شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام
ج / 1 ص -328-
الباب العشرون:
ذكر حفر بئر زمزم وعلاجها:
أول من أظهر زمزم على وجه الأرض جبريل عليه
السلام عند ظمأ إسماعيل عليه السلام سقيا من الله تعالى، واختلفت
الروايات في كيفية صنع الأمين جبريل عليه السلام حين أخرج ماء زمزم،
ففي رواية: "بحث بعقبه"، وفي رواية: "همز بعقبه"، وهاتان الروايتان في
"صحيح البخاري".
ولما أظهر الله ماء زمزم لإسماعيل عليه السلام حوضت عليه أمه هاجر خشية
أن يفوتها قبل أن تملأ منه شنها ولو تركته لكان عينا تجري، على ما
رويناه عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح.
وذكر الفاكهي خبرا يقتضي: أن الخليل عليه السلام حفر زمزم وقصته كانت
بينه وبين ذي القرنين في زمزم، لأنه قال: حدثنا عبد الله بن عمران
المخزومي، قال: حدثنا سعد بن سالم قال: حدثنا عثمان بن ساج قال: بلغنا
في الحديث المأثور عن وهب بن منبه قال: كان بطن مكة ليس فيه ماء، وليس
لأحد فيه قرار، حتى أنبطه الله لإسماعيل لما أراد من عمارة بيته لم يكن
لأحد بها يومئذ مقام1.
قال عثمان: وذكر غيره: أن زمزم تدعى سابق، وكانت وطأة من جبريل. وكانت
سقياها لإسماعيل عليه السلام يوم فرج له عنها جبريل، وهو يومئذ وأمه
عطاش،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 122.
ج / 1 ص -329-
فحفر إبراهيم بعد ذلك البئر، ثم غلبه عليها
ذو القرنين، وأظن أن ذا القرنين كان سال إبراهيم عليه السلام أن يدعو
الله له، فقال: كيف، وقد أفسدتم بئري؟ فقال ذو القرنين: ليس عن أمري،
ولم يخبرني أحد أن البئر بئر إبراهيم، فوضع السلاح، وأهدى إبراهيم إلى
ذي القرنين بقرا وغنما، فأخذ إبراهيم سبعة أكبش، فأقرنهم وحدهم، فقال
ذو القرنين: ما شأن هذه الأكبش يا إبراهيم؟ فقال إبراهيم: هؤلاء يشهدون
في يوم القيامة أن البئر بئر إبراهيم... انتهى.
وفي حاشية كتاب الفاكهي في هذا الحديث مكتوب ما صورته: عطاشا ما أقرأ
عبد الله بن عمران عطاشا، قال أبو عبد الله: والصواب عطشانان1...
انتهى.
ولم تزل ماء زمزم ظاهرا ينتفع به سكان مكة، إلى أن استخفت جرهم بحرمة
الكعبة والحرم، فدرس موضعه ومرت عليه السنون عصرا بعد عصر، إلى أن صار
لا يعرف.
وقيل: إن جرهما دفنتها حين نفت عن مكة، ذكره الزبير بن بكار وغيره،
والله أعلم.
ثم بوأه الله تعالى لعبد المطلب بن هاشم جد النبي صلى الله عليه وسلم
لما خصه الله به من الكرامة، فأتي في المنام وأمر بحفرها، وأعلمت له
بعلامات استبان بها موضع زمزم فحفرها، وكان حفره لها قبل مولد النبي
صلى الله عليه وسلم، لأنا روينا من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه
أن جده عبد المطلب حين حفر زمزم لم يكن له ولد سوى ابنه الحارث، روينا
ذلك عنه في سيرة ابن إسحاق2 بسند رجالُه ثقات.
وروينا في تاريخ الأزرقي، عن الزهري، ما يقتضي أن حفر عبد المطلب لزمزم
كان بعد مولد النبي صلى الله عليه وسلم، لأن الأزرقي روى بسنده إلى
الزهري: أن حفر عبد المطلب لزمزم كان بعد الفيل3، والنبي صلى الله عليه
وسلم ولد عام الفيل على الصحيح، والله أعلم.
وروينا في مسند البزار، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان أبو طالب
يعالج زمزم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم ينقل الحجارة وهو غلام،
وإسناد هذا الحديث ضعيف، وبتقدير صحته، فعلاج أبي طالب غير علاج عبد
المطلب، لأن حديث علي رضي الله عنه يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم
وأبا طالب لم يكونا موجودين حين حفر عبد المطلب زمزم، لأنه ذكر فيه أنه
لم يكن لعبد المطلب حين حفرها ابن غير ابنه الحارث، والله أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 122.
2 السيرة لابن هشام 1/ 133.
3 أخبار مكة للأزرقي 2/ 42.
ج / 1 ص -330-
ذكر علاج زمزم في الإسلام:
روينا عن الأزرقي بالسند المتقدم إليه أنه قال:
ثم كان قد قل ماؤها جدا، حتى كانت تجم في سنة ثلاث وعشرين ومائتين
وأربع وعشرين ومائتين قال: وخرب فيها تسعة أذرع سحا في الأرض في تقرير
جوانبها، ثم قال: وقد كان سالم بن الجراح قد خرب فيها في خلافة الرشيد
أذرعا، وكان قد خرب فيها في خلافة المهدي أيضا، وكان عمر بن ماهان وهو
على البريد والصواف في خلافة الأمين محمد بن الرشيد قد خرب فيها، وكان
ماؤها قد قل حتى كان رجل يقال له: محمد بن بشير من أهل الطائف يعمل
فيها، قال: وأنا صليت في قعرها1... انتهى باختصار2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 43.
2 تجددت العمارة للبئر والقبة في مراحل تالية حتى كان وضعها قبل
التوسعة السعودية. فكانت بئرا مستديرة الفوهة. عليها قطعة من المرمر
على قدر سعة الفوهة والأرض المحيطة بالبئر فرشت بالرخام. ويحيط بالبئر
من أعلى "درابزين" من حديد لمنع السقوط به، وفوقه شبكة من حديد،
والبناء القائم على البئر مربع من الداخل طول كل ضلع "11"ذراعا "5.5م"
وباب قبة زمزم في الجهة الشرقية. وفي المرحلة الثانية من التوسعة
السعودية الأولى ما بين عامي 1381-1388هـ تمت إزالة المباني على البئر،
وخفضت فوهة البئر على عمق "2.7" مترا، يتم النزول فيه بدرج. وفيه قسمان
أحدهما مخصص للرجال والآخر للنساء، ومزود بالصنابير. وقد تم تطوير
البدروم في مرحلة تالية لزيادة استيعابه. وأصبح ماء زمزم متاحا في كل
أنحاء الحرم المكي الشريف من خلال بئر زمزم نفسه. وبواسطة حافظات ترامس
موحدة لماء زمزم المبرد موزعة بشكل متناسق في كل طوائف الحرم وحول صحن
الطواف. إضافة إلى مجمعات مياه زمزم خارج الحرم لملء الجوالين، وسبل
الملك عبد العزيز رحمه الله. ويتم تصنيع الثلج الذي يوضع في ماء زمزم
لتبريده من ماء زمزم، ويصنع في مصنع خاص، وبذلك يصبح ماء زمزم المبرد
كماء زمزم، وتم فيما بعد تبريد ماء زمزم آليا.
ذكر ذرع بئر زمزم وما فيها من العيون وصفة
الموضع الذي هي فيه الآن:
وأما ذرعها: فذكره الأزرقي، لأنه قال فيما
رويناه عنه بالسند المتقدم: كان ذرع غور زمزم من أعلاها إلى أسفلها
ستين ذراعا، وفي قعرها ثلاث عيون عين حذاء الركن الأسود، وعين حذاء أبي
قبيس والصفا، وعين حذاء المروة، وذكر ذلك الفاكهي1.
وذكر الفاكهي خبرا به: أن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال لكعب
الأحبار: فأي عيونها أغزر؟ العين التي تجري من قبل الحجر الأسود، قال:
صدقت2... انتهى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخبار مكة للفاكهي 1/ 74.
2 أخبار مكة للفاكهي 2/ 31230، وطبقات ابن سعد 7/ 445، وابن حجر في
الإصابة 3/ 298.
ج / 1 ص -331-
وبه إلى الأزرقي قال: فغورها من رأسها إلى
الجبل أربعون ذراعا، كله بنيان، وما بقي فهو جبل منقور، وهو تسعة
وعشرون ذراعا.
قلت: هذا مخالف لما تقدم في غورها، والله أعلم بالصواب.
وبه إلى الأزرقي قال: وذرع حنك زمزم في السماء: ذراعان وشبر، وذرع
تدوير فم زمزم: أحد عشر ذراعا، وسعة فم زمزم: ثلاثة أذرع وثلثا
ذراع1... انتهى.
وقد اعتبر بعض أصحابنا بحضوري ارتفاع فم زمزم عن الأرض، وسعته،
وتدويره، فكان ارتفاع فمها في السماء: ذراعين إلا ربعا، وسعته: أربعة
أذرع ونصف، وتدويره: خمسة عشر ذراعا إلا قيراطين، كل ذلك بذراع الحديد
المشار إليه.
وأما صفة الموضع الذي فيه زمزم: فهو بيت مربع، وفي جدرانه تسعة أحواض
للماء، تملآن من بئر زمزم، ليتوضأ الناس منها، إلا واحدا منها معطلا،
وفي الحائط الذي يلي الكعبة، شبابيك، وهذا البيت مسقوف بالساج ما خلا
الموضع الذي يحاذي بئر زمزم، فإنما عليه شباك خشب، ولم أدر من عمل هذا
الموضع على هذه الصفة، وهي غير الصفة التي ذكرها الإمام الأزرقي فيه.
وكانت ظلة المؤذنين التي فوق البيت الذي فيه بئر زمزم قد خربت لأكل
الأرضة لأساطينها الخشب والأرضة دابة صغيرة كنصف العدسة، تأكل الخشب
وتفسده كثيرا فشدت الظلة المذكورة بأخشاب تمنعها من السقوط في سنة إحدى
وعشرين وثمانمائة، فلما كان السابع من شهر ربيع الأول سنة اثنتين
وعشرين وثمانمائة هدمت الظلة المذكورة، وأزيل المقرنص الخشبي الذي كان
تحتها ليصلح، والدرابزين الذي كان يطيف بها وبسطح البيت الذي فيه بئر
زمزم، فوجد الخشب المقرنص مركبا خرابا لأكل الأرضة له، فاقتضى الحال
قلعه، وأن يبنى فوق الجدار الذي يلي الكعبة، والجدار الذي يلي مقام
الشافعي، والجدار الذي يلي الخلوة التي إلى جانب هذا البيت أساطين
دقيقة من آجر بالنورة لئلا تفسدها الأرضة كما أفسدت الأساطين الخشب
قبلها، ليعمل عليها ظلة للمؤذنين، وأن يقوى الجدار الشامي من هذا
البيت، وهو الجدار الذي يلي مقام الشافعي بزيادة بناء في عرضها، فسلخ
الجدران المشار إليها من أعلاها إلى الأرض، وأوسعوا في أساس الجدار
الذي يلي الكعبة نحو ذراع باليد، وذلك لإحكام البناء، ونزلوه به في
الأرض نحو قامة، وبنوا ذلك مخالطا للأساس الأول ووجدوا الأساس الذي يلي
مقام الشافعي عريضا محكم البناء، فبنوا عليه وأكملوا بناء ما سلخ من
الجدارين حتى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 61.
ج / 1 ص -332-
اتصل ذلك بالسقف، وعملوا في كل من الجدارين
ثلاثة عقود بالنورة، وفيما بين كل عقد من العقود التي في الجدار الذي
يلي الكعبة أسطوانة دقيقة من رخام مشدودة بالرصاص، وترك لها محلا خاليا
من البناء في الجدار المذكور، وأوسعوا في الشبابيك التي في هذين
الجدارين، وفي الأحواض التي في هذين الجدارين من داخل البيت، لاتساع
عرض الجدارين، وبنوا عليهما منحوتة كبار يقال لها: الفصوص، وبنوا ما
فوق العقود بحجارة غير منحوتة، وكل ذلك بالنورة، وسلخوا من الجدار
الشرقي من البيت الذي فيه زمزم أيضا ما فوق العتبة العليا من هذا
الجدار إلى أعلاه، وبنوا ذلك بالنورة والآجر، وبنوا بهما أسطوانتين فوق
هذا الجدار الشرقي يشدان الدرابزين الخشب المخروط الذي يكون في ذلك ولم
يكونا قبل وكشفوا سقف هذا البيت، وأخرجوا من ذلك ما كان متخربا من
الخشب، وعوضوا عنه بخشب جديد، وبنوا فوق الجدار الغربي من هذا البيت.
ثلاث أساطين دقيقة من آجر بالنورة، وبنوا أسطوانتين مثل ذلك، إحداهما
في الجدار الشامي، والأخرى في الجدار اليماني من هذا البيت، ونصبوا
أسطوانة من خشب بين هاتين الأسطوانتين تحاذي الأسطوانة الوسطى من
الأساطين الآجر المشار إليها، وركبوا بين كل أسطوانة من الست الأساطين
أخشابا، وستروا جميع هذه الأخشاب بألوح من خشب مدهونة وركبوا فيها بين
الأساطين المشار إليها سقفا من خشب مدهون، ساترا لمقدار ما بن الست
الأساطين، إلا أنهم جعلوا بعض ما بين الأسطوانة الآجر الوسطى،
والأسطوانة الخشب المقابلة لها خاليا من السقف، وركبوا في هذا الموضع
الخالي قبة من خشب مدهونة، وجعلوا فوقها قبة ساترة لها من خشب وجريد
وقصب، وجعلوا رفرفا من خشب مدهون يليق بهذا السقف الذي هو ظلة للمؤذنين
وأتقنوا تسمير السقف والقبة والرفرف إتقانا كثيرا بمسامير زنة كل سبعة
منها مَنٍّ1 من حديد، وزنة بعضها دون ذلك، وبكلاليب من حديد، وجعلوا
فوق هذا السقف المدهون سقفا من خشب غير مدهون، ودكوا ما فوق السقف
الأعلى بالآجر والنورة، وطلوا ما فوق الآجر بالنورة، وطلوا ما فوق
القبة التي في وسط هذا السقف بالجبس، وأتقنوا ذلك وأصلحوا جميع سطح
البيت الذي فيه زمزم بالنورة والآجر، وجعلوا درابزين من خشب مخروط يطيف
بجميع جوانب البيت الذي فيه زمزم خلا الجانب اليماني، وجعلوا درابزين
أيضا يطيف بجانبي ظلة المؤذنين اليماني والشرقي، ولم يكن قبل ذلك
درابزين أيضا يطيف بجانبي ظلة المؤذنين اليماني والشرقي، ولم يكن قبل
ذلك درابزين في هذين الجانبين، وجعلوا شباكا من حديد فوق بئر زمزم
ليمنع من السقوط فيها، بعد أن ضيقوا سعة الفتحة التي كانت تحاذي بئر
زمزم بأخشاب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المن: كيل أو ميزان، وهو شرعا مائة وثمانون مثقالا، وعرفا: مائتان
وثمانون مثقالا، والجمع: أمنان.
ج / 1 ص -333-
مسمرة جعلت هنالك، ولم يكن هناك قبل ذلك
شباك من حديد، وجعلوا درابزين من خشب مخروط يطيف بجوانب هذه الشبابيك
الأربعة، وكان قبل ذلك في موضع هذه الدرابزين أخشاب مرتفعة كالقامة
يطيف بما يحاذي البئر من الجوانب الأربعة، مطلية بالنورة.
وزنة الشباك الحديدي الذي فوق بئر زمزم الآن: اثنان وستون منًّا كل
منٍّ: مائتان وستون درهما.
وزادوا حديدا في بعض الشبابيك التي في الجدار الغربي من بيت زمزم،،
ووسعوا الدرجة التي يصعد منها إلى سطح البيت الذي فيه بئر زمزم، وإلى
ظلة المؤذنين، لضيق الدرجة حين عُمِّرت في سنة ثماني عشرة وثمانمائة،
لما عمرت الخلوة التي إلى جانب هذا البيت سبيلا. وجعلوا لهذه الدرجة
درابزين خشب غير مخروط، واستحسنت توسعة هذه الدرجة، وكذا جميع ما عمر
من جدران بيت زمزم، وما صنع في سطحه من ظلة المؤذنين وغيرها استحسانا
كثيرا، وكان الفراغ من ذلك في أثناء رجب سنة اثنتين وعشرين وثمانمائة،
وكان القائم بأمر مصروف هذه العمارة الجناب العالي الكبير العلائي
خواجه شيخ علي بن محمد بن عبد الكريم الجيلاني1، نزيل مكة المشرفة،
زاده الله رفعة وتوفيقا2.
وكان إلى جانب هذا البيت خلوة فيها بركة تملأ من زمزم، ويشرب منها من
دخل إلى الخلوة وكان لها باب إلى جهة الصفا، ثم سد وجعل في موضع الخلوة
بركة مقبوة، وفي جدارها الذي يلي الصفا زبازيب يتوضأ الناس منها على
أحجار نصبت عند الزبازيب، وفوق البركة المقبوة خلوة فيها شباك إلى
الكعبة، وشباك إلى جهة الصفا، وطابق صغير إلى البركة، وكان عمل ذلك على
هذه الصفة في ذي الحجة سنة سبع عشرة وثمانمائة3، لما قيل من أن بعض
الجهلة من العوام يستنجي هناك. وعمر عوض ذلك سبيل لمولانا السلطان
الملك المؤيد أبي النصر شيخ نصره الله ينتفع الناس بالشراب منه، فتضاعف
له الدعاء، ولمن كان السبب في ذلك.
وصفة هذا السبيل: بيت مربع مستطيل، فيه ثلاثة شبابيك كبار من حديد فوق
كل شباك لوح من خشب صنعته حسنة، منها واحد إلى جهة الكعبة، واثنان إلى
جهة الصفا، وتحت كل شباك حوض في داخل البيت، وفيه بركة حاملة للماء،
وله سقف مدهون يراه من دخل السبيل، وبابه إلى جهة الصفا، وله رفرف خشب
من خارجه مدهون، وفوق
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر ترجمته في الضوء اللامع 5/ 313 رقم 1034.
2 إتحاف الورى 3/ 566.
3 إتحاف الورى 3/ 522، العقد الثمين 3/ 392.
ج / 1 ص -334-
ذلك شراريف من حجارة منحوتة، وباطن السبيل
منور، وظاهره مرخم بحجارة ملونة، وجاءت عمارته حسنة، وفرغ منه في شهر
رجب سنة ثماني عشرة وثمانمائة1، وابتدئ في عمله بأثر سفر الحجاج. وفي
موضع هذه الخلوة كان مجلس عبد الله بن العباس رضي الله عنهما على مقتضى
ما ذكره الأزرقي والفاكهي2.
وبين الحجر الأسود إلى وسط جدار البيت الذي فيه بئر زمزم: أحد وثلاثون
ذراعا وسدس ذراع، بذراع الحديد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إتحاف الورى 3/ 528.
2 أخبار مكة للأزرقي 612، أخبار مكة للفاكهي 3/ 81.
ذكر أسماء زمزم:
قال الفاكهي: أعطاني أحمد بن محمد بن إبراهيم
كتابا ذكر أنه عن أشياخه من أهل مكة، فكتبته من كتابه، فقال: هذه هي
تسمية أسماء زمزم، وهي: همزة جبريل، وسقيا الله إسماعيل، لا تنزف، ولا
تذم، وهي بركة، وسيدة، ونافعة، ومضنونة، وعونة، وبشرى، وصافية، وبرة،
وعصمة، وسالمة، وميمونة، ومباركة، وكافية، وعافية، ومغذية، وطاهرة،
ومفداة، وحرمية، ومروية، ومؤنسة، وطعام طعم، وشفاء سقم1... انتهى.
ومن أسمائها على ما قيل: طيبة وتكتم وشباعة العيال، وشراب الأبرار،
وقرية النمل، ونقرة الغراب، وهزمة إسماعيل، وحفيرة العباس، ذكر هذا
الاسم ياقوت، لأنه ذكر أنه الحفيرة عشرة مواضع، وقال في عددها وحفيرة
العباس من أسماء زمزم. انتهى من "مختصر معجم البلدان"2 لياقوت وهو
غريب، والله أعلم.
ومن أسماء زمزم: همزة جبريل بتقديم الميم على الزاي ذكر هذا الاسم
السهيلي، لأنه قال: وذكر أن جبريل عليه السلام همز بعقبه في موضع زمزم
فنبع الماء، وكذلك زمزم تسمى همزة جبريل بتقديم الميم على الزاي، ثم
قال: وحكى في أسماء زمزم: زمازم حكي ذلك عن المطرز3، ورأيت في النسخة
التي رأيتها من "الروض الأنف": وزمزم مضبوطة بالشكل على الزاي ضمة،
وعلى الميم الأولى شدة وفوق الشدة فتحة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخبار مكة للفاكهي 3/ 68، وسبل الهدى والرشاد 1/ 214، والأعلاق
النفسية لابن رستة "ص: 44".
2 المشترك وضعا لياقوت الحموي "ص: 140: 141".
3 الروض الأنف: 1/ 134.
ج / 1 ص -335-
ومن أسماء زمزم: سابق، ذكر ذلك الفاكهي في
خبر رواه عن عثمان بن ساج وفيه قال عثمان: وذكر غيره يعني غير وهب بن
منبه أن زمزم تدعى: سابق1... انتهى.
وقد اختلف في تسمية زمزم بزمزم، فقيل: لكثرة مائها، قال ابن هشام:
والزمزمة عند العرب الكثرة والاجتماع.
وقيل: إنها سميت زمزم، لأنها زمت بالتراب لئلا يأخذ الماء يمينا
وشمالا، ولو تركت لساحت على الأرض حتى تملأ كل شيء، وهذا يروى عن ابن
عباس رضي الله عنهما فيما ذكره البرقي.
وقيل: سميت زمزم: لزمزمة الماء، وهو صوته. قال الحربي:
وقيل: سميت زمزم، لأن الفرس كانت تحج إليها في الزمن الأول فزمزمت
عليها.
قال المسعودي2: قيل لي: والزمزمة صوت يخرجه الفرس من خياشيمها عند شرب
الماء، وقد كتب عمر رضي الله عنه إلى عماله أن أنهوا الفرس عن
الزمزمة... أنشد المسعودي:
زمزمت الفرس على زمزم
وذلك في3 سالفها الأقدم
وقيل: إنها غير مشتقة، والله أعلم.
وقد ذكرنا معاني بعض هذه الأسماء في أصل هذا الكتاب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخبار مكة للفاكهي 2/ 86.
2 مروج الذهب 1/ 242.
3 في مروج الذهب 1/ 242: "من" بدل "في".
ذكر فضائل ماء زمزم وخواصه:
روينا في "معجم الطبراني" بسند رجاله ثقات، وفي
"صحيح ابن حبان" من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله
عليه وسلم: "خير ماء على وجه الأرض ماء زمزم"1.
وروينا معنى ذلك عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في تاريخ الأزرقي2.
وسمعت العلامة زين الدين الفارسكوري يقول: إن شيخنا، شيخ الإسلام، سراج
الدين البلقيني قال: إن ماء زمزم أفضل من ماء الكوثر. وعلل ذلك لكونه
غسل به صدر النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن ليغسل إلا بأفضل
المياه... انتهى بالمعنى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 معجم الطبراني الكبير "11167"، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد، وعزاه
للطبراني في الكبير، وقال: رجاله ثقات، وابن عدي 1/ 230، والفاكهي في
أخبار مكة 2/ 40.
2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 55.
ج / 1 ص -336-
وذكر شيخنا الحافظ العراقي الحكمة من غسل
صدر النبي صلى الله عليه وسلم بماء زمزم، ليقوى به صلى الله عليه وسلم
على رؤية ملكوت السماوات والأرض، والجنة والنار، لأن من خواص ماء زمزم:
أنه يقوي القلب، ويسكن الروع... انتهى.
وروينا في تاريخ الأزرقي عن ابن عباس رضي الله عنهما: اشربوا من شراب
الأبرار. وفسره بماء زمزم1.
وروينا فيه عن وهب بن منبه معنى ذلك2.
وروينا في "المعجم الكبير" للطبراني من حديث ابن عباس رضي الله عنهما
عن النبي صلى الله عليه وسلم:
"أن التضلع من ماء زمزم علامة ما
بيننا وبين المنافقين"3.
وروينا من حديثه رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا
أراد أن يتحف الرجل بتحفة سقاه من ماء زمزم: أخرج هذه الأحاديث الحافظ
شرف الدين الدمياطي، وقال فيما أثبت به عنه: إسناد صحيح.
وروينا عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"ماء زمزم لما شرب له، إن شربته تستشفي به شفاك الله، وإن شربته لقطع
ظمئك قطعه الله، وهي هزمة جبريل، وسقيا الله إسماعيل"4.
أخبرني بهذا الحديث أحمد بن محمد بن عبد الله الحميري، وإبراهيم بن
عمر، ومحمد بن محمد الصالحيان إذنا عن الحافظ شرف الدين الدمياطي، أن
الحافظ يوسف بن خليل أخبره، قال: أخبرنا أبو الفتح ناصر بن محمد
الوبرج5، قال: أخبرنا إسماعيل بن الفضل الإخشيد، قال: أخبرنا أبو طاهر
بن عبد الرحيم، قال: أخبرنا الحافظ أبو الحسن الدارقطني، قال: حدثنا
عمر بن الحسن بن علي، قال: حدثنا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 53.
2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 49.
3 أخرجه: ابن ماجه 2/ 1017، والحاكم 1/ 472، والبيهقي في السنن 5/ 147،
والدارقطني 2/ 288، والسيوطي في الكبير 1/ 3، وعزاه للبخاري في التاريخ
الكبير، وابن ماجه، وأبي نعيم في الحلية، والطبراني في الكبير.
4 أخرجه: الدارقطني 2/ 284، وفيه: "وإذا شربته لشبعك أشبعك الله به"
وابن ماجه "3062"، والطبراني في الأوسط "853"، وأحمد 3/ 220، والبيهقي
في السنن 5/ 148، والمستدرك "1739"، والديلمي في الفردوس "3171"،
والعقيلي 2/ 303، وابن عدي 4/ 1455، والبيهقي في شعب الإيمان "4127".
5 انظر: العبر للذهبي 4/ 282، والنجوم الزاهرة 6/ 143، وشذرات الذهب 4/
215، وقد اختلف لقبه من كتاب لآخر فذكر: "الدبري" عند الدارقطني،
و"الوبرج" في العبر، و"التوترح" في النجوم الزاهرة "018". في سنن
الدارقطني 2/ 284: "المردزي"، وكذلك في المستدرك 1/ 473، وميزان
الاعتدال 3/ 185.
ج / 1 ص -337-
محمد بن هشام بن علي المروزي، قال: حدثنا
محمد بن حبيب الجارودي، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن أبي نجيح، عن
مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم... فذكره، أخرجه الحاكم في المستدرك، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد
إن سلم في الجارودي1.
قال شيخنا العراقي الحافظ: قد سلم منه، فلله الحمد، فإن الخطيب ذكره في
"تاريخ بغداد"، وقال: كان صدوقا2.
وحسن شيخنا الحافظ العراقي هذا الحديث من هذا الطريق، وقال في "نكته"
على ابن الصلاح: إن حديث ابن عباس أصح من حديث جابر... انتهى.
ولكن يعكر على ما ذكره شيخنا العراقي ما ذكره الذهبي في "الميزان" في
ترجمة عمر بن الحسن القاضي الإشناني بسنده: فآفة3 هذا هو عمر، فلقد أثم
الدارقطني بسكوته عنه، فإنه بهذا الإسناد باطل، ما رواه ابن عيينة قط4،
هذا والمعروف حديث عبد الله بن المؤمل، عن ابن الزبير، عن جابر مختصرا.
وقال الذهبي بعد أن ذكر أن الدارقطني ضعف الإشناني وكذبه5: وهذا
الإشناني صاحب بلايا، فمن ذلك قال الدارقطني... وساق الحديث... انتهى.
وحديث جابر رضي الله عنه رواه الحافظ الدمياطي بسنده إلى سويد بن سعيد،
عن ابن المبارك، عن أبي الموالي، عن محمد بن المنكدر، عن جابر رضي الله
عنه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المستدرك "1739".
2 تاريخ بغداد 2/ 277 رقم 750.
3 في الأصل: "فأمه" والتصويب من ميزان الاعتدال 3/ 185، رقم 6071.
4 قال الحافظ ابن حجر في لسان الميزان 4/ 291: "والذي يغلب على الظن أن
المؤلف هو الذي أثم بتأثيمه الدارقطني، فإن الإشناني لم ينفرد بهذا: بل
تابعه عليه الحاكم في مستدركه: 1/ 743، ولقد عجبت من قول المؤلف: ما
رواه ابن عيينة قط، مع أنه رواه عنه الحميدي، وابن أبي عمر، وسعيد بن
منصور، وغيرهم إلا أنهم وقفوه على مجاهد، ولم يذكروا ابن عباس فيه:
فغايته أن يكون محمد بن حبيب وهم في رفعه..."وفي التلخيص الحبير لابن
حجر 1/ 222: والجارودي صدق إلا أن روايته شاذة، فقد رواه حفاظ: ابن
عيينة والحميدي وابن أبي عمر وغيرهم، عن ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح،
عن مجاهد. وقال ابن حجر في لسان الميزان 5/ 414 في محمد بن هشام
الإشناني: قال ابن القطان: لا يعرف حاله، وكلام الحاكم يقتضي أنه ثقة
عنده، فإنه قال عقب الحديث: صحيح الإسناد إن سلم من الجارودي، قال:
قلت: وقد قال الزكي المنذري مثل ما قال ابن القطان "الترغيب والترهيب
2/ 133".
5 كذا في الأصل. والذي في الميزان ولسانه: ويروى عن الدارقطني أنه
كذاب، ولم يصح هذا، وقد ترجم لعمر بن الحسن: الخطيب البغدادي، ونقل عن
الدارقطني أنه قال: ضعيف "تاريخ بغداد 11/ 236- 238".
ج / 1 ص -338-
عن النبي صلى الله عليه وسلم. وصحح
الدمياطي هذا الحديث والإسناد، وفي صحته نظر على ما ذكره الحافظ ابن
حجر1.
وقد أخرجنا في أصل هذا الكتاب حديث جابر رضي الله عنه من طرق، وحديثا
لعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم
في هذا المعنى، وبينا ما في ذلك، وذكرنا فيها أخبارا عمن شرب ماء زمزم
لقصد له فناله، فمن ذلك أن الإمام الشافعي رضي الله عنه شربه للعلم،
فكان فيه غايته، وللرمي، فكان يصيب العشرة من العشرة، والتسعة من
العشرة.
ومنها: ما ذكره الفاكهي، لأنه قال: وحدثني أحمد بن محمد بن حمزة بن
واصل، عن أبيه، أو عن غيره من أهل مكة أنه ذكر: أنه رأى رجلا في المسجد
الحرام مما يلي باب الصفا والناس مجتمعون عليه، فدنوت منه، فإذا برجل
مكعوم قد عكم نفسه بقطعة خشب، فقلت: ما له؟ فقالوا: هذا رجل شرب سويقا،
وكانت في السويق إبرة فذهبت في حلقه، وقد اعترضت في حلقه، وقد بقى لا
يقدر يطبق فمه، وإذا الرجل في مثل الموت، فأتاه آت، فقال له: اذهب إلى
ماء زمزم فاشرب منه، وجدد النية، وسل الله عز وجل الشفاء، فدخل زمزم
فشرب بالجهد منه حتى أساغ منه شيئا، ثم رجع إلى موضعه، وانصرفت في
حاجتي، ثم لقيته بعد ذلك بأيام وليس به بأس، فقلت له: ما شأنك؟ فقال:
شربت من ماء زمزم، ثم خرجت على مثل حالي الأول حتى انتهيت إلى أسطوانة،
فأسندت ظهري إليها، فغلبتني عيني، فنمت، فانتبهت من نومي وأنا لا أحس
من الأثر شيئا2... انتهى.
ومنها: أن شيخنا الحافظ العراقي ذكر أنه شرب ماء زمزم لأمور، منها:
الشفاء من داء معين ببطنه، فشفي منه بغير دواء.
ومنها: أن أحمد بن عبد الله الشريفي الفراش بالحرم الشريف بمكة شربه
للشفاء من عماء حصل له، فشفي منه، على ما أخبرني به عنه شيخنا العلامة
تقي الدين عبد الرحمن بن أبي الخير الفاسي، رحمة الله عليهم أجمعين.
ومنها: أن الفقيه العلامة المدرس المفتي أبا بكر بن عمر بن منصور
الأصبحي المعروف بالشنيني، بشين معجمة، ثم نون، ثم ياء مثناة من تحت
ونون وياء للنسبة، أحد العلماء المعتبرين ببلاد اليمن، شرب ماء زمزم
بنية الشفاء من استسقاء عظيم أصابه بمكة، فشفي بأثر شربه له على ما
أخبرني به عنه ولده الفقيه الصالح عفيف الدين بن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 التلخيص الحبير 1/ 221- 222 والبيهقي في شعب الإيمان 5/ 248.
2 أخبار مكة للفاكهي 2/ 35.
ج / 1 ص -339-
عبد الله بمكة، وأخبرني عن أبيه: أنه لما
اشتد به الاستسقاء خرج يتعرض لطبيب بمكة، فأعرض عنه الطبيب الذي قصده،
فأنكر خاطره لذلك، وألقى الله تعالى بباله أن يشرب من ماء زمزم للحديث
الوارد في أنه لما شرب له، فقصد زمزم، واستسقى بدلو، فشرب منها حتى
تضلع، وأنه بعد أن تضلع منه أحس بانقطاع شيء في جوفه، فبادر حتى وصل
إلى رباط السدرة ليستنجي به، فما وصل إليه إلا وهو شديد الخوف من أن
يلوث في المسجد، فألقى شيئا كثيرا، ثم عاد إلى زمزم فشرب منه ثانيا حتى
تضلع، وأخرج شيئا كثيرا، ثم صح، وبينما هو في بعض الأيام برباط ربيع
بمكة يغسل ثوبا له وهو يطؤه برجله، وإذا بالطبيب الذي قد أعرض عن
ملاطفته، فقال له: أنت صاحب تلك العلة؟ قال: نعم، قال له: بِمَ تداويت؟
قال: بماء زمزم، فقال الحكيم: لطف بك. قال: وبلغني عن ذلك الحكيم أنه
قال حين رآه أولا: هذا ما يعيش ثلاثة أيام. هذا ما أخبرني به الفقيه
عبد الله ابن الفقيه أبي بكر الشنيني المذكور عن أبيه، في خبر مرضه
بالاستسقاء وخبر استشفائه بماء زمزم، وهذه الأخبار مما تؤيد صحة حديث
"ماء زمزم لما شرب له" مع أنه صحح بالإسناد كما سبق بيانه.
ولم ينصف ابن الجوزي في ذكره هذا الحديث في كتاب "الموضوعات" لكونه
صحيحا أو حسنا، كما سبق بيانه، ويتعجب من هذا، لأنه روى في كتاب
"الأذكياء" له بإسناده إلى سفيان قصة فيها أنه قال: هذا الحديث صحيح1،
ولم يتعقب ذلك، وليس بين هذا الحديث وحديث "الباذنجان" لم أكل له" تساو
في الثبوت، لأن حديث "ماء زمزم" صحيح أو حسن، وحديث الباذنجان" غير
صحيح. بل هو موضوع على ما بلغني عن العلامة الكبير شمس الدين بن قيم
الجوزية الحنبلي، وقال لي شيخنا الحافظ نور الدين الهيثمي: إنه موضوع،
وضعه بعض الزنادقة ليشين به الشريعة، هذا معنى كلام شيخنا نور الدين
الهيثمي.
وأنبأني شيخنا الحافظ العراقي قال: وأما ما اشتهر على ألسنة الناس، بل
على ألسنة كثير من أهل العلم، أن حديث "الباذنجان لما أكل له"، أصح من
حديث "ماء زمزم لما شرب له"، فلا يصح ذلك بوجه من الوجوه، ولم نجد
لحديث الباذنجان أصلا إلا في أثناء حديث "مسند الفردوس" بإسناد مظلم،
وليس له أصل في كتب الإسلام المتداولة بين الناس، وذكر أن مؤلف مسند
الفردوس كثير الأوهام... انتهى مختصرا.
ورويناه في خبر ابن عكيك بإسناد ساقط.
ومن خواص ماء زمزم: أنه يبرد الحمى لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك
كما في سنن النسائي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وهو في صحيح
البخاري على الشك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الأذكياء "ص: 98".
ج / 1 ص -340-
ومنها على ما قال الضحاك بن مزاحم: أنه
يذهب الصداع.
ومنها: أن المياه العذبة ترفع وتغور قبل يوم القيامة إلا ماء زمزم،
قاله الضحاك أيضا، والله أعلم بذلك.
ومنها: أنه يفضل مياه الأرض كلها طبا وشرعا، على ما ذكر شيخنا بالإجازة
الإمام بدر الدين بن الصاحب المصري، لأنه قال فيما أنبأنا به: وازنت
ماء زمزم بماء عين مكة، فوجدت زمزم أثقل من العين بنحو الربع، ثم
اعتبرتها بميزان الطب، فوجدتها تفضل مياه الأرض كلها طبا وشرعا.
ورأيت لشيخنا بدر الدين بن الصاحب هذا أبياتا حسنة في فضل زمزم، رأيت
أن أثبتها هنا، منها: قوله فيما أنبأنا به:
شفيت يا زمزم داء السقيم
فأنت أشفى ما يُعاطى النديم
وكم رضيع لك أشواقه
إليك بعد الشيب مثل
الفطيم
ومنها: قوله فيما أنبأنا به:
يا زمزم الطيبة المخبر
يا من علت غورا على المشرب
رضيع أخلافك لا يشتهي
فطام إلا لدى الكوثر1
ومنها: قوله فيما أنبأنا به:
بالله قولوا لنيل مصر
بأنني عنه في غناء
بزمزم العذب عند بيت
مخلق1 الشرب بالوفاء
ومنها: قوله فيما أنبأنا به:
لزمزم نفع في الفؤاد وقوة
يزيد على ماء الشباب لذي فتك
وزمزم فاقت كل ماء بطيبها
ولو أن ماء النيل يجري على المسك
ومنها: أن ماءها يحلو ليلة النصف من شعبان ويطيب، ذكر ذلك
ابن الحاج المالكي في منسكه نقلا عن الشيخ مكي بن أبي طالب، ونص كلامه:
قال الشيخ مكي بن أبي طالب: وفي ليلة النصف من شعبان تحلو زمزم ويطيب
ماؤها، يقول أهل مكة إن عين سلوان تتصل بها تلك الليلة، ويبذل على أخذ
الماء في تلك الليلة الأموال، ويقع الزحام فلا يصل إلى الماء إلا ذو
جاه وشرف، قال: عاينت هذا ثلاث سنين... انتهى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا بالأصل.
ج / 1 ص -341-
ومن خواص ماء زمزم: أن يكثر في ليلة النصف
من شعبان في كل سنة، بحيث إن البئر تفيض بالماء على ما قيل لكن لا
يشاهد ذلك إلا العارفون، وممن شاهد ذلك: الشيخ العام أبو الحسن المعروف
بكرباج، على ما وجدت بخط جد أبي الشريف أبي عبد الله الفاسي، نقلا عن
الشيخ فخر الدين التوزري، عن الشيخ على كرباج.
ومن فضائل بئر زمزم: أن الاطلاع فيها يجلو البصر، قاله الضحاك بن
مزاحم.
ومن فضائلها أيضا: أن الاطلاع فيها يحط الأوزار والخطايا، لأن أبا
الحسن محمد بن مرزوق الزعفراني من الشافعية ذكر في كتاب "الإرشاد في
المناسك" له: أنه يستحب لمن جاء إلى زمزم الإطلاع فيها، لأن النظر فيها
عبادة وحط للأوزار والخطايا... انتهى.
ولم أقف على هذا الكتاب، وإنما نقل إلى ذلك عنه من اعتمده، وذكر: أنه
رأى ذلك بخط من يعتمد عليه من حفاظ الحديث.
وروى نحو ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا في كتاب الفاكهي، لأنه
قال: حدثني إسحاق بن إبراهيم الطبري قال: حدثنا بقية بن الوليد، عن
ثور، عن مكحول قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "النظر في زمزم
عبادة وهي تحط الخطايا"1.
ومنها: أن من حثا على رأسه ثلاث حثيات من ماء زمزم لم تصبه ذلة. ذكر
ذلك الفاكهي، لأنه قال: وحدثني قريش بن بشير التميمي، قال: حدثنا
إبراهيم بن بشير، عن محمد بن حرب، عمن حدثه: أنه أسر في بلاد الروم،
وأنه صار إلى الملك، فقال له: من أي بلد أنت؟ قال: من أهل مكة، فقال:
هل تعرف بمكة هزمة جبريل؟ قال: نعم، قال: فهل تعرف بها برة؟ قال: نعم.
قال: فهل لها اسم غير هذا؟ قال: نعم، هي اليوم تعرف بزمزم. قال: فذكر
من جملة بركتها، ثم قال: أما أنك إن قلت هذا، إنا نجد في كتبنا أنه لا
يحثو رجل على رأسه منها ثلاث حثيات فأصابته ذلة أبدا2... انتهى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخبار مكة للفاكهي 2/ 41، وهو ضعيف الإسناد، فيه "إسحاق بن إبراهيم
الطبري" ضعيف، انظر لسان الميزان 1/ 344.
2 أخبار مكة للفاكهي 2/ 39.
ج / 1 ص -342-
ذكر آداب شربه:
يستحب لشاربه أن يستقبل القبلة، ويذكر اسم الله
تعالى، ويتنفس ثلاثا، ويتضلع منه، ويحمد الله تعالى، ويدعو بما كان ابن
عباس رضي الله عنه يدعو به إذا شرب ماء زمزم، لأن في مستدرك الحاكم من
حديث ابن عباس رضي الله عنه السابق: وكان ابن عباس إذا شرب ماء زمزم
قال: اللهم إني أسألك علما نافعا، ورزقا واسعا، وشفاء من كل داء1...
انتهى.
ولا يقتصر على هذا الدعاء بل يدعو بما أحبه من أمر الآخرة في الدعاء،
ويجتنب الدعاء بما فيه مأثمة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مستدرك الحاكم 1/ 473.
ذكر حكمة التطهير بماء زمزم:
أما حكم التطهير فإنه صحيح بالإجماع على ما ذكره
الروميني في بحره، والماوردي في "حاويه"، والنووي في "شرح المهذب".
وينبغي توقي إزالة النجاسة به، وخصوصا مع وجود غيره، وخصوصا في
الاستنجاء به، فقد قيل: إنه يورث الباسور، ويقال إن ذلك جرى لمن استنجى
به، وجزم المحب الطبري بتحريم إزالة النجاسة به، وإن حصل به التطهير،
وأخذ ذلك من كلام الماوردي، ووافقه في الجزم بذلك، وأخذه من كلام
الماوردي الشيخ كمال الدين النشائي في كتابه "جامع المختصرات وشرحه".
ولابن شعبان من أصحابنا المالكية، ما يوافق ما ذكره الماوردي في منع
التطهير بماء زمزم، لأنه قال: لا يغسل بماء زمزم ميت ولا نجاسة...
انتهى.
ومقتضى ما ذكره ابن حبيب من المالكية: استحباب التوضؤ به، ومذهب
الشافعي رضي الله عنه استحباب الوضوء والغسل به، ولم يكره الوضوء به
إلا أحمد بن حنبل رضي الله عنه في رواية عنه.
وذكر الفاكهي: أن أهل مكة يغسلون موتاهم بماء زمزم إذا فرغوا من غسل
الميت وتنظيفه تبركا به، وذكر أن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله
عنهما غسلت ابنها عبد الله بن الزبير بماء زمزم1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخبار مكة للفاكهي 2/ 47، والحديث إسناده حسن "انظر: التقريب 1/
360".
ذكر نقل ماء زمزم إلى البلدان:
أما نقله فإنه يجوز باتفاق المذاهب الأربعة، بل
هو مستحب عند المالكية والشافعية، والفرق عند الشافعية بينه وبين حجارة
الحرم في عدم جواز نقلها، وجواز نقل ماء زمزم، أن الماء ليس بشيء يزول
فلا يعود، أشار إلى هذه التفرقة: الشافعي فيما حكاه عنه البيهقي.
والأصل في جواز نقله: ما رويناه في "جامع الترمذي" عن عائشة رضي الله
عنها: أنها حملت من ماء زمزم في القوارير، وقالت: حمله رسول الله صلى
الله عليه وسلم في الأداوي والقرب، وكان يصب على المرضى ويسقيهم1.
ورويناه في "شعب الإيمان" للبيهقي، وفي سننه، وقال: أبو عيسى: هذا حديث
حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه2... انتهى.
ويدل لذلك ما رويناه عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم استهدى سهيل بن عمرو من ماء زمزم3. أخرجه الطبراني بسند
رجاله ثقات. ورويناه في تاريخ الأزرقي: أن النبي صلى الله عليه وسلم
استعجل سهيلا في إرسال ذلك إليه، وأنه بعث إلى النبي صلى الله عليه
وسلم بروايتين4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي 4/ 183، والمستدرك 1/ 485، وأخبار مكة للفاكهي 2/ 49.
2 شعب الإيمان 5/ 202.
3 مصنف عبد الرزاق 5/ 115، القرى "ص: 491"، والإصابة 4/ 221، في ترجمة
أثيلة الخزاعية، وعزاه الفاكهي وعمر بن شبة.
4 أخبار مكة للأزرقي 2/ 50.
ج / 1 ص -343-
ذكر شيء من خبر سقاية العباس بن
عبد المطلب رضي الله عنه:
صفة هذه السقاية الآن: بيت مربع في أعلاه قبة
كبيرة ساترة لجميعه، والقبة من آجر معقودة بالنورة، وفي أسفل جدرانها
خلا الجنوبي شبابيك من حديد تشرف على المسجد الحرام، في كل جهة شباكان
من حديد. وفي جانبها الشمالي من خارجها حوضان من رخام مفردان، وباب
السقاية بينهما.
وفي هذا البيت بركة كبيرة تملأ من بئر زمزم، يسكب الماء من البئر في
خشبة طويلة على صفة الميزاب، متصلة بالجدار الشرقي من حجرة زمزم، ويجري
الماء منها إلى الجدار المشار إليه، ثم إلى قناة تحت الأرض حتى يخرج
إلى البركة من فوارة في وسطها.
وأحدث وقت عمرت فيه هذه القبة سنة سبع وثمانمائة، وسبب عمارتها في هذه
السنة: أن القبة التي كانت في سقف هذه السقاية أكلت الأرضة بعض الخشب
الذي كان فيها فسقطت1. والأرضة دويبة صغيرة تأكل الخشب. وقد ذكرنا في
أصل هذا الكتاب شيئا من خبر عمارة هذا المكان، وما ذكره الأزرقي في صفة
هذه السقاية وهو يخالف هذه الصفة، ولذلك تركنا ذكره هنا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إتحاف الورى 3/ 443، العقد الثمين 2/ 212.
ج / 1 ص -344-
وقد ذكر الأزرقي ذرع ما بين هذه السقاية
وبين الحجر الأسود، وذرع ما بينها وبين جدارات المسجد، لأنه قال: ومن
الركن الأسود إلى سقاية العباس وهو بيت الشراب خمسة وتسعون ذراعا. ومن
وسط سقاية العباس إلى جدار المسجد الذي يلي المسعى: مائة ذراع. ومن وسط
السقاية إلى الجدار الذي يلي باب بني جمح: مائتا ذراع، وإحدى وتسعون
ذراعا. ومن وسط السقاية إلى الجدار الذي يلي دار الندوة: مائتا ذراع،
ومن وسط السقاية إلى الجدار الذي يلي الوادي: خمسة وثمانون ذراعا1...
انتهى.
وقد حررنا مقدار ما بين هذه السقاية والحجر الأسود، فكان ما بين ذلك:
ثمانون ذراعا ونصف ذراع، بذراع الحديد، وذلك من الحجر الأسود إلى وسط
جدار السقاية مارًّا من جانب زمزم اليماني.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 104، 105. |