البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي
قصة مدين قوم شعيب عليه السلام
(1)
قال الله تعالى في سورة الاعراف بعد قصة قوم لوط (وإلى مدين أخاهم
شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جائتكم بينة من
ربكم فاوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في
الارض بعد اصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين.
ولا تقعدوا بكل صراط توعدون.
وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجا واذكروا إذ كنتم قليلا
فكثركم وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين.
وان كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة
لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين.
قال الملا الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من
قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أو لو كنا كارهين.
قد أفترينا على الله كذبا ان عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما
يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شئ علما.
على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين.
وقال الملا الذين كفروا من قومه لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون.
فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين.
الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها الذين كذبوا شعيبا كانوا هم
الخاسرين.
فتولى عنهم وقال يا قوم لقد ابلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فكيف آسى على
قوم كافرين) [ الاعراف: 83 - 95 ].
وقال في سورة هود بعد قصة قوم لوط أيضا: (وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا
قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني
أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط.
ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشيائهم ولا
تعثوا في الارض مفسدين.
بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين.
وما أنا عليكم بحفيظ.
قالوا يا شعيب أصلوتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في
أموالنا ما نشاء.
إنك لانت الحليم الرشيد.
قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا وما
أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الاصلاح ما استطعت وما
توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
ويا قوم لا يجر منكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود
أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد.
واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود.
قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا
رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز.
قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه ورائكم ظهريا إن ربي بما
تعملون محيط.
ويا قوم اعملوا على
__________
(1) ذكر شعيب في القرآن في: الاعراف: 85 - 88 - 90 - 92 وفي سورة هود:
84 - 87 - 90 - 95، وفي الشعراء: 177 وفي العنبكوت: 36.
[ * ]
(1/212)
مكانتكم إني
عامل سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إني معكم
رقيب.
ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين
ظلموا الصيحة فاصبحوا في ديارهم جاثمين.
كأن لم يغنوا فيها ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود) [ هود: 84 - 95 ].
وقال في الحجر بعد قصة قوم لوط أيضا.
(وإن كان أصحاب الايكة لظالمين فانتقمنا منهم وانهما لبامام مبين) [
الحجر: 78 - 79 ] وقال تعالى في الشعراء بعد قصتهم (كذب أصحاب الايكة
المرسلين إذ قال لهم شعيب ألا تتقون إني لكم رسول امين.
فاتقو الله وأطيعون.
وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين.
اوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين وزنوا بالقسطاس المستقيم.
ولا تبخسوا الناس اشياءهم ولا تعثوا في الارض مفسدين.
واتقوا الله الذي خلقكم والجبلة الاولين.
قالوا انما أنت من المسحرين وما أنت إلا بشر مثلنا وإن نظنك لمن
الكاذبين.
فأسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين.
قال ربي أعلم بما تعملون.
فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم إن في ذلك لآية
وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم) [ الشعراء: 176 -
191 ].
كان أهل مدين قوما عربا يسكنون مدينتهم مدين التي هي قرية (1) من أرض
معان من أطراف الشام مما يلي ناحية الحجاز قريبا من بحيرة قوم لوط.
وكانوا بعدهم بمدة قريبة.
ومدين قبيلة عرفت بهم القبيلة (2) وهم من بني مدين بن مديان بن إبرهيم
الخليل وشعيب نبيهم هو ابن ميكيل (3) بن يشجن ذكره ابن اسحاق قال ويقال
له بالسريانية بنزون (4) وفي هذا نظر ويقال شعيب بن يشخر بن لاوي بن
يعقوب ويقال شعيب بن نويب بن عيفا بن مدين بن ابراهيم ويقال شعيب بن
ضيفور بن عيفا (5) بن ثابت بن مدين بن ابراهيم وقيل غير ذلك في نسبه.
قال ابن عساكر ويقال جدته ويقال أمه بنت لوط.
وكان ممن آمن بإبراهيم وهاجر معه ودخل معه دمشق وعن وهب ابن منبه أنه
قال شعيب وملغم ممن آمن بإبراهيم يوم أحرق بالنار وهاجرا معه إلى الشام
فزوجهما بنتي لوط عليه السلام.
ذكره ابن قتيبة * وفي هذا كله نظر أيضا والله أعلم.
وذكر أبو عمر بن عبد البر في الاستيعاب في ترجمة سلمة بن سعد العنزي [
انه ]: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم وانتسب إلى عنزة
فقال: " نعم الحي عنزة مبغي عليهم منصورون قوم
__________
(1) وفي نسخة قريبة ; وهو الصواب.
(2) وفي نسخة أخرى: مدينة عرفت بها القبيلة ; وهو الصواب.
(3) في الطبري 1 / 167: ميكائيل.
(4) في الطبري: يثرون.
(5) في الطبري: بن صيفون بن عنقا.
[ * ]
(1/213)
شعيب وأختان
(1) موسى ".
فلو صح هذا لدل على أن شعيبا من (2) موسى وأنه من قبيلة من العرب
العاربة يقال لهم عنزة لا أنهم من عنزة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد
بن عدنان فإن هؤلاء بعده بدهر طويل والله أعلم.
وفي حديث أبي ذر الذي في صحيح ابن حبان في ذكر الانبياء والرسل قال: "
أربعة من العرب هود وصالح وشعيب ونبيك يا أبا ذر " وكان بعض السلف يسمي
شعيبا خطيب الانبياء يعني لفصاحته وعلو عبارته وبلاغته في دعاية قومه
إلى الايمان برسالته * وقد روى ابن اسحاق بن بشر، عن جويبر ومقاتل، عن
الضحاك، عن ابن عباس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر
شعيبا قال: " ذاك خطيب الانبياء " وكان أهل مدين كفارا يقطعون السبيل
ويخيفون المارة ويعبدون الايكة وهي شجرة من الايك حولها غيضة ملتفة بها
وكانوا من أسوء الناس معاملة يبخسون المكيال والميزان ويطففون فيها
يأخذون بالزائد ويدفعون بالناقص فبعث الله فيهم رجلا منهم وهو رسول
الله شعيب عليه السلام فدعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له ونهاهم
عن تعاطي هذه الافاعيل القبيحة من بخس الناس أشيائهم وإخافتهم لهم في
سبلهم وطرقاتهم فآمن به بعضهم وكفر أكثرهم حتى أحل الله بهم البأس
الشديد وهو الولي الحميد.
كما قال تعالى (وإلى مدين أخاهم شعيبا.
قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره قد جائتكم بينة من ربكم) [
الشعراء: 85 ] أي دلالة وحجة
واضحة وبرهان قاطع على صدق ما جئتكم به وإنه أرسلني وهو ما أجرى الله
على يديه من المعجزات التي لم تنقل إلينا تفصيلا وان كان هذا اللفظ قد
دل عليها إجمالا (فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشيائهم ولا
تفسدوا في الارض بعد إصلاحها) [ الاعراف: 85 ] أمرهم بالعدل ونهاهم عن
الظلم وتوعدهم على خلاف ذلك فقال (ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين ولا
تقعدوا بكل صراط) [ الاعراف: 86 ] أي طريق (توعدون) أي تتوعدون الناس
بأخذ أموالهم من مكوس وغير ذلك وتخيفون السبل * قال السدي في تفسيره عن
الصحابة (ولا تقعدوا بكل صراط توعدون) أنهم كانوا يأخذون العشور من
أموال المارة * وقال اسحاق بن بشر عن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال
كانوا قوما طغاة بغاة يجلسون على الطريق (يبخسون الناس) يعني يعشرونهم
وكانوا أول من سن ذلك (وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجا) [
الاعراف: 86 ] فنهاهم عن قطع الطريق الحسية الدنيوية والمعنوية الدينية
(واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين) ذكرهم
بنعمة الله تعالى عليهم في تكثيرهم بعد القلة وحذرهم نقمة الله بهم إن
خالفوا ما أرشدهم إليه ودلهم عليه كما قال لهم في القصة الاخرى (ولا
تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم
__________
(1) أختان موسى: أصهار موسى.
وفي الاستيعاب: وأحبار موسى.
(2) وفي نسخة: صهر موسى.
[ * ]
(1/214)
محيط) [ هود:
84 ] أي لا تركبوا ما أنتم عليه وتستمروا فيه فيمحق (1) الله بركة ما
في أيديكم (2) ويفقركم ويذهب ما به يغنيكم.
وهذا مضاف إلى عذاب الآخرة ومن جمع له هذا وهذا فقد باء بالصفقة
الخاسرة.
فنهاهم أولا عن تعاطي ما لا يليق من التطفيف وحذرهم سلب نعمة الله
عليهم في دنياهم وعذابه الاليم في أخراهم وعنفهم أشد تعنيف.
ثم قال لهم آمرا بعد ما كان عن ضده زاجرا (ويا قوم أوفوا المكيال
والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشيائهم ولا تعثوا في الارض مفسدين
بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ) [ هود: 86 ]
قال
ابن عباس والحسن البصري (بقيت الله خير لكم) أي رزق الله خير لكم من
أخذ أموال الناس * وقال ابن جرير ما فضل لكم من الريح بعد وفاء الكيل
والميزان خير لكم من أخذ أموال الناس بالتطفيف.
قال وقد روي هذا عن ابن عباس وهذا الذي قاله وحكاه حسن وهو شبيه بقوله
تعالى (قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو اعجبتك كثرة الخبيث) [ المائدة:
100 ] يعني أن القليل من الحلال خير لكم من الكثير من الحرام فإن
الحلال مبارك وإن قل والحرام ممحوق وإن كثر كما قال تعالى (يمحق الله
الربا ويربي الصدقات) [ البقرة: 276 ] وقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: " إن الربا وإن كثر فإن مصيره إلى قل " رواه أحمد (3) أي إلى
قلة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " البيعان بالخيار ما لم
يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كتما وكذبا محقت بركة
بيعهما " * والمقصود أن الربح الحلال مبارك فيه وإن قل والحرام لا يجدي
وإن كثر ولهذا قال نبي الله شعيب (بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين)
وقوله (وما أنا عليكم بحفيظ) أي افعلوا ما آمركم به ابتغاء وجه الله
ورجاء ثوابه لا لاراكم أنا وغيري (قالوا يا شعيب أصلوتك تأمرك أن نترك
ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء انك لانت الحليم الرشيد)
[ هود: 78 ] يقولون هذا على سبيل الاستهزاء والتنقص والتهكم أصلاتك هذه
التي تصليها هي الآمرة لك بأن تحجر علينا فلا نعبد إلا إلهك ونترك ما
يعبد أباؤنا الاقدمون وأسلافنا الاولون (5) ؟ أو أن لا نتعامل إلا على
الوجه الذي ترتضيه أنت ونترك المعاملات التي تأباها وإن كنا نحن نرضاها
؟، (انك لانت الحليم الرشيد) قال ابن عباس وميمون بن مهران وابن جريج
وزيد بن أسلم وابن جرير يقولون ذلك أعداء الله على سبيل الاستهزاء.
(قال يا قوم أر أيتم ان كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا وما
__________
(1) يمحق: يمحي.
(2) وفي نسخة: ما بأيديكم.
(3) مسند أحمد ج 1 / 395 و 424.
(4) ورواه الحاكم في المستدرك 2 / 37، 4 / 317، وصححه ووافقه الذهبي،
وابن ماجة في سننه رقم 2279.
وأحمد في مسنده ج 2 / 183.
(5) رواه مسلم في 21 / 43 / 47 والبخاري في 34 / 19 - 42 - 43 فتح
الباري وأحمد في مسنده 3 / 402 - 403 - 434 ورواه أصحاب السنن: أبو
داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والدارمي.
ورواه مالك في الموطأ.
[ * ]
(1/215)
أريد أن
أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه ان أريد إلا الاصلاح ما استطعت وما توفيقي
الا بالله عليه توكلت وإليه أنيب) [ هود: 88 ] هذا تلطف معهم في
العبارة، ودعوة لهم إلى الحق بأبين إشارة.
يقول لهم: " أرأيتم " أيها المكذبون (ان كنت على بينة من ربي) أي على
أمر بين من الله تعالى أنه أرسلني إليكم (ورزقني منه رزقا حسنا) يعني
النبوة والرسالة يعني وعمى عليكم معرفتها فأي حيلة لي بكم.
وهذا كما تقدم عن نوح عليه السلام أنه قال لقومه سواء.
وقوله (وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه) أي لست آمركم بالامر
إلا وأنا أول فاعل له وإذا نهيتكم عن الشئ فأنا أول من يتركه وهذه في
الصفة المحمودة العظيمة وضدها هي المردودة الذميمة كما تلبس بها علماء
بني اسرائيل في آخر زمانهم وخطباؤهم الجاهلون * قال الله تعالى
(أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون) [
البقرة: 44 ] وذكر عندها في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أنه قال: " يؤتى بالرجل فيلقى النار فتندلق أقتاب بطنه - أي تخرج
أمعاؤه من بطنه - فيدور بها كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار
فيقولون: يا فلان مالك ؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ؟
فيقول: بلى.
كنت آمر بالمعروف ولا آتيه وأنهى عن المنكر وآتيه " * وهذه صفة مخالفي
الانبياء من الفجار والاشقياء فأما السادة من النجباء والالباء من
العلماء، والذين يخشون ربهم بالغيب، فحالهم كما قال نبي الله شعيب (وما
أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه ان أريد إلا الاصلاح ما استطعت) أي
ما أريد في جميع أمري إلا الاصلاح في الفعال والمقال بجهدي وطاقتي (وما
توفيقي) أي في جميع أحوالي (إلا بالله عليه توكلت واليه أنيب) أي عليه
أتوكل في سائر الامور واليه مرجعي ومصيري في كل أمري وهذا مقام ترغيب.
ثم انتقل إلى نوع من الترهيب فقال (ويا قوم لا يجر منكم شقاقي أن
يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم
ببعيد)
[ هود: 89 ] أي لا تحملنكم مخالفتي وبغضكم ما جئتكم به على الاستمرار
على ضلالكم وجهلكم ومخالفتكم فيحل الله بكم من العذاب والنكال نظير ما
أحله بنظرائكم وأشباهكم من قوم نوح وقوم هود وقوم صالح من المكذبين
المخالفين.
وقوله (وما قوم لوط منكم ببعيد) قيل معناه في الزمان أي ما بالعهد من
قدم مما قد بلغكم ما أحل بهم على كفرهم وعتوهم * وقيل معناه وما هم
منكم ببعيد في المحلة والمكان.
وقيل في الصفات والافعال المستقبحات من قطع الطريق وأخذ أموال الناس
جهرة وخفية بأنواع الحيل والشبهات.
والجمع بين هذه الاقوال ممكن فإنهم لم يكونوا بعيدين منهم لا زمانا ولا
مكانا ولا صفات ثم مزج الترهيب بالترغيب فقال (واستغفروا ربكم ثم توبوا
إليه إن ربي رحيم ودود) [ هود: 90 ] أي أقلعوا عما أنتم فيه وتوبوا إلى
ربكم الرحيم الودود فإنه من تاب إليه تاب عليه فإنه رحيم بعباده أرحم
بهم من الوالدة بولدها ودود وهو الحبيب ولو بعد التوبة على عبده ولو من
الموبقات العظام (قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما نقول وإنا لنراك
فينا ضعيفا) [ هود: 91 ] روي عن ابن عباس وسعيد بن جبير والثوري أنهم
قالوا كان ضرير
(1/216)
البصر * وقد
روي في حديث مرفوع أنه بكى من حب الله حتى عمي فرد الله عليه بصره.
وقال يا شعيب أتبكي خوفا من النار أو من شوقك إلى الجنة فقال: بل من
محنتك فإذا نظرت إليك فلا أبالي ماذا يصنع بي فأوحى الله إليه هنيئا لك
يا شعيب لقاني فلذلك أخدمتك موسى بن عمران كليمي * رواه الواحدي عن أبي
الفتح محمد بن علي الكوفي عن علي بن الحسن بن بندار عن أبي عبد الله
محمد بن اسحق التربلي (1)، عن هشام بن عمار، عن إسمعيل بن عباس عن يحيى
بن سعيد، عن شداد بن أمين (2)، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه، وهو
غريب جدا، وقد ضعفه الخطيب البغدادي * وقولهم (ولولا رهطك لرجمناك وما
أنت علينا بعزيز) [ هود: 91 ] وهذا من كفرهم البليغ وعنادهم الشنيع حيث
قالوا (ما نفقه كثيرا مما تقول) أي ما نفهمه ولا نتعقله لانا لا نحبه
ولا نريده وليس لنا همة إليه ولا إقبال عليه وهو كما قال كفار قريش
لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعوننا
إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا
عاملون) [ فصلت: 5 ] وقولهم (وإنا لنراك فينا ضعيفا) أي مضطهدا مهجورا
(ولولا رهطك) أي قبيلتك وعشيرتك فينا (لرجمناك وما أنت علينا بعزيز).
(قال يا قوم ارهطي أعز عليكم من الله) [ هود: 92 ] أي تخافون قبيلتي
وعشيرتي وترعوني بسببهم، ولا تخافون جنبة (3) الله ولا تراعوني لاني
رسول الله فصار رهطي أعز عليكم من الله (واتخذتموه وراءكم ظهريا) أي
جانب الله وراء ظهوركم (إن ربي بما تعملون محيط) [ هود: 92 ] أي هو
عليم بما تعملونه وما تصنعونه، محيط بذلك كله وسيجزيكم عليه يوم ترجعون
إليه.
(ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه
ومن هو كاذب وارتقبوا اني معكم رقيب) [ هود: 93 ] وهذا أمر تهديد شديد
ووعيد أكيد، بأن يستمروا على طريقتهم ومنهجهم وشاكلتهم فسوف تعلمون من
تكون له عاقبة الدار.
ومن يحل عليه الهلاك والبوار (من يأتيه عذاب يخزيه) أي في هذه الحياة
الدنيا (ويحل عليه عذاب مقيم) أي في الاخرى (ومن هو كاذب) أي مني ومنكم
فيما أخبر وبشر وحذر (وارتقبوا اني معكم رقيب) وهذا كقوله (وان كان
طائفة منكم آمنوا بالذي ارسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم
الله بيننا وهو خير الحاكمين) [ الاعراف: 87 ] (قال الملا (4) الذين
استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو
لتعودن في ملتنا قال أو لو كنا كارهين.
قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما
يكون لنا أن نعود فيها الا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شئ علما على
الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين) [
الاعراف:
__________
(1) وفي نسخه الرملي.
(2) ابن امين تحريف، وفي نسخة ابن أوس.
(3) وفي نسخة: عذاب الله.
(4) الملا: أشراف القوم وسادتهم وكبراؤهم.
[ * ]
(1/217)
88 - 89 ]
طلبوا بزعمهم أن يردوا من آمن منهم إلى ملتهم، فانتصب شعيب للمحاجة عن
قومه
فقال: (أو لو كنا كارهين) أي هؤلاء لا يعودون إليكم اختيارا وإنما
يعودون إليه إن عادوا اضطرارا مكرهين، وذلك لان الايمان إذا خالطته
بشاشة القلوب لا يسخطه أحد ولا يرتد أحد عنه ولا محيد لاحد منه.
ولهذا قال (قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا
الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا
كل شئ علما على الله توكلنا) أي فهو كافينا وهو العاصم لنا وإليه
ملجاؤنا في جميع أمرنا ثم استفتح على قومه واستنصر ربه عليه في تعجيل
ما يستحقونه إليهم فقال (ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير
الفاتحين) أي الحاكمين، فدعا عليهم والله لا يرد دعاء رسله إذا
استنصروه على الذين جحدوه وكفروه ورسوله خالفوه.
ومع هذا صمموا على ما هم عليه مشتملون، وبه متلبسون (وقال الملا الذين
كفروا من قومه لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون) [ الاعراف: 90 ] قال
الله تعالى: (فأخذتهم الرجفة فاصبحوا في دارهم جاثمين) [ الاعراف: 91 ]
ذكر في سورة الاعراف أنهم أخذتهم رجفة أي رجفت بهم أرضهم وزلزلت زلزالا
شديدا أزهقت أرواحهم من أجسادها وصيرت حيوانات أرضهم كجمادها وأصبحت
جثثهم جاثية لا أرواح فيها ولا حركات بها ولا حواس لها * وقد جمع الله
عليهم أنواعا من العقوبات وصنوفا من المثلات وأشكالا من البليات وذلك
لما اتصفوا به من قبيح الصفات سلط الله عليهم رجفة شديدة أسكنت الحركات
وصيحة عظيمة أخمدت الاصوات وظلة أرسل عيلهم منها شرر النار من سائر
أرجائها والجهات.
ولكنه تعالى أخبر عنهم في كل سورة بما يناسب سياقها ويوافق طباقها في
سباق قصة الاعراف ارجفوا نبي الله وأصحابه وتوعدوهم بالاخراج من قريتهم
أو ليعودن في ملتهم راجعين فقال تعالى (فأخذتهم الرجفة فاصبحوا في
دارهم جاثمين) فقابل الارجاف بالرجفة والاخافة بالخيفة وهذا مناسب لهذا
السياق ومتعلق بما تقدمه من السياق * وأما في سورة هود فذكر أنهم
أخذتهم الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين وذلك لانهم قالوا لنبي الله
على سبيل التهكم والاستهزاء والتنقص (أصلوتك تأمرك أن نترك ما يعبد
آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء انك لانت الحليم الرشيد) [ هود:
87 ] فناسب أن يذكر الصيحة التي هي كالزجر عن تعاطي هذا الكلام القبيح
الذي واجهوا به هذا
الرسول الكريم الامين الفصيح فجاءتهم صيحة أسكتتهم مع رجفة اسكنتهم.
وأما في سورة الشعراء فذكر أنه أخذهم عذاب يوم الظلة.
وكان إجابة لما طلبوا.
وتقريبا إلى ما إليه رغبوا.
فإنهم قالوا (إنما أنت من المسحرين وما أنت إلا بشر مثلنا وإن نظنك لمن
الكاذبين فاسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين.
قال رب أعلم بما تعملون) [ الشعراء: 185 - 188 ] قال الله تعالى (وهو
السميع العليم فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم) [
الشعراء: 189 ] ومن زعم من المفسرين كقتادة وغيره أن أصحاب الايكة أمة
أخرى غير أهل مدين فقوله ضعيف.
وإنما عمدتهم شيئان: أحدهما أنه قال: (كذب
(1/218)
أصحاب الايكة
المرسلين إذ قال لهم شعيب) ولم يقل أخوهم كما قال: (وإلى مدين أخاهم
شعيبا).
والثاني أنه ذكر عذابهم بيوم الظلة وذكر في أولئك الرجفة أو الصيحة
والجواب عن الاول أنه لم يذكر الاخوة بعد قوله: (كذب أصحاب الايكة
المرسلين) لانه وصفهم بعبادة الايكة فلا يناسب ذكر الاخوة ههنا ولما
نسبهم إلى القبيلة شاع ذكر شعيب بأنه أخوهم * وهذا الفرق من النفائس
اللطيفة العزيزة الشريفة * وأما إحتجاجهم بيوم الظلة فإن كان دليلا
بمجرده على أن هؤلاء أمة أخرى فليكن تعداد الانتقام بالرجفة والصيحة
دليلا على أنهما أمتان أخريان وهذا لا يقوله أحد يفهم شيأ من هذا الشأن
* فأما الحديث الذي أورده الحافظ ابن عساكر في ترجمة النبي شعيب عليه
السلام من طريق محمد بن عثمان بن أبي شيبة عن أبيه عن معاوية بن هشام
عن هشام بن سعد عن شفيق بن أبي هلال عن ربيعة بن سيف عن عبد الله بن
عمرو مرفوعا: " إن مدين وأصحاب الايكة أمتان بعث الله اليهما شعيبا
النبي عليه السلام ".
فإنه حديث غريب وفي رجاله من تكلم فيه * والاشبه أنه من كلام عبد الله
بن عمرو مما أصابه يوم اليرموك من تلك الزاملتين من أخبار بني اسرائيل
والله أعلم * ثم قد ذكر الله عن أهل الايكة من المذمة ما ذكره عن أهل
مدين من التطفيف في المكيال والميزان فدل على أنهم أمة واحدة أهلكوا
بأنواع من العذاب * وذكر في كل موضع ما يناسب من
الخطاب.
وقوله (فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم) ذكروا أنهم
أصابهم حر شديد وأسكن الله هبوب الهواء عنهم سبعة أيام فكان لا ينفعهم
مع ذلك ماء ولا ظل ولا دخولهم في الاسراب فهربوا من محلتهم إلى البرية
فأظلتهم سحابة، فاجتمعوا تحتها ليسظلوا بظلها، فلما تكاملوا فيه أرسلها
الله ترميهم بشرر وشهب، ورجفت بهم الارض وجاءتهم صيحة من السماء،
فأزهقت الارواح، وخربت الاشباح.
(فاصبحوا في دارهم جاثمين الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها الذين
كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين) [ الاعراف: 91 - 92 ].
(ونجى الله شعيبا ومن معه من المؤمنين)، كما قال تعالى وهو أصدق
القائلين (ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا
وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين.
كأن لم يغنوا فيها ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود) [ هود: 94 - 95 ].
وقال تعالى (وقال الملا من قومه لئن إتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون.
فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين الذين كذبوا شعيبا كان لم
يغنوا فيها الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين) [ الاعراف: 90 - 92
].
وهذا في مقابلة قولهم (لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون) [ الاعراف:
93 ] ثم ذكر تعالى عن نبيهم أنه نعاهم إلى أنفسهم موبخا ومؤنبا ومقرعا
فقال تعالى (يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فكيف آسى على قوم
كافرين) [ الاعراف: 93 ] أي أعرض عنهم موليا عن محلتهم بعد هلكتهم
قائلا (يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم) أي قد أديت ما كان
واجبا علي من البلاغ التام والنصح
(1/219)
الكامل وحرصت على هدايتكم بكل ما أقدر عليه وأتوصل إليه فلم ينفعكم ذلك
لان الله لا يهدي من يضل وما لهم من ناصرين فلست أتأسف بعد هذا عليكم
لانكم لم تكونوا تقبلون النصيحة ولا تخافون يوم الفضيحة.
ولهذا قال فكيف آسى أي أحزن على قوم كافرين أي لا تقبلون الحق ولا
ترجعون إليه ولا تلتفون إليه فحل بهم من بأس الله الذي لا يرد ما لا
يدافع ولا يمانع ولا محيد لاحد أريد به عنه ولا مناص منه.
وقد ذكر الحافظ بن عساكر في تاريخه عن ابن عباس أن شعيبا عليه السلام
كان بعد يوسف عليه السلام.
وعن وهب بن منبه أن شعيبا عليه السلام مات بمكة ومن معه من المؤمنين
وقبورهم غربي الكعبة بين دار الندوة ودار بني سهم. |