تاريخ الخلفاء

القاهر بالله أبو منصور1
القاهر بالله: أبو منصور محمد بن المعتضد بن طلحة بن المتوكل.
أمه أم ولد اسمها فتنة؛ لما قتل المقتدر أحضر هو ومحمد بن المكتفي، فسألوا ابن المكتفي أن يتولى، فقال: لا حاجة لي في ذلك، وعمي هذا أحق به، فكلم القاهر، فأجاب، فبويع، ولقب القاهر بالله كما لقب به في سنة سبع عشرة، فأول ما فعل أن صادر آل المقتدر، وعذبهم، وضرب أم المقتدر حتى ماتت في العذاب.
وفي سنة إحدى وعشرين شغب عليه الجند، واتفق مؤنس وابن مقلة وآخرون على خلعه بابن المكتفي، فتحيل القاهر عليه إلى أن أمسكهم وذبحهم وطين على ابن المكتفي بين حائطين، وأما ابن مقلة فاختفى، فأحرقت داره، ونهبت دور المخالفين، ثم أطلق أرزاق الجند فسكنوا، واستقام الأمر للقاهر، وعظم في القلوب، وزيد في ألقابه: المنتقم من أعداء دين الله، ونقش ذلك على السكة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تولى الخلافة 319هـ، وحتى سنة 322هـ.

 

ص -280-      وفي هذه السنة أمر بتحريم القيان والخمر، وقبض على المغنين، ونفى المخانيث، وكسر آلات اللهو، وأمر ببيع المغنيات من الجواري على أنهن سواذج، وكان مع ذلك لا يصحو من السكر، ولا يفتر عن سماع الغناء.
وفي سنة اثنتين وعشرين ظهرت الديلم، وذلك لأن أصحاب مرداويج دخلوا أصبهان، وكان من قواده على بن بويه، فاقتطع مالًا جليلًا، فانفرد عن مخدومه، ثم التقى هو ومحمد بن ياقوت نائب الخليفة، فهزم محمد، واستولى ابن بويه على فارس، وكان بويه فقيرًا صعلوكًا يصيد السمك، رأى كأنه بال فخرج عن ذكره عمود نار، ثم تشعب العمود حتى ملأ الدنيا، فعبرت بأن أولاده يملكون الدنيا، ويبلغ سلطانهم على قدر ما احتوت عليه النار، فمضت السنون وآل الأمر على هذا إلى أن صار قائدًا لمرداويج بن زياد الديلمي، فأرسله يستخرج له مالًا من الكرخ، فاستخرج خمسمائة ألف درهم، وأتى همذان ليملكها، فغلق أهلها في وجهه الأبواب، فقاتلهم وفتحها عنوة، وقيل: صلحًا ثم سار إلى شيراز.
ثم إنه قل ما عنده من المال، فنام على ظهره، فخرجت حية من سقف المجلس، فأمر بنقضه، فخرجت صناديق ملأى ذهبًا، فأنفقها في جنده.
وطلب -خياطًا يخيط له شيئًا، وكان أطروشا- فظن أنه قد سعى به، فقال: والله ما عندي سوى اثني عشر صندوقًا، لا أعلم ما فيها، فأحضرت فوجدت فيها مالًا عظيمًا.
وركب يومًا، فساخت قوائم فرسه، فحفروه، فوجدوا فيها كنزًا، واستولى على البلاد وخرجت خراسان وفارس عن حكم الخلافة.
وفي هذه السنة قتل القاهر إسحاق بن إسماعيل النوبختي الذي كان قد أشار بخلافة القاهر، ألقاه على رأسه في بئر وطمت، وذنبه أنه زايد القاهر قبل الخلافة في جارية، واشتراها، فحقد عليه.
وفيها تحرك الجند عليه؛ لأن ابن مقلة في اختفائه كان يوحشهم منه، ويقول لهم: إنه بنى لكم المطامير ليحبسكم، وغير ذلك، فأجمعوا على الفتك به، فدخلوا عليه بالسيوف، فهرب، فأدركوه وقبضوا عليه في سادس جمادى الآخرة وبايعوا أبا العباس محمد بن المقتدر ولقبوه: الراضي بالله، ثم أرسلوا إلى القاهر الوزير والقضاة أبا الحسين بن القاضي أبي عمر، والحسن بن عبد الله بن أبي الشوارب، وأبا طالب بن البهلول، فجاءوه، فقيل له: ما تقول؟ قال: أنا أبو منصور محمد بن المعتضد، لي في أعناقهم بيعة وفي أعناق الناس، ولست أبرئكم، ولا أحللكم منها، فقوموا، فقاموا، فقال الوزير: يخلع ولا نفكر فيه، أفعاله مشهورة، وقال القاضي أبو الحسين: فدخلت على الراضي وأعدت عليه ما جرى، وأعملته أني أرى إمامته فرضًا، فقال: انصرف ودعني وإياه، فأشار سيماء مقدم الحجرية على الراضي بسمله، فكحله بمسمار محمي.
قال محمد الأصبهاني: كان سبب خلع القاهر سوء سيرته، وسفكه الدماء فامتنع من الخلع، فسملوا عينيه حتى سالتا على خديه.

 

ص -281-      وقال الصولي: كان أهوج، سفاكًا للدماء، قبيح السيرة، كثير التلون والاستحالة، مدمن الخمر، ولولا جودة حاجبه سلامة لأهلك الحرث والنسل.
وكان قد صنع حربة يحميها، فلا يطرحها حتى يقتل بها إنسانًا.
قال علي بن محمد الخراساني: أحضرني القاهر يومًا والحربة بين يديه، فقال: أسألك عن خلفاء بني العباس، عن أخلاقهم وشيمهم، قلت: أما السفاح فكان مسارعًا إلى سفك الدماء، واتبعه عماله على مثل ذلك، وكان مع ذلك سمحًا وصولًا بالمال، قال: فالمنصور؟ قلت: كان أول من أوقع الفرقة بين ولد العباس وولد أبي طالب، وكانوا قبلها متفقين، وهو أول خليفة قرب المنجمين، وأول خليفة ترجمت له الكتب السريانية والأعجمية، ككتاب كليلة ودمنة، وكتاب إقليدس، وكتاب اليونان، فنظر الناس فيها وتعلقوا بها، فلما رأى ذلك محمد بن إسحاق جمع المغازي والسير، والمنصور أول من استعمل مواليه وقدمهم على العرب، قال: فالمهدي؟ قلت: كان جوادًا عادلًا منصفًا، رد ما أخذ أبوه من الناس غصبًا، وبالغ في إتلاف الزنادقة، وبنى المسجد الحرام، ومسجد المدينة، والمسجد الأقصى، قال: فالهادي؟ قلت: كان جبارًا متكبرًا، فسلك عماله طريقه على قصر أيامه، قال: فالرشيد؟ قلت: كان مواظبًا على الغزو والحج، وعمر القصور والبرك بطريق مكة، وبنى الثغور: كأذنة، وطرسوس، والمصيصة، ومرعش، وعم الناس إحسانه، وكان في أيامه البرامكة، وما اشتهر من كرمهم، وهو أول خليفة لعب بالصوالجة، ورمى النشاب في البرجاس ولعب بالشطرنج من بني العباس، قال: فالأمين؟ قلت: كان جوادًا، إلا أنه انهمك في لذاته، ففسدت الأمور قال: فالمأمون؟ قلت: سلك طريقه، وغلب عليه النجوم والفلسفة، وكان حليمًا جوادًا، قال: فالمعتصم؟ قلت: غلب عليه حب الفروسية والتشبه بملوك الأعاجم، واشتغل بالغزو والفتوح، قال: فالواثق؟ قلت: سلك طريقة أبيه، قال: فالمتوكل؟ قلت: خالف ما كان عليه المأمون والمعتصم والواثق من الاعتقادات، ونهى عن الجدال، والمناظرات، والأهواء، وعاقب عليها، وأمر بقراءة بالحديث وسماعه، ونهى عن القول بخلق القرآن، فأحبه الناس، ثم سأل عن باقي الخلفاء، وأنا أجيبه بما فيهم، فقال لي: سمعت كلامك، وكأني أشاهد القوم، ثم قام.
وقال المسعودي: أخذ القاهر من مؤنس وأصحابه مالًا عظيمًا، فلما خلع وسمل طولب بها فأنكر، فعذب بأنواع، فلم يقر بشيء، فأخذه الراضي بالله، فقربه وأدناه، وقال له: قد ترى مطالبة الجند بالمال، وليس عندي شيء, والذي عندك فليس بنافع لك، فاعترف به، فقال: أما إذا فعلت هذا فالمال مدفون في البستان  وكان قد أنشأ بتسانًا فيه أصناف الشجر، حملت إليه من البلاد، وزخرفه، وعمل فيه قصرًا، وكان الراضي مغرمًا بالبستان والقصر، فقال: وفي أي مكان المال منه؟ فقال: أنا مكفوف، لا أهتدي إلى مكان فاحفر البستان تجده؟ فحفر الراضي البستان وأساسات القصرن وقلع الشجر، فلم يجد شيئًا، فقال له: وأين المال؟ فقال: وهل عندي مال؟ وإنما كان حسرتي في جلوسك في البستان وتنعمك،

 

ص -282-      فأردت أن أفجعك فيه، فندم الراضي وحبسه، فأقام إلى سنة ثلاث وثلاثين، ثم أطلقوه وأهملوه، فوقف يومًا بجامع المنصور بين الصفوف وعليه مبطنة بيضاء، وقال: تصدقوا علي، فأنا من قد عرفتم، وذلك في أيام المستكفي ليشنع عليه، فمنع من الخروج إلى أن مات سنة تسع وثلاثين في جمادى الأولى عن ثلاث وخمسين سنة،
وكان له من الولد: عبد الصمد، وأبو القاسم، وأبو الفضل، وعبد العزيز.
ومات في أيامه من الأعلام: الطحاوي شيخ الحنفية، وابن دريد، وأبو هاشم الجبائي، وآخرون.