المعجب في تلخيص أخبار المغرب

ص -192-    ذكر ولاية أبي يوسف يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن*
هو يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن بن علي كما ذكرنا، يكنى أبا يوسف، أمه أم ولد رومية اسمها: ساحر. بويع له في حياة أبيه بأمره بذلك. وكانت سنه يوم صار إليه الأمر اثنتين وثلاثين سنة؛ فكانت مدة ولايته منذ وفاة أبيه إلى أن توفي في شهر صفر الكائن في سنة 595، ست عشرة سنة وثمانية أشهر وأيامًا، وتوفي وله من العمر ثمانٍ وأربعون سنة, وقد وَخَطَهُ1 الشيب.
صفته
كان صافي السمرة جدًّا إلى الطول ما هو، جميل الوجه، أعيَن2 أفْوَه3 أَقْنَى4، شديد الكَحَل، مستدير اللحية، ضخم الأعضاء، جَهْوَرِيّ الصوت، جَزْل الألفاظ5، أصدق الناس لهجة وأحسنهم حديثًا وأكثرهم إصابة بالظن؛ كان لا يكاد يظن شيئًا إلا وقع كما ظن، مجربًا للأمور، عارفًا بأصول الشر والخير وفروعهما. ولي الوزارة أيام أبيه فبحث عن الأمور بحثًا شافيًا، وطالع أحوال العمال والولاة والقضاة وسائر من ترجع إليه الأمور مطالعة أفادته معرفة جزئيات الأمور؛ فدبرها بحسب ذلك، فجرت أموره على قريب من الاستقامة والسداد، حسبما يقتضيه الزمان والإقليم.
أولاده
كان له من الولد: محمد -ولي عهده، وسيأتي ذكر مولده ووفاته- وإبراهيم، وعبد الله، وعبد العزيز، وأبو بكر، وزكريا، وإدريس، وعيسى، وموسى، وصالح،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ترجمته في الأعلام: 203/8؛ وفيات الأعيان: 3/7.
1- وخط الشيب فلانًا: فشا فيه.
2- الأعين: الواسع العينين.
3- الأفوه: الواسع الفم.
4- الأقني: الذي ارتفعت قصبة أنفه، وضاق منخراه.
5- الجزل من الألفاظ: القوي, الفصيح الجامع.

 

ص -193-    وعثمان، ويونس، وسعد، ومُساعِد، والحسن، والحسين؛ هؤلاء أولاده المُخلَّفون بعده؛ ومات له في حياته عدة من الولد، وله بنات فيهن كثرة.
وزراؤه
أبو حفص، عمر بن أبي زيد الهنتاتي إلى أن مات.
ثم وزر له بعده أبو يحيى أبو بكر بن عبد الله بن أبي حفص عمر إينتي المتقدم الذكر، واستمرت وزارة أبي يحيى هذا إلى أن استشهد -رحمه الله- ببلاد الروم على ما سيأتي بيانه إن شاء الله؛ فاضطرب أمر الوزارة قليلاً...
ثم وقع اختيارهم على أبي عبد الله محمد بن أبي بكر ابن الشيخ أبي حفص المتقدم الذكر؛ وأبو عبد الله هذا هو الملقب عندهم بـ الفيل، هو ابن عم الوزير الشهيد أبي يحيى المذكور آنفًا. فوزر أبو عبد الله هذا أيامًا يسيرة، ثم ترك الوزارة  مختارًا وهرب إلى بعض نواحي إشبيلية؛ فخلع ثيابه ولبس عباءة وتزهد؛ فأرسلوا إليه من رده؛ وأعفوه من الوزارة.
ثم وزر له أبو زيد عبد الرحمن بن موسى بن يُوجَّان الهنتاتي؛ فلم يزل عبد الرحمن هذا وزيرًا إلى أن مات أبو يوسف، وصدرًا من إمارة ابنه أبي عبد الله، ثم عُزل عن الوزارة.
حجابه
عنبر الخَصِيّ مولاه؛ ثم ريحان الخصي مولاه أيضًا، إلى أن مات، وحجب ابنه أبا عبد الله، فلم يزل حاجبًا له إلى أن مات ريحان المذكور.
كتابه
أبو الفضل جعفر المعروف بـ ابن محشوة؛ كان من كتاب أبيه -حسبما تقدم- جمع أبو الفضل جعفر هذا إلى براعة الكتابة سعة الرواية, وغزارة الحفظ, وذكاء النفس؛ لم يزل كاتبًا له إلى أن توفي، أعني أبا الفضل.
فكتب له بعده أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن عياش من أهل بُرشانة، من أعمال المرية من بلاد الأندلس. لم يزل أبو عبد الله هذا كاتبًا له ولابنه محمد ولابن ابنه يوسف. تركته حيًّا حين ارتحلت عن البلاد سنة 614، ثم اتصلت بي وفاته في شهور سنة 619 وأنا يومئذٍ بالبلاد المصرية.
هذان الكاتبان اللذان ذكرناهما، هما كاتبا الإنشاء خاصة.

 

ص -194-    وكتاب الجيش: رجل يعرف بـ الكباشي، ذهب عني اسمه؛ وقد كان يكتب قبله أبو الحسن بن مُغْنٍ. استمرت كتابة الكباشي هذا في ديوان الجيش إلى أن مات أمير المؤمنين أبو يوسف.
ولم يكتب لهم منذ قام أمرهم -أعني من كتبة الإنشاء- من عرف طريقتهم وصب في قالبهم وجرى على مهيعهم وأصاب ما في أنفسهم كأبي عبد الله بن عياش هذا؛ فإن القوم لهم طريقة تخالف طريقة الكتاب. ثم جرى الكتاب بعده على أسلوبه، وسلكوا مسلكه لما رأوا من استحسانهم لتلك الطريقة.
قضاته
أبو جعفر أحمد بن مضاء المتقدم الذكر إلى أن مات. وولي بعده أبو عبد الله محمد بن مروان، من أهل مدينة وهران؛ ثم عزله وولى بعده أبا القاسم أحمد بن محمد، رجلا من ولد بَقِيِّ بن مخلد الفقيه المحدث الذي يروي عن أحمد بن حنبل1. وقد تقدم ذكر بقي هذا وطرف من أخباره في صدر الدولة الأموية في أخبار الأمير محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن بن معاوية الداخل بالأندلس. لم يزل أبو القاسم هذا قاضيًا إلى أن توفي أمير المؤمنين أبو يوسف، وشيئًا من أيام ابنه محمد.
تلخيص التعريف بخبر بيعته
ولما مات أبو يعقوب -كما ذكرنا- على مراحل من مدينة شنترين، سترت وفاته إلى أن بلغوا إشبيلية، وهم في كل يوم يصبحون يمشون بين يدي الدابة التي عليها المحفة مشاة على أرجلهم كما جرت العادة؛ ثم يركبون والمحفة مسدول عليها ستر أخضر؛ إلى أن بلغوا إشبيلية كما ذكرنا؛ فخرج الإذن من أمير المؤمنين أبي يعقوب -زعموا- بتجديد البيعة لابنه أبي يوسف، فبايعه المصامدة والناس عامة من جميع الأصناف.
وكان الذي سعى في بيعته وقام بها ورغب فيها وتولى كِبْرَ أمرها، ابن عمه أبو زيد عبد الرحمن بن عمر بن عبد المؤمن؛ فتم له الأمر وبايعه الناس، يحسبون ذلك بإذن أبيه. فلما فرغ مما أراده من ذلك وتهيأ له، أعلن وفاة أبيه عند خواص الدولة؛ ولم تجر عادتهم بإعلان موت خلفائهم عند العامة إلى هَلُمّ.
وكان له من إخوته وعمومته منافسون لا يرونه أهلاً للإمارة؛ لما كانوا يعرفون

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- هو أبو عبد الله، أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الوائلي: إمام المذهب الحنبلي، وأحد الأئمة الأربعة عند أهل السنة. توفي سنة 241 هـ/855م. "الأعلام، الزركلي: 203/1".

 

ص -195-    من سوء صِباه؛ فلقي منهم شدة -على ما سيأتي بيانه- وكانت هذه البيعة العامة -كما ذكرنا- في سنة 580.
ولما استوسق أمره -على ما تقدم- عبر البحر بعساكره وسار حتى نزل مدينة سلا، وبها تمت بيعته واستجاب له من كان تلكأ عليه من أعمامه من ولد عبد المؤمن، بعد ما ملأ أيديهم أموالاً وأقطعهم الأقطاع الواسعة.
بنيان مدينة الرباط
ثم شرع في بنيان المدينة العظمى التي على ساحل البحر والنهر من العدوة التي تلي مراكش. وكان أبو يعقوب -رحمه الله- هو الذي اختطَّها ورسم حدودها وابتدأ في بنيانها، فعاقه الموت المحتوم عن إتمامها؛ فشرع أبو يوسف -كما ذكرنا- في بنيانها إلى أن أتم سورها، وبنى فيها مسجدًا عظيمًا كبير المساحة واسع الفناء جدًّا، لا أعلم في مساجد المغرب أكبر منه. وعمل له مئذنة في نهاية العلو، على هيئة منار الإسكندرية، يصعد فيه بغير درج، تصعد الدواب بالطين والآجُرِّ والجِصِّ وجميع ما يحتاج إليه إلى أعلاها. ولم يتم هذا المسجد إلى اليوم؛ لأن العمل ارتفع عنه بموت أبي يوسف؛ ولم يعمل فيه محمد ولا يوسف شيئًا. وأما المدينة فتمت في حياة أبي يوسف وكملت أسوارها وأبوابها وعُمِّر كثير منها. وهي مدينة كبيرة جدًّا، تجيء في طولها نحوًا من فرسخ، وهي قليلة العرض.
ثم خرج بعد أن رتب أشغال هذه المدينة وجعل عليها من أمناء المصامدة من ينظر في أمر نفقاتها وما يصلحها؛ فلم يزل العمل فيها وفي مسجدها المذكور طول مدة ولايته إلى سنة 594، وسار هو حتى نزل مراكش.
طمع بني غانية في التغلب على إفريقية
وفي هذه السنة -أعني سنة 80- خرج المَيُورقيون بنو ابن غانية من جزيرة مَيُورقة قاصدين مدينة بجاية، فملكوها وأخرجوا من بها من الموحدين؛ وذلك لستٍّ خلون من شعبان من السنة المذكورة؛ وهذا أول اختلال وقع في دولة المصامدة، لم يزل أثره باقيًا إلى وقتنا هذا، وهو سنة 621.
التعريف ببني غانية ودار ملكهم
وتلخيص خبر هؤلاء القوم -أعني بني غانية- أن أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين، وجه إلى الأندلس برجلين -اسم أحدهما يحيى، والآخر محمد- ابني علي، من قبيلة مسوفة، يعرفان بـ ابني غانية، وهي أمهما. فأما يحيى منهما،

 

ص -196-    وهو الأكبر، فكان حسنة من حسنات الدهر، اجتمع له من المناقب ما افترق في كثير من الناس؛ فمنها أنه كان رجلاً صالحًا شديد الخوف لله -عز وجل- والتعظيم له والاحترام للصالحين؛ هذا مع علو قدم في الفقه واتساع رواية للحديث. وكان مع هذا شجاعًا فارسًا، إذا ركب عد وحده بخمسمائة فارس. وكان علي بن يوسف يعده للعظائم ويستدفع به المهمات، وأصلح الله على يديه كثيرًا من جزيرة الأندلس، ودفع به عن المسلمين غير مرة مكاره قد كانت نزلت بهم. كان أمير المسلمين ولاه مدينة بلنسية، ثم عزله عنها وولاه قرطبة؛ فلم يزل بها واليًا إلى أن مات -رحمة الله عليه- أول الفتنة الكائنة على المرابطين. لا أعلم له عقبًا.
محمد بن غَانِيَة
وكان أخوه محمد واليًا من قبله على بعض أعمال قرطبة، فلما مات اضطرب أمر محمد هذا، وبقي يجول في بلاد الأندلس والفتنة تتزيَّد، ودعوة المصامدة تنتشر. فلما اشتد خوف محمد هذا أتى مدينة دانية فعبر منها إلى جزيرة ميورقة في حشمه وأهل بيته، فملكها والجزيرتين اللتين حولها: مُنُرقة، ويابسة. ويقال: إن أمير المسلمين علي بن يوسف نفاه إليها على طريق السجن بها، فالله أعلم.
وهذه الجزيرة -أعني ميورقة- أخصب الجزر أرضًا، وأعدلها هواء، وأصفاها جوًّا؛ طولها وعرضها نحو من ثلاثين فرسخًا، اتفق أهلها على أنهم لم يروا فيها شيئًا من الهوام المؤذية قط منذ عمرت، من ذئب أو سَبُع أو حية أو عقرب، إلى غير ذلك مما يخشى ضرره. ويجاورها بالقرب منها جزيرتان تقربان منها في الخصب، تسمى إحداهما منرقة، والأخرى يابسة، وقد تقدم ذكرهما.
... فاستقل محمد بمملكة هذه الجزر، وضبطها لنفسه، وأقام فيها جاريًا على أمر لمتونة الأول: يدعو لبني العباس. وكان له من الولد: عبد الله، وإسحاق، والزبير، وطلحة؛ وبنات.
فعهد في حياته إلى أكبر ولده، عبد الله؛ فنفس1 ذلك عليه أخوه إسحاق، ودخل عليه في جماعة من الجند وعبيد له فقتله -قيل: في حياة أبيه، وقيل: بعد وفاته- وتوفي عبد الله المذكور.
إسحاق بن محمد
واستقل أبو إبراهيم بالملك استقلالا حسنًا، وحسنت حاله، وكثر الداخلون عليه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- نفس الشيء وبه، على فلان: حسده عليه، فلم يره أهلا له.

 

ص -197-    بجزيرة ميورقة من فَلِّ لمتونة وبقاياهم؛ فكان يحسن إليهم ويصلهم حسب طاقته.
وأقبل على الغزو، وصرف عنايته إليه؛ فلم يكن له هم غيره؛ فكان له في كل سنة سفرتان إلى بلاد الروم، يغنم ويسبي وينكي1 في العدو أشد نكاية، إلى أن امتلأت أيدي أصحابه أموالاً؛ فقوي بذلك أمره، وتشبه بالملوك. ولم يزل هذه حاله إلى أن توفي في سنة 79، وفي أولها وفي آخر أيام أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن.
وكان يراسل الموحدين ويهاديهم ويهادنهم ويختصهم من كل ما يسبي ويغنم بنفيسه وجيده؛ يشغلهم بذلك عنه، مع احتقارهم لأمر تلك الجزيرة، وقلة التفاتهم إليها. فلما كان في شهور سنة 578 والوا إليه الكتب يدعونه إلى الدخول في طاعتهم والدعاء لهم على المنابر، ويتوعدونه على ترك ذلك؛ فوعدهم ذلك واستشار وجوه أصحابه، فاختلفوا عليه؛ فمن مشير عليه بالامتناع بمكانه، وحاض له على الدخول فيما دعوه إليه؛ فلما رأى اختلافهم أرجأ الأمر إلى أن ينظر...
وخرج إلى بلاد الروم غازيًا، فاستشهد -رحمه الله- هناك؛ وقيل: إنه طعن طعنة في حلقه لم يمت منها مكانه, وإنما جيء به حيًّا حتى أدخل قصره فمات فيه، فالله أعلم2.
وكان له من الولد: علي -وهو أكبر ولده والقائم بأمره من بعده- وعبد الله, ويحيى، وأبو بكر، وسير، وتاشفين، ومحمد، والمنصور، وإبراهيم؛ توفي إبراهيم هذا بدمشق حين كان نازلا بها على السلطان الملك العادل.
علي بن إسحاق
ولما توفي أبو إبراهيم إسحاق بن محمد المذكور، قام بالأمر من بعده ابنه علي بعهد أبيه إليه، وخرج بأسطول ميورقة إلى العدوة، وقصد مدينة بجاية حين راسله جماعة من أعيانها -على ما يقال- يدعونه إلى أن يملكوه، ولولا ذلك لم يجسر على الخروج. ومما جرأه أيضًا كون الموحدين بالأندلس، وسماعه خبر موت أبي يعقوب واشتغالهم ببيعة أبي يوسف، وظن أن الأمر سيضطرب وأن الخلاف سينشأ، فكان هذا أيضًا مما أعانه على الخروج. ولولا هذه الأسباب التي ذكرنا لم يجسر على الخروج...
فقصد ساحل بجاية فنزل به، فقاتله أهلها قتالًا غير كثير، ثم دخلها؛ وكان

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- نَكَى العدو، وفيه نِكَايةً: أوقع فيه، أو هزمه وغلبه.
2- في وفيات الأعيان "18/7": توفي سنة 580هـ/1195م.

 

ص -198-    دخوله إياها -كما ذكرنا- يوم الاثنين لست خلون من شعبان من السنة المذكورة.
استطراد عن انتقاض العرب بإفريقية على الموحدين
وكان فيها إذ دخلها، أبو موسى عيسى بن عبد المؤمن؛ لم يكن واليًا عليها وإنما كان الوالي عليها أبو الربيع سليمان بن عبد الله بن عبد المؤمن، وكان أبو موسى مارًّا بها حين رجع من إفريقية، وكان واليًا عليها هو وأخوه الحسن من قبل أخيهما أبي يعقوب، فظهر من العرب إفساد ببعض نواحي إفريقية، فخرج أبو موسى هذا وأخوه أبو علي بجيش من المصامدة ومن انضاف إليهم من العرب وسائر الجند، فالتقوا هم وأولئك العرب المفسدون؛ فانهزم جند إفريقية عنهما وأخذتهما العرب أسيرين، فأقاما عندهم، وانتهى الخبر إلى أبي يعقوب، فأرسل إلى أولئك العرب؛ فطلبوا مالاً اشتطُّوا1 فيه غاية الاشتطاط. ثم إن الأمر تقرر بينهم وبين الموحدين على ستة وثلاثين ألف مثقال، فلما أخبر بذلك أبو يعقوب استكثر المال وقال: هذه أيضًا مضرة أخرى؛ إن أعطيناهم مثل هذا المال تقووا به على ما يريدونه من الفساد! ثم اتفق رأيهم على أن يضربوا لهم دنانير من الصُّفر مموهة2، ففعلوا ذلك وأرسلوا بها إليهم؛ فأطلقوا أبا علي وأبا موسى ومن كان معهما من خَدَمهما وحاشيتهما؛ فهذا ما أوجب كون أبي موسى ببجاية، فخرج من أسر العرب إلى أسر الميورقيين!.
رجع الحديث عن بني غانية في بجاية
فدخل علي بن إسحاق -كما ذكرنا- بجاية في اليوم المؤرخ، وأقام بها سبعة أيام صلى فيها الجمعة فخطب ودعا لبني العباس، ثم للإمام أبي العباس أحمد الناصر منهم، وكان خطيبه الفقيه الإمام المحدث المتقن أبو محمد عبد الحق بن عبد الرحمن الأزي الإشبيلي3 - مؤلف كتاب الأحكام وغيره من التآليف- فأحنق ذلك عليه أبا يوسف يعقوب أمير المؤمنين، ورام سفك دمه، فعصمه الله منه، وتوفاه حتف أنفه وفوق فراشه!.
وخرج علي بن إسحاق من بجاية بعد أن أسس أموره فيها، وسار حتى نزل على قلعة بني حماد، فملكها وملك جميع تلك النواحي؛ فانتهى ذلك إلى أمير المؤمنين

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- اشتط في الأمر: تجاوز الحد فيه.
2- الصفر: النحاس. مموهة: مطلية.
3- ذكره الضبي في "بغية الملتمس"، فقال: "فقيه، محدث، مشهور، حافظ، زاهد، فاضل، أديب، شاعر". ولم يذكر تاريخ وفاته.
 

 

ص -199-    يعقوب، فخرج بالموحدين قاصدًا مدينة بجاية، فلما سمع علي بقدومه خرج له عنها وقصد بلاد الجريد.
استرجاع بجاية من يد المَيُورقيِّين
ونزل أمير المؤمنين بالقرب من بجاية، فتلقاه أهلها، فلقيهم منشرح الصدر, ظاهر البِشْر1، وقال لهم من القول ما بسط به نفوسهم ورد إليهم نافر أنسهم، وقد كانوا يظنون غير ذلك، فخرجوا من عنده متعجبين مما رأواه منه وسمعوا...
واستعمل على بجاية من أعيان الموحدين رجلًا اسمه محمد بن أبي سعيد الجِنْفِيسي؛ ثم سار حتى نزل مدينة تونس، فجهز جيشًا عظيمًا أمر عليهم رجلًا من ولد عمر بن عبد المؤمن اسمه يعقوب، وذلك لما كانوا يرونه في ملحمة كانت عندهم من أنهم سيُهزَمون مع رجل اسمه يعقوب، بموضع يعرف بـ وطا عمره. فسار يعقوب هذا بالجيش المذكور، وأقام هو في تونس؛ فكانت الهزيمة على يعقوب بن عمر -كما ذكر-. وذلك أن الموحدين التقوا هم وأصحاب علي بن غانية، فانهزم الموحدون انهزامًا قبيحًا، واتبعتهم العرب والبربر يقتلونهم في كل وجه. وهلك أكثرهم عطشًا، ورجع بقيتهم إلى تونس حيث أمير المؤمنين, فلم شَعَثهم، وجَبَر ما وهى من أحوالهم، وخرج هو بنفسه حتى لقي علي بن غانية بموضع يعرف بـ الحامة، حامة دُقْيُوس؛ فما وقف أصحاب علي إلا يسيرًا حتى انكشفوا عنه، وأبلى هو عذرًا فأُثحن جراحًا2، وخرج فارًّا بنفسه فمات في خيمة لعجوز أعرابية.
وكان حين خرج من ميورقة خرج معه من إخوته: عبد الله، ويحيى، وأبو بكر، وسِير؛ فبقي هؤلاء المذكورون بعد موت أخيهم على من كان معهم من أصحابهم؛ ثم رأوا أن يقدموا عليهم يحيى لما رأوا من شهامته وشجاعة نفسه؛ فقدموه، ثم لحقوا بالصحراء فكانوا بها مع العرب الكائنين هناك إلى أن رجع أمير المؤمنين من هذا الوجه.
استرجاع قَفْصَة
وفي هذه السفرة انتقضت عليهم أيضًا مدينة قفصة، ونزع أهلها أيديهم من طاعتهم ودعواللميورقيين؛ فنزل عليها أمير المؤمنين أبو يوسف فحاصرها أشد الحصار؛ ثم دخلها

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- البشر: الفرح.
2- أثخن في الأمر: بالغ فيه، وأثخن في العدو: بالغ في قتاله, ومنه: أثخنه الهم والمرض والجرح.

 

ص -200-    عنوة فقتل أهلها قتلًا ذريعًا؛ بلغني أنه قتل أكثرهم ذبحًا؛ وأمر بأسوارها فهُدَّت.
إبراهيم الزُّويلي الكاتب
وفي ذلك يقول رجل من أصحابنا من الكتاب، اسمه إبراهيم، يعرف عندنا بالزويلي، في قصيدة طويلة له يمدح بها أمير المؤمنين أبا يوسف, ويذكر شأن قفصة ورميهم إياها بحجارة المنجنيق: من البسيط

سائل بقَفْصَةَ هل كان الشقي لها     بعلا, وكانت له حمالة الحطبِ1

تبت يدا كافر بالله ألهبها       فكان كالكافر الأشقى أبي لهبِ2

وفيها يقول:

لما زَنَت وهي تحت الأمر محصنةٌ     حصبتموها اتباع الشرع بالحَصَبِ3

أنشدني -رحمه الله- هذه القصيدة بلفظه من أولها إلى آخرها؛ فلما انتهى إلى هذا البيت: لما زنت... غلبني الضحك لما سبق إلى خاطري من سوء معناه؛ فسترت وجهي، فقال لي: ما لك؟ فلم أملك أن قهقهت فتغير لي؛ فلما خفت غضبه أخبرته بما سبق إلى خاطري، فسبني وقال لي: أنت والله شيطان سيئ القريحة، غالب على طباعك اللهو!....
واستمر في إنشاده حتى أتم القصيدة.
وأبو إسحاق الزويلي هذا من شيوخ الكتاب وظرفاء الشعراء، جمعتني وإياه مجالسُ عند السيد الأجل أبي زكريا يحيى بن يوسف بن عبد المؤمن، شاهدت فيها من ظَرْفِه4 وغزارة بديهته ما قضيت منه العجب.
رجع الحديث عن بني غانية
ولما فرغ أبو يوسف من أمر إفريقية، كَرَّ راجعًا إلى المغرب.
ولم يزل يحيى بن غانية قائمًا بما كان يقوم به أخوه من تدبير الأمور؛ ورجع منهم عبد الله خاصة إلى جزيرة ميورقة، فألفاها قد انتقضت عليهم، ودُعي فيها للموحدين؛

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الشقي: أي: ابن غانية.
2- تَبَّ فلان: هلك وخسر، يقال في الدعاء: تبت يده، وتبًّا له. وفي البيتين السابقين اقتباس من قوله تعالى:
{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ،.... وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَب,} [المسد: 1، 4].
3- زنت: ارتكبت الفاحشة. المحصنة: المتزوجة. حصبه حصْبًا: رماه بالحصباء، وهي صغار الحجارة. الحَصَب: صغار الحجارة أيضًا.
4- الظرف: في الوجه: الحسن، وفي القلب: الذكاء، وفي اللسان: البلاغة.

 

 

ص -201-    فعل ذلك أخوهم أبو عبد الله محمد بن إسحاق. فلما قدم عبد الله قام معه علج من علوج أبيه يسمى نجاحًا؛ كان نجاح هذا لم ينقض عهدًا ولا نزع يدًا من طاعة؛ وكان متحصنًا في قلعة ومعه جماعة على رأيه من الموالي والجند. فلما قدم عبد الله -كما ذكرنا- تلقوه، وانضاف إليهم خلق من بوادي الجزيرة من الفلاحين ورعاة الغنم؛ فنهَد1 بهم عبد الله إلى المدينة، فلم يدفعه عنها أحد ولا امتنع عليه من أهلها ممتنع؛ ففتحوا له الأبواب، ودخلها بمن معه؛ وأخرج أخاه محمدًا ونفاه إلى الأندلس؛ فحظي محمد هذا عند المصامدة حظوة عظيمة، وولوه مدينة دانية، فلم يزل واليًا عليها حتى مات.
واستقر عبد الله بميورقة، فضبط أمرها وجرى في الغزو وإخافة العدو على سنن2 أبيه؛ فلم يزل كذلك إلى أن دخلها عليه الموحدون في سنة 599 على ما سيأتي بيانه إن شاء الله.
ولم يزل أمر يحيى بإفريقية ينبه ويخمل أخرى؛ وله أخبار يطول شرحها ويخرج عن الغرض بسطها.
اختلاف بني عبد المؤمن
وحين كان أمير المؤمنين أبو يوسف غائبًا في هذا الوجه الذي ذكرنا، طمع في الأمر أخوه أبو حفص عمر المتلقب بـ الرشيد، وعمه سليمان بن عبد المؤمن؛ وكان أحدهما بشرقي الأندلس بمدينة مرسية، والآخر بـ تادلا من بلاد صنهاجة.
فأما أبو الربيع سليمان فسولت3 له نفسه وزين له سوء رأيه أن يجمع على نفسه قبائل صنهاجة ليقوموا بدعوته, وصرح بذلك ودعا أشياخهم فألقى إليهم ما أراد؛ فلم يتفق له من ذلك أكثر من أن تشعثت4 عليه البلاد وانتشرت عنه هذه الأُشْنُوعة القبيحة، وبلغ الخبر أمير المؤمنين.
وأما عمر، فكان قد بدأ من ذلك بتنقص أمير المؤمنين أبي يوسف على رءوس الأشهاد5، تعريضًا6 مرة وتصريحًا تارة، وإلقاء ذلك إلى خواصه ليُلقوه إلى وجوه

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- نهد فلان: نهض ومضى، ونهد لعدوه أو إلى عدوه نهْدًا، ونهَدًا: صمد له وشرع في قتاله.
2- السنن: الطريقة أو المنهج.
3- سولت له نفسه الأمر: حببته إليه، وسهلته له، وأغرته به.
4- تشعثت: تفرقت.
5- الأشهاد: جمع الشاهد: الذي يؤدي الشهادة، أو الدليل، وتنقصه على رءوس الأشهاد: أي جهرًا وعلانية.
6- عرض بالرجل، وله: قال فيه قولًا يعيبه، وعرض له بالقول: لم يبينه ولم يصرح به.

 

ص -202-    الأندلس؛ وانتهى أن قتل قاضي مرسية وخطيبها المعروف بـ ابن أبي جمرة، وقيل: إنه وكزه برِئَاس السيف1 في صدره وكزة مات منها بعد أيام.
فاستحثت هذه الأخبار أمير المؤمنين وأزعجته، فعجل من بجاية إلى فاس سبع عشرة مرحلة؛ وهذا نهاية ما يكون من سرعة السير لمثله. فلما سمع بقدومه أبو الربيع سليمان وعمر المذكوران، خرجا يلتقيانه؛ فعبر عمر البحر. وجاء سليمان بمن معه من تادلا للقائه أيضًا؛ فأما عمر فلقيه بالقرب من مدينة مكناسة، فلما رآه نزل عن دابته على العادة ليسلم عليه، فلما قرب منه لم تدر بينهما كلمتان حتى أمر بالقبض عليه وتقييده، وحمل بعد التقييد إلى مدينة سَلا؛ ولقيه سليمان عمه، ففعل به مثل ذلك؛ وسار حتى نزل مدينة سلا. وفصل عنها بعد أن وكل بهما من يقوم عليهما، وأثقلهما بالحديد؛ وسار حتى بلغ مراكش، فكتب إلى القائم عليهما بقتلهما وتكفينهما والصلاة عليهما ودفنهما؛ فقتلهما صبرًا، ودفنهما، وكتب يعلمه بذلك؛ فبلغني أنه قال له: بنيتُ قبريهما بالكدان والرخام، وجعل يذكر حسنهما، فكتب إليه: ما لنا ولدفن الجبابرة، إنما هما رجلان من المسلمين، فادفنهما كيف يدفن عامة المسلمين.
وبعد قتله هذين الرجلين هابه بقية القرابة وأُشربت قلوبهم خوفه2، بعد أن كانوا متهاونين بأمره محتقرين له؛ لأشياء كانت تظهر منه في صباه توجب ذلك. وكان قتله هذين الرجلين في سنة 583، وأظهر بعد ذلك زهدًا وتقشفًا وخشونة ملبس ومأكل.
وانتشر في أيامه للصالحين والمتبتلين وأهل علم الحديث صِيت، وقامت لهم سوق، وعظمت مكانتهم منه ومن الناس. ولم يزل يستدعي الصالحين من البلاد، ويكتب إليهم يسألهم الدعاء، ويصل من يقبل صلته منهم بالصلات الجزيلة.
دعوة أبي يوسف إلى الأخذ بالكتاب والسنة
وفي أيامه انقطع علم الفروع، وخافه الفقهاء، وأمر بإحراق كتب المذهب بعد أن يجرد ما فيها من حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والقرآن، ففعل ذلك، فأحرق منها جملة في سائر البلاد، كمدوَّنة سحنون3، وكتاب ابن يونس4، ونوادر أبي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- رئاس السيف: مقبضه، أو قائمه.
2-أشرب قلبه خوف فلان: أي: خالط الخوف قلبه، أو حل الخوف محل الشراب.
3- هو عبد السلام بن سعيد بن حبيب التنوخي، الملقب بـ "سحنون": قاضٍ، فقيه، زاهد. ولي القضاء في القيروان، وتوفي فيها سنة 240هـ/854م. "تاريخ قضاة الأندلس، النباهي: 28".
4- ابن يونس: لعله أبو المظفر، عبيد الله بن يونس الأزجي البغدادي، صاحب كتاب "أصول الدين والمقالات"، المتوفي سنة 593هـ/1197م.

 

ص -203-    زيد1 ومختصره، وكتاب التهذيب للبراذعي2، وواضحة ابن حبيب3، وما جانس هذه الكتب ونحا نحوها. لقد شهدت منها وأنا يومئذ بمدينة فاس، يؤتى منها بالأحمال فتوضع ويطلق فيها النار. وتقدم إلى الناس في ترك الاشتغال بعلم الرأي والخوض في شيء منه، وتوعد على ذلك بالعقوبة الشديدة. وأمر جماعة ممن كان عنده من العلماء المحدثين بجمع أحاديث من المصنفات العشرة: الصحيحين4، والترمذي5، والموطأ6، وسنن أبي داود7، وسنن النسائي8، وسنن البزار9، ومسند ابن شيبة10، وسنن الدارقطني11، وسنن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- هو أبو زيد، سعيد بن أوس بن ثابت الأنصاري: إمام في اللغة والأدب، من أهل البصرة, كان يرى رأي القدرية. توفي سنة 215هـ/830م. من آثاره: "النوادر في اللغة". "وفيات الأعيان: 378/2".
2- التهذيب: كتاب ألفه خلف بن أبي القاسم بن سليمان الأزدي البراذعي القيرواني في اختصار "مدونة" أبي عبد الله المالكي، في فروع المالكية. "معجم المؤلفين، كحالة: 106/4؛ كشف الظنون، حاجي خليفة: 1644".
3- هو أبو مروان، عبد الملك بن حبيب بن سليمان بن هارون السلمي الإلبيري القرطبي: عالم، فقيه، من أهل طليطلة. توفي سنة 238هـ/853م. "تاريخ علماء الأندلس، ابن الفرضي: 269؛ بغية الملتمس، الضبي: 377".
4- الصحيحان: هما صحيح البخاري، وصحيح مسلم، وقد مر الحديث عنهما آنفًا.
5- الترمذي: هو أبو عيسى، محمد بن عيسى بن سورة بن موسى السلمي الترمذي: إمام، حافظ، من أهل ترمذ. تتلمذ للبخاري، وشاركه في بعض شيوخه، توفي سنة 279هـ/ 892م. " الأعلام، الزركلي: 322/6".
6-الموطأ: هو كتاب في الحديث النبوي، ألفه الإمام مالك بن أنس، المتوفى سنة 179هـ/796م. "كشف الظنون، حاجي خليفة: 1907".
7- أبو داود: هو سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير الأزدي السجستاني: إمام أهل الحديث في زمانه. أصله من سجستان، وتوفي في البصرة سنة 275هـ/889م. من آثاره: كتاب "السنن". "تاريخ بغداد، الخطيب البغدادي: 55/9".
8- النسائي: هو أبو عبد الرحمن، أحمد بن علي بن شعيب النسائي: شيخ الإسلام، القاضي، الحافظ. أصله من "نسا" بخراسان، وتوفي سنة 303هـ/ 915م. من آثاره: "السنن الكبرى" في الحديث. " شذرات الذهب، ابن العماد: 239/2".
9- البَزَّار: هو أبو بكر، أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار: حافظ، من العلماء بالحديث، من أهل البصرة. توفي سنة 292 هـ/905م. من آثاره: مسند ضخم سماه "البحر الزاخر". "شذرات الذهب، ابن العماد: 309/2".
10- ابن شيبة: هو أبو يوسف، يعقوب بن شيبة بن الصلت السدوسي البصري: من كبار علماء الحديث. توفي سنة 262هـ/875م. من آثاره: "المسند الكبير". "الأعلام، الزركلي: 199/8".
11- الدارقطني: هو أبو الحسن، علي بن عمر بن أحمد بن مهدي الدارقطني الشافعي: إمام عصره=

 

ص -204-    البيهقي1 في الصلاة وما يتعلق بها، على نحو الأحاديث التي جمعها محمد بن تومرت في الطهارة؛ فأجابوه إلى ذلك، وجمعوا ما أمرهم بجمعه؛ فكان يمليه بنفسه على الناس ويأخذهم بحفظه؛ وانتشر هذا المجموع في جميع المغرب، وحفظه الناس من العوامِّ والخاصة. فكان يجعل لمن حفظه الجُعل السني من الكُسا والأموال. وكان قصده في الجملة محو مذهب مالك وإزالته من المغرب مرة واحدة، وحمل الناس على الظاهر من القرآن والحديث. وهذا المقصد بعينه كان مقصد أبيه وجده، إلا أنهما لم يظهراه، وأظهره يعقوب هذا. يشهد لذلك عندي ما أخبرني غير واحد ممن لقي الحافظ أبا بكر بن الجد، أنه أخبرهم قال: لما دخلت على أمير المؤمنين أبي يعقوب أول دَخْلَة دخلتها عليه، وجدت بين يديه كتاب ابن يونس، فقال لي: يا أبا بكر، أنا أنظر في هذه الآراء المتشعبة التي أحدثت في دين الله؛ أرأيت يا أبا بكر، المسألة فيها أربعة أقوال أو خمسة أقوال أو أكثر من هذا؛ فأي هذه الأقوال هو الحق؟ وأيها يجب أن يأخذ به المقلد؟ فافتتحت أبين له ما أشكل عليه من ذلك؛ فقال لي وقطع كلامي: يا أبا بكر، ليس إلا هذا, وأشار إلى المصحف, أو هذا, وأشار إلى كتاب سنن أبي داود, وكان عن يمينه, أو السيف! فظهر في أيام يعقوب هذا ما خفي في أيام أبيه وجده؛ ونال عنده طلبة العلم -أعني علم الحديث- ما لم ينالوا في أيام أبيه وجده؛ وانتهى أمره معهم إلى أن قال يومًا بحضرة كافة الموحدين يُسمعهم -وقد بلغه حسدهم للطلبة على موضعهم منه وتقريبه إياهم وخَلْوته بهم دونهم-: يا معشر الموحدين، أنتم قبائل؛ فمن نابه منكم أمر فزع إلى قبيلته؛ وهؤلاء -يعني الطلبة- لا قبيل لهم إلا أنا؛ فمهما نابهم أمر فأنا ملجَؤُهم، وإلي فزعهم، وإلي ينتسبون! فعظم منذ ذلك اليوم أمرهم، وبالغ الموحدون في برهم وإكرامهم.
استرجاع مدينة شلب
ولما كان في سنة 585، قصد بِطْرُو بن الريق -لعنه الله- مدينة شلب، من جزيرة الأندلس؛ فنزل عليها بعساكره، وأعانه من البحر الإفرنجُ بالبُطْس والشواني2؛

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= في الحديث، وأول من صنف القراءات، وعقد لها أبوابًا. توفي في بغداد سنة 385هـ/995م. من آثاره: كتاب "السنن". "تاريخ بغداد، الخطيب البغدادي: 34/12"
1- البيهقي: هو أبو بكر، أحمد بن الحسين بن علي البيهقي: من كبار أئمة الحديث. تنقل في البلاد، وتوفي بنيسابور سنة 458هـ/1066م. من آثاره: "السنن الكبرى". "شذرات الذهب، ابن العماد: 304/3".
2- الشواني: جمع الشونة: سفينة حربية قديمة.

 

ص -205-    وكان قد وجه إليهم يستدعيهم إلى أن يعينوه، على أن يجعل لهم سبي البلد، وله هو المدينة خاصة؛ ففعلوا ذلك، ونزلوا عليها من البر والبحر؛ فملكوها وسبوا أهلها؛ وملك ابن الريق -لعنه الله- البلد.
وتجهز أمير المؤمنين في جيوش عظيمة، وسار حتى عبر البحر؛ ولم يكن له هم إلا مدينة شلب المذكورة، فنزل عليها؛ فلم تطق الروم دفاعه، وخرجوا عنها وعما كانوا قد ملكوه من أعمالها؛ ولم يكفه ذلك حتى أخذ حصنًا من حصونهم عظيمًا يقال له: "طُرُّش"؛ ورجع إلى مراكش.
طامع آخر من بني عبد المؤمن
وبعد رجوعه مرض مرضًا شديدًا خِيف عليه منه؛ وكان قد ولى أخاه أبا يحيى الأندلس، فجعل يتلكأ في خروجه ويبطئ تربصًا به وطمعًا في وفاته؛ وكلما أفاق هو سأل: هل عبر أبو يحيى أم لا؟ فلما بلغ أبا يحيى استحثاثه إياه، أسرع إلى العبور وهو لا يشك أن أول ما يرد عليه خبر وفاته؛ فاستمال أشياخ الجزيرة ودعاهم إلى نفسه، وقال: ما تركت أمير المؤمنين إلا هامَةَ1 اليوم أو غد، وليس لها غيري! فجعل أشياخ الجزيرة يحيل بعضهم على بعض، وأهل بلد على أهل بلد؛ حتى بلغ مرسية؛ وكتبوا بذلك مساطير خوفًا على أنفسهم.
وأفاق أمير المؤمنين من مرضه، وأشار عليه الأطباء بالسفر، فخرج قاصدًا مدينة فاس، يحمل في مِحَفَّة على بغلين؛ وبلغه أمر أبي يحيى المذكور، وجاءته كتب أهل الأندلس والمساطير التي كتبوها.
ولما سمع أبو يحيى بحركته، جاء معتذرًا إليه حتى عبر البحر، فلقيه بمدينة سلا؛ فلما وقعت عينه عليه قال لمن عنده: هذا الشقي قد جاء! وأمر به فقُيِّد، ووجه إلى أشياخ الأندلس فحضروا وأدوا شهاداتهم؛ وأمر به فأحضر وقال: إنما أقتلك بقوله صلى الله عليه وسلم:
"إذا بُويع خليفتان بأرض فاقتلوا الآخر منهما"! وأمر به فضربت عنقه، تولى قتله أخوه لأبيه عبد الرحمن بن يوسف؛ وذلك بمحضر من الناس، وأمر به فكفن ودفن؛ وأقبل على القرابة فنال منهم بلسانه وأخذ منهم أخذًا شديدًا، وأمر

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الهامة: طائر صغير يألف المقابر، وقيل: هو طائر زُعم أنه يخرج من هامة القتيل -أي رأسه- ويقول: اسقوني اسقوني، حنى يؤخذ بثأره، ويقال له: الصَّدى. وقوله: "إلا هامة اليوم أو غد"، أي: يموت اليوم أو غدًا. ومنه قول كثير بن عبد الرحمن:

وكل خليل راءني فهو قائل     مِنَ اجْلكِ هذا هامة اليوم أو غدِ

"ديوان كثير: 116".

 

ص -206-    بإخراجهم على أسوإ حال، حفاة عراة الرءوس؛ فخرجوا وكل واحد منهم لا يشك أنه مقتول!.
ولم يزل أمر القرابة من يومئذ في خمول وهلُمّ، وقد كانوا قبل ذلك لا فرق بين أحدهم وبين الخليفة سوى نفوذ العلامة؛ فكان جملة من قتل يعقوب, أخويه وعمه!.
وقعة الأرك
ولما كان في سنة 90 انتقض ما بينه وبين الأدفنش -لعنه الله- من العهد؛ فخرجت خيل الأدفنش تدوس البلاد وتجوس خلالها؛ إلى أن كثر عَيْثها1 بالأندلس.
وتجهز أمير المؤمنين وأخذ في العبور، فعبر البحر في حمادى الآخرة من سنة 591 بجموع عظيمة، ونزل مدينة إشبيلية، فلم يقم بها إلا يسيرًا ريثما اعترض الجند, وقسم الأموال وخرج يقصد بلاد الروم.
وسمع الأدفنش -لعنه الله- بقصده، فتجهز هو أيضًا في جموع ضخمة؛ والتقوا بموضع يعرف بـ فَحْص الحديد؛ وكان الأدفنش قد جمع جموعًا لم يجتمع له مثلها قط2؛ فلما تراءى الجمعان اشتد خوف الموحدين وساءت ظنونهم؛ لما رأوا من كثرة عدوهم؛ وأمير المؤمنين في ذلك كله لا مستند له إلا الدعاء والاستعانة بكل من يظن عنده خيرًا من الصالحين.
فلما كان يوم الأربعاء وهو الثالث من شعبان3 من هذه السنة المذكورة، التقى المسلمون وعدوهم؛ فأنزل الله على الموحدين نصره، وأفرغ عليهم صبره، ومنحهم أكتاف الروم؛ وكانت الدائرة على الأدفنش -لعنه الله- وأصحابه؛ ولم ينجُ إلا هو في نحو من ثلاثين من وجوه قواده؛ واستشهد من المسلمين جماعة من أعيان الموحدين وغيرهم، منهم الوزير أبو يحيى أبو بكر بن عبد الله ابن الشيخ أبي حفص المتقدم الذكر في وزراء أبي يوسف.
وخرج أمير المؤمنين بنفسه حتى أتى قلعة رباح، وقد انجلى عنها أهلها، فدخلها، وأمر بكنيستها فغيرت مسجدًا؛ فصلى فيها المسلمون؛واستولى على ما

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- العيث: الفساد.
2- ذكر الضبي في "بغية الملتمس: 45" أن عسكر الأدفنش "كان ينيف على خمسة وعشرين ألف فارس، ومائتي ألف راجل، وكان معه جماعات من تجار اليهود قد وصلوا لاشتراء أسرى المسلمين وأسلابهم، وأعدوا لذلك أموالًا، فهزمهم الله تعالى، واستوعب القتل أكثرهم".
3- في وفيات الأعيان "8/7": أن الوقعة كانت يوم الخميس, التاسع من شعبان سنة إحدى وتسعين وخمسمائة.

 

ص -207-    حول طليطلة من الحصون؛ ثم رجع إلى مدينة إشبيلية منصورًا مفتوحًا عليه1.
وكانت هذه الهزيمة أختًا لهزيمة الزلاقة، المتقدم ذكرها في مدة يوسف بن تاشفين أمير المرابطين.
وأقام أمير المؤمنين بإشبيلية بقية سنة 591، وقصد بلاد الروم في السنة الثانية، فنزل على مدينة طليطلة بعساكره؛ فقطع أشجارها، وانتزف2 معايشها، وغوَّر مياهها، وأنكى في الروم أشد نكاية.
ثم عاد في السنة الثالثة أيضًا، وتوغل بلاد الروم، ووصل إلى مواضع لم يصل إليها ملك من ملوك المسلمين قط؛ ورجع إلى مدينة إشبيلية، فأرسل الأدفنش إليه -لعنه الله- يسأله المهادنة، فهادنه إلى عشر سنين، فعبر البحر بعد أن أصلح الجزيرة ورتب فيها من يقوم بحمايتها، وقصد مدينة مراكش، وذلك في سنة 594.
عزم أبي يوسف على قصد مصر، ووفاته
فبلغني عن غير واحد أنه صرح للموحدين بالرحلة إلى المشرق، وجعل يذكر البلاد المصرية وما فيها من المناكر والبدع3، ويقول: نحن -إن شاء الله- مطهروها؛ ولم يزل هذا عزمه إلى أن مات -رحمه الله- في صدر سنة 595 -كما ذكر- ودفن بـ تينمل مع آبائه4.
شيء من سيرته
وكان في جميع أيامه وسيره مؤثرًا للعدل، متحريًا له بحسب طاقته وما يقتضيه إقليمه والأمة التي هو فيها؛ كان في أول أمره أراد الجري على سنن الخلفاء الأول ...

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- ذكر ابن خلكان ما غنمه المسلمون من الفرنجة في تلك الوقعة فقال: "غنم المسلمون أموالهم، حتى قيل: إن الذي حصل لبيت المال من دروعهم ستون ألف درع. وأما الدواب على اختلاف أنواعها فلم يحصر لها عدد، ولم يسمع في بلاد الأندلس بكَثْرَة مثلها".
2- انتزف الشيء: أفناه.
3- البدع: جمع البدعة: ما استحدث في الدين وغيره.
4- في وفيات الأعيان: "اختلفت الروايات في أمره، فمن الناس من يقول: إنه ترك ما كان فيه وتجرد وساح في الأرض حتى انتهى إلى بلاد المشرق، وهو مستخفٍ لا يُعرف، ومات خاملًا. ومنهم من يقول: إنه لما رجع إلى مراكش، توفي في غرة جمادى الأولى، وقيل: في شهر ربيع الآخر، في سابع عشره، وقيل: في غرة صفر سنة خمس وتسعين وخمسمائة. وقيل: إنه مات بمدينة سلا، والله أعلم".

 

ص -208-    فمن ذلك أنه كان يتولى الإمامة بنفسه في الصلوات الخمس؛ لم يزل على ذلك مستمرًّا أشهرًا، إلى أن أبطأ يومًا عن صلاة العصر إبطاء كاد وقتها يفوت، وقعد الناس ينتظرونه؛ فخرج عليهم فصلى ثم أوسعهم لومًا وتأنيبًا، وقال: ما أرى صلاتكم إلا لنا، وإلا فما منعكم عن أن تقدموا رجلاً منكم فيصلي بكم؟ أليس قد قدم أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عبد الرحمن بن عوف1 حين دخل وقت الصلاة وهو غائب؟ أما لكم بهم أسوة وهم الأئمة المتبعون والهداة المهتدون؟ فكان ذلك سببًا لقطعه الإمامة.
وكان يقعد للناس عامة، لا يُحجَب عنه أحد من صغير ولا كبير؛ حتى اختصم إليه رجلان في نصف درهم، فقضى بينهما؛ وأمر الوزير أبا يحيى صاحب الشرطة أن يضربهما ضربًا خفيفًا تأديبًا لهما؛ وقال لهما: أما كان في البلد حكام قد نصبوا لمثل هذا؟ فكان هذا أيضًا مما حمله على القعود في أيام مخصوصة لمسائل مخصوصة, لا ينفذها غيره.
ولما ولى أبا القاسم بن بقي المتقدم الذكر، كان فيما اشترط عليه أن يكون قعوده بحيث يسمع حكمه في جميع القضايا؛ فكان يقعد في موضع بينه وبين أمير المؤمنين سِتْر من ألواح.
وكان قد أمر أن يدخل عليه أمناء الأسواق وأشياخ الحضر في كل شهر مرتين، يسألهم عن أسواقهم وأسعارهم وحكامهم.
وكان إذا وفد عليه أهل بلد فأول ما يسألهم عن عمالهم وقضاتهم وولاتهم؛ فإذا أثنوا خيرًا قال: اعلموا أنكم مسئولون عن هذه الشهادة يوم القيامة؛ فلا يقولن امرؤ منكم إلا حقًّا. وربما تلا في بعض المجالس:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [النساء: 135].
ولما خرج إلى الغزوة الثانية سنة 92 -وهي الغزة التي كانت بعد الوقعة الكبرى التي أذل الله فيها الأدفنش وجموعه, وأعز الإسلام وأنصاره- كتب قبل خروجه إلى جميع البلاد بالبحث عن الصالحين والمنتمين إلى الخير وحملهم إليه؛ فاجتمعت له منهم جماعة كبيرة كان يجعلهم كلما سار بين يديه، فإذا نظر إليهم قال لمن عنده: هؤلاء الجند, لا هؤلاء! ويشير إلى العسكر؛ فكان في ذلك شبيهًا بما حُكي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- هو أبو محمد، عبد الرحمن بن عوف الزهري القرشي: صحابي جليل، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشورى. توفي سنة 32هـ/652م. "الأعلام، الزركلي: 321/3".

 

ص -209-    عن قتيبة بن مسلم1 والي خراسان حين لقي الترك وكان في جيشه أبو عبد الله محمد بن واسع؛ فجعل يكثر السؤال عنه، فأخبر أنه في ناحية من الجيش متكئًا على سِيَة قوسه2 رافعًا إصبعه إلى السماء يُنَضْنِض3 بها؛ فقال قتيبة: لإصبعُهُ تلك أحب إلي من عشرة آلاف سيف!.
ولما رجع أمير المؤمنين أبو يوسف من وجهه هذا، أمر لهؤلاء القوم بأموال عظيمة، فقبل منهم من رأى القبول، ورد من رأى الرد؛ فتساوى عنده -رضي الله عنه- الفريقان، وقال: لكل مذهب؛ ولم يزد هؤلاء ردهم ولا نقص أولئك قبولهم.
وكان كثير الصدقة؛ بلغني أنه تصدق قبل خروجه إلى هذه الغزوة -أعني التي كانت فيها الوقعة الكبرى- بأربعين ألف دينار، خرج منها للعامة نحو من نصفها، والباقى في القرابة؛ أدركتهم وقد قسموا مدينة مراكش أرباعًا، وجعلوا في كل ربع أمناء معهم أموال يتحرون بها المساتير وأرباب البيوتات. وكان كلما دخلت السنة يأمر أن يكتب له الأيتام المنقطعون، فيجمعون إلى موضع قريب من قصره، فيُختنون 4 ويأمر لكل صبي منهم بمثقال وثوب ورغيف ورمانة. وربما زاد على المثقال درهمين جديدين؛ هذا كله شهدته لا أنقله عن أحد من الناس.
وبنى بمدينة مراكش بيمارستانًا ما أظن أن في الدنيا مثله؛ وذلك أنه تخير ساحة فسيحة بأعدل5 موضع في البلد، وأمر البنائين بإتقانه على أحسن الوجوه؛ فأتقنوا فيه من النقوش البديعة والزخاريف المحكمة ما زاد على الاقتراح؛ وأمر أن يغرس فيه مع ذلك من جميع الأشجار المشمومات والمأكولات، وأجرى فيه مياهًا كثيرة تدور على جميع البيوت، زيادة على أربع برك في وسطه، إحداها رخام أبيض؛ ثم أمر له من الفُرُش النفيسة من أنواع الصوف والكتان والحرير والأديم وغيره بما يزيد على الوصف، ويأتي فوق النعت. وأجرى له ثلاثين دينارًا في كل يوم برسم الطعام وما ينفق عليه خاصة، خارجًا عما جلب إليه من الأدوية. وأقام فيه من الصيادلة لعمل الأشربة والأدهان والأكحال؛ وأعد فيه للمرضى ثياب ليل ونهار للنوم، من جهاز

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- هو أبو حفص، قتيبة بن مسلم بن عمرو بن الحصين الباهلي: أمير، فاتح، نشأ في دولة الأمويين المروانية، وتوفي سنة 96هـ/ 715م. "وفيات الأعيان، ابن خلكان: 86/4".
2- السية من القوس: ما عُطف من طرفيها، وهما سيتان.
3- نضنض الشيء: أقلقه وحركه.
4- ختَن الصبيَّ ختْنًا، وختانًا: قطع قُلْفَتَه، وهي زائدة لحمية على رأس ذكره.
5- أعدل موضع: أحسن موضع وأفضله.

 

ص -210-    الصيف والشتاء؛ فإذا نقه المريض1 فإن كان فقيرًا أمر له عند خروجه بمال يعيش به ريثما يستقل2، وإن كان غنيًّا دفع إليه ماله وترك وسببه، ولم يقصره على الفقراء دون الأغنياء، بل كل من مرض بمراكش من غريب حمل إليه وعولج إلى أن يستريح أو يموت. وكان في كل جمعة بعد صلاته يركب ويدخله، يعود المرضى ويسأل عن أهل بيت أهل بيت، يقول: كيف حالكم؟ وكيف القَوَمة3 عليكم؟ إلى غير ذلك من السؤال، ثم يخرج؛ لم يزل مستمرًّا على هذا إلى أن مات -رحمه الله-.
مماليك الغُزِّ المصريون في المغرب
وفي أول ولايته -إما سنة 83 أو 82- ورد علينا البلاد الغز4 من مصر؛ وكان فيمن ورد علينا مملوك يسمى قَرَاقُش، ذكروا أنه كان مملوكًا لتقي الدين ابن أخي الملك الناصر، ورجل يسمى شعبان، ذكروا أنه من أمراء الغز، ومن أجناد المصريين رجل يعرف بالقاضي عماد الدين، في آخرين. فأحسن نزلهم، وبالغ في تكرمتهم، وجعل لهم مزية ظاهرة على الموحدين؛ وذلك أن الموحدين يأخذون الجامكية ثلاث مرات في كل سنة، في كل أربعة مرة؛ وجامكية الغز مستمرة في كل شهر لا تختل، وقال: الفرق بين هؤلاء وبين الموحدين أن هؤلاء غرباء لا شيء لهم في البلاد يرجعون إليه سوى هذه الجامكية، والموحدون لهم الأقطاع والأموال المتأصلة5. هذا مع أنه أقطع أعيانهم أقطاعًا كأقطاع الموحدين أو أوسع؛ أقطع رجلًا منهم فيما أعرف، من أهل إربل، يعرف بـ أحمد الحاجب، مواضع ليس لأحد من قرابته مثلها؛ وأقطع شعبان المذكور بالأندلس قرى كثيرة تغل6 في كل سنة نحوًا من تسعة آلاف دينار، هذا خارجًا عن جامكيتهم الكثيرة التي ليس لأحد من الأجناد غيرهم مثلها.
ولم يرد المغرب من هذه الطائفة -أعني الغز- ألطف حسًّا ولا أزكى نفسًا ولا أحسن محاضرة ولا أطيب عشرة من شعبان هذا المذكور؛ ما لقيته إلا استنشدني أو أنشدني.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- نَقَه المريض: برئ وأفاق وهو قريب عهد بالمرض، لم يرجع إليه كمال صحته وقوته.
2- استقل الرجل: انفرد بتدبير أمره.
3- القومة: جمع قائم: من قام على أهله: تولى أمرهم، وقام بنفقاتهم.
4- الغز: جنس من الترك، تعود أصولهم إلى أقصى بلاد الشرق، على تخوم الصين. دخلوا بلاد المسلمين أسارى أو مماليك، ثم علا شأنهم في الحياة المدنية والعسكرية، فكان منهم القواد والوزراء والولاة. ومن هؤلاء الغز كان أحمد بن طولون سلطان مصر في القرن الثالث.
5- الأموال المتأصلة: الثابتة، الدائمة.
6- أغلَّت الضيعة: أعطت الغلة، وهي الدخل الذي يحصله صاحبها من زروعها وثمارها وخيراتها.

 

ص -211-    أنشدته يومًا لشاعر من أصحابنا من أهل إشبيلية: من البسيط

وقائل: فِيمَ لم تهجع؟ فقلت له:      كيف الهجوع لطرف نافر الوَسَنِ1

لم تدر أن الكَرَى الممنوع عن بصري      هي السِّنات التي في مقلتي حسنِ2

فضحك وقال: لقد حوَّم3 هذا الشاعر وما ورد، ورفرف فما طار، وأراد غاية فوقع دونها؛ ولله من أثار هذا المعنى بأوجز لفظ وأسهل مأخذ وأيسر كلفة حيث يقول: من الطويل

أعيدوا صباحي فهو عند الكواعب      وردوا رُقادي فهو لَحْظ الحبائبِ4

قلت: هو أبو الطيب. قال لي: نعم، هو الطيب أبو الطيب.
وأنشدته يومًا -وقد جرى ذكر التجنيس اللفظي5، فأنشد هو منه وأكثر-: من الطويل

إذا صال ذو ود بود صديقه     فيا أيها الخِلُّ المصاحب لي صُلْ بِي6

فإني مثل الماء لينًا لصاحبي     وناهيك للأعداء من رجل صُلْبِ

فاستحسنهما وكتبهما عنده، وقال لي رحمه الله: لك علي بهذين البيتين حق؛ فما وافقني شيء من الشعر في هذا المعنى ولا في غيره ولا وقع مني موقعهما.
وفي الجملة كان له شغف بالآداب شديد، وكان يقرض شيئًا من الشعر، وربما ندرت له الأبيات الجيدة؛ سألته أن يكتب لي شيئًا من شعره أو ينشدنيه، فأبى علي كل الإباء، وحلف لا يفعل...
أبو يوسف وعقيدة العامة في ابن تومرت
وخرج أمير المؤمنين أبو يوسف إلى تينمل للزيارة ومعه هؤلاء الغز المذكورون، فقعدوا تحت شجرة خروب مقابلة للمسجد؛ وقد كان ابن تومرت قال لأصحابه فيما قال لهم ووعدهم به: لِيُبصرن منكم من طالت حياته أمراء أهل مصر مستظلين بهذه الشجرة قاعدين تحتها! فلما جلس الغز على الصفة المتقدمة تحتها كان ذلك اليوم في

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- هجع فلان هُجُوعًا: نام. نافر: شارد، مهاجر. الوسن: النعاس.
2- الكرى: النعاس، أو النوم. السنات: جمع السنة: النعاس.
3- حَوَّم حول الشيء، وعليه -حوْمًا، وحومانًا: دار، وحوم في الأمر: استدام النظر فيه.
4- الكواعب: جمع الكاعب: الشابة التي نهد ثديها، أي: ارتفع وبرز.
5- التجنيس اللفظي: الجناس: من فنون البديع البلاغية، يقوم على اتفاق الكلمتين في كل الحروف، أو أكثرها، مع اختلاف المعنى.
6- صال عليه صولًا، وصولانًا: سطا عليه ليقهره.

 

ص -212-    تينمل يومًا عظيمًا؛ اتصل التكبير من كل جهة، وجاء النساء يُوَلْوِلْنَ ويضربْنَ بالدفوف، ويقلْنَ ما معناه بلسانهم: صدق مولانا المهدي! نشهد أنه الإمام حقًّا!.
فأخبرني من رأى أمير المؤمنين أبا يوسف حين رأى ذلك يتبسم استخفافًا لعقولهن؛ لأنه لا يرى شيئًا من هذا كله، وكان لا يرى رأيهم في ابن تومرت؛ فالله أعلم.
أخبرني الشيخ الصالح أبو العباس أحمد بن إبراهيم بن مطرف المري ونحن بحِجْر الكعبة قال: قال لي أمير المؤمنين أبو يوسف: يا أبا العباس، اشهد لي بين يدي الله عز وجل أني لا أقول بالعصمة -يعني عصمة ابن تومرت-. قال: وقال لي يومًا وقد استأذنته في فعل شيء يفتقر إلى وجود الإمام: يا أبا العباس، أين الإمام...؟ أين الإمام...؟.
أخبرني شيخ ممن لقيته من أهل مدينة جيان من جزيرة الأندلس، يسمى أبا بكر بن هانئ، مشهور البيت هناك؛ لقيته وقد علت سنه فرويت عنه، قال لي: لما رجع أمير المؤمنين من غزوة الأرك -وهي التي أوقع فيها بالأدفنش وأصحابه- خرجنا نتلقاه؛ فقدمني أهل البلد لتكليمه، فرفعت إليه، فسألني عن أحوال البلد وأحوال قضاته وولاته وعماله -على ما جرت عادته- فلما فرغت من جوابه، سألني كيف حالي في نفسي؛ فتشكرت له ودعوت بطول بقائه؛ ثم قال لي: ما قرأت من العلم؟ قلت: قرأت تواليف الإمام -أعني ابن تومرت- فنظر إلي نظرة المغضب، وقال: ما هكذا يقول الطالب! إنما حكمك أن تقول: قرأت كتاب الله، وقرأت شيئًا من السنة؛ ثم بعد هذا قل ما شئت. في أضراب1 لهذه الحكايات لو أوردناها لطال بها هذا التلخيص.
اهتمامه بالتشييد والبناء
وكان عند رجوعه من السفرة التي استنقذ فيها مدينة شلب من أيدي الروم على ما تقدم، أمر أن يبنى له على النهر الأعظم -نهر إشبيلية- حصن؛ وأن تبنى له في ذلك الحصن قصور وقباب، جاريًا في ذلك على عادته من حب البناء وإيثار التشييد -فإنه كان مهتمًّا بالبناء، وفي طول أيامه لم يخل من قصر يستجِدُّه أو مدينة يعمُرُها؛ زاد في مدينة مراكش في أيامه زيادة كثيرة يطول تفصيلها-فتمت له هذه القصور المذكورة على ما أراد وفوقه؛ وسمى ذلك الحصن حصن الفَرَجِ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- أضراب: جمع ضَرْب: المِثْل والشَّكْل.

 

ص -213-    علي بن حَزْمُون الشاعر*
ولما رجع من غزوته العطمى -المتقدم ذكرها- في سنة 591، جلس للوفود في قبة من تلك القباب مشرفة على النهر الأعظم، وأذن فدخلوا عليه على طبقاتهم ومراتبهم؛ وأنشده الشعراء؛ فممن أنشده في ذلك اليوم صديق لي من أهل مرسية اسمه علي بن حزمون، أنشده قصيدة في عَرُوض يسمى الخَبَب كان يقترحه على الشعراء، فوقعت القصيدة من أمير المؤمنين ومن الحاضرين موقع استحسان، أولها: من الخبب أو المحدث

حيتك معطرة النفس     نفحات الفتح بأندلسِ

فذَرِ الكفار ومأتمهمْ     إن الإسلام لفي عُرُسِ1

أإمام الحق وناصره      طهَّرْتَ الأرض من الدنسِ2

وملأتَ قلوب الناس هُدًى     فدنا التوفيق لملتمِسِ3

ورفعت منار الدين على      عَمَدٍ شُمٍّ وعلى أسسِ4

وصدعتَ رداء الكفر كما      صدع الدَّيْجور سَنَا قَبَسِ5

لا قيت جموعهمو فغدوا      فرصًا في قبضة مفترسِ6

جاءوك تضيق الأرض بهم      عددًا لم يُحصَ ولم يُقَسِ

خرجوا بَطَرًا ورئاء النا      س ليختلسوا مع مختلِسِ7

ومضيتَ لأمر الله على     ثقة بالله ولم تَخِسِ8

فأناخ الموتُ كلاكلَهُ     بظُبَاك على بَشَر رَجِسِ9


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ترجمته في: الأعلام: 271/4.
1- ذر الكفار: اتركهم.
2- الدنس: الوسخ، القذر.
3- الملتمس: من التمس الشيء: طلبه.
4- عمد شم: عظيمة الارتفاع.
5- صدع الشيء: شقه. الديجور: الظلمة. السنا: الضياء أو اللمعان. القبس: النار، أو الشعلة منها.
6- المفترس: من افترس فريسته: صادها وقتلها.
7- البطر: الغلو في المرح والزهو. رئاء الناس: أي: ليراهم الناس على حال، وهم على نقيضه. اختلس الشيء: استلبه في نُهْزَة ومُخاتلة.
8- خاس فلان: ذل، وخاس العهد: نقضه وخانه.
9- أناخ: نزل أو أقام. الكلاكل: جمع الكلكل: الصدر. الظُّبَى: جمع الظُّبَة: حد السيف.
البشر: جمع البشْرة: ظاهر الجلد. والبشر: الناس. الرجس: القذر.

 

ص -214-       وتساوى القاع بهامهم    الرُّبْض مع الحَرِب الضَّرِسِ1

سقيت بنجيعهمو أكم     وطئوا منهن على دَهَسِ2

فأولئك حزب الكفر ألا      إن الكفار لفي نكسِ3

أذوي الصلبان وراءكمو     خيل الملك الخَبِرِ النَّدُسِ4

لو أن البحر تناوله       جرعًا وطئته على يَبَسِ5

ولو أن الصم تُرَاجمها     أضحت كحل المُقَلِ النعسِ6

ملأ التوحيد أعنتها       وأغار بها روح القدسِ7

نهضت فمضت فقضت أملًا      أنسى عتب الدنيا فنُسِي

جاست جنبات الكفر فلم     تترك لهمو ما لم تَجُسِ8

لم يبق بها مثوى رجل      إلا وعليه شَذَى فرسِ9

لحقوا بقرون الشم فلا      سُقْيَا لطلولهمو الدُّرُسِ10

إن كان نجا أدفنشُهُمو     فإلى عيش نكد تعسِِ

نظر الملك الأعلى فرأى     ملكًا ما بين قَنًا وقِسِي11


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الهام: الرءوس، الواحدة: هامة. الربض: العاجز، لا ينهض للحاجات أو الأسفار أو الغزوات والحروب. الحرب من الرجال: المتمرس بالحرب، المجرب لها. الضرس: الذي ضرسته الحروب: أي جربته وأحكمته.
2- النجيع: دم الجوف. الأكم: جمع الأكمة: التل. الدهس: من دهس المكان دهسًا: لان وسهل، وليس هو برمل ولا تراب ولا طين.
3- النكس: من نكس الشيء: قلبه وجعل أعلاه أسفله، أو من نكس رأسه: طأطأه من خزي ونحوه.
4- الندس: الفطن، الكيس، أو الذي يخالط الناس من دون أن يثقل عليهم.
5- الجرع: جمع الجرعة: الحسوة من الماء ونحوه، ملء الفم.
6- الصم: الصخور الملساء الضخمة. تراجمها: تراميها.
7- روح القدس: جبريل -عليه السلام-.
8- جاس جوسًا وجوسانًا: تردد، يقال: جاسوا خلال الديار: ترددوا بينها بالإفساد، وطلبوا ما فيها. وجاس الشيء: طلبه بالاستقصاء.
9- المثوى: المقام. الشذى: قوة الرائحة.
10- الطلول: جمع الطلل: ما بقي شاخصًا من آثار الديار. الدرس: الزائلة، الممحوة، يقال: درس الطلل: زال وامَّحى وعفا أثره.
11- القنا: الرماح. القسي: جمع القوس.

ص -215-       كالصبح توشح رونقه    كالطور بنور الله كُسِي1

فمضى لم يُلْوِ على أحد      ورمى بالدرع بالتُّرُسِ2

لصليل الهند بمفرقه     لا يسمع صلصلة الجرَسِ3

سهر الموتور وأرَّقه      تَذْكار المُنْصُل والمَرَسِ4

وبكاء عقائلَ هاتفةٍ     كالوُرْق ينُحْنَ مع الغلسِ5

برزت وكأن ذوائبها      أذناب روامحة شُمُسِ6

ترنو كظباء الرمل على     وجل لضراغمة شُرُسِ7

قد كن مَهَا أنس فغدت      تحت الرايات بلا أَنَسِ8

إن الأيام قدِ ازدهرت      كالروض يروق لمغترسِ9

وتناسقت الآمال لنا      كالثغر تنَظَّم في لَعَسِ10

وتلألأ نور الحق على الـ     أثر المهدية فاقتبِسِ

أجزيرةَ أندلس اعتصمي     بإمام الأمة واحترسِي

أرْعاكِ حراستَه ملكٌ      جبريل له أحد الحرسِ

حكمت أسيافك سيدنا      في كل مُصِرِّ الكفر مُسِي11

ومضت في الروم مضاربها     وكذلك تفعل في الفُرْسِ


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- توشح الشيء: لبسه، أو تغطى به.
2- لم يلو على أحد: لم يَمِلْ أو يعطف.
3- الصليل: الصوت. الهند: أي: السيف المصنوع في الهند. صلصلة الجرس: صوته.
4- الموتور: الذي أصيب بقريبه أو حميمه. أرقه: منعه النوم. المنصل: السيف. المرس: الحبال، مفرده: مَرَسَة.
5- العقائل: جمع العقيلة: السيدة المُخدَّرة، أو الزوجة الكريمة. الورق: الحمائم، الواحدة: ورقاء. الغلس: ظلمة آخر الليل إذا اختلطت بضوء الصباح.
6- شمس: جمع شَمُوس: النَّفُور العَسِر الصحبة، يقال: شمس فلان: تأبى واستعصى، وشمست الدابة: جمحت ونفرت.
7- ترنو: تديم النظر مع سكون طَرْفٍ. الوجل: الخوف. الضراغمة: الأسود. شرس: جمع أشرس: سيئ الخلق, شديد الخلاف.
8- المها: جمع مهاة: البقرة الوحشية، والمراد هنا: المرأة التي يُؤنَس بها.
9- يروق له: يعجبه. المغترس: الذي يغرس الأشجار: يزرعها في الأرض.
10- تناسقت: انتظمت. اللعس: سمرة في الشفة مستحسنة.
11- مُسي: أي مسيء.

ص -216-       لا يخلف ربك موعده   دَوِّخْ أقطارَهُمو ودُسِ!1

أوردتها على تواليها وإن كان فيها طول؛ لغرابة عروضها، وجودة أكثر أبياتها؛ أنشدنيها منشئها المذكور من لفظه، ثم أعدتها عليه بلفظي آخر مرة لقيته بمدينة مرسية في سنة 614.
ولعلي بن حزمون هذا قدم في الآداب، واتساع في أنواع الشعر، ركب طريقة أبي عبد الله بن حجاج البغدادي2 - سامحه الله وغفر له- فأربى فيها عليه؛ وذلك أنه لم يدع موشحة تجري على ألسنة الناس بتلك البلاد إلا عمل في عروضها ورويها موشحة على الطريقة المذكورة؛ وله مع هذا في الهجاء يد لا تطاول، غير أنه يُفحش في كثير منه؛ فمن أحسن ما أحفظ له من ذلك وأسلمه من الفحش والإقذاع3، أبيات ركب فيها طريقة الحطيئة4: ابتدأ يهجو نفسه، ثم استطرد يهجو رجلًا من أعيان قواد الأندلس يقال له: محمد بن عيسى، مشهور النجدة عندهم. والأبيات: من الطويل

تأملتُ في المرآة وجهي فخِلْتُه     كوجه عجوز قد أشارت إلى اللهوِ

كأن على الأزرار مني عورة      تنادي الورى: غُضُّوا ولا تنظروا نحوِي5

فلو كنت مما تُنبت الأرض لم أكن      من الرائق الباهي ولا الطيب الحُلْوِ6

وأقبح من مَرْآيَ بطني فإنه     يُقَرْقِرُ مثل الرعد قَرْقَرَ في الجوِّ7

وإلا كقلب بين جنبي محمد     سليل ابن عيسى حين فر ولم يُلْوِ8

يود بأن لو كان في بطن أمه     جَنِينًا ولم يسمع حديثًا عن الغزوِ


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- دوخ الأقطار: أخضعها وأذلها. داس المكان: وَطِئَهُ.
2- هو أبو عبد الله، حسين بن أحمد بن محمد بن الحجاج البغدادي: شاعر، من كتاب العصر البويهي، غلب عليه الغزل والسفه في شعره. توفي سنة 391هـ/1001م. "تاريخ بغداد، الخطيب البغدادي: 14/8".
3- الإقذاع: الشتم بكلام قبيح.
4- الحطيئة: هو أبو مليكة، جرول بن أوس بن مالك العبسي: شاعر, مقدم، فصيح, مخضرم. وكان هجَّاءً عنيفًا، هجا أمه وأباه ونفسه. وتوفي نحو سنة 45 هـ/نحو 665م. "الأغاني، الأصفهاني: 130/2".
5- العورة: الخلل أو العيب في الشيء، أو كل ما يستره الإنسان من جسده استنكافًا أو حياءً.
6- الرائق: المعجب.
7- قرقر بطنه: صَوَّت من جوع أو غيره.
8- لم يلو: لم يعطف أو لم يمل.

ص -217-        ثقيلٌ ولكن عقله مثل ريشة   تطير بها الأرواح في مَهْمَهٍ دَوِّي1

تميل بشِدْقيه إلى الأرض لحية      تظن بها ماء يُفرَّغ من دَلْوِ2

وقد حدثوا عنه بكل نقيصة     ولكن مثلي لا يُروِّي ولا يَرْوِي

وله في هذا المعنى أحسن من هذا كثيرًا إلا أنه أقذع فيه؛ فلذلك لم أودعه هذه الأوراق؛ لأني لا أستجيز أن ينقل مثل هذا عني.
ونال ابن حزمون هذا عند قضاة المغرب وعماله وولاته جاهًا وثروة؛ كل ذلك خوفًا من لسانه وحذرًا من هجائه. ولا أعلم في جميع بلاد المغرب بلدًا إلا وأهاجي هذا الرجل تُحفظ فيه وتدرس؛ أسأل الله له المسامحة ولجميع إخواننا من المسلمين.
محمد بن عبد رَبِّه الكاتب حفيد صاحب العِقْد3
وأمر أمير المؤمنين بعرض الجند في هذا اليوم4 في السلاح التام؛ فلما انتشروا بين يديه وأعجبه ما رأى من حسن هيئاتهم، قام فصلى ركعتين شكرًا لله عز وجل، واتفق إثر فراغه من ذلك الركوع أن جاءت سحابة فأمطرت مطرًا جَوْدًا5 حتى ابتل الناس؛ فقال في ذلك صديق لي من الكتاب اسمه محمد بن عبد ربه، أصله من الجزيرة الخضراء، كان يكتب لأبي الربيع سليمان بن عبد الله بن عبد المؤمن6، وكان مختصًّا به: من البسيط

بادي الكرامة, بل بادي الكرامات     قد شفع الله آياتٍ بآياتِ7

يا ليت شعري ما شيء دعوتَ به     قبل السلام ومن بعد التحياتِ

شيء تأثر عنه الجو فاتصلتْ     مِنَ السحائب راياتٌ براياتِ


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الأرواح: الرياح. المهمه: المفازة البعيدة. دوي: نسبة إلى الدوية: الفلاة الواسعة.
2- الشدق: جانب الفم مما تحت الخد. أفرغ الدلو ونحوه: أخلاه مما فيه.
3- صاحب العقد: هو أحمد بن محمد بن عبد ربه بن حبيب بن حدير بن سالم: إمام، أديب، من أهل قرطبة. توفي سنة 328هـ/940م. من آثاره: كتاب "العقد الفريد". "تاريخ علماء الأندلس، ابن الفرضي: 38؛ بغية الملتمس، الضبي: 148".
4- أي: يوم عودته من وقعة الأرك سنة 491هـ.
5- مطر جود: غزير, لا مطر فوقه.
6- من أمراء بني عبد المؤمن، كان يلي مدينة سجلماسة وأعمالها، وكان يتقن العربية والبربرية. توفي سنة 604هـ/ 1207م. "الأعلام، الزركلي: 128/3".
7- الكرامة: الأمر الخارق للعادة، غير المقرون بالتحدي ودعوى النبوة، يظهره الله سبحانه وتعالى على أيدي أوليائه.

ص -218-       من كل وَطْفَاء لَفَّاء الرَّباب هَمَتْ    ماء نقيًّا على زُغْفٍ نقياتِ1

قل: كيف لا يفتح الله البلاد وقد     تفتحت لك أبواب السماواتِ

فاشتهر من يومئذٍ أبو عبد الله هذا وعرف مكانه ونبه قدره؛ وله إحسان كثير وقدم راسخة في صناعتي النظم والنثر، مع تحقق بشيء من أجزاء الفلسفة من علوم التعاليم وعلم المنطق؛ أنشدني -رحمه الله- من شعره: من الكامل

قف بالقباب وأين ذاك الموقف      واسألهم بمَأَمِّهم أن يعطفُوا2

وأنشد فؤادك إن عرفت مكانه      بين القباب وما إخالك تعرفُ

عند التى رمتِ الجمار غُديَّةً     وبنانها بدم القلوب مطرفُ3

نفسي الفداء لها وإن لم تبق لي      نفسًا تذكرني بها وتعرفُ

وهي قصيدة طويلة لم يبق تقادم العهد منها على خاطري سوى ما أوردته.
وأنشدته -رحمه الله- يومًا ونحن في قبة على شاطئ نهر وقد أخذ المطر في الانسكاب، بيتين أحفظهما لشاعر قديم: من المنسرح

حاكت يمين الرياح محكمة     في نهر واضح الأساريرِ4

فكلما ضعَّفَتْ به حَلقًا     قام لها القطر بالمساميرِ5

فاستحسنهما وقال لي: ذكرتني هذا المعنى؛ وأنشدني فيه لنفسه أبياتًا ما سمعت بمثلها؛ هذا على إكثار الناس في هذا المعنى وتواردهم6 عليه حتى صار أخلق7 من الليل والنهار, من كثرة تكراره على الأسماع، فلا يتخلص منه إلا من لطف حسه وجاد طبعه وحسن مَيْزه8؛ والأبيات: من البسيط

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الوطفاء: السحابة الممطرة تدلت ذيولها، من وطِف المطر وطفًا: انهمر. اللفاء "في الأصل": الروضة الملتفة الأغصان، أو المرأة الكثيرة لحم الفخذين، استعارها للسحابة. الرباب: السحاب الأبيض. همت: انصب ماؤها.
2- أم المكان، وإليه: قصده، والمأم: المكان أو الموضع الذي يُؤَم: يُقصد أو يُزار.
3- الجمار: الحصوات التي ترمى بمنى بعد الإفاضة من عرفات، في أيام الحج. مطرف: مخضب، مزين.
4- الأسارير: خطوط في الوجه أو الكف أو الجبهة، أو هي محاسن الوجه، استعارها للنهر.
5- القطر: المطر.
6- وارد الشاعر غيره مواردة: اتفق معه في معنى واحد, يرد بلفظ واحد, من غير أخذ ولا سماع.
7- أخلق من الليل والنهار: أكثر منهما خَلَقًا: أي أكثر بِلًى.
8- الميز: من ماز الشيء مَيْزًا: عزله وفرزه. والميز أيضًا: الرفعة.

ص -219-       بين الرياض وبين الجو معترَك    بِيضٌ من البرق أو سُمْرٌ من السمرِ1

إن أوترتْ قوسَها كفُّ السماء رمت     نَبْلًا من الماء في زغف من الغُدُرِ2

لأجل ذاك إذا هبت طلائعها     تدرع النهر واهتزت قَنَا الشجرِ3

فانظر -حفظك الله- إلى حسن توطئته لهذا المعنى, وقوة تخلصه إلى هذا التشبيه بأحسن لفظ, وأسهله على السمع والنطق.
واستأذنت عليه يومًا وهو في مجلس له؛ فلم ير -رحمه الله- أن يحجبني؛ فاسترفع ما كان لديه وأذن لي؛ فدخلت؛ فتلقاني أحسن لقاء، وأخذ يحدثني؛ وفهمت أنه مستحٍ خجِل, إذ عرف أني تفطنت لبعض الأمر، فأنشدته رافعًا عنه كلفة الخجل لبعض الشعراء: من الطويل

أَدِرْها فما التحريم فيها لذاتها     ولكن لأسباب تضمنها السُّكْرُ

إذا لم يكن سكر يزلُّ به الفتى      فسيَّانِ ماءٌ في الزجاجة أو خمرُ!

فطرب -نضر الله وجهه- وعاوده أنسه وانبسط، ثم سكت عني ساعة واستدعى الدواة وكتب بديهًا في قريب من المعنى الذي أنشدته فيه: من البسيط

ما ضرت الخمر لولا الشرع يشربها     قوم حديثهمو همس التسابيحِ4

ليسوا برُعش إذا أدوا فروضهمو      عند القيام ولا ميل مراجيحِ5

بيتٌ كبيت وفيه شادن سدِنٌ      مزج الكئوس به وَقْدُ المصابيحِ6

وأنشدني بعد هذا لنفسه، في هذا المجلس، من قديم شعره، مقطوعة سينية لم أسمع بأحسن منها؛ لم يبق على خاطري منها سوى آخر بيت فيها، وهو: من الطويل

ولكن قومًا لا يغيب نهارهم      إذا غربت شمس يديرونها شمسَا


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- المعترك: موضع الاعتراك. البيض: السيوف. السمر: الرماح.
2- أوتر القوس: جعل لها وترًا، أو شد وترها. الزغف: السحاب الذي أراق ماءَه، وهو يجلل السماء. ويقال: زغفت البئر، أو زغف النهر: كثر ماؤه. الغدر: جمع الغدير: النهر الصغير.
3- تدرع: لبس الدرع.
4- التسابيح: اسم جمع، من سَبَّح الإنسان، أي قال: سبحان الله، وغالبًا ما ينطق بها بصوت خافت.
5- الميل: جمع الأميل: الذي تميل به فرسه عند الركوب؛ لقلة خبرته. المراجيح: جمع المرجاح: الذي يترجح في سيره، أي: يتهزز ويتحرك.
6- الشادن: ولد الظبية. السدن: الخادم، أو الشَّحِم. وقد المصابيح: إشعالها.

ص -220-    وله -رحمه الله- رحلة إلى مصر لقي فيها ابن سناء الملك1 وأخذ عنه من شعره، وهو أول من سمعت يذكره عندنا ويروي شعره.
ولأبي عبد الله هذا اتساع في صناعة الشعر، إلا أنه نحل كثيرًا من شعره السيدَ الأجل أبا الربيع سليمان بن عبد الله بن عبد المؤمن أيام كتابته له، ولم يدع بعد ذلك في شيء مما نحله إياه من شعره، ولا ذكر أنه له؛ فكان أكثر شعره ينشد لأبي الربيع وترويه الرواة له. عرفت ذلك بعد مفارقته إياه؛ لأني فقدت شعر السيد أبي الربيع واختلف علي كلامه، ورأيت بخطه أشعارًا نازلة عن رتبة الشعر جدًّا؛ فعلمت أن ذلك الأول ليس من نسجه!.
وأخبرني ابن عبد ربه هذا قال: دخلت على السيد أبي الربيع وهو في قبة له وقد دخلت عليه الشمس من كُوًى2 صغار في أعلاها، فلما رأيت ذلك المنظر أعجبني وقلت بديهًا: من الكامل

لما رأته الشمس يفعل فعلها     في العالمين مقاسمًا ومساهمَا3

خافت توالي الجود يُنفد ماله     نثرت عليه دنانِرًا ودراهمَا!4

فحذف الياء من دنانير، وهذا جائز، كما قال الأول:

تضل به أمنًا وفيه العصافرُ

أبو جعفر الحميري المؤدِّب*
ومما يتعلق بأخبار أبي يوسف -رحمه الله- ما أخبرني شيخي وأستاذي أبو جعفر أحمد بن محمد بن يحيى الحميري -رحمه الله- أيام قراءتي عليه بقرطبة سنة 606، وذلك أنَّا بلغنا عليه في الحماسة إلى مقطوعة ابن زَيَّابة التيمي5 التي أولها: من السريع

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- هو أبو القاسم، هبة الله بن جعفر بن سناء الملك، المعروف بالقاضي السعيد: شاعر، من النبلاء. ولد بمصر، وتوفي فيها سنة 608هـ/1212م. "الأعلام، الزركلي: 71/8".
2- الكوى: جمع الكوة: الفتحة الصغيرة، أو الثقب في حائط ونحوه.
3- المقاسم: اسم فاعل من: تقاسم القوم الشيء بينهم: اقتسموه، أو من تقاسموا: تحالفوا.
المساهم: اسم فاعل من: ساهم فلان فلانًا: قاسمه، أي: أخذ نصيبًا معه، أو قارعه وغالبه.
4- الجود: العطاء والكرم. ينفد ماله: يفنيه.
* ترجمته في: الأعلام: 217/1.
5- هو عمرو بن لأي، المعروف بابن زيابة، من بني تيم اللات بن ثعلبة: شاعر جاهلي، اشتهر بنسبته إلى أمه "زيابة". "الأعلام، الزركلي: 84/5".

 

ص -221-       يا لَهْفَ زَيَّابة للحارث الـ   ـصابح فالغانم فالآيبِ1

فلما انتهينا منها إلى قوله:

والله لو لاقيتُه خاليًا      لآبَ سَيْفَانا مع الغالبِ!

قال لنا2: أحدثكم بأعجب ما اتفق لي في هذا البيت؛ وذلك أن أمير المؤمنين أبا يوسف -رحمه الله- لما فصل عن قرطبة متوجهًا إلى لقاء الأدفنش -لعنه الله- قال لي ولدي عصام بعد انفصاله بليلة أو ليلتين: يا أبتِ، رأيت البارحة أمير المؤمنين داخلًا قرطبة وقد رجع من السفر وهو متقلد بسيفين! فقلت: يا بني، لئن صدقت رؤياك هذه ليَهزمن الأدفنشَ -لعنه الله-! وخطر لي هذا البيت:

والله لو لاقيته خاليًا     لآب سيفانا مع الغالبِ

فصدقت الرؤيا والتعبير.
وأبو جعفر هذا المذكور، آخر من انتهى إليه علم الآداب بالأندلس. لزمته نحوًا من سنتين، فما رأيت أروى لشعر قديم ولا حديث، ولا أذكر بحكاية تتعلق بأدب أو مثل سائر أو بيت نادر أو سجعة مستحسنة منه، رضي الله عنه وجازاه عنا خيرًا. أدرك جلة من مشايخ الأندلس فأخذ عنهم علم الحديث والقرآن والآداب، وأعانه على ذلك طول عمره وصدق محبته وإفراط شغفه بالعلم. قال لي ولده عصام -وقد رأيت عنده نسخة من شعر أبي الطيب قُرئت علي أو أكثرها فألفيتها شديدة الصحة- فقلت له: لقد كتبتَها من أصل صحيح وتحرزتَ3 في نقلها. فقال لي: ما يمكن أن يكون في الدنيا أصل أصح من الأصل الذي كتبتُ منه! فقلت له: أين وجدته؟ قال: هو موجود الآن بين أيدينا وعندنا! وكنا في المسجد في زاوية، فقلت له: أين هو؟ فقال لي: عن يمينك! فعلمت أنه يريد الشيخ، فقلت: ما على يميني إلا الأستاذ! فقال لي: هو أصلي، وبإملائه كتبت؛ كان يملي علي من حفظه! فجعلت أتعجب. فسمع الأستاذ حديثنا؛ فالتفت إلينا وقال: فِيمَ أنتما؟ فأخبره ولده الخبر، فلما رأى تعجبي قال: بعيدًا أن تفلحوا! يعجب أحدكم من حفظ ديوان المتنبي! والله لقد أدركت أقوامًا لا يعدون من حفظ كتاب سيبويه4 حافظًا ولا يرونه مجتهدًا!.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الآيب: العائد.
2- يعني: أبا جعفر الحميري.
3- تحرَّز في النقل: توقَّى.
4- هو أبو بشر، عمرو بن عثمان بن قنبر الحارثي، الملقب بـ "سيبويه": إمام النحاة، وأول من بسط علم النحو في مصنف عرف بـ "الكتاب"، لم يصنع قبله ولا بعده مثله. توفي سنة 180 هـ/796م. "تاريخ بغداد، الخطيب البغدادي: 195/12".

ص -222-    توفي أبو جعفر هذا في شهر صفر من سنة 610 وقد كملت له ست وتسعون سنة؛ لم يبق في الأندلس أعلى روايةً منه في كل ما يُروى، ولم أر قبله ولا بعده -مع اتساع علمه وشدة تمييزه وحسن اختياره ومعرفته بعلل هذه الصناعة- أكثر إنصافًا منه ولا أسرع رجوعًا إلى الحق. كنت أنشده من شعري على ركاكته1 وكثرة تكلفه وبعده من الجودة أبياتًا لا أعدها شيئًا؛ يحملني على إنشادها إياه فرط استدعائه ذلك مني؛ فيلهج2 بها ويشتد استحسانه لها، وربما درسها فحفظها.
أنشدته يومًا -وقد استدعى مني ذلك على عادته- بيتين ارتجلتُهما في شاب كان يقرأ معنا, كان شديد العفة -رحمه الله- مع حسن رائع وظرف ناصع، كان اسمه فتحًا وهما: من المجتث

يا من له عن كِنَاسٍ       من المتيم قلبُهْ3

ما أنت كاسمك فتحٌ       وإنما أنت قلبُهْ

فطرب والتفت إلى ابنه وقال له: هذا والله الشعر، لا ما تصدعني به طول نهارك؛ إن كنت تقول مثل هذا وإلا فاسكت! فلما كان من الغد قال لي رحمه الله: أعلمتَ ما صنع عصام أمس؟ قلت: لا؛ قال: كان كما قالوا في المثل: سكت ألْفًا..؛ لم يزل أمس يُعمل فكرته، فبعد الجهد الشديد أخذ معنى بيتيك فسلبه رُوحه وأعدمه رَوْنقه ومسخه4 جملة فقال: من المجتث

سبى فؤادي خِشْفُ     فقوتي اليوم ضَعْفُ5

سموه فتحًا مجازًا      وفي الحقيقة حتفُ!6

ما زاد فيه أكثر من المجاز والحقيقة؛ فقلت أنا: هذا والله أحسن من شعري! فتغير لي وقال: يا بني، دع عنك هذه العادة؛ فإن أسوأ ما تخلق به الإنسان: المَلَق7 وتزيين الباطل، سيما إذا أضاف إلى ذلك الحَلِف الكاذب. والله إنك لتعلم أن هذا ليس بشيء، وإلا فقد اختل ميزك وساء اختيارك، وما أظن هذا هكذا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الركاكة: الضعف.
2- لهج بالشيء لَهَجًا: أُولع به فثابر عليه واعتاده.
3- الكناس: مَوْلِج في الشجر يأوي إليه الظبي ليستتر.
4- مسخ الشيء: حول صورته إلى أخرى أقبح منها.
5- سبى: أسر. الخشف: ولد الظبية أول ما يولد.
6- الحتف: الموت، الهلاك.
7- الملق: التودد بكلام لطيف، والتضرع فوق ما ينبغي.

 

ص -223-    وسمعته -من شدة إنصافه رحمه الله- يستحسن بيتين هجاه بهما صاحبنا علي بن خَرُوف رحمه الله1؛ وذلك أن الأستاذ -رحمه الله وعفا عنه- كان يلقب بـ الوَزَغِيّ، وكان عنده شاب يقرأ عليه يلقب بـ الغُرْنُوق -وهو اسم عندهم للكُركي، والفصيح فيه غِرْنيق2- فكان بعض الطلبة يتهمون الأستاذ بالميل إلى ذلك الشاب؛ وذلك خلق قد أعاذه الله منه ونزهه بفضله عنه؛ فقال ابن خروف في ذلك، سامحه الله: من الوافر

أحقًّا سامَّ أبرصَ ما سمعنا     بأنك قد تعشقتَ ابن ماءِ3

وكيف وأنت في الحيطان تمشي      وذاك يطير في جو السماءِ

فأبعده الأستاذ -رحمه الله- وأنهى خبره إلى القاضي أبي الوليد بن رشد، فأوجعه ضربًا؛ وامتنع الأستاذ من قراءته عليه؛ فحرمه الله بهذين البيتين فوائد علمه، وأبعده عن مَرِيع جَنابه4، وولاه الأستاذ خطته، وألقى حبله على غاربه5؛ فلم يفلح ابن خروف بعدها، ولا حصل على شيء من العلم؛ وإنما كان يعتمد فيما يأتي به على طبعه خاصة.
وقد امتد بنا عنان القول إلى ما لا حاجة لنا بأكثره؛ رغبةً في تنشيط الطالب وإيثارًا للإحماض6؛ ولنرجع الآن إلى ما قطعنا:
اليهود في عهد أبي يوسف
وفي آخر أيام أبي يوسف أمر أن يميز اليهود الذين بالمغرب بلباس يختصون به دون غيرهم؛ وذلك ثياب كُحلية وأكمام مفرطة السعة تصل إلى قريب من أقدامهم، وبدلًا من العمائم كلوتات على أشنع صورة كأنها البراديع7 تبلغ إلى تحت آذانهم؛ فشاع هذا الزي في جميع يهود المغرب؛ ولم يزالوا كذلك بقية أيامه وصدرًا من أيام

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- هو أبو الحسن، على بن محمد القيسي القرطبي، المعروف بابن خروف: شاعر من أهل قرطبة. توفي سنة 604 هـ/1208م. "الأعلام، الزركلي: 230/4".
2- كذا يقول المؤلف، واللفظان فصيحان، يستخدمان في كلام العرب.
3- سام أبرص: الوزغة.
4- المربع: الخصيب المُكلئ. الجناب: الناحية، ويقال: أنا في جناب فلان: أي في كنفه ورعايته.
5- الغارب: الكاهل، ويقال للإنسان: حبلك على غاربك: أي اذهب حيث شئت.
6- الإحماض: يقال: أحمض القوم إحماضًا: أفاضوا فيما يؤنسهم من الحديث والكلام.
7- البراديع والبرادع: جمع البردعة: ما يوضع على الحمار أو البغل ليركب عليه، كالسرج للفرس.

 

ص -224-    ابنه أبي عبد الله، إلى أن غيره أبو عبد الله المذكور، بعد أن توسلوا إليه بكل وسيلة، واستشفعوا بكل من يظنون أن شفاعته تنفعهم. فأمرهم أبو عبد الله بلبسان ثياب صفر وعمائم صفر؛ فهم على هذا الزي إلى وقتنا هذا -وهو سنة 621- وإنما حمل أبا يوسف على ما صنعه من إفرادهم بهذا الزي وتمييزه إياهم به، شكه في إسلامهم؛ وكان يقول: لو صح عندي إسلامهم لتركتهم يختلطون بالمسلمين في أنكحتهم وسائر أمورهم، ولو صح عندي كفرهم لقتلت رجالهم وسبيت ذراريهم1 وجعلت أموالهم فيئًا2 للمسلمين؛ ولكني متردد في أمرهم.
ولم تنعقد عندنا ذمة ليهودي ولا نصراني منذ قام أمر المصامدة، ولا في جميع بلاد المسلمين بالمغرب بيعة ولا كنيسة؛ إنما اليهود عندنا يظهرون الإسلام ويصلون في المساجد ويُقرئون أولادهم القرآن؛ جارين على ملتنا وسنتنا، والله أعلم بما تكن3 صدورهم وتحويه بيوتهم.
محنة أبي الوليد بن رشد
وفي أيامه نالت أبا الوليد محمد بن أحمد بن رشد -المقدم الذكر- محنة شديدة؛ وكان لها سببان: جلي وخفي؛ فأما سببها الخفي، وهو أكبر أسبابها، فإن الحكيم أبا الوليد -رحمه الله- أخذ في شرح كتاب الحيوان لأرسطاطاليس صاحب كتاب المنطق، فهذبه وبسط أغراضه وزاد فيه ما رآه لائقًا به، فقال في هذا الكتاب عند ذكره الزرافة وكيف تتولد وبأي أرض تنشأ: وقد رأيتها عند ملك البربر... جاريًا في ذلك على طريقة العلماء في الإخبار عن ملوك الأمم وأسماء الأقاليم، غير ملتفت إلى ما يتعاطاه خَدَمة الملوك ومتحيلو الكتاب من الإطراء والتقريظ4، وما جانس هذه الطرق؛ فكان هذا مما أحنقهم5 عليه, غير أنهم لم يظهروا ذلك. وفي الجملة فإنها كانت من أبي الوليد غفلة؛ فقد قال القائل: رحم الله من عرف زمانه فمانَه6، وميز مكانه فكانَه!. وما أحسن ما قال الأول: من الطويل

وأنزلني طول النوى دار غربة      إذا شئتُ لاقيت الذي لا أشاكلُه7


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الذراري: النساء.
2- الفيء: الخراج، أو الغنيمة تُنال بلا قتال.
3- تكن: تخفي، تستر.
4- التقريظ: المديح والثناء.
5- أحنقهم عليه: أغضبهم أو أسخطهم.
6- مانه مَوْنًا: احتمل مئونته، وقام بكفايته.
7- النوى: البعد.

 

ص -225-       فحامقتُهُ حتى يقال سجية    ولو كان ذا عقل لكنت أعاقلُه!1

واستمر الأمر على ذلك إلى أن استحكم ما في النفوس. ثم إن قومًا ممن يناوئه من أهل قرطبة ويدّعي معه الكفاءة في البيت وشرف السلف، سعوا به عند أبي يوسف؛ ووجدوا إلى ذلك طريقًا، بأن أخذوا بعض تلك التلاخيص التي كان يكتبها، فوجدوا فيها بخطه حاكيًا عن بعض قدماء الفلاسفة بعد كلام تقدم: فقد ظهر أن الزهرة أحد الآلهة....، فأوقفوا أبا يوسف على هذه الكلمة؛ فاستدعاه بعد أن جمع له الرؤساء والأعيان من كل طبقة وهم بمدينة قرطبة، فلما حضر أبو الوليد -رحمه الله- قال له بعد أن نبذ2 إليه الأوراق: أخطك هذا؟ فأنكر! فقال أمير المؤمنين: لعن الله كاتب هذا الخط! وأمر الحاضرين بلعنه؛ ثم أمر بإخراجه على حال سيئة وإبعاده وإبعاد من يتكلم في شيء من هذه العلوم. وكتبت عنه الكتب إلى البلاد بالتقدم إلى الناس في ترك هذه العلوم جملة واحدة، وبإحراق كتب الفلسفة كلها، إلا ما كان من الطب والحساب، وما يتوصل به من علم النجوم إلى معرفة أوقات الليل والنهار، وأخذ سمت القبلة. فانتشرت هذه الكتب في سائر البلاد وعُمل بمقتضاها.
ثم لما رجع إلى مراكش، نزع عن ذلك كله، وجنح إلى تعلم الفلسفة، وأرسل يستدعي أبا الوليد من الأندلس إلى مراكش للإحسان إليه, والعفو عنه. فحضر أبو الوليد -رحمه الله- إلى مراكش، فمرض بها مرضه الذي مات منه -رحمه الله-, وكانت وفاته بها في آخر سنة 594 وقد ناهز الثمانين، رحمه الله.
ثم توفي أمير المؤمنين أبو يوسف بعد هذا التاريخ بيسير، وكانت وفاته -كما ذكرنا- في غرة صفر الكائن في سنة 595.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- تحامق: تظاهر بالحماقة.
2- نبذ إليه الأوراق: طرحها.