تاريخ الخلفاء

ص -336-      العباسيون في مصر: المستنصر بالله أحمد بن الظاهر بأمر الله1
المسنتصر بالله: أحمد أبو القاسم بن الظاهر بأمر الله أبي نصر محمد بن الناصر لدين الله أحمد.
قال الشيخ قطب الدين: كان محبوسًا ببغداد، فلما أخذت التتار بغداد أطلق فهرب، وصار إلى عرب العراق، فلما تسلطن الملك الظاهر بيبرس، وفد عليه في رجب ومعه عشرة من بني مهارش، فركب السلطان للقائه ومعه القضاة والدولة، فشق القاهرة، ثم أثبت نسبه على يد قاضي القضاة تاج الدين ابن بنت الأعز، ثم بويع له بالخلافة، فأول من بايعه السلطان، ثم قاضي القضاة تاج الدين، ثم الشيخ عز الدين بن عبد السلام، ثم الكبار على مراتبهم، وذلك في ثالث عشر رجب، ونقش اسمه على السكة، وخطب له، ولقب بلقب أخيه، وفرح الناس، وركب يوم الجمعة وعليه السواد إلى جامع القلعة، وصعد المنبر وخطب خطبة ذكر فيها شرف بني العباس، ودعا فيها للسلطان والمسلمين، ثم صلى بالناس، ثم رسم بعمل خلعة خليفة السلطان، وبكتابة تقليد له، ثم نصب خيمة بظاهر القاهرة، وركب المستنصر بالله والسلطان يوم الاثنين رابع شعبان إلى الخيمة، وحضر القضاة والأمراء والوزير، فألبس الخليفة السلطان الخلعة بيده وطوقه، ونصب منبر فصعد عليه فخر الدين بن لقمان فقرأ التقليد، ثم ركب السلطان بالخلعة، ودخل من باب النصر، وزينت القاهرة، وحمل الصاحب التقليد على رأسه راكبًا والأمراء مشاة.
ورتب السلطان للخيفة أتابكًا، واستادارًا، وشرابيًا، وخازندارًا، وحاجبًا، وكاتبًا، وعين له خزانة، وجملة مماليك، مائة فرس، وثلاثين بغلًا، وعشرة قطارات جمال، إلى مثل ذلك.
قال الذهبي: ولم يل الخلافة أحد بعد ابن أخيه إلا هذا والمقتفي.
وأما صاحب حلب الأمير شمس الدين أقوش، فإنه أقام بحلب خليفة ولقبه الحاكم بأمر الله، وخطب له، ونقش اسمه على الدراهم.
ثم إن المستنصر هذا عزم على التوجه إلى العراق، فخرج معه السلطان يشيعه إلى أن دخلوا دمشق، ثم جهز السلطان الخليفة وأولاد صاحب الموصل، وغرم عليه وعليهم من الذهب ألف ألف دينار وستين درهم، فسار الخليفة ومعه ملوك الشرق وصاحب سنجار، فاجتمع به الخليفة الحلبي الحاكم، ودان له، ودخل تحت طاعته، ثم سار ففتح الحديثة، ثم هيت، فجاءه عسكر من التتار، فتصافوا له، فقتل من المسلمين جماعة، وعدم الخليفة المستنصر، فقيل: قتل وهو الظاهر،  وقيل: سلم وهرب فأضمرته البلاد، وذلك في الثالث من المحرم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تولى الخلافة 659هـ وحتى 661هـ.

 

ص -337-      سنة ستين، فكانت خلافته دون ستة أشهر، وتولى بعده بسنة الحاكم الذي كان بويع بحلب في حياته.

الحاكم بأمر الله أبو العباس بن الحسن1
الحاكم بأمر الله: أبو العباس أحمد بن أبي علي الحسن بن أبي بكر بن الحسن بن علي القبي -بضم القاف وتشديد الباء الموحدة- ابن الخليفة المسترشد بالله بن المستظهر بالله.
كان قد اختفى وقت أخذ بغداد ونجا، ثم خرج منها وفي صحبته جماعة، فقصد حسين بن فلاح أمير بني خفاجة، فأقام عنده مدة، ثم توصل مع العربي إلى دمشق، وأقام عند الأمير عيسى بن مهنا مدة، فطالع به الناصر صاحب دمشق، فأرسل يطلبه فبغته مجيء التتار، فلما جاء الملك المظفر دمشق سير في طلبه الأمير قلج البغدادي، فأجمع به وبايعه بالخلافة وتوجه في خدمته جماعة من أمراء العرب، فافتتح الحاكم غانة بهم، والحديثة، وهيت، والأنبار، وصاف التتار، وانتصر عليهم، ثم كاتبه علاء الدين طيبرس نائب دمشق يومئذ والملك الظاهر يستدعيه، فقدم دمشق في صفر، فبعثه إلى السلطان، وكان المستنصر بالله قد سبقه بثلاثة أيام إلى القاهرة، فما رأى أن يدخل إليها خوفًا من أن يمسك، فرجع إلى حلب فبايعه صاحبها ورؤساؤها منهم عبد الحليم بن تيمية، وجمع خلقًا كثيرًا، وقصد غانة، فلما رجع المستنصر وافاه بغانة، فانقاد الحاكم له ودخل تحت طاعته، فلما عدم المستنصر في الوقعة المذكورة في ترجمته قصد الحاكم الرحبة وجاء إلى عيسى بن مهنا، فكاتب الملك الظاهر بيبرس فيه، فطلبه، فقدم إلى القاهرة ومعه ولده وجماعة، فأكرمه الملك الظاهر وبايعوه بالخلافة، وامتدت أيامه، وكانت خلافته نفيًا وأبعين سنة، وأنزله الملك الظاهر بالبرج الكبير بالقلعة وخطب بجامع القلعة مرات.
قال الشيخ قطب الدين: في يوم الخميس ثامن المحرم سنة إحدى وستين جلس السلطان مجلسًا عامًّا، وحضر الحاكم بأمر الله راكبًا إلى الإيواء الكبير بقلعة الجبل، وجلس مع السلطان، وذلك بعد ثبوت نسبه، فأقبل عليه السلطان وبايعه بإمرة المؤمنين، ثم أقبل هو على السلطان وقلده الأمور، ثم بايعه الناس على طبقاتهم، فلما كان من الغد يوم الجمعة خطب خطبة ذكر فيها الجهاد والإمامة، وتعرض إلى ما جرى من هتك حرمة الخلافة، ثم قال وهذا السلطان الملك الظاهر قد قام بنصر الإمامة عند قلة الأنصار، وشرد جيوش الكفر بعد أن جاسوا خلال الديار، وأول الخطبة: الحمد الله الذي أقام لآل العباس ركنا وطيدًا ثم كتب بدعوته إلى الآفاق.
وفي هذه السنة وبعدها تواتر مجيء جماعة من التتار مسلمين مستأمنين، فأعطوا أخبازًا وأرزاقًا، فكان ذلك مبدأ كفاية شرهم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تولى الخلافة سنة 661هـ، وحتى 701هـ.

 

ص -338-      وفي سنة اثنتين وستين فرغت المدرسة الظاهرية بين القصرين وولي بها تدريس الشافعية التقي ابن رزين، وتدريس الحديث الشريف الدمياطي، وفيها زلزلت مصر زلزلة عظيمة.
وفي سنة ثلاث وستين انتصر سلطان المسلمين بالأندلس أبو عبد الله بن الأحمر على الفرنج، واسترجع من أيديهم اثنتين: من جملتها إشبيلية ومرسية.
وفيها كثر الحريق بالقاهرة في عدة مواضع، ووجدت لفائف فيها النار والكبريت على الأسطحة، وفيها حضر السلطان بحر أشمون، وعمل فيه بنفسه والأمراء، وفيها مات طاغية التتار هولاكو، وملك بعده ابنه أبغا.
وفيها سلطن السلطان ولده الملك السعيد وعمره أربع سنين، وركبه بأبهة الملك في قلعة الجبل، وحمل الغاشية بنفسه بين يدي ولده من باب السر إلى باب السلسلة، ثم عاد وركب إلى القاهرة والأمراء مشاة بين يديه.
وفيها جدد بالديار المصرية القضاة الأربعة، من كل مذهب قاضٍ، وسبب ذلك توقف القاضي تاج الدين ابن بنت الأعز عن تنفيذ كثير من الأحكام، وتعطلت الأمور، وأبقى للشافي النظر في أموال الأيتام، وأمور بيت المال، ثم فعل ذلك بدمشق.
وفي رمضان منها حجب السلطان الخليفة، ومنعه الناس لكون أصحابه كانوا يخرجون إلى البلد ويتكلمون في أمر الدولة.
وفي سنة خمس وستين وستمائة أمر السلطان بعمل الجامع بالحسنية، وتم في سنة سبع وستين، وقرر له خطيب حنفي.
وفي سنةأربع وسبعين وجه السلطان جيشًا إلى النوبة ودنقلة، فانتصروا وأسر ملك النوبة، وأرسل به إلى الملك الظاهر، ووضعت الجزية على أهل دنقلة، ولله الحمد.
قال الذهبي: وأول ما غزيت النوبة في سنة إحدى وثلاثين من الهجرة، غزاها عبد الله بن أبي سرح في خمسة آلاف فارس ولم يفتحها، فهادنهم ورجع، ثم غزيت في زمن هشام، ولم تفتح، ثم في زمن المنصور، ثم غزاها تكن الزنكي، ثم كافور الإخشيدي، ثم ناصر الدولة ابن حمدان، ثم توران شاه أخو السلطان صلاح الدين في سنة ثمانٍ وستين وخمسمائة، ولم تفتح إلا هذا العام، وقال في ذلك ابن عبد الظاهر:

هذا هو الفتح لا شيء سمعت به               في شاهد العين لا ما في الأسانيد

وفي سنة ست وسبعين مات الملك الظاهر بدمشق في المحرم، واستقل ابنه الملك السعيد محمد بالسلطنة وله ثماني عشرة سنة.
وفيها جمع التقي ابن رزين بين قضاة مصر والقاهرة، وكان قضاء مصر قبل ذلك مفردًا عن قضاء القاهرة، ثم لم يفرد بعد ذلك قضاء مصر عن قضاة القاهرة.
وفي سنة ثمانٍ وسبعين خلع الملك السعيد من السلطنة، وسير إلى الكرك سلطانًا بها، فمات من عامه، وولوا مكانه بمصر أخاه بدر الدين سلامش -وله سبع سنين- ولقبوه بالملك

 

ص -339-      العادل وجعلوا أتابكه الأمير سيف الدين قلاوون وضرب السكة باسمه على وجه، ودعي لهما في الخطبة، ثم في رجب نزع سلامش من السلطنة بغير نزاع، وتسلطن قلاوون ولقب بالملك المنصور.
وفي سنة تسع وسبعين يوم عرفة وقع بديار مصر برد كبار وصواعق.
وفي سنة ثمانين وصل عسكر التتار إلى الشام، وحصل الرجيف، فخرج السلطان لقتالهم ووقع المصاف، وحصل مقتلة عظيمة، ثم حصل النصر للمسلمين والحمد لله.
وفي سنة ثمانٍ وثمانين أخذ السلطان طرابلس بالسيف، وكانت في أيدي النصارى من سنة ثلاث وخمسمائة إلى الآن، وكان أول فتحها في زمن معاوية، وأنشأ التاج ابن الأثير كتابًا بالبشارة بذلك إلى صاحب اليمن يقول فيه: وكانت الخلفاء والملوك في ذلك الوقت ما فيهم إلا من هو مشغول بنفسه، مكب على مجلس أنسه، يرى السلامة غنيمة، وإذا عن له وصف الحرب لم يسأل إلا عن طريق الهزيمة، قد بلغ أمله من الرتبة، وقنع بالسكة والخطبة، أموال تنهب، وممالك تذهب، لا يبالون بما سلبوا، وهم كما قيل:

إن قاتلوا قتلوا، أو طاردوا طردوا                  أو حاربوا حربوا، أو غالبوا غلبوا

إلى أن أوجد الله من نصر دينه، وأذل الكفر وشياطينه.
وذكر بعضهم أن معنى طرابلس باللسان الرومي ثلاثة حصون مجتمعة.
وفي سنة تسع وثمانين مات السلطان قلاوون في ذي القعدة، وتسلطن ابنه الملك الأشرف صلاح الدين خليل، فأظهر أمر الخليفة، وكان خاملًا في أيام أبيه، حتى إن أباه لم يطلب منه تقليدًا بالملك، فخطب الخليفة بالناس يوم الجمعة، وذكر في خطبته توليته للملك الأشرف أمر الإسلام.
ولما فرغ من الخطبة صلى بالناس قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة، ثم خطب الخليفة مرة خطبة أخرى جهادية، وذكر بغداد وحرض على أخذها.
وفي سنة إحدى وتسعين سافر السلطان فحاصر قلعة الروم.
وفي سنة ثلاث وتسعين وستمائة قتل السلطان بتروجة، وسلطنوا أخاه محمد بن المنصور، ولقب بالملك الناصر، وله يومئذ تسع سنين، ثم خلع في المحرم سنة أربع وتسعين، وتسلطن كتبغا المنصوري، وتسمى بالملك العادل.
وفي هذه السنة دخل في الإسلام قازان بن أرغون بن أبغا بن هولاكو ملك التتار وفرح الناس بذلك، وفشا الإسلام في جيشه.
وفي سنة ست وتسعين وستمائة كان السلطان بدمشق، فوثب لاجين على السلطنة وحلف له الأمراء، ولم يختلف عليه اثنان، ولقب الملك المنصور وذلك في صفر، وخلع عليه الخليفة الخلعة السوداء، وكتب له تقليدًا وسير العادل على صرخد نائبًا بها، ثم قتل لاجين في جمادى الآخرة سنة ثمانٍ وتسعين، وأعيد الملك الناصر محمد بن المنصور قلاوون، وكان

 

ص -340-      منفيًّا بالكرك، فقلده الخليفة، فسير العادل إلى حماة نائبًا بها، فاستمر إلى أن مات سنة اثنتين وسبعمائة.
وفي سنة إحدى وسبعمائة توفي الخليفة الحاكم إلى رحمة الله، ليلة الجمعة ثامن عشر جمادى الأولى، وصلي عليه العصر بسوق الخيل تحت القلعة، وحضر جنازته رجال الدولة والأعيان كلهم مشاة، ودفن بقرب السيدة نفيسة، وهو أول من دفن منهم هناك، واستمر مدفنهم إلى الآن، وكان عهد بالخلافة لولده أبي الربيعة سليمان.
وممن مات في أيام الحاكم من الأعلام: الشيخ عز الدين بن عبد السلام، والعلم اللورقي، وأبو القاسم القباري الزاهد، والزين خالد النابلسي، والحافظ أبو بكر بن سدي، والإمام أبو شامة، والتاج ابن بنت الأعز، وأبو الحسن بن عدلان، ومجد الدين بن دقيق العيد، وأبو الحسن بن عصفور النحوي، والكمال سلار الإربلي، وعبد الرحيم بن يونس صاحب: التعجيز، والقرطبي صاحب التفسير والتذكرة، والشيخ جمال الدين بن مالك، وولده بدر الدين، والنصير الطوسي رأس الفلاسفة وخلاصة التتار، والتاج بن السباعي خازن المستنصرية، والبرهان بن جماعة، والنجم الكاتبي المنطقي، والشيخ محيي الدين النووي، والصدر سليمان إمام الحنفية، والتاج بن ميسر المؤرخ، والكواشي المفسر، والتقي ابن رزين، وابن خلكان صاحب وفيات الأعيان، وابن إياز النحوي، وعبد الحليم بن تيمية، وابن جعوان، وناصر الدين بن المنير، والنجم بن البارزي، والبرهان النسفي صاحب التصانيف في الخلاف والكلام، والرضي الشاطبي اللغوي، والجمال الشريشي، والنفيسي شيخ الأطباء، وأبو الحسين بن أبي الربيع النحوي، والأصبهاني شارح المحصول، والعفيف التلمساني الشاعر المنسوب إلى الإلحاد، والتاج بن الفركاح، والزين بن المرحل، والشمس الجوني، والعز الفاروقي، والمحب الطبري، والتقي ابن بنت الأعز، والرضي بن القسطنطيني، والبهاء ابن النحاس النحوي، وياقوت المستعصمي صاحب الخط المنسوب، وخلائق آخرون.

المستكفي بالله أبو الربيع بن الحاكم بأمر الله1
المستكفي بالله: أبو الربيع سليمان بن الحاكم بأمر الله.
ولد في نصف المحرم سنة أربع وثمانين وستمائة، واشتغل بالعلم قليلًا، وبويع بالخلافة بعهد من أبيه في جمادى الأولى سنة إحدى وسبعمائة، وخطب له على المنابر في البلاد، المصرية والشامية، وسارت البشارة بذلك إلى جميع الأقطار والممالك الإسلامية، وكانوا يسكنون بالكبش، فنقلهم السلطان إلى القلعة، وأفرد لهم دارًا.
وفي سنة اثنتين هجم التتار على الشام، فخرج السلطان ومعه الخليفة لقتالهم، فكان النصر عليهم، وقتل من التتار مقتلة عظيمة، وهرب الباقون.
وفيها زلزلت مصر والشام زلزلة عظيمة، هلك فيها خلق تحت الهدم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تولى الخلافة 701هـ وحتى 740هـ.

 

ص -341-      وفي سنة أربع أنشأ الأمير بيبرس الجاشنكير المنصوري الوظائف والدروس بجامع الحاكم، وجدده بعد خرابه من الزلزلة، وجعل القضاة الأربعة مدرسي الفقه، وشيخ الحديث: سعد الدين الحارسي، وشيخ النحو: أبا حيان.
وفي سنة ثمانٍ خرج السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون قاصدًا للحج، فخرج من مصر في شهر رمضان المعظم، وخرج معه جماعة من الأمراء لتوديعه فردهم، فلما اجتاز بالكرك عدل إليها فنصب له الجسر فلما توسط انكسر به فسلم من كان قدامه وقفز به الفرس فنجا وسقط من وراءه فكانوا خمسين، فمات أربعة وتهشم أكثرهم في الوادي تحته، وأقام السلطان بالكرك، ثم كتب كتابًا إلى الديار المصرية يتضمن عزل نفسه عن المملكة، فأثبت ذلك القضاة بمصر، ثم نفذ على قضاة الشام، وبويع الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير بالسلطنة في الثالث والعشرين من شهر شوال ولقب الملك المظفر وقلده الخليفة، وألبسه الخلعة السوداء والعمامة المدورة، ونفذ التقليد إلى الشام في كيس أطلس أسود فقرئ هناك، وأوله: إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم.
ثم عاد الملك الناصر في رجب سنة تسع يطلب عوده إلى الملك، ومالأه على ذلك جماعة من الأمراء، فدخل دمشق في شعبان، ثم دخل مصر يوم عيد الفطر وصعد القلعة، وكان المظفر بيبرس فر في جماعة من أصحابه قبل قدومه بأيام، ثم أمسك وقتل من عامه، وقال: العلاء الوداعي في عود الناصر إلى الملك.

الملك الناصر قد أقبلت                        دولته مشرقة الشمس

عاد إلى كرسيه مثل ما                       عاد سليمان إلى الكرسي

وفي هذه السنة تكلم الوزير في إعادة أهل الذمة إلى لبس العمائم البيض وأنهم قد التزموا للديون ألف دينار كل سنة زيادة على الجالية، فقام الشيخ تقي الدين بن تيمية في إبطال ذلك قيامًا عظيمًا وبطل ولله الحمد.
وفيها أظهر ملك التتار خوبند الرفض في بلاده، وأمر الخطباء ألا يذكروا في الخطبة إلا علي بن أبي طالب، وولديه، وأهل البيت، واستمر ذلك إلى أن مات سنة ست عشرة، وولي ابنه أبو سعيد، فأمر بالعدل، وأقام السنّة والترضي عن الشيخين، ثم عثمان، ثم علي في الخطبة، وسكن كثير من الفتن ولله الحمد، وكان هذا من خير ملوك التتار وأحسنهم طريقة، واستمر إلى أن مات سنة ست وثلاثين، ولم يقم لهم بعده قائمة، بل تفرقوا شذر مذر.
وفي سنة عشر زاد النيل زيادة كثيرة لم يسمع بمثلها، وغرق منها بلاد كثيرة وناس كثيرون وفي سنة أربع وعشرين زاد النيل أيضًا كذلك، ومكث على الأرض ثلاثة أشهر ونصفًا وكان ضرره أكثر من نفعه.
وفي سنة ثمانٍ وعشرين عمرت سقوف المسجد الحرام بمكة والأبواب وظاهره مما يلي باب بني شيبة.

 

ص -342-      وفي سنة ثلاثين أقيمت الجمعة بإيوان الشافعية من المدرسة الصالحية، بين القصرين، وذلك أول ما أقيمت بها.
وفيها فرغ من الجامع الذي أنشأه قوصون خارج باب زويلة وخطب به، وحضره السلطان والأعيان، وباشر الخطابة يومئذ قاضي القضاة جلال الدين القزويني، ثم استقر في خطابته فخر الدين بن شكر.
وفي سنة ثلاث وثلاثين أمر السلطان بالمنع من رمي البندق، وألا تباع قسيه، ومنع المنجمين.
وفيها عمل السلطان للكعبة بابًا من الأبنوس عليه صفائح فضة زنتها خمسة وثلاثون ألفًا وثلاثمائة وكسر، وقلع الباب العتيق فأخذه بنو شيبة بصفائحه، وكان عليه اسم صاحب اليمن.
وفي سنة ست وثلاثين وقع بين الخليفة والسلطان أمر، فقبض على الخليفة واعتقله بالبرج، ومنعه من الاجتماع بالناس، ثم نفاه في ذي الحجة سنة سبع إلى قوص هو وأولاده وأهله، ورتب لهم ما يكفيهم، وهم قريب من مائة نفس فإنا لله وإنا إليه راجعون، واستمر المستكفي بقوص إلى أن مات بها في شعبان سنة أربعين وسبعمائة، ودفن بها، وله بضع وخمسون سنة.
وقال ابن حجر في الدرر الكامنة: كان فاضلًا، جوادًا، حسن الخط جدًّا، شجاعًا، يعرف بلعب الأكرة ورمي البندق، وكان يجالس العلماء والأدباء، وله عليهم أفضال، ومعهم مشاركة، وكان بطول مدته يخطب له على المنابر حتى في زمن حبسه ومدة إقامته بقوص، وكان بينه وبين السلطان أولًا محبة زائدة، وكان يخرج مع السلطان إلى السرحات، ويلعب معه الكرة، وكانا كالأخوين.
والسبب في الوقيعة بينهما أنه رفع إليه قصة عليها خط الخليفة بأن يحضر السلطان بمجلس الشرع الشريف، فغضب من ذلك، وآل الأمر إلى أن نفاه إلى قوص، ورتب له على واصل المكارم أكثر مما كان له بمصر.
وقال ابن فضل الله في ترجمته من المسالك: كان حسن الجملة، لين الحملة.
وممن مات في أيام المستكفي من الأعلام: قاضي القضاة تقي الدين بن دقيق العيد، والشيخ زين الدين الفارقي شيخ الشافعية، وشيخ دار الحديث وليها بعد وفاة النووي إلى الآن، ووليها بعده صدر الدين بن الوكيل، والشرف الفزاري، والصدر بن الزرير بن الحاسب، والحافظ شرف الدين الدمياطي، والضياء الطوسي، شارح: الحاوي، والشمس السروجي شارح: الهداية، من الحنفية، والإمام نجم الدين بن الرضعة إمام الشافعية في زمانه، والحافظ سعد الدين الحارثي، والفخر التوزي محدث مكة، والرشيد بن المعلم من كبار الحنفية، والأربوي، والصدر بن الوكيل شيخ الشافعية، والكمال بن الشريشي، والتاج التبريزي،

 

ص -343-      والفخر ابن بنت أبي سعد، والشمس بن أبي العز شيخ الحنفية، والرضي الطبري إمام مكة، والصفي أبو الثناء، ومحمود الأرموي، والشيخ نور الدين البكري، والعلاء بن العطار تلميذ الإمام النووي، والشمس الأصبهاني صاحب التفسير، وشرح مختصر ابن الحاجب، وشرح التجريد، وغير ذلك، والتقي الصائغ المقرئ خاتمة مشايخ القراء، والشهاب محمود شيخ صناعة الإنشاء، والجمال بن مطهر شيخ الشيعة، والكمال بن قاضي شهبة، والنجم القمولي صاحب الجواهر والبحر، والكمال بن الزملكاني، والشيخ تقي الدين بن تيمية، وابن جبارة، شارح: الشاطبية، والنجم البالسي شارح: التنبيه، والبرهان الفزاري شيخ الشافعية، والعلاء القونوي شارح: الحاوي، والفخر التركماني من الحنفية شارح: الجامع الكبير، والملك المؤيد صاحب حماة الذي له تصانيف كثيرة منها نظم الحاوي، والشيخ ياقوت العرشي تلميذ الشيخ أبي العباس المرسي، والبرهان الجعبري، والبدر بن جماعة، والتاج بن الفاكهاني، والفتح بن سيد الناس، والقطب الحلبي، والزين الكناني، والقاضي محيي الدين بن فضل الله، والركن بن القويع، والزين بن المرحل، والشرف بن البارزي، والجلال القزويني، وآخرون.

الواثق بالله إبراهيم بن المستمسك1
الواثق بالله: إبراهيم ابن ولي العهد المستمسك بالله أبي عبد الله بن الحاكم بأمر الله أبي العباس أحمد، كان جده الحاكم عهد إلى ابنه محمد، ولقبه المستمسك، فمات في حياته، فعهد إلى ابنه إبراهيم هذا ظنًّا أنه يصلح للخلافة، فرآه غير صالح لها لما هو فيه من الانهماك في اللعب ومعاشرة الأراذل، عدل عنه إلى المستكفي ابنه -أعني: ابن الحاكم- وهو عم إبراهيم، فكان إبراهيم هو السبب في الوقيعة بين الخليفة المستكفي، والسلطان بعد أن كانا أخوين كما كان يحمله إليه من النميمة به، حتى جرى ما جرى.
فلما مات المستكفي بقوص، عهد إلى ابنه أحمد، فلم يلتفت إليه السلطان إلى ذلك، وبايع إبراهيم هذا، ولقب بالواثق إلى أن حضرت السلطان الوفاة على ما صدر منه، وعزل إبراهيم هذا، وبايع ولي العهد أحمد، ولقب الحاكم، وذلك أول المحرم سنة اثنتين وأربعين.
قال ابن حجر: راجع الناس السلطان في أمر إبراهيم هذا ووسموه بسوء السيرة، فلم يلتفت إلى ذلك، و لم يزل الناس حتى بايعوه، وكان العامة يلقبونه المستعطي بالله.
وقال ابن فضل الله في المسالك، في ترجمة الواثق: عهد إليه جده ظنًّا أنه يكون صالِحًا أو يجيب لداعي الخلافة صائحًا، فما نشأ إلا في تهتك، ولا دان إلا بعد تنسك، أغرى بالقاذورات، وفعل ما لم تدع إليه الضرورات، وعاشر السفلة  والأراذل، وهان عليه من غرضه ما هو بازل، وزين له سوء عمله فرآه حسنًا، وعمي عليه فلم ير مسيئًا إلا محسنًا، وغواه اللعب بالحمام، وشرى الكباش للنطاح، والديوك للنقار، والمنافسة في المعز الزرائبية الطوال الآذان، وأشياء من هذا، ومثله مما يسقط المروءة ويثلم الوقار، وانضم إلى هذا سوء معاملة، ومشري سلع لا يوفي أثمانها، واستئجار دور لا يقوم بأجرها، وتحيل على درهم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تولى الخلافة سنة 740هـ وحتى 742هـ.

 

ص -344-      يملأ به كفه، وسحت يجمع به فمه، وحرام يطعم حرمه، حتى كان عرضة للهوان، وأكلة لأهل الأوان.
فلما توفي المستكفي والسلطان عليه في حدة غضبه، وتياره المتحامل عليه في شدة غلبه، طلب هذا الواثق المغتر، والمائق إلا أنه غير المضطر، وكان ممن يمشي إلى السلطان في عمه بالنميمة، ويعقد مكائده على رأسه عقد التميمة، فحضر إليه وأحضر معه عهد جده، فتمسك السلطان في مبايعته بشبهته، وصرف في وجه الخلافة إلى جهته، وكان قد تقدم نقض ذلك العهد، ونسخ ذلك العقد، وقام قاضي القضاة أبو عمر بن جماعة في صرف رأي السلطان عن إقامة الخطبة باسم الواثق فلم يفعل، واتفق الرأيان على طرق الخطبة للاثنين، واكتفى فيها بمجرد ذكر اسم السلطان، فرحل بموت المستكفي اسم الخلافة عن المنابر كأنه ما علا ذروتها، وخلا الدعاء للخلفاء من المحاريب كأنه ما قرع بابها ومروتها، فكأنما كان آخر خلفاء بني العباس وشعارها عليه لباس الحداد، وأغمدوا تلك السيوف الحداد، ثم لم يزل الأمر على هذا حتى حضرت السلطان الوفاة، وقرع الموت صفاه، فكان مما أوصى به رد الأمر إلى أهله، وإمضاء عهد المستكفي لابنه، وقال: الآن حصحص الحق، وحنا على مخالفيه ورق، وعزل إبراهيم وهزل، وكان قد رعى البهم، وستر اللؤم بثياب أهل الكرم، وتسمن وشحمه ورم، وتسمى بالواثق وأين هو من صاحب هذا الاسم الذي طال ما سرى رعبه في القلوب، واقضت هيبته مضاجع الجنوب؟ وهيهات لا تعد من النسر التماثيل، ولا الناموسة وإن طال خرطومها كالفيل، وإنما سوق الزمان قد ينفق ما كسد، والهر يحكي انتفاخًا صورة الأسد، وقد عاد الآن يعض يديه، ومن يهن يسهل الهوان عليه. هذا آخر كلام ابن فضل الله.

الحاكم بأمر الله أبو العباس بن المستكفي1
الحاكم بأمر الله: أبو العباس أحمد بن المستكفي، كان أبوه لما مات بقوص عهد إليه بالخلافة، فقدم الملك الناصر عليه إبراهيم بن عمه، لما كان في نفسه من المستكفي، وكانت سيرة إبراهيم قبيحة، وكان القاضي عز الدين بن جماعة قد جهد كل الجهد في صرف السلطان عنه فلم يفعل، فلما حضرته الوفاة أوصى الأمراء برد الأمر إلى ولي عهد المستكفي ولده أحمد، فلما تسلطن المنصور أبو بكر بن الناصر عقد مجلسًا يوم الخميس حادي عشر ذي الحجة سنة إحدى وأربعين، وطلب الخليفة إبراهيم وولي العهد أحمد والقضاة، وقال: من يستحق الخلافة شرعًا؟ فقال ابن جماعة: إن الخليفة المستكفي المتوفى بمدينة قوص أوصى بالخلافة من بعده لولده أحمد، وأشهد عليه أربعين عدلًا بمدينة قوص، وثبت ذلك عندي بعد ثبوته عند نائبي بمدينة قوص، فخلع السلطان حينئذ، إبراهيم، وبايع أحمد، وبايعه القضاة، ولقب الحاكم بأمر الله لقب جده.
وقال ابن فضل الله في المسالك في ترجمته: هو إمام عصرنا، وغمام مصرنا، قام على

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تولى الخلافة سنة 742هـ وحتى 753هـ.

 

ص -345-      غيظ العدا، وغرق بفيض الندى، وصارت له الأمور إلى مصائرها، وسيقت إليها بصائرها، فأحيا رسوم الخلافة، ورسم بما لم يستطع أحد خلافه، وسلك مناهج آبائه وقد طمست، وأحياها بمباهج أبنائه وقد درست، وجمع شمل بني أبيه وقد طال بهم الشتات، وأطال عذرهم وقد اختلف السبات، ورفع اسمه على ذرا المنابر وقد عبر مدة لا يطلع إلا في آفاقه تلك النجوم، ولا يسبح إلا في سبحة تلك الغيوم والسجوم، طلب بعد موت السلطان وأنفذ حكم وصيته، في تمام مبايعته والتزام متابعته، وكان أبوه قد أحكم له بالعقد المتقدم عقدها، وحفظ له عند ذوي الأمانة عهدها، ثم تسلطن الملك المنصور أبو بكر بن السلطان، وعمر له من تحت الملك الأوطان.
قال ابن فضل الله: وقد كتبت له صورة المبايعة وهي:
بسم الله الرحمن الرحيم
{إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّه}[الفتح: 10] إلى قوله: {عَظِيمًا} هذه بيعة رضوان، وبيعة إحسان، وجمعية رضا يشهدها الجماعة ويشهد عليها الرحمن، بيعة يلزم طائرها العنق، ويحوم بسائرها ويحمل أنباءها البراري والبحار مشحونة الطرق، بيعة يصلح الله بها الأمة، ويمنح بسببها النعمة، ويتجارى الرفاق، ويسري الهناء في الآفاق، وتتزاحم لزهر الكواكب على حوض المجرة الدقاق، بيعة سعيدة ميمونة، شريفة بها السلامة في الدين والدنيا مضمونة، بيعة صحيحة شرعية، ملحوظة مرعية، بيعة تسابق إليها كل نية، وتطاوع كل طوية، ويجتمع عليها شتات البرية، بيعة يستهل بها الغمام، ويتهلل البدر التمام، بيعة متفق عليها الإجماع والاجتماع، ولبسط الأيدي إليها انعقد عليها الإجماع، فاعتقد صحتها من سمع لله وأطاع، وبذل في تمامها كل امرئ ما استطاع، وحصل عليها اتفاق الأبصار والأسماع، ووصل بها الحق إلى مستحقه وأقره الخصم وانقطع النزاع، يضمنها كتاب مرقوم يشهده المقربون، وتلقاه الأئمة الأقربون: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ}[الأعراف: 43] ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس وإلينا ولله الحمد وإلى بني العباس، أجمع على هذه البيعة أرباب العقد والحل، وأصحاب الكلام فيم قل وجل، والولاة والحكام وأرباب المناصب والأحكام، ملة العلم والأعلام، وحماة السيوف والأقلام، وأكابر بني عبد مناف، ومن انخفض قدره وأناف، وسروات قريش ووجوه بني هاشم والبقية الطاهرة من بني العباس، وخاصة الأئمة وعامة الناس، بيعة ترى بالحرمين خيامها، وتخفق بالمأزمين أعلامها، وتعرف بعرفات بركاتها، وتعرف بمنى ويؤمن عليها يوم الحج الأكبر،  وتؤم ما بين الركن والمقام والحجر، ولا يبتغي بها إلا وجه الله الكريم، بيعة لا يحل عقدها، ولا ينبذ عهدها، لازمة جازمة، دائبة دائمة، تامة عامة، شاملة كاملة، صحيحة صريحة، متبعة مريحة، ولا من يوصف بعلم ولا قضاء، ولا من يرجع إليه في اتفاق ولا إمضاء، ولا إمام مسجد ولا خطيب، ولا ذو فتوى يسأل فيجيب، ولا لزم المساجد ولا من تضمهم أجنحة المحاريب، ولا من يجتهد في رأي فيخطئ أو يصيب، ولا محدث بحديث، ولا متكلم في قديم وحديث، ولا معروف

 

ص -346-      بدين وصلاح، ولا فرسان حرب وكفاح، ولا راشق بسهام ولا طاعن برماح، ولا ضارب بصفاح، ولا ساعٍ بقدم ولا طائر بجناح، ولا مخالط للناس ولا قاعدة في عزلة، ولا جمع كثرة ولا قلة، ولا من يستقل بالجوزاء لواؤه، ولا من يعلو فوق الفرقدين ثواؤه، ولا باد ولا حاضر، ولا مقيم ولا سائر، ولا أول ولا آخر، ولا مسر في باطن، ولا معلن في ظاهر، ولا عرب ولا عجم، ولا راعي إبل ولا غنم، ولا صاحب أناة ولا بدار ولا ساكن في حضر وبادية بدار، ولا صاحب عمد ولا جدار ولا ملجج في البحار الذاخرة والبراري والقفار، ولا من يعتلي صهوات الخيل، ولا من يسبل على العجاجة الذيل، ولا من تطلع عليه شمس النهار ونجوم الليل، ولا من تظله السماء وتقله الأرض، ولا من تدل عليه الأسماء على اختلافها وترفع درجات بعضهم على بعض، حتى آمن بهذه البيعة وأمن عليها وأمن بها، ومنّ الله عليه وهداه إليها، وأقر بها وصدق، وغض لها بصره خاشعًا لها وأطرق، ومد إليها يده بالمبايعة، ومعتقده بالمتابعة، ورضي بها وارتضاها، وأجاز حكمها على نفسه وأمضاها، ودخل تحت طاعتها وعمل بمقتضاها، وقضي بينهم بالحق وقيل: الحمد لله رب العالمين.
وإنه لما استأثر الله بعبده سليمان أبي الربيع الإمام المستكفي بالله أمير المؤمنين كرم الله مثواه وعوضه عن دار السلام بدار السلام، ونقله مزكى يديه عن شهادة الإسلام بشهادة الإسلام، حيث آثر بقربه، ومهد لجنبه، وأقدمه على ما قدمه من مرجو عمله وكسبه، وخار له في جواره فريقًا، وأنزله مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا، الله أكبر ليومه لولا مخلفة كانت تضيق الأرض بما رحبت، تجزي كل نفس ما كسبت، وتنبأ كل سريرة ما ادخرت وما جنت، لقد اضطرم سعير إلا أنه في الجانح، لقد اضطرب منبر وسرير لولا خلفه الصالح، لقد اضطر مأمور وأمير لولا الفكر بعده في عاقبة المصالح، ولم يكن في النسب العباسي ولا في البيت المسترشدي، ولا في غيره من بيوت الخلفاء من بقايا آباء وجدود، ولا من تلده أخرى الليالي وهو عاقر غير ولود، من تسلم إليه أمة محمد عقد نياتها وسر طوياتها إلا واحد، وأين ذاك الواحد؟ هو والله من انحصر فيه استحقاق ميراث آبائه الأطهار، وتراث أجداده الأخيار، ولا شيء هو إلا ما اشتمل عليه رداء الليل والنهار، وهو ولد المنتقل إلى ربه، وولد الإمام الذاهب لصلبه، المجمع على أنه في الأيام فرد هذا الأنام، وهكذا في الوجود الإمام، وأنه الحائز لما زرت عليه جيوب المشارق والمغارب، والفاز بملك ما بين المشارق والمغارب، الراقي في صفح السماء هذه الذروة المنيفة، الباقي بعد الأئمة الماضين ونعم الخليفة، المجتمع فيه شروط الإمامة، المتضع لله وهو ابن بيت لا يزال الملك فيهم إلى يوم القيامة، الذي يفضح السحاب نائله، والذي لا يعزه عادله ولا يغره عاذله، والذي ما ارتقى صهوة المنبر بحضرة سلطان زمانه إلا قال بأمره وقام قائمه، ولا قعد على سرير الخلافة إلا وعرف أنه ما خاب مستكفيه ولا غاب حاكمه، نائب الله في أرضه، والقائم مقام رسوله -صلى الله عليه وسلم- وخليفته وابن عمه، وتابع

 

ص -347-      عمله الصالح ووارث عمله، سيدنا ومولانا عبد الله ووليه أبو العباس الإمام الحاكم بأمر الله، أمير المؤمنين، أيد الله ببقائه الدين، وطوق بسيفه الملحدين، وكبت تحت لوائه المعتدين، وكتب له النصر إلى يوم الدين، وكب بجهاده على الأذقان طوائف المفسدين، وأعاذ به الأرض ممن لا يدين بدين، وأعاد بعدله أيام آبائه الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، وعليه كانوا يعملون، ونصر أنصاره، وقدر اقتداره، وأسكن في القلوب سكينته ووقاره، ومكن له في الوجود وجمع له أقطاره، ولما انتقل إلى الله ذلك السيد ولقى أسلافه، ونقل إلى سرير الجنة عن سرير الخلافة، وخلا العصر من إمام يملك ما بقي من نهاره، وخليفة يغالب مزيد الليل بأنواره، ووارث نبي بمثله ومثل آبائه استغنى الوجود بعد ابن عمه خاتم الأنبياء عن نبي يقتفي على أثاره، ومضى ولم يعهد فلم يبق إذ لم يوجد النص إلا الإجماع وعليه كانت الخلافة بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بلا نزاع، اقتضت المصلحة الجامعة عقد مجلس كل طرف به معقود، وعقد بيعة عليها الله والملائكة شهود، وجمع الناس له، وذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود، فحضر من لم يعبأ بعده بمن تخلف، ولم ير بائعه وقد مد يده طامعًا لمزيدها وقد تكلف، وأجمعوا على رأي واحد استخاروا الله فيها فخار وأخذ يمين يمد لها الأيمان، ويشهد بها الإيمان، ويعطي عليها المواثيق، وتعرض أمانتها على كل فريق، حتى تقلد كل من حضر في عنقه هذه الأمانة، وحط على المصحف الكريم يده، وحلف بالله وأتم أيمانه، ولم يقطع ولا استثنى ولا تردد، ومن قطع عن غير قصد أعاد وجدد، وقد نوى كل من حلف أن النية في يمينه نية من عقدت له هذه البيعة ونية من حلف له، وتذمم بالوفاء له في ذمته وتكفله، على عادة أيمان البيعة وشروطها، وأحكامها المرددة، وأقسامها المؤكدة، بأن يبذل لها الإمام المفترض الطاعة الطاعة، ولا يفارق الجمهور ولا يفر عن الجماعة الجماعة، وغير ذلك مما تضمنته نسخ الأيمان المكتتب فيها أسماء من حلف عليها مما هو مكتوب بخطوط من يكتب منهم، وخطوط العدول الثقات عمن لم يكتبوا وأذنوا أن يكتب عنهم، حسبما يشهد به بعضهم على بعض، ويتصادق عليه أهل السماء والأرض، بيعة تم بميشئة الله تمامها، وعم بالصواب المغدق غمامها، وقالوا: الحمد الله الذي أذهب عنا الحزن، ووهب لنا الحسن، ثم الحمد لله الكافي عبده، الوافي لمن يضعف على كل موهبة حمده، ثم الحمد الله على نعمة يرغب أمير المؤمنين في ازديادها، ويرهب إلا أن يقاتل أعداء الله بإمدادها، ويدأب بها من ارتقى منابر ممالكه بما بان من مباينة أضدادها، نحمده والحمد لله كلمة لا يمل من تردادها، ولا يحل بما تفوق السهام من سدادها، ولا يبطل لا على ما يوجب تكثير أعدادها، وتكبير أقدار أهل ودادها، وتصغير التحقير لا التحبيب لأندادها.
ونشهد أن لا إله إلا الله لا شريك له شهادة تقايس دماء الشهداء وإمداد مدادها، وتنافس طرر الشباب وغرر السحاب على استمدادها، وتتجانس رقومها المدبجة وما تلبسه الدولة العباسية من شعارها والليالي من دثارها والأعداء من حدادها.
ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله -صلى الله عليه وسلم- وعلى جماعة أهله ومن خلف من أبنائها وسلف من

 

ص -348-      أجدادها، ورضي الله عن الصحابة أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد: فإن أمير المؤمنين لما أكسبه الله من ميراث النبوة ما كان لجده، ووهبه من الملك السليماني ما لا ينبغي لأحد من بعده، وعلمه منطق الطير مما يتحمله حمائم الطبائق من بدائع البيان، وسخر له من البريد على متون الخير ما سخره من الريح لسليمان، وآتاه الله من خاتم الأنبياء ما امتد به أبوه سليمان وتصرف، وأعطاه من الفخار به وما أطاعه كل مخلوق، ولم يتخلف، وجعل له من لباس بني العباس ما يقضي له سواده بسؤدد الأجداد، وينفض على ظل الهدب ما فضل به من سويداء القلب، وسواد البصر من السواد، ويمد ظله على الأرض وكل مكان دار ملك وكل مدينة بغداد، وهو في ليلة السجاد وفي نهاره العسكري وفي كرمه جعفر وهو الجواد، يديم الابتهال إلى الله تعالى في توفيقه، والابتهاج بما يغص كل عدو بريقه، ويبدأ يوم هذه المبايعة بما هو الأهم من مصالح الإسلام، ومصالح الأعمال ثم تتحلى به الأيام، ويقدم التقوى أمامه، ويقرر عليها أحكامه، ويتبع الشرع الشريف ويقف عنده ويوقف الناس، ومن لا يحمل أمره طائعًا على العين يحمله غصبًا على الرأس، ويعجل أمير المؤمنين بما استقر به النفوس، ويرد به كيد الشيطان وإنه يئوس، ويأخذ بقلوب الرعايا وهو غني عن هذا ولكنه يسوس، وأمير المؤمنين يشهد الله عليه وخلقه بأن أقر ولي كل أمر من ولاة أمور الإسلام على حاله، واستمر به في مقيله تحت كنف ظلاله، على اختلاف طبقات ولاة الأمور، وطرقات المماليك والثغور، برًّا وبحرًا، وسهلًا ووعرًا، شرقًا وغربًا، بعدًا وقربًا، وكل جليل وحقير، وقليل وكثير، وصغير وكبير، ومالك ومملوك وأمير، وجندي يبرق له سيف شهير، ورمح ظهير، ومن مع هؤلاء من وزراء وقضاة وكتاب، ومن له تدقيق في إنشاء وتحقيق في حساب، ومن يتحدث في بريد وخراج، ومن يحتاج إليه ومن لا يحتاج، ومن في التدريس والمدارس والربط والزوايا والخوانق، ومن له أعظم التعلقات وأدنى العلائق، وسائر أرباب المراتب، وأصحاب الرواتب، ومن له من مال الله رزق مقسوم، وحق مجهول أو معلوم، واستمر كل امرئ على ما هو عليه، حتى يستخير الله ويتبين له ما بين يديه، ومن ازداد تأهيله، زاد تفضيله، وإلا فأمير المؤمنين لا يريد إلا وجه الله، ولا يحابي أحدًا في دين الله، ولا يحابي في حق فإن المحاباة في الحق مداجاة على المسلمين، وكل ما هو مستمر إلى الآن مستقر على حكم الله مما فهمه الله له وفهمه سليمان، لا يغير أمير المؤمنين في ذلك ولا في بعضه تغييرًا شكرًا لله على نعمه، وهكذا يجازى من شكر، ولا يكدر على أحد موردًا نزه الله نعمه الصافية به على الكدر، ولا يتأول في ذلك متأول إلا من جحد النعمة وكفر، ولا يتعلل متعلل، فإن أمير المؤمنين نعوذ بالله ونعيد أيامه الغرر من الغير، وأمر أمير المؤمنين أعلى الله أمره أن يعلن الخطباء بذكره وذكر سلطان زمانه على المنابر في الآفاق وأن يضرب باسمهما النقود وتسير بالإطلاق، ويوشح بالدعاء لهما عطف الليل والنهار، ويصرح منه بما يشرق وجه الدرهم والدينار، وقد أسمع أمير المؤمنين في هذا المجمع المشهود ما يتناقله كل خطيب، ويتداوله كل بعيد وقريب، ومختصره أن الله أمر بأوامر ونهى عن نواهٍ وهو رقيب، وسيفرغ الألباء لها السجايا، ويفرغ الخطباء لها شعوب الوصايا،

 

ص -349-      وتتكمل بها المزايا، ويرق شجرها بالليل المقمر، ويرقم على جبين الصباح، تعظ بها مكة بطحاءها، ويحيا بحدائها قفاه، ويلقنها كل أب فهمه ابنه، ويسأل كل ابن نجيب أباه، وهو لكم أيها الناس من أمير المؤمنين من سدد عليكم بينة، وإليكم ما دعاكم به إلى سبيل الله من الحكمة والموعظة الحسنة، ولأمير المؤمنين عليكم الطاعة ولولا قيام الرعايا ما قبل الله أعمالها، ولا أمسك بها البحر ودحا الأرض وأرسى جبالها، ولا اتفقت الآراء على من يستحق وجاءت إليه الخلافة تجر أذيالها، وأخذها دون بني أبيه ولم تكن تصلح إلا له ولم يكن يصلح إلا لها، وقد كفاكم أمير المؤمنين السؤال بما فتح الله لكم من أبواب الأرزاق وأسباب الارتزاق، وأجراكم على وفاقكم وعلمكم مكارم الأخلاق، وأجراكم على عوائدكم ولم يمسك خشية الإنفاق، ولم يبق لكم على أمير المؤمنين إلا أن يسير فيكم بكتاب الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويعمل بما يسعد به من يحيا أطال الله بقاء أمير المؤمنين من بعده ويزيد على من تقدم، ويقيم فروض الحج والجهاد، وينيم الرعايا بعدله الشامل في مهاد، وأمير المؤمنين يقيم على عادة آبائه موسم الحج في كل عام، ويشمل بره سكان الحرمين الشريفين وسدنة بيت الله الحرام، ويجهر السبيل على صالة، ويرجو أن يعود على حاله الأول في سالف الأيام، ويتدفق في هذين المسجدين بحره الزاهر ويرسل إلى ثالثهما في البيت المقدس ساكب الغمام، ويقيم بعدله قبور الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أينما كانوا وأكثرهم في الشام، والجمع والجماعات هي فيكم على قديم سننها، وقويم سننها، وستزيد في أيام أمير المؤمنين لمن يضم إليه، وفيما يتسلم من بلاد الكفار ويسلم منهم على يديه، وأما الجهاد فكفى باجتهاد القائم أمير المؤمنين بمأموره، المقلد عنه جميع ما وراء سريره، وأمير المؤمنين قد وكل منه خلد الله ملكه وسلطانه عينًا لا تنام، وقلد سيفًا لو أغفت بوارقه ليلة واحدة عن الأعداء سلت خياله عليهم الأحلام، وسيؤكد أمير المؤمنين في ارتجاع ما غلب عليه العدا، وقد قدم الوصية بأن يوالي غزو العدو المخذول برًّا وبحرًا، ولا يكف عمن ظفر به منهم قتلًا ولا أسرًا، ولا يفك أغلالًا ولا إصرًا، ولا ينفك يرسل عليهم في البر من الخيل عقبانًا وفي البحر غربانًا تحمل كل منهما من كل فارس صقرًا، ويحمي الممالك ممن يتخرق أطرافها بإقدام، وأمهات المماليك التي هي مرابط البنود ومرابط الأسود، والأمراء والعساكر والجنود، وترتيبهم في الميمنة والميسرة، والجناح الممدود، ويتفقد أحوالهم بالعرض، بما لهم من خيل تعقد ما بين السماء والأرض، وما لهم من زرد موضون، وبيض مسها ذهب ذائب فكانت كأنها بيض مكنون، وسيوف قواضب ورماح بسبب دوامها من الدماء خواضب، وسهام تواصل القسى وتفارقها فنحن حنين مفارق وتزمجر القوس زمجرة مغاضب.
وهذه جملة أراد أمير المؤمنين بها إطابة قلوبكم، وإطالة ذيل التطويل على مطلوبكم، ودماؤكم وأموالكم وأعراضكم في حماية إلا ما أباح الشرع المطهر، ومزيد الإحسان إليكم على مقدار ما يخفى منكم ويظهر، وأما جزيئات الأمور فقد علمتم أن من بعد عن أمير المؤمنين، غني عن مثل هذه الذكرى وأنتم على تفاوت مقاديركم وديعة أمير المؤمنين وكلكم سواء في الحق عند أمير المؤمنين، وله عليكم أداء النصيحة، وإبداء الطاعة بسريرة صحيحة،

 

ص -350-      فقد دخل كل منكم في كنف أمير المؤمنين وتحت رقه، ولزمه حكم بيعته وألزم طائره في عنقه، وسيعلم كل منكم في الوفاء بما أصبح به عليمًا، ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرًا عظيمًا.
وهذا قول أمير المؤمنين، وقال: وهو يعمل في ذلك كله بما تحمد عاقبته من الأعمال وعلى هذا عهد إليه وبه يعهد، وما سوى هذا فجور لا يشهد به عليه ولا يشهد، وأمير المؤمنين يستغفر الله على كل حال، ويستعيذ به من الإهمال، ويسأل أن يمده لما يحب من الآمال، ولا يمد له حبل الإمهال.
ويختم أمير المؤمنين قوله بما أمر الله به من العدل والإحسان، والحمد لله وهو من خلق أحمد وقد آتاه الله ملك سليمان، والله يمتع أمير المؤمنين بما وهبه، ويملكه أقطار الأرض ويورثه بعد العمر الطويل عقبه، ولا يزال على سدة العلياء قعوده، ولدست الخلافة به أبهة الجلالة كأنه ما مات منصوره ولا أودى مهديه ولا رشيده.
وقال ابن حجر في الدرر: كان أولًا لقب المستنصر ثم لقب الحاكم.
ذكر الشيخ زين الدين العراقي أنه سمع الحديث على بعض المتأخرين، وأنه حدث، مات في الطاعون في نصف سنة ثلاث وخمسين.
ومن الحوادث في أيامه: في عام ولايته خلع السلطان المنصور لفساده وشربه الخمور حتى قيل: إنه جامع زوجات أبيه، ونفي إلى قوص وقتل بها، فكان ذلك من الله مجازاة لما فعله والده مع الخليفة، وهذه عادة الله مع من يتعرض لأحد من آل العباس بأذى، وتسلطن أخوه الملك الأشرف كجك، ثم خلع من عامه وولي أخوه أحمد، ولقب بالناصر، وعقد المبايعة وبينه وبين الخليفة الشيخ تقي الدين السبكي قاضي الشام، وكان قد حضر معه مصر.
وفي سنة ثلاث وأربعين خلع الناصر أحمد، وولي أخوه إسماعيل، ولقب بالصالح.
وفي سنة ست وأربعين مات الصالح، فقلد الخليفه أخاه شعبان، ولقب بالكامل.
وفي سنة سبع وأربعين قتل الكامل، وولي أخوه أمير حاج، ولقب بالمظفر.
وفي سنة ثمانٍ وأربعين خلع المظفر، وولي أخوه حسن، ولقب بالناصر.
وفي سنة تسع وأربعين كان الطاعون العام الذي لم يسمع بمثله.
وفي سنة اثنتين وخمسين خلع الناصر حسن، وولي أخوه صالح، ولقب الملك المصالح وهو الثامن ممن تسلط من أولاد الناصر محمد بن قلاوون، وجعل شيخو أتابكة، قال في ذيل المسالك: وهو أول من سمي بمصر الأمير الكبير.
وممن مات في أيام الحاكم من الأعلام: الحافظ أبو الحجاج المزي، والتاج عبد الباقي اليمني والشمس بن عبد الهادي، وأبو حيان، وابن الوردي، وابن اللبان، وابن عدلان، والذهبي، وابن فضل الله، وابن قيم الجوزية، والفخر المصري شيخ الشافعية بالشام والتاج المراكشي، وآخرون.

 

ص -351-      المعتضد بالله أبو الفتح بن المستكفي بالله1
المعتضد بالله: أبو الفتح أبو بكر بن المستكفي بالله.
بويع بالخلافة بعد موت أخيه في سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة بعهد منه، وكان خَيِّرًا متواضعًا، محبًّا لأهل العلم، مات في جمادى الأولى سنة ثلاث وستين وسبعمائة.
ومن الحوادث في أيامه: في سنة أربع وخمسين قال ابن كثير وغيره: كان بطرابلس بنت تسمّى نفيسة، زوجت بثلاثة أزواج، ولا يقدرون عليها، يظنون أن بها رتقًا، فلما بلغت خمس عشرة سنة غار ثدياها، ثم جعل يخرج من محل الفرج شيء قليلًا قليلًا، إلى أن برز منه ذكر قد أصبع وأنثيان، وكتب ذلك في محاضر.
وفي سنة خمس وخمسين خلع الملك الصالح، وأعيد الناصر حسن.
وفي سنة ست وخمسين رسم بضرب فلوس جدد على قدر الدينار ووزنه، وجعل كل أربعة وعشرين فلسًا بدرهم، وكان قبل ذلك الفلوس العتق كل رطل ونصف بدرهم، ومن هنا يعرف مقدار الدراهم النقرة التي جعلها شيخو، وصرغتنمش لأرباب الوظائف في مدرستيهما، فمرادهما بالدرهم ثلثا رطل من الفلوس.
وفي سنة اثنتين وستين قتل الناصر حسن، وولي محمد ابن أخيه المظفر، ولقب بالمنصور.
وممن مات في أيام المعتضد من الأعلام: الشيخ تقي الدين السبكي، والسمين صاحب الإعراب، والقوام الإتقاني، والبهاء بن عقيل، والصلاح العلائي، والجمال بن هشام، والحافظ مغلطاي، وأبو أمامة بن النقاش، وآخرون.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تولى الخلافة سنة 753هـ، وحتى 763هـ.

المتوكل على الله أبو عبد الله بن المعتضد1
المتوكل على الله: أبو عبد الله محمد بن المعتضد، والد خلفاء العصر.
ولي الخلافة بعهد من أبيه بعد موته في جمادى الأولى سنة ثلاث وستين وسبعمائة، وامتدت أيامه خمسًا وأربعين سنة بما تخللها من خلع وحبس، كما سنذكره، وأعقب أولاد كثيرة، يقال: إنه جاء له مائة ولد ما بين مولود وسقط، ومات عن عدة ذكور وإناث، وولي الخلافة منهم خمسة، ولا نظير لذلك، المستعين العباس، والمعتضد داود، والمستكفي سليمان، والقائم حمزة، والمستنجد يوسف، وبقي من أولاده الآن واحد، يسمّى موسى، ما أشبه بإبراهيم بن المستكفي، والموجود الآن من العباسيين كلهم من ذرية المتوكل هذا، أكثر الله عددهم، وزاد مددهم.
ومن الحوادث في أيامه: في سنة أربع وستين خلع المنصور محمد، وولي شعبان بن حسين ابن الناصر محمد بن قلاوون، ولقب بالأشراف.
وفي سنة ثلاث وسبعين أحدثت العلامة الخضراء على عمائم الشرفاء ليتميزوا بها بأمر السلطان، وهذا أول ما أحدث.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تولى الخلافة سنة 763هـ، وحتى 805هـ.

 

ص -352-      وقال في ذلك أبو عبد الله بن جابر الأعمى النحوي صاحب شرح الألفية المشهور بالأعمى والبصير:

جعلوا لأبناء الرسول علامة                  إن العلامة شأن من لم يشهر

نور النبوة في كريم وجوههم                يغني الشريف عن الطراز الأخضر

وفي هذه السنة كان ابتداء خروج الطاغية تمرلنك الذي أخرب البلاد، وأباد العباد، واستمر يعثوا في الأرض بالفساد، إلى أن أهلك إلى لعنة الله في سنة ثلاث وسبعين و ثمانمائة، وفيه قيل شعر:

لقد فعلوا فعل التتار ولو رأوا                      فعال تمرلنك إذ كان أعظما

وطائره في جلق كانا أشأما

وكان أصله من بلاد الفلاحين، ونشأ يسرق ويقطع الطريق، ثم انضم إلى خدمة صاحب خيل السلطان، ثم قرر مكانه بعد موته، وما زال يترقى إلى أن وصل إلى ما وصل، قيل لبعضهم: في أي سنة كان ابتداء خروج تمرلنك؟ قال: في سنة عذاب -يعني: بحساب الجمل ثلاثًا وسبعين وسبعمائة.
وفي سنة خمس وسبعين ابتدئت قراءة البخاري في رمضان بالقلعة بحضرة السلطان، ورتب الحافظ زين الدين العراقي قارئًا، ثم أشرك معه الشهاب العرياني يومًا بيوم، وفي سنة سبع وسبعين غلا البيض بدمشق، فبيعت الواحدة بثلاثة دراهم من حساب ستين دينار.
وفي سنة ثمانٍ وسبعين قتل الأشرف شعبان، وتسلطن ابنه علي، ولقب بالمنصور، وذلك أن الأشرف سافر إلى الحج ومعه الخليفة والقضاة والأمراء، فخامر عليه الأمراء، وفر راجعًا إلى القاهرة، ورجع الخليفة ومن رجع، وأرادوا أن يسلطنوا الخليفة، فامتنع فسلطنوا ابن الأشرف، واختفى الأشرف إلى أن ظفروا به فخنقوه في ذي القعدة. وفيها خسف الشمس والقمر جميعًا، وطلع القمر خاسفًا في شعبان ليلة أربع عشرة، وكسفت الشمس يوم الثامن والعشرين منه.
وفي سنة تسع وسبعين في رابع ربيع الأول طلب أيبك البدري أتابك العساكر زكرياء بن إبراهيم بن المستمسك الخليفة الحاكم، فخلع عليه، واستقر خليفة بغير مبايعة ولا إجماع، ولقب المستعصم بالله، ورسم بخروج المتوكل إلى قوص، لأمور حقدها عليه وقعت منه عند قتل الأشرف، فخرج وعاد من الغد إلى بيته، ثم عاد إلى الخلافة في العشرين من الشهر، وعزل المستعصم، فكانت مدة خلافته خمسة عشر يومًا.
والمتوكل هو سادس الخلفاء الذين سكنوا مصر وأقيموا بعد انقطاع الخلافة مدة، فحصل له هذا الخلع توفية بالقاعدة.
وفي سنة اثنتين وثمانين ورد كتاب من حلب يتضمن أن إمامًا قام يصلي وأن شخصًا عبث به في صلاته، فلم يقطع الإمام الصلاة حتى فرغ، وحين سلم انقلب وجه العابث وجه خنزير، وهرب إلى غابة هناك، فعجب الناس من هذا الأمر، وكتب بذلك محضر.

ص -353-      وفي صفر سنة ثلاث وثمانين مات المنصور، وتسلطن أخوه حاجي بن الأشرف، ولقب الصالح.
وفي رمضان سنة أربع وثمانين خلع الصالح، وتسلطن برقوق، ولقب الظاهر وهو أول من تسلطن من الجراكسة.
وفي رجب سنة خمس وثمانين قبض برقوق على الخليفة المتوكل وخلعه وحبسه بقلعة الجبل، وبويع بالخلافة محمد بن إبراهيم بن المستمسك بن الحاكم، ولقب الواثق بالله، فاستمر في الخلافة إلى أن مات يوم الأربعاء سابع عشر شوال سنة ثمانٍ وثمانين، فكلم الناس برقوقًا في إعادة المتوكل إلى الخلافة، فلم يقبل، وأحضر أخا محمد زكرياء الذي كان ولي تلك الأيام اليسيرة، فبايعه ولقب المستعصم بالله واستمر إلى سنة إحدى وتسعين، فندم برقوق على ما فعل بالمتوكل، وأخرج المتوكل من الحبس، وأعاده إلى الخلافة وخلع زكرياء بداره إلى أن مات مخلوعًا، واستمر المتوكل في الخلافة إلى أن مات.
وفي جمادى الآخرة من السنة أعيد الصالح حاجي إلى السلطنة، وغير لقبه المنصور وحبس برقوق بالكرك.
وفي هذه السنة في شعبان أحدث المؤذنون عقب الآذان الصلاة والتسليم على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهذا أول ما أحدث، وكان الآمر به المحتسب نجم الدين الطنبذي.
وفي صفر سنة اثنتين وتسعين أخرج برقوق من الحبس، وعاد إلى ملكه، فاستمر إلى أن مات في شوال سنة إحدى وثمانمائة، فأقيم مكانه في السلطنة ابنه فرج، ولقب الناصر فاستمر إلى سادس ربيع الأول سنة ثمانٍ وثمانمائة، فخلع من الملك وأقيم أخوه عبد العزيز، ولقب المنصور، ثم خلع في رابع جمادى الآخرة من السنة وأعيد الناصر فرج.
وفي هذه السنة مات الخليفة المتوكل ليلة الثلاثاء ثامن عشر رجب سنة ثمان وثمانمائة.
وممن مات في أيام المتوكل من الأعلام: الشمس بن مفلح عالم الحنابلة، والصلاح الصفدي، والشهاب ابن النقيب، والمحب ناظر الجيش، والشريف الحسيني الحافظ، والقطب التختاني، وقاضي القضاة عز الدين بن جماعة، والتاج بن السبكي، وأخوه الشيخ بهاء الدين، والجمال الأسنوي، وابن الصائغ الحنفي، والجمال بن نباتة، والعفيف اليافعي، والجمال الشريشي، والشرف ابن قاضي الجبل، والسراج الهندي، وابن أبي حجلة، والحافظ تقي الدين بن رافع، والحافظ عماد الدين بن كثير، والعتابي النحوي، والبهاء أبو البقاء السبكي، والشمس بن خطيب يبرود، والعماد الحسباني، والبدر بن حبيب، والضياء القرمي، والشهاب الأذرعي، والشيخ أكمل الدين، والشيخ سعد الدين التفتازاني، والبدر الزركشي، والسراج بن الملقن، والسراج البلقيني، والحافظ زين الدين العراقي.

الواثق بالله عمر بن إبراهيم1
الواثق بالله: عمر بن إبراهيم بن ولي العهد المستمسك بن الحاكم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  تولى الخلافة 785هـ وحتى 788هـ.

 

ص -354-      بويع بالخلافة بعد خلع المتوكل في شهر رجب سنة خمس وثمانين، واستمر، إلى أن مات يوم الأربعاء، تاسع عشر شوال سنة ثمانٍ وثمانين.

المستعصم بالله زكرياء بن إبراهيم1
المستعصم:زكرياء بن إبراهيم بن المستمسك.
بويع بالخلافة بعد موت أخيه الواثق، ثم خلع منها سنة إحدى وتسعين وسبعمائة2، واستمر بداره مخلوعًا إلى أن مات، وأعيد المتوكل كما تقدم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تولى الخلافة سنة 788هـ وحتى 791هـ.
2 وردت بجميع النسخ المطبوعة التي تحت أيدينا "ثمانمائة" والصحيح ما أثبتناه.

المستعين بالله أبو الفضل بن المتوكل1
المستعين بالله: أبو الفضل العباس بن المتوكل، أمه أم ولد تركية اسمها باي خاتون.
بويع بالخلافة بعهد من أبيه في رجب سنة ثمانٍ وثمانمائة، والسلطان يومئذ الملك الناصر فرج، فلما خرج الناصر لقتال شيخ المحمودي، فلما انكسر وهزم وقتل وبويع الخليفة بالسلطنة مضافة للخلافة، وذلك في المحرم سنة خمس عشرة، ولم يفعل ذلك إلا بعد شدة وتصميم وتوثق من الأمراء بالأيمان، وعاد إلى مصر والأمراء في خدمته، وتصرف بالولاية والعزل، وضربت السكة باسمه، ولم يغير لقبه.
وعمل شيخ الإسلام ابن حجر في قصيدته المشهورة وهي هذه:

الملك فينا ثابت الأساس                         بالمستعين العادل العباسي

رجعت مكانه آل عم المصطفى                  لمحلها من بعد طول تناس

ثاني ربيع الآخر الميمون في                    يوم الثلاثاء حف بالأعراس

بقدوم مهدي الأنام أمينهم                       مأمون غيب طاهر الأنفاس

ذو البيت طاف به الرجال فهل يرى              من قاصد متردد في الياس

فرع نما من هاشم في روضه                    زاكي المنابت طيب الأغراس

بالمرتضي والمجتبي، والمشتري              للحمد، والحالي به والكاسي

من أسرة أسروا الخطوب وطهروا                مما يغيرهم من الأدناس

أسد إذا حضروا الوغى وإذا خلوا                 كانوا بمجلسهم كظبي كناس

مثل الكواكب نوره ما بينهم                      كالبدر أشرف في دجى الأغلاس

ويكفه عند العلامة آية                             قلم يضيء إضاءة المقباس

فلبشره للوافدين مباسم                         تدعى، وللإجلال بالعباس

فالحمد لله المعز لدينه                             من بعد ما قد كان في إبلاس


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تولى الخلافة 808هـ وحتى 815هـ.

 

ص -355-                                            بالسادة الأمراء أركان العلى          من بين مدرك ثأره ومواس

نهضوا بأعباء المناقب وارتقوا                         في منصب العليا الأشم الراسي

تركوا العدى صرعى بمعترك الردى                   فالله يحرسهم من الوسواس

وإمامهم بجلاله متقدم                                 تقديم بسم الله في القرطاس

لولا نظام الملك في تدبيره                           لم يستقم في الملك حال الناس

كم من أمير قبله خطب العلى                       وبجده رجعته بالإفلاس

حتى إذا جاء المعالي كفؤها                         خضعت له من بعد فرط شماس

طاعت له أيدي الملوك، وأذعنت                     من نيل مصر أصابع المقياس

فهو الذي قد رد عنا البؤس في                      دهر به لولاه كل الباس

وأزال ظلمًا عم كل معمم                              من سائر الأنواع والأجناس

بالخاذل المدعو ضد فعاله                              بالناصر المتناقض الآساس

كل نعمة لله كانت عنده                                فكأنها في غربة وتناس

مازال سر الشر بين ضلوعه                          كالنار أو صحبته للأرماس

كم سن سيئة عليه أثامها                           حتى القيامة ما له من آس

مكرًا بنى أركانه، لكنها                                 للغدر قد بنيت بغير أساس

كل امرئ ينسى ويذكر تارة                           لكنه للشر ليس بناس

أملى له رب الورى حتى إذا                          أخذوه لم يفلته مر الكاس

وأدالنا منه المليك بمالك                              أيامه صدرت بغير قياس

فاستبشرت أم القرى والأرض من                   شرق وغرب كالعذيب وفاس

آيات مجد لا يحاول جحدها                            في الناس غير الجاهل الخناس

ومناقب العباس لم تجمع سوى                     لحفيده ملك الورى العباس

لا تنكروا للمستعين رئاسة                           في الملك من بعد الجحود الناسي

فبنو أمية قد أتى من بعدهم                         في سالف الدنيا بنو العباس

وأتى أشج بني أمية ناشرًا                           للعدل من بعد المبير الخاسي

مولاي عبدك قد أتى لك راجيًا                        منك القبول فلا يرى من باس

لول المهلبة طولت أمداحه                            لكنها جاءته بالقسطاس

فأدام رب الناس عزك دائمًا                            بالحق محروسًا برب الناس

وبقيت تستمع المديح لخادم                        لولاك كان من الهموم يقاسي

عبد صفا ودا وزمزم حاديًا                              وسعى على العينين قبل الراس

أمداحه في آل بيت محمد                             بين الورى مسكية الأنفاس

 

ص -356-      ولما وصل المستعين إلى مصر سكن القلعة، وسكن شيخ الإصطبل، وفوض إليه المستعين تدبير المملكة بالديار المصرية، ولقب: نظام الملك، فكانت الأمراء إذا فرغوا من الخدمة بالقصر نزلوا إلى خدمة الشيخ إلى الإصطبل فأعيدت الخدمة عنده، ويقع عنده الإبرام والنقض، ثم يتوجه داوداره إلى المستعين فيعلم على المناشير والتواقيع، ثم إنه تقدم إليه بألا يمكن الخليفة من كتابة العلامة إلا بعد عرضها عليه، فاستوحش الخليفة، وضاق صدره، وكثر قلقه.
فلما كان في شعبان سأل شيخ الخليفة أن يفوض إليه السلطنة على العادة، فأجاب بشرط أن ينزل من القلعة إلى بيته، فلم يوافقه شيخ على ذلك، وتغلب على السلطنة, تلقب بالمؤيد وصرح بخلع المستعين.
وبايع بالخلافة أخاه داود، ونقل المستعين من القصر إلى دار من دور القلعة ومعه أهله، ووكل به من يمنعه الاجتماع بالناس، فبلغ ذلك نوروز نائب الشام، فجمع القضاة والعلماء واستفتاهم عما صنع المؤيد من خلع الخليفة وحصره، فأفتو بأن ذلك لا يجوز، فأجمع على قتال المؤيد، فخرج إليه المؤيد في سنة سبع عشرة وثمانمائة، وسير المستعين إلى الإسكندرية، فاعتقل بها إلى أن تولى ططر فأطلقه وأذن له في المجيء إلى القاهرة، فاختار سكنى الإسكندرية؛ لأنه استطابها، وحصل له مال كثير من التجارة، فاستمر إلى أن مات بها شهيدًا بالطاعون في جمادى الآخرة سنة ثلاث وثلاثين.
ومن الحوادث الغريبة في أيامه: في سنة اثنتي عشرة كثير النيل في أول يوم من مسرى، وبلغت الزيادة اثنتين وعشرين ذراعًا.
وفي سنة أربع عشرة أرسل غياث الدين أعظم شاه بن إسكندر شاه ملك الهند يطلب التقليد من الخليفة وأرسل إليه مالًا وللسلطان هدية.
وممن مات في خلافته من الأعلام: الموفق الناشري شاعر اليمن، ونصر الله البغدادي عالم الحنابلة، والشمس المعيد نحوي مكة، والشهاب الحسباني، والشهاب الناشري فقيه اليمن، وابن الهائم صاحب الفرائض والحساب، وابن العفيف شاعر اليمن، والمحب ابن الشحنة عالم الحنفية والد قاضي العسكر.

المعتضد بالله أبو الفتح بن المتوكل1
المعتضد بالله: أبو الفتح داود بن المتوكل، أمه أم ولد تركية اسمها كزل.
بويع بالخلافة بعد خلع أخيه سنة خمس عشرة، والسلطان حينئذ المؤيد، فاستمر إلى أن مات في محرم سنة أربع وعشرين، فقلد السلطنة ابنه أحمد، ولقب المظفر وجعل نظامه ططر، ثم قبض عليه ططر في شعبان، فقلده الخليفة السلطنة، ولقب الظاهر ثم مات ططر من عامه في ذي الحجة، فقلد ابنه محمدًا ولقب الصالح وجعل نظام برسباي.
ثم وثب برسباي على الصالح فخلعه، وقلده الخليفة السلطنة في ربيع الآخر سنة خمس

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تولى الخلافة 815هـ وحتى 824هـ.

 

ص -357-      وعشرين، فاستمر إلى أن مات في ذي الحجة سنة إحدى وأربعين، فقلد ابنه يوسف ولقب العزيز وجعل جقمق نظامه، فوثب جقمق على العزيز وقبض عليه في ربيع الأول سنة اثنتين وأربعين، فقلده الخليفة ولقب الظاهر فمات الخليفة في أيامه.
وكان المعتضد من سروات الخلفاء، نبيلًا، ذكيًّا، فطنًا، يجالس العلماء والفضلاء ويستفيد منهم، ويشاركهم فيما هم فيه، جوادًا سمحًا إلى الغاية.
مات في يوم الأحد رابع ربيع الأول سنة خمس وأربعين وقد قارب السبعين، قاله ابن حجر، وأخبرتني ابنة أخيه أنه عاش ثلاثًا وستين.
ومن الحوادث الغريبة في أيامه: سنة ست عشرة، تولى الحسبة صدر الدين بن الآدمي، مضافة للقضاء، وهو أول من جمع بين القضاء والحسبة.
وفي سنة تسع عشرة وليها منكلي بغا، وهو أول من ولي الحسبة من الأتراك في الدنيا.
وفيها ظهر بمصر شخص يدعي أنه يصعد إلى السماء ويشاهد الباري تعالى ويكلمه، واعتقده جمع من العوام، فعقد له مجلس، واستتيب فلم يتب، فعلق المالكي الحاكم بقتله على شهادة اثنين بأنه حاضر العقل، فشهد جماعة من أهل الطب أنه مختل العقل، فقيد في البيمارستان.
وفي سنة إحدى وعشرين ولدت ببلبيس جاموسة مولودًا برأسين وعنقين وأربعة أيد وسلسلتي ظهر ودبر واحد ورجلين اثنين لا غير وفرج واحد وأنثى والذنب المفروق باثنين فكانت من بديع صنع الله.
وفي سنة اثنتين وعشرين وقع زلزلة عظيمة بأرزنكان، وهلك بسببها عالم كثير.
وفيها تمت المدرسة المؤيدية، وجعل شيخها الشيخ ابن المديري، وحضر السلطان درسه، وباشر ولد السلطان إبراهيم فرش سجادة الشيخ بيده.
وفي سنة ثلاث وعشرين ذبح جمل بغزة فأضاء لحمه كما يضيء الشمع، ورمي منه قطعة لكلب فلم يأكلها.
وفي سنة أربع وعشرين استمرت زيادة النيل إلى آخر هاتور، وغرق بذلك زرع كثير.
وفي سنة خمس وعشرين ولدت فاطمة بنت القاضي جلال الدين البلقيني ولدًا خنثى له ذكر وفرج، وله يدان زائدتان في كفه، وفي رأسه قرنان كقرني الثور، ومات بعد ساعة.
وفيها زلزلة القاهرة زلزلة لطيفة، وفيها كثر النيل في ثامن عشر أبيب.
وممن مات في أيامه من الأعلام: الشهاب بن حجة فقيه الشام، والبرهان بن رفاعة الأديب، والزين أبو بكر المراغي فقيه المدينة ومحدثها، والحسام الأبيوردي، والجمال ابن ظهيرةحافظ مكة، والمجد الشيرازي صاحب القاموس، وخلف النحريري من كبار المالكية، والشمس بن القباني من كبار الحنفية، وأبو هريرة بن النقاش، والوانوغي، والأستاذ عز الدين بن جماعة، وابن هشام العجمي، والصلاح الأقفهسي، والشهاب الغزى أحد أئمة

 

ص -358-      أئمة الشافعية، والجلال البلقيني، والبرهان البيجوري، والوالي العراقي، والشمس بن المديري، والشرف القباني، والعلا بن المعلى، والبدر بن الدماميني، والتقي الحصني شارح أبي شجاع، والهروي، والسراج قارئ الهداية، والنجم بن حجي، والبدر البشتكي، والشمس البرماوي، والشمس الشطنوفي، والتقي الفاسي، والزين القمني، والنظام يحيى السيرافي، وقراء يعقوب الرومي، والشرف بن مفلح الحنبلي، والشمس بن القشيري، وابن الجزري شيخ القراءات، وابن خطيب الدهشة، والشهاب الأبشيطي، والزين التفهني، والبدر القدسي، والشرف بن المقري عالم اليمن صاحب: عنوان الشرف، والتقي بن حجة الشاعر، والجلال المرشدي نحوي مكة، والهمام الشيرازي تلميذ الشريف، والجمال بن الخياط عالم اليمن، والبوصيري المحدث، والشهاب بن الحمرة، والعلاء البخاري، والشمس البساطي، والجمال الكازروني عالم طيبة، والمحب البغدادي الحنبلي، والشمس بن عمار، وآخرون.

المستكفي بالله أبو الربيع بن المتوكل1
المستكفي بالله: أبو الربيع سليمان بن المتوكل.
ولي الخلافة بعهد من أخيه وهو شقيقه، وكتب له والدي رحمه الله نسخة العهد.
وهذه صورتها: هذا ما أشهد به على نفسه الشريفة حرسها الله تعالى وحماها، وصانها من الأكدار ورعاها، سيدنا ومولانا ذو المواقف الشريفة الطاهرة الذكية، الإمامية الأعظمية، العباسية، النبوية، المعتضدية، أمير المؤمنين، وابن عم سيد المرسلين، ووارث الخلفاء الراشدين، المعتضد بالله تعالى أبو الفتح داود أعز الله به الدين، وأمتع ببقائه الإسلام والمرسلين، إنه عهد إلى شقيقه المقر العالي، المولوي الأصيلي العريقي الحسيبي، النسيبي، الملكي: سيدي أبي الربيع سليمان المستكفي بالله عظم الله شأنه بالخلافة المعظمة، وجعله خليفة بعده، ونصبه إمامًا على المسلمين، عهدًا شرعيًّا، معتبرًا مرضيًّا، نصيحة للمسلمين، ووفاء بما يجب عليه من مراعاة مصالح الموحدين، واقتداء بسنة الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين، وذلك لما علم من دينه وخيره وعدالته، وكفايته وأهليته، واستحقاقه بحكم أنه اختبر حاله وعلم طويته، وأن الذي يدين الله به أن أتقي ثقة ممن رآه، وأنه لا يعلم صدر منه ما ينافي من استحقاقه لذلك، وأنه إن ترك الأمر هملًا من غير تفويض للمشار إليه أدخل إذ ذاك المشقة على أهل الحل والعقد في اختيار من ينصبونه للإمامة ويرتضونه لهذا الشأن، فبادر إلى هذا العهد شفقة عليهم، وقصدا لبراءة ذمتهم، ووصول الأمر إلى من هو أهله، لعلمه أن العهد كان غير محوج إلى رضا سائر أهله، وواجب على من سمعه وتحمل ذلك من أن يعمل به ويأمر بطاعته عند الحاجة إليه، ويدعو الناس إلى الانقياد له، فسجل ذلك عليه من حضره حسب إذنه الشريف، وسطر عن أمره قبل ذلك سيدي المستكفي: أبو الربيع سليمان المسمّى فيه عظم الله شأنه قبولًا شرعيًّا، وكان من صلحاء الخلفاء صالِحًا دَيِّنًا عابدًا، كثير التعبد والصلاة والتلاوة كثيرة الصمت، منعزلًا عن الناس، حسن السيرة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تولى الخلافة 825هـ وحتى 854هـ.

 

ص -359-      وقال في حقه أخوه المعتضد: لم أر على أخي سليمان منذ نشأ كبيرة.
وكان الملك الظاهر يعتقده، ويعرف له حقه، وكان والدي إمامًا له، وكان عنده بمكان رفيع، خصيصًا به محترمًا عنده جدًّا، وأما نحن فلم ننشأ إلا في بيته وفضله، وآله خير آل دينًا وعبادة وخيرًا، وما أظن أنه وجد على ظهر الأرض خليفة بعد آل عمر بن عبد العزيز أعبد من آل بيت هذا الخليفة.
مات في يوم الجمعة سلخ ذي الحجة سنة أربع وخمسين، وله ثلاث وستون سنة، ولم يعش والدي بعده إلا أربعين يومًا، ومشى السلطان في جنازته إلى تربته، وحمل نعشه بنفسه.
مات في أيامه من الأعلام: التقي المقريزي، والشيخ عبادة، وابن كميل الشاعر، والوفائي، والقاياتي، وشيخ الإسلام ابن حجر.

القائم بأمر الله أبو البقاء بن المتوكل1
القائم بأمر الله: أبو البقاء حمزة بن المتوكل.
بويع بالخلافة بعد أخيه، ولم يكن عهد إليه ولا إلى غيره، وكان شهمًا صارمًا، أقام أبهة الخلافة قليلًا، وعنده جبروت، بخلاف سائر إخوته، ومات في أيامه الملك الظاهر جقمق في أول سنة سبع وخمسين، فقلد ابنه عثمان ولقب: المنصور، فمكث شهرًا ونصفًا، ثم وثب إينال على المنصور، فقبض عليه، فقلده الخليفة في ربيع الأول، ولقب: الأشرف، ثم وقع بين الخليفة والأشرف بسبب ركوب الجند عليه فخلعه من الخلافة في جمادى سنة تسع وخمسين وسيره إلى الإسكندرية، واعتقله بها إلى أن مات بها في ثلاث وستين، ودفن عند شقيقه المستعين.
والعجب أن هذين الأخوين الشقيقين خلعا من الخلافة، واعتقل كل منهما الإسكندرية ودفنا معًا.
مات في أيام القائم من الأعلام: والديّ، والعلاء القلقشندي.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تولى الخلافة 854هـ وحتى 859هـ.

المستنجد بالله خليفة العصر أبو المحاسن1
المستنجد بالله، خليفة العصر: أبو المحاسن يونس بن المتوكل على الله، ولي الخلافة بعد خلع أخيه، والسلطان يومئذ الأشرف إينال، فمات في سنة خمس وستين، فقلد ابنه أحمد، ولقب المؤيد، ثم وثب حشقندم على المؤيد، فقبضه في رمضان من عامه، فقلده، ولقب الظاهر واستمر إلى أن مات في ربيع الأول سنة اثنتين وسبعين، فقلد بلباي ولقب الظاهر فوثب عليه الجند بعد شهرين وقبضوه، فقلد تمربغا، ولقب الظاهر فوثبوا عليه أيضًا بعد شهرين فقلد سلطان العصر قايتباي، ولقب الأشرف فاستقر له الملك، وسار في المملكة بشهامة وصرامة ما صار بها قبله ملك من عهد الناصر محمد بن قلاوون، بحيث إنه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تولى الخلافة 859هـ وحتى 884هـ.

 

ص -360-      سافر من مصر إلى الفرات في طائفة يسيرة جدًّا من الجند ليس فيهم أحد من المقدمين الألوف.
ومن سيرته الجميلة: أنه لم يول مصر صاحب وظيفة دينية -كالقضاة والمشايخ والمدرسين- إلا أصلح الموجودين لها، بعد طول تروية وتمهلة، بحيث تستمر الوظيفة شاغرة الأشهر العديدة، ولم يولِ قاضيًا ولا شيخًا بمال قط.
وكان الظاهر خشقند أول ما قلد قدم نائب الشام حاتم لموافقة كانت بينه وبين العسكر في سلطنته، فأمر الظاهر -حين بلغه قدومه- بطلوع الخليفة والقضاة الأربعة والعسكر إلى القلعة، وأرسل إلى نائب الشام يأمره بالانصراف، فانصرف بعد شروط شرطها؛ وعاد القضاة والعسكر إلى منازلهم، واستمر الخليفة ساكنًا بالقلعة، ولم يمكنه الظاهر من عوده إلى سكنه المعتاد، فاستمر بها إلى أن مات يوم السبت رابع عشري المحرم سنة أربع وثمانين وثمانمائة، بعد تمرضه نحو عامين بالفالج، وصلي عليه بالقلعة، ثم أنزل إلى مدفن الخلفاء بجوار المشهد النفيسي، وقد بلغ التسعين أو جاوزها.

المتوكل على الله أبو العز بن يعقوب1
المتوكل على الله: أبو العز عبد العزيز بن يعقوب بن المتوكل على الله.
ولد سنة تسع عشرة وثمانمائة، وأمه بنت جندي اسمها حاج ملك، ولم يلِ والده الخلافة، ونشأ معظمًا مشارًا إليه محبوبًا للخاصة والعامة بخصاله الجميلة، ومناقبه الحميدة، وتواضعه، وحسن سمته، وبشاشته لكل أحد، وكثر أدبه، وله اشتغال بالعلم، قرأ على والدي وغيره، وزوجه عمه المستكفي بابنته، فأولدها ولدًا صالِحًا، فهو ابن هاشمي ابن هاشميين، ولما طال مرض عمه المستنجد عهد إليه بالخلافة، فلما مات بويع بها يوم الاثنين سادس عشر المحرم بحضرة السلطان والقضاة والأعيان، وكان أراد أولًا التلقيب بالمستعين بالله ثم وقع التردد بين المستعين والمتوكل، واستقر الأمر على المتوكل، ثم ركب من القلعة إلى منزله المعتاد والقضاة والمباشرون والأعيان بين يديه وكان يومًا مشهودًا، ثم عاد من آخر يومه إلى القلعة حيث كان المستنجد ساكنًا بها.
ففي هذه السنة سافر السلطان الملك الأشرف قايتباي إلى الحجاز برسم الحج، وذلك أمر لم يعهد لملك أكثر من مائة سنة، فبدأ بزيارة المدينة الشريفة، وفرق بها ستة آلاف دينار، ثم قدم مكة وفرق بها خمسة آلاف دينار، وقرر بمدرسته التي أنشأها بمكة شيخًا وصوفية، وحج وعاد، وزينت البلد لقدومه أيامًا.
وفي سنة خمس وثمانين خرج عسكر من مصر عليهم الدوادار يشبك إلى جهة العراق فالتقوا مع عسكر يعقوب شاه بن حسن بقرب الرها، فكسر المصريون، وقتل منهم من قتل، وأسر الباقون،وأسر الداودار، وضرب عنقه، وذلك في النصف الثاني من رمضان، والعجيب أن الداودار هذا كان بينه وبين قاضي الحنفية شمس الدين الأمشاطي بمصر وقعة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تولى الخلافة 884هـ وحتى 903هـ.

 

ص -361-      كبيرة، وكل منهما يود زوال الآخر، فكان قتل الدوادار بشاطئ الفرات وموت الأمشاطي بمصر في يوم واحد.
وفي سنة ست وثمانين زلزلت الأرض يوم الأحد بعد العصر سابع عشر المحرم زلزلة صعبة ماجت منها الأرض والجبال والأبنية موجًا، ودامت لحظة لطيفة، ثم سكنت، فالحمد لله على سكونها، وسقط بسببها شرفة من المدرسة الصالحية على قاضي القضاة الحنفي شرف الدين بن عيد، فمات، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وفي هذه السنة في ربيع الأول قدم إلى مصر من الهند رجل يسمّى خاكي، زعم أن عمره مائتان وخمسون سنة، فاجتمعت به، فإذا هو رجل قوي، لحيته كلها سوداء، لا يجوز العقل أن عمره سبعون سنة، فضلًا عن أكثر من ذلك، ولم يأتِ بحجة على ما يدعيه، والذي أقطع به أنه كذاب، ومما سمعته منه أنه قال: إنه حج وعمر ثماني عشرة سنة ثم رجع إلى الهند، فسمع بذهاب التتار إلى بغداد ليأخذوها، وإنه قدم إلى مصر زمن السلطان حسن قبل أن يبني مدرسته، ولم يذكر شيئًا يستوضح به على قوله.
وفيها ورد الخبر بموت السلطان محمد بن عثمان ملك الروم، وأن ولديه اقتتلا على الملك، فغلب أحدهما، واستقر في المملكة، وقدم الآخر إلى مصر، فأكرمه السلطان غاية الإكرام، وأنزله، ثم توجه من الشام إلى الحجاز برسم الحج.
وفي شوال قدمت كتب من المدينة الشريفة تتضمن أن في ليلة ثالث عشر رمضان نزلة صاعقة من السماء على المئذنة فأحرقتها وأحرقت سقوف المسجد الشريف وما فيه من خزائن وكتب، ولم يبقَ سوى الجدران، وكان أمرًا مهولًا.
مات يوم الأربعاء سلخ المحرم سنة ثلاث وتسعمائة، وعهد بالخلافة لابنه يعقوب، ولقبه المستمسك بالله.
وهذا آخر ما تيسر جمعه في هذا التاريخ، وقد اعتمدت في الحوادث على تاريخ الذهبي، وانتهى إلى سنة سبعمائة، ثم على تاريخ ابن كثير، وانتهى إلى سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة، ثم على المسالك وذيله إلى سنة ثلاث وسبعين، ثم على أنباء الغمر لابن حجر إلى سنة خمسين وثمانمائة.
وأما غير الحوادث فطالعت عليه تاريخ بغداد للخطيب عشر مجلدات، وتاريخ دمشق لابن عساكر سبعة وخسمين مجلدًا، والأوراق للصولي سبع مجلدات، والطيوريات ثلاث مجلدات والحلية لأبي نعيم تسع مجلدات، والمجالسة للدينوري، والكامل للمبرد مجلدين، وأمالي ثعلب مجلد، وغير ذلك.

قصيدة للمؤلف فيها أسماء الخلفاء ووفياتهم
وقد عمل بعض الأقدمين أرجوزة في أسماء الخلفاء ووفياتهم انتهى إلى أيام المعتمد، وقد عملت قصيدة أحسن منها، ورأيت أن أختم بها هذا الكتاب، وهي:

الحمد لله حمدًا لا نفاذ له                 وإنما الحمد حقًّا رأس من شكرا

 

ص -362-                                        الحمد لله حمدًا لا نفاذ له      وإنما الحمد حقًّا رأس من شكرا

ثم الصلاة على الهادي النبي ومن             سادت بنسبته الأشراف والكبرا

إن الأمين رسول الله مبعثه                       لأربعين مضت فيما روا عمرا

وكان هجرته فيها لطيبته                          بعد الثلاثة أعوام تلي عشرا

ومات في عام إحدى بعد عشرتها              فيا مصيبة أهل الأرض حين سرا

وقام من بعده الصديق مجتهدا                   وفي ثلاثة عشر بعده قبرا

وهو الذي جمع القرآن في مصحف             وأول الناس سَمّى المصحف الزبرا

وقام من بعده الفاروق ثمت في                 عشرين بعد ثلاث غيبوا عمرا

وهو الذي اتخذ الديوان وافترض الـ               ـعطاء قبل: وبيت المال والدررا

سنَّ التراويح والتاريخ وافتتح الـ                  ـفتوح جَمًّا وزاد الحد من سكرا

وهو المسمى أمير المؤمنين، ولم             يدع به قبله شخص من الأمرا

وقام عثمان حتى جاء مقتله                     بعد الثلاثين في ست وقد حصرا

وهو الذي زاد في التأذين أوله                    في جمعة، وبه رزق الأذان جرى

وأول الناس ولي صحب شرطته                 حمى الحمى أقطع الإقطاع إذ كثرا

وبعد قام علي، ثم مقتله                         لأربعين فمن أرداه قد خسرا

ثم ابنه السبط نصف العام، ثم أتى             بنو أمية يبغون الوغى زمرا

فسلم الأمر في إحدى، لرغبته                  عن دار دنيا بلا ضير ولا ضررا

وكان أول ذي ملك معاوية                          في النصف من عام ستين الحمام عرا

وهو الذي اتخذ الخصيان من خدم              كذا البريد ولم يسبقه من أمرا

واستحلف الناس لما أن يبايعهم                والعهد قبل وفاة لابنه ابتكرا

ثم اليزيد ابنه أخبث به ولدا                       في أربع بعدها ستون قد قبرا

وابن الزبير، وفي سبعين مقتله                 بعد الثلاث وكم بالبيت قد حصرا

وفي ثمانين مع ست تليه قضى                عبد المليك له الأمر الذي اشتهرا

ضرب الدنانير في الإسلام معلمة               وكسوة الكعبة الديباج مؤتجرا

وهو الذي منع الناس التراجع في               وجه الخليفة مهما قال أو أمرا

وأول الناس هذا الاسم سميّه                   وأول الناس في الإسلام قد غدرا

ثم الوليد ابنه في قبل ما رجب                  في الست من بعد تسعين انقضى عمرا

وهو الذي منع الناس النداء له                   باسم، وكانت تنادى باسمها الأمرا

 

ص -363-                                       وقام بعد سليمان الخيار وفي             تسع وتسعين جاء الموت في صفرا

وبعده عمر ذاك النجيب، وفي                    إحدى تلي مائة قد ألحدوا عمرا

وهو الذي أمر الزهري خوف ذها                 ب العلم أن يجمع الأخبار والأثرا

ثم اليزيد، وفي خمس قضى، وتلا              هشام في الخمس والعشرين قد سطرا

ثم الوليد، وبعد العام مقتله                      من بعد ما جاء بالفسق الذي شهرا

ثم اليزيد، وفي ذا العام مات، وقد               أقام ست شهور مثل ما أثرا

وبعده قام إبراهيم، ثم مضى                     بالخلع سبعين يومًا قد أقام ترى

وبعده قام مروان الحمار، وفي                    ثنتين بعد ثلاثين الدماء جرى

وقام من بعده السفاح ثم قضى                 بعد الثلاثين في ست وقد جدرا

وهو الذي خص أعمالًا مواليه                    وأهمل العرب حتى أمرهم دثرا

ثم ابنه -وهو المهدي- مات لدى                تسع وستين مسمومًا كما ذكرا

ثم ابنه -وهو الهادي- وموتته                     في عام سبعين لما هم أن غدرا

ثم الرشيد، وفي تسعين تالية                  ثلاثة مات في الغزو الرفيع ذرا

ثم الأمين، وفي تسعين تالية                   ثمانيا جاءه قتل كما قدرا

وقام من بعده المأمون، ثمت في               ثمان عشرة كان الموت فاعتبرا

وقام معتصم من بعده وقضى                    في عام سبع وعشرين الذي أثرا

وهو الذي أدخل الأتراك منفردًا                   ديوانه، واقتناهم جالبًا وشرا

ثم ابنه الواثق المالي الورى رعبًا               وفي ثلاثين مع ثنتين قد غبرا

وذو التوكل ما أزكاه من خلف                     ومظهر السنة الغراء إذا نصرا

في عام سبع يليها أربعون قضى               قتلًا حباه ابنه المدعو منتظرا

فلم يقم بعده إلا اليسير كما                     قد سنه الله فيمن بعضه غدرا

والمستعين، وفي عام اثنتين تلى             خمسين خلع وقتل جاءه زمرا

وهو الذي أحدث الأكمال واسعة                 وفي القلانس عن طول أتى قصرا

وقام من بعده المعتز، ثمت في                 خمس وخمسين حقًّا قتله أثرا

والمهتدي الصالح الميمون مقتله               من بعد عام، وقفى قبله عمرا

وقام من بعده بالأمر معتمد                       في عام تسع وسبعين الحمام عرا

وذاك أول ذي أمر له حجروا                        وأول الناس موكولًا به قهرًا

 

ص -364-                                            وقام من بعده بالأمر معتضد           وفي ثمانين مع تسع مضت قبرا

ثم ابنه المكتفي بالله أحمد في                     خمس وتسعين سبحان الذي قدرا

في عام عشرين في شوال بعد مئى              ثلاثة مقتل المدعو مقتدرا

وبعده القاهر الجبار مخلعه                            في اثنتين وعشرين وقد سمرا

وقام من بعده الراضي، ومات                         لدى تسع وعشرين وانسب عنده أجرا

والمتقي ومضى بالخلع منسملًا                    من بعد أربعة الأعوام في صفرا 

وقام بالأمر مستكفيهم، وقفا                         بعد عام لأمر المتقي أثرا

ثم المطيع، وفي ستين يتبعها                      ثلاثة في أخيرا العام قد عبرا

ثم ابنه الطائع المقهور، مخلعه                      عام الثمانين مع إحدى كما أثرا

ثم الإمام أبو العباس قادرهم                         في اثنين من بعد عشرين مضت قبرا

ثم ابنه قائم بالله مات لدى                           سبع وستين من شعبان قد سطرا

والمقتدى مات في سبع بأولها                      بعد الثمانين جد الملك واقتدرا

وقام من بعده مستظهر، وقضى                     في سادس القرن ثنتين تلي عشرا

وقام من بعده مسترشد، ولدى                      تسع وعشرين فيه القتل حل عرا

ثم ابنه الراشد المقهور مخلعه                       من بعد عام فلا عين ولا أثرا

والمقتفي مات من بعد التمكن في                خمس وخمسين وانقادت له النصرا

وقام من بعده مستنجد، وقضى                     من بعد ستين في ست وقد شعرا

والمستضيء بأمر الله مات لدى                     خمس وسبعين بالإحسان قد بهرا

وقام من بعده بالأمر ناصرهم                         ومات ثنتين مع عشرين إذا كبرا

وقام من بعده بالأمر ظاهرهم                        تسعًا شهورًا فأقلل مدة قصرا

وقام من بعده مستنصر وقضى                       لأربعين وكم يرثيه من شعرا

وقام من بعده مستعصم ولدى                       ست وخمسين كان الفتنة الكبرى

جاء التتار فأردوه وبلدته                                فيلعن الله والمخلوقة التترا

مرت ثلاث سنين بعده، ويلي                        نصف ودهر الورى من قائم شغرا

وقام من بعد ذا مستنصر، وثوى                     في آخر العام قتلًا منهم وسرى

أقام ست شهور ثم راح لدى                         مهل ستين لم يبلغ بها وطرا

وقام من بعده في مصر حاكمهم                     على وهى لا كمن من قبله غبرا

ومات في عام إحدى بعد سبع مئى               وقام من بعد مستكفيهم وجرى

في أربعين قضى إذ قام واثقهم                      ففي اثنتين مضى خلعًا من الأمرا

وقام حاكمهم من بعده، وقضى                      عام الثلاث مع الخمسين معتبرًا

 

ص -365-                                             وقام من بعده بالأمر معتضد          وفي الثلاثة والستين قد عبرا

وذو التوكل يتلوه أقام إلى                              بعد الثمانين في خمس وقد حصرا

وبايعوا واثقًا بالله، ثمت في                            عام الثمان قضى وسمه عمرا

وبايعوا بعده بالله معتصمًا                               لعام إحدى وتسعين أزيل ورا

وذو التوكل ردوه، أقام إلى                              ذا القرن عام ثمانٍ منه قد قبرا

في عهده زيد من بعد الأذان على                   خير النبيين تسليم كما أمرا

وأحدث السمة الخضراء للشرفا                       يا حسنها من سمات بوركت خضرا

أولاده منهم خمس مبجلة                             جاءوا الخلافة إذا كانت لهم قدرا

فالمستعين وآل الأمر إن خلعوا                        في شهر شعبان في خمس تلي عشرا

وقام من بعده بالأمر معتضد                            لأربعين تليها الخمسة احتضرا

وقام بالأمر مستكفيهم، وقضى                       في عام الأربع والخمسين مصطبرا

                                                              

وقام قائمهم من بعد ثمت في                        تسع وخمسين بعد الخلع قد حصرا

وقام من بعده مستنجد دهرًا                          خليفة العصر رقاه الإله ذرا

وليس يعرف في الأعصار قبلهم                       خمس ولو إخوة بل أربع أمرا

ولا شقيقان إلا غير خامسهم                         كذا الرشيد مع الهادي كما ذكرا

كذا سليمان من بعد الوليد، كذا                      نجلا الوليد يزيد والذي أثرا

وما تكرر في بغداد من لقب                            ولا تلا ابن أخ عم خلا نفرا

اثنان فالمقتفي عن راشد، وكذا                     مستنصر بعد مقتول التتار عرا

أولئك القوم أرباب الخلافة، خذ                        سبعين من غير نقص عدها حصرا

من الصحابة سبع كالنجوم، ومن                     بني أمية اثنان تلي عشرا

ولم أعد أبا عبد المليك، فذا                           باغ كما قاله من أرخ السيرا

وعدة من بني العباس شامخة                       إحدى وخمسون لا قلت لهم نصرا

تبقى الخلافة فيهم كي يسلمها الـ                 ـمهدى منهم إلى عيسى كما أثرا

وبعد نظمي هذا النظم في مدد                      قضى خليفتنا المذكور مصطبرا

في عام الأربع في شهر المحرم من                بعد الثمانين يوم السبت قد قبرا

وبويع ابن أخيه بعده، ودعي                           بذى التوكل كالجد الذي شهرا

ولم يسم إمام في الأولى سبقوا                    عبد العزيز سواه فاسمه ابتكرا

فالله يبقيه ذا عز، ويحفظه                             ويجعل الملك في أعقابه زمرا

ومات عام ثلاث بعد تسع مئى                       سلخ المحرم عن عهد لمن سطرا

لنجله البر يعقوب الشريف، وقد        لقب مستمسكًا بالله في صفرا