البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي
بيان سبب قتل يحيى عليه السلام
وذكروا في قتله أسبابا من أشهرها: أن بعض ملوك ذلك الزمان بدمشق كان
يريد أن يتزوج ببعض محارمة (1)، أو من لا يحل له تزويجها فنهاه يحيى
عليه السلام عن ذلك فبقي في نفسها (2) منه.
فلما كان بينها وبين الملك ما يحب منها استوهبت منه دم يحيى فوهبه لها
فبعثت إليه من قتله وجاء برأسه ودمه في طشت إلى عندها فيقال إنها هلكت
من فورها وساعتها.
وقيل بل أحبته امرأة ذلك الملك وراسلته فأبى عليها فلما يئست منه تحيلت
في أن استوهبته من الملك فتمنع عليها الملك ثم أجابها إلى ذلك فبعث من
قتله وأحضر إليها رأسه ودمه في طشت.
وقد ورد معناه في حديث رواه إسحاق بن بشر في كتابه " المبتدأ " حيث
قال: أنبأنا يعقوب الكوفي، عن عمرو بن ميمون، عن أبيه، عن ابن عباس أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به رأى زكريا في السماء فسلم
عليه وقال له يا أبا يحيى خبرني عن قتلك كيف كان ولم قتلك بنو إسرائيل.
قال: يا محمد أخبرك أن يحيى كان خير أهل زمانه وكان أجملهم وأصبحهم
وجها وكان كما قال الله تعالى: (سيدا وحصورا) وكان لا يحتاج إلى النساء
فهوته امرأة ملك بني إسرائيل وكانت بغية فأرسلت إليه وعصمه الله وامتنع
يحيى وأبى عليها فأجمعت على قتل يحيى ولهم عيد يجتمعون في كل عام وكانت
سنة الملك أن يوعد ولا يخلف ولا يكذب.
قال فخرج الملك إلى العيد فقامت امرأته فشيعته وكان بها معجبا ولم تكن
تفعله فيما مضى فلما أن شيعته قال الملك سليني فما سألتني شيئا إلا
اعطيتك قالت: أريد دم يحيى بن زكريا قال لها: سليني غيره قالت: هو ذاك
قال هو لك، قال: فبعثت جلاوزتها إلى يحيى وهو في محرابه يصلي وأنا إلى
جانبه أصلي قال: فذبح في طشت وحمل رأسه ودمه إليها.
قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فما بلغ من صبرك قال ما انفتلت
من صلاتي قال: فلما حمل رأسه إليها فوضع بين يديها فلما أمسوا خسف الله
بالملك وأهل بيته وحشمه فلما أصبحوا قالت بنو إسرائيل قد غضب إله
__________
(1) قال الطبري: عن ابن عباس قال: بعث عيسى بن مريم يحيى بن زكريا في
اثني عشر من الحواريين يعلمون الناس فكان فيما نهوهم عنه نكاح ابنة
الاخ.
وكان لملكهم (واسمه: هيرودس) ابنة أخ يريد أن يتزوجها فنهاه
يحيى.
راجع الكامل لابن الاثير ج 1 / 301 - 302.
(2) كذا في الاصول، والصواب كما يقتضيه السياق: في نفسه.
(3) جاء في الطبري والكامل: عن السدي: أن الملك أراد أن يتزوج ابنة
امرأة له فنهاه يحيى عن ذلك وقال له: لا تحل لك.
فحقدت عليه المرأة وطلبت قتله.
وقال ابن قتيبة في المعارف ص 24 - أن أحب ملك بني اسرائيل قتله بحيلة
امرأته ازبيل في قتله.
أما المسعودي فذكر حادثة القتل دون تعليق.
[ * ]
(2/64)
زكريا لزكريا
فتعالوا حتى نغضب لملكنا فنقتل زكريا قال فخرجوا في طلبي ليقتلوني
وجاءني الندير فهربت منهم وإبليس أمامهم يدلهم علي فلما تخوفت أن لا
أعجزهم عرضت لي شجرة فنادتني وقالت إلي إلي وانصدعت لي ودخلت فيها.
قال وجاء إبليس حتى أخذ بطرف ردائي والتأمت الشجرة وبقي طرف ردائي
خارجا من الشجرة، وجاءت بنو إسرائيل فقال إبليس: أما رأيتموه دخل هذه
الشجرة هذا طرف ردائه دخلها بسحره، فقالوا نحرق هذه الشجرة، فاق إبليس:
شقوه بالمنشار شقا.
قال فشققت مع الشجرة بالمنشار قال له النبي صلى الله عليه وسلم: هل
وجدت له مسا أو وجعا قال لا إنما وجدت ذلك الشجرة التي جعل الله روحي
فيها.
هذا سياق غريب جدا.
وحديث عجيب ورفعه منكر وفيه ما ينكر على كل حال ولم ير في شئ من أحاديث
الاسراء ذكر زكريا عليه السلام إلا في هذا الحديث وإنما المحفوظ في بعض
الفاظ الصحيح في حديث الاسراء فمررت بابني الخالة يحيى وعيسى وهما ابنا
الخالة [ فجاء ] (1) على قول الجمهور، كما هو ظاهر الحديث فإن أم يحيى
أشياع بنت عمران أخت مريم بنت عمران.
وقيل بل أشياع وهي امرأة زكريا أم يحيى هي أخت حنة امرأة عمران أم مريم
فيكون يحيى ابن خالة مريم فالله أعلم.
ثم اختلف في مقتل يحيى بن زكريا هل كان في المسجد الاقصى ؟ أم بغيره
على قولين: فقال الثوري عن الاعمش، عن شمر بن عطية قال: قتل على الصخرة
التي ببيت المقدس سبعون نبيا منهم يحيى بن زكريا عليه السلام، وقال أبو
عبيد القاسم بن سلام: حدثنا عبد الله بن صالح،
عن الليث، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب قال: قدم بخت نصر دمشق
فإذا هو بدم يحيى بن زكريا يغلي فسأل عنه فأخبروه فقتل على دمه سبعين
ألفا فسكن.
وهذا إسناد صحيح إلى سعيد بن المسيب وهو يقتضي أنه قتل بدمشق وأن قصة
بخت نصر كانت بعد المسيح (2) كما قاله عطاء والحسن البصري فالله أعلم.
وروى الحافظ ابن عساكر من طريق الوليد بن مسلم، عن زيد بن واقد قال:
رأيت رأس يحيى بن زكريا حين أرادوا بناء مسجد دمشق أخرج من تحت ركن من
أركان القبلة الذي يلي المحراب مما يلي الشرق فكانت البشرة والشعر على
حاله لم يتغير وفي رواية كأنما قتل الساعة.
وذكر في بناء مسجد دمشق أنه جعل تحت العمود المعروف بعمود السكاسكة
فالله أعلم.
__________
(1) سقطت من نسخ البداية المطبوعة.
(2) رفض الطبري 2 / 15 والكامل 1 / 303 وقوع قصة بختنصر أيام المسيح
قال: وهذا القول الذي روي عمن ذكرت في هذا الاخبار التي رويت وعمن لمن
يذكر من ان بختنصر هو الذي غزا بني إسرائيل عند قتلهم يحيى بن زكريا
عند أهل السير والاخبار والعلم بأمور الماضين وعند غيرهم من أهل الملل
غلط، وأجمعوا على أن غزوه كان عند قتلهم نبيهم شعيا في عهد أرميا، وبين
عهد أرميا ويحيى اربعمائة سنة وإحدى وستون.
[ * ]
(2/65)
وقد روى الحافظ ابن عساكر في المستقصى في فضائل الاقصى من طريق العباس
بن سبع ؟ ؟.
عن مروان، عن سعيد بن عبد العزيز، عن قاسم مولى معاوية قال: كان ملك
هذه المدينة يعني دمشق هداد بن هداد وكان قد زوجه ابنه بابنة أخيه أريل
ملكة صيدا وقد كان من جملة أملاكها سوق الملوك بدمشق وهو الصاغة
العتيقة قال: وكان قد حلف بطلاقها ثلاثا.
ثم أنه أراد مراجعتها فاستفتى يحيى بن زكريا فقال: لا تحل لك حتى تنكح
زوجا غيرك فحقدت عليه وسألت من الملك رأس يحيى بن زكريا وذلك بإشارة
أمها فأبى عليها ثم أجابها إلى ذلك وبعث إليه وهو قائم يصلي بمسجد
جيرون من أتاه برأسه في صينية فجعل الرأس يقول له لا تحل له لا تحل له
حتى تنكح زوجا غيره فأخذت المرأة الطبق فحملته على رأسها وأتت به أمها
وهو يقول كذلك فلما تمثلت بين
يدي أمها خسف بها إلى قدميها ثم إلى حقويها وجعلت أمها تولول والجواري
يصرخن ويلطمن وجوههن ثم خسف بها إلى منكبيها فأمرت أمها السياف أن يضرب
عنقها لتتسلى برأسها ففعل فلفظت الارض جثتها عند ذلك ووقعوا في الذل
والفناء ولم يزل دم يحيى يفور حتى قدم بخت نصر فقتل عليه خمسة وسبعين
ألفا.
قال سعيد بن عبد العزيز وهي دم كل نبي ولم يزل يفور حتى وقف عنده أرميا
عليه السلام فقال أيها الدم أفنيت بني إسرائيل فاسكن بإذن الله فسكن
فرفع السيف وهرب من هرب من أهل دمشق إلى بيت المقدس فتبعهم إليها فقتل
خلقا كثيرا لا يحصون كثرة وسبا منهم ثم رجع عنهم. |