شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام
ج / 2 ص -379-
بسم الله الرحمن الرحيم
الملحق الثاني: في الدرة الثمينة في تاريخ المدينة
مقدمة: بقلم اللجنة التي
أشرفت على تحقيق الكتاب
-1-
كتاب "الدرة الثمينة، في تاريخ المدينة" كتاب جليل، عظيم الأهمية، كبير
النفع، يحتوي على كثير من المعلومات التاريخية الحافلة عن مدينة
الرسول، ومسجده النبوي الشريف، صلى الله عليه وسلم- وسلاما دائمين إلى
يوم الدين.
وهذا الكتاب يكاد يكون من أقدم المصادر التاريخية التي وصلتنا في تاريخ
المدينة، بعد تاريخ المدينة لابن زبالة الذي ألفه عام 199هـ، وهو من
هذه الناحية يعد مصدرا أصيلا لا غنى لباحث أو محقق عن الرجوع إليه،
والإفادة منه.
وها هو ذا ينشره الرجل الإسلامي الكبير: معالي الشيخ محمد سرور الصبان،
بمعاونة أصحاب مكتبة النهضة الحديثة بمكة المكرمة: عبد الحفيظ وعبد
الشكور عبد الفتاح فدا، في هذه الطبعة الجديدة المنقحة المحققة، ملحقا
لكتاب "شفاء الغرام، بأخبار البلد الحرام" الذي تحدث فيه مؤلفه الفاسي
عن محمد الحجاز الكبرى ما عدا المدينة، وقد آثرنا نشره هنا لتمام
الفائدة.
وقد اعتمدنا في تحقيق الكتاب على ثلاث نسخ:
1- الأولى نسخة إستامبول الخطية لهذا الكتاب، وتقع في سبع وستين ورقة
من القطع المتوسط، وقد كتب اسم الكتاب في الورقة الأولى، ونص الاسم كما
هو مثبت فيها هو: "كتاب تاريخ المدينة المشرفة وفضائلها، على ساكنها
الصلاة والسلام، تصنيف الشيخ الأجل أبي عبد الله محمد بن محمود بن
النجار، رحمه الله، ونفعنا به"؛ وعلى الورقة الأولى كذلك أن هذا الكتاب
وقف على العلماء العاملين بمحمية قسطنطينية في سنة 1073هـ. وفي آخر هذه
النسخة الخطية كتب اسم ناسخ الكتاب وهو
ج / 2 ص -380-
عبد القاهر بن أحمد بن سليمان بن موهوب،
وقد فرغ من نسخه في 5 ربيع الآخر عام 731هـ، وقد كتب في الورقة الأخيرة
عدة كلمات في غير موضوع الكتاب، وبخط آخر كتب أيضا في آخرها تاريخ هو
عام 691هـ، وبجواره اسم عثمان بن زيد المالكي.
2- والنسخة الثانية هي نسخة المكتبة التيمورية الخطية رقم 912، وقد كتب
عليها الدرة الثمينة في أخبار المدينة لمحب الدين محمد بن محمود النجار
الحافظ المتوفى عام 643هـ1، وتقع في 263 صفحة من القطع الصغير، وهي
مكتوبة بخط واضح وفي آخرها ما نصه: تمت نسخة تاريخ المدينة في دار
الخلافة العلية على يد كاتبها الحاج أحمد الأنقروي الشهير بعرب شيخ
زاده غفر الله ذنوبه وذنوب أبويه في دار الآخرة، في هلال شهر ذي الحجة
مضت منه ثلاث يوم الخميس بعد الظهر.
3- والنسخة الثالثة هي نسخة مطبوعة عام 1366هـ-1947م بمطبعة الرسالة
بالقاهرة بتعليق الأستاذ صالح محمد جمال، وتقديم الشيخ محمد بن مانع،
وهذه الطبعة بالاعتماد على نسخة خطية يبدو من المراجعة أن بها سقطا
كثيرا، وتقع هذه الطبعة في 133 صفحة من القطع المتوسط، واسم الكتاب كما
هو مكتوب في هذه الطبعة "أخبار مدينة الرسول، المعروف بالدرة الثمينة"
للإمام محمد بن محمود النجار. وهذه الطبعة منقولة عن نسخة خطية مكية،
تاريخ نسخها عام 1217هـ، وهي منقولة عن نسخة خطية أخرى، تاريخ نسخها
عام 975هـ، وجاء في أصل هذه النسخة: "علقه كما وجده الفقير إلى رحمة
الله وكرمه محمد بن عبد اللطيف بن محمد الأشبيلي الخزرجي نزيل حرم الله
بتاريخ 11 ربيع الأول عام 975هـ... وكان الفراغ من تعليق هذه النسخة
ليلة البدر من شوال سنة 1217هـ، مع ما في أصلها من ضياع بعض الكلمات
لقدم النسخة، ودثور بعض الألفاظ ومحوها؛ وذلك بيد أحد العبيد المحتاج
إلى ربه الفتاح، محمد أبي مرزوق بن أبي الصلاح".
-3-
ومؤلف الكتاب هو الشيخ محمد بن محمود بن الحسن بن هبة الله بن محاسن
النجار، وشهرته أبو عبد الله البغدادي، ولد عام 573هـ، وتلقى ثقافته في
الدين والعلوم والآداب على أساتذة أجلاء، ثم عشق الرحلات، فطاف بالعالم
الإسلامي شرقا وغربا، نحو ثمان وعشرين سنة، وتوفي في 5 شعبان عام
647هـ2 عن خمسة وسبعين عام... وله مؤلفات كثيرة من أهمها:
1- تاريخ المدينة المشرفة وفضائلها، وهو هذا الكتاب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الصحيح أن وفاته عام 647هـ.
2 سبق أن نقلنا عن بعض النسخ أن وفاته عام 643هـ.
ج / 2 ص -381-
2- أخبار مكة.
3- بيت المقدس.
4- الذيل على تاريخ مدينة السلام خمسة مجلدات.
5- غرر الفوائد، خمسة مجلدات.
6- الكافي في أسماء الرجال.
7- القمر المنير، في المسند الكبير.
8- كنز الأيام، في معرفة الأحكام.
9- نهج الإصابة في معرفة الصحابة.
أثابه الله على جهوده في خدمة الدين والعلم والإسلام خير الثواب ورحمه
الله رحمة واسعة.
-4-
وبعد فقد بذلنا كل ما أمكننا بذله من مجهود في مراجعة النصوص، وتحقيق
الروايات، وضبط الأعلام والتعليق على التواريخ، وتخريج الأحاديث؛ ليخرج
الكتاب في أروع حلة، وأجمل صورة.
والكتاب صورة لعلم مؤلفه وفضله، ولا غرو فقد كانت له مكانة علمية رفيعة
في عصره، مما جعل هذا الكتاب القيم ذا البحوث المنوعة، والأبواب
المختلفة، جديرا بكل عناية، حريا بكل ما يبذل فيه من مجهود.
ولا يفوتنا أن ننوه بفضل كل من ساعدنا وأمدنا بمعلومات ساعدت على خدمة
هذا الكتاب وإخراجه في مظهر لائق به، وفي مقدمة هؤلاء سعادة الشيخ صالح
القزاز.
وفي آخر الكتاب وضعنا عدة ملاحق في عمارة المسجد النبوي الشريف، وفي
آثار المدينة؛ وذلك لتكون المعلومات التي تضمنتها هذه الملاحق معاونة
على تتبع تاريخ المدينة بعد عصر المؤلف حتى اليوم، ولنثبت تاريخ
العمارة في مسجد الرسول الأعظم صلوات الله وسلامه عليه منذ العصر
النبوي إلى اليوم.
وفقنا الله إلى الصواب، بفضله وكرمه، إنه على ما يشاء قدير، وصلى الله
على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وما توفيقنا إلا بالله.
ج / 2 ص -383-
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المؤلف:
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
أخبرنا الفقيه الأجل الإمام العالم الشريف العدل: تاج الدين علي بن أبي
العباس أحمد ابن الشيخ الأجل أبي محمد عبد المحسن بقراءتي عليه.
أخبرنا الشيخ الفقيه الأجل أبو عبد الله محمد بن محمود بن النجار
بقراءة أبي عليه، وقراءة ابن الوليد عليه وأنا أسمع... قال:
الحمد لله حمدًا يقتضي من إحسانه المزيد، ويبلغنا من رضوانه ما نؤمل
وما نريد، وصلى الله على مَن هَدانا إلى المنهج السديد، محمد الذي هو
على أمته شهيد، وعلى آله وأصحابه ذوي المجد المشيد، ما سار راكب في
البيد.
وبعد؛ فإنني لما دخلت مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، وأُسعدت
بزيارته، أقمت بها فاجتمعت بجماعة من أهل الصلاة والعلم والفضل من
المجاورين بها، وفقهم الله وإيانا، فسألوني عن "فضائل المدينة
وأخبارها" فأخبرتهم بما تعلق في خاطري من ذلك، فسألوني إثباته في
أوراق، فاعتذرت إليهم بأن الحفظ قد يزيد وينقص، ولو كانت كتبي حاضرة
كنت أجمع كتابا في ذلك شافيًا لما في النفس، فألحوا علي وقالوا: تحصيل
اليسير، خير من فوات الكثير، وهذه1 مع شرفها قد خلت ممن يعرف من
أخبارها شيئا، ونحن نحب أن يكون لك بها أثر2 صالح تذكر به، فأجبتهم إلى
ذلك رجاء لبركتهم، واغتناما لامتثال أمرهم، وقضاء لحق جوارهم وصحبتهم،
وطلبا لما عند الله تعالى بنشر فضائل دار الهجرة ومنبع الوحي، وذكر
أخبارها والترغيب في سكناها والحث على زيارة المدفون بها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يريد المدينة المنورة، وفي نسخة استامبول: وهذه البلد.
2 في نسخة استامبول: ولد.
ج / 2 ص -384-
صلوات الله عليه وسلامه، واستخرت الله،
وأثبت في هذا الكتاب ما تيسر من ذلك بعون الله تعالى وحسن توفيقه، ثم
إني ذكرت1 أكثره بغير إسناد؛ لتعذر حضور أصولي... وأنا أسأل الله تعالى
أن يجعل ذلك لوجهه خالصا وإليه مقربا، ولنا ولهم نافعا في الدنيا
والآخرة، إنه على كل شيء قدير.
وقد قسمته ثمانية عشر بابا، والله الموفق للصواب:
الباب الأول: في ذكر أسماء المدينة وأول ساكنيها.
الباب الثاني: في ذكر فتح المدينة.
الباب الثالث: في ذكر هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه إليها.
الباب الرابع: في ذكر فضائلها.
الباب الخامس: في ذكر تحريمها وحدود حرمها.
الباب السادس: في ذكر وادي العقيق وفضله.
الباب السابع: في ذكر آبار المدينة وفضلها.
الباب الثامن: في ذكر جبل أحد وفضله وفضائل الشهداء به.
الباب التاسع: في ذكر إجلاء بني النضير من المدينة.
الباب العاشر: في ذكر حفر الخندق حول المدينة.
الباب الحادي عشر: في ذكر قتل بني قريظة بالمدينة.
الباب الثاني عشر: في ذكر مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم- وفضله.
الباب الثالث عشر: في ذكر المساجد التي بالمدينة وفضلها.
الباب الرابع عشر: في ذكر مسجد الضرار وهدمه.
الباب الخامس عشر: في ذكر وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- وصاحبيه رضي
الله عنهما.
الباب السادس عشر: في ذكر فضل زيارة النبي صلى الله عليه وسلم.
الباب السابع عشر : في ذكر البقيع وفضله.
الباب الثامن عشر: في ذكر أعيان من سكن المدينة من الصحابة والتابعين
من بعدهم، ومن الله نستمد الهداية والسداد، إلى سبل الحق والرشاد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في نسخة استامبول: وذكرت.
ج / 2 ص -385-
بسم الله الرحمن الرحيم
الباب الأول- في ذكر أسماء المدينة وأول من سكنها1:
أنبأنا ذاكر بن كامل قال: كُتب إلى أبي علي الحداد أن أبا نعيم الحافظ
أخبره إجازة عن أبي محمد المخلدي قال: أنبأنا محمد بن عبد الرحمن
المخزومي حدثنا الزبير بن بكار حدثنا محمد بن الحسن بن زبالة عن
إبراهيم بن أبي يحيى قال: للمدينة في التوراة أحد عشر اسما: المدينة،
وطيبة2، وطابة، والمسكينة، وجابرة، والمجبورة، والمرحومة، والعذراء،
والمحبة، والمحبوبة، والقاصمة. وقال ابن زبالة عن عبد العزيز بن محمد
بن موسى بن عقبة عن عطاء بن مروان عن أبيه عن كعب قال: نجد في كتاب
الله الذي نزل على موسى أن الله تعالى قال للمدينة: "يا طيبة يا طابة
يا مسكينة لا تقبلي الكنوز، ارفعي أجاجيرك3 على أجاجير القرى". قال عبد
العزيز بن محمد: وبلغني أن لها في التوراة أربعين اسما. وفي صحيح مسلم
من حديث جابر بن سمرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال:
"إن الله تعالى سمى المدينة طابة". وفي الصحيحين أن النبي -صلى الله عليه وسلم-
قال:
"هي المدينة يثرب"، وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى: "يثرب اسم أرض"، ومدينة النبي
-صلى الله عليه وسلم- في ناحية منها، وقال ابن زبالة: كانت يثرب أم قرى
المدينة وهي ما بين طرف "قناة" إلى طرف "الجرف"، وما بين المال الذي
يقال له البرناوي إلى زبالة.
وكانت زهرة4 من أعظم قرى المدينة، قيل كان فيها ثلاثمائة صانع من
اليهود، وقيل: إن تبعا لما قدم المدينة بعث رائدًا ينظر إلى مزارع
المدينة فأتاه فقال: قد نظرت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في نسخة استامبول: ساكنيها.
2 وقد ورد في ذلك أحاديث ذكرت فيها المدينة باسم طيبة.
3 الإجار: السطح، والجمع أجاجير.
4 قرية من قرى ضواحي المدينة.
ج / 2 ص -386-
فأما قناة1 فحب ولا تبن، وأما الحرار2 فلا
حب ولا تبن، وأما الجرف فالحب والتبن.
قال أهل السير: كان أول من نزل المدينة بعد غرق قوم نوح قوم يقال لهم:
صعل وفالج، فغزاهم داود النبي عليه السلام، فأخذ منهم مائة ألف عذراء،
قال: وسلط الله عليهم الدود في أعناقهم فهلكوا، فقبورهم هذه التي في
السهل والجبل، قالوا: وكانت العماليق قد انتشروا في البلاد فسكنوا مكة
والمدينة والحجاز كله وعتوا عتوا كبيرًا، فبعث إليهم موسى -على نبينا
وعليه السلام- جندا من إسرائيل فقتلوهم بالحجاز وأفنوهم.
وروي عن زيد بن أسلم أنه قال: بلغني أن ضبعا ربيت هي وأولادها رابضة في
حجاج3 عين رجل من العماليق. وقال: لقد كان في ذلك الزمان تمضي أربعمائة
سنة وما يسمع بجنازة4.
ذكر سكنى اليهود الحجاز:
قال: وإنما كان سكن اليهود بلاد الحجاز أن موسى عليه السلام لما
أظهره الله على فرعون وأهلكه وجنوده وطيئ الشام، وأهلك من بها وبعث
بعثا من اليهود إلى الحجاز، وأمرهم ألا يستبقوا من العماليق أحدا بلغ
الحلم، فقدموا عليهم فقتلوهم وقتلوا ملكهم "نبنما" وكان يقال له:
الأرقم بن أبي الأرقم وأصابوا ابنا له شابا من أحسن الناس فضنوا به عن
القتل وقالوا: نستحييه حتى نقدم به على موسى فيرى فيه رأيه، فأقبلوا
وهو معهم وقبض الله موسى قبل قدومهم؛ فلما سمع الناس بقدومهم تلقوهم
فسألوهم عن أمرهم فأخبروهم بفتح الله عليهم، وقالوا: لم نستبق منهم
أحدا إلا هذا الفتى فإننا لم نر شابا أحسن منه فاستبقيناه حتى نقدم به
على موسى فيرى فيه رأيه، فقالت لهم بنو إسرائيل: إن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 اسم موضع بجوار المدينة فيه سيل يسمى سيل قناة.
2 جمع حرة وهي الصخور السوداء، أو هي أرض ذات صخور سوداء، كأنها أحرقت
بالنار. ومن الحرار حول المدينة حرة المدينة وتعرف بحرة بني سليم، أما
حرة خيبر فتقع على بعد مائة ميل شمال المدينة وترتفع عن سطح البحر 2200
قدم، وتسمى الحرة اللوبة واللابة، وقد ثارت إحدى الحرات في شرقي
المدينة بضع أسابيع عام 654هـ 1256م، وكان نجاة المدينة منها معجزة من
المعجزات لرسولنا العظيم.
3 حجاج العين: ما يحيط بالحدقة، وهذه الرواية من الأساطير المكذوبة.
4 المدينة المنورة ترتفع عن سطح البحر بنحو 600 متر، وتقع على الخط
الخامس والعشرين من العرض الشمالي والخط الأربعين من الطول الشمالي،
وعلى بعد 300 ميل من مكة و130 ميلًا من ينبع، والمسجد النبوي في وسط
المدينة على شكل مستطيل، طوله 126 مترا. وعرضه نحو ثلثي ذلك. وفي شمال
المدينة جبل أحد، وفي جنوبها جبل عير، ومن الوديان القريبة منها وادي
العقيق، ومرفأ المدينة ينبع، وجوها على العموم أكثر اعتدالًا من مكة،
وتكثر بها الزرعات والبساتين.
ج / 2 ص -387-
هذه لمعصية لمخالفتكم نبيكم، لا والله لا
يدخلوا علينا بلادنا، فحالوا بينهم وبين الشام، فقال الجيش: ما بلد إذ
منعتم بلدكم خير من البلد الذي خرجتم منه. قال: وكانت الحجاز أكثر بلاد
الله شجرًا وأظهره ماء. قالوا: وكان هذا أول سكنى اليهود الحجاز بعد
العماليق1 وهم يجدون في التوراة أن نبينا يهاجر من العرب إلى بلد فيه
نخيل بين حرتين، فأقبلوا من الشام يطلبون صفة البلد؛ فنزل طائفة تيماء
وتوطنوا نخلًا، ومضى طائفة فلما رأوا خيبر2 ظنوا أنها البلدة التي
يهاجر إليها فأقام بعضهم بها ومضى أكثرهم وأشرفهم فلما رأوا يثرب سبخة
وحرة ونخلًا قالوا: هذا البلد الذي يكون له مهاجر النبي إليها فنزلوه،
فنزل النضير بمن معه بطحان فنزلوا منها حيث شاءوا وكان جميعهم بزهرة
وهي محل بين الحرة والسافلة مما يلي القف، وكانت لهم الأموال بالسافلة،
ونزل جمهورهم بمكان يقال له يثرب بمجتمع السيول؛ سيل بطحان والعقيق
وسيل قناة مما يلي رغاية، قال: وخرجت قريظة وإخوانهم بنو هذل وهدل
وعمرو أبناء الخزرج بن الصريح بن التوم بن السبط بن اليسع بن العتين بن
عيد بن خيبر بن النجار بن ناجوم بن عازر بن هارون بن عمران، والنصر بن
النجار بن الخزرج بن الصريح بعد هؤلاء فتبعوا آثارهم فنزلوا بالعلية
على واديين يقال لهما مذينيب ومهزور، فنزلت بنو النضير على مذينيب
واتخذوا عليه الأموال ونزل قريظة وهذل على مهزور واتخذوا عليه الأموال
وكانوا أول من احتفر بها الآبار واغترس الأموال وابتنوا الآطام
والمنازل، قالوا: فجميع ما بنى اليهود بالمدينة تسعة وخمسون أطما3.
قال عبد العزيز بن عمران: وقد نزل المدينة قبل الأوس والخزرج أحياء من
العرب منهم أهل التهمة تفرقوا جانب بلقيز إلى المدينة، فنزلت بين مسجد
الفتح إلى يثرب في الوطا، وجعلت الجبل بينها وبين المدينة فأبرت الآبار
والمزارع.
ذكر نزول أحياء من العرب على
يهود:
قالوا: وكان بالمدينة قرى وأسواق من يهود بني إسرائيل وكان قد نزلها
عليهم أحياء من العرب فكانوا معهم وابتنوا الآطام والمنازل قبل نزول
الأوس والخزرج؛ وهم بنو أنيف حي من بلى ويقال إنهم من بقية العماليق،
وبنو مريد حي من بلى وبنو معاوية بن الحارث بن بهثة بن سليم بن منصور
بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان وبنو الجذماحي من اليمن قالوا: وكانت
الآطام عز أهل المدينة ومنعتهم التي يتحصنون فيها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في المصادر الإفرنجية أن مستعمرات اليهود في الحجاز من مثل خيبر
وغيرها كوَّنها اليهود الذين اضطهدهم أباطرة الرومان من مثل أدربان
الذي طردهم من فلسطين عام 132م.
2 قرية شمالي المدينة كان سكانها في القديم من اليهود.
3 الأطم: الحصن العالي أو القلعة، وكان كل حصن من هذه الحصون محاطًا
بالمزارع والبساتين.
ج / 2 ص -388-
من عدوهم فكان منها ما يعرف اسمه، ومنها ما
لا يعرف اسمه، ومنها ما يعرف باسم سيده، ومنها ما لا يدري لمن كان،
ومنها ما ذكر في الشعر، ومنها ما لم يذكر، وكان ما بني من الآطام للعرب
بالمدينة ثلاثة عشر أطما.
ذكر نزول الأوس والخزرج
المدينة:
قالوا: فلم تزل اليهود العالية بها الظاهرة عليها حتى كان من سيل العرم
ما كان وما قص الله في كتابه، وذلك أن أهل مأرب وهي أرض سبأ كانوا
آمنين في بلادهم تخرج المرأة بمغزلها لا تتزود شيئا تبيت في قرية وتقيل
في أخرى حتى تأتي الشام فقالوا:
{رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} [سبأ: 19]، فسلط الله عليهم العرم1 وهو جرذ، فنقب عليهم حتى دخل
السيل عليهم فأهلكهم وتمزق من سلم منهم في البلاد، وكان السد فرسخا في
فرسخ، كان بناه لقمان الأكبر العادي، بناه للدهر على زعمه، وكان يجتمع
إليه مياه أهل اليمن من مسيرة شهر، فكان تمزيقهم، ويروى أن طريفة بنت
ربيعة الكاهنة امرأة عمرو بن عامر بن ثعلبة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن
مازن بن الأزد بن الغفوث قالت2: أُتيت في المنام فقيل لي: رب أسير ذاب،
شديد الذهاب، بعيد الإياب، من واد إلى واد، وبلاد إلى بلاد، كدأب ثمود
وعاد، ثم مكثت ثم قالت: أُتيت اليلة فقيل لي: شيخ هرم، وجعل لزم، ورجل
قرم، ودهر أزم، وشر لزم، يا ويح أهل العرم، ثم قالت: أُتيت الليلة فقيل
لي: يا طريفة لكل اجتماع فراق، فلا رجوع ولا تلاقٍ، من أفق إلى آفاق،
ثم قالت: أُتيت اليلة في النوم فقيل لي: رب ألب موالب، وصامت وخاطب،
بعد هلاك مارب، قالت: ثم أُتيت في النوم فقيل لي: لكل شيء سبب، إلا غبش
ذو الذنب، الأشعر الأزب، فنقب بين المقر والقرب، ليس من كاس ذهب، فخرج
عمرو وامرأته طريفة، فيدخلان العرم3 فإذا هما بجرذ يحفر في أصله ويقلب
بيديه ورجليه الصخرة ما يقلبها خمسون رجلًا، فقال: هذا والله البيان،
وكتم أمره وما يريد، وقالا لابن أخيه وداعة بن عمرو: إني سأشتمك في
المجلس فالطمني فلطمه، فقال عمرو: والله لا أسكن بلدًا لطمت فيه أبدا.
من يشتري مني أموالي؟ قال: فوثبوا واغتنموا غضبته تزايدوا في ماله
فباعه، فلما أراد الظعن قالت طريفة: من كان يريد حمرا وحميرا وبرا
وشعيرا وذهبا وحريرا وسديرا فلينزل بطوى، ومن أراد الراسيات في الوحل
المطعمات في المحل فليلج يثرب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وقع سيل العرم في أواخر القرن الثاني قبل الميلاد أي قبل ظهور
الإسلام بنحو سبعة قرون، وقد حطم السيل سد مأرب فأغرق البلاد، وتفرق
أهلها في كل مكان.
2 كانت طريفة من كاهنات العرب، وكانت تستفتي في شتى المسائل المعقدة،
فتجيب السائل بكلام ينطق بما يشبه الحكمة، على أسلوب سجع الكهان.
3 استعمل العرم هنا بمعنى الجرذ، ويطلق أيضا على السيل وعلى الموضع.
ج / 2 ص -389-
ذات النخل، قال: فلحقت بنو عمرو بن ثعلبة
وهم الأوس والخزرج ابنا حارثة بن عمرو بن ثعلبة بن عمرو بن عامر يثرب
وهي المدينة، قالوا: وكان ممن بقي بالمدينة من اليهود حين نزلت عليهم
الأوس والخزرج بنو قريظة، وبنو النضير، وبنو محمحم، وبنو زعورا، وبنو
قينقاع، وبنو ثعلبة وأهل زهرة وأهل زبالة وأهل يثرب، وبنو القصيص، وبنو
فاعصة، وبنو ماسكة، وبنو القمعة، وبنو زيد اللات وهم رهط عبد الله،
وبنو عكوة، وبنو مرانة، قالوا: فأقامت الأوس والخزرج بالمدينة، ووجدوا
الأموال والآطام والنخل في أيدي اليهود، ووجدوا العدد والقوة معهم،
فسكنت الأوس والخزرج معهم ما شاء الله ثم إنهم سألوهم أن يعقدوا بينهم
وبينهم جوارا وحلفا يأمن به بعضهم من بعض ويمنعون به من سواهم،
فتعاقدوا وتحالفوا واشتركوا وتعاملوا فلم يزالوا على ذلك زمنًا طويلًا
وأَثْرَتِ الأوس والخزرج، وصار لهم مال وعدد، فلما رأت قريظة والنظير
حالهم خافوهم أن يغلبوهم على دورهم وأموالهم فتنمروا لهم حتى قطعوا
الحلف الذي كان بينهم، وكانت قريظة والنضير أعدوا وأكثروا، فأقامت
الأوس والخزرج في منازلهم وهم خائفون أن تحتلهم يهود حتى نجم منهم مالك
بن العجلان أخو بني سالم بن عوف بن الخزرج.
ذكر قتل يهود واستيلاء الأوس
والخزرج على المدينة:
قالوا: ولما نجم مالك بن العجلان سوده الحيان عليهما، فبعث هو قومه إلى
من وقع بالشام من قومهم يخبرونهم حالهم ويشكون إليهم غلبة اليهود
عليهم، وكان رسولهم الدمق بن زيد بن امرئ القيس أحد بني سالم بن عوف بن
الخزرج وكان قبيحا دميما شاعرا بليغا، فمضى حتى قدم الشام على ملك من
ملوك غسان الذين ساروا من يثرب إلى الشام يقال له أبو جبيلة من ولد
حفنة بن عمرو بن عامر، وقيل كان أحد بني جشم بن الخزرج وكان قد أصاب
ملكا بالشام وشرفا، فشكى إليه الدمق حالهم وغلبة اليهود عليهم وما
يتخرفون منهم وأنهم يخشون أن يخرجوهم، فأقبل أو جبيلة في جمع كبير
لنصرة الأوس والخزرج، وعاهد الله لا يبرح حتى يخرج من بها من اليهود أو
يذلهم ويصيرهم تحت يد الأوس والخزرج، وأعلمهم ما جاء به فقالوا: إن علم
القوم ما تريد تحصنوا في آطامهم فلم نقدر عليهم ولكن تدعوهم للقائك
وتتلطف بهم حتى يأمنوك ويطمئنوا، فتتمكن منهم فصنع لهم طعامًا وأرسل
إلى وجوههم1 ورؤسائهم فلم يبق من وجوههم أحد إلا أتاه وجعل الرجل منهم
يأتي بخاصته وحشمه رجاء أن يحبوهم الملك، وقد كان بنى لهم حيزا وجعل
فيه قوما وأمرهم من دخل عليهم منهم أن يقتلوه حتى أتى على وجوههم
ورؤسائهم فلما فعل ذلك عزت الأوس والخزرج في المدينة واتخذوا الديار
والأموال
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الوجوه: رؤساء القوم وأعيانهم.
ج / 2 ص -390-
وانصرف أبو جبيلة إلى الشام وتفرقت الأوس
والخزرج في عالية المدينة وسافلتها، وبعضهم جاء إلى عفًا من الأرض لا
ساكن فيه فنزله، ومنهم من لجأ إلى قرية من قراها، واتخذوا الأموال
والآطام فكان ما ابتنوا من الآطام مائة وسبعة وعشرين أطما وأقاموا
كلمتهم، وأمرهم مجتمع ثم دخلت بينهم حروب عظام وكانت لهم أيام ومواطن
وأشعار فلم تزل الحروب بينهم إلى أن بعث الله نبيه -صلى الله عليه
وسلم- وأكرمهم باتباعه1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ومن بين أيامهم في المدينة يوم بعاث وقد كان بين الأوس والخزرج قبل
الهجرة بنحو خمس سنوات، وهزمت فيه الخزرج.
الباب الثاني: في ذكر فتح المدينة
قالت عائشة رضي الله عنها: كل البلاد افتتحت
بالسيف وافتتحت المدينة بالقرآن، قلت: وذلك أن النبي -صلى الله عليه
وسلم- كان يعرض نفسه في كل موسم على قبائل العرب ويقول:
"ألا رجل يحملني إلى قومه؛ فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي" حتى لقي في بعض السنين عند العقبة نفرًا من الأوس والخزرج قدموا في
المنافرة التي كانت بينهم، فقال لهم:
"من أنتم؟" قالوا: نفر من الأوس والخزرج، قال:
"من موالي اليهود؟"
قالوا: نعم، قال:
"أفلا تجلسون أكلمكم؟" قالوا: بلى"، فجلسوا معه فدعاهم إلى الله عز وجل وعرض عليهم
الإسلام وتلا عليهم القرآن، وكانوا أهل شرك وأوثان، وكان إذا كان بينهم
وبين اليهود الذين معهم بالمدينة شيء، قالت اليهود لهم وكانوا أصحاب
كتاب: قد علمنا أن نبينا يبعث الآن قد أظل زمانه فنتبعه ونقتلكم قتل
عاد وإرم، فلما كلم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أولئك النفر ودعاهم
إلى الله قال بعضهم لبعض: يا قوم تعلموا والله إنه للنبي الذي يوعدكم
به اليهود فلا تسبقنكم إليه فاغتنموه وآمنوا به، فأجابوه فيما دعاهم
إليه وصدقوه، وقبلوا منه ما عرض عليهم، وقالوا: إنا قد تركنا قومنا
وبينهم من العداوة والشر ما بينهم، وعسى أن يجمعهم الله بك فسنقدم
عليهم فندعوهم إلى أمرك ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين،
فإن يجمعهم الله عليه فلا رجل أعز منك، ثم انصرفوا عن رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- راجعين إلى بلادهم قد آمنوا وصدقوا، وكانوا ستة: أسعد
بن زرارة، وعوف ابن عفراء -وهي أمه، وأبوه الحارث بن رفاعة، ورافع بن
مالك بن العجلان، وقطبة بن عامر بن حديدة، وعقبة بن عامر بن نابي،
وجابر بن عبد الله بن رباب، فلما قدموا المدينة إلى قومهم ذكروا لهم
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما جرى لهم ودعوهم إلى الإسلام ففشا
فيهم حتى لم يبق بيت ولا دار من دور الأنصار إلا ولرسول الله -صلى الله
عليه وسلم- فيها ذكر، فلما كان العام المقبل وافى منهم اثني عشر رجلًا
فلقوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالعقبة وهي العقبة الأولى
فبايعوه، فلما انصرفوا بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معهم مصعب
بن عمر إلى المدينة وأمره أن يقرئهم القرآن
ج / 2 ص -391-
ويعلمهم الإسلام ويفقههم في الدين وكان
منزله على أسعد بن زرارة، ولقيه في الموسم الآخر سبعون رجلًا من
الأنصار ومعهم امرأتان فبايعوه وأرسل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
أصحابه إلى المدينة ثم خرج إلى الغار بعد ذلك وتوجه هو وأبو بكر إلى
المدينة.
الباب الثالث: في ذكر هجرة النبي -صلى الله عليه
وسلم- وأصحابه
أخبرنا يحيى بن أسعد المهاجر وأبو القاسم بن
كامل الحذاء وجماعة غيرهما فيما أذنوا لي في روايته عنهم قالوا: أنبأنا
الحسن بن أحمد أبو علي الحداد عن أبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهاني
قال: كتب إلى جعفر بن محمد بن نصير أبو محمد المخلدي قال: أنبأنا أبو
شريك محمد بن عبد الرحمن المخزومي بمكة قال: حدثنا الزبير بن بكار قال:
حدثنا محمد بن الحسن بن زبالة عن جعفر بن صالح بن ثعلبة عن جده، ويعلى
بن سلام عن محمد بن عبد الله بن خزيمة بن ثابت أن تُبَّعًا لما قدم
المدينة وأراد إخراجها جاءه حبران يقال لهما تحيت ومنبه من قريظة
فقالا: أيها الملك، انصرف عن هذه البلدة؛ فإنها محفوظة، وإنها مهاجر
نبي من بني إسماعيل اسمه أحمد يخرج آخر الزمان، فأعجبه ما سمع وصدقهما
وكف عن أهل المدينة.
وفي الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري عن النبي -صلى الله عليه وسلم-
أنه قال1:
"رأيت في المنام أني مهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فذهب وهمي إلى
اليمامة أو هجر فإذا هي المدينة يثرب".
وذكر البخاري في صحيحه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما ذكر هذا
المنام لأصحابه هاجر من هاجر منهم قِبَل المدينة، ورجع عامة من كان
هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة، وتجهز أبو بكر قبل المدينة، فقال له
رسول الله -صلى الله عليه وسلم:
"على رسلك2؛
فإني أرجو أن يؤذن لي"، فقال له أبو بكر: وهل ترجو
ذلك بأبي أنت وأمي؟ قال: نعم، فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى
الله عليه وسلم؛ ليصحبه، وعلف راحلتين كانتا عنده الخبط أربعة أشهر
قالت عائشة رضي الله عنها: بينما نحن يوما جلوس في بيت أبي بكر في نحر
الظهيرة3 قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
متقنعا في ساعة لم يكن يأتينا فيها، قال أبو بكر: فدا له أبي وأمي
والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر، قالت: فجاء رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- فاستأذن فأذن له، فدخل فقال النبي -صلى الله عليه
وسلم- لأبي بكر:
"اخرج من عندك"،
فقال أبو بكر: إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله، قال:
"فإني قد أُذِن لي في الخروج"، فقال أبو بكر: الصحبة بأبي
أنت وأمي يا رسول الله؟ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم:
"نعم"، قال أبو بكر: بأبي أنت وأمي
يا رسول الله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هي في البخاري في باب علامات النبوة الجزء الرابع صفحة 169 طبعة
مصر-1296هـ.
2 أي على مَهْلِكَ.
3 أي في صدرها أو وسطها.
ج / 2 ص -392-
خذ إحدى راحلتيَّ هاتين، قال رسول الله
-صلى الله عليه وسلم:
"بالثمن"، قالت عائشة: فجهزناهما أحثَّ الجهاز1، ووضعنا لهما سفرة2 في جراب،
فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها، فربطت به على فم الجراب، فقال
رسول الله -صلى الله عليه وسلم:
"إن لها به نطاقين في الجنة"، فبذلك سميت ذات النطاقين، قالت: ثم لحق رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- بغارٍ في جبل ثور فمكثا فيه ثلاث ليالٍ يبيت
عندهم عبد الله بن أبي بكر وهو غلام شاب، فيدلج3 من عندهما بسحر فيصبح
مع قريش بمكة كبائت فلا يسمع أمرا يكادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر
ذلك حين يختلط الظلام، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة4
من لبن فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء فيبتان في رسل5 حتى
ينعق بها عامر بغلس يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث،
واستأجر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر رجلًا من بني الدئل
هدَّايًا ماهرًا بالهداية وهو على دين كفار قريش، فأمناه، فدفعاه إليه
راحلتهما، وواعده غار ثور بعد ثلاث ليالٍ براحلتيهما صبح ثلاث، وانطلق
معهما عامر بن فهيرة والدليل، فأخذ بهم طريق السواحل أسفل من عسفان ثم
عارض الطريق على امج ثم لقي الطريق بناحية فنزل في خيام أم معبد بنت
الأشقر الخزاعية بأسفل ثنية لفت ثم على الحرار ثم على ثنية المرة ثم
استبطن مديحة ثم محاح ثم بطن مرج محاح ثم مرج ذي القصوى ثم بطن كشد ثم
الأجرد ثم ذا سلم ثم اعدا مديحه بعهن ثم أجاز القاحة ثم هبط العرج ثنية
العامر عن يمين ركوبة ويقال بل ركوبة نفسها ثم بطن ديم حتى انتهى إلى
بني عمرو بن عوف بظاهر قباء، فنزل عليهم على كلثوم بن الهدم بن امرئ
القيس بن الحارث وكان سيد الحي، وقد اختلف في اليوم الذي نزل فيه، وعن
نجيح بن أفلح مولى بني ضمرة، قال: سمعت بريدة بن الحصيب يخبر أنه بعث
يسارًا غلامه مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر من الحدوات، قال:
وهي موضع أسفل من ثنية هرشا، يدلهما على العابرين ركوبة، قال يسار:
فخرجت حتى صعدت الثنية ورجزت به فقلت:
هذا أبو القاسم فاستقيمي
تعرضي مدارجا وسومي
تعرض الجوزاء للنجوم
قال: فلما علوًا ظهر الظهيرة حضرت الصلاة، فاستقبل رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- القبلة، فقام أبو بكر عن يمينه وقمت عن يمين أبي
بكر ودخلني الإسلام، فدفع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صدر أبي بكر
فأخره وأخرني أبو بكر، فصففنا خلفه فصلينا ثم خرجنا حتى قدمنا المدينة
بكرة وكان يوم الاثنين، ولقي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الزبير في
ركب من المسلمين كانوا تجارا قافلين من الشام، فكسا الزبير رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- وأبا بكر ثياب بياض وسمع المسلمون بالمدينة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي أسرعه.
2 المراد الطعام والزاد.
3 أي فيخرج.
4 المنحة: الشاة تحلب إناء بالغداة وإناء بالعشى.
5 الرسل: اللبن.
ج / 2 ص -393-
بخروج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من
مكة، فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرة ينتظرونه حتى يردهم حر الظهيرة،
فانقلبوا يوما بعد أن طال انتظارهم فلما أووا إلى بيوتهم رقى رجل من
اليهود أطما من آطامهم لأمر ينظر إليه، فبصر برسول الله -صلى الله عليه
وسلم- وأصحابه مبيضين1 فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته: يا معشر
العرب هذا جدكم2 الذي تنتظرونه، فثار المسلمون إلى السلاح، فتلقوا رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- بظهر الحرة، فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل
بهم في بني عمرو بن عوف، وذلك يوم الاثنين من شهر ربيع الأول، فقام أبو
بكر للناس وجلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صامتا، فطفق من جاء من
الأنصار ممن آمن برسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحيي أبا بكر حتى
أصابت الشمس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأقبل أبو بكر حتى ظلل
عليه بردائه، فعرف الناس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند ذلك، ولما
أقبل النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة كان مردفا لأبي بكر وأبو
بكر شيخ يعرف ونبي الله شاب لا يعرف، قال: فيلقى الرجل أبا بكر فيقول:
أيا با بكر، من هذا الرجل الذي بين يديك، فيقول: هذا الرجل الذي يهديني
السبيل فيحسب الحاسب أنه يعني الطريق وإنما يعني سبيل الخير، ولبث رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة، وأسس
المسجد الذي أسس على التقوى وصلى فيه، ثم ركب راحلته فصار يمشي معه
الناس حتى بركت عند مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة وهو
يصلي فيه يومئذ رجال من المسلمين، وكان مربدا3 للتمر لسهيل وسهل؛
غلامين يتيمين في حجر أسعد بن زرارة، فقال رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- حين بركت به راحلته:
"هذه إن شاء الله المنزل"، ثم دعا رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- بالغلامين فساومهما بالمربد؛ ليتخذه مسجدا فقالا: بل نهبه
لك يا رسول الله، فأبى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يقبله منهما
هبة حتى ابتاعه منهما ثم بناه مسجدًا.
وعن عبد الرحمن بن يزيد بن حارثة قال: لما نزل رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- على كلثوم بن الهرم وصاح كلثوم بغلام له يا نجيح، فقال رسول
الله -صلى الله عليه وسلم:
"أنجحت يا أبا بكر"،
وعن ابن عباس أقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقباء يوم الاثنين
ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء ويوم الخميس وركب من قباء يوم الجمعة،
فجمع في بني سالم فكانت أول جمعة جمعها في الإسلام، وكان يمر بدور
الأنصار دارا دارا فيدعونه إلى المنزل والمواساة، فيقول لهم خيرا
ويقول:
"خلوها؛ فإنها مأمورة" حتى انتهى إلى موضع مسجده اليوم، وكان
المسلمون قد بنوا مسجدا يصلون فيه، فبركت ناقته ونزل، وجاء أبو أيوب
الأنصاري فأخذ رحله وجاء أسعد بن زرارة فأخذ بزمام راحلته فلما خرج
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من المسجد تعلقت به الأنصار فقال: "المرء مع رحله"، فنزل على أبي أيوب الأنصاري خالد بن يزيد بن
كليب ومنزله في بني غنم بن النجار.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي عليهم الثياب البيض.
2 أي حظكم.
3 المربد: موضع يجفف فيه التمر، ويقال له: مسطح.
ج / 2 ص -394-
وعن أبي عمرو بن حجاش قال: اختار رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- المنازل فنزل في منزله ومسجده، فأراد أن يتوسط
الأنصار كلها فأحدقت به الأنصار.
وقال البراء بن عازب: أول من قدم علينا مصعب بن عمير وابن أم كلثوم
وكانا يقرئان الناس، ثم قدم عمار بن ياسر وبلال ثم قدم عمر بن الخطاب
ثم قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فما رأيت أهل المدينة فرحوا
بشيء فرحهم برسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى جعل الإماء يقولون:
قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فينا، قدم، قالت عائشة رضي الله
عنها: لما قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة وعك أبو بكر
وبلال، قالت: فدخلت عليهما، فقلت: يا أبت كيف نجدك ويا بلال كيف نجدك؟
فكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول:
وكل امرئ مصبح في أهله
والموت أدنى من شراك نعله
قالت: وكان بلال إذا أقلعت عنه الحمى يرفع عقيرته فيقول:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة
بوادٍ وحولي إذخر وجليل
وهل أردن يوما مياه مجنة
وهل يبدون لي شامة وطفيل
قالت عائشة: فجئت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبرته
فقال: اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، وصححها، وبارك لنا في
صاعها ومدها، وانقل حماها، واجعلها بالجحفة. قال أهل السير: وأقام علي
بن أبي طالب رضي الله عنه بمكة ثلاث ليالٍ وأيامها حتى أدى عن رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- الودائع التي كانت عنده للناس حتى إذا فرغ
منها لحق برسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنزل معه على كلثوم بن
الهرم، قالوا: ولم يبق بمكة من المهاجرين إلا من حبسه أهله أو فتنوه.
أنبأنا أبو القاسم الزاندواذي عن أبي علي المقري عن أبي نعيم الحافظ عن
جعفر الخواص قال: أخبرنا محمد بن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه في
قول الله عز وجل:
{وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ
وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا
نَصِيرًا} [الإسراء: 80]، قال: جعل الله مدخل صدق المدينة ومخرج صدق مكة
وسلطانا نصيرا الأنصار.
الباب الرابع: في ذكر فضائلها وما جاء في ترابها
أخبرنا عبد الرحمن بن علي الحافظ في كتابه قال: حدثنا معمر بن عبد
الواحد إملاء قال: أنبأنا شكر بن أحمد أنبأنا أبو سعيد الرازي الحافظ
في كتابه قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبي حاتم حدثنا سليمان بن داود،
حدثنا أبو غزية حدثنا عبد العزيز بن عمران عن محمد بن إبراهيم بن
إسماعيل بن ثابت بن قيس بن شماس عن أبيه قال:
ج / 2 ص -395-
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم:
"غبار المدينة شفاء من الجذام"1،
أخبرتنا عفيفة الفارقانية في كتابها عن أبي نعيم الحافظ عن أبي محمد
الخواص قال: أخبرنا أبو يزيد المخزومي حدثنا الزبير بن بكار حدثنا محمد
بن الحسن عن محمد بن فضالة عن إبراهيم بن الجهنم: أن رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- أتى بني الحارث فرآهم روبا، فقال:
"ما لكم يا بني الحارث روبا؟" قالوا: نعم يا رسول الله أصابتنا هذه الحمى، قال: "فأين أنتم من
صعيب؟" قالوا: يا رسول الله ما نصنع به؟ قال:
"تأخذون من ترابه فتجعلونه في ماء ثم يتفل عليه أحدكم ويقول: باسم الله
تراب أرضنا بريق بعضنا شفاء لمرضنا بإذن ربنا"، ففعلوا، فتركتهم الحمى2.
قال أبو القاسم ظاهر بن يحيى العلوي: "صعيب" وادي بطحان دون الماجشونية
وفيه حفرة مما يأخذ الناس منه، وهو اليوم إذا ربا إنسان أخذ منه، قلت:
ورأيت هذه الحفرة اليوم والناس يأخذون منها، وذكروا أنهم جربوه فوجدوه
صحيحا وأخذت أنا منه أيضا.
وحدثنا ابن زبالة عن إبراهيم بن الحارث عن أبي سلمة: أن رجلا أُتِيَ به
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبرجله قرحة، فرفع رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- طرف الحصير ثم وضع أصبعه التي تلي الإبهام على التراب بعد
ما مسها بريقه فقال: "باسم الله ريق بعضنا بتربة أرضنا يشفي سقيمنا بإذن ربنا"، ثم وضع أصبعه على القرحة فكأنما حل من عقال2.
ما جاء في ثمرها:
روى مسلم في الصحيح حديث سعد بن أبي وقاص أن النبي -صلى الله عليه
وسلم- قال:
"من أكل سبع تمرات مما بين لابتيها حين يصبح لم يضره شيء حتى يمسي"3، وروى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث سعيد
أيضا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال:
"من تصبح كل يوم سبع تمرات عجوة لم يضره في ذلك اليوم سم ولا سحر"4.
ما جاء في انقباض الإيمان
إليها:
روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم
أنه قال5:
"إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى حجرها"، قلت: أي ينقبض إليها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه أبو نعيم في الطب عن ثابت بن قيس بن شماس وقال: هو حديث ضعيف،
وورد عن ابن السني وأبي نعيم معا في الطب عن أبي بكر ابن حسن بن سالم
مرسلا هكذا: "غبار المدينة يبرئ الجذام" وروي: "يطفئ" بدل "يبرئ"، رواه
هكذا الزبير بن بكار في أخبار المدينة.
2 حديث ضعيف.
3 هذا الحديث: رواية مسلم ويؤيده ما في البخاري مما سيأتي بعده.
4 هذا الحديث: ورد في البخاري في كتاب الأطعمة في الجزء السابع صفحة
29.
5 رواه البخاري في باب حرم المدينة في الجزء الثاني صفحة 205.
ج / 2 ص -396-
ما جاء في دعاء النبي -صلى
الله عليه وسلم- لها بالبركة:
أنبأنا محمد بن علي الحافظ في كتابه قال: أنبأنا يحيى بن علي القرشي
أنبأنا حيدرة بن علي الأنطاكي أنبأنا أبو محمد بن أبي نصر أنبأنا أحمد
بن سليمان بن أيوب حدثنا عبد الرحمن بن عمرو حدثنا عبيد بن حسان حدثنا
الليث بن سعد حدثني سعيد بن أبي سعيد عن عمرو بن سليم الزرقي عن عاصم
بن عمرو عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- حتى إذا كنا بالسقيا التي كانت لسعد بن أبي وقاص، فقال
رسول الله -صلى الله عليه وسلم:
"ائتوني بوضوء" فلما توضأ قام فاستقبل القبلة ثم كبر ثم قال:
"اللهم إن إبراهيم كان عبدك وخليلك دعاك لأهل مكة بالبركة، وأنا محمد
عبدك ورسولك أدعوك لأهل المدينة أن تبارك لهم في مدهم وصاعهم مثل ما
باركت لأهل مكة مع البركة بركتين"1.
أنبأنا عبد الرحمن بن علي الفقيه قال: أخبرنا علي بن محمد قال: أخبرنا
أحمد بن محمد بن عزيز حدثني سلامة عن عقيل عن ابن شهاب قال: أخبرني أنس
بن مالك أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "اللهم اجعل بالمدينة
ضعفي ما جعلت بمكة من البركة"،
أخرجاه في الصحيحين2.
وأخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة قال: كان الناس إذا رأوا التمر
جاءوا به إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإذا أخذه قال:
"اللهم بارك لنا في تمرنا وبارك لنا في مديتنا وبارك لنا في صاعنا
وبارك لنا في مدنا، اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك وإنه دعاك لأهل
مكة، وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة ومثله معه"3 قال: ثم يدعو أصغر وليد
فيعطيه ذلك التمر.
ما جاء في الصبر على لأوائها
وشدتها:
روى مسلم في صحيحه من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عن النبي -صلى
الله عليه وسلم- أنه قال:
"لا يثبت أحد على لأوائها وجهدها إلا كنت له
شهيدا أو شفيعا يوم القيامة"4.
أنبأنا أبو محمد الشافعي قال: أخبرنا محمد بن الخليل بن فارس حدثنا أبو
القاسم بن أبي العلاء أنبأنا محمد بن عبد الله الدوري حدثنا محمد بن
موسى بن إبراهيم بن فضال حدثنا أبو بكر محمد بن ريان بن حبيب أخبرنا
محمد بن رمح، أنبأنا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه الترمذي عن علي وهو حديث صحيح.
2 رواه البخاري في باب حرم المدينة في الجزء الثاني ص206.
3 رواه مسلم في صحيحه وهو حديث صحيح.
4 رواه مسلم في صحيحه.
ج / 2 ص -397-
الليث عن سعيد المقبري بن أبي سعيد مولى
المهري أنه جاء أبا سعيد الخدري ليالي الحرة واستشاره في الجلاء من
المدينة وشكا إليه أسعارها وكثرة عياله، وأخبره أنه لا صبر له على جهد
المدينة فقال: ويحك لا آمرك بذلك؛ لأني سمعت رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- يقول:
"لا يصبر أحد على جهد المدينة ولأوائها1
فيموت إلا كنت له شفيعا أو شهيدا يوم القيامة إذا كان مسلما"2.
ما جاء في ذم من رغب عنها:
خرج مسلم في الصحيح من حديث أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-
أنه قال:
"يأتي على الناس زمان يدعو الرجل لابن عمه وقريبه: هلم إلى الرخاء
والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، والذي نفسي بيده لا يخرج أحد رغبة
عنها إلا خلف فيها خيرا منه، ألا إن المدينة كالكير يخرج الخبيث، لا
تقوم الساعة حتى تنفي المدينة شرارها كما ينفي الكير خبث الحديد"3.
ما جاء في ذم من أخاف
المدينة وأهلها:
أنبأنا أبو الفرج بن علي قال: أنبأنا عبد الوهاب الحافظ أنبأنا أبو
الحسن العاصمي حدثنا أبو عمر مهدي حدثنا عثمان بن أحمد السماك حدثنا
أحمد بن الخليل والحسن بن موسى قالا: حدثنا سعيد بن زيد حدثنا عمرو بن
دينار حدثنا سالم بن عبد الله قال: سمعت أبي يقول: سمعت عمر بن الخطاب
رضي الله عنه يقول: اشتد الجهد بالمدينة وغلا السعر، فقال النبي -صلى
الله عليه وسلم:
"اصبروا يا أهل المدينة وأبشروا؛ فإني قد باركت على صاعكم ومدكم، كلوا
جميعا ولا تفرقوا؛ فإن طعام الرجل يكفي الاثنين، فمن صبر على لأوائها
وشدتها كنت له شفيعا وكنت له شهيدا يوم القيامة، ومن خرج عنها رغبة عما
فيها أبدل الله عز وجل فيها من هو خير منه، ومن بغاها أو كادها بسوء
أذابه الله تعالى كما يذوب الملح في الماء"2.
أنبأنا أبو طاهر لاحق بن الصوفي أنبأنا أبو القاسم الكاتب أنبأنا أبو
علي بن المذهب أنبأنا أبو بكر القطيعي أنبأنا عبد الله بن أحمد بن حنبل
حدثني أبي حدثنا أنس بن عياض حدثني يزيد بن حصيفة عن عبد الله بن عبد
الرحمن بن أبي صعصعة عن عطاء بن يسار عن السائب بن خلاد أن رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- قال:
"من أخاف أهل المدينة ظلما أخافه الله وعليه لعنة الله والملائكة
والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا"4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 اللأواء: الشدة.
2 حديث صحيح.
3 حديث صحيح رواه مسلم في صحيحه.
4 يروى من أخاف أهل المدينة فقد أخاف ما بين جنبي، وقد رواه أحمد في
مسنده عن جابر وهو حديث حسن.
ج / 2 ص -398-
أنبأنا أبو محمد الشافعي عن أبي محمد بن
طاوس حدثنا سليمان بن إبراهيم حدثنا أبو عبد الله حدثنا حامد بن محمود
حدثنا محمد مكي بن إبراهيم حدثنا هاشم بن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص عن
عبد الله بن نسطاس عن جابر بن عبد الله أن رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- قال:
"من أخاف أهل المدينة فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا
يقبل الله منه صرفا ولا عدلًا، ومن أخاف أهلها فقد أخاف ما بين هذين"
ووضع يديه على جنبيه تحت ثدييه1.
وخرج البخاري في صحيحه من حديث سعد بن أبي وقاص عن النبي -صلى الله
عليه وسلم- أنه قال:
"لا يكيد أحد أهل المدينة إلا انماع كما ينماع
الملح في الماء"2.
أخبرنا عبد الرحمن بن أبي الحسن في كتابه قال: أنبأنا أبو البركات ابن
المبارك أنبأنا عاصم بن الحسن أنبأنا عبد الواحد بن محمد حدثنا السماك
حدثنا إسحاق بن يعقوب حدثنا محمد بن عبادة حدثنا أبو ضمرة عن عبد
السلام بن أبي الجنوب عن عمرو بن عبيد عن الحسن عن معقل بن يسار قال:
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم:
"المدينة مهاجري، فيها مضجعي، وفيها مبعثي، حقيق على أمتي حفظ جيراني
ما اجتنبوا الكبائر، من حفظهم كنت له شهيدا أو شفيعا يوم القيامة، ومن
لم يحفظهم سقي من طينة الخبال"، قيل للمزني: ما طينة الخبال؟
قال: عصارة أهل النار.
ما جاء في منع الطاعون
والدجال من دخولها3:
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه
قال:
"على أنقاب المدينة ملائكة لا يدخلها الطاعون ولا الدجال"4.
وفيهما من حديث أنس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال:
"ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة ليس نقب من أنقابها إلا
عليه الملائكة صافين يحرسونها، فينزل السبخة ثم ترجف المدينة ثلاث
رجفات فيخرج إليه كل كافر ومنافق".
وأخرج البخاري في من حديث أبي بكر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:
"لا يدخل المدينة رعب المسيح الدجال، لها يومئذ سبعة أبواب في كل باب
ملك".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يروى من أخاف أهل المدينة فقد أخاف ما بين جنبي، وقد رواه أحمد في
مسنده عن جابر وهو حديث حسن.
2 رواه البخاري في باب حرم المدينة الجزء الثاني ص25.
3 راجع في ذلك وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى للشيخ السمهودي، وص21
خلاصة الوفا بأخبار دار المصطفى للمؤلف نفسه.
4 وفي الحديث: "قدم رسول الله المدينة وهي أوبأ أرض الله"، وتحويل مثل
هذا الوباء من أعظم المعجزات لرسولنا الكريم راجع 24 خلاصة "دار
الوفا".
ج / 2 ص -399-
ذكر ما يؤول إليه أمرها:
أنبأنا القاسم بن علي قال: أخبرنا عبد الرحمن بن أبي الحسن أنبأنا سهل
بن بشر بن محمد بن الحسن بن أبي طاهر حدثنا جعفر بن محمد الغيرياني،
حدثنا هشام بن عمار أنبأنا يحيى بن حمزة الزبيدي حدثنا الزهري عن سعيد
بن المسيب عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
يقول:
"لتتركنَّ المدينة على خير ما كانت مدلاة ثمارها لا يغشاها إلا العوافي
-يريد عوافي السباع والطير- وآخر من يحشر منها راعيان من مزينة يردان
المدينة ينعقان بغنمهما فيجدانها وحشا حتى إذا بلغا ثنية الوداع خرا
على وجوهما"1.
أخرجه البخاري في صحيحه.
تضعيف الأعمال بها:
أخبرنا عبد العزيز بن محمود الأخصر قال: أخبرنا عبد الأول بن عيسى بن
شعيب الشجري قال: أخبرنا محمد بن عبد العزيز الفارسي، أخبرنا عبد
الرحمن بن أبي شريح، حدثنا ابن صاعد، حدثنا هارون بن موسى، حدثنا عمر
بن أبي بكر الموصلي عن القاسم بن عبد الله عن كثير بن عبد الله بن عمرو
بن عوف عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم:
"صلاة الجمعة بالمدينة كألف صلاة
فيما سواها"2.
وبالإسناد عن ابن عمر قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم:
"صيام شهر رمضان في المدينة كصيام ألف شهر فيما سواها"3.
فضيلة الموت بها:
أنبأنا عبد الرحمن بن علي قال: أنبأنا يحيى بن علي بن الطماح،
أنبأنا محمد بن أحمد العدل، حدثنا محمد بن عبد الله الدقاق، حدثنا
الصلت بن مسعود، حدثنا سفيان بن موسى، حدثنا أيوب عن نافع عن ابن عمر
قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت؛ فإن من مات بالمدينة شفعت له يوم
القيامة"4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه البخاري في صحيحه.
2 حديث حسن رواه البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر ويروى:
"صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد
الحرام"، رواه مسلم والترمذي عن أبي هريرة وهو
صحيح.
3 رواه البيهقي عن ابن عمر وحسنه.
4 حديث صحيح مروي عن ابن عمر.
ج / 2 ص -400-
الباب الخامس: في ذكر تحريم النبي
للمدينة وحدود حرمها
في الصحيحين من حديث عبد الله بن زيد بن عاصم عن النبي -صلى الله عليه
وسلم- أنه قال:
"إن إبراهيم حرم مكة ودعا لأهلها، وإني حرمت
المدينة كما حرم إبراهيم مكة، وإني دعوت في صاعها ومدها بمثل ما دعا
إبراهيم لأهل مكة"1.
وذكر أبو داود السجستاني في السنن من حديث علي بن أبي طالب رضي الله
عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:
"المدينة حرام ما بين عير إلى
ثور، فمن أحدث حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس
أجمعين، لا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلًا، لا يختلى خلاها ولا ينفر
صيدها، ولا تلتقط لقطتها إلا لمن أنشدها، ولا يصلح لرجل أن يحمل فيها
السلاح لقتال ولا يصلح أن تقطع منها شجرة إلا أن يعلف2
رجل بعيره".
وفي الصحيحين عن علي أيضا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال:
"المدينة حرم ما بين عير إلى ثور فمن أحدث فيها أو آوى محدثا فعليه
لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا
ولا عدلا"3.
قال أبو عبيد القاسم بن سلام: عير وثور جبلان وأهل المدينة لا يعرفون
بها جبلًا يقال له ثور إنما ثور بمكة. فترى أن الحديث أصله ما بين عير
إلى أحد.
قلت: بل يعرف أهل المدينة جبل ثور وهو جبل صغير وراء أحد ولا ينكرونه.
وفي السنن لأبي داود من حديث عدي بن زيد قال: حمى رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- كل ناحية من المدينة بريدا بريدا لا يخبط شجرها ولا يعضد
إلا ما يساق به الجمل. وفيها أن سعد بن أبي وقاص أخذ رجلا تصيد في حرم
المدينة الذي حرم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسلبه ثيابه، فجاءوا
إليه فكلموه فيه فقال: "إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حرم هذا
الحرم، وقال:
"من أخذ الصيد فيه فليسلبه ثيابه" فلا أرد عليكم طعمة أطعمنيها رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- ولكن إن شئتم دفعت إليكم ثمنه.
وفيها عن جابر بن عبد الله أنه قال: لا يخبط شجرها ولا يعضد ولكن يهش
هشًّا رفيقًا.
أخبرنا يحيى بن أبي الفضل الفقيه، أخبرنا عبد الله بن رفاعة، أنبأنا
علي بن الحسن الشافعي؛ أخبرنا شعيب بن عبد الله، حدثنا أحمد بن الحسن
الرازي، حدثنا أبو الزنباع، حدثنا عمر بن خالد، حدثنا بكر بن مضر عن
أبي الهاد عن أبي بكر بن محمد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه البخاري ومسلم وهو حديث حسن.
2 حديث صحيح صححه جماعة.
3 رواه البخاري في كتاب الفرائض الجزء الثامن ص9.
ج / 2 ص -401-
عن عبد الله بن عمرو عن رافع بن خديج أنه
سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول؛ وذكر مكة، فقال:
"إن إبراهيم حرم مكة، وإني أحرم ما بين لابتيها -يريد المدينة"، وفي صحيح البخاري في حديث الهجرة أن النبي
-صلى الله عليه وسلم- قال للمسلمين: "إني رأيت دار هجرتكم ذات
نخل بين لابتين وهما الحرتان".
أنبأنا القاسم بن علي، قال: أنبأنا محمد بن إبراهيم، أنبأنا سهل بن
بشر، أنبأنا علي بن منير، أنبأنا الذهلي، أنبأنا موسى بن هارون، حدثنا
إبراهيم بن المنذر، حدثنا عبد العزيز بن أبي ثابت، حدثني أبو بكر بن
النعمان بن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه عن جده عن كعب بن مالك
قال: حرم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الشجر بالمدينة بريدا في
بريد، وأرسلني، فأعلمت على الحرم على شرف ذات الجيش وعلى مشيرف وعلى
أشراف المجتهر وعلى يتم1.
قلت: واختلف العلماء في صيد حرم المدينة وشجره فقال مالك والشافعي
وأحمد: إنه محرم. وقال أبو حنيفة: ليس بمحرم واختلفت الرواية عن أحمد
هل يضمن صيدها وشجرها بالجزاء؛ فروي عنه أنه لا جزاء فيه وبه قال مالك،
وروي أنه يضمن وللشافعي قولان كالروايتين، وإذا قلنا بضمانه فجزاؤه سلب
القاتل بتملكه الذي يسلبه، ومن أدخل إليها صيدًا لم يجب عليه رفع يديه
عنه ويجوز له ذبحه وأكله، ويجوز أن يؤخذ من شجرها ما تدعو الحاجة إليه
للرحل والوسائد ومن حشيشها ما يحتاج إليه للعلف بخلاف مكة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذه كلها مواضع قريبة من المدينة المشرفة.
الباب السادس: في ذكر وادي العقيق وفضله
روى البخاري في الصحيح من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه
أنه قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول:
"أتاني1 الليلة آتٍ من ربي عز وجل فقال: صلِّ في هذا
الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة".
وكان عبد الله بن عمر ينيخ بالوادي يتحرى معرس رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- ويقول: هو أسفل من المسجد الذي ببطن الوادي بينه وبين
الطريق وسط من ذلك.
أنبأنا يحيى بن أسعد الخباز قال: كُتب إلى أبي علي المقري، عن أحمد بن
عبد الله الأصفهاني قال: أنبأنا جعفر بن محمد الزاهد إجازة قال: أنبأنا
أبو يزيد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الحديث في البخاري ص132 ج2 كتاب الحج.
ج / 2 ص -402-
المخزومي، حدثنا الزبير بن بكار، حدثنا
محمد بن الحسن عن عمر بن عثمان بن عمر، حدثنا موسى عن أيوب بن سلمة، عن
عامر بن سعد بن أبي وقاص قال: ركب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى
العقيق ثم رجع فقال: "يا عائشة، جئنا من هذا العقيق فما ألين موطئه وأعذب ماءه"، قالت: يا رسول الله، أفلا ننقل إليه؟ فقال:
"كيف وقد ابتنى الناس؟"
قالت: ووجد على قبر آدمي عند حمى أم خالد بالعقيق1 حجر مكتوب: "أنا عبد
الله رسول الله سليمان بن داود إلى أهل يثرب"، ووجد حجر آخر على قبر
آدمي أيضا عليه مكتوب: "أنا أسود بن سوادة رسول رسول الله عيسى ابن
مريم إلى أهل هذه القرية"، قلت: وابتنى بعض الصحابة بالعقيق ونزلوه،
وكذلك جماعة من التابعين ومن بعدهم، وكانت فيه القصور المشيدة والآبار2
العذبة.
ولأهلها أخبار مستحسنة في الكتاب وأشعار رائقة، ولما بنى عروة بن
الزبير قصره بالعقيق ونزله قيل له: جفوت عن مسجد رسول الله -صلى الله
عليه وسلم؛ فقال: إني رأيت مساجدهم لاهية، وأسواقهم لاغية، والفاحشة في
فجاجهم عالية، فكان بعدي مما هنالك عافية.
قال أهل السير: كانت بنو أمية تجري في الديوان رزقا على من يقوم على
حوض مروان بن الحكم بالعقيق في مصلحته وفيما يصلح بئر المغيرة من علقها
ودلائها. قالوا: ومر هشام بن عبد الملك3 وهو يريد المدينة بجرر هشام بن
إسماعيل بالرابغ، فقيل له: يا أمير المؤمنين، هذه جرر جدك هشام، فأمر
بإصلاحها وما يقيمها من بيت المال فكانت توضع هناك جرار أربع يسقى منهن
الناس.
قالوا: وولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العقيق لرجل اسمه هيضم
المزني، ولم تزل الولاة على المدينة يولون واليا من عهد النبي -صلى
الله عليه وسلم- حتى كان زمان داود بن عيسى4 فتركه في سنة ثمانٍ وتسعين
ومائة.
قالوا: ومات سعيد بن زيد بن أبي وقاص وهما من العشرة بالعقيق، وحملا
إلى المدينة فدفنَّا بها، قلت: ووادي العقيق اليوم ليس به ساكن وفيه
بقايا بنيان خراب وآثار تجد النفس برؤيتها أنسا كما قال أبو تمام:
ولا الخدود وإن أدمين من خجل
أشهى إلى ناظري من خدها الترب
ما ربع مية معمورا يطيف به
غيلان أبهى ربا من ربعها الخرب5
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وادٍ خصب يقع غربي المدينة ويبعد عنها قليلا.
2 من أشهر آبار العقيق: بئر رومة وبئر عروة.
3 تولى هشام الخلافة الأموية عشرين عاما "105-125هـ".
4 هو والي المدينة في عهد الرشيد والأمين.
5 مية: محبوبة ذي الرمة. وغيلان: هو ذو الرمة الشاعر الأموي المتوفى
عام 117هـ.
ج / 2 ص -403-
الباب السابع: في ذكر آبار المدينة
وفضلها
اعلم أنه قد نقل أهل السير أسماء آبار بالمدينة شرب منها النبي -صلى
الله عليه وسلم- وبصق فيها إلا أن أكثرها لا يعرف اليوم فلا حاجة في
ذكرها، ونحن نذكر الآبار التي هي اليوم موجودة معروفة على ما يذكر أهل
المدينة والعهدة عليهم في ذلك، ونذكر ما جاء في فضلها.
فأول ذلك بئر حا1:
روى البخاري في الصحيح من حديث أنس بن مالك قال: كان أبو طلحة أكثر
أنصار المدينة مالًا من نخل، وكان أحب أمواله إليه بئر حا، وكانت
مستقبلة المسجد، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدخلها، ويشرب من
ماء فيها طيب، قال أنس: فلما نزلت هذه الآية:
{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا
مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] قام أبو طلحة
إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إن الله عز وجل
يقول:
{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}، وإن أحب أموالي إلي بئر حا وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند
الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، قال: فقال رسول الله -صلى
الله عليه وسلم:
"بخ بخ ذلك مال رابح، وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في
الأقربين" فقال أبو طلحة: أَفعَلُ يا رسول الله، فقسمها
أبو طلحة في أقاربه وبني عمه.
قلت: وهذه البئر اليوم وسط حديثة صغيرة جدا وعندها نخلات ويزرع حولها،
وعندها بيت مبني على علو من الأرض وهي قريبة من سور المدينة وهي ملك
لبعض أهل المدينة وماؤها عذب حلو، وذرعتها فكان طولها عشرة أذرع ونصف
ماء، والباقي بنيان، وعرضها ثلاثة أذرع وشبر، وهي مقابلة المسجد كما
ذكرت في الحديث.
ثم بئر أريس:
روى مسلم في صحيحه من حديث أبي موسى الأشعري أنه توضَّأ في بيته ثم
خرج فقال: لألزمن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولأكونن معه يومي
هذا، قال: فجاء المسجد فسأل عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: خرج
وجه ههنا، فخرجت على أثره أسأل عنه حتى دخل بئر أريس2، قال: فجلست عند
الباب وبابها من جريد حتى قضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حاجته
وتوضأ، فقمت إليه فإذا هو قد جلس على بئر أريس وتوسط قُفَّها3 وكشف عن
ساقيه ودلاهما في البئر،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هي في شمال شرقي المدينة ولا يفصلها عنها إلا مسافة قليلة جدًّا.
2 هي في غرب المدينة، وسميت باسم صاحبها، وهي مشهورة ببئر الخاتم،
لسقوط خاتم الرسول فيها من يد عثمان بن عفان.
3 هو ما ارتفع من فم البئر على وجه الأرض.
ج / 2 ص -404-
قال: فسلمت عليه، ثم انصرفت، فجلست عند
الباب، فقلت: لأكونن بواب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اليوم، فجاء
أبو بكر الصديق رضي الله عنه فدفع الباب، فقلت: من هذا؟ فقال: أبو بكر،
فقلت: يا رسول الله هذا أبو بكر يستأذن، فقال:
"ائذن له وبشره بالجنة"، قال: فأقبلت حتى قلت لأبي بكر: ادخل ورسول
الله -صلى الله عليه وسلم- يبشرك بالجنة، قال: فدخل أبو بكر، فجلس عن
يمين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معه في القف، ودلى رجليه في البئر
كما صنع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكشف عن ساقيه، ثم رجعت فجلست،
وقد تركت أخي يتوضأ ويلحقني، فقلت: إن يرد الله بفلان خيرا -يريد أخاه-
يأتِ به فإذا إنسان يحرك الباب فقلت: من هذا؟ فقال: عمر بن الخطاب،
فقلت: على رسلك ثم جئت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسلمت عليه
وقلت: هذا عمر بن الخطاب يستأذن، فقال:
"ائذن له وبشره بالجنة"
فجئت عمر فقلت: ادخل ويبشرك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالجنة،
قال: فدخل فجلس مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم في القف ثم رجعت
فجلست، فقلت: إن يرد الله بفلان خيرا -يعني أخاه- يأت به، فجاء إنسان
فحرك الباب، فقلت: من هذا؟ فقال: عثمان بن عفان فقلت: على رسلك قال:
وجئت النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخبرته فقال:
"ائذن له وبشره بالجنة مع بلوى تصيبه"، قال: فجئت وقلت: ادخل ويبشرك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
بالجنة مع بلوى تصيبك، قال: فدخل فوجد القف قد ملئ فجلس وجاههم من الشق
الآخر.
وقد أخرج البخاري في صحيحه هذا الحديث فزاد فيه ألفاظا ونقص، وقال:
فدخل عثمان فلم يجد معهم مجلسا، فتحول حتى جاء مقابلهم عن شقة البئر
فكشف عن ساقيه ثم دلاهما في البئر؛ وقال البخاري: قال سعيد بن المسيب:
فتأولت ذلك قبورهم اجتمعت ههنا وانفرد عثمان.
وروى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر أن رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- اتخذ خاتما من ورق، أي فضة، وكان في يده ثم كان
في يد أبي بكر ثم كان بعد في يد عمر ثم كان في يد عثمان حتى وقع منه في
بئر أريس.
وروى البخاري في الصحيح من حديث أنس قال: كان خاتم النبي -صلى الله
عليه وسلم- في يده وفي يد أبي بكر وبعده وفي يد عمر بعد أبي بكر فلما
كان عثمان جلس على بئر أريس فأخرج الخاتم فجعل يعبث به فسقط، قال:
فاختلفنا ثلاثة أيام مع عثمان ننزح البئر فلم نجده.
قلت: وهذه البئر مقابلة مسجد قباء وعندها مزارع ويستقى منها، وماؤها
عذب، وذرعتها فكان طولها أربعة عشر ذراعا وشبرا، منها ذراعان ونصف ماء،
وعرضها خمسة أذرع وطول قُفِّها الذي جلس عليه النبي -صلى الله عليه
وسلم، وصاحباه ثلاثة أذرع تشف كفًّا، والبئر تحت أطم عالٍ خراب من
حجارة.
ج / 2 ص -405-
ثم بئر بضاعة:
روى أبو داود في السنن من حديث أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- وهو يقال له: إنه يسقى لك من بئر بضاعة1 وهي بئر
يلقى فيها لحوم الكلاب والمحايض وعذر الناس، فقال رسول الله -صلى الله
عليه وسلم: "إن الماء طهور لا ينجسه شيء"2.
أنبأنا أبو القاسم الصموت عن الحسن بن أحمد بن عبد الله عن جعفر بن
محمد، قال: أنبأنا أبو يزيد المخزومي حدثنا الزبير بن بكار حدثنا محمد
بن الحسن عن حاتم بن إسماعيل عن محمد بن أبي يحيى عن أمه قالت: دخلنا
على سهل بن سعد في نسوة فقال: لو أني سقيتكن من بئر بضاعة لكرهتن ذلك،
وقد -والله- سقيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيدي منها.
وحدثنا محمد بن الحسن عن عبد المهمين بن عباس بن سهل عن أبيه عن جده أن
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بصق في بئر بضاعة، وحدثنا محمد بن
الحسن عن إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى عن مالك بن حمزة بن أبي السيد عن
أبيه عن جده أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دعا لبئر بضاعة، قال أبو
داود السجستاني في السنن: سمعت -والله- قتيبة بن سعيد يقول: سألت قيِّم
بئر بضاعة عن عمقها فقلت: أكثر ما يكون فيها الماء؟ قال: إلى العانة،
قلت: فإذا نقص قال: دون العورة، قال أبو داود: قدرت بئر بضاعة بردائي
مددته عليها ثم ذرعته فإذا عرضها ستة أذرع، وسألت الذي فتح باب البستان
فأدخلني إليه: هل غير بناؤه عما كان عليه؟ فقال: لا، ورأيت فيها ماءً
متغير اللون. قلت: وهذه البئر اليوم في بستان وماؤها عذب طيب ولونه
صافٍ أبيض، وريحه كذلك ويستقي منها كثيرا، وذرعتها فكان طولها أحد عشر
ذراعا وشبرا، منها: ذراعان راجحة ماء والباقي بناء وعرضها ستة أذرع كما
ذكر أبو داود في السنن.
ثم بئر غرس:
أخبرنا يحيى بن أسعد بخطه قال: أنبأنا أبو علي الحداد عن أبي نعيم
الأصبهاني قال: كُتِب إلى أبي محمد الخواص أن محمد بن عبد الرحمن أخبره
قال: أخبرنا الزبير بن بكار حدثنا محمد بن الحسن عن عبد العزيز بن محمد
عن سعيد بن عبد الرحمن بن قيس، قال: جاءنا أنس بن مالك بقباء فقال: أين
بئركم هذه؟ يعني بئر غرس3 فدللناه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هي بالقرب من سقيفة بني ساعدة.
2 هو لأحد في مسنده ولمسلم والترمذي والنسائي والدارقطني وللبيهقي في
السنن عن أبي سعيد وهو صحيح.
3 هو في الشمال الغربي للمدينة.
ج / 2 ص -406-
عليها قال: رأيت النبي -صلى الله عليه
وسلم- جاءها بسحر، فدعا بدلو من مائه فتوضأ منه ثم سكبه فيها فما نزفت
بعد.
وحدثنا محمد بن الحسن عن القاسم بن محمد عن إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع
قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم:
"رأيت الليلة أني أصبحت على بئر
من الجنة"، فأصبح على بئر غرس، فتوضأ منها، وبصق
فيها، وغسل منها حين توفي صلى الله عليه وسلم".
وحدثنا محمد بن الحسن عن سفيان بن عيينة عن جعفر بن محمد عن أبيه قال:
غسل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من بئر يقال لها غرس، وكان يشرب
منها.
قلت: وهذه البئر بينهما وبين مسجد قباء نحو نصف ميل، وهي في وسط الشجر
وقد خربها السيل وطمها، وفيها ماء أخضر إلا أنه عذب طيب وريحه الغالب
عليه الأجون1، وذرعتها فكان طولها سبعة أذرع شافة، منها ذراعان ماء،
وعرضها عشرة أذرع.
ثم بئر البصة:
أنبأنا ذاكر الحذاء عن الحسن بن أحمد الأصبهاني عن أحمد بن عبد الله
الحافظ عن جعفر بن محمد قال: أخبرنا محمد بن عبد الرحمن حدثنا الزبير
بن بكار حدثنا محمد بن الحسن عن محمد بن موسى عن سعيد بن أبي زيد عن
ابن عبد الرحمن أن أبا سعيد الخدري قال: كان رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- يأتي الشهداء وأبناءهم ويتعاهد عيالهم، قال: فجاء يوما أبا سعيد
الخدري، فقال:
"هل عندك من سدر أغسل به
رأسي؛ فإن اليوم الجمعة". قال: نعم، فأخرج له
سدرًا وخرج معه إلى البصة، فغسل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأسه
وصب غسالة رأسه ومزاقة شعره في البصة.
قلت: وهذه البئر قريبة من البقيع على طريق المارِّ إلى قباء وهي بين
نخل، وقد هدمها السيل وطمها، وفيها ماء أخضر ووقفت على قفها وذرعت
طولها فكان أحد عشر ذراعا منها ذراعان ماء، وعرضها تسعة أذرع وهي مبنية
بالحجارة ولون مائها إذا انفصل منها أبيض وطعمه حلو إلا أن الأجون غلب
عليه، وذكر لي الثقة أن أهل المدينة كانوا يستقون منها قبل أن يطمها
السيل.
ثم بئر رومة:
روى أهل السير: أن تُبَّعًا لما قدم المدينة نزل بقباء واحتفر البئر
الذي يقال لها: بئر الملك، وبه سميت، فاستوبئ ماؤها، فدخلت عليه امرأة
من بني زريق من اليهود اسمها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي الملوحة.
ج / 2 ص -407-
فكيهة، فشكا إليها وباء بئره، فانطلقت
فأخذت حمارين واستقت له من ماء رومة1 ثم جاءته فشربه، فقال: زيدينا من
هذا الماء.
وكتبت إلي عفيفة الأصبهانية أن أبا علي الحداد أخبرها بخطه عن أبي نعيم
قال: كتب إلى جعفر الملدي أن أبا يزيد المخزومي أخبره عن الزبير بن
بكار عن محمد بن الحسن عن محمد بن طلحة عن إسحاق بن يحيى عن موسى بن
طلحة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:
"نعم الحفيرة حفيرة المدني"؛ يعني رومة، فلما سمع بذلك عثمان بن عفان ابتاع نصفها بمائة بكرة،
وتصدق بها فجعل الناس يستقون منها فلما رأى صاحبها أن قد امتنع منه ما
كان يصيب عليها باع من عثمان النصف الثاني بشيء يسير فتصدق بها كلها.
وروى البخاري في الصحيح من حديث أبي عبد الرحمن السلمي أن عثمان حيث
حوصر أشرف عليهم، وقال: أنشدكم الله ولا أنشد إلا أصحاب النبي -صلى
الله عليه وسلم- ألستم تعلمون أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:
"من حفر رومة فله الجنة؟" فحفرتها، ألستم تعلمون أن
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:
"من جهز جيش العسرة فله
الجنة؟" فجهزتهم، قال: فصدقوه.
قلت: وهذه البئر اليوم بعيدة عن المدينة جدًّا في براح واسع من الأرض
وطيء، وعندها بناء من حجارة خراب قيل إنه كان ديرا ليهود والله أعلم،
وحولها مزارع وآبار وأرضها رملة، وقد انتقضت خرزتها وأعلامها إلا أنها
بئر مليحة جدًّا مبنية بالحجارة الموجهة، وذرعتها فكان طولها ثمانية
عشر ذراعا، منها ذراعان ماء وباقيها مطموم بالرمل الذي تسفيه الرياح
فيها، وعرضها ثمانية أذرع وماؤها صاف وطمه حلو إلا أن الأجون غلب عليه،
قلت: واعلم أن هذه الآبار قد يزيد وماؤها في الأزمان عما ذكرنا وقد
ينقص وربما بقي منها ما كان مطموما2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هي في وادي العقيق في الشمال الغربي للمدينة.
2 ومن عيون المدينة المشهورة: العين الزرقاء أو عن الأزرق، وهو مروان
بن الحكم وكان قد أجراها بأمر معاوية حين كان واليًا على المدينة
وأصلها من قباء معروف من بئر كبيرة غربي مسجد قباء في حديثة نخل تعرف
بالجعفرية. وقد أخذ الأمير سيف الدين الحسين بن أبي الهيجاء في حدود
عام 560هـ منها شعبة عند مخرجها من القبة، فساقها إلى باب المدينة باب
المصلى، ثم أوصلها إلى باب الرحبة التي عند مسجد النبي من جهة باب
السلام، المعروف قديمًا بباب مروان وبنى لها منهلًا بدرج من تحت الدور
يستسقي منه أهل المدينة وينتفعون بها، وجعل لها مصرفا من تحت الأرض يشق
وسط المدينة على البلاط ثم يخرج إلى ظاهر المدينة من جهة الشمال شرقي
الحصن الذي يسكنه أمير المدينة وتسمى بئر السوق، وقد أقام الملك سعود
خزانات على مياه عين الزرقاء تتسع لأكثر من 1500 متر مكعب من المياه
تجري في أنابيب من الصلب إلى المدينة لسقيا الناس.
ج / 2 ص -408-
ذكر عين النبي -صلى الله عليه
وسلم:
أنبأنا يحيى بن أسعد عن الحسن بن أحمد عن أبي نعيم عن جعفر بن محمد
حدثنا محمد بن عبد الرحمن حدثنا الزبير حدثنا محمد بن الحسن عن موسى بن
إبراهيم بن بشير عن طلحة بن خراش قال: كانوا أيام الخندق يخرجون برسول
الله -صلى الله عليه وسلم- ويخافون البيات، فيدخلون به كهف بني حرام
فيبين فيه حتى إذا أصبح هبط، قال: ونقر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
في العينية التي عند الكهف فلم تزل تجري حتى اليوم، قلت: وهذه العين في
ظاهر المدينة وعليها بناء وهي مقابلة المصلى.
الباب الثامن: في ذكر جبل أحد وفضله وفضل الشهداء به
روى البخاري في الصحيح من حديث أنس بن مالك أن رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- طلع له أحد فقال: هذا جبل يحبنا ونحبه، قال أبو عمر بن عبد
البر: في معنى هذا الحديث يحتمل أن الله خلق فيه الروح، فأحب النبي
-صلى الله عليه وسلم، وقيل: يحمل على المجاز. أخبرنا أبو غالب محمد بن
المبارك الكاتب وعبد العزيز بن أحمد الناقد قالا: أنبأنا محمد بن عمر
الفقيه أنبأنا جابر بن ياسين أنبأنا عمر بن أحمد المقري حدثنا عبد الله
بن محمد البغوي حدثنا إسحاق حدثنا عبد الله بن جعفر حدثني أبو حازم عن
سهل قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أُحُد ركنٌ من أركان
الجنة"1.
وكتب إلى أبي محمد بن أبي القاسم الحافظ أن عبد الرحمن بن أبي الحسن
أخبره قال: أنبأنا سهل بن بشر أنبأنا أبو الحسن بن منير أنبأنا أبو
طاهر محمد بن عبد الله الذهلي حدثنا موسى بن هارون حدثنا يعقوب حدثنا
عبد العزيز بن محمد عن طلحة بن خراش بن جابر بن عتيك عن جابر بن عتيك
قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "خرج موسى وهارون عليهما
السلام حاجَّيْن أو معتمرين، فلما كانا بالمدينة مرض هارون فثقل، فخاف
عليه موسى اليهود، فدخل به أُحُدًا فمات فدفنه فيه"2.
وروي عن أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لما تجلى الله تعالى
لجبل طور سينا تشظى منه ست شظايا فنزلت مكة، فكان: حراء وثبير وثور،
وبالمدينة: أحد وورقان وعير"، قلت: فأحد معروف وعير مقابله والمدينة
بينهما وورقان عند شعب علي رضي الله عنه.
قلت: وكانت قريش قد جاءت من مكة لحرب النبي -صلى الله عليه وسلم- ولقوه
في يوم السبت للنصف من شوال سنة ثلاث من الهجرة عند جبل أحد، وكان
بينهم من القتال ما أكرم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه أبو يعلى في مسنده، والطبراني في الكبير عن سهل بن سعد وهو
ضعيف.
2 المشهور أنهما قد ماتا في التيه.
ج / 2 ص -409-
الله به من أكرم من المسلمين بالشهادة بين
يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخلص العدو إلى رسول الله -صلى
الله عليه وسلم، فذب بالحجارة حتى وقع لشقه فانكسرت رباعيته وشج في
وجهه وكُلِمَتْ شفته، وكان ذلك كرامة له -صلى الله عليه وسلم، ولأصحابه
الذين استشهدوا بين يديه وكانوا سبعين رجلا: حمزة بن عبد المطلب، وعبد
الله بن جحش، ومصعب بن عمير، وشماس بن عثمان، فهؤلاء الأربعة من
المهاجرين، ومن الأنصار: عمر بن معاذ بن النعمان، والحارث بن أنس بن
رافع، وعمارة بن زياد بن السكن، وسلمة بن ثابت بن قيس، وعمرو بن ثابت
بن وقش، وأبو قيس ثابت، ورفاعة بن وقش، وحسيل بن ثابت، وهو اليمان أبو
حذيفة، وصيفي بن قبطي، وعباد بن سهل، وخباب بن قبطي، والحارث بن أوس بن
هانئ، وإياس بن أوس بن عتيك، وعبيد بن التيهان، ويقال: عتيك وحبيب بن
زيد بن قتم، وزيد بن حاطب بن أمية بن رافع، وأبو سفيان بن الحارث بن
قيس بن زيد، وأنيس بن قتادة، وحنظلة بن أبي عامر بن صيفي، وأبو حبة بن
عمرو بن ثابت أخو سعيد بن حثمة لأمه، وعبيد الله بن جبير بن النعمان،
وخيثمة أبو سعد بن خيثمة، وعبد الله بن سلمة، وسبيع بن حاطب بن الحارث،
وعمرو بن قيس بن زيد وابنه قيس، وثابت بن عمرو بن زيد، وعامر بن مخلد،
وأبو هبيرة بن الحارث بن علقمة، وعمرو بن مطرف بن علقمة، وأوس بن ثابت
بن المنذر أخو حسان بن ثابت، وأنس بن النضر، وقيس بن مجلد، وكيسان عبد
لبني النجار، وسليم بن الحارث، ونعمان بن عبد عمرو، وخارجة بن زيد،
وسعد بن الربيع، وأنس بن الأرقم بن زيد، ومالك بن سنان أبو أبي سعيد
الخدري، وسعيد بن سويد بن قيس وعتبة بن ربيع بن رافع، وثعلبة بن سعد بن
مالك، وثقيف بن قرة، وعبد الله بن عمرو بن وهب، وضمرة حليف لبني طريف
من جهينة، ونوفل بن عبد الله، وعباس بن عبادة، ونعمان بن مالك بن
ثعلبة، والمجذر بن زياد، وعبادة بن الحسحاس، ورفاعة بن عمرو وعبد الله
بن عمرو بن حرام وعمرو بن الجموح، وابنه خلاد، وأبو أيمن مولاه وعنترة
بن عمرو بن حديدة ومولاة عنيزة، وسهل بن قيس بن أبي كعب، وذكوان بن عبد
قيس وعبيد بن المعلى بن لوذان ومالك بن نميلة، والحارث بن عدي بن خرشة،
ومالك بن إياس، وإياس بن عدي، وعمرو بن إياس.
فهؤلاء الذين استشهدوا بين يديه -صلى الله عليه وسلم- وقاتلوا وقتلوا
رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين:
فأما حمزة رضي الله عنه فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- وقف عليه، وقد
مثل به جدع أنفه وأذناه وبقر بطنه عن كبده؛ فقال -صلى الله عليه وسلم: "لولا أن تحزن صفية وتكون سنة من بعدي لتركته حتى يكون في بطون السباع
وحواصل الطير لن أصاب بمثلك أبدا، ما وقفت موقفا قط أغيظ لي من هذا"، ثم قال:
"جاءني جبريل وأخبرني أن حمزة
مكتوب في السموات السبع: حمزة بن
ج / 2 ص -410-
عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله"؛ فأقبلت صفية بنت عبد المطلب أخت حمزة لأبيه ولأمه؛ فقال رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- لابنها الزبير بن العوام:
"القها فأرجِعْها لا ترى ما بأخيها"؛ فقال: يا أمه؛ رسول الله
يأمرك أن ترجعي، قالت: ولم؟ وقد بلغني أنه مُثِّل بأخي وذلك في الله
فما أرضانا بما كان من ذلك، لأحتسبن ولأصبرن إن شاء الله، فجاء الزبير،
فأخبره بذلك، فقال:
"خل سبيلها"، فأتته، فنظرت إليه، وصلت
عليه، واسترجعت واستغفرت له، فأمر به النبي -صلى الله عليه وسلم- فسجي
ببردة ثم صلى عليه فكبر عليه سبعين ودفنه، ولما رجع إلى المدينة سمع
البكاء والنواح على القتلى، فذرفت عيناه -صلى الله عليه وسلم- وبكى؛ ثم
قال:
"لكن حمزة لا بواكي له"، فجاء نساء بني عبد الأشهل
لما سمعوا ذلك، فبكين على عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن على
باب المسجد؛ فلما سمعهن خرج إليهن فقال:
"ارجعن يرحمكن الله؛ فقد آسيتن
بأنفسكن".
وأما عمر بن زياد بن السكن فإنه قاتل حتى أثبتته الجراحة؛ فقال رسول
الله -صلى الله عليه وسلم:
"أدنوه مني"، فأدنوه منه، فوسده قدمه، فمات وخده على قدم رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- ورضي عنه.
وأما عمرو بن ثابت بن وقش فإنه كان يأبى الإسلام فلما كان يوم أحدا بدا
له في الإسلام فأسلم وأخذ سيفه فغدا حتى دخل في عرض المسلمين فقاتل حتى
أثبتته الجراحة فرآه المسلمون بين القتلى، فقالوا: ما جاء بك يا عمرو
أحرب على قومك أم رغبة في الإسلام؟ قال: بل رغبة في الإسلام آمنت بالله
ورسوله وأسلمت ثم أخذت سيفي فغدوت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
فقاتلت حتى أصابني ما أصابني ثم مات في أيديهم فذكروه لرسول الله -صلى
الله عليه وسلم- فقال: "إنه لمن أهل الجنة"، وكان أبو هريرة يقول:
حدثوني عن رجل دخل الجنة ولم يصل قط، فإذا لم تعرفه الناس قال: هو عمرو
بن ثابت.
وأما أبو ثابت بن وقش والحسيل وهو اليمان أبو حذيفة فإنهما كانا شيخين
كبيرين ارتفعا في الآطام مع النساء والصبيان لما خرج رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- إلى أحد، فقال أحدهما لصاحبه: لا أبا لك ما تنتظر؟
فوالله إنما نحن عامة اليوم أو غد أفلا نحني أسيافنا ونلحق برسول الله
-صلى الله عليه وسلم- لعل الله يزرقنا الشهادة معه؟ فأخذا أسيافهما
وخرجا حتى دخلا في الناس فقاتلا حتى قتلا.
وأما حنظلة ابن أبي عامر فإنه لما قتله المشركون قال رسول الله -صلى
الله عليه وسلم: "إن صاحبكم لتغسله الملائكة فسألوا أهله: ما شأنه؟"
فسئلت صاحبته عنه فقالت: خرج وهو جنب حين سمع النداء، فقال رسول الله
-صلى الله عليه وسلم: "لذلك غسلته الملائكة".
وأما أنس بن النضر فإنه جاء إلى المهاجرين والأنصار وقد ألقوا ما
بأيديهم فقال: ما يجلسكم؟، قالوا: قتل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
وكان الشيطان قد نادي بذلك، وفقده المسلمون؛ لاختلاطهم فلم يعرفوه فقال
لهم أنس: فما تصنعون بالحياة بعده؛ قوموا فموتوا على ما
ج / 2 ص -411-
مات عليه ثم قال: إني أجد ريح الجنة دون
أحد، فمضى فاستقبل المشركين وقاتل حتى قتل، ولما وجدوه في القتلى ما
عرفوه حتى عرفته أخته بشامة أو بنانة وفيه بضع وثمانون طعنة وضربة
ورمية بسهم.
وأما سعد بن الربيع فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:
"هل من رجل ينظر إلى ما فعل سعد بن الربيع في الأحياء هو أم الأموات؟" فقال رجل من الأنصار: أنا أنظر لك يا رسول الله ما فعل، فنظر فوجده
جريحا في القتلى وبه رمق قال: فقلت له: إن رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- أمرني أن أنظر في الأحياء أنت أم الأموات، قال: أنا في الأموات،
فبلغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عني السلام، وقل: إن سعد بن
الربيع يقول له: جزاك الله عنا خير ما جزى نبيا عن أمته، وأبلغ قومك
عني السلام وقل لهم: إن سعد بن الربيع يقول لكم: لا عذر لكم عند الله
أن يخلص إلى نبيكم وفيكم عين تطرف، قال: لم أبرح حتى مات، فجئت رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبرته.
وأما عبد الله بن عمرو بن حرام فإنه روى البخاري في الصحيح أن ابنه
جابرا قال: لما قتل أبي جعلت أبكي وأكشف الثوب عن وجهه، فجعل أصحاب
النبي -صلى الله عليه وسلم- ينهوني، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم:
"لا تبكه ما زالت الملائكة تظلله بأجنحتها حتى رفعتموه".
وأما عمرو بن الجموح فإنه كان أعرج شديد العرج، وكان له بنون أربعة مثل
الأسد يشهدون مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المشاهد، فلما كان يوم
أحد أرادوا حبسه، وقالوا: إن الله قد عذرك، فأتى النبي -صلى الله عليه
وسلم- فقال: إني بني يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه والخروج معك فيه؛
فوالله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة، فقال رسول الله -صلى
الله عليه وسلم:
"أما أنت فقد عذرك الله فلا جهاد عليك"، وقال لبنيه:
"ما عليكم ألا تمنعوه لعل الله يرزقه الشهادة"، فخرج معه فقتل بأحد، وروى البخاري في الصحيح أن رجلًا قال للنبي
-صلى الله عليه وسلم- يوم أحد: أرأيت إن قتلت أين أنا؟ قال:
"في الجنة" فألقى تمرات في يده ثم قاتل
حتى قتل، وروى البخاري أيضا من حديث جابر بن عبد الله أن رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- كان يجمع بني الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد ثم
يقول:
"أيهم أكثر أخذًا للقرآن"
فإذا أشير له إلى أحد قدمه في اللحد، وقال:
"أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة" وأمر بدفنهم في دمائهم ولم
يصل عليهم ولم يغسلوا. وروى أبو هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-
أنه قال:
"ما من جريح يجرح في الله إلا والله يبعثه يوم القيامة وجرحه يدمى،
اللون لون دم والريح ريح مسك"،
وروى البخاري في صحيحه من حديث أبي موسى الأشعري عن النبي -صلى الله
عليه وسلم- قال: "أريت في رؤياي أني هززت سيفي فانقطع صدره، فإذا
هو ما أصيب من المؤمنين يوم أحد، ثم هززته أخرى فعاد أحسن ما كان فإذا
هو ما جاء الله به يوم الفتح واجتماع المؤمنين"،
قال ابن إسحاق: وأنزل الله تعالى على نبيه -صلى الله عليه وسلم- من
القرآن في يوم أحد ستين آية، من آل عمران فيها صفة
ج / 2 ص -412-
ما كان من يومهم ذلك، وهي من قوله تعالى:
{وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ}
إلى قوله:
{مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى
مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} [آل عمران: 121-179]
إلى آخر الآية.
وروى ابن عباس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال:
"لما أصيب أخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طيور خضر ترد أنهار
الجنة وتأكل من ثمارها وتأتي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش، فلما
وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم وحسن مقيلهم، قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون
ما صنع الله بنا؛ لئلا يزهدوا في الجهاد، ولا يلتووا عن الحرب، فقال
الله تبارك وتعالى: فأنا أبلغهم"، فأنزل الله على رسوله:
{وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} [آل عمران: 169]... الآيات.
وروى البخاري في الصحيح عن عقبة بن عامر: قام رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- على قتلى أحد بعد ثمان سنين كالمودع للأحياء والأموات ثم طلع
المنبر، فقال:
"إني بين أيديكم فرط وأنا عليكم شهيد، وإن موعدكم الحوض، وإني لأنظر
إليه من مقامي هذا، وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا، ولكن أخشى عليكم
الدنيا أن تنافسوها"، قال: فكانت آخر نظرة نظرتها إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم.
وروى أبو داود في سننه من حديث طلحة بن عبيد الله قال: خرجنا مع رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- نريد قبور الشهداء حتى إذا أشرفنا على حرة
واقم1 فلما تدلينا منها فإذا قبور، فقلنا: يا رسول الله، أقبور إخواننا
هذه؟ قال:
"قبور أصحابنا"، فلما جئنا قبور
الشهداء قال:
"هذه قبور إخواننا".
وروي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال في قتلى أحد:
"هؤلاء شهداء؛ فأتوهم وسلموا عليهم ولن يسلم عليهم أحد ما قامت السموات
والأرض إلا ردوا عليه".
وروى جعفر بن محمد الصادق عن أبيه عن جده: أن فاطمة بنت رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- كانت تختلف بين اليومين والثلاثة إلى قبور الشهداء
بأحد، فتصلي هناك وتدعو وتبكي حتى ماتت رضي الله عنها.
وروى العطاف بن خالد قال: حدثتني خالة لي وكانت من العوابد قالت: ركبت
يوما حتى جئت قبر حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، فصليت ما شاء الله،
والله ما في الوادي داعٍ ولا مجيب وغلامي آخذ برأس دابتي، فلما فرغت من
صلاتي قمت فقلت: السلام عليكم، وأشرت بيدي فسمعت رد السلام من تحت
الأرض أعرفه كما أعرف أن الله سبحانه خلقني، فاقشعر جلدي وكل شعرة مني،
فدعوت الغلام وركبت.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هي حرة مشهورة من حرار المدينة.
ج / 2 ص -413-
وروى مالك في الموطأ أن عمرو بن الجموح
وعبد الله بن عمرو الأنصاريين كان السيل قد حفر قبرهما، وكانا في قبر
واحد، وهما ممن استشهدوا يوم أحد، فحفر عنهما؛ لينقلا من مكانهما فوجدا
كأنهما ماتا بالأمس، فكان أحدهما قد جرح موضع يده على جرحه فدفن وهو
كذلك فأميطت يده عن جرحه ثم أرسلت فرجعت كما كانت، وكان بين أحد وبين
يوم الحفر عنهما ست وأربعون سنة.
قلت: وقبور الشهداء اليوم لا يعرف منها إلا قبر حمزة رضي الله عنه؛
فإنه قد بنت عليه أم الخليفة الناصر لدين الله رحمه الله مشهدا كبيرا1،
وجعلت عليه بابا من ساج منقوش وحوله حصا، وعلى المشهد باب من حديد يفتح
في كل يوم خميس وقريب منه مسجد يذكر أهل المدينة أنه موضع مقتله والله
أعلم بصحة ذلك2.
وأما بقية الشهداء فهناك حجارة موضوعة يذكر أنها قبورهم، وفي أحد غار
يذكرون أنه صلى فيه، وموضع في الجبل أيضا منقوب في صخرة منه على قدر
رأس الإنسان، يذكرون أنه -صلى الله عليه وسلم- قعد وأدخل رأسه هناك كل
هذا لم يرد به نقل فلا يعتمد عليه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وذلك عام 590هـ.
2 وقد زاد الأشرف قايتباي في مسجد حمزة زيادة في جهته الغريبة، وذلك
عام 893هـ على يد شاهين الجمالي.
الباب التاسع: في ذكر إجلاء النبي -صلى الله عليه
وسلم- بني النضير من المدينة
كان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد عقد حلفا بين
بني النضير من اليهود وبين بني عامر، فعدا رجل من بني النضير على رجلين
من بني عامر فقتلهما. فجاء النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى بني النضير
يستعين في دية ذينك القتيلين، فقالوا له: نعم يا أبا القاسم نعينك على
ما أحببت، ثم خلا بعضهم ببعض فقالوا: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله
هذه، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قاعدا إلى جنب جدار من
بيوتهم، فمُرُوا رجلًا يعلو هذا البيت فيلقي عليه صخرة فيريحنا منه،
وانتدب لذلك أحدهم فصعد؛ ليلقي عليه صخرة، ورسول الله -صلى الله عليه
وسلم- في نفر من أصحابه فيهم أبو بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم، فأتى
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الخبر من السماء بما أراد القوم، فقام
وخرج راجعا إلى المدينة وأخبر أصحابه بما كانت اليهود همَّت به، وأمرهم
بالتهيؤ لحربهم والسير إليهم، وسار حتى نزل بهم في ربيع الأول سنة أربع
من الهجرة فتحصنوا منه في الحصون، فأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
بقطع نخيلهم وتحريقها، وكان رهط من الخزرج من المنافقين قد بعثوا إلى
بني إسرائيل أن اثبتوا وتمنعوا؛ فإنا لن نسلمكم، إن قوتلتم قاتلنا معكم
وإن خرجتم خرجنا معكم، فتربصوا ذلك منهم فلم يفعلوا وقذف الله في
قلوبهم
ج / 2 ص -414-
الرعب، فسألوا رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- أن يجليهم ويكف عن دمائهم على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم
إلا السلاح ففعل، فاحتملوا من أموالهم ما استقلت به الإبل، فكان الرجل
يهدم بيته ويأخذ بابه فيضعه على البعير وينطلق به، واستقلوا بالنساء
والأبناء والأموال معهم، والدفوف والمزامير والقيان تعزف خلفهم، وخرجوا
إلى خيبر ومنهم من سار إلى الشام، وخلوا الأموال لرسول الله -صلى الله
عليه وسلم- فقسمهما على المهاجرين الأولين دون الأنصار، إلا أن سهل بن
حنيف وأبا دجانة سماك بن خرشة ذكرا فقرًا، فأعطاهما رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- من بني النضير إلا رجلان: يامين بن عمير بن كعب وأبو
سعد بن وهب أسلما على أموالهما فأحرزاه. فأنزل الله في بني النضير سورة
الحشر بأسرها يذكر فيها ما أصابهم الله به من نقمته وما سلط عليهم به
رسوله وما عمل فيهم.
الباب العاشر: حفر النبي صلى الله عليه وسلم الخندق
حول المدينة
كان نفر من بني النضير الذين أجلاهم رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- قد خرجوا، فقدموا مكة على قريش، فدعوهم إلى حرب
النبي، وقالوا: إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله، فسرهم ذلك واتعدوا له
وتجمعوا، ثم جاءوا غطفان، فدعوهم إلى حرب رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- وأنهم معهم وأن قريشا قد تابعوهم على ذلك وخرجت قريش وغطفان بمن
جمعوا معهم فلما سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ضرب الخندق على
المدينة يعمل فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون معه ودأبوا
فيه.
روى البخاري في الصحيح من حديث أنس بن مالك قال: خرج رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- إلى الخندق فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة
باردة ولم يكن لهم عبيد يعملون ذلك فلما رأى ما بهم من النصب قال:
"اللهم إن العيش عيش
الآخرة فاغفر اللهم للأنصار والمهاجرة"
فقالوا مجيبين له:
نحن الذين بايعوا محمدا
على الجهاد ما بقينا أبدا1
وروى أيضا من حديث البراء بن عازب قال: كان النبي -صلى الله
عليه وسلم- ينقل التراب يوم الخندق حتى اغبرَّ بطنه، ويقول:
والله لولا الله ما اهتدينا، ولا تصدقنا ولا صلينا، فأنزلن سكينة
علينا، وثبت الأقدام إن لاقينا، إن الألى قد بغوا علينا، إذا أرادوا
فتنة أبينا، ويرفع بها صوته: أبينا أبينا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أعظِمْ بها من مبايعة، وأكرِمْ بمن اشترك فيها من مجاهدين خالدين.
ج / 2 ص -415-
قال ابن إسحاق: وحكت ابنة بشير بن سعد
قالت: دعتني أمي فأعطتني حفنة من تمر في ثوب ثم قالت: اذهبي إلى أبيك
وخالك بغدائهما، قالت: فأخذتها، فانطلقت بها، فمررت برسول الله -صلى
الله عليه وسلم- وأنا ألتمس أبي وخالي فقال:
"تعالي يا بنية ما هذا معك؟". قالت: قلت: يا رسول الله، هذا بعثتني به أمي
إلى أبي بشير بن سعد وخالي عبد الله بن رواحة؛ يتغديانه، قال:
"هاتيه". قالت: فصببته في كفي رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- فما ملأتهما ثم أمر بثوب، فبسط له، ثم دحا
بالتمر عليه فتبدد فوق الثوب ثم قال لإنسان عنده: "اصرخ في أهل الخندق أن
هلم إلى الغداء"، فاجتمع أهل الخندق عليه،
فجعلوا يأكلون منه، وجعل يزيد حتى صدر أهل الخندق وإنه ليسقط من أطراف
الثوب.
وروى جابر بن عبد الله أن صخرة اشتدت عليهم، فشكوها إلى رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- فدعا بإناء من ماء فتفل فيه ثم دعا بما شاء الله أن
يدعو به ثم نضح ذلك على تلك الصخرة، فانهالت حتى عادت كالكثيب ما ردت
فأسا ولا مسحاة.
ولم يزل المسلمون يعملون فيه وينقلون التراب على أكتافهم حتى فرغوا منه
وأحكموه، وأقبلت قريش ومن تبعها في عشرة آلاف حين نزلت بمجتمع السيول
من رومة، وأقبلت غطفان ومن تبعها من أهل نجد حتى نزلوا بذنب نقمي إلى
جانب أحد، وخرج رسول الله في ثلاثة آلاف حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع،
وضرب عسكره والخندق بينه وبين القوم وأمر بالذراري والنساء فجعلوا في
الآطام، وخرج حيي بن أحطب النضري حتى أتى قريظة في دارها، وسألهم أن
يكونوا معهم على حرب رسول الله؛ فذكروا أن بينهم وبينه عقدا وحلفا، فلم
يزل بهم حتى نقضوه وأجابوه إلى حرب محمد -صلى الله عليه وسلم، فبعث سعد
بن معاذ وجماعة معه إليهم؛ لينظروا صحة ذلك، فأتوهم فوجدوهم على أخبث
مما بلغهم، فنالوا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقالوا: لا عهد
بيننا وبين محمد ولا عقد، فشاتمهم سعد وشاتموه، ثم أقبل بمن معه إلى
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبروه، فعظم عند ذلك البلاء واشتد
الخوف وآتاهم من فوقهم ومن أسفل منهم حتى ظن المؤمنون كل ظن ونجم
النفاق حتى قال معتب بن قشير: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر
وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط، فأقام رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- وأقام المشركون عليه بضعا وعشرين ليلة لم يكن
بينهم حرب إلا النبل والرمي والحصار إلا فوارس من قريش فإنهم قاتلوا
فقتلوا وقتلوا، ولما وقفوا على الخندق قالوا: إن هذه المكيدة ما كانت
العرب تكيدها؛ ويقال: إن سلمان أشار به على النبي -صلى الله عليه وسلم-
ورمي سعد بن معاذ بسهم فقطع أكحله فقال: اللهم إن كنت أبقيت من حرب
قريش شيئا فأبقني لها فإنه لا قوم أحب إلي أن أجاهد من قوم آذوا رسولك
وكذبوه وأخرجوه؛ اللهم وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعله لي
شهادة ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة. واستشهد يومئذ من المسلمين
ستة نفر من الأنصار منهم
ج / 2 ص -416-
أنس بن أوس بن عتيك، وعبد الله بن سهل،
والطفيل بن النعمان، وثعلبة بن عنمة، وكعب بن زيد أصابه سهم فقتله،
وسعد بن معاذ عاش حتى قتل النبي -صلى الله عليه وسلم- بني قريظة بحكمه،
واستجاب دعاءه، ثم قبض شهيدا، وسيأتي ذكر وفاته، وأقام رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- وأصحابه فيما وصف الله تعالى من الخوف والشدة؛ لتظاهر
عدوهم عليهم وإتيانهم من فوقهم ومن أسفل منهم، حتى هدى الله نعيم بن
مسعود أحد غطفان للإسلام؛ لإنفاذ أمره سبحانه في نصر نبيه وإقامة دينه؛
فأتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله إني قد أسلمت
وإن قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت، فقال رسول الله -صلى الله
عليه وسلم:
"إنما أنت فينا رجل واحد، فخذل عنا إن استطعت؛ فإن الحرب خدعة"، فخرج حتى أتى بني قريظة وكان لهم نديمًا في
الجاهلية فقال: يا بني قريظة قد عرفتم ودي وخاصة ما بيني وبينكم،
قالوا: صدقت لست عندنا بمتهم، فقال: إن قريشا وغطفان ليسوا كأنتم،
البلد بلدكم به أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم، ولا تقدرون على أن تحولوا
عنه إلى غيره، وإن قريشا وغطفان قد جاءوا لحرب محمد وقد ظاهرتموهم عليه
وبلدهم ونساؤهم وأموالهم بغيره، فليسوا كأنتم؛ فإن رأوا نهزة أصابوها
وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل ببلدكم ولا طاقة
لكم به إن خلا بكم فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهنًا منهم
أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن تقاتلوا معهم محمدا حتى
تناجزوه، قالوا: لقد أشرت بالرأي، ثم خرج حتى أتى قريشا فقال لهم: قد
عرفتم ودي لكم وفراقي محمدا، وإنه قد بلغني أمر قد رأيت عليَّ حقا أن
أبلغكموه نصحا لكم فاكتموا عني، قالوا: نفعل، قال: تعلمون أن اليهود قد
ندموا على ما صنعوه فيما بينهم وبين محمد، وقد أرسلوا إليه: إنا قد
ندمنا على ما فعلنا فهل يرضيك أن نأخذ من القبيلتين قريش وغطفان رجالًا
من أشرافهم فنعطيكم فتضرب أعناقهم، ثم نكون معك على من بقي حتى
تستأصلهم، فأرسل إليهم: نعم، فإن بعثت إليكم يهود تطلب منكم رجلا واحدا
فلا تدفعوه، ثم خرج فأتى غطفان فقال لهم مثل ما قال لقريش، فأرسلت قريش
إلى يهود أن اغدوا للقتال حتى نناجز محمدا، فقالوا: لسنا نقاتل معكم
حتى تعطونا رهنا، فقالت قريش وغطفان: إن الذي حدثكم نعيم لحق، ثم
أرسلوا إلى قريظة إنا لن ندفع إليكم أحدا؛ فإن أردتم أن تقاتلوا
فقاتلوا، فقالت قريظة: إن الذي قال لكم نعيم لحق، وخذل الله بينهم وبعث
عليهم الريح في ليالٍ باردة شديدة البرد، فجعلت تكفئ قدورهم وتطرح
أبنيتهم، فرجعوا إلى بلادهم وكان مجيئهم وذهابهم في شوال سنة خمس من
الهجرة.
قلت: والخندق اليوم باقٍ وفيه قناة تأتي من عين بقباء إلى النخل الذي
بأسفل المدينة بالسيح حوالي مسجد الفتح وفي الخندق نخل قد انطم أكثره
وتهدمت حيطانه.
ج / 2 ص -417-
الباب الحادي عشر: في ذكر قتل بني
قريظة بالمدينة
قال ابن إسحاق: ولما انصرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الخندق
راجعا إلى المدينة والمسلمون، ووضعوا السلاح أتى جبريل رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- معتمًّا بعمامة من إستبرق على بغلة عليها قطيفة من
ديباج، فقال: أوَقد وضعت السلاح يا رسول الله؟ قال: "نعم" فقال: ما
وضعت الملائكة السلاح بعد، وما رجعت الآن إلا من طلب القوم، إن الله عز
وجل يأمرك بالسير إلى بني قريظة؛ فإني عامد إليهم فمزلزل بهم، فأذَّن
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الناس: من كان سامعا ومطيعا فلا
يصلين العصر إلا ببني قريظة، وأقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
والمسلمون، فمر بنفر من أصحابه فقال: هل مر بكم أحد فقالوا: مر بنا
دحية الكلبي على بغلة عليها قطيفة من ديباج، فقال رسول الله -صلى الله
عليه وسلم: "ذاك جبريل بعث إلى بني قريظة يزلزل بهم حصونهم ويقذف الرعب في
قلوبهم"، وأتاهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
والمسلمون ونزل عليهم، وحاصرهم خمسًا وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار
وقذف في قلوبهم الرعب، فنزلوا على حكم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
فتواثبت الأوس، وقالوا: يا رسول الله إنهم موالينا دون الخزرج فهبهم
لنا، فقال:
"ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منهم"،
قالوا: بلى، قال: "فذلك إلى سعد بن معاذ"، وكان سعد في خيمة في المسجد يداوى جرحه، فأتاه الأوس، فأركبوه،
وأتوا به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: أحكم فيهم أن تقتل
الرجال وتقسم الأموال وتسبى الذراري، فقال -صلى الله عليه وسلم:
"لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة1"، ثم استنزلوا بني قريظة من حصونهم، فحبسوا
بالمدينة في دار امرأة من بني النجار، ثم خرج -صلى الله عليه وسلم- إلى
سوق المدينة، فخندق بها خنادق ثم بعث إليهم، فجيء بهم، فضرب أعناقهم في
تلك الخنادق، وكانوا سبعمائة وفيهم حيي بن أخطب النضري الذي حرضهم على
نقض العهد وعلى محاربة النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يقتل من نسائهم
إلا امرأة واحدة؛ فإنها كانت طرحت رحى على خلاد بن سويد من الحصن،
فقتلته، فقتلها النبي -صلى الله عليه وسلم- وكان النبي قد قتل منهم كل
من أنبت، ومن لم ينبت استحياه ثم قسم الرسول أموالهم ونساءهم وأبناءهم
على المسلمين، وأنزل الله في بني قريظة وأمر الخندق الآيات من سورة
الأحزاب:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا
نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا
عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا}
إلى قوله:
{وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ
وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَأُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [9-27] الآية.
ولما فرغ -صلى الله عليه وسلم- من شأن بني قريظة انفجر جرح سعد بن
معاذ، فمات منه شهيدًا، وروي أن جبريل أتى النبي -صلى الله عليه وسلم-
في جوف الليل فقال: يا محمد من هذا الميت الذي فتحت له أبواب السماء
واهتز له العرش؟ فقام -صلى الله عليه وسلم- سريعا يجر ثوبه إلى سعد،
فوجده قد مات.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي سماوات.
ج / 2 ص -418-
الباب الثاني عشر: في ذكر مسجد
النبي صلى الله عليه وسلم وفضله
قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة حين
اشتد الضحى من يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة مضت من ربيع الأول، فنزل
في علو المدينة في بني عمرو بن عوف على كلثوم بن الهدم، فمكث عندهم
الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، فأخذ مربد كلثوم فعمله مسجدًا،
وأسسه، وصلى فيه إلى بيت المقدس، وخرج من عندهم يوم الجمعة عند ارتفاع
النهار، فركب ناقته القَصوَى، وحشد المسلمون، ولبسوا السلاح عن يمينه
وشماله، وخلفه منهم الماشي والراكب، واعترضه الأنصار فما يمر بدار من
دورهم إلا قالوا: هلم يا رسول الله إلى القوة والمنعة والثروة، فيقول
لهم خيرا ويدعو لهم، ويقول عن ناقته:
"إنها مأمورة؛ خلوا سبيلها"، فمر ببني سالم فأتى مسجدهم الذي في الوادي
وادي رانوناء، وأدركته صلاة الجمعة فصلى بهم هنالك وكانوا مائة رجل،
فكانت أول جمعة صلاها بالمدينة ثم ركب راحلته وأرخى لها زمامها وسار
حتى انتهت به إلى زقاق الحبشي ببني النجار، فبركت على باب دار أبي أيوب
الأنصاري، فنزل النبي -صلى الله عليه وسلم، ينزل عليه القرآن ويأتيه
جبريل حتى ابتنى مسجده ومساكنه، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد
نزل في سفل بيت أبي أيوب وذكر أبو أيوب أنه فوق النبي -صلى الله عليه
وسلم- فلم يزل ساهرا حتى أصبح، فأتاه فقال: يا رسول الله، إني أخشى أن
أكون ظلمت نفسي أن أبيت فوق رأسك، فقال عليه السلام:
"السفل أرفق بنا وبمن يغشانا"، فلم يزل أبو أيوب يتضرع إليه
حتى انتقل إلى العلو، وأقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بيت أبي
أيوب سبعة أشهر، وكان بنو مالك بن النجار يحملون كل يوم قصاع الثريد
إلى النبي يتناوبون ذلك بينهم إلا سعد بن عبادة فإنه ما كان يقطع جفنته
في كل ليلة إلى دار أبي أيوب فيدعو النبي أصحابه فيأكلون، وروى البخاري
ومسلم في الصحيحين من حديث أنس بن مالك أن النبي -صلى الله عليه وسلم-
لما أخذ المربد من بني النجار كان فيه نخل وقبور المشركين وخِرب
"خرائب" فأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالنخل فقطع، وبقبور المشركين
فنبشت، وبالخرب فسويت، قال: فصفوا النخل قبلة له، وجعلوا عضاديته
حجارة، قال: وكانوا يرتجزون ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- معهم:
"اللهم إن الخير خير الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة" وجعلوا ينقلون الصخر، وطفق النبي -صلى الله عليه وسلم- ينقل اللبن
معهم في ثيابه ويقول:
هذا الحمال لا حمال خيبر
هذا أبر ربنا وأطهر
وبنى النبي -صلى الله عليه وسلم- مسجده مربعا، وجعل قبلته
إلى بيت المقدس، وطوله سبعون ذراعا أو يزيد، وجعل له ثلاث أبواب: بابا
في مؤخره، وباب عاتكة وهو باب الرحمة والباب الذي
ج / 2 ص -419-
كان يدخل منه النبي -صلى الله عليه وسلم-
وهو باب عثمان، ولما صرفت القبلة إلى الكعبة سد النبي -صلى الله عليه
وسلم الباب الذي كان خلفه وفتح الباب الآخر حذاءه فكان المسجد له ثلاثة
أبواب: باب خلفه وباب عن يمين المصلى وباب عن يساره، وجعلوا أساس
المسجد من الحجارة وبنوا باقيه من اللبن، وفي الصحيحين: كان جدار
المسجد عند المنبر ما كادت الشاة تجوزه، وقالت عائشة: كان طول جدار
المسجد بسطة وكان عرض الحائط لبنة لبنة ثم إن المسلمين كثروا، فبنوه
لبنة ونصفا ثم قالوا: يا رسول الله لو أمرت فزيد فيه قال:
"نعم" فأمر به فزيد فيه، وبني جداره
لبنتين مختلفتين ثم اشتد عليهم الحر، فقالوا: يا رسول الله لو أمرت
بالمسجد فظلل، قال:
"نعم"،
فأمر به فأقيم له سواري من جذوع النخل شقة ثم شقة ثم طرحت عليها
العوارض والخصف والإذخر، وجعل وسطه رحبة فأصابتهم الأمطار فجعل المسجد
يكف1 عليهم، فقالوا: يا رسول الله لو أمرت بالمسجد يعمر فَطُين فقال
لهم:
"عريش كعريش موسى ثمام وخشيبات والأمر أعجل من ذلك"،
فلم يزل كذلك حتى قبض -صلى الله عليه وسلم، ويقال: إن عريش موسى كان
إذا قام أصاب رأسه السقف، قال أهل السير: بنى النبي -صلى الله عليه
وسلم- مسجده مرتين؛ بناه حين قدم أقل من مائة في مائة فلما فتح الله
عليه خيبر بناه، وزاد عليه في الدور مثله، وصلى النبي -صلى الله عليه
وسلم- فيه متوجها إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا ثم أمر بالتحول إلى
الكعبة فأقام رهطا على زوايا المسجد؛ ليعدل القبلة، فأتاه جبريل عليه
السلام، فقال: يا رسول الله ضع القبلة وأنت تنظر إلى الكعبة، ثم قال
بيده: هكذا، فأماط كل جبل بينه وبينها فوضع القبلة وهو ينظر إلى الكعبة
لا يحول دون نظره شيء، فلما فرغ قال جبريل: هكذا، فأعاد الجبال والشجر
والأشياء على حالها، وصارت قبلته إلى الميزاب، أخبرنا أبو القاسم
المظفري والأرحبي في كتابيهما عن أبي علي الأصفهاني عن أبي نعيم
الحافظ، عن أبي محمد الخلدي، أنبأنا محمد بن عبد الرحمن، حدثنا الزبير
بن بكار، حدثنا محمد بن الحسن أبو زبالة، حدثني عبد العزيز بن أبي
حازم، عن هشام بن سعد بن أبي هلال عن أبي هريرة قال: كانت قبلة النبي
-صلى الله عليه وسلم- الشام، وكان مصلاه الذي يصلي فيه بالناس إلى
الشام من مسجده موضع الأسطوانة المخلفة اليوم خلف ظهرك ثم تمشي إلى
الشام حتى إذا كنت بين باب آل عثمان كانت قبلته في ذلك الموضع.
فضيلة المسجد والصلاة فيه:
أنبأنا أبو عبد الله أحمد بن الحسن بن أحمد العطار، أخبرنا أبو سعد
عمار بن طاهر الهمداني، حدثنا مكي بن عبد السلام الرميلي، أنبأنا عبد
العزيز بن أحمد النصيبي، أخبرنا محمد بن محمد الواسطي، حدثنا عمر بن
الفضل بن مهاجر، حدثنا الوليد بن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي يقطر سقفه عليهم ماء.
ج / 2 ص -420-
حماد الرملي حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر
عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: قال -صلى الله عليه
وسلم:
"لا تشد الرحال إلا لثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد
الأقصى"، أخرجه البخاري في صحيحه.
أنبأنا الذهلي، حدثنا أبو محمد بن عبدوس، حدثنا يعقوب بن حميد، حدثنا
عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه عن سهل بن سعد أن النبي -صلى الله عليه
وسلم- قال: "من دخل مسجدي هذا يتعلم خيرا أو يعلمه كان بمنزلة المجاهد في سبيل
الله، ومن دخله لغير ذلك من أحاديث الناس كان كالذي يرى ما يعجبه وهو
لغيره".
أخبرنا أبو القاسم هبة الله بن الحسن الهمداني في كتابه قال: أخبرنا
القاضي أبو الحسين محمد بن محمد الفقيه، قال: أنبأنا عبد العزيز بن
أحمد النصيبي، أنبأنا أبو بكر محمد بن أحمد الواسطي، حدثنا عمرو بن
الفضل بن مهاجر، حدثنا أبي، حدثنا الوليد، أخبرنا محمد بن النعمان،
أخبرنا سليمان بن عبد الرحمن، أخبرنا أبو عبد الملك عن عبد الواحد بن
زيد عن شهر بن حوشب عن عبد الله قال: سكن الخضر بيت المقدس فيما بين
باب الرحمة إلى باب الأسباط، وهو يصلي في كل جمعة في خمسة مساجد:
المسجد الحرام ومسجد المدينة ومسجد بيت المقدس ومسجد قباء، ويصلي كل
ليلة جمعة في مسجد الطور ويأكل كل جمة أكلتين من كمأة وكرفس ويشرب مرة
من زمزم ومرة من جب سليمان الذي ببيت المقدس ويغتسل من عين سلوان.
أنبأنا أبو الفرج بن الجوزي قال: أنبأنا عباد بن أحمد الحسن آباذي،
قال: أخبرنا الحسن بن عمر الأصبهاني أنبأنا الحسن بن علي البغدادي
حدثنا محمد بن علي الهمداين حدثنا محمد بن عمران حدثنا بحر بن نصير
أخبرنا موسى بن عبيدة عن داود بن مدرك عن عروة عن عائشة قالت: قال رسول
الله -صلى الله عليه وسلم:
"أنا خاتم الأنبياء ومسجدي خاتم مساجد الأنبياء أحق المساجد أن يزار
وتركب إليه الرواحل، وصلاة في مسجدي هذا أفضل من الصلاة فيما سواه من
المساجد إلا المسجد الحرام". وأخرج مسلم في الصحيح أن النبي -صلى الله عليه
وسلم- قال: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما
سواه إلا المسجد الحرام"1.
أخبرنا عبد الوهاب بن علي أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك الأنماطي
أنبأنا أبو محمد الصيرفي أنبأنا أبو بكر بن عبدان عن عبد الوهاب بن
المهتدي حدثنا أيوب بن سليمان الصعدي حدثنا أبو اليمان حدثنا العطاف بن
خالد عن عبد الله بن عثمان بن عمر بن الأرقم بن أبي الأرقم عن أبيه عن
جده قال: قلت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم: إني أريد أن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو في مسلم في كتاب الحج الجزء الأول.
ج / 2 ص -421-
أخرج إلى بيت المقدس قال:
"فلم؟" قلت: للصلاة فيه، قال: "ههنا أفضل من الصلاة هناك ألف مرة".
أنبأنا أبو القاسم البقل عن أبي علي الأصبهاني عن أبي نعيم الحافظ عن
جعفر الخلدي قال: أنبأنا أبو زيد المخزومي أخبرنا الزبير بن بكار
أخبرنا محمد بن الحسن حدثني إسماعيل بن المعلى عن يوسف بن طهمان عن أبي
أمامة بن سهل بن حنيف أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:
"من خرج على طهر لا يريد إلا
الصلاة في مسجدي حتى يصلي فيه كان بمنزلة حجة".
وحدثني محمد بن الحسن حدثني حاتم بن إسماعيل عن يحيى بن عبد الرحمن بن
أبي لبينة عن جده أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:
"لا تقوم الساعة حتى يغلب على مسجدي هذا الكلاب والذباب والضباع، فيمر
الرجل ببابه فيريد أن يصلي فيه فما يقدر عليه".
ذكر حجر أزواج النبي صلى
الله عليه وسلم:
لما بنى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مسجده بنى بيتين لزوجته عائشة
وسودة رضي الله عنهما على نعت بناء المسجد من لبن وجريد النخل، وكان
لبيت عائشة مصراع واحد من عرعر أو ساج، ولما تزوج رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- نساءه بنى لهن حجرًا وهي تسعة أبيات، وهي ما بين بيت عائشة
-رضي الله عنها- إلى الباب الذي يلي باب النبي -صلى الله عليه وسلم،
قال أهل السير: ضرب النبي -صلى الله عليه وسلم- الحجرات ما بينه وبين
القبلة والشرق إلى الشامي ولم يضربها في غربيه، وكانت خارجة من المسجد
مديرة به إلا من المغرب، وكانت أبوابها شارعة في المسجد.
قال عمر بن أبي أنس: كان منها أربعة أبيات بلبن لها حجر من جريد، وكانت
خمسة أبيات من جريد مطينة لا حجر لها، على أبوابها مسوح الشعر، وذرعت
الستر فوجدته ثلاثة أذرع في ذراع. قال مالك بن أنس: وحدثني الثقة عندي
أن الناس كانوا يدخلون حجرات أزواج النبي بعد وفاته يصلون فيها يوم
الجمعة.
قال مالك: وكان المسجد يضيق عن أهله، وحجر النبي -صلى الله عليه وسلم-
ليست من المسجد، ولكن أبوابها شارعة في المسجد، قالت عائشة رضي الله
عنها: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا اعتكف يدني إلي رأسه
فأرجِّله، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان.
أخبرنا صالح بن أبي الحسن الخريمي أنبأنا محمد بن عبد الباقي الأنصاري
أخبرنا أبو الحسن بن معروف أخبرنا الحارث بن أبي أسامة حدثنا محمد بن
سعد أخبرنا محمد بن عمر، حدثنا عبد الله بن يزيد الهذلي قال: رأيت بيوت
أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- حين هدمها عمر بن عبد العزيز كانت
بيوتا باللبن ولها حجر من جريد، ورأيت أم سلمة
ج / 2 ص -422-
وحجرتها من لبن، فسألت ابن ابنها، فقال:
لما غزا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دومة، بنت أم سلمة بلبن
حجرتها، فلما قدم نظر إلى اللبن فقال: ما هذا البناء، فقالت: أردت أن
أكف أبصار الناس، فقال: يا أم سلمة إن شر ما ذهب فيه مال المسلم
البنيان، وقال عطاء الخراساني: أدركت حجر أزواج النبي -صلى الله عليه
وسلم- من جريد النخل على أبوابها المسوح من شعر أسود، فحضرت كتاب
الوليد بن عبد الملك يقرأ يأمر بإدخال حجر النبي -صلى الله عليه وسلم-
في مسجده، فما رأيت باكيا أكثر من ذلك اليوم.
وسمعت سعيد بن المسيب يقول يومئذ: والله لوددت أنهم لو تركوها على
حالها ينشأ ناس من أهل المدينة ويقدم القادم من الأفق فيرى ما اكتفى به
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حياته، فيكون ذلك مما يزهد الناس في
التكاثر والفخر، وقال عمران بن أبي أنس: لقد رأيتني في مسجد رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- وفيه نفر من أصحابه أبو سلمة بن عبد الرحمن وأبو
أمامة بن سهل وخارجة بن زيد يعني لما نقضت حجر أزواجه عليه السلام وهم
يبكون حتى اخضلَّت لحاهم من الدمع، وقال يومئذ أبو أمامة: ليتها تُركت
حتى يقصر الناس من البنيان، ويروا ما رضي الله عز وجل لنبيه -صلى الله
عليه وسلم- ومفاتيح الدنيا بيده.
ذكر بيت فاطمة بنت رسول الله
صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها:
كان خلف بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- عن يسار المصلى إلى الكعبة
وكان فيه خوخة إلى بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- كان رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- إذا قام من الليل إلى المخرج اطلع منها يعلم خبرهم،
وكان يأتي بابها كل صباح، فيأخذ بعضادتيه، ويقول:
{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ
لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ
تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33]، وقال محمد بن قيس: كان النبي -صلى الله عليه وسلم-
إذا قدم من سفر أتى فاطمة -رضي الله عنها- فدخل عليها وأطال عندها
المكث، فخرج مرة في سفر، فصنعت فاطمة مسكتين من ورِق "فضة" وقرطين
وسترًا لباب بيتها؛ لقدوم أبيها وزوجها، فلما قدم عليه السلام ودخل
عليها وقف أصحابه على الباب، فخرج وقد عُرِفَ الغضب في وجهه، ففطنت
فاطمة أنما فعل ذلك لما رأى المسكتين والقلادتين والستر، فنزعت قرطيها
وقلادتيها، ومسكتيها، ونزعت الستر، وأنفذت به إلى رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- وقالت للرسول: قل له: تقرأ عليك ابنتك السلام، وتقول لك:
اجعل هذا في سبيل الله، فلما أتاه قال:
"فعله، فداها أبواها -ثلاث مرات-
ليست الدنيا من محمد ولا من آل
محمد، ولو كانت الدنيا تعدل عند الله من الخير جناح بعوضة ما سقى كافرا
منها شربة ماء"، ثم قام، فدخل عليها.
وقال محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لما أخذ
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الستر من فاطمة شقَّهُ لكل إنسان من
أصحابه ذراعين ذراعين.
وقال ابن عباس: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا قدم من سفر قبل
رأس فاطمة رضي الله عنها.
ج / 2 ص -423-
أنبأنا أبو القاسم التاجر عن أبي علي
الحداد عن أبي نعيم الحافظ عن أبي محمد الخواص، قال: أخبرنا أبو يزيد
المخزومي، حدثنا الزبير بن بكار، حدثنا محمد بن الحسن، حدثني محمد بن
إبراهيم بن عبد الله بن جعفر بن محمد، كان يقول: قبر فاطمة رضي الله
عنها في بيتها الذي أدخله عمر بن عبد العزيز في المسجد؛ قلت: وبيتها
اليوم حوله مقصورة وفيه محراب وهو خلف حجرة النبي عليه السلام.
ذكر مصلى النبي صلى الله
عليه وسلم بالليل:
روى عيسى بن عبد الله عن أبيه قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
يطرح حصيرا كل ليلة إذا انكف الناس، ورأيت عليا كرم الله وجهه ثَمَّ
يصلي صلاة الليل، قال عيسى: وذلك موضع الأسطوان الذي على طريق النبي
-صلى الله عليه وسلم- مما يلي الدور.
وروي عن سعيد بن عبد الله بن فضيل، قال: مر بي محمد بن علي ابن الحنفية
رضي الله عنه وأنا أصلي إليها، قال لي: أراك تلزم هذه الأسطوانة هل
جاءك فيها أثر؟ قلت: لا، قال: فالزمها؛ كانت مصلى رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- بالليل، قلت: وهذه الأسطوانة وراء بيت فاطمة رضي الله عنها
وفيها محراب إذا توجه الرجل كان يساره إلى باب عثمان رضي الله عنه.
ذكر الجذع الذي كان يخطب
إليه النبي عليه السلام:
أخبرنا أبو محمد بن أبي نصر الجنابذي، أخبرنا يحيى بن علي المديني،
أخبرنا أبو الحسين بن النقور، أخبرنا أبو القاسم بن حنانة، حدثنا أبو
القاسم البغوي، حدثنا هدية بن خالد، حدثنا حماد بن عمار بن أبي عمار عن
ابن عباس عن النبي -صلى الله عليه وسلم: أنه كان يخطب إلى جذع نخلة،
فلما اتخذ المنبر تحول إليه، فحن الجذع، وأتى النبي -صلى الله عليه
وسلم- فاحتضنه فسكن، فقال عليه السلام:
"لو لم أحتضنه لَحَنَّ إلى يوم القيامة".
أنبأنا عبد الرحمن بن علي قال: أخبرنا جابر بن ياسين، أخبرنا المخلص،
حدثنا شيبان بن فروخ، حدثنا المبارك بن فضالة، حدثنا الحسن عن أنس قال:
كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخطب يوم الجمعة إلى خشبة مسنِدًا
ظهره إليها، فلما كثر الناس قال:
"ابنوا لي منبرًا"
فبنوا له منبرا له عتبتان، فلما قام على المنبر يخطب حنَّت الخشبة إلى
رسول الله -صلى الله عليه وسلم، قال أنس: وأنا في المسجد، فسمعت الخشبة
تحنُّ حنين الواله، فما زالت تحن حتى نزل إليها فاحتضنها فسكنت، فكان
الحسن إذا حدث بهذا الحديث بكى، ثم قال: يا عباد الله الخشبة تحنُّ إلى
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شوقا إليه، فأنتم أحق أن تشتاقوا إلى
لقائه، وفي لفظ: فنزل إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- فاحتضنه وسارَّه
بشيء، وفي لفظ: فصاحت النخلة التي كان يخطب عندها حتى كادت تنشق، وفي
لفظ: فجعلت تئن أنين
ج / 2 ص -424-
الصبي حتى استقرت، وفي لفظ: كانت تبكي على
ما كانت تسمع من الذكر، كل هذه الألفاظ في الصحيح، وقال أبو سعيد
الخدري: لما سكن الجذع أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يحفر له
ويدفن.
وقال أبو بريدة الأسلمي: لما سكن الجذع قال له النبي -صلى الله عليه
وسلم: "إن شئت أن أردك إلى الحائط الذي كنت فيه كما كنت، فتنبت لك عروقك،
ويكمل خلقك، ويجدد لك خوص وثمر، وإن شئت أن أغرسك في الجنة فتأكل
أولياء الله من ثمرك"، ثم أصغى إليه النبي -صلى الله عليه وسلم-
يسمع ما يقول، قال: بل تغرسني في الجنة فيأكل مني أولياء الله، وأكون
في مكان لا أداس فيه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم:
"نعم، قد فعلت"؛ وعاد إلى المنبر ثم أقبل على الناس فقال:
"خيرته كما سمعتم فاختار أن أغرسه في الجنة، اختار دار البقاء على دار
الفناء".
وقالت عائشة رضي الله عنها: لما قال له النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك
غار الجذع فذهب، وقال ابن أبي الزناد: لم يزل الجذع على حاله زمان رسول
الله -صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فلما هدم
عثمان رضي الله عنه المسجد اختلف في الجذع فمنهم من قال: أخذه أبي بن
كعب فكان عنده حتى أكلته الأرضة، ومنهم من قال: دفن في موضعه، وكان
الجذع في موضع الأسطوانة المخلفة التي عن يمين محراب النبي -صلى الله
عليه وسلم- عند الصندوق.
ذكر عمل المنبر:
وروى البخاري في الصحيح من حديث أبي حازم أن نفرا جاءوا إلى سهل بن سعد
قد تماروا في المنبر من أي عود هو، فقال: أما والله إني لأعرف من أي
عود هو ومن عمله؛ رأيت رسول الله أول يوم جلس عليه، فقلت له: فحدثنا،
فقال: أرسل عليه السلام إلى امرأة:
"انظري غلامك النجار يعمل لي أعوادا أكلم الناس عليها"، فعمل هذه الدرجات الثلاث ثم أمر بها فوضعت بهذا الموضع وهي من
طرفاء الغابة... وفي صحيح البخاري من حديث جابر بن عبد الله أن امرأة
من الأنصار قالت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، ألا
أجعل لك شيئا تقعد عليه؛ فإن لي غلاما نجارا؟ قال:
"إن شئت" فعمل له المنبر. وروى أبو داود في سننه من حديث عبد الله بن عمر أن
النبي لما بدن قال له تميم الداري: ألا أتخذ لك منبرا يا رسول الله
يجمع أو يحمل عظامك؟ قال:
"بلى"
قال: فاتخذ له منبرا مرقاتين1، وروي عن أبي الزناد أنه عليه السلام كان
يخطب يوم الجمعة إلى جذع في المسجد فقال:
"إن القيام قد شق علي" وشكا ضعفا في رجليه، فقال له تميم الداري وكان من أهل فلسطين: يا
رسول الله أنا أعمل لك منبرا كما رأيت يصنع بالشام قال: فلما أجمع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المرقاة: الدرجة.
ج / 2 ص -425-
ذوو الرأي من أصحابه على اتخاذه قال العباس
بن عبد المطلب: إن لي غلاما يقال له كلاب أعمل الناس، فقال له النبي
-صلى الله عليه وسلم: "فمره يعمل"، فأرسل إلى أثلة بالغابة فقطعها ثم
عملها درجتين ومجلسا ثم جاء بالمنبر فوضعه في موضع المنبر اليوم ثم راح
إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم الجمعة، فلما جاوز الجذع يريد
المنبر حنَّ الجذع ثلاث مرات كأنه خوار بقرة حتى ارتاع الناس، وقام
بعضهم على رجليه، فأقبل عليه السلام حتى مسه بيده فسكن، فما سمع له صوت
بعد ذلك، ثم رجع إلى المنبر فقام عليه، وقد روي أن اسم هذا الغلام الذي
صنع المنبر مينا، وقال عمر بن عبد العزيز: عمله صباح غلام العباس بن
عبد المطلب.
قال الواقدي1: وفي سنة ثمانٍ من الهجرة اتخذ النبي -صلى الله عليه
وسلم- منبره واتخذه درجتين ومقعدة.
عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال -صلى
الله عليه وسلم:
"قوائم منبري رواتب في الجنة، وما بين بيتي ومنبري
روضة من رياض الجنة".
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم: "منبري على حوضي"،
قال الخطابي: معناه: من لزم عبادة الله عنده سقي من الحوض يوم القيامة،
قلت: الذي أراه أن المعنى هذا المنبر بعينه يعيده الله على حاله فينصبه
عند حوضه كما تعود الخلائق أجمعون.
أخبرنا أبو طاهر المبارك بن المبارك العطار قال: أخبرنا أبو الغنائم
محمد بن محمد الخطيب، وأخبرنا هبة الله بن الحسن بن السبط قال: أخبرنا
أحمد بن عبد الله العكبري قالا: أخبرنا أبو طالب العادي أخبرنا عمر بن
أحمد بن شاهين قال: حدثنا علي بن محمد العسكري حدثني دارم بن قبيصة
حدثني نعيم بن سالم قال: سمعت أنس بن مالك قال: رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- يقول: "منبري على ترعة من ترع الجنة". قال أبو عبيدة القاسم بن سلام: في الترعة
ثلاثة أقوال: أحدها أنها الروضة تكون على المكان المرتفع خاصة، والثاني
أنها الباب، والثالث أنها الدرجة.
وروى أبو داود في السنن من حديث جابر بن عبد الله قال: قال -صلى الله
عليه وسلم: "لا يحلف أحد عند منبري هذا على يمين آثمة ولو على سواك أخضر إلا تبوأ
مقعده من النار أو وجبت له النار".
وقال ابن أبي الزناد: كان -صلى الله عليه وسلم- يجلس على المنبر ويضع
رجليه على الدرجة الثانية، فلما ولي أبو بكر قام على الدرجة الثانية،
ووضع رجليه على الدرجة الثالثة السفلى فلما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو أبو عبد الله الواقدي المتوفى عام 207هـ أو 216هـ. وله: تاريخ
مكة، وفتوح الشام.
ج / 2 ص -426-
ولي عمر قام على الدرجة السفلى، ووضع رجليه
على الأرض إذا قعد، فلما ولي عثمان فعل ذلك ست سنين ثم علي فجلس موضع
النبي وكسى المنبر قبطية، فلما حج معاوية كساه قبطية وزاد فيه ست
درجات، ثم كتب إلى مروان بن الحكم وهو عامله على المدينة أن ارفع
المنبر على الأرض فدعا له النجارين وعمل هذه الدرجات ورفعوه عليها،
وصار المنبر تسع درجات بالمجلس لم يزد فيه أحد قبله ولا بعده، قال:
ولما قدم المهدي المدينة سنة إحدى وستين ومائة قال لمالك بن أنس: إني
أريد أن أعيد منبر النبي -صلى الله عليه وسلم- على حاله، فقال له مالك:
إنما هو من طرفاء وقد سُمِّر إلى هذه العيدان وشد، فمتى نزعته خفت أن
يتهافت ويهلك فلا أرى أن تغيره.
قلت: وطول منبر النبي -صلى الله عليه وسلم- ذراعان وشبر وثلاث أصابع،
وعرضه ذراع راجح، وطول صدره وهو مستند النبي -صلى الله عليه وسلم-
ذراع، وطول رمانتي المنبر الذي يمسكها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
إذا جلس يخطب شبر وإصبعان، وطول المنبر اليوم ثلاثة أذرع وشبر ثلاث
أصابع، والدكة التي هو عليها طول شبر وعقد، ومن رأسه إلى عتبته خمسة
أذرع وشبر، وقد زيد فيه اليوم عتبتان وجعل له باب يفتح يوم الجمعة ولم
يزل الخلفاء إلى يومنا هذا يرسلون في كل سنة ثوبا من الحرير الأسود،
وله علم ذهب يكسى به المنبر، ولما كثرت الكسوة عندهم أخذوها فجعلوها
ستورا على أبواب الحرم.
ذكر الروضة:
أخبرنا أبو طاهر بن المقطوش قال: أخبرنا أبو الغنائم بن المهتدي
وأخبرنا أبو القاسم الهمداني أخبرنا أبو المعز بن كادش قالا: أخبرنا
محمد بن علي بن أبي الفتح الحربي قال: أخبرنا أبو الحفص بن شاهين حدثنا
علي بن محمد العسكري حدثنا دارم بن قبيصة حدثني نعيم بن سالم بن قنبر
قال: سمعت أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول:
"ما بين حجرتي ومنبري روضة من
رياض الجنة"1 أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث
أبي هريرة، وقال:
"بيتي" مكان
"حجرتي"، وقال الخطابي: معناه: من لزم طاعة الله تعالى في هذه البقعة آلت
به الطاعة إلى روضة من رياض الجنة، والذي هو عندي أن يكون هذا الموضع
بعينه روضة في الجنة يوم القيامة، وقال أبو عمر ابن عبد البر: معناه أن
النبي -صلى الله عليه وسلم- كانت الصحابة تقتبس منه العلم في ذلك
الموضع فهو مثل الروضة قلت: ويؤيد قولَه قولُ النبي -صلى الله عليه
وسلم:
"إذا مررتم برياض الجنة
فارتعوا" قالوا: يا رسول الله، وما رياض الجنة؟
قال:
"حلق الذكر".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ويروى بلفظ آخر، وهو:
"ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض
الجنة". وهو حديث صحيح رواه أحمد والبخاري ومسلم
والنسائي والترمذي عن علي وأبي هريرة.
ج / 2 ص -427-
ذكر سد الأبواب الشوارع في
المسجد:
روى البخاري في الصحيح من حديث أبي سعيد الخدري قال: خطب النبي -صلى
الله عليه وسلم- فقال:
"إن الله خير عبدًا بين الدنيا وبين ما عنده فاختار
ما عنده"، فبكى أبو بكر فقلت في نفسي: ما يبكي هذا
الشيخ أن يكون الله عز وجل خير عبدا بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما
عند الله، فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو العبد وكان أبو بكر
أعلمنا، فقال يا أبا بكر:
"لا تبك؛ إن أَمَنَّ الناسِ عليَّ في صحبته وماله
أبو بكر، ولو كنت متخذًا من أمتي خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا، ولكن
أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر"، قال أهل السير: كان بابه في غربي المسجد، وروى ابن عباس أن النبي
-صلى الله عليه وسلم- أمر بالأبواب كلها فسُدَّتْ إلا باب علي رضي الله
عنه.
ذكر تجميره:
ذكر أهل السير أن عمر بن الخطاب أتى بسفط من عود فلم يسع الناس فقال:
أجمروا به المسجد؛ لينتفع به المسلمون فبقيت سنة في الخلفاء إلى اليوم
يؤتى في كل عام بسفط من عود يجمر به المسجد ليلة الجمعة ويوم الجمعة
عند المنبر من خلفه إذا كان الإمام يخطب، قالوا: وأتي عمر بن الخطاب
بمجمرة من فضة فيها تماثيل من الشام فكان يجمر بها المسجد ثم توضع بين
يدي عمر فلما قدم إبراهيم بن يحيى بن محمد واليا على المدينة غيرها
وجعلها ساذجا وهي في يومنا هذا منقوشة.
ذكر تخليقه:
روي أن عثمان بن مظعون تفل في المسجد فأصبح مكتبئا، فقالت له امرأته:
ما لي أراك مكتئبا. فقال: لا شيء؛ إلا أني تفلت في القبلة وأنا أصلي
فعمدت إلى القبلة فغسلتها ثم خلقتها فكان أول من خلق1 القبلة، وقال
جابر بن عبد الله: كان أول من خلق المسجد عثمان بن عفان رضي الله عنه
ثم لما حجت الخيزران أم موسى وهارون في سنة سبعين ومائة وأمرت بالمسجد
أن يخلق فتولى تخليقه جاريتها مؤنسة فخلقته جميعه حتى الحجرة الشريفة
جميعها.
منع آكل الثوم من دخوله:
روى البخاري في الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم، قال:
"من أكل ثوما أو بصلا فليعتزل مسجدنا"، وفي لفظ آخر:
"فلا يقربن مسجدنا".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي طيبها بالخلوق وهو ضرب من الطيب.
ج / 2 ص -428-
النهي عن رفع الصوت فيه:
روى البخاري في الصحيح أن السائب بن يزيد قال: كنت نائما في المسجد،
فحصبني رجل، فنظرت فإذا هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: اذهب
فائتني بهذين فجئته بهما، فقال: ممن أنتما أو من أين أنتما؟ فقالا: من
الطائف، قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في
مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم.
جواز النوم فيه:
روى البخاري في الصحيح أن عبد الله بن عمر كان ينام في المسجد وهو
شاب عزب لا أهل له، وروى أيضا من حديث سهل بن سعد قال: جاء رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- إلى بيت فاطمة رضي الله عنها فلم يجد عليا رضي
الله عنه في البيت فقال:
"أين ابن عمك؟"، فقالت: كان بيني
وبينه شيء فغاضبني، فخرج فلم يقل1 عندي، فقال رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- لإنسان:
"انظر أين هو فأخبرنا"، فجاءه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو مضطجع قد سقط رداءه عن
شقه وأصابه تراب فقال له:
"قم أبا تراب".
جواز الصلاة على الجنائز
فيه:
روى أبو داود في السنن من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: والله
لقد صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على ابني بيضا في المسجد سهيل
وأخيه، وروي أيضا من حديث أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-
قال:
"من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء عليه".
النهي عن إخراج الحصى منه:
روى أبو داود في السنن من حديث أبي هريرة رفعه إلى النبي -صلى الله
عليه وسلم-
"أن الحصاة لتناشد الذي يخرجها من المسجد".
ذكر مواضع تأذين بلال:
روى ابن إسحاق أن امرأة من بني النجار قالت: كان بيتي أطول بيت حول
المسجد، وكان بلال يؤذن عليه الفجر كل غداة، فيأتي بسحر فيجلس على
البيت ينتظر الفجر فإذا رآه تمطى، ثم قال: اللهم أحمدك وأستعينك على
قريش أن يقيموا دينك، قالت: ثم يؤذن، وذكر أهل السير أن بلالًا كان
يؤذن على أسطوانة في قبلة المسجد يرقى إليها بأقتاب وهي قائمة إلى
اليوم في منزل عبد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه،
وروى نافع عن عمر قال: كان بلال يؤذن على منارة في دار حفصة بنت عمر
التي تلي المسجد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 من القيلولة وهي النوم وقت الظهيرة.
ج / 2 ص -429-
قال: فكان يرقى على أقتاب فيه، وكانت خارجة
من مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم، لم تكن فيه وليست فيه اليوم.
ذكر أهل الصفة رضي الله
عنهم:
روى البخاري في الصحيح أن أصحاب الصفة كانوا فقراء، وروي أيضا من حديث
أبي هريرة قال: لقد رأيت سبعين من أهل الصفة ما منهم رجل عليه رداء؛
إما إزار وإما كساء قد ربطوه في أعناقهم، فمنها ما يبلغ نصف الساقين
ومنها ما يبلغ الكعبين، فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته.
وروي أيضا من حديث أبي هريرة أنه كان يقول: والله الذي لا إله إلا هو
إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشد الحجر على بطني
من الجوع، ولقد قعدت يوما على طريقهم الذي يخرجون منه، فمر أبو بكر
فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني، فمر ولم يفعل، ثم مر
بي عمر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني، فمر ولم
يفعل، ثم مر بي أبو القاسم -صلى الله عليه وسلم- فتبسم حين رآني وعرف
ما في نفسي وما في وجهي، ثم قال:
"أبا هر". قلت: لبيك يا رسول الله قال:
"الحق" ومضى فاتبعته، فدخل فاستأذن،
فأذن لي فدخلت فوجدت لبنا في قدح فقال:
"من أين هذا اللبن؟" قالوا: هداه لك فلان أو فلانة قال:
"أبا هر" قلت: لبيك رسول الله، قال:
"الحق إلى أهل الصفة فادعهم إلي"
وأهل الصفة أضياف الإسلام لا يأوون على أهل ولا مال ولا على أحد إذا
أتته صدقة بعث بها إليهم ولا يتناول منها شيئا وإذا أتته هدية أرسل
إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها فساءني ذلك فقلت: وما هذا اللبن في أهل
الصفة؟ كنت أرجو أن أصيب من اللبن شربة أتقوى بها فإذا جاءوا أمرني
فكنت أنا أعطيهم وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن ولم يكن من طاعة الله
وطاعة رسوله بدٌّ، فأتيتهم، فدعوتهم، فأقبلوا، فاستأذنوا، فأذن لهم،
وأخذوا مجالسهم من البيت قال:
"أبا هر" قلت: لبيك يا رسول الله قال:
"خذ فأعطهم" فأخذت القدح فجعلت أعطيه
فيشرب حتى يروى حتى انتهيت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد روى
القوم وأخذ القدح فوضعه على يده فنظر إلي فتبسم، وقال:
"يا أبا هر" قلت: لبيك يا رسول الله قال:
"بقيت أنا وأنت"
قلت: صدقت يا رسول الله قال:
"اقعد فاشرب" فقعدت فشربت فقال:
"اشرب" فشربت فما زال يقول:
"اشرب" حتى قلت: والذي بعثك بالحق لا أجد له مسلكا قال:
"فأرني" فأعطيته القدح فحمد الله وسمى
وشرب الفضلة، وروى أهل السير أن محمد بن مسلمة رأى أضيافا عند رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- في المسجد فقال: ألا تفرق هذه الأضياف في
دور الأنصار ونجعل لك من كل حائط قنوا؛ ليكون لمن يأتيك من هؤلاء
الأقوام؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم:
"بلى"
فلما جذ ماله جاء بقنو فجعله في المسجد بين ساريتين، فجعل الناس يفعلون
ذلك، وكان معاذ بن جبل يقوم عليه وكان يجعل عليه حبلا
ج / 2 ص -430-
بين الساريتين ثم يعلق الأقناء على الحبل،
ويجمع العشرين أو أكثر، فيهش عليهم بعصاه من الأقناء فيأكلون حتى
يشبعوا ثم ينصرفون، ويأتي غيرهم فيفعل لهم مثل ذلك فإذا كان الليل فعل
لهم مثل ذلك.
ذكر العود الذي في الأسطوانة
التي عن يمين القبلة:
روى أهل السير عن مصعب بن ثابت قال: طلبنا علم العود الذي في مقام
النبي -صلى الله عليه وسلم- فلم نجد أحدا يذكر لنا منه شيئا حتى أخبرني
محمد بن مسلم بن السائب صاحب المقصورة أنه جلس إلى جنبه أنس بن مالك
فقال: تدري لم صنع هذا العود؟ قلت: لا أدري، قال: كان رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- يضع عليه يمينه ثم يلتفت إلينا، فيقول: "استووا وعدلوا صفوفكم"، فلما توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سرق العود، فطلبه أبو
بكر فلم يجده حتى وجده عمر عند رجل من الأنصار بقباء، وقد دفن في الأرض
فأكلته الأرضة فأخذ له عودًا فشقه، ثم أدخله فيه ثم شعبه ورده إلى
الجدار، وهو العود الذي وضعه عمر بن عبد العزيز في القبلة، وهو الذي في
المحراب اليوم باقٍ، وقال مسلم بن حباب: كان ذلك العود من طرفاء
الغابة.
ذكر مواضع اعتكاف النبي صلى
الله عليه وسلم:
روى أهل السير أن ابن عمر قال: كان النبي إذا اعتكف طرح له فراشه ووضع
له سرير بأسطوانة التوبة.
ذكر أسطوانة التوبة:
قال ابن إسحاق: لما حاصر رسول الله بني قريظة بعثوا إليه أن ابعث لنا
أبا لبابة بن عبد المنذر أخا بني عمرو بن عوف -وكانوا حلفاء الأوس-
نستشيره في أمرنا، فأرسله رسول الله إليهم، فلما رأوه قام إليه الرجال،
وأجهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه، فرق لهم فقالوا له: يا أبا
لبابة أترى أن ننزل على حكم محمد؟ قال: نعم، وأشار بيده إلى حلقه أنه
الذبح، قال أبو لبابة: فوالله ما زالت قدماي حتى عرفت أني قد خنت الله
ورسوله، ثم انطلق أبو لبابة على وجهه، ولم يأت رسول الله حتى ارتبط في
المسجد إلى عمود من عمده، وقال: لا أبرح مكاني هذا حتى يتوب الله على
ما صنعت، وعاهد الله أن لا يطأ بني قريظة أبدًا، فلا تراني ولا يراني
الله في بلد خنت الله ورسوله فيه أبدًا، فلما بلغ رسول الله خبره وأبطأ
عليه وكان قد استبطأه قال:
"أما لو جاءني لاستغفرت الله له، فأما إذا فعل فما أنا بالذي أطلقه من
مكانه حتى يتوب الله عليه"،
فأنزل الله توبته على رسول الله وهو في بيت أم سلمة، قالت أم سلمة:
فسمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من السحر يضحك فقلت: مم تضحك يا
رسول الله؟ أضحك الله سنك قال:
"تيب على أبي لبابة"، فقلت: ألا أبشره بذلك يا رسول الله؟ قال: "بلى إن شئت"، قال: فقامت على باب
حجرتها وذلك قبل أن يضرب
ج / 2 ص -431-
الحجاب فقالت: يا أبا لبابة أبشر؛ فقد تاب
الله عليك، قال: فثار الناس؛ ليلقوه قال: لا والله حتى يكون رسول الله
هو الذي يطلقني بيده، فلما مر عليه خارجا إلى صلاة الصبح أطلقه، وأنزل
الله فيه:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ
وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال: 27] قال إبراهيم بن جعفر: السارية التي ارتبط إليها
ثمامة بن أثال الحنيفي هي السارية التي ارتبط إليها أبو لبابة، وروى
خالد بن أنس عن عبد الله بن أبي بكر بن عمر بن حزم أن أبا لبابة ارتبط
بسلسلة ربوص، والربوص: الثقيلة، بضع عشرة ليلة حتى ذهب سمعه فما يكاد
يسمع وكاد بصره يذهب وكانت ابنته تحله إذا حضرت الصلاة، وإذا أراد أن
يذهب لحاجته حتى يفرغ ثم تأتي به فترده في الرباط كما كان، وكان
ارتباطه ذلك إلى جذع في موضع الأسطوانة التي يقال لها أسطوانة التوبة،
وروي عن محمد بن كعب القرظي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يصلي
أكثر نوافله إلى أسطوانة التوبة، قلت: وهذه الأسطوانة الثانية عن يمين
حجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- التي كان يصلي إليها في الصف الأول
خلف أمام الروضة وهي معروفة.
ذكر أسطوانة النبي صلى الله
عليه وسلم التي كان يصلي إليها:
روى الزبير بن حبيب أن الأسطوانة التي بعد أسطوانة التوبة إلى الروضة
وهي الثالثة من المنبر ومن القبر ومن رحبة المسجد ومن القبلة وهي
متوسطة في الروضة، صلى النبي -صلى الله عليه وسلم- إليها المكتوبة بضع
عشرة ثم تقدم إلى مصلاه اليوم، وكان يجعلها خلف ظهره، وأن أبا بكر وعمر
والزبير وابنه عبد الله وعامر بن عبد الله كانوا يصلون إليها، وأن
المهاجرين من قريش كانوا يجتمعون عندها؛ وكان يقال لها مجلس المهاجرين،
وقالت عائشة رضي الله عنها فيها: لو عرفها الناس لاضطربوا على الصلاة
عندها بالاسم، فسألوها عنها، فأبت أن تسميها، فأصغى إليها ابن الزبير
فسارَّته بشيء، ثم قام فصلى إلى التي يقال لها أسطوانة عائشة، قال: فظن
من معه أن عائشة أخبرته أنها تلك الأسطوانة وسميت أسطوانة عائشة،
وأخبرني بعض أصحابنا عن زيد بن أسلم قال: رأيت عند تلك الأسطوانة موضع
جبهة النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم رأيت دونه موضع جبهة أبي بكر ثم
رأيت دون موضع جبهة أبي بكر موضع جبهة عمر رضي الله عنهما، ويقال: إن
الدعاء عندها مستجاب.
ذكر أسطوانة النبي صلى الله
عليه وسلم التي كان يجلس إليها إذا جاءه الوفود:
روى ابن أبي فديك عن غير واحد من مشايخه أن الأسطوانة الثالثة من قبر
النبي -صلى الله عليه وسلم- وهي التي تلي الرحبة وهي خلف أسطوانة علي
بن أبي طالب التي خلف أسطوانة التوبة كان النبي يجلس إليها لوفود العرب
إذا جاءته، قلت: إذا عددت الأسطوان الذي فيه مقام جبريل كانت الثالثة.
ج / 2 ص -432-
ذكر أسطوانة علي بن أبي طالب
رضي الله عنه:
وروى أهل السير أن الأسطوانة التي خلف أسطوانة التوبة هي مصلى علي بن
أبي طالب رضي الله عنه.
ذكر فضيلة الصلاة إلى أساطين
المسجد:
روى البخاري في الصحيح من حديث يزيد بن أبي عبيد قال: كنت آتي سلمة بن
الأكوع، فيصلي عند الأسطوانة التي عند المصحف، فقلت: يا أبا مسلم أراك
تتحرى الصلاة عند هذه الأسطوانة، قال: فإني رأيت النبي -صلى الله عليه
وسلم- يتحرى الصلاة عندها، وروي أيضا من حديث أنس قال: لقد أدركت أصحاب
النبي -صلى الله عليه وسلم- يبتدرون السواري عند المغرب. قلت: فعلى هذا
جميع سواري مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم- يستحب الصلاة عندها؛ لأنها
لا تخلو من أن كبار الصحابة صلوا إليها.
ذكر زيادة عمر بن الخطاب رضي
الله عنه في المسجد:
عن ابن عمر قال: زاد عمر بن الخطاب في المسجد من شاميه، وروى البخاري
في الصحيح من حديث عبد الله بن عمر أن المسجد كان على عهد النبي -صلى
الله عليه وسلم- مبنيا باللبن وسقفه الجريد وعمده خشب النخل فلم يزد
فيه أبو بكر شيئا وزاد فيه عمر وبناه على بنائه في عهد النبي -صلى الله
عليه وسلم- باللبن والجريد وأعاد عمده خشبا، وروى أهل السير أن عمر رضي
الله عنه قال: لولا أني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول:
"إني أزيد في المسجد" ما زدت فيه، أنبأنا أبو القاسم الحذاء عن أبي علي المقري عن أبي
نعيم الأصبهاني عن أبي جعفر الخلدي، أخبرنا أبو يزيد المخزومي، حدثنا
الزبير بن بكار، حدثنا محمد بن الحسن بن زبالة، حدثني محمد بن عثمان بن
ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن مصعب بن ثابت عن مسلم بن خباب أن النبي قال
يوما وهو في مصلاه: لو زدنا في مسجدنا وأشار بيده نحو القبلة، فلما
توفي عليه السلام وولي عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: إن رسول الله
قال:
"لو زدنا في مسجدنا" وأشار بيده نحو القبلة فأجلسوا رجلًا في موضع مصلى النبي، ثم رفعوا
يد الرجل وخفضوها حتى رأوا أن ذلك نحو ما رأوا أن النبي رفع يده ثم مد،
ووضعوا طرفه بيد الرجل ثم مدوه فلم يزالوا يقدمونه ويؤخرونه حتى رأوا
أن ذلك شبيه بما أشار رسول الله من الزيادة فقدم عمر القبلة فكان موضع
جدار عمر في موضع عيدان المقصورة.
قال أهل السيرة: كان بين المنبر وبين الجدار الذي كان على عهد رسول
الله بقدر ما يمر شاة، فأخذ عمر إلى موضع المقصورة اليوم، وزاده فيه،
وزاد في يمين القبلة، فصار طوله أربعين ومائة ذراع، وسقفه جريد ذراعان،
وبنى فوق ظهر المسجد سترة ثلاثة أذرع
ج / 2 ص -433-
وبنى أساسه بالحجارة إلى أن بلغ قامة، وجعل
له ستة أبواب: بابين عن يمين القبلة وبابين عن يسارها ولم يغير باب
عاتكة ولا الباب الذي كان يدخل منه النبي، وفتح بابا عند دار مروان بن
الحكم، وفتح بابين في مؤخر المسجد، وروي عن أبي هريرة أنه قال: قال
رسول الله -صلى الله عليه وسلم:
"لو بني هذا المسجد إلى صنعاء كان مسجدي". وروى غيره مرفوعا أنه قال:
"هذا مسجدي وما زيد فيه فهو منه، ولو بلغ صنعاء كان مسجدي".
وكان أبو هريرة يقول: ظهر المسجد كقعره، وأدخل عمر في هذه الزيادة
دارًا للعباس بن عبد المطلب وهبها للمسلمين، وعن عبد الرحمن بن أبي
الزناد عن أبيه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أراد هدم دار كانت
للعباس بن عبد المطلب؛ ليزيدها في المسجد وقال: ذلك أرفق بالمسلمين،
فقال له العباس: حكِّم بيني وبينك في ذلك، فجعلا بينهما أبي بن كعب
فقال: إني أحدثكما حديثا سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:
إن داود النبي أراد بنيان بيت المقدس وكانت أرضه لرجل فاشتراها سليمان
منه فلما باعه الرجل إياه قال الرجل: ما أخذت مني خير أم ما أعطيتني؟
قال: بل ما أخذت، قال: فإني لا أجيز، فناقضه البيع، ثم اشتراها ثانية
فقال له: ما أخذت مني خير أم ما أعطيتني؟ فقال: بل ما أخذت منك قال:
إني لا أجيز فناقضه البيع، ثم اشتراها الثالثة فصنع مثل ذلك، فقال له
سليمان: أشتريها منك بحكمك على أن لا تسألني، قال: فاشتراها بحكمه
فاحتكم شيئا كثيرا اثني عشر قنطارا ذهبا، فاستعظمه سليمان، فأوحى الله
إليه: إن كنت تعطيه من رزقنا فأعطه حتى يرضى، وإن كنت تعطيه من عندك
فذلك لك، وعم النبي العباس إن شاء باعها وإن شاء تركها، قال العباس:
أما إذا قضيت فيَّ فقد جعلتها للمسلمين.
وكانت للعباس دار إلى جنب المسجد فقال له عمر: بعنيها فقال له العباس:
لا أبيعك، فقال عمر: إذًا آخذها، فقال العباس: لا تأخذها، فقال: اجعل
بيني وبينك من شئت، فجعلا بينهما أبي بن كعب فأخبروه الخبر، فقال: أوحى
الله إلى سليمان أن ابْنِ بيتَ المقدس وكان بيت لعجوز فأراد أخذه منها
فأبت أن تبيعه إياه، فعزم على أخذه منها وإدخاله في المسجد، فأوحى الله
إليه أن بيتي أحق المواضع أن لا يدخل فيه شيء من الظلم، فكف عن أخذه
فقال عمر: وأنا أشهدكم أني قد كففت عن دار العباس، فقال له العباس: أما
إن كان هذا وحكم لي عليك فإني أشهدكم أني قد جعلتها صدقة على المسلمين،
فهدمها عمر، وأدخلها في المسجد، واشترى نصف موضع كان خطه النبي -صلى
الله عليه وسلم- لجعفر بن أبي طالب وهو بالحبشة دارا بمائة ألف فزاده
في المسجد. أخبرتنا عفيفة الفارقانية في كتابها عن الحسن بن أحمد عن
أحمد بن عبد الله عن جعفر محمد بن الحسن حدثني عبد العزيز بن أبي حبارة
عن الضحاك بن عثمان عن أبي النضر عن
ج / 2 ص -434-
بشر بن سعيد أو سليمان بن يسار الضحاك أنه
حدثه أن المسجد كان يرش زمان النبي -صلى الله عليه وسلم- وزمان أبي بكر
وعامة زمان عمر، وكان الناس يتنخمون فيه ويبصقون حتى عاد زلقا حتى قدم
ابن مسعود الثقفي، وقال لعمر: أليس قربكم وادٍ؟ قال: بلى قال: فمر
بحصباء تطرح فيه فهو أكف للمخاط والنخامة، فأمر بها عمر، وذكر محمد بن
سعد أن عمر بن الخطاب ألقى الحصا في مسجد رسول الله وكان الناس إذا
رفعوا رءوسهم من السجود نفضوا أيديهم فأمر بالحصباء فجيء به من العقيق
فبسط في المسجد.
ذكر زيادة عثمان بن عفان رضي
الله عنه فيه:
روى البخاري في الصحيح أن عثمان زاد في المسجد زيادة كثيرة وبنى جداره
بالحجارة المنقوشة، وجعل عمده من حجارة منقوشة وسقفه بالساج، وذكر أهل
السير أن عثمان رضي الله عنه لما ولي الخلافة سنة أربع وعشرين سأله
الناس أن يزيد في مسجدهم، وشكوا إليه ضيقه يوم الجمعة حتى إنهم ليصلون
في الرحاب، فشاور فيه عثمان أهل الرأي من أصحاب رسول الله، فاجتمعوا
على أن يهدمه ويزيد فيه، فصلى الظهر بالناس ثم صعد المنبر فحمد الله
وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إني قد أردت أن أهدم مسجد رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- وأزيد فيه، وأشهد أني لسمعت رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- يقول:
"من بنى مسجدا بنى الله تعالى له بيتا في الجنة"، وقدر أن لي فيه سلفا والإمام عمر بن الخطاب
زاد فيه وبناه، وقد شاورت أهل الرأي من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- على هدمه وبنائه وتوسعته، فحسن الناس ذلك ودعوا له، فأصبح فدعا
العمال وباشر ذلك بنفسه، وكان رجلًا يصوم النهار ويقوم الليل، وكان لا
يخرج من المسجد فهدمه، وأمر بالقصة المنخولة وكان عمله في أول ربيع
الأول سنة تسع وعشرين، وفرغ منه حين دخلت السنة لهلال المحرم سنة
ثلاثين، فكان عمله عشرة أشهر، وزاد من القبلة إلى موضع الجدار اليوم،
وزاد فيه من المغرب أسطوانًا بعد المربعة، وزاد فيه من الشام خمسين
ذراعا ولم يزد فيه من المشرق شيئًا، وبناه بالحجارة المنقوشة والقصة
وخشب النخل والجريد وبيضه بالقصة وقدر زيد بن ثابت أساطنيه فجعلها على
قدر النخل وجعل فيه طاقات مما يلي المشرق والمغرب وبنى المقصورة بلبن
وجعل فيها كوة ينظر الناس منها إلى الإمام وكان يصلي فيها خوفا من الذي
أصاب عمر وكانت صغيرة وجعل أعمدة المسجد حجارة منقوشة فيها أعمدة
الحديد وفيها الرصاص وسقفه بالساج، فجعل طوله ستين ومائة ذراع وعرضه
خمسين ومائة ذراع، وجعل أبوابه على ما كان على عهد رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- باب عاتكة، والباب الذي يليه، وباب مروان، والباب الذي يقال
له باب النبي -صلى الله عليه وسلم- وبابين في مؤخره.
وقال عبد الرحمن بن سفينة: رأيت القصة تحمل إلى عثمان وهو يبني المسجد
من بطن نخل، ورأيته يقوم على رجليه، والعمال يعملون فيه حتى تأتي
الصلاة فيصلي بهم ثم
ج / 2 ص -435-
ربما نام في المسجد واشترى من مروان بن
الحكم داره وكان بعضها لآل النجار وبعضها دار العباس لها باب إلى
المسجد وهي اليوم باقية على حالها وفيها تسكن الأمراء.
ذكر زيادة الوليد بن عبد
الملك فيه1:
ذكر أهل السير أن الوليد بن عبد الملك لما استعمل عمر بن عبد
العزيز على المدينة أمره بالزيادة في المسجد وبنيانه، فاشترى ما حوله
من المشرق والمغرب والشام من أبي سبرة الذي كان أبي أن يبيع عليه ووضع
الثمن له فلما صار إلى القبلة قال له عبد الله بن عبد الله بن عمر:
لسنا نبيع هذا هو من حق حفصة، وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
يسكنها، فقال له عمر: ما أنا بتارككم أنا أدخلها المسجد، فلما كثر
الكلام بينهما قال له عمر: أجعل لكم في المسجد بابا تدخلون منه،
وأعطيكم دار الرقيق مكان هذا الطريق، وما بقي من الدار فهو لكم،
ففعلوا، فأخرج بابهم في المسجد وهي الخوخة التي في المسجد تخرج في دار
حفصة، وأعطاهم دار الرقيق وقدم الجدار في موضع اليوم، وزاد من المشرق
ما بين الأسطوان المربعة إلى جدار المسجد ومعه عشر أساطين من مربعة
القبر إلى الرحبة إلى الشام ومد في المغرب أسطوانتين وأدخل في حجرات
أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- وأدخل فيه دور عبد الرحمن بن عوف
الثلاث التي كان يقال لها القراين اللاتي يقول فيهن أبو قطيفة بن
الوليد بن عقبة بن أبي معيط:
ألا ليت شعري هل تغير بعدنا
بقيع المصلى أم كعمد القراين
ودار عبد الله بن مسعود، وأدخل فيه من المغرب دار طلحة بن
عبيد الله ودار أبي سبرة بن أبي رهم ودار عمار بن ياسر وبعض دار العباس
بن عبد المطلب وأعلى ما أدخل منها، فجعل منابر سواريها التي تلي السقف
أعظم من غيرها من سواري المسجد قالوا: وبعث الوليد إلى ملك الروم: إنا
نريد أن نعمل مسجد نبينا الأعظم، فأعنا فيه بعمال وفسيفساء، فبعث إليه
بأربعين من الروم وبأربعين من القبط وبأربعين ألف مثقال عونا له
وبأحمال من فسيفساء، وبعث هذه السلاسل التي فيها القناديل، فهدم عمر
المسجد، وأخمر النورة التي يعمل بها الفسيفساء، وحملوا القصة من النخل
منخولة وعمل الأساس من الحجارة والجدار بالحجارة المنقوشة المطابقة
والقصة وجعل عمد المسجد من حجارة حشوها عمد الحديد والرصاص، وجعل طوله
مائتي ذراع وعرضه في مقدمه مائتي ذراع وفي مؤخره مائة وثمانين وعمله
بالفسيفساء والمرمر، وعمل سقفه بالساج، وموهه بالذهب، وهدم حجرات أزواج
النبي -صلى الله عليه وسلم- وأدخلها فيه، وأدخل القبر فيه أيضا، ونقل
لبن حجرات النبي -صلى الله عليه وسلم- ولبن المسجد فبنى به داره بالحرة
وهو فيها اليوم له بياض على اللبن.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تولى الوليد الخلافة بعد موت والده عبد الملك وذلك من عام 86هـ- حتى
عام 96هـ.
ج / 2 ص -436-
وقال بعض الذين عملوا الفسيفساء: إنا
عملناه على ما وجدناه من صور شجر الجنة وقصورها، وكان عمر إذا عمل
العامل الشجرة الكبيرة من الفسيفساء وأحسن عملها نقده ثلاثين درهما،
قالوا: وكانت زيادة الوليد بن عبد الملك من المشرق إلى المغرب ستة
أساطين، وزاد إلى الشام من الأسطوانة المربعة إلى القبر أربع عشرة
أسطوانة منها عشرة في الرحبة وأربع في السقائف الأُوَل التي كانت قبل،
وزاد من الأسطوان التي دون المربعة إلى المشرق أربع أساطين، وأدخل بيت
النبي -صلى الله عليه وسلم- في المسجد وبقي ثلاث أساطين في السقايف
وجعل للمسجد أربع منارات في كل زاوية منارة، وكانت المنارة الرابعة
مطلَّة على دار مروان، فلما حج سليمان بن عبد الملك أذن المؤذن فأطل
عليه، فأمر سليمان بتلك المنارة فهدمت إلى ظهر المسجد.
قالوا: وأمر عمر بن عبد العزيز حين بنى المسجد بأسفل الأساطين، فجعل
قدر سترة اثنين يصليان إليها، وقدر مجلس اثنين يستندان إليها، وقالوا:
ولما صار عمر إلى جدار القبلة دعا مشايخه من أهل المدينة من قريش
والأنصار والموالي والعرب، فقال لهم: تعالوا احضروا بنيان قبلتكم لا
تقولوا عمر غير قبلتنا فجعل لا ينزع حجرا إلا وضع حجرا، قالوا: ومات
عثمان بن عفان رضي الله عنه، وليس للمسجد شرافات ولا محراب، فأول من
أحدث الشرافات والمحراب عمر بن عبد العزيز، قال: وكتب عمر بن عبد
العزيز الكتاب الذي في القبلة عن يمين الداخل من الباب الذي يلي دار
مروان بن الحكم حتى انتهى إلى باب علي رضي الله عنه كتبه مولى لحويطب
بن عبد العزى اسمه سعد، والكتاب "أم القرآن" ومن أول سورة:
{وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} إلى خاتمة:
{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}،
وعمل الميازيب من رصاص ولم يبقَ منها إلا ميزابان: أحدهما في موضع
الجنائز، والآخر على الباب الذي يدخل منه أهل السوق يقال له باب عاتكة،
وعمل المقصورة من ساج، وهدم بيت فاطمة بنت رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- وأدخله في المسجد، وكان ذلك في سنة إحدى وتسعين ومكث في بنيانه
ثلاث سنين.
وكتب عمر في القبلة في صحن المسجد في الفسيفساء ما نسخته: "بسم الله
الرحمن الرحيم: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، محمد عبده ورسوله
أرسله بالهدى ودين الحق؛ ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، أمر
عبد الله أمير المؤمنين الوليد بتقوى الله وطاعته والعمل بكتاب الله عز
وجل وسنة نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- وبصلة الرحم وتعظيم ما صغر
الجبابرة من حق الله سبحانه وتصغير ما عظموا من الباطل وإحياء ما
أماتوا من الحقوق وإماتة ما أحيوا من العدوان والجور وأن يطاع الله
سبحانه، ويعصى العباد في طاعة الله فالطاعة لله سبحانه ولأهل طاعته لا
طاعة لأحد في معصية الله يدعو إلى كتاب الله سبحانه وسنة نبيه -صلى
الله عليه وسلم- وإلى العدل في أحكام المسلمين والقسم بالسوية في فيئهم
ووضع الأخماس في مواضعها التي أمر الله سبحانه بها لذوي القربى
واليتامي والمساكين وابن السبيل".
ج / 2 ص -437-
قالوا: ولما قدم الوليد بن عبد الملك
حاجًّا بعد فراغ عمر بن عبد العزيز من المسجد جعل يطوف فيه وينظر إلى
بنائه فقال لعمر حين رأى سقف المقصورة: ألا عملت السقف كله مثل هذا؟
فقال: يا أمير المؤمنين إذًا تعظم النفقة جدًّا؛ أتدري كم أنفقت على
عمل جدار القبلة وما بين السقفين؟ قال: وكم؟ قال: خمسة وأربعين ألف
دينار، وقال بعضهم: أربعين ألف دينار، وقال: والله لكأنك أنفقتها من
مالك، وقيل: كانت النفقة أربعين ألف مثقال.
قالوا: وكان معه أبان بن عثمان بن عفان فلما استنفد الوليد النظر إلى
المسجد التفت إلى أبان فقال: أين بنياننا من بنيانكم، فقال أبان:
بنيناه بناء المساجد وبنيتموه بناء الكنائس، قالوا: وبينا أولئك القوم
يعملون في المسجد إذ خلا لهم فقال بعضهم لأبولن على قبر نبيهم فتهيأ
لذلك ونهاه أصحابه فلما هم أن يعمل اقتلع وألقي على رأسه فانتثر دماغه
فأسلم بعض أولئك النصارى وعمل أحدهم على رأس خمس طاقات من جدار القبلة،
وفي صحن المسجد صورة خنزير، فظهر عليه عمر بن عبد العزيز فأمر به فضربت
عنقه، قالوا: وكان عمل القبلة مقدم المسجد، وكانت الروم تعمل ما خرج من
السقف من جوانبه ومؤخره، قال أهل السير: ولما فرغ عمر من بنيان المسجد
أراد أن يجعل في أبوابه في كل باب سلسلة تمنع الدواب من الدخول فعمل
واحدة وجعلها في باب مروان ثم بدا له عن البواقي ، قلت: فهي باقية إلى
اليوم، وأقام الحرس فيه يمنعون الناس من الصلاة على الجنائز فيه، ومن
أن يخترقوه، والسنة في الجنائز باقية إلى هذا إلا في حق العلويين ومن
أراد من الأمراء وغيرهم من الأعيان، والباقون يصلى عليهم خلف الحائط
الشرقي من المسجد إذا وقف الإمام على الجنازة كان النبي -صلى الله عليه
وسلم- عن يمينه.
ذكر زيادة المهدي فيه:
قال أهل السير: لم يزل المسجد على ما زاد فيه الوليد بن عبد الملك
حتى ولي أبو جعفر المنصور1 فهم بالزيادة وشاور فيها وكتب إليه الحسن بن
زيد يصف له ناحية موضع الجنائز، ويقول: إن زيد في المسجد من الناحية
الشرقية توسط قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- في المسجد، فكتب إليه أبو
جعفر: إني قد عرفت الذي أردت، فاكفف عن ذكر دار الشيخ عثمان بن عفان
رضي الله عنه، قالوا: وتوفي أبو جعفر ولم يزد فيه شيئا. ثم حج المهدي2
ابن أبي جعفر سنة إحدى وستين ومائة، فقدم من الحج إلى المدينة واستعمل
عليها جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس سنة إحدى وستين
ومائة، وأمره
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ولي أبو جعفر عرش الخلافة العباسية عام 136هـ، وظل خليفة حتى توفي
عام 158هـ.
2 ظل في الخلافة من عام 158هـ، حتى عام 169هـ.
ج / 2 ص -438-
بالزيادة في مسجد رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- وولاه بناءه هو وعبد الله بن عاصم بن عمر بن عبد العزيز بن
مروان، وعبد الملك بن شبيب الغساني من أهل الشام، فزيد في المسجد من
جهة الشام إلى منتهاه اليوم، وكانت زيادته مائة ذراع ولم يزد فيه من
الشرق ولا الغرب ولا القبلة شيئا، ثم خفض المقصورة وكانت مرتفعة ذراعين
من الأرض، فوضعها في الأرض على حالها اليوم، وسد على آل عمر خوختهم
التي في دار حفصة حتى كثر الكلام فيها، ثم صالحهم على أن خفض المقصورة
وزاد في المسجد لتلك الخوخة ثلاث درجات، وحفرت الخوخة حتى صارت تحت
أرض المقصورة وجعل عليها في جدار القبلة شباك فهو عليها اليوم، وكان
المهدي قبل بنائه المسجد قد أمر به فقدر ما حوله من الدور، فابتيع،
وكان مما أدخل فيه من الدور دار عبد الرحمن بن عوف التي يقال لها دار
مليكة، ودار شرحبيل ابن حسنة، وبقية دار عبد الله بن مسعود التي يقال
لها دار القراء، ودار المسور بن مخرمة الزهري، وفرغ من بنيان المسجد
سنة خمس وستين ومائة. قالوا: وكتب على أثر الكتاب الذي كتبه عمر بن عبد
العزيز في صحن المسجد ما نسخته: "أمر عبد الله المهدي أمير المؤمنين
أكرمه الله وأعز نصره بالزيادة في مسجد رسوله الله -صلى الله عليه
وسلم- وإحكام عمله ابتغاء وجه الله عز وجل والدار الآخرة أحسن الله
ثوابه بأحسن الثواب والتوسعة لمن صلى فيه من أهله وأبنائه من جميع
المسلمين، فأعظم الله أجر أمير المؤمنين فيما نوى من حسنته في ذلك
وأحسن ثوابه، بسم الله الرحمن الرحيم" ثم كتب "أم القرآن" كلها، ثم كتب
على أثرها:
{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ} [التوبة: 18]... الآية كلها ثم كتب: "وكان مبتدأ ما أمر به عبد
الله المهدي محمد أمير المؤمنين -أكرمه الله- من الزيادة في مسجد رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- في سنة اثنتين وستين ومائة، وفرغ منه سنة
خمس وستين ومائة، فأمير المؤمنين -أصلحه الله- يحمد الله على ما أذن له
واختصه به من عمارة مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتوسعته حمدا
كثيرا، والحمد لله رب العالمين على كل حال".
قالوا: وعرض منقبة جداري المسجد مما يلي المغرب ينقصان شيئا، وعرض
منقبته مما يلي المشرق ذراعان وأربع أصابع، وإنما زيد فيها؛ لأنها من
ناحية السيل، وفي صحن المسجد أربع وستون بلاعة لماء المطر، عليها أرحا،
ولها صمائم من حجارة يدخل الماء من أصعابها، وكان أبو البحتري وهب بن
وهب القاضي على المدينة واليًا لهارون أمير المؤمنين، فكشف سقف المسجد
في سنة ثلاث وسبعين ومائة، فوجد فيه سبعين خشبة مكسورة فأدخل مكانها
خشبا صحاحا، وكان ماء المطر يغشى قبلة المسجد فجعل التي في شرقيه تلي
القبر فمنع الماء الصحن ومنع حصباء القبلة أن يصل إلى الصحن.
ج / 2 ص -439-
ذكر الستارة التي كانت على صحن
المسجد:
قال أهل السير: لما قدم أبو جعفر المنصور المدينة سنة أربعين ومائة أمر
بستور فستر بها صحن المسجد على عمد لها رءوس كقريات الفساطيط وجعلت في
الطيقان، فكانت الريح تدخل فيها فلا يزال العمود يسقط على الإنسان
فغيرها وأمر بستور هي أكثف من تلك الستور وبحبال، فأتي بها من جدة من
حبال السفن المتينة، وجعلت على تشبيك حباله اليوم، وكانت تجعل على
الناس كل جمعة فلم يزل كذلك حتى خرج محمد بن عبد الله بن حسن يوم
الأربعاء لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة سنة خمس وأربعين ومائة، فأمر
بها فقطعت ذرائع لمن كان يقاتل معه، فتركت حتى كان زمن هارون أمير
المؤمنين1 فأحدث هذه الأستار، ولم تكن في زمن بني أمية.
أنبأنا ذاكر بن كامل عن الحسن بن أحمد بن محمد الحداد عن أبي نعيم
الحافظ عن أبي جعفر الخلدي قال: أخبرنا محمد بن عبد الرحمن المخزومي
قال: حدثنا الزبير بن بكار قال: حدثني محمد بن الحسن بن زبالة قال:
حدثني حسين بن مصعب قال: أدركت كسوة الكعبة يؤتى بها المدينة قبل أن
تصل إلى مكة فتنشر على الرضراض في المسجد ثم يخرج بها إلى مكة وذلك في
سنة إحدى وثلاثين أو اثنتين وثلاثين ومائة.
ذكر المصاحف التي كانت
بالمسجد:
قال مالك بن أنس: أرسل الحجاج بن يوسف إلى أمهات القرى بمصاحف فأرسل
إلى المدينة بمصحف منها كبير وكان في صندوق عن يمين الأسطوان التي عملت
على مقام النبي -صلى الله عليه وسلم- وكان يفتح يوم الجمعة والخميس
فيقرأ فيه إذا صليت الصبح، وبعث المهدي بمصاحف لها أثمان، فجعلت في
صندوق عن يسار السارية، ووضعت منابر لها كانت تقرأ عليها، وحمل مصحف
الحجاج في صندوقه فجعل عند الأسطوان التي عن يمين المنبر، وإلى
الأسطوان الأخرى التي تليها صندوق آخر فيه مصحف بعث به المهدي؛ ليقرأ
فيها الناس على طبقة منبر صحيح، وفي القبلة صندوق لاصق بالمقصورة فيه
مصاحف يقرأ الناس فيها تصدقت بها حسنة أم ولد المهدي، ووضع رجل من أهل
البصرة يقال له أبو يحيى صندوقا وجمع فيه مصاحف يتعلم فيها الأميون
والأعاجم، قلت: وأكثر هذه المصاحف المذكورة دثرت على طول الزمان وتفرقت
أوراقها فهو مجموع في يومنا هذا في خلال المقصورة إلى جانب باب مروان،
وفي الحرم عدة مصاحف موقوفة، بخطوط ملاح مخزونة في خزانتين من ساج بين
يدي المقصورة خلف مقام النبي -صلى الله عليه وسلم- وهناك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تولى الخلافة من عام 170هـ، حتى عام 193هـ.
ج / 2 ص -440-
كرسي كبير فيه مصحف مقفل عليه أنفذ به من
مصر وهو عند الأسطوانة التي في صف مقام النبي -صلى الله عليه وسلم-
محاذي الحجرة الشريفة، وإلى جانبه مصحفان على كرسي يقرأ الناس فيهما
وليس في المسجد ظاهر سواهما.
ذكر السقايات التي كانت في
المسجد:
قال محمد بن الحسن بن زبالة1: كان في صحن مسجد رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- تسع عشرة سقاية إلى أن كتبنا كتابنا هذا في صفر سنة تسع
وتسعين ومائة: منها ثلاثة عشر أحدثتها خالصة وهي أول من أحدث ذلك،
ومنها ثلاث سقايات ليزيد البربري مولى أمير المؤمنين، ومنها سقاية لأبي
البحتري وهب بن وهب، وسقاية لسحر أم ولد هارون أمير المؤمنين، وسقاية
لسلسبيل أم ولد جعفر بن أبي جعفر، قلت: وأما الآن فليس في المسجد سقاية
إلا في وسطه، وفيه بركة كبيرة مبنية بالآجر والجص والخشب ينزل الناس
إليها بدرج أربع في جوانبها، والماء ينبع من فوارة في وسطها يأتي من
العين ولا يكون الماء فيها إلا في أيام الموسم إذا جاء الحاج وبقية
السنة تكون فارغة عملها بعض أمراء الشام واسمه شامة، وعملت الجهمة أم
الخليفة الناصر لدين الله وفقها الله توفيقا سديدا في مؤخر المسجد
سقاية كبيرة فيها عدة من البيوت، وحفرت لها بئرا، وفتحت بابا إلى
المسجد في الحائط الذي يلي الشام وهي تفتح في أيام الموسم.
ذكر ذرع المسجد اليوم وعدد
أساطينه وطبقاته وأبوابه وذكر تجديد عمارته وما وما يتعلق به من
الرسوم:
اعلم أن طول المسجد اليوم من قبلته إلى الشام مائتا ذراع وأربع وخمسون
ذراعا وأربعة أصابع، ومن شرقيه إلى غربيه مائة ذراع وسبعون ذراعا شافة،
وطول رحبته من القبلة إلى الشام مائة ذراع وتسع وخمسون ذراعا وثلاثة
أصابع، ومن شرقيه إلى غربيه سبع وتسعون ذراعا راجحة، وطول المسجد في
السماء خمس وعشرون ذراعا، هذا ما ذرعته أنا بخيط، وذكر محمد بن زبالة
أن طول مناراته خمس وخمسون ذراعا، وعرضهن ثمانية أذرع في ثمانية أذرع،
وأما طيقانه ففي القبلة إحدى عشرة طاقة، وفي الشام مثلها، وفي المشرق
والمغرب تسع عشرة طاقة وبين كل طاقتين أسطوان، ورءوس الطاقات مسددة
بشبابيك من خشب، وأما عدد أساطينه غير التي في الطيقان، ففي القبلة
ثمانٍ وستون أسطوانة منها في القبر صلى الله على ساكنه وسلم أربع، وفي
الشام مثله، وفي الشرق أربعون منها اثنتان في الحجرة وفي المغرب ستون
أسطوانا وبين كل أسطوان وأسطوان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لابن زبالة: كتاب في تاريخ المدينة والمسجد النبوي الشريف هو أصل لكل
من كتب حول هذا وقد ألفه عام 199هـ.
ج / 2 ص -441-
تسعة أذرع وأما أبوابه فكانت بعد زيادة
المهدي فيه: في المشرق باب علي رضي الله عنه، ثم باب النبي -صلى الله
عليه وسلم، ثم باب عثمان رضي الله عنه، ثم باب مستقبل دار ريطة، وباب
مستقبل دار أسماء بنت الحسن، ثم باب مستقبل دار خالد بن الوليد، ثم باب
مستقبل زقاق المصانع، ثم باب مستقبل ابنا الصوافي فذلك ثمانية أبواب:
منها باقٍ في يومنا هذا: باب عثمان والباب المقابل لدار ريطة وفي الشام
أربعة أبواب: الأول حذاء دار شرحبيل بن حسنة، والرابع حذاء بقية دار
عبد الله بن مسعود، وليس منها شيء مفتوح في زماننا هذا، وفي المغرب
سبعة أبواب: الخامس منها باب عاتكة والسادس باب زياد والسابع باب
مروان، وليس منها شيء مفتوح في يومنا هذا إلا باب عاتكة، ويعرف الآن
بباب الرحمة وهو الذي يلي باب الإمارة وفي دار مروان باب إلى المسجد
باقٍ على حاله حتى الآن، روى إبراهيم بن محمد عن ربيعة بن عثمان قال:
لم يبقَ من الأبواب التي كان رسول الله يدخل منها إلا باب عثمان، واعلم
أن حدود مسجد رسول الله من القبلة الدرابزينات التي بين الأساطين، ومن
الشام الخشبتان المغروزتان في صحن المسجد، فهذا طوله وأما عرضه من
المشرق إلى المغرب فهو من حجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى
الأسطوان الذي بعد المنبر وهو آخر البلاد. ولم تزل الخلفاء من بني
العباس ينفذون الأمراء على المدينة، ويمدونهم بالأموال؛ لتجديد ما
يتهدم من المسجد ولم يزل ذلك متصلًا إلى أيام الإمام الناصر لدين الله
أمير المؤمنين1؛ فإنه ينفذ في كل سنة من الذهب العين الأمامي ألف دينار
لأجل عمارة المسجد، وينفذ عدة من النجارين والبنائين والنقاشين
والجصاصين والحراقين والحدادين والدوزجاربة والحمالين، ويكون مادتهم ما
يأخذونه من الديوان ببغداد من غير هذه الألف المذكورة، وينفذ من الحديد
والرصاص والأصباغ والحبال والآلات شيئا كثيرا، ولا تزال العمارة متصلة
في المسجد ليلًا ونهارًا حتى إنه ليس به إصبع إلا عامرا وينفذ من
القناديل والشيرج2 والشمع عدة أحمال لأجل المسجد، وينفذ من الند
والغالية المركبة والعود لأجل تجمير المسجد شيئا كثيرا، وأما الرسوم
التي تصل من الديوان لغير العمارة فأربعة آلاف دينار من العين الأمامية
للصدقات على أهل المدينة من العلويين وغيرهم، وينفذ من الثياب القطن
ألف وخمسمائة ذراع لأجل أكفان من يموت من الفقراء الغرباء، هذا غير ما
ينفذ للخطيب وإمام الروضة وللمؤذنين وخدام المسجد، وذكر يوسف بن مسلم
أن زيت قناديل مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم كان يحمل من الشام حتى
انقطع في ولاية جعفر بن سليمان الأخيرة على المدينة، فجعله على سوق
المدينة، فلما ولي المدينة داود بن عيسى سنة سبع أو ثمانٍ وتسعين ومائة
أخرجه من بيت المال، قلت: وفي يومنا هذا يصل الزيت من مصر من وقف هناك،
ومقداره سبعة وعشرون قنطارا بالمصري والقنطار مائة وثلاثون رطلًا، ويصل
معه مائة وستون شمعة بيضاء كبار وصغار وعلبة فيها مائة مثقال ند.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو الناصر ابن المستضيء تولى الخلافة عام 576هـ حتى عام 622هـ.
2 هو نوع من أنواع الزيت ويسمى باللغة المصرية العامية "السيرج".
ج / 2 ص -442-
الباب الثالث عشر: في ذكر المساجد
التي بالمدينة وفضلها
اعلم أن المساجد والمواضع التي صلى بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
بالمدينة كثيرة وأساميها في الكتب مذكورة إلا أن أكثرها لا يعرف في
يومنا هذا، فذكره لا فائدة فيه هنا، فأما المساجد التي هي اليوم معروفة
فهي:
مسجد قباء:
روى البخاري في الصحيح أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لبث في
بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة وأسس المسجد الذي أسس على التقوى وصلى
فيه وخرج إلى المدينة.
أنبأنا عبد الرحمن بن علي قال: أنبأنا محمد بن أبي منصور، أخبرنا محمد
بن أحمد المقري، أنبأنا عبد الملك بن محمد الواعظ، حدثنا دعلج بن أحمد،
حدثنا ابن خزيمة، حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا إسماعيل بن أبي أوس، حدثني
أبي عن شرحبيل بن سعد عن عويمر بن ساعدة أن النبي -صلى الله عليه وسلم-
قال لأهل قباء:
"إن الله تعالى قد أحسن الثناء عليكم في الطهور قال:
{فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ
يَتَطَهَّرُوا} [التوبة: 108] إلى آخر الآية،
ما هذا الطهور؟"
فقالوا: ما نعلم شيئا إلا أنه كان لنا جيران من اليهود وكانوا يغسلون
أدبارهم من الغائط فغسلنا كما غسلوا.
وفي الصحيحين من حديث ابن عمر قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
يزور قباء راكبا وماشيا، وفي صحيح مسلم أن عبد الله بن عمر كان يأتي
قباء في كل سبت ويقول: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأتيه كل
سبت، وروى أبو عروبة قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأتي قباء كل
يوم الاثنين ويوم الخميس فجاء يوما فلم يجد أحدا من أهله فقال: والذي
نفسي بيده لقد رأيتنا ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبا بكر في
أصحابه ننقل حجارته على بطوننا ويؤسسه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
وجبريل عليه السلام، وروى البخاري في الصحيح قال: كان سالم مولى أبي
حذيفة يؤم المهاجرين الأولين من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
في مسجد قباء فيهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهم أجمعين. وروى أبو أمامة
ابن سهل بن حنيف عن أبيه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال:
"من توضأ فأسبغ الوضوء وجاء مسجد
قباء فصلى فيه ركعتين كان له أجر عمرة"،
وروت عائشة بنت سعد بن أبي وقاص عن أبيها قال: والله لأن أصلي في مسجد
قباء ركعتين أحب إلي من أن آتي إلى بيت القدس مرتين ولو
ج / 2 ص -443-
يعلمون ما فيه لضربوا إليه أكباد الإبل،
وروى نافع عن ابن عمر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى إلى الأساطين
الثلاث في مسجد قباء التي في الرحبة، قلت: لما هاجر النبي -صلى الله
عليه وسلم- إلى المدينة نزل في بني عمرو بن عوف بقباء في منزل كلثوم بن
الهرم، وأخذ مربده1 فأسسه مسجدا، وصلى فيه، ولم يزل ذلك المسجد يزوره
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مدة حياته ويصلي فيه أهل قباء فلما
توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم تزل الصحابة تزوره وتعظمه،
ولما بنى عمر بن عبد العزيز مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم- بنى مسجد
قباء ووسعه وبناه بالحجارة والجص، وأقام فيه الأساطين من الحجارة
داخلها عواميد الحديد والرصاص ونقشه بالفسيفساء وعمل له منارة وسقفه
بالساج وجعله أروقة وفي وسطه رحبة وتهدم حتى جدد عمارته جمال الدين
الأصبهاني وزير بني زنكي الملوك ببلاد الموصل2.
وذرعت مسجد قباء فكان طوله ثمانية وستين ذراعا تشف قليلا وعرضه كذلك،
وارتفاعه في السماء عشرون ذراعا وطول منارته من سطحه إلى رأسها اثنان
وعشرون ذراعا، وعلى رأسها قبة طولها نحو العشرة أذرع وعرض المنارة من
جهة القبلة عشرة أذرع شافة، ومن المغرب ثمانية أذرع، وفي المسجد تسعة
وثلاثون أسطوانا بين كل أسطوانين سبعة أذرع شافة، وفي جدارنه طاقات
نافذة إلى خارج في كل جانب ثمان طاقات إلى الجانب الذي يلي الشام،
والثامنة فيها المنارة فهي مسدودة والمنارة عن يمين المصلى وهي مربعة.
مسجد الفتح:
أنبأنا حنبل بن عبد الله الرصافي قال: أخبرنا أبو القاسم بن الخضر
أخبرنا أبو علي بن المهذب أنبأنا أبو بكر القطيعي حدثنا عبد الله بن
أحمد بن حنبل حدثني أبي حدثنا أبو عامر كثير يعني ابن زيد، حدثنا عبد
الله بن عبد الرحمن بن كعب بن مالك قال: حدثني جابر بن عبد الله أن
النبي -صلى الله عليه وسلم- دعا في مسجد الفتح يوم الاثنين ويوم
الثلاثاء ويوم الأربعاء فاستجيب له يوم الأربعاء بعد الصلاتين، فعرف
البشر في وجهه، أنبأنا القاسم بن علي أخبرنا هبة الله بن أحمد أخبرنا
أبو منصور بن شكرويه أخبرنا إبراهيم بن عبد الله حدثنا أبو عبد الله
المحاملي حدثنا علي بن سالم حدثنا إسماعيل بن أبي فديك عن معاذ بن سعيد
السلمي عن أبيه عن جابر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مر بمسجد
الفتح الذي على الجبل وقد حضرت صلاة العصر فرقي فصلى فيه صلاة العصر،
وروى هارون بن كثير عن أبيه عن جده أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
يوم الخندق دعا على الأحزاب في موضع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المربد: موضع يجفف فيه التمر "وهو الجرن والجرين والمسطح".
2 وذلك عام 555هـ، وقد جدد أيضا عام 671هـ، وعام 733هـ في عهد الناصر
بن قلاوون، وعام 840هـ، وعام 881هـ، وفي عهد السلطان عبد المجيد.
ج / 2 ص -444-
الأسطوانة الوسطى من مسجد الفتح الذي على
الجبل؛ قلت: وهذا المسجد على رأس جبل يصعد إليه بدرج، وقد عمر عمارة
جديدة وعن يمينه في الوادي نخل كثير، ويعرف ذلك الموضع بالسيح ومساجد
حوله وهي ثلاثة قبلة الأول منها خراب قد هدم وأخذت حجارته، والآخران
معموران بالحجارة والجص، وهما في الوادي عند النخل، وروى معاذ بن سعد
أن رسول الله عليه السلام صلى في مسجد الفتح في الجبل وفي المساجد التي
حوله1.
مسجد القبلتين:
روى عثمان بن محمد الأحبشي قال: زار رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
امرأة من بني سلمة يقال لها: أم بشير في بني سلمة، فصنعت له طعاما،
فجاء الظهر فصلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأصحابه في مسجد
القبلتين الظهر فلما صلى ركعتين أمر أن يتوجه إلى الكعبة، فاستدار رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- فسمي ذلك المسجد مسجد القبلتين، وكانت يومئذ
أربع ركعات منها ثنتان إلى بيت المقدس وثنتان إلى الكعبة، وقال سعيد بن
المسيب2: صرفت القبلة قبل بدر بشهرين، والثابت عندنا أنها صرفت في
الظهر في المسجد، قلت: وهذا المسجد بعيد من المدينة قريب من بئر رومة
وقد انهدم وأخذت حجارته وبقيت آثاره وموضعه يعرف بالقاع3.
مسجد الفضيخ4:
روي عن هشام بن عروة والحارث بن فضيل أنهما قالا: صلى النبي -صلى
الله عليه وسلم- في مسجد الفضيخ5، قلت: وهذا المسجد قريب من قباء ويعرف
بمسجد الشمس وهو حجارة مبنية على نشز من الأرض.
مسجد بني قريظة6:
روى علي بن رفاعة عن أشياخ من قومه أن النبي -صلى الله عليه وسلم-
صلى في بيت امرأة فأدخل ذلك البيت في مسجد بني قريظة وهو المكان الذي
صلى فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- ببني قريظة،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يقع مسجد الفتح في شمال المدينة الغربي في جبل يقال له سلع، ويسمى
أيضا: مسجد الأحزاب، والمسجد الأعلى، وهو في المكان الذي قام فيه
الرسول يدعو على الأحزاب في غزوة الخندق، فاستجاب الله دعاءه، وهزم
الأحزاب، وقد عمره عمر بن عبد العزيز، ثم جدد عام 575هـ بأمر أمير مصر.
2 من كبار التابعين بالمدينة توفي عام 110هـ.
3 جدد بناؤه عام 893هـ في عهد المماليك، وعام 950هـ في عهد السلطان
سليمان العثماني.
4 هو شرقي مسجد قباء.
5 وذلك في مدة حصاره لبني النضير.
6 يقع شرقي مسجد الفضيخ، وقد جدده الشجاعي شاهين الجمالي شيخ المسجد
النبوي سنة 893هـ.
ج / 2 ص -445-
قلت: وهذا المسجد اليوم باقي بالعوالي وهو
كبير طوله نحو عشرين ذراعا وعرضه كذلك، وفيه ست عشر أسطوانة قد سقط
بعضها وهو بلا سقف وحيطانه مهدومة، وقد كان مبنيا على شكل بناء مسجد
قباء وحوله بساتين ومزارع ومشربة أم إبراهيم ابن النبي عليه السلام،
وهذا الموضع بالعوالي من المدينة بين النخل وهو أكمة قد حوط عليها بلبن
والمشربة والبستان، وأظنه قد كان بستانا لمارية القبطية أم إبراهيم
النبي -صلى الله عليه وسلم- والله أعلم...
واعلم أن بالمدينة عدة مساجد خراب فيها المحاريب وبقايا الأساطين وتنقض
وتؤخذ حجارتها فتعمر بها الدور، منها: مسجد بقباء قريب من مسجد الضرار
فيه أسطوانات قائمة ومسجدان قريبان من البقيع أحدهما يعرف بمسجد
الإجابة، وفيه أسطوانات قائمة ومحراب مليح وباقيه خراب، وآخر يعرف
بمسجد البغلة فيه أسطوانة واحدة وهو خراب، وحوله يسير من الحجارة فيه
أثر يقولون إنه أثر حافري بغلة النبي -صلى الله عليه وسلم- فتستحب
الصلاة في هذه المواضع وإن لم يعرف أساميها لأن الوليد بن عبد الملك
كتب إلى عمر بن عبد العزيز وهو واليه على المدينة: مهما صح عندك من
المواضع التي صلى فيها النبي -صلى الله عليه وسلم- فابن عليه مسجدًا
فهذه الآثار كلها آثار بناء عمر بن عبد العزيز.
الباب الرابع عشر: في ذكر مسجد الضرار وهدمه
هذه المسجد بناه المنافقون مضاهاة لمسجد قباء
فكانوا يجتمعون فيه ويعيبون النبي -صلى الله عليه وسلم- ويستهزئون به،
وكان الذين بنوه اثني عشر رجلًا: حرام بن خالد، ومن داره أخرجه،،
وثعلبة بن حاطب، ومعتب بن قشير، وأبو حبيبة بن الأزعر، وعباد بن حنيف،
وحارثة بن عامر، وابناه مجمع، وزيد،، ونفيل بن الحارث، ومحدج، وبجاد بن
عثمان، ووديعة بن ثابت؛ فلما بنوه أتوا النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو
يتجهز إلى تبوك فقالوا: يا رسول الله إنا قد بنينا مسجدا لذي العلة
والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية، وإنا نحب أن تأتينا فتصلي
لنا فيه، فقال: "إني على جناح سفر وحال شغل، ولو قد قدمنا إن شاء الله
لأتيناكم فصلينا لكم فيه"، فلما نزل رسول الله "بذي أوان"، وهو بلد
بينه وبين المدينة ساعة من نهار ومرجعه من تبوك أتاه خبر المسجد، فدعا
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مالك بن الدخسم ومعن بن عدي أو أخاه
عاصما، فقال: "انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فأهِدَّاه وحرقاه"،
فخرجا سريعين حتى أتيا بني سالم بن عوف، فأخذا سعفا من النخل، وأشعلا
فيه نارا، ثم خرجا يشتدان حتى دخلا المسجد وفيه أهله فحرقاه وهدماه
وتفرق أهله عنه ونزل فيه من القرآن ما نزل:
{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا} إلى آخر القصة.
قلت: وهذا المسجد قريب من مسجد قباء وهو كبير وحيطانه عالية، وتؤخذ منه
الحجارة وقد كان بناؤه متينا.
ج / 2 ص -446-
الباب الخامس عشر: في ذكر وفاة
النبي -صلى الله عليه وسلم- وصاحبيه رضي الله عنهما
روي عن أبي مويهبة مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: بعثني
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من جوف الليل فقال: يا أبا مويهبة إني
قد أمرت أن أستغفر لأهل البقيع فانطلق معي فانطلقت معه؛ فلما وقف بين
أظهرهم قال: السلام عليكم يا أهل أهل المقابر ليهن لكم ما أصبحتم فيه
مما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها،
الآخرة شر من الأولى. ثم أقبل علي وقال: يا أبا مويهبة إني قد أوتيت
مفاتيخ خزائن الدنيا والخلد فيها، ثم الجنة فخيرت بين ذلك وبين لقاء
ربي الجنة قال: فقلت بأبي أنت وأمي يا رسول الله فخذ مفاتيح خزائن
الدنيا والخلد فيها ثم الجنة، قال: لا والله يا أبا مويهبة لقد اخترت
لقاء ربي والجنة، ثم استغفر لأهل البقيع ثم انصرف فبدأ برسول الله وجعه
الذي قبضه الله فيه.
وروي عن عائشة رضي الله عنها قالت: رجع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
من البقيع فوجدني وأنا أجد صداعا في رأسي، وأنا أقول وارأساه فقال:
"بل والله يا عائشة وارأساه"؛ فقال:
"وما ضرك لو مت قبلي فقمت عليك وكفنتك وصليت عليك ودفنتك"، قالت: قلت: لكأني بك قد فعلت ذلك، ثم رجعت إلى بيتي فأعرست فيه
ببعض نسائك، قالت: فتبسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتتام به وجعه
وهو يدور على نسائه حتى اشتد به وجعه وهو في بيت ميمونة فدعا نساءه وكن
تسعا: عائشة وحفصة وأم سلمة وأم حبيبة وسودة وزينب وميمونة وجويرية
وصفية فاستأذنهن على أن يمرض في بيت عائشة فأذن له فخرج رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- يمشي بين العباس وعلي رضي الله عنهما عاصبا رأسه تخط
قدماه الأرض حتى دخل بيت عائشة ثم حم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
واشتد وجعه فقال:
"هريقوا علي من من سبع قرب من
آبار شتى حتى أخرج إلى الناس فأعهد إليهم"
فأقعدوه -صلى الله عليه وسلم- في مخضب وصبوا عليه الماء وخرج رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- عاصبا رأسه حتى جلس على المنبر فصلى على أصحاب
أحد واستغفر لهم وأكثر الصلاة عليهم ثم قال:
"إن عبدًا من عباد الله خيره الله
عز وجل بين الدنيا والآخرة وبين ما عنده فاختار ما عنده" قال: ففهمها أبو بكر، وعرف أن نفسه يريد وقال: بل نحن نفديك
بأنفسنا وأبنائنا، ثم قال رسول الله عليه السلام:
"يا معشر المهاجرين استوصوا بالأنصار خيرًا فإن الناس يزيدون والأنصار
على هيئتها لا تزيد وإنهم كانوا عيبتي التي آويت إليها فأحسنوا إلى
محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم" ثم نزل فدخل بيته وتتام به وجعه، وروى البخاري
في الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ما رأيت أحدا الوجع
عليه أشد من رسول الله.
وفيه أيضا من حديث عبد الله بن مسعود قال: دخلت على النبي وهو يوعك
فقلت: يا رسول الله إنك توعك وعكا شديدا قال:
"أجل إني أوعك كما يوعك رجلان
ج / 2 ص -447-
منكم"،
ولما اشتد به وجعه -صلى الله عليه وسلم- جاءه بلال يؤذنه بصلاة الفجر
من يوم الاثنين، قال:
"مروا أبا بكر فليصل بالناس"؛ فلما تقدم أبو بكر يصلي بالناس وجد رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- خفة فخرج على الناس قال أنس: فخرج رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- على الناس وهم يصلون الصبح فرفع الستر وقام على باب عائشة فكان
المسلمون يفتتنون في صلاتهم برسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين رأوه
فرحا به وتفرجوا؛ فأشار إليهم أن اثبتوا على صلاتكم قال: وتبسم رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- سرورا لما رأى من هيئتهم في صلاتهم وما رأيت
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحسن هيئة منه تلك الساعة، قال أبو بكر
بن أبي مليكة: فلما تفرج الناس عرف أبو بكر أنهم لم يفعلوا ذلك إلا
لرسول الله فنكص عن مصلاه فدفعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في
طهره وقال:
"صل بالناس" وجلس الرسول إلى جانبه فصلى
قاعدا عن يمين أبي بكر فلما فرغ من الصلاة أقبل على الناس فكلمهم رافعا
صوته حتى خرج صوته من باب المسجد يقول:
"يا أيها الناس سعرت النار وأقبلت
الفتن كقطع الليل المظلم وإني والله ما تمسكون علي بشيء إني لم أحل إلا
ما أحل القرآن ولم أحرم إلا ما حرم القرآن"؛
فلما فرغ -صلى الله عليه وسلم- من كلامه قال له أبو بكر: يا نبي الله
إني أراك قد أصبحت بنعمة من الله وفضل كما نحب واليوم يوم بنت خارجة
أفآتيها؟ قال: نعم قال: ثم دخل عليه السلام وخرج أبو بكر إلى أهله
بالسيح وخرج يومئذ علي بن أبي طالب رضي الله عنه على الناس من عند رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- فقال له الناس: يا أبا الحسن كيف أصبح رسول
الله؟ فقال: أصبح بحمد الله بارئا، قال: فأخذ العباس بيده، وقال: يا
علي أحلف بالله لقد رأيت الموت في وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
كما كنت أعرفه في وجوه بني عبد المطلب.
وفي صحيح البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: دعا النبي -صلى
الله عليه وسلم- فاطمة في شكواه الذي قبض فيه فسارها بشيء؛ فبكت ثم
دعاها فسارها فضحكت فسألتها عن ذلك فقالت: سارني أنه يقبض في وجعه
فبكيت ثم سارني أني أول أهله لحوقا به فضحكت، وفيه من حديثها أيضا أنها
قالت: إن من نعم الله علي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- توفي في
بيت وفي يومي وبين سحري ونحري وإن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته،
دخل علي عبد الرحمن بن أبي بكر وأنا مسندة النبي -صلى الله عليه وسلم-
إلى صدري ومعه سواك رطب يستن به؛ فرأيته ينظر إليه وعرفت أنه يحب
السواك فقلت آخذه لك فأشار برأسه أن نعم فلينته وطيبته ثم دفعته إليه
فاستن به فما رأيت النبي عليه السلام استن استنانا قط أحسن منه وبين
يديه ركوة فيها ماء فجعل يدخل يده في الماء فيمسح بها وجهه ويقول:
"لا إله إلا الله، إن للموت
لسكرات" ثم نصب يديه فجعل يقول:
"في الرفيق الأعلى"
حتى قبض ومالت يده.
قالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو
صحيح يقول إنه لن يقبض نبي قط حتى يرى مقعده من الجنة ثم يخير؛ فلما
اشتكى وحضره القبض ورأسه على
ج / 2 ص -448-
فخذي غشي عليه فلما أفاق شخص بصره نحوه سقف
البيت ثم قال:
"اللهم في الرفيق الأعلى"؛ فقلت: إذا لا يختارنا فعرفت أنه حديثه الذي كان يحدثنا وهو صحيح.
وقالت عائشة رضي الله عنها: سمعت رسول الله عليه السلام وأصغيت إليه
قبل أن يموت وهو مسند إلى ظهره يقول:
"اللهم اغفر لي وارحمني وألحقني
بالرفيق الأعلى"، ولما تغشاه الموت قالت فاطمة
رضي الله عنها: واكرب أباه، قال لها:
"ليس على أبيك كرب بعد اليوم"، قالت عائشة: وثقل رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- في حجري فنظرت في وجهه وإذا بصره قد شخص وهو
يقول:
"بل الفريق الأعلى في الجنة"،
وقبض -صلى الله عليه وسلم، قالت: فوضعت رأسه على وسادة وقمت أندب مع
النساء أضرب وجهي وقالت فاطمة رضي الله عنها تندبه: يا أبتاه أجاب ربا
دعاه، يا أبتاه في جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه إلى جبريل ننعاه، وقال
جبريل للنبي عند موته: يا أحمد هذا آخر وطئي في الأرض ولا أنزل إليها
أبدا بعد إنما كانت حاجتي من الدنيا، وكانت وفاته -صلى الله عليه وسلم-
حين اشتد الضحى من يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة مضت من ربيع الأول سنة
إحدى عشرة من الهجرة عن ثلاث وستين سنة من عمره وكمل بالمدينة من يوم
دخلها إلى يوم مات عشر سنين كوامل مبلغا لرسالات الله مجاهدا لأعدائه.
ولما توفي رسول الله قام عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: إن رجالا من
المنافقين يزعمون أن رسول الله قد توفي، وإن رسول الله ما مات؛ ولكنه
ذهب إلى ربه كما ذهب موسى فإنه غاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع إليهم
بعد أن قيل قد مات ووالله ليرجعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أنه قد مات، قالوا: وأقبل أبو بكر على
فرس من مسكنه بالسيح فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة فيمم رسول الله
وهو مسجى بثوب حبرة فشكف عن وجهه ثم أكب عليه فقبله وبكى ثم قال: بأبي
وأمي أنت والله لا يجمع الله عليك موتتين: أما الموتة التي كتبت عليك
فقدمتها، ثم لن يصيبك بعدها موتى أبدا ثم رد البرد على وجهه وخرج عمر
بن الخطاب يكلم الناس فقال: على رسلك يا عمر أنصت فأبى إلا أن يتكلم؛
فلما رآه أبو بكر لا ينصب أقبل على الناس؛ فلما سمع الناس كلامه أقبلوا
عليه وتركوا عمر فحمد الله، وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إنه من كان
يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت،
قال: ثم تلا هذه الآية {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ
الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى
أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ
اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144] قال: فوالله
لكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية نزلت حتى تلاها أبو بكر يومئذ قال:
وأخذها الناس عن أبي بكر فهي في
أفواههم قال عمر: فوالله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت حتى
وقعت إلى الأرض ما تحملني رجلاي وعرفت أن رسول الله قد مات، ولما مات
رسول الله قالوا: والله لا يدفن، ومات مات وإنه ليوحى إليه فأخروه حتى
أصبحوا من يوم الثلاثاء وقال العباس: إنه قد مات
ج / 2 ص -449-
وإني لأعرف منه موت بني عبد المطلب وقال
القاسم بن محمد ما دفن رسول الله حتى عرف الموت في أظفاره قالت عائشة
رضي الله عنها ما أرادوا غسل رسول الله اختلفوا فقالوا: والله ما ندري
أيجرد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما نجرد موتانا؟ أو نغسله وعليه
ثيابه، قالت: فلما اختلفوا ألقى عليهم النوم حتى ما منهم رجل إلا ذقنه
في صدره ثم كلمهم مكلم من ناحية البيت لا يدرون من هو أن اغسلوا النبي
وعليه ثيابه قالت: فقاموا إلى رسول الله فغسلوه وعليه قميصه يصبون
الماء فوق القميص دون أيديهم وغسله علي رضي الله عنه أسنده إلى صدره
وعليه قميصه يدلكه به من ورائه لا يفضي بيده إلى رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- وابناه الفضل وقثم يقلبونه معه وأسامة بن زيد وشقران مولى
النبي يصبان الماء عليه وعلي يقول: بأبي أنت وأمي ما أطيبك حيا وميتا
ولم يرد من رسول الله شيء مما يرى من الميت فلما فرغوا من غسله كفن.
روى البخاري في الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنه أنها قالت: كفن رسول
الله في ثلاثة أثواب بيض سحولية من كرسف ليس فيها قميص ولا عمامة فلما
فرغ من جهاز رسول الله يوم الثلاثاء وضع على سريره في بيته، ثم دخل
الناس يصلون عليه أرسالا -أي جماعات: الرجال ثم النساء ثم الصبيان ولم
يؤم الناس على رسول الله أحد.
واختلفوا في دفنه فأنبأنا عبد الرحمن بن علي، أخبرنا أبو الحسن الفقيه،
أخبرنا علي بن أحمد البندار، أنبأنا عبيد الله بن محمد العكبري، حدثنا
أبو عبد الله بن مخلد، حدثنا علي بن سهل بن المغيرة، حدثنا محمد بن
عمر، حدثنا عبد الحميد بن جعفر عن عثمان بن محمد الأخنسي عن عبد الرحمن
بن سعيد بن يربوع، قال: لما توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
اختلفوا في موضع قبره فقال قائل: بالبقيع فإنه كان يكثر الاستغفار لهم
وقال قائل: منهم عند منبره وقال قائل: منهم في مصلاه فجاء أبو بكر رضي
الله عنه فقال: إن عندي من هذا خبرا وعلما سمعت رسول الله يقول:
"ما قبض نبي إلا دفن حيث توفي".
أخبرنا الحسن بن محمد الواعظ، أنبأنا أحمد بن جعفر القطيعي، حدثنا عبد
الله بن أحمد بن محمد بن حنبل، حدثني أبي، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا
ابن جريج قال: أخبرني أبي أن أصحاب النبي لم يدروا أين يقبرون رسول
الله حتى قال أبو بكر رضي الله عنه فأخروا فراشه وحفروا له تحت فراشه،
وروى عكرمة عن ابن عباس قال: لما أرادوا أن يحفروا لرسول الله عليه
السلام وكان أبو عبيدة يضرح حفر أهل مكة وكان أبو طلحة يلحد لأهل
المدينة؛ فدعا العباس رجلين فقال لأحدهما: اذهب إلى أبي عبيدة وللآخر
اذهب إلى أبي طلحة، اللهم خر لرسولك؛ فوجد صاحب أبي طلحة أبا طلحة فجاء
به فلحد لرسول الله ثم دفن رسول الله من وسط الليل ليلة الأربعاء وكان
الذين نزلوا قبره علي بن أبي طالب والفضل وقثم ابن العباس، وشقران مولى
رسول الله وبنى على لحده
ج / 2 ص -450-
تسع لبنات نصبن نصبا، وروى جعفر بن محمد
الصادق عن أبيه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رش على قبره وجعل عليه
حصباء حمراء من حصباء العرصة ورفع قدر شبرين من الأرض، وروى البخاري في
الصحيح من حديث أبي بكر بن عياش عن سفيان التمار أنه حدثه أنه رأى قبر
النبي مسنما.
وفي صحيح البخاري من حديث أنس بن مالك أنه قال: لما دفن النبي قالت
فاطمة رضي الله عنها: يا أنس، أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله
التراب؟ أنبأنا أبو جعفر الواسطي، عن أبي طالب، عن ابن يوسف، أخبرنا
أبو الحسن بن الأبنوسي، عن عمر بن شاهين، أخبرنا محمد بن موسى، حدثنا
أحمد بن محمد الكاتب، حدثني طاهر بن يحيى، حدثني أبي عن جدي عن جعفر بن
محمد عن أبيه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لما رمس رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- جاءت فاطمة رضي الله عنها فوقفت على قبره وأخذت
قبضة من تراب القبر فوضعته على عينها وبكت وأنشأت تقول:
ماذا على من شم تربة أحمد
أن لا يشم مدى الزمان غواليا
صبت على مصائب لو أنها
صبت على الأيام عدن لياليا
روي عن أبي جعفر محمد بن علي أنه قال: ما رأيت فاطمة رضي
الله عنها بعد أبيها ضاحكة ومكثت بعده ستة أشهر.
وروى حجاج بن عثمان عن أبيه قال: رأيتهم اجتمعوا يوم مات النبي على
أكمة فجعلوا يبكون عليه.
وروى البخاري في الصحيح من حديث أبي بردة قال: أخرجت إلينا عائشة كساء
وإزارا غليظا فقالت: قبض روح رسول الله في هذين.
وروى أنس من حديث عائشة قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في
مرضه الذي لم يقم منه: لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم
مساجد، ولولا ذلك أبرز قبره؛ غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا، أنبأنا يحيى
بن أسعد بن بوش عن أبي علي الحداد عن أبي نعيم الحافظ عن جعفر الخلدي،
أنبأنا يزيد المخزومي، حدثنا الزبير بن بكار، حدثنا محمد بن الحسن قال:
حدثني غير واحد، منهم عبد العزيز بن أبي حازم ونوفل بن عمارة قالوا: إن
عائشة رضي الله عنها كانت تسمع صوت الوتد والمسمار يضرب في بعض الدور
المطنبة بمسجد النبي -صلى الله عليه وسلم- فترسل إليهم أن لا تؤذوا
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما عمل علي بن أبي طالب رضي الله عنه
مصراعي داره إلا بالمناصع توقيا لذلك، وروي أن بعض نساء النبي -صلى
الله عليه وسلم- دعت نجارا يغلق ضبة لها، وأن النجار ضرب المسمار في
الضبة ضربا شديدا فصاحت عائشة بالنجار وكلمته كلاما شديدا وقالت: ألم
تعلم أن حرمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ميتا كحرمته إذا كان كان
حيا قالت الأخرى: وماذا سمع من هذا قالت عائشة رضي الله عنها:
ج / 2 ص -451-
إنه ليؤذي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
صوت هذا الضرب كما لو كان يؤذيه حيا صلى الله عليه وسلم تسليما.
ذكر وفاة أبي بكر رضي الله
عنه:
ذكر محمد بن جرير الطبري بإسناد له أن اليهود سمت أبا بكر في أرزه،
ويقال في خزيرة وتناول معه الحارث بن كلدة منها ثم كف وقال لأبي بكر:
أكلت طعاما مسموما؛ فسم لسنته فمات بعد سنة ومرض خمسة عشر يوما فقيل
له: لو أرسلت إلى الطبيب، فقال: قد رآني، قالوا: فما قالك لك؟ قال: قال
إني أفعل ما أشاء، وقالت عائشة رضي الله عنها: كان أول ما بدا أبو بكر
رضي الله عنه أنه اغتسل يوم الاثنين لسبع خلون من جمادى الآخرة وكان
يوما باراد فحم خمسة عشر يوما لا يخرج إلى الصلاة وكان يأمر عمر بن
الخطاب يصلي بالناس ويدخل عليه الناس يعودونه وهو يثقل كل يوم وهو
يومئذ نازل في داره التي قطعها له رسول الله وجاه دار عثمان بن عفان،
قال أهل السير كان ينزل أبو بكر بالسيح عند زوجته بنت خارجة بن زيد
وأقام بالسيح بعدما بويع له بالخلافة ستة أشهر يغدو على رجليه إلى
المدينة وربما ركب على فرس له وعليه إزار ورداء فيوافي المدينة؛ فيصلي
الصلاة بالناس فإذا صلى العشاء رجع إلى أهله بالسيح؛ فكان إذا حضر صلى
وإن لم يحضر صلى بهم عمر بن الخطاب، وكان تاجرا يغدو كل يوم إلى السوق
فيبيع، وكانت له قطعة غنم تروح عليه وربما خرج بالغنم لرعيها وربما
كفيها ورعيت له، وكان يحلب للحي أغنامه؛ فلما بويع له بالخلافة قالت
جارية من الحي: الآن لا يحلب لنا منائح دارنا، فسمعها أبو بكر فقال بل
لعمري لأحلبنها لكم وإني لأرجو ربي أن لا يغيرني ما دخلت فيه عن خلق
كنت عليه؛ فكان يحلب لهم ثم نزل المدينة فأقام بها ونظر في أمره فقال
والله ما يصلح أمر الناس والتجارة وما يصلحهم إلا التفرغ لهم والنظر في
شأنهم ولا بد لعيالي مما يصلحهم فترك التجارة واستنفق من بيت مال
المسلمين ما يصلحه ويصلح عياله يوما بيوم ويحج ويعتمر، وكان الذي فرضوا
له في كل سنة ستة آلاف درهم؛ فلما حضرته الوفاة قال: ردوا ما علي من
مال المسلمين فإني لا أصيب من هذا المال شيئا وإن أرضى التي بمكان كذا
وكذا للمسلمين بما أصبت من أموالهم؛ فدفع ذلك إلى عمر فقال عمر: لقد
أتعب من بعده.
روى البخاري في الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: دخلت على أبي
بكر رضي الله عنه فقال: في كم كفنتم النبي؟ قالت: في ثلاثة أثواب بيض
سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة، وقال لها: في أي يوم توفي رسول الله؟
قالت: يوم الاثنين قال: فأي يوم هذا؟ قالت: يوم الاثنين، قال: أرجو
فيما بيني وبين الليلة؛ فنظرت إلى ثوب عليه كما يمرض فيه به ردغ من
زعفران فقال: اغسلوا ثوبي هذا وزيدوا عليه ثوبين
ج / 2 ص -452-
وكفنوني فيها قلت: إن هذا لخلق قال: إن
الحي أحق بالجديد من الميت؛ فلم يتوف حتى أمسى من ليلة الثلاثاء ودفن
قبل الصبح، وكان آخر ما تكلم به أبو بكر رضي الله عنه: رب توفني مسلما
وألحقني بالصالحين، وتوفي بين المغرب والعشاء من ليلة الثلاثاء لثمان
بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة من الهجرة فكانت خلافته سنتين
وثلاثة أشهر وعشر ليال وكان عمره ثلاثا وستين سنة وغسلته زوجته أسماء
بنت عميس بوصية منه وابنه عبد الرحمن يصب عليه الماء، وكفن وحمل على
السرير الذي حمل عليه رسول الله وصلى عليه عمر في مسجد رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- وجاء المنبر ودفن ليلة الثلاثاء إلى جنب رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- وألصقوا لحده بلحده ودخل قبره عمر وعثمان وطلحة
وعبد الرحمن ابنه رضي الله عنهم وكان أبوه قحافة حيا بمكة؛ فلما نعي
إليه قال: رزء جليل، وعاش بعده ستة أشهر وأياما، وتوفي في المحرم سنة
أربع عشرة بمكة وهو ابن سبع وتسعين سنة رضي الله عنهما.
ذكر وفاة عمر رضي الله عنه:
روى أبو بكر بن أبي شيبة في مسنده من حديث معدان بن أبي طلحة أن عمر بن
الخطاب رضي الله عنه قام يوم الجمعة خطيبا؛ فحمد الله وأثنى عليه ثم
ذكر نبي الله -صلى الله عليه وسلم- وأبا بكر رضي الله عنه، ثم قال:
أيها الناس إني قد رأيت رؤيا كأن ديكا أحمر نقرني نقرتين ولا أدري ذلك
إلا لحضور أجلي، وإن ناسا يأمرون أن أستخلف وإن الله لم يكن يضيع دينه
وخلافته والذي بعث به نبيه، فإن عجل بي أمر فالخلافة شورى بين هؤلاء
الرهط الستة الذين توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو عنهم راض
فأيهم بايعوا فاسمعوا له وأطيعوا وذكر كلاما طويلا قال: فخطب بها عمر
يوم الجمعة وأصيب يوم الأربعاء.
وروى البخاري في الصحيح من حديث عمرو بن ميمون قال: إني لقائم ما بيني
وبين عمر إلا عبد الله بن عباس حذاءه غداة أصيب وكان إذا مر بين الصفين
قال: استووا حتى إذا لم ير فيهم خللا تقدم فكبر، وربما قرأ سورة يوسف
والنحل أو نحو ذلك في الركعة الأولى حتى يجتمع الناس؛ فما هو إلا أن
كبر فسمعته يقول: قتلني أو أكلني الكلبي حين طعنه أبو لؤلؤة غلام
المغيرة وصار العلج بسكين ذات طرفين لا يمر على أحد يمينا وشمالا إلا
طعنه حتى طعن ثلاثة عشر رجلا مات منهم سبعة؛ فلما رأى ذلك رجل من
المسلمين طرح علينا برنسا؛ فلما ظن العلج أنه مأخوذ نحر نفسه وتناول
عمر يد عبد الرحمن بن عوف فقدمه؛ فمن يلي عمر قد رأى الذي رأى وأما
أواخر المسجد فإنهم لا يدرون؛ غير أنهم قد فقدوا صوت عمر وهم يقولون
سبحان الله سبحان الله فصلى بهم عبد الرحمن صلاة خفيفة فلما انصرفوا
قال: يا ابن عباس انظر من قتلني فجال ساعة ثم جاء فقال غلام المغيرة
قال الصانع؟ قال: نعم قال: قاتله الله لقد أمرت به
ج / 2 ص -453-
معروفا، وقال الحمد لله الذي لم يجعل منيتي
على يد رجل يدعي الإسلام واحتمل إلى بيته؛ فانطلقنا معه وكأن الناس لم
تصبهم مصيبة قبل ذلك فقائل يقول: لا بأس وقائل يقول أخاف عليه فأتى
بنبيذ فشربه فخرج من جوفه فعرفوا أنه ميت فدخلنا عليه وجاء الناس يثنون
عليه وجاء شاب فقال: أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لك في صحبة رسول
الله وقدمك في الإسلام ما قد علمت، ثم وليت فعدلت، ثم الشهادة قال:
وددت أن ذلك كان كفافا لا علي ولا ولي؛ فلما أدبر رأى رداءه يمس الأرض
قال: ردوا على الغلام، قال: يا ابن أخي ارفع ثوبك فإنه أتقى وأنقى
لثوبك يا عبد الله بن عمر انظر ما علي من الدين، فحسبوه فوجوده ستة
وثمانين ألفا أو نحوه قال: إن وفى له مال آل عمر فأده من أموالهم وإلا
فاسأل في بني عدي بن كعب فإن لم تف أموالهم فاسأل في قريش ولا تعدهم
إلى غيرهم انطلق إلى عائشة أم المؤمنين أميرا وقل يستأذن عمر بن الخطاب
أن يدفن مع صاحبيه، فسلم واستأذن ثم دخل عليها فوجدها قاعدة تبكي فقال:
يقرأ عليك السلام عمر بن الخطاب ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه، فقالت: كنت
أريده لنفسي ولأوثرنه به اليوم على نفسي فلما أقبل قيل هذا عبد الله بن
عمر قد جاء قال: ارفعوني فأسنده رجل إليه فقال ما لديك قال: الذي تحب
يا أمير المؤمنين أذنت فقال: الحمد لله ما كان أهم إلي من ذلك فإذا أنا
قبضت فاحملوني إلى مقابر المسلمين، وجاءت أم المؤمنين حفصة والنساء معه
فلما رأينها قمن فولجت عليه فبكت عنده ساعة، واستأذن الرجال فولجت
داخلا، فسمعنا بكاءها من داخل فقالوا: أوص يا أمير المؤمنين، استخلف
قال: ما أجد أحدا أولى وأحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر أو الرهط الذين
توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو عنهم راض؛ فسمى عليا وعثمان
والزبير وطلحة وسعدا وعبد الرحمن بن عوف وقال: اشهد يا عبد الله بن عمر
ليس لك من الأمر شيء وأوص الخليفة من بعدي بالمهاجرين الأولين أن يعرف
لهم حقهم ويحفظ لهم حرمتهم وأوصه بالأنصار خيرا الذين تبوءوا الدار
والإيمان من قبلهم أن يقبل أن محسنهم، وأن يعفو عن مسيئهم، وأوصيه بأهل
الأمصار خيرا؛ فإنهم ردء الإسلام وجباة المال وغيظ العدو ولا يأخذ منهم
إلا فضلهم عن رضاهم، وأوصيه بالأعراب خيرا؛ فإنهم أصل العرب ومادة
الإسلام أن يأخذ من حواشي أموالهم ويرد على فقرائهم وأوصيه بذمة الله
وذمة رسوله أن يوفي لهم بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم ولا يكلفوا إلا
طاقتهم؛ فلما قبض رضي الله عنه خرجنا به فانطلقنا نمشي فسلم عبد الله
بن عمر، وقال: يستأذن عمر بن الخطاب قالت: أدخلوه فأدخل موضعا هناك مع
صاحبيه قلت: وباع عبد الله بن عمر دارا لعمر بن الخطاب ومالا له
بالغابة ثم قضى دين أبيه وكانت وفاته رضي الله عنه يوم الأربعاء لأربع
بقين من ذي الحجة سنة ثلاث
ج / 2 ص -454-
وعشرين من الهجرة، وكانت خلافته عشر سنين
كوامل وستة أشهر وأربعة أيام، وكان سنة ثلاثا وستين سنة وصلى عليه صهيب
وجاه المنبر ودفن مع النبي.
وروى البخاري في الصحيح من حديث عبد الله بن عباس أنه قال: وضع عمر على
سريره فكنفه الناس يدعون ويصلون قبل أن يرفع -وأنا فيهم- فلم يرعني إلا
رجل أخذ منكبي؛ فإذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه فترحم على عمر وقال:
ما خلت أحدا أحب أن ألقى الله بمثل عمله منك، وايم الله إن كنت لأظن أن
يجعلك الله مع صاحبيك لأني كنت أسمع كثيرا رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- يقول:
"ذهبت أنا وأبو بكر وعمر ودخلت أنا وأبو بكر وعمر وخرجت أنا وأبو بكر
وعمر"، وروي أن عائشة رضي الله عنها لما دفن عمر رضي الله عنه لبست
ثيابها الدرع والخمار والإزار، وقالت: إنما كان أبي وزوجي؛ فلما دخل
معهما غيرهما لزمت ثيابي.
وأخبرني يحيى بن أبي الفضل السعدي قال: أخبرنا أبو محمد الفقيه قال:
أخبرنا أبو الحسن الشافعي قال: أخبرنا أبو عبد الله بن النبهاني أخبرنا
أبو العباس الرازي أخبرنا أبو الزنباع، حدثنا عمر بن خالد، حدثنا أبو
بكر بن مضر عن عمرو بن الحارث عن يحيى بن سعيد أنه سمع سعيد بن المسيب
يخبر، عن عائشة رضي الله عنها أنها رأت في المنام أنه سقط في حجرها أو
بحجرتها ثلاثة أقمار؛ فذكرت ذلك لأبي بكر فقال: خير.
قال يحيى بن سعيد؛ فسمعت بعد ذلك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
لما توفي فدفن في بيتها قال أبو بكر: هذا أحد أقمارك يا بنيه وهو
خيرها، أنبأنا أبو القاسم الصموت عن الحسن بن أحمد، عن أحمد بن عبد
الله عن جعفر بن محمد أخبرنا أبو زيد، حدثنا الزبير، حدثنا محمد بن
الحسن عن عبد العزيز بن محمد عن أنيس بن أبي يحيى قال: لقي رسول الله
جنازة في بعض سكك المدينة فسأل عنها فقالوا: فلان الحبشي فقال رسول
الله: سيق من أرضه وسمائه إلى التربة التي خلق منها. قلت: فعلى هذا
طينة النبي -صلى الله عليه وسلم- التي خلق منها من المدينة وطينة أبي
بكر وعمر من طينة النبي وهذه منزلة رفيعة، وروي عن القاسم بن محمد بن
أبي بكر الصديق رضي الله عنهم قال: دخلت على عائشة رضي الله عنها
فأطلعت على قبر النبي وقبر أبي بكر وعمر فرأيت عليها حصباء حمراء.
وروي عن هارون بن موسى العروبي قال: سمعت جدي أبا علقمة يسأل: كيف كان
الناس يسلمون على النبي قبل أن يدخل البيت في المسجد؟ فقال: كان الناس
يقفون على باب البيت يسلمون وكان الباب ليس عليه غلق حتى هلكت عائشة
رضي الله عنها، قال أهل السير: وكان الناس يأخذون من تراب قبر النبي؛
فأمرت عائشة بجدار فضرب عليهم، وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت:
ما زلت أضع خماري وأنفصل عن ثيابي حتى دفن عمر؛ فلم أزل متحفظة في
ثيابي حتى بنيت بيني وبين القبور جدارا قلت:
ج / 2 ص -455-
وقبر النبي وقبر صاحبيه في صفة بيت عائشة
رضي الله عنها، قال أهل السير: وفي البيت موضع قبر في الجهة الشرقية
قال سعيد بن المسيب: فيه يدفن عيسى ابن مريم عليه السلام، وروى عبد
الله بن سلام، عن أبيه عن جده قال: يدفن عيسى ابن مريم مع النبي -صلى
الله عليه وسلم- وصاحبيه رضي الله عنهما ويكون قبره الرابع، واختلف
الرواة في صفة قبورهم؛ فأخبرنا أبو القاسم بن كامل إذنا عن أبي علي
المقري عن أبي نعيم الأصبهاني عن أبي محمد الخلدي، حدثنا الزبير بن
بكار، حدثنا محمد بن الحسن، حدثنا إسحاق بن عيسى عن عثمان بن نسطاطس
قال: رأيت قبر النبي لما هدم عمر بن عبد العزيز عنه البيت مرتفعا نحو
من أربع أصابع عليه حصباء إلى الحمرة مائلة، ورأيت قبر أبي بكر وراء
قبر النبي ورأيت قبر عمر أسفل منه وصورة لنا هكذا:
ج / 2 ص -456-
وبالإسناد المتقدم حدثنا محمد بن الحسن
قال: حدثنا محمد بن إسماعيل عن عمرو بن عثمان بن هانئ عن القاسم بن
محمد قال: دخلت على عائشة رضي الله عنها فقلت: يا أماه أريني قبر النبي
-صلى الله عليه وسلم- وصاحبيه رضوان الله عليهما؛ فكشفت لي عن قبورهم
فإذا هي لا مرتفعة ولا واطية مبطوحة ببطحاء حمراء من بطحاء العرصة،
وإذا قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أمامهما، ورجلا أبي بكر عند رأس
النبي -صلى الله عليه وسلم، ورأس عمر عند رجلي أبي بكر، وصفة ذلك كما
يأتي:
قلت: ذكر أهل السير أن جدار حجرة النبي الذي يلي موضع
الجنائز سقط في زمان عمر بن عبد العزيز فانهارت القبور الشريفة؛ فما
رؤي بكاء في يوم مثل ذلك اليوم فأمر عمر بقباطي فخيطت ثم ستر الموضع
بها، وأمر ابن ورد أن يكشف عن الأساس؛ فبينما هو يكشف إذ رفع يده وتنحى
فقام عمر بن عبد العزيز فزعا؛ فرأى قدمين وراء الأساس وعليهما الشعر؛
فقال عبد الله بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر، وكان حاضرا: أيها
الأمير لا يروعنك فهما قدما جدي عمر بن الخطاب ضاف البيت عنه فحفر له
في الأساس فقال يا ابن ورد أن غط ما رأيت، ففعل.
ج / 2 ص -457-
وروى البخاري في الصحيح من حديث هشام بن
عمرو عن أبيه قال: لما سقط عليهم الحائط في زمان الوليد بن عبد الملك
أخذوا في بنيانه فبدت لهم قدم ففزعوا وظنوا أنها قدم النبي -صلى الله
عليه وسلم- فما وجدوا أحدا يعلم ذلك حتى قال لهم عروة: لا والله ما هي
قدم النبي، وما هي إلا قدم عمر، قالوا: وأمر عمر أبا حفصة مولى عائشة
وناسا معه فتبوءوا الجدار وجعلوا فيه كوة؛ فلما فرعوا منه ورفعوه دخل
مزاحم مولى عمر؛ فرفع ما سقط على القبر من التراب والطين ونزع القباطي.
قالوا: وباب البيت الذي دفنوا فيه شامي، قلت: وبنى عمر بن عبد العزيز
على حجرة النبي حاجزا من سقف المسجد إلى الأرض وصارت الحجرة في وسطه
وهو على دورنها.
ولما ولي المتوكل الخلافة أمر إسحاق بن سلمة، وكان على عمارة مكة
والمدينة من قبله بأن يأزر الحجرة بالرخام من حولها؛ ففعل ذلك وبقي
الرخام عليها إلى سنة ثمان وأربعين وخمسمائة من خلافة المقتفي، فجدد
تأزيرها جمال الدين وزير بني زنكي وجعل الرخام حولها قامة وبسطة وجعل
لها شباكا من خشب الصندل والأبنوس وأداره حولها مما يلي السقف، قيل: إن
أبا الغنايم النجار البغدادي عمله أروانكا، وفي دورانه مكتوب على أقطاع
الخشب إلا روانك سورة الإخلاص صنعة بديعة ولم تزل الحجرة على ذلك حتى
عمل لها الحسين بن أبي الهيجاء صهر الصالح وزير الملوك المصريين ستارة
ديبقية بيضاء وعليها الطرز والجامات المرقومة بالإبريسم الأصفر والأحمر
وخيطها، وأدار عليها زنارا من الحرير الأحمر والزنار مكتوب عليه سورة
يس بأسرها، قيل: إنه غرم على هذه الستارة مبلغا عظيما من المال، وأراد
تعليقها على الحجرة فمنعه قاسم بن مهنا الأمير على المدينة وقال: حتى
يستأذن الإمام المستضيء1 بأمر الله فبعث إلى العراق يستأذن في تعليقها
فجاء الإذن في ذلك فعلقها نحو العامين ثم جاءت من الخليفة ستارة من
الإبريسم البنفسجي عليها الطرز والجامات البيض المرقومة وعلى دوران
جاماتها مكتوب بالرقم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي: وعلى ظاهرها اسم
الإمام المستضيء بأمر الله فرفعت تلك وأنفذت إلى مشهد علي بن أبي طالب
بالكوفة فعلقت هذه عوضها؛ فلما ولي الإمام الناصر لدين الله2 أرسل
ستارة أخرى من الإبريسم الأسود أيضا على شكل المذكورة؛ فأنفذتها فعلقت
عليها حتى يومنا هذا على الحجرة ثلاث ستائر بعضهن على بعض. وفي سقف
المسجد -الذي بين القبلة والحجرة على رأس الزوار إذا وقفوا- معلق نيف
وأربعون قنديلا كبارا وصغارا من الفضة المنقوشة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تولى الخلافة من عام 566 حتى عام 576هـ في بغداد.
2 هو ابن المستضيء، ولي الخلافة العباسية مدة طويلة 576-622هـ.
ج / 2 ص -458-
والساذجة، وفيها اثنان من البلور وواحد
ذهب، وفيها قصر من فضة مغموس في الذهب، وهذه تنفذ من البلدان من الملوك
وأرباب الحشمة والأموال، واعلم أن حجرة النبي عليها ثوب مشمع مثل
الخيمة وفوقه سقف المسجد وفيه خوخة عليها ممرق مقفل وفوق الخوخة في سقف
السطح خوخة أخرى فوق تلك الخوخة، وعليها ممرق مقفول أيضا وحولها في سطح
المسجد حظيرة مبنية بالآجر وبين سقف المسجد وبين سقف السطح فراغ نحو
الذراعين وعليه شبابيك حديد ترمي الضوء منها إذا أرادوا الدخول إلى
هناك لأجل تعليق سلاسل القناديل وحبال الأبارير لأجل العمارة في المسجد
وهذه صفة الحاجز الذي بناه عمر بن عبد العزيز والحجرة في وسطه ومن
الحجرة إلى المقصورة تسعة عشرا ذراعا ومن الركن الغربي إلى المسمار
الفضة الذي هو مقابل وجه النبي -صلى الله عليه وسلم- خمسة أذرع.
ج / 2 ص -459-
واعلم أنه في سنة ثمان وأربعين وخمسمائة
سمعوا صوت هدة في الحجرة، وكان الأمير قاسم بن مهنا الحسيني فأخبروه
بالحال؛ فقال: ينبغي أن ينزل شخص إلى هناك لينظر ما هذه الهدة وافتكروا
في شخص يصلح لذلك؛ فلم يجدوا إلا عمر النساي1 شيخ من شيوخ الصوفية
بالموصل، وكان مجاورا بالمدينة؛ فذكروا ذلك له؛ فذكر أن به فتقا والريح
والبول تحوجه إلى الغائط مرارا فألزموه فقال: أمهلوني حتى أروض نفسي،
وقيل إنه امتنع من الأكل والشرب وسأل الله إمساك المرض بناه عمر ودخل
منه إلى الحجرة ومعه شمعة يستضيء بها فرأى شيئا من طين الثقف قد وقع
على القبور فأزاله وكنس التراب بلحيته، وقيل إنه كان مليح الشيبة وأمسك
عز وجل ذلك الداء بقدر ما خرج من الموضع، وعاد إليه وهذا ما سمعته من
أفواه جماعة، والله أعلم بحقيقة الحال في ذلك، وفي شهر ربيع الآخر من
سنة أربع وخمسين وخمسمائة في أيام قاسم أيضا وجد من الحجرة رائحة منكرة
وكثر ذلك حتى ذكروه للأمير؛ فأمرهم بالنزول إلى هناك فنزل بيان الأسود
الخصي أحد خدم الحجرة الشريفة، ومعه الصفي الموصلي متولى عمارة المسجد
ونزل معهما هارون الشاوي الصوفي بعد أن سأل الأمير في ذلك في الحاجز
بين الحجر والمسجد، وكان نزولهم يوم السبت الحادي عشر من ربيع الآخر،
ومن ذلك التاريخ إلى يومنا هذا لم ينزل أحد إلى هناك2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وفي وفاء الوفاء وخلاصة الوفا: النساء والصحيح ما هنا. وقد توفي عام
656هـ.
2 وفي عهد الأشرف قايتباري رئي احتياج المسجد النبوي إلى العمارة؛ وذلك
عام 881هـ. ففعل ذلك وجدد رخام الحجرة الشريفة وجدد الكثير من بنائها
وكان ختم هذا البناء في يوم الخميس سابع شوال عام 881هـ "216-220 خلاصة
الوفا". وقد أقام من قبل الملك العادل نور الدين الشهيد خندقا مملوءا
من الرصاص حول الحجرة الشريفة؛ وذلك عام 557هـ. هذا وقد احترق المسجد
النبوي أول ليلة الجمعة أول رمضان عام 654هـ، ولم يسلم من الحريق سوى
القبة التي أحدثها الخليفة الناصر لدين الله لحفظ ذخائر الحرم النبوي
عام 576هـ، ووقع السقف الذي كان على أعلى الحجرة على سقف بيت النبي
-صلى الله عليه وسلم- فوقعا جميعا في الحجرة الشريفة؛ فكتبوا للخليفة
المستعصم وابتدئ بالعمارة عام 655هـ، وشارك فيها صاحب مصر المنصور نور
الدين علي بن المعز أيبك الصالحي وصاحب اليمن المظفر شمس الدين يوسف بن
المنصور عمر بن علي بن رسول، ثم لما عزل ملك مصر عام 657هـ، وتولى
مكانه المظفر قطز المعزى، ولما قتل عام 658 تولى مكانه بيبرس وشارك
هؤلاء جميعا في العمارة الشريفة، ولم يظل المسجد على هذه العمارة
الجديدة؛ حتى جدد السقف الغربي والسقف الشرقي في أوائل دولة الناصر
محمد بن قلاوون الصالحي؛ فجعلا سقفا واحدا؛ وذلك في سنتي خمس وست
وسبعمائة، ثم أمر الناصر عام 729هـ بزيادة رواقين متصلين بمؤخر السقف
القبلي فاتسع سقفه بهما وعم نفعه؛ إذ صار فيه سبعة أروقة وكان عددها
خمسة كالشمالي، ثم حصل في هذين الرواقين خلل فجددهما الأشرف برسباي
عام=
ج / 2 ص -460-
الباب السادس عشر: في ذكر فضل
زيارة النبي -صلى الله عليه وسلم
أخبرنا يحيى بن أبي الفضل الصوفي، أخبرنا أبو محمد الفقيه، أخبرنا أبو
الحسن المصري، أنبأنا أبو النعمان العسقلاني، حدثنا أبو الحسن
الدارقطني، حدثنا يحيى بن محمد بن صاعد، حدثنا محمد العبادي، حدثنا
مسلمة بن سالم عن أبيه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم:
"من جاءني زائرا لم يرم حاجة إلا
زيارتي كان حقا علي أن أكون شفيعا له يوم القيامة".
وبالإسناد حدثنا الدارقطني، حدثنا الحسين بن إسماعيل، حدثنا عبيد بن
محمد الوراق، حدثنا موسى بن هلال عن عبيد الله بن عمرو عن نافع عن ابن
عمر، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من زار قبري وجبت له شفاعتي"1.
أنبأنا سعيد بن أبي سعيد النيسابوري، أنبأنا إبراهيم بن محمد المؤدب،
أخبرنا إبراهيم بن محمد، حدثنا محمد بن محمد بن مقاتل، حدثنا جعفر بن
هارون، حدثنا إسماعيل بن المهدي عن أنس قال: قال رسول الله -صلى الله
عليه وسلم:
"من زارني ميتا فكأنما زارني حيا، ومن زار قبري وجبت له شفاعتي يوم
القيامة، وما من أحد من أمتي له سعة ثم لم يزرني فليس له عذر".
وروي عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم:
"من لم يزر قبري فقد جفاني".
أنبأنا عبد الرحمن بن علي، أنبأنا أبو الفضل الحافظ عن أبي علي الفقيه،
أنبأنا أبو القاسم الأزهري، أنبأنا القاسم بن الحسن، حدثنا الحسن بن
الطيب، حدثنا علي بن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
=831هـ، على يد مقبل القديدي. وجدد الشرف أيضا شيئا من السقف الشامي
مما يلي المنارة السنجارية، ثم جدد الظاهر جقمق كثيرا من سقف مقدم
المسجد من الروضة وغيرها وذلك عام 853هـ، ثم جدد الأشرف قايتباي جانبا
من السقف الشرقي بعد هدم عقوده التي تلي صحن المسجد، ثم أعيد ذلك عام
879هـ و 881هـ. ثم احترق المسجد النبوي ثانيا في ليلة 13 رمضان 886هـ
بسبب صاعقة، ولم يصل إلى جوف الحجرة الشريفة شيء من هدم هذا الحريق
وسلمت الأساطين الملاصقة للحجرة الشريفة واحترق المنبر والمقصورة التي
كانت حول الحجرة الشريفة وسقطت أكثر عقود المسجد وأساطينه؛ فأخذ
قايتباي في عمارة المسجد النبوي وجدد تجديدا كاملا وهدمت المنارة وأحكم
بناؤها وهدمت أعالي القبة وأعيدت على ما كانت عليه وتم ذلك كله عام
891هـ. وفي صفر عام 898هـ سقطت صاعقة ثانية على المنارة الرئيسية
فأسقطت قبتها وجانبا كبير من دورها الأول الذي يقوم عليه المؤذن؛ فأعيد
ذلك كله بأمر الأشرف قايتباي.
1 هو لابن عدي في الكامل، وللبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر.
ج / 2 ص -461-
حجر، حدثنا حفص بن سليمان عن ليث عن مجاهد
عن ابن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم:
"من حج فزار قبري بعد موتي كان كمن زارني في حياتي وصحبني"1.
أنبأنا أبو أحمد الكاتب، أنبأنا أبو بكر الأنصاري، أنبأنا أبو محمد
الجوهري، أنبأنا أبو بكر بن الشخير، حدثنا أحمد بن محمد بن العباس،
حدثنا أحمد بن علي الحراني، حدثنا العلاء بن عمرو الحنفي، حدثنا محمد
بن مروان عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى
الله عليه وسلم:
"من صلى على قبري سمعته ومن صلى علي نائيا بلغته"2،
أنبأنا أبو الحسن الشافعي، أنبأنا أبو محمد الفقيه، أنبأنا علي بن
الحسين، أنبأنا الحسين بن محمد، حدثنا إسماعيل بن يعقوب، حدثنا إسماعيل
بن إسحاق القاضي، حدثنا مدد، حدثنا يحيى بن سعيد عن سفيان قال: حدثني
عبد الله بن السائب عن زادان عن عبد الله عن النبي -صلى الله عليه
وسلم- قال:
"إن لله عز وجل سياحين يبلغوني عن أمتي السلام".
أخبرنا أبو طاهر الصوفي، أنبأنا القاسم بن الحصين، أنبأنا أبو علي بن
المذهب، أنبأنا أبو بكر القطيعي، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل،
حدثني أبي، حدثنا عبد الله بن يزيد، حدثنا حيوة حدثني أبو صخران يزيد
بن عبد الله بن قسيط أخبره عن أبي هريرة عن رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- أنه قال:
"ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام"3.
أنبأنا يحيى بن بوش عن أبي علي الحداد عن أبي نعيم عن جعفر الخلدي،
أخبرنا محمد بن عبد الرحمن، حدثنا الزبير، حدثنا محمد بن الحسن عن عبد
العزيز بن محمد عن محمد بن زيد المهاجر عن المقبري، عن أبي هريرة أن
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:
"إن عيسى ابن مريم مار بالمدينة حاجا أو معتمرا ولئن سلم علي لأردن
عليه".
أنبأنا يحيى بن الحسين المقبري، أخبرنا المبارك بن الحسن العطار،
أنبأنا أبو بكر الخياط، أنبأنا أبو عمر العلاف، حدثنا الحسين بن صفوان،
حدثنا أبو بكر بن أبي الدنيا، حدثنا محمد بن الحسين، أخبرنا قتيبة،
حدثنا ليث بن سعد عن خالد بن وهب أن كعب الأحبار قال: ما من فجر يطلع
إلا نزل سبعون ألفا من الملائكة حتى يحفوا بالقبر يضربون بأجنحتهم
ويصلون على النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى إذا استوى عرجوا وهبط مثلهم
فصنعوا مثل ذلك حتى إذا انشقت الأرض خرج في سبعين ألفا من الملائكة
يزفونه -صلى الله عليه وسلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو للطبراني في الكبير، وللبيهقي في السنن عن ابن عمر.
2 هو للبيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة وهو ضعيف.
3 هو لأبي داود عن أبي هريرة وهو ضعيف.
ج / 2 ص -462-
وروي أن عمر بن عبد العزيز كان يرد البريد
من الشام يقول: سلم لي على رسول الله -صلى الله عليه وسلم، أنبأنا يحيى
بن الحسين الأواني، أنبأنا أبو الكرم الشهروزي، أنبأنا أبو بكر بن
الخيايط، أنبأنا أبو عمر بن دوست حدثنا الحسين بن صفوان حدثنا ابن أبي
الدنيا، أخبرنا سعيد بن عثمان الجرجاني، أنبأنا محمد بن إسماعيل بن أبي
فديك قال: سمعت بعض من أدركت يقول بلغنا أنه من وقف عند قبر النبي -صلى
الله عليه وسلم- فتلا هذه الآية
{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 56]، وقال صلى الله عليك يا محمد حتى يقولها سبعين مرة
ناداه ملك: صلى الله عليك يا فلان لم تسقط لك حاجة.
وبالإسناد حدثنا ابن فديك قال: أخبرني عمر بن حفص أن ابن أبي مليكة كان
يقول: من أحب أن يقوم وجاه النبي -صلى الله عليه وسلم- فليجعل القنديل
الذي في القبلة عند القبر على رأسه. وروى جعفر بن محمد بن علي بن
الحسين بن علي بن أبي طالب عن أبيه عن جده رضي الله عنهم أنه كان إذا
جاء يسلم على النبي -صلى الله عليه وسلم- وقف عند الأسطوانة التي مما
يلي الروضة؛ فسلم ثم يقول: هاهنا رأس رسول الله -صلى الله عليه وسلم،
قلت: واليوم هناك علامة واضحة وهي مسمار من فضة في حائط حجرة النبي
-صلى الله عليه وسلم- إذا قابله الإنسان كان القنديل على رأسه فيقابل
وجه النبي -صلى الله عليه وسلم- ويسلم عليه، ثم يتقدم عن يمينه قليلا
ويسلم على أبي بكر رضي الله عنه، ثم يتقدم قليلا فيسلم على عمر، ثم
يعود ويجعل الحجرة على يساره ويستقبل القبلة ويدعو الله تعالى بما أحب.
أنبأنا أبو الفرج بن علي الفقيه، أنبأنا عمر بن ظفر، أنبأنا جعفر بن
أحمد، أنبأنا عبد العزيز بن علي، حدثنا أبو الحسن الهمداين، حدثني محمد
بن حبان قال: سمعت إبراهيم بن شيبان يقول: حججت في بعض السنين؛ فجئت
المدينة فتدقمت إلى قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- فسلمت عليه فسمعت
من داخل الحجرة وعليك السلام، أخبرنا عبد الرحمن بن أبي الحسن في
كتابه، أخبرنا أبو الفرج بن أحمد، أخبرنا أحمد بن نصير، أخبرنا محمد بن
القاسم سمعت علي بن غالب الصوفي، يقول: سمعت إبراهيم بن محمد المذكي
يقول: سمعت أبا الحسن الفقيه يحكي عن الحسن بن محمد عن ابن فضيل النحوي
عن محمد بن روح عن محمد بن حرب الهلالي قال: دخلت المدينة فأتيت قبر
النبي -صلى الله عليه وسلم- فجاء أعرابي فزاره ثم قال: يا خير المرسلين
إن الله عز وجل أنزل كتابا عليك صادقا قال فيه:
{وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا
أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ
الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64] وإني جئتك مستغفرا إلى ربي من ذنوبي مستشفعا بك ثم
بكى وأنشأ يقول:
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه
فطاب من طيبهن القاع والأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه
فيه العفاف وفيه الجود والكرم
ج / 2 ص -463-
أنت النبي الذي ترجى شفاعته
عند الصراط إذا ما زلت القدم1
ثم استغفر وانصرف؛ فرقدت فرأيت النبي -صلى الله عليه وسلم-
وهو يقول: الحق بالرجل فبشره بأن الله عز وجل قد غفر له بشفاعتي.
أنبأنا ذاكر بن كامل بن أبي غالب الخفاق فيما أذن لي في روايته عنه
قال: كتب إلى أبي علي الحداد عن أبي نعيم الأصبهاني قال: أنبأنا جعفر
بن محمد بن نصير، أخبرنا أبو يزيد المخزومي، أخبرنا الزبير بن بكار،
حدثنا محمد بن الحسن، حدثني غير واحد منهم عن عبد العزيز بن أبي حازم
عن عمر بن محمد أنه لما كان أيام الحرة ترك الأذان في مسجد رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- ثلاثة أيام وخرج الناس إلى الحرة وجلس سعيد بن
المسيب في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: فاستوحشت فدنوت من
قبر النبي -صلى الله عليه وسلم؛ فلما حضرت الصلاة سمعت الأذان في قبر
النبي -صلى الله عليه وسلم- فصليت ركعتين ثم سمعت الإقامة فصليت الظهر
ثم جلست حتى أصلي العصر فسمعت الأذان في قبر النبي -صلى الله عليه
وسلم- ثم سمعت الإقامة ثم لم أزل أسمع الأذان والإقامة في قبره -صلى
الله عليه وسلم- حتى مضت الثلاث وقفل القوم ودخلوا مسجد رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- وعاد المؤذنون فأذنوا فتسمعت الأذان في قبره -صلى الله
عليه وسلم- فلم أسمعه فرجعت إلى مجلسي الذي كنت فيه أكون.
أنبأنا عبد الرحمن بن علي، أنبأنا أبو الفضل الفارسي عن أبي بكر
الشيرازي أخبرنا محمد بن الحسين سمعت أبا الخير الأقطع يقول: دخلت
مدينة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا بفاقة فبقيت خمسة أيام ما
ذقت ذواقا فتقدمت إلى القبر وسلمت على النبي -صلى الله عليه وسلم- وعلى
أبي بكر وعمر وقلت: أنا ضيفك الليلة يا رسول الله وتنحيت فنمت؛ فرأيت
النبي في المنام وأبو بكر عن يمينه وعمر عن شماله وعلي بين يديه فحركني
علي، وقال لي: قم قد جاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: فقمت
إليه وقبلت بين عينيه؛ فدفع إلي رغيفا؛ فأكلت نصفه وانتبهت وفي يدي
النصف الآخر.
أخبرنا عبد الوهاب بن علي، أخبرتنا فاطمة بنت أبي حكيم -إن لم يكن
سماعا- فإجازة أنبأنا منصور بن الفضل، أخبرنا أبو عبد الله الكاتب،
أخبرنا ابن المغيرة، حدثنا أحمد بن سعيد الدمشقي، حدثنا الزبير بن بكار
أخبرنا السري بن الحارث عن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير وكان
مصعب يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة ويصوم، قال: بت ليلة في المسجد
بعدما خرج الناس منه؛ فإذا برجل قد جاء إلى بيت النبي -صلى الله عليه
وسلم- ثم أسنده ظهره إلى الجدار ثم قال: اللهم إنك تعلم أني كنت أمس
صائما، ثم أمسيت؛ فلم أفطر على شيء اللهم إني أمسيت أشتهي الثريد
فأطعمنيه من عندك قال: فنظرت إلى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الشاعر هنا يقول بالشفاعة والوسيلة ومذهب الموحدين، أن الشفاعة
والوسيلة غير جائزتين.
ج / 2 ص -464-
وصيف داخل من خوخة المنارة ليس في خلقة
وصفاء الناس معه قصعة؛ فأهوى بها إلى الرجل فوضعها بين يديه وجلس الرجل
يأكل وحصبني، فقال: هلم فجئته وظننت أنها من الجنة؛ فأحببت أن آكل منها
لقمة؛ فأكلت طعاما لا يشبه طعام أهل الدنيا، ثم احتشمت فرجعت لمجلسي؛
فلما فرغ من أكله أخذ الوصيف القصعة، ثم أهوى راجعا من حيث جاء وقام
الرجل منصرفا فتبعته لأعرفه؛ فلا أدري أين سلك فظننته الخضر عليه
السلام.
وروي أن امرأة من المتعبدات جاءت عائشة رضي الله عنها؛ فقالت: اكشفي لي
عن قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- فكشفت لها فبكت حتى أنشدني بعض
مشايخي رحمه الله بعض زوار النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول:
أتيتك زائرا ووددت أني
جعلت سواد عيني أمتطيه
وما لي لا أسير على الأماقي
إلى قبر رسول الله فيه
وأنشدني عبد الوهاب عن علي قال: أنشدنا أبو عبد الله محمد بن
محمد الأديب لنفسه من قصيدة يتشوف فيها إلى الحج وإلى زيارة قبر النبي
-صلى الله عليه وسلم:
أحسن مشتاقا ولولا جوى
أملك بي مني لم أطرب
وكل عام أتمنى المنى
وهن قد سوفن بالوعد بي
وليس في القلب سوى وقفة
في حرم المدفون في يثرب
الباب السابع عشر: في ذكر البقيع وفضله
أنبأنا القاسم بن علي، أخبرنا أبو محمد الداراني، أخبرنا أبو الفرج
الإسفرائيني، أخبرنا محمد بن الحسين، أخبرنا أبو طاهر القاضي، أنبأنا
محمد بن عبدوس، حدثنا سعد بن زياد وأبو عاصم قالا: زعم نافع مولى ابن
عمر قال: حدثتني أم قيس بنت محصن قالت: لو رأيتني ورسول الله -صلى الله
عليه وسلم- آخذ بيدي في سكة المدينة حتى أنتهي إلى بقيع الغرقد فقال:
"يا أم قيس" قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك قال:
"ترين هذه المقبرة؟" قلت: نعم يا رسول الله قال:
"يبعث منها يوم القيامة سبعون ألفا على صورة القمر ليلة البدر يدخلون
الجنة بغير حساب".
أخبرنا محمد بن أبي القاسم السوسي، أخبرنا جدي أبو محمد، أخبرنا أبو
الحسن الربيعي إجازة، أخبرنا عبد الوهاب بن جعفر، حدثنا أبو هاشم
الإمام، أخبرنا معاوية بن محرز، حدثنا الحسن بن جرير المنصوري، حدثنا
محمد بن عثمان، حدثنا أبي عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن
الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: "أنا أول من تنشق الأرض عنه فأكون أول من يبعث؛ فأخرج أنا وأبو بكر
وعمر إلى أهل البقيع فيبعثون ثم يبعث أهل مكة فأحشر بين الحرمين".
ج / 2 ص -465-
أنبأنا أبو القاسم بن كامل عن أبي الحداد
عن أبي نعيم الحافظ عن أبي محمد الخلدي قال: أخبرنا محمد بن عبد
الرحمن، حدثنا الزبير بن بكار، حدثنا محمد بن الحسن عن محمد عن إسماعيل
عن حكام أبي عبد الله الشامي عن أبي عبد الملك أنه حدثه حديثا يرفعه
إلى رسول الله أنه قال: مقبرتان تضيئان لأهل السماء كما يضيء الشمس
والقمس لأهل الدنيا: مقبرتنا بالبقيع بقيع المدينة ومقبرة بعسقلان.
وحدثنا محمد بن الحسن عن عيسى بن عبد الله عن أبيه قال: قال كعب
الأحبار نجدها في التوراة كفتة محفوفة بالنخيل موكلا بها الملائكة كلما
امتلأت أخذوا بأطرافها فكفوها في الجنة، قلت: يعني البقيع.
وحدثنا محمد بن الحسن عبد الله بن نافع عن سليمان بن زيد عن شعيب وأبي
عبادة عن أبي بن كعب القرظي أن النبي قال: من دفناه في مقبرتنا هذه
شفعنا له أو شهدنا له.
وحدثنا محمد بن الحسن عن محمد بن إسماعيل عن داود بن خالد عن المقبري
أنه سمعه يقول: قدم مصعب بن الزبير حاجا أو معتمرا ومعه ابن رأس
الجالوت فدخل المدينة من نحو البقيع؛ فلما مر بالمقبرة قال ابن رأس
الجالوت: إنها لهي! قال مصعب: وما هي؟ قال: إنا نجد في كتاب الله صفة
مقبرة شرقيها نخل وغربيها بيوت يبعث منها سبعون ألفا كلهم على صورة
القمر ليلة البدر فطفت مقابر الأرض؛ فلم أر تلك الصفة حتى رأيت هذه
المقبرة، وحدثنا محمد بن الحسن عن العلاء بن إسماعيل عن عبد الحميد بن
جعفر عن أبيه قال: أقبل ابن رأس الجالوت فلما أشرف على البقيع قال: هذه
التي نجدها في كتاب الله كفتة لا أطؤها قال: فانصرف عنها إجلالا لها.
وروى مسلم في الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- كلما كانت ليلتي منه يخرج من آخر الليل إلى
البقيع فيقول: سلام عليكم دار قوم مؤمنين وأتاكم ما توعدون وإنا إن شاء
الله بكم لاحقون اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد، وروي في الصحيح أيضا من
حديثها قالت: لما كانت ليلتي التي فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
عندي انقلب؛ فوضع رداءه وخلع نعليه فوضعهما عند رجليه وبسط طرف إزاره
على فراشه واضطجع فلم يلبث إلا بقدر ما ظن أنني قد رقدت فأخذ رداءه
وبدأ، وفتح الباب رويدا فخرج، ثم أجافه رويدا؛ فجعلت درعي في رأسي
واختمرت وتقنعت إزاري، ثم انطلقت على أثره حتى جاء البقيع؛ فقام فأطال
القيام ثم رفع يده ثلاث مرات ثم انحرف فانحرفت فأسرع فأسرعت فهرول
فهرولت فأحضر فأحضرت فسبقه فدخلت؛ فليس إلا أن اضطجعت فدخل فقال:
"ما لك يا عائشة". قالت: لا شيء قال:
"لتخبرني أو ليخبرني
اللطيف الخبير" فأخبرته فقال:
"فأنت السواد الذي رأيت أمامي؟" قلت: نعم، فلهزني في صدري
لهزة
ج / 2 ص -466-
أوجعتني، ثم قال: "أظننت أن يحيف الله عليك
ورسوله؟" قالت: قلت: مهما يكتمه الناس يعلمه الله عز وجل قال:
"فإن جبريل أتاني حين رأيت فناداني فأخفى منك؛ فأجبته فأخفينا منك ولم
يكن يدخل عليك، وقد وضعت ثيابك وظننت أن قد رقدت وكرهت أن أوقظك وخشيت
أن تستوحشي فقال: إن ربك يأمرك أن تأتي إلى أهل البقيع وتستغفر لهم" قالت: قلت: كيف أقول يا رسول الله قال:
"قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ويرحم الله
المستقدمين منا والمستأخرين وإنا شاء الله بكم لاحقون".
واعلم أن أكثر الصحابة رضي الله عنهم مدفون بالبقيع، وكذلك جميع أزواج
النبي -صلى الله عليه وسلم- سوى خديجة؛ فإنها بمكة مدفونة.
وبالبقيع سادة من التابعين ومن بعدهم من الزهاد والعلماء والمشهورين؛
إلا أن قبورهم لا تعرف في يومنا هذا فمن حضرها وسلم على من بها فقد أتى
بالمقصود وليس في يومنا هذا معين إلا تسعة قبور: قبر العباس بن عبد
المطلب عم النبي وعليه طين ساج وقبر الحسن بن علي بن أبي طالب ومعه في
القبر ابن أخيه علي بن الحسين زين العابدين وأبو جعفر محمد بن علي
الباقر وأبوه جعفر الصادق، والقبران في قبة كبيرة عالية قديمة البناء
في أول البقيع وعليها بابان يفتح أحدهما في كل يوم للزيارة رضي الله
عنهم أجمعين، وروي عن عبيد الله بن علي بن الحسن بن علي قال: ادفنوني
إلى جنب أمي فاطمة بالمقبة فدفن إلى جنبها بالمقبرة. وقال سعيد بن محمد
بن جبير: رأيت قبر الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عند فم
الزقاق الذي بين دار نبيه وبين دار علي بن أبي طالب، وقيل لي دفن عند
قبر أمه، وروى قائد مولى عبادل قال: حدثني الحفار أنه حفر لإنسان؛ فوجد
قبرا على سبعة أذرع من خوخة بيته مشرفا عليه لوح مكتوب هذا قبر فاطمة
بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قلت: فعلى هذا هي مع الحسن في
القبة؛ فينبغي أن يسلم عليها هنالك وقبر صفية بنت عبد المطلب عمة النبي
في تربة في أول البقيع.
وقال محمد بن موسى بن أبي عبد الله: كان قبر صفية بنت عبد المطلب عند
زاوية دار المغيرة بن شعبة وقبر عقيل بن أبي طالب أخي علي رضي الله عنه
في قبة في أول البقيع أيضا، ومعه في القبر ابن أخيه عبد الله بن جعفر
الطيار وابن أبي طالب الجواد المشهور وقبور أزواج النبي وهي أربعة قبور
ظاهرة ولا يعلم تحقيق ما فيها منهن، وقد ورى البخاري في الصحيح أن
عائشة رضي الله عنها أوصت عبد الله بن الزبير: لا تدفني معهم -تعني
النبي وصاحبيه- وادفني مع صواحبي بالبقيع.
وروي عن قائد مولى عبادل قال: قال لي منفذ الحفار: في المقبرة قبران
مطابقان بالحجارة: قبر حسن بن علي وقبر عائشة زوج النبي -صلى الله عليه
وسلم- فنحن لا نحركهما.
ج / 2 ص -467-
وقد روى مالك بن أنس أن زينب بنت جحش توفيت
في زمان عمر بن الخطاب فدفنها بالبقيع، وروي عن محمد بن عبد الله بن
علي أنه قال: قبور أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- من خوخة بيته إلى
الزقاق يعني البقيع، وروي عن الحسن بن علي بن عبيد الله بن محمد بن عمر
بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب أنه هدم منزله في دار علي بن أبي
طالب قال: فأخرجنا حجرا مكتوبا عليه هذا قبر رملة بنت صخر فسألنا عنه
قائد مولى عبادل فقال: هذا قبر أم حبيبة بنت أبي سفيان.
وروي عن إبراهيم بن علي الرافعي أنه قال: حفر لسالم البابلي مولى محمد
بن علي، قال: فأخرجوا حجرا طويلا، وفيه مكتوب هذا قبر أم سلمة زوج
النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو مقابل خوخة آل نبيه بن وهب فأهيل عليه
التراب وحفر لسالم في موضع آخر، وقبر إبراهيم ابن النبي وعليه قبة
وملبن ساج وروى إبراهيم بن قدامة عن أبيه قال: دفن رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- بالبقيع عثمان بن مظعون قال: فدفنه -أي ابنه إبراهيم- رسول
الله إلى جنب عثمان بن مظعون، وقبره حذاء زاوية عقيل بن أبي طالب، قال
جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنهما: قبر إبراهيم ابن رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- وجاه دار سعيد بن عثمان التي يقال لها الزوراء بالبقيع
مرتفعا عن الطريق، وأنبأنا أبو القاسم الأزجي، عن أبي علي الأصبهاني،
عن أبي نعيم الحافظ، عن أبي محمد الخواص، حدثنا محمد بن عبد الرحمن
المخزومي، حدثنا الزبير بن بكار، حدثنا محمد بن الحسن عن صالح بن قدامة
عن أبيه عن عائشة بنت قدامة قالت: كان القائم يقوم عند قبر عثمان بن
مظعون فيرى بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- ليس دونه حجاب، وحدثنا محمد
بن الحسن، حدثنا سليمان بن سالم عن عبد الرحمن بن حميد عن أبيه، قال:
أرسلت عائشة إلى عبد الرحمن بن عوف حين نزل به الموت أن هلم إلى رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- وإلى إخوانك، فقال: ما كنت مضيقا عليك بيتك
إني كنت عاهدت ابن مظعون أينا مات دفن إلى جنب صاحبه قلت: فعلى هذا قبر
ابن مظعون وابن عوف عند إبراهيم عليه السلام؛ فينبغي أن يزارا هناك
وقبر فاطمة بنت أسد أم علي بن أبي طالب رضي الله عنهما في قبة في آخر
البقيع، روى عيسى بن عبد الله بن محمد عن أبيه عن جده قال: دفن رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- فاطمة بنت أسد بن هاشم -وكانت مهاجرة
مبايعة- بالروحاء مقابلها حمام أبي قطيفة قلت: واليوم مقابلها نخل يعرف
بالحمام. وقبر عثمان بن عفان رضي الله عنه وعليه قبلة عالية وهو قبل
قبة فاطمة بنت أسد بقليل وحوله نخل.
روى ابن شهاب أن عثمان رضي الله عنه لما قتل دفن في حش كوكب؛ فلما ملك
معاوية واستعمل مروان على المدينة أدخل ذلك الحش في البقيع فدفن الناس
حوله قلت: والحش البستان؛ وقبر مالك بن أنس إمام دار الهجرة رضي الله
عنه في أول البقيع على الطريق؛ فهذه القبور المشهورة، والباقي سبخة لا
يعرف فيها قبر أحد بعينه.
ج / 2 ص -468-
وأخبرنا أبو القاسم بن سعد بخطه عن جعفر بن
محمد، حدثنا محمد بن عبد الرحمن عن شريك عن عبد الله بن أبي روق قال:
حمل الحسن بن أبي طالب فدفنه بالبقيع بالمدينة، وحدثنا محمد بن الحسن
عن عيسى بن عبد الله عن أبيه قال: ابتاع عمر بن عبد العزيز من زيد بن
علي وأخته خديجة دارا لهما بالبقيع بألف وخمسمائة دينار ونقضها وزادها
في البقيع؛ فهي مقبرة آل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وحدثنا محمد بن
عيسى عن خالد عن عوسجة قال: كنت أدعو ليلة إلى زاوية دار عقيل بن أبي
طالب التي تلي باب الدار؛ فمر بي جعفر بن محمد فقال لي: أعن أثر وقفت
هاهنا قلت: لا، قال: هذا موقف نبي الله -صلى الله عليه وسلم- بالليل
إذا جاء يستغفر لأهل البقيع، قلت: وداره الموضع الذي دفن فيه.
الباب الثامن عشر: في ذكر أعيان من سكن المدينة
من الصحابة ومن بعدهم
اعلم أن أعيان من سكن المدينة من الصحابة والتابعين وأكابر تابعيهم إلى
يومنا رضي الله عنهم لا يمكن حصرهم؛ لأن أكثر الصحابة هاجروا إليها
والباقون منها وأكثر التابعين منها والباقون دخلوها لزيارة النبي وكذلك
من بعدهم من الأكابر إلى يومنا هذا.
وإنما نذكر في هذا الباب أعيان من استوطنها؛
فمنهم من أقام بها مدة، ثم خرج عنها ومنهم من مات بها.
فمن الصحابة رضوان الله عليهم: أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان
بن عفان، وعلي بن أبي طالب والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله،
وسعد بن مالك، وسعيد بن زيد، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة بن
الجراح، فهؤلاء العشرة.
ومن أهل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- العباس بن عبد المطلب والحسن،
والحسين ابنا علي بن أبي طالب وعقيل بن أبي طالب، وعبد الله بن جعفر بن
أبي طالب.
ومن كبار الصحابة أبي بن كعب، أسيد بن حضير، بلال بن أبي رباح، أبو ذر
الغفاري، أبو قتادة الأنصاري حسان بن ثابت، حكيم بن حزام، خالد بن
الوليد، أبو لبابة الأنصاري، زيد بن حارثة، زيد بن ثابت، سعد بن عبادة،
أبو سعيد الخدري. سفينة مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم، سلمة بن
الأكوع، سهل بن أبي حثمة، سهل بن سعد، أبو سفيان بن حرب، صهيب، عبد
الله بن أنيس، عبد الله بن أرقم، عبد الله بن عمر بن الخطاب، عبد الله
بن مسعود، أبو حميد الساعدي، أبو هريرة، عثمان بن حنيف، العلاء بن
الحضرمي، عمر بن أبي سلمة، عبد الله ابن أم مكتوم، مالك بن التيهان،
ج / 2 ص -469-
محمد بن سلمة، المقداد بن عمرو، أسيد بن
ظهير، أسلم وهو أبو رافع مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم، البراء
بن عازب، بلال بن الحارث، بشير بن سحيم، بشر بن سعد، ثابت بن وديعة،
جابر بن عتيك، جبير بن مطعم، جويبر بن خويلد الأسلمي، الحارث بن زياد،
أبو سعيد بن المعلى، الحجاج بن عمرو، الحجاج بن علاط، حمل بن مالك،
حنظلة الكاتب، خلاد بن السائب، خفاف بن أيمن بن رخصة، خوات بن جبير،
ذؤيب أبو قبيصة، رافع بن خديج، رافع بن مكيث، ربيعة بن كعب، رفاعة بن
رافع، رفاعة بن عرابة، الركين بن الربيع، رويفع بن ثابت، زيد بن
الخطاب، زيد بن خالد، زيد بن الصامت، السائب بن خلاد، سبرة بن أبي
سبرة، سراقة بن مالك بن جشعم، سفيان بن أبي العرجاء، سلمة بن صخر، سويد
بن النعمان، نشل بن معبد، الصعب بن جثامة، الضحاك بن سفيان الكلابي،
عامر بن ربيعة، عبد الله بن حراقة، عبد الله بن زيد، عبد الله بن زمعة،
عبد الله بن عبد الأسد، عبد الله بن عتيك، عبد الله بن كعب، عبد الله
بن أزهر، عبد الرحمن بن جبير، عبد الرحمن بن عثمان، عتبان بن مالك،
عمارة بن معاذ، عمرو بن أمية، عمير مولى أبي اللحم، قتادة بن مالك بن
ضمرة، مجمع بن حارثة، محمد بن عبد الرحمن بن جحش، محمود بن الربيع،
محجر الدئلي، معاوية بن الحكم الأسلمي، معمر بن عبد الله، ناجية
الخزاعي، نوفل بن معاوية، هذال الأسلمي، هشام بن حكيم، زيد أبو السائب،
أبو بشير الأنصاري، أبو خيبرة، أبو زيد الأنصاري، أبو مربع الأنصاري.
ومن كبار التابعين: أبو سعيد المقبري، محمد بن الحنفية، سعيد بن
المسيب، أبو سلمة بن عبد الرحمن، عطاء وسليمان ابنا يسار، عروة بن
الزبير، خارجة بن زيد، علي بن الحسين زين العابدين، أبو بكر بن عبد
الرحمن، عكرمة، كريب، مقسم مولى عبد الله بن عباس، علي بن عبد الله بن
العباس بن المطلب، نافع مولى عبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين.
ومن مشاهير الذين بعدهم: عمر بن عبد العزيز، أبو بكر بن حرام الزهري،
محمد بن المنكدر، زيد بن أسلم، أبو الزناد، ربيعة الرأي، صفوان بن
سليم، أبو حازم الأعرج، يحيى بن سعيد القطان، أبو جعفر محمد بن علي
الباقر، وابنه جعفر الصادق، إبراهيم ومحمد وموسى بنو عقبة أصحاب
الأخيار محمد بن إسحاق بن يسار، مالك بن أنس، الإمام يوسف بن الماجشون،
عبد العزيز الدراوردي، محمد بن عمر الواقدي، رحمهم الله تعالى ورضي
الله عنهم ونفع بعلومهم.
والحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وحسبنا الله ونعم
الوكيل ولا حولا ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. |