. وكان محبًّا للآداب،
مؤثرًا لأهلها، يهتز للشعر ويُثيب عليه. اجتمع له من وجوه الشعراء
وأعيان الكتاب عصابة ما علمتها اجتمعت لملك منهم بعده.
ثم كر عبد المؤمن راجعًا إلى مراكش، بعد ما ملأ ما ملكه من أقطار جزيرة
الأندلس خيلا ورجالا من المصامدة والعرب وغيرهم من أصناف الجند.
منازل العرب الهلالية في
المغرب والأندلس
وقد كان حين أراد العبور إلى جزيرة الأندلس، استنفر أهل المغرب عامة؛
فكان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- أميلد: تصغير أملد: ناعم لين من الناس والغصون. مياس: مبالغة من:
ماس مَيْسًا ومَيَسانًا: تبختر واختال.
2- المهفهف: الضامر البطن، الدقيق الخصر.
3- تحبَّب خده: ظهر عليه حَبَاب العرق. والحباب: الفقاقيع التي تظهر
على وجه الماء.
ص -166-
فيمن استنفره العرب الذين كانوا ببلاد يحيى
بن العزيز، وهم قبائل من هلال بن عامر، خرجوا إلى البلاد حين خلى بنو
عبيد بينهم وبين الطريق إلى المغرب؛ فعاثوا في القيروان عيثًا1 شديدًا
أوجب خرابها إلى اليوم، ودوخوا مملكة بني زيري بن مَنَاد، وهذا بعد موت
المعز بن باديس2؛ فانتقل تميم إلى المهدية. وسار هؤلاء العرب حتى نزلوا
على المنصور بن المنتصر؛ فصالحهم على أن يجعل لهم نصف غلة البلاد، من
تمرها وبُرِّها3 وغير ذلك. فأقاموا على ذلك باقي أيامه، وأيام ابنه
الملقب بالعزيز، وأيام يحيى، إلى أن ملك البلاد أبو محمد عبد المؤمن
-رحمه الله-، فأزال ذلك من أيديهم، وصيرهم جندًا له، وأقطع رؤساءهم بعض
تلك البلاد.
فكتب إليهم رسالة يستنفرهم إلى الغزو بجزيرة الأندلس، وأمر أن تُكتب في
آخرها أبيات قالها -رحمه الله- في ذلك المعني، وهي: من الطويل
أقيموا إلى العلياء هُوج الرَّواحل
وقودوا إلى الهيجاء جُرْد الصواهلِ4
وقوموا لنصر الدين قَوْمة ثائرٍ
وشُدوا على الأعداء شدة صائلِ5
فما العز إلا ظهر أجردَ سابحٍ
يفوت الصَّبا في شده المتواصلِ6
وأبيض مأثور كأن فِرِنْده
على الماء منسوج, وليس بسائلِ7
بني العم من عُليا هلال بن عامر
وما جمعت من باسلٍ وابن باسلِ8
تعالوا فقد شُدت إلى الغزو نيةٌ
عواقبها منصورة بالأوائلِ
هي الغزوة الغراء والموعد الذي
تَنَجَّزَ من بعد المدى المتطاولِ
بها تُفتح الدنيا، بها تُبلغ المُنَى
بها يُنصف التحقيق من كل باطلِ
أهبنا بكم للخير, والله حسبُنا
وحسبكمو, والله أعدل عادلِ
فما همنا إلا صلاح جميعكم
وتسريحكم في ظل أخضرَ هاطلِ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- عاث عيثًا، وعيثانًا: أفسد.
2- هو المعز بن باديس بن المنصور الصنهاجي: من ملوك الدولة الصنهاجية
بإفريقية. توفي في المهدية سنة 454هـ/ 1062م. "الأعلام، الزركلي:
270/7".
3- البر: حب القمح.
4- الرواحل: جمع الراحلة: الصالح للأسفار والأحمال من الإبل. الصواهل:
الجياد.
5- الصائل: اسم فاعل من صال عليه صولًا وصولانًا: سطا عليه ليقهره.
6- الأجرد: الفرس السَّبَّاق، أو القصير الشعر. السابح: الفرس الذي يمد
يديه في الجري.
7- الأبيض: السيف. فرند السيف: ما يُلمح في صفحته من أثر تموج الضوء.
8- الباسل: الشديد، الجريء.
ص -167-
وتسويغكم نُعمَى ترف ظلالها
عليكم بخير عاجل غير آجلِ1
فلا تتوانوْا فالبِدَار غنيمة
وللمدلج الساري صفاء المناهلِ2
فاستجاب له منهم جمع ضخم؛ فلما أراد الانفصال عن
الجزيرة رتبهم فيها، فجعل بعضهم في نواحي قرطبة، وبعضهم في نواحي
إشبيلية مما يلي مدينة شَرِيش وأعمالها؛ فهم بها باقون إلى وقتنا هذا
-وهو سنة 621-, وقد انتشر من نسلهم بتلك المواضع خلق كثير. وزاد فيهم
أبو يعقوب، وأبو يوسف، حتى كثروا هناك؛ فبالجزيرة اليوم من العرب من
زُغبة وريح وجشم بن بكر وغيرهم نحو من خمسة آلاف فارس سوى الرَّجَّالة.
وكان عبور عبد المؤمن -رحمه الله- إلى الجزيرة ونزوله بجبل الفتح في
سنة 538، ثم كر -كما ذكرنا- راجعًا إلى مراكش؛ فأخبرني غير واحد ممن
أرضى نقلَهُ، أنه لما نزل مدينة سلا -وهي مدينة على البحر الأعظم
المحيط، ينصب إليها نهر عظيم يصب في البحر المذكور- عبر النهر، وضُربت
له خيمة على الشاطئ؛ وجعلت العساكر تعبر قبيلة بعد قبيلة؛ فلما نظر إلى
كثرة العدد وانتشار العالم، خر ساجدًا، ثم رفع رأسه وقد بل الدمع
لحيته؛ والتفت إلى من عنده وقال: أعرف ثلاثة أشخاص وردوا هذه المدينة
لا شيء لهم إلا رغيف واحد، فراموا عبور هذا النهر، فأتوا صاحب القارب
وبذلوا له الرغيف على أن يعبروا ثلاثتهم فقال: لا آخذه إلا على اثنين
خاصة؛ فقال لهم أحدهم -وكان شابًّا جلدًا-: خذا ثيابي معكما وأعبر أنا
سباحةً! فأخذا ثيابه معهما، وصعدا في القارب؛ فجعل الشاب يسبح، فكلما
أعيا دنا من القارب ووضع يديه عليه ليستريح، فضربه صاحبه بالمجداف الذي
معه حتى يؤلمه؛ فما بلغ البر إلا بعد جهدٍ شديدٍ!.
فما شك السامعون للحكاية أنه العابر سباحة، وأن الاثنين المذكورين هما
ابن تومرت, وعبد الواحد الشرقي.
ثم سار حتى أتى مراكش، فنزلها، وأخذ في البناء والغِراسة3 وترتيب
القصور، غير مخلٍّ بشيء مما تحتاج إليه المملكة من السياسة وتدبير
الأمور وبسط العدل والتحبب إلى الرعية وإخافة من تجب إخافته.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- سوَّغ الشيء تسويغًا: جعله سائغًا: طيبًا، هنيئًا سهل الابتلاع،
وسوغ الأمر: جوزه وأباحه.
2- توانى: قصَّر وفتر وأبطأ. البدار: الإسراع، يقال: بادر إليه مبادرة
وبدارًا: أسرع، وبادر فلانًا الغاية وإليها: سبقه إليها. المدلج
الساري: السائر ليلًا. المناهل: المشارب.
3- الغراسة: زراعة الأشجار.
ص -168-
وأخبرني السيد حقيقة والماجد1 خلقًا
وخليقة، أبو زكريا يحيى ابن الإمام أمير المؤمنين أبي يعقوب ابن الإمام
أمير المؤمنين أبي محمد عبد المؤمن بن علي: أنه رأى على ظهر كتاب
الحماسة بخط الخليفة عبد المؤمن هذين البيتين، وقال لي رحمه الله: لا
أدري هما له أو لغيره: من البسيط
وحَكِّمِ السيفَ لا تعبأ بعاقبة
وخلها سيرة تبقى على الحِقَبِ2
فما تنال بغير السيف منزلة
ولا ترد صدور الخيل بالكتبِ
وقد كان عبد المؤمن حين فصل عن بجاية وولى عليها ابنه عبد
الله -حسبما تقدم- عهد إليه أن يشن الغارات على نواحي إفريقية، وأن
يضيق على تونس ويمنع عنها المرافق التي تصل إليها على طريقه؛ ففعل ذلك.
غزو الموحدين لإفريقية
ثم إن عبد الله تجهز في جيش عظيم من المصامدة والعرب وغيرهم، وسار
حتى نزل على مدينة تونس، وهي حاضرة إفريقية بعد القيروان، وكرسي
مملكتها، ومقر تدبيرها، وإياها يستوطن والي إفريقية، لم يزل هذا
معروفًا من أمرها إلى وقتنا هذا -وهو سنة 621- فحاصرها عبد الله
المذكور، وأخذ في قطع أشجارها وتغوير مياهها3, وكان الذي يملكها في ذلك
الوقت لوجار بن لوجار المعروف بابن الدوقة الرومي صاحب صقلية -لعنه
الله-, وكان عاملَهُ عليها رجلٌ من المسلمين اسمه عبد الله؛ يعرف بابن
خراسان؛ لم يزل عاملا عليها حتى أخرجه الموحدون في التاريخ الذي سيذكر.
فلما طال على ابن خراسان الحصار، أجمع رأيه ورأي أهل البلد من الجند
على الخروج لقتال المصامدة، ففعلوا ذلك، وخرجوا بخيل ضخمة، فالتقوا هم
وأصحاب عبد الله فانهزم أصحاب عبد الله، وقتل منهم خلق كثير. ورجع عبد
الله ببقية أصحابه إلى بجاية إلى بجاية, فكتب إلى أبيه يخبره بذلك.
فتح المهدية واسترجاعها من
يد الصقليين
فلما كان في آخر سنة 553 أخذ عبد المؤمن في الحركة إلى إفريقية،
فجمع جموعًا عظيمة من المصامدة وغيرهم من جند المغرب، وسار حتى نزل على
مدينة تونس، فافتتحها عَنْوة؛ وفصل عنها إلى مهدية بني عبيد؛ وفيها
الروم أصحاب ابن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الماجد: الشريف الخير.
2- الحقب: الدهور.
3- غوَّر الماء: جعله يغور في الأرض: يذهب فيها ويسفل، فلا يستطاع
الانتفاع به.
ص -169-
الدوقة، وفيها معهم يحيى بن حسن بن تميم بن
المعز بن باديس بن المنصور بن بُلُجِّين بن زيري بن مَنَاد الصنهاجي،
ملوك القيروان؛ فنزل عبد المؤمن عليها فحاصرها أشد الحصار، وهي من
معاقل المغرب المنيعة؛ لأن بنيانها في غاية الإحكام والوَثَاقة1؛ بلغني
أن عرض حائط سورها ممشى ستة أفراس في صف واحد، ولا طريق لها من البر
إلا على باب واحد، والبحر في قبضة من في البلد: يدخل الشيني كما هو
بمقاتلته إلى داخل دار الصناعة، لا يقدر أحد ممن في البر على منعه؛
فبهذا قدر الروم على الصبر على الحصار؛ لأن النجدة كانت تأتيهم من
صقلية في كل وقت. وأقام عبد المؤمن وأصحابه عليها سبعة أشهر إلا
أيامًا، وأصابتهم عليها شدة شديدة من غلاء السعر؛ بلغني عن غير واحد
أنهم اشتروا الباقلاء في العسكر، سبع باقلات بدرهم مُؤمِنيّ، وهو نصف
درهم النصاب. ثم اقتتحها عبد المؤمن -رحمه الله- بعد أن أمن النصارى
الذين بها على أنفسهم، على أن يخرجوا له عن البلد، ويلحقوا بصقلية
بلدهم حيث مملكة صاحبهم؛ ففعلوا ذلك، ودخل عبد المؤمن وأصحابه المهدية
فملكوها.
وبعث إلى قابس من افتتحها، وفيها الروم أيضًا.
امتداد مملكة الموحدين إلى
الشرق
ثم افتتح طرابلس المغرب، وأرسل إلى بلاد الجريد، وهي تَوْزَر، وقَفْصة،
ونَفْطَة، والحامَّة، وما والى هذه البلاد؛ فافتُتحت كلها، وأخرج
الإفرنج منها وألحقهم ببلادهم كما تقدم. فمحا الله به الكفر من
إفريقية، وقطع عنها طمع العدو؛ فانتبه2 بها الدين بعد خموله، وأضاء
كوكب الإيمان بعد انطماسه وأُفُوله3.
وتم لعبد المؤمن -رحمه الله- ملك إفريقية كلها منتظمًا إلى مملكة
المغرب، فملك في حياته من طرابلس المغرب إلى سوس الأقصى من بلاد
المصامدة وأكثر جزيرة الأندلس؛ وهذه مملكة لم أعلمها انتظمت لأحد قبله
منذ اختلت دولة بني أمية إلى وقته.
ألوان من شكر النعمة
ثم كر عبد المؤمن راجعًا من إفريقية، بعد ما استولى على بلادها ودان له
أهلها4؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الوثاقة: يقال: وثُق الشيء وثاقةً: قوي, وثبت وصار محكمًا.
2- انتبه: نَبُه: شَرُف وعلا ذكره.
3- الأفول: الغياب.
4- دان له أهلها: خضعوا.
ص -170-
فأخبرني بعض أشياخ الموحدين من ذوي التحصيل
منهم والثقة، أن عبد المؤمن مر في طريقه راجعًا من إفريقية ببجاية؛
فدخل البلد متنزهًا فيه، فمر بسُوَيْقة1 بناحية باب من أبوابها يدعى
باب تاطُنْت؛ فوقف ووقفت معه وجوه دولته؛ فسأل عن بياع بها سماه باسمه؛
فأخبره أهل السويقة بوفاته، فقال: هل خلف عقبًا؟ قالوا: نعم؛ فأمر
بشراء جميع الدكاكين التي بتلك السويقة وأوقفها عليهم، وأمر لهم بمال
كثير. ثم التفت إلى بعض خواصه وقال له: أتيت إلى هذا البياع ولي
وللإمام -يعني: ابن تومرت- ولجماعة من أصحابنا من الطلبة أيام لم نطعم
فيها، وما معي إلا سكين الدواة؛ فأخذت منه خبزًا وإدامًا، ثم وضعت عنده
السكين رهنًا على ذلك، فأبى قبولها وقال لي: إني توسمتُ فيك الخير؛
فمتى أعوزك شيء فهلم الدكان فهو بين يديك وبحكمك! فحقه علي أكثر من
هذا.
ونظر في هذا اليوم الذي ركب فيه مخترقًا بجاية إلى يحيى بن العزيز يمشي
بين يديه راجلا وقد علاه الغبار، فدمعت عيناه، واستدعاه فقال له: أتذكر
يومًا خرجت إلى بعض منتزهاتك، فأذكر أني جمعني وإياك هذا الباب، فوطئت
دابتك عقبي، فلما نظرتُ إليك أمرتَ بعض عبيدك فوكزني وكزة2 كدت أقع
منها لفِيَّ! فاستحيا يحيى وتغير لونه وأطرق، وجعل يقول: الله الله يا
مولاي! وظن أنه الشر؛ فلما رأى ذلك منه قال له: إنما ذكرت لك ذلك على
طريق الاعتبار؛ ولتذكر وتنظر كيف تقلب الأيام بأهلها! وأمر له بما زال
به رَوْعُهُ3.
ومر في طريقه هذا ما بين البطحاء وتلمسان بموضع قد التف فيه الدَّوْح،
فجاءت منه دوحة4 في وسطها رحبة5 نقية؛ فأمر أن يضرب خباؤه هنالك؛ وهو
غير منزل معروف. فلما نزل ونزلت العساكر واستقر بهم النزول، قال لبعض
خواصه: أتدرون لِمَ آثرت النزول بهذا المكان؟ قالوا: لا؛ قال: ذلك لأني
بت بهذا الموضع في بعض الليالي جائعًا مقرورًا6، وكانت ليلة ممطورة؛
فما زال هذا الدوح وقائي حتى أصبحت؛ فأردت النزول هنا على هذه الحالة
لأشكر الله سبحانه على الفرق ما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- السويقة: السوق الصغيرة.
2- وَكَزَ فلانًا: دفعه وضربه، أو ضربه بجمع يده على ذقنه، قال تعالى: {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} [القصص: 15]. ومنه: وكز فلانًا بالرمح: طعنه به.
3- الروع: الخوف والفزع.
4- الدوحة: الشجرة العظيمة المتشعبة, ذات الفروع الممتدة.
5- الرحبة: الأرض الواسعة، ورحبة المكان: ساحته ومتسعه.
6- المقرور: الذي أصابه البرد.
ص -171-
بين المنزلتين والفصل ما بين المبيتين! ثم
قام فتوضأ وصلى ركعتين شكرًا لله عز وجل. وجدت هذه الحكاية بخط رجل من
ولد ولد عبد المؤمن؛ من اسمه موسى بن يوسف بن عبد المؤمن.
وبدا له في هذا الوجه أن يمر على القرية التي تسمي تاجرا -وبها كان
مولده كما تقدم- لزيارة قبر أمه وصلة من هناك من ذوي رحمه؛ فلما أطل
عليها والجيوش قد انتشرت بين يديه وقد خفقت على رأسه أكثر من ثلاثمائة
راية ما بين بنود وألوية، وهزت أكثر من مائتي طبل -وطبولهم في نهاية
الكبر وغاية الضخامة، يخيل لسامعها إذا ضربت أن الأرض من تحته تهتز
ويحس قلبه يكاد يتصدع من شدة دَوِيِّها- فخرج أهل القرية للقائه
والتسليم عليه بالخلافة؛ فقالت امرأة عجوز من عجائز القرية، ممن كانت
تصحب أمه: هكذا يعود الغريب إلى بلده! تقول ذلك رافعة صوتها...
وفاء وفداء
ونازع عبدَ المؤمن الأمرَ قومٌ من قرابة ابن عبد الله يعرفون بأيِت
ومَغار -معناه بالعربية: بنو ابن الشيخ- وانتهوا في ذلك إلى أن أجمع
رأيهم ورأي من وافقهم على سوء صنيعهم على أن يدخلوا على عبد المؤمن
خباءه ليلا فيقتلوه؛ وظنوا أن ذلك يخفى من أمرهم، وأن عبد المؤمن إذا
فُقد ولم يُعلم من قتله صار الأمر إليهم؛ لأنهم أحق به؛ إذ كانوا أهل
الإمام وقرابته وأولى الناس به، فأعلم بما أرادوه من ذلك رجل من أصحاب
ابن تومرت، من خيارهم، اسمه إسماعيل بن يحيى الهزرجي؛ فأتى عبد المؤمن
فقال له: يا أمير المؤمنين، لي إليك حاجة! قال: وما هي يا أبا إبراهيم؟
فجميع حوائجك عندنا مقضية! قال: أن تخرج عن هذا الخباء وتدعني أبيت
فيه! ولم يعلمه بمراد القوم؛ فظن عبد المؤمن أنه إنما يستوهبه الخباء؛
لأنه أعجبه, فخرج عنه وتركه له؛ فبات فيه إسماعيل المذكور؛ فدخل عليه
أولئك القوم فتولوه بالحديد حتى برد. فلما أصبحوا ورأوا أنهم لم يصيبوا
عبد المؤمن؛ فروا بأنفسهم حتى أتوا مراكش وراموا القيام بها؛ فأتوا
البوابين الذين على القصور فطلبوا منهم المفاتيح، فأبوا عليهم؛ فضربوا
عنق أحدهم وفر باقيهم؛ وكادوا يغلبون على تلك القصور. ثم إن الناس
اجتمعوا عليهم، من الجند وخاصة العبيد، فقاتلوهم قتالا شديدًا من لدن
طلوع الفجر إلى طلوع الشمس. ثم إن العبيد غلبوهم على أمرهم؛ ولم يزل
الناس يتكاثرون عليهم إلى أن أُخذوا قبضًا باليد, فقُيدوا وجُعلوا في
السجن إلى أن وصل أبو محمد
ص -172-
عبد المؤمن -رحمه الله- إلى مراكش؛ فقتلهم
صبرًا، وقتل معهم جماعة من أعيان هرغة، بلغه أنهم قادحون1 في ملكه,
متربصون به.
ولما أصبح أبو إبراهيم إسماعيل المتقدم الذكر في الخباء مقتولا على
الحال التي ذكرنا، أعظم ذلك عبد المؤمن ووجد2 عليه وجدًا مفرطًا أخرجه
عن حد التماسك إلى حيز الجزع، فأمر بغسله وتكفينه، وصلى عليه بنفسه،
ودُفن.
ولم يترك إسماعيل هذا من الولد سوى ولد واحد ذكر، اسمه يحيى. نال يحيى
هذا في أيام أبي يوسف يعقوب جاهاً متسعاً ورتبة عالية، وكذلك في أيام
أبي عبد الله محمد؛ كانت أكثر أمورهم ترجع إليه؛ لم يزل كذلك إلى أن
مات في شهور سنة 602 وترك بنتًا واحدة، تزوجها أمير المؤمنين أبو يعقوب
يوسف بن عبد المؤمن، اسمها فاطمة، لا عقب له منها؛ طال عمرها، تركتها
بالحياة حين فصلتُ عن مراكش في شهور سنة 611.
ولإسماعيل هذا مع ابن تومرت خبر يقرب مما قدمنا في النصح والتحذير،
تلطف فيه إسماعيل غاية التلطف؛ وذلك أن ابن تومرت حين خرج من مراكش على
الحال التي تقدمت من إخراج أمير المسلمين إياه عنها، سار حتى نزل
الضيعة التي فيها أبو إبراهيم؛ فدخل المسجد، فاجتمع أهل الضيعة على باب
المسجد ينظرون إلى ابن تومرت ويقول بعضهم لبعض همسًا: هذا الذي نفاه
أمير المسلمين عن بلاده لإفساده عقول الناس؛ ونحو هذا القول؛ وهموا
بقتله تقربًا بذلك إلى أمير المسلمين. فلما رأى ذلك أبو إبراهيم من
أمرهم، تقدم إلى ابن تومرت فسأله عن إعراب هذه الآية:
{إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي
لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} [القصص: 20]. ففهم ابن تومرت
ما أراد، وخرج عن تلك الضيعة، وعرف لأبي إبراهيم نصحه؛ ثم لحق به أبو
إبراهيم هذا بعد ما اشتهر أمره بـ تينمل؛ فهو معدود في أهل الجماعة.
ولما قتل عبد المؤمن أولئك القوم الذين قدمنا ذكرهم صبرًا، هابه
المصامدة وسائر أهل دولته، وعظم أمره في صدورهم.
وأقام عبد المؤمن بمراكش بقية سنة 55 وسنة 6 وسنة 7 وفي أول سنة 58 خرج
أمره إلى الناس كافة بالغزو إلى بلاد الروم من جزيرة الأندلس. وكُتبت
عنه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- قدح فيه: عابه.
2- وجد عليه وجْدًا: حزن.
ص -173-
الكتب إلى سائر الجهات يستنفر الناس ويحضهم
على الجهاد ويرغبهم فيه، فاجتمعت له جموع عظيمة. وخرج يقصد جزيرة
الأندلس مظهرًا للغزو والاحتساب، ويتمم أيضًا مع ذلك ما بقي عليه من
مملكتها مما بيد محمد بن سعد المتقدم الذكر. فسار بالجيوش حتى نزل
مدينة سلا، فأقام بها ينتظر تكامل العساكر، فاعتل علته التي مات منها
-رحمه الله-.
وفاة عبد المؤمن وعهده لولده
وكانت وفاته -كما تقدم- في السابع والعشرين من جمادى الآخرة من هذه
السنة، أعني: سنة 58.
وكان قد عهد في حياته إلى أكبر أولاده محمد، وبايعه الناس، وكتب ببيعته
إلى البلاد؛ فأبى تمام هذا الأمر لمحمد هذا ما كان عليه من أمور لا
تصلح معها الخلافة، من إدمان شرب الخمر، واختلال الرأي، وكثرة الطيش،
وجبن النفس. ويقال: إنه مع هذا كان به ضَرْبٌ من الجُذام1، فالله أعلم.
ولما مات عبد المؤمن، اضطرب أمر محمد هذا واخْتُلف عليه اختلافًا
كثيرًا؛ فكانت ولايته إلى أن خلع خمسة وأربعين يومًا، واتفقوا على خلعه
في شعبان من هذه السنة. وكان الذي سعى في خلعه -مع ما قدمنا من
استحقاقه لذلك- أخواه يوسف, وعمر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الجذام: علة تتأكل منها الأعضاء وتتساقط. |