البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي

ذكر أخبار العرب
قيل إن جميع العرب (2) ينتسبون إلى إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام والتحية والاكرام.
والصحيح المشهور أن العرب العاربة قبل إسماعيل وقد قدمنا أن العرب العاربة (3) منهم عاد وثمود وطسم وجديس وأميم وجرهم والعماليق وأمم آخرون لا يعلمهم إلا الله كانوا قبل الخليل عليه الصلاة والسلام وفي زمانه أيضا.
فأما العرب المستعربة (4) وهم عرب الحجاز فمن ذرية (5) اسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام.
وأما عرب اليمن وهم حمير فالمشهور أنهم من قحطان واسمه مهزم قاله ابن ماكولا وذكروا أنهم كانوا أربعة أخوة قحطان (6) وقاحط ومقحط وفالغ وقحطان بن
__________
(1) مسند أحمد ج 2 / 161، 191.
وأخرجه مسلم في صحيحه كتاب الامارة 46 والنسائي في سننه - بيعة 25.
وابن ماجة في سننه: الفتن 9.
- جشرة: إخراج الدواب للرعي.
- النضل: الهزل والاعياء والتعب.
(2) قال الجوهري في الصحاح: العرب جيل من الناس وهم أهل الامصار والاعراب سكان البادية والنسبة إلى
العرب عربي وإلى الاعراب اعرابي والذي عليه العرف العام إطلاق لفظة العرب مشتقة من الاعراب.
وقال ابن حزم في الجمهرة ص 7: جميع العرب يرجعون إلى ولد ثلاثة رجال.
وهم عدنان وقحطان وقضاعة.
وجاء في سبائك الذهب: ص 13: أعلم أن العرب كلها ترجع إلى أصلين: عدنان وقحطان.
(3) قال في نهاية الارب: 18: فالعاربة هم العرب الاولى الذي فهمهم الله اللغة العربية ابتداءا فتكلموا بها فقيل لهم عاربة أي بمعنى الراسخة في العروبية.
وقد يقال فيهم العرب العرباء.
وهم العرب البائدة الذين بادوا ودرست آثارهم.
(4) المستعربة: قال في نهاية الارب: المستعربة هم الداخلون في العروبية من بعد العجمة أخذا من استفعل بمعنى الصيرورة.
(5) قال ابن حزم في الجمهرة: عدنان من ولد اسماعيل بلا شك في ذلك.
إلا أن تسمية الاسماء بينه وبينه قد جهلت جملة.
قال في سبائك الذهب: لا خلاف بينهم [ النسابين ] في أن عدنان من ولد اسماعيل.
(6) قال ابن حزم ; قحطان.
فمختلف فيه من ولد من هو ؟ قالوا: من ولد اسماعيل - عليه السلام - وهذا باطل [ * ]

(2/187)


هود.
وقيل هو هود.
وقيل هود أخوه وقيل من ذريته وقيل إن قحطان من سلالة اسماعيل حكاه ابن إسحاق وغيره فقال بعضهم هو قحطان بن [ الهميسع ] تيمن بن قيذر [ بنت ] (1) بن إسماعيل.
وقيل غير ذلك في نسبه إلى إسماعيل والله أعلم.
وقد ترجم البخاري في صحيحه على ذلك فقال (2): (باب نسبة اليمن إلى اسماعيل عليه السلام) حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن يزيد بن أبي عبيد حدثنا سلمة رضي الله عنه قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على قوم من أسلم يتناضلون بالسيوف فقال ارموا بني اسماعيل وأنا مع بني فلان لاحد الفريقين فأمسكوا بأيديهم فقال مالكم قالوا وكيف نرمي وأنت مع بني فلان فقال ارموا وأنا معكم كلكم.
انفرد به البخاري وفي بعض ألفاظه: " ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميا ارموا وأنا
مع ابن الادرع " فأمسك القوم فقال ارموا وأنا معكم كلكم.
قال البخاري: وأسلم (3) بن أفصى بن حارثة بن عمرو بن عامر من خزاعة يعني وخزاعة فرقة ممن كان تمزق من قبائل سبأ حين ارسل الله عليهم سيل العرم كما سيأتي بيانه وكانت الاوس والخزرج منهم وقد قال لهم عليه الصلاة والسلام ارموا بني إسماعيل فدل على أنهم من سلالته وتأوله آخرون على أن المراد بذلك جنس العرب لكنه تأويل بعيد إذ هو خلاف الظاهر بلا دليل.
لكن الجمهور على أن العرب القحطانية من عرب اليمن وغيرهم ليسوا من سلالة إسماعيل.
وعندهم أن جميع العرب ينقسمون إلى قسمين قحطانية وعدنانية فالقحطانية شعبان (4) سبأ
__________
= بلا شك.
وقيل من ولد هود - عليه السلام - وهذا باطل بيقين قوله تعالى: (وإلى عاد أخاهم هودا).
وقال صاحب تاريخ حماة: بني قحطان هم العاربة وان العاربة هم بنو اسماعيل فقط.
وقال في مروج الذهب إن قحطان من ولد عابر..بن سام.
وهو أبو اليمن كلها وهو أول من تكلم بالعربية لاعرابه عن المعاني وإبانته عنها.
وقال الطبري ج 1 / 104 قحطان أول من ملك اليمن.
(1) من سيرة ابن كثير، وفي سيرة ابن هشام نابت.
ما بين معكوفين.
(2) صحيح البخاري - كتاب بدء الخلق ج 4 / 156.
(3) في البخاري: ومنهم أسلم.
(4) قال السمعاني في الانساب ص 5: والعرب على طبقات ست: شعب وقبيلة وعمارة وبطن وفخذ وفصيلة وما بينهما من الاباء فإنما يعرفها أهلها.
وحكى أبو عبيد، عن ابن الكلبي عن أبيه: تقديم الفصيلة مقام العمارة قال صاحب سبائك الذهب: ولا يخفى أن الترتيب الاول أولى.
[ * ]

(2/188)


وحضر موت (1) والعدنانية شعبان أيضا ربيعة ومضر ابنا نزار بن معد بن عدنان والشعب الخامس وهم قضاعة مختلف فيهم (2) فقيل إنهم عدنانيون قال ابن عبد البر وعليه الاكثرون ويروى هذا
عن ابن عباس وابن عمر وجبير بن مطعم وهو اختيار الزبير بن بكار وعمه مصعب الزبيري وابن هشام وقد ورد في حديث قضاعة بن معد ولكنه لا يصح قاله ابن عبد البر وغيره ويقال إنهم لن (3) يزالوا في جاهليتهم وصدر من الاسلام ينتسبون إلى عدنان فلما كان في زمن خالد بن يزيد بن معاوية وكانوا أخواله انتسبوا إلى قحطان فقال في ذلك أعشى بن ثعلبة في قصيدة له: أبلغ قضاعة في القرطاس أنهم * لولا خلائف آل الله ما عتقوا قالت قضاعة إنا من ذوي يمن * والله يعلم ما بروا وما (4) صدقوا قد ادعوا والدا ما نال أمهم * قد يعلمون ولكن ذلك الفرق وقد ذكر أبو عمرو السهيلي أيضا من شعر العرب ما فيه إبداع في تفسير (5) قضاعة في انتسابهم إلى اليمن والله أعلم.
والقول الثاني أنهم من قحطان وهو قول ابن إسحاق والكلبي وطائفة من أهل النسب.
قال ابن إسحاق وهو قضاعة بن مالك بن حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان وقد قال بعض شعرائهم وهو عمرو بن مرة (6) صحابي له حديثان:
__________
(1) وسبأ اسمه عبد شمس وهو أول من سبى وأسر الاعادي.
وحضرموت وبنوه قبيلة من بني قحطان.
قال الجوهري: وحضرموت اسم بلد وقبيلة.
(2) قال في سبائك الذهب: وهم قبيلة من حمير من القحطانية.
وهذا هو المشهور في قضاعة وعليه جرى الكلبي وابن اسحاق.
(3) كذا في الاصل وفي سيرة ابن كثير: لن والصواب لم.
(4) كذا في الاصل وما وفي سيرة ابن كثير ولا.
(5) كذا في الاصل، وفي سيرة ابن كثير تعيير، و (6) عمرو بن مرة بن عبس بن مالك بن الحرث بن مازن بن سعد بن مالك بن رفاعة بن نصر بن غطفان بن قيس بن جهينة.
قال ابن سعد: كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم شيخا كبيرا، يكنى أبا طلحة ويقال أبا مريم وقيل أبا مرة.
وهو أول من ألحق قضاعة باليمن.
قال ابن حبان وأبو عمر مات في خلافة معاوية.
وقال ابن سميع مات في خلافة عبد الملك بن مروان.
له في جامع الترمذي حديث واحد في كتاب الاحكام وهو عند أحمد وفيه قوله لمعاوية: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من إمام يغلق بابه دون ذوي الحاجة والخلة والمسكنة إلا أغلق الله تعالى أبواب السماء دون حاجته ومسألته ومسكنته وله في مسند أحمد حديثان آخران أحدهما في ذم الحقوق.
وله عند الطبراني عدة أحاديث منها حديث في قصة إسلامه.
تقريب ابن حجر ج 2 / 79 الاصابة 3 / 15 مسند أحمد: جمهرة أنساب العرب ص 445.
[ * ]

(2/189)


يا أيها الداعي ادعنا وأبشر * وكن قضاعيا ولا تنزر نحن بنو الشيخ الهجان الازهر (1) قضاعة بن مالك بن حمير النسب المعروف غير المنكر * في الحجر المنقوش تحت المنبر قال بعض أهل النسب هو قضاعة بن مالك بن عمر بن مرة بن زيد بن حمير وقال ابن لهيعة عن معروف بن سويد عن أبي عشابة (2) محمد بن موسى عن عقبة بن عامر قال قلت يا رسول الله أما نحن من معد قال لا قلت فمن نحن قال أنتم قضاعة بن مالك بن حمير قال أبو عمر بن عبد البر ولا يختلفون أن جهينة بن زيد بن أسود بن أسلم بن عمران بن إلحاف بن قضاعة قبيلة عقبة بن عامر الجهني فعلى هذا قضاعة في اليمن في حمير بن سبأ وقد جمع بعضهم بين هذين القولين بما ذكره الزبير بن بكار وغيره من أن قضاعة امرأة من جرهم تزوجها مالك بن حمير فولدت له قضاعة ثم خلف عليها معد بن عدنان وابنها صغير وزعم بعضهم أنه كان حملا فنسب إلى زوج أمه (3) كما كانت عادة كثير منهم ينسبون الرجل إلى زوج أمه والله أعلم.
وقال محمد بن سلام البصري النسابة: العرب ثلاثة جراثيم العدنانية والقحطانية وقضاعة.
قيل له فأيهما اكثر العدنانية أو القحطانية فقال ما شاءت قضاعة أن تيامنت فالقحطانية أكثر وإن تعددت فالعدنانية أكثر وهذا يدل على أنهم يتلومون في نسبهم فإن صح حديث ابن لهيعة
المقدم فهو دليل على أنهم من القحطانية والله أعلم.
وقد قال الله تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) (4).
قال علماء النسب يقال شعوب.
ثم قبائل ثم عمائر.
ثم بطون.
ثم أفخاذ، ثم فصائل.
ثم عشائر (5).
والعشيرة أقرب الناس إلى الرجل وليس بعدها شئ.
ولنبدأ أولا بذكر القحطانية
__________
(2) الهجان: الكريم العالي النسب.
والازهر: المشهور.
(2) قوله أبى عشابة كذا بالاصل بباء.
وليس بين الرجال من تكنى بهذه الكنية والموجود أبوعشانة المعافري المصري.
واسمه حي بن يؤمن.
(3) في أصول الاحساب: فجاءت بقضاعة على فراش مالك بن مرة فنسبته العرب إلى زوج أمه، وقيل إن اسم الجرهمية قضاعة فلما جاءت بولدها سمته باسمها، وقيل كان اسمه عمرا.
وقيل كان اسمها عكبرة.
وقال الطبري في ذلك: ج 2 / 190: ونزار كان يكنى أبا إياد أمه معانة بنت جوشم بن جلهمة بن عمرو وأخوته لامه وأبيه:.
وعد منهم قضاعة، وبه كان معد يكنى.
وفي أنساب السمعاني ; ص 6 قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قضاعة من معد وكان به يكنى.
(4) سورة الحجرات الآية 13.
(5) تقدم التعليق على طبقات الانساب.
وقال النووي في تحرير التنبيه: وزاد بعضهم العشيرة قبل الفصيلة.
وقال الجوهري في الصحاح: وعشيرة الرجل هم رهطه الادنون.
[ * ]

(2/190)


ثم نذكر بعدهم عرب الحجاز وهم العدنانية وما كان من أمر الجاهلية ليكون ذلك متصلا بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إن شاء الله تعالى وبه الثقة.
وقد قال البخاري (باب ذكر قحطان) حدثنا عبد العزيز بن عبد الله [ قال ] حدثنا سليمان بن بلال عن ثور بن زيد عن أبي المغيث (1) عن أبي هريرة [ رضي الله عنه ] عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان يسوق الناس بعصاه وكذا رواه مسلم
عن قتيبة عن الدراوردي عن ثور بن زيد به.
قال السهيلي وقحطان أول من قيل له أبيت اللعن وأول من قيل له أنعم صباحا.
وقال الامام أحمد حدثنا أبو المغيرة عن جرير حدثني راشد بن سعد المقراي عن أبي حي، عن ذي فجر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " كان هذا الامر في حمير فنزعه الله منهم فجعله في قريش (وس ى ع ود ا ل ى ه م) قال عبد الله كان هذا في كتاب أبي وحيث حدثنا به تكلم به على الاستواء يعني: " وسيعود إليهم ".
قصة سبأ قال الله تعالى: (لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور.
فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشئ من سدر قليل.
ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور.
وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياما آمنين.
فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور) (2).
قال علماء النسب منهم محمد بن إسحاق: اسم سبأ عبد شمس (3) بن يشجب بن يعرب بن قحطان قالوا وكان أول من سبى من العرب فسمي سبأ لذلك.
وكان يقال له الرائش لانه كان يعطي الناس الاموال من متاعه.
قال السهيلي: ويقال إنه أول من تتوج.
وذكر بعضهم أنه كان مسلما وكان له شعر بشر فيه بوجود رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن ذلك قوله: سيملك بعدنا ملكا عظيما * نبي لا يرخص في الحرام ويملك بعده منهم ملوك * يدينون العباد بغير ذام
__________
(1) في البخاري كتاب بدء الخلق باب ذكر قحطان: أبي الغيث، وكذلك في سيرة ابن كثير.
(2) سورة سبأ الآيات من 15 - 19.
(3) في جمهرة أنساب العرب: اسم سبأ عامر.
[ * ]

(2/191)


ويملك بعدهم منا ملوك * يصير الملك فينا باقتسام ويملك بعد قحطان نبي * تقي جبينه خير الانام (1) يسمى أحمدا ياليت أني * أعمر بعد مبعثه بعام فأعضده وأحبوه بنصري * بكل مدجج وبكل رام متى يظهر فكونوا ناصريه * ومن يلقاه يبلغه سلامي حكاه ابن دحية في كتابه التنوير في مولد البشير النذير.
وقال الامام أحمد حدثنا أبو عبد الرحمن حدثنا ابن لهيعة عن عبد الله بن دعلة (2) سمعت عبد الله بن العباس يقول إن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن سبأ ما هو أرجل أم امرأة أم أرض قال: " بل هو رجل ولد عشرة فسكن اليمن منهم ستة وبالشام منهم أربعة.
فأما اليمانيون فمذحج وكندة والازد والاشعريون وأنمار وحمير [ وعربا كلها ].
وأما الشامية فلخم وجذام وعاملة وغسان.
وقد ذكرنا في التفسير أن فروة بن مسيك الغطيفي (3) هو السائل عن ذلك كما استقصينا طرق هذا الحديث وألفاظه هناك ولله الحمد.
والمقصود أن سبأ يجمع هذه القبائل كلها وقد كان فيهم التبابعة بأرض اليمن واحدهم تبع وكان لملوكهم تيجان يلبسونها وقت الحكم كما كانت الاكاسرة ملوك الفرس يفعلون ذلك وكانت العرب تسمي كل من ملك اليمن مع الشحر وحضرموت تبعا، كما يسمون من ملك الشام مع الجزيرة قيصر، ومن ملك الفرس كسرى، ومن ملك مصر فرعون، ومن ملك الحبشة النجاشي، ومن ملك الهند بطليموس، وقد كان من جملة ملوك حمير بأرض اليمن بلقيس.
وقد قدمنا قصتها مع سليمان عليه السلام وقد كانوا في غبطة عظيمة وأرزاق دارة وثمار وزروع كثيرة وكانوا مع ذلك على الاستقامة والسداد وطريق الرشاد فلما بدلوا نعمة الله كفرا أحلوا قومهم دار البوار.
قال محمد بن إسحاق عن وهب بن منبه أرسل الله إليهم ثلاثة عشر نبيا وزعم السدي أنه
__________
(1) كذا في الاصل، وفي تفسير ابن كثير: مخبت.
(2) في المسند 1 / 316: ثنا أبو عبد الرحمن ثنا عبد الله بن لهيعة بن عقبة الحضرمي، عن عبد الله بن هبيرة السبائي عن عبد الرحمن بن وعلة قال: (3) في أنساب السمعاني: السائل فروة بن مسيك المرادي.
وفيه الذين تيامنوا: فالاسد وكندة وخمير والاشعريون ومدحج، فقال رجل يا رسول الله ما أنمار قال: هم الذين منهم بجيلة وخثعم.
وفي إسناد آخر ذكر: هوازن وعك وسقط اسم مذحج.
ويذهب جواد علي في أن سبأ هو اسم لشعب وليس لرجل وأن هذا الشعب كان يحكم ناحية صغيرة من اليمن ثم اتسع شيئا فشيئا.
[ * ]

(2/192)


أرسل إليهم اثني عشر ألف نبي فالله أعلم.
والمقصود أنهم لما عدلوا عن الهدى (1) إلى الضلال وسجدوا للشمس من دون الله وكان ذلك في زمان بلقيس وقبلها أيضا واستمر ذلك فيهم حتى أرسل الله عليهم سيل العرم (2) كما قال تعالى: (فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشئ من سدر قليل.
ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور) (3).
ذكر غير واحد من علماء السلف والخلف من المفسرين وغيرهم أن سد مأرب كان صنعته (4) أن المياه تجري من بين جبلين فعمدوا في قديم الزمان فسدوا ما بينهما ببناء محكم جدا حتى ارتفع الماء فحكم على أعالي الجبلين وغرسوا فيهما البساتين والاشجار المثمرة الانيقة، وزرعوا الزروع الكثيرة، ويقال كان أول من بناه سبأ بن يعرب (5) وسلط إليه سبعين واديا يفد إليه وجعل له ثلاثين فرضة يخرج منها الماء ومات ولم يكمل بناؤه فكملته حمير بعده وكان اتساعه فرسخا في فرسخ (6) وكانوا في غبطة عظيمة وعيش رغيد وأيام طيبة حتى ذكر قتادة وغيره أن المرأة كانت تمر بالمكتل على رأسها فتمتلئ من الثمار ما يتساقط فيه من نضجه وكثرته وذكروا أنه لم يكن في بلادهم شئ من البراغيث ولا الدواب المؤذية لصحة هوائهم وطيب فنائهم كما قال تعالى: (لقد كان لسبأ في سكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور)
[ سبأ: 15 ] وكما قال تعالى: (وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لازيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد) [ إبراهيم: 3 ] فلما عبدوا غير الله وبطروا نعمته وسألوا بعد تقارب ما بين قراهم وطيب ما بينها من البساتين وأمن الطرقات سألوا أن يباعد بين أسفارهم وأن يكون سفرهم في مشاق وتعب وطلبوا أن يبدلوا بالخير شرا كما سأل بنو إسرائيل بدل المن والسلوى البقول والقثاء والفوم والعدس والبصل فسلبوا تلك النعمة العظيمة والحسنة العميمة بتخريب البلاد والشنات على وجوه العباد كما
__________
(1) قال القرطبي في الجامع: 14 / 285: بعد أن اعرضوا عن أمره واتباع رسله بعد أن كانوا مسلمين.
(2) العرم: قال ابن عباس: العرم: السد وقال عطاء: العرم اسم الوادي.
وقال الزجاج: العرم اسم الجرذ الذي نقب السكر عليهم - فنسب السيل إليه.
وقال ابن الاعرابي: العرم من أسماء الفأر.
(3) سورة سبأ الآية 16.
(4) قال جواد علي في تاريخ العرب قبل الاسلام ج 2 / 100 - 212: أن المكربون (لقب أصحاب سبأ) هم الذين بدأوا إقامة السدود، وقد بدأت السدود عمليات هندسية صغيرة غرضها احتجاز مياه الامطار الموسمية وقد أقيمت مجموعة من السدود.
إلى عهد المكرب يثع أمر بين فأقام هو وابنه سلسلة من السدود أكملت سد مأرب.
وعثر ميلر في أنقاضه على كتابات تعود إلى أن بناءه كان في القرن الثامن قبل الميلاد.
(5) تاريخ العرب قبل الاسام ص 174: العرم وهو سد أصم طوله من الشرق إلى الغرب نحو ثمانمائة ذراع وعلوه بضعة عشر ذراعا وعرضه 150 ذراعا.
[ * ]

(2/193)


قال تعالى: (فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم).
قال غير واحد أرسل الله على أصل السد الفار وهو الجرذ ويقال الخلد فلما فطنوا لذلك أرصدوا عندها السنانير (1) فلم تغن شيئا إذ قد حم القدر ولم ينفع الحذر كلا لا وزر فلما تحكم في أصله الفساد سقط وانهار فسلك الماء القرار فقطعت تلك الجداول والانهار وانقطعت تلك الثمار ومادت تلك الزروع والاشجار وتبدلوا بعدها بردئ الاشجار والاثمار كما قال العزيز الجبار:
(وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل) قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد هو الاراك وثمره البرير وأثل وهو الطرفاء (2).
وقيل يشبهه.
وهو حطب لا ثمر له (وشئ من سدر قليل) وذلك لانه لما كان يثمر النبق كان قليلا مع أنه ذو شوك كثير وثمره بالنسبة إليه كما يقال في المثل لحم جمل غث على رأس جبل وعر لا سهل فيرتقى ولا سمين فينتقى ولهذا قال تعالى: (ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور) أي إنما نعاقب هذه العقوبة الشديدة من كفر بنا، وكذب رسلنا، وخالف أمرنا، وانتهك محارمنا.
وقال تعالى: (فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق) وذلك أنهم لما هلكت أموالهم وخربت بلادهم احتاجوا أن يرتحلوا منها وينتقلوا عنها فتفرقوا في غور البلاد ونجدها أيدى سبأ شذر مذر (3) فنزلت طوائف منهم الحجاز ومنهم خزاعة نزلوا ظاهر مكة وكان من أمرهم ما سنذكره ومنهم المدينة المنورة اليوم فكانوا أول من سكنها ثم نزلت عندهم ثلاث قبائل من اليهود بنو قينقاع وبنو قريظة وبنو النضير فخالفوا الاوس والخزرج وأقاموا عندهم وكان من أمرهم ما سنذكره ونزلت طائفة أخرى منهم الشام وهم الذين تنصروا فيما بعد وهم غسان وعاملة وبهراء ولخم وجذام وتنوخ وتغلب وغيرهم وسنذكرهم عند ذكر فتوح الشام في زمن الشيخين رضي الله عنهما.
قال محمد بن إسحاق حدثني أبو عبيدة قال: قال الاعشى بن قيس بن ثعلبة وهو ميمون بن قيس: وفي ذاك للمؤتسي أسوة * ومأرم عفى عليها العرم (4)
__________
(1) قال القرطبي في أحكامه: قال وهب: كانوا يزعمون أنهم يجدون في عملهم وكهانتهم أنه يخرب سدهم فأرة فلم يتركوا فرجة بين صخرتين إلا ربطوا إلى جانبها هرة.
(2) قال أبو عبيدة: الخمط: هو كل شجرة ذي شوك فيه مرارة.
وقال الزجاج: الخمط كل نبت فيه مرارة لا يمكن أكله.
والاثل: واحدته أثلة وجمعه أثلاث.
وقال الحسن: الاثل الخشب وقال أبو عبيدة: الاثل: هو شجر النضار.
(3) مثل كانت العرب تضربه في سبأ فتقول: تفرقوا أيدي سبأ وأيادي سبأ.
(4) كذا في الاصل مأرم والصواب من ابن هشام: مأرب.
[ * ]

(2/194)


رخام بنته لهم حمير * إذا جاء مواره لم يرم (1) فأروى الزرع وأعنابها * على سعة ماؤهم إذ قسم (2) فصاروا أيادي لا بقدرو * ن على شرب طفل إذا ما فطم (3) وقد ذكر محمد بن إسحاق في كتاب السيرة أن أول من خرج من اليمن قبل سيل العرم عمرو بن عامر اللخمي ولخم هو ابن عدي بن الحارث بن مرة بن أزد (4) بن زيد بن مهع (5) بن عمرو بن عريب بن يشجب بن زيد بن كهلان بن سبأ.
ويقال لخم بن عدي بن عمرو بن سبأ قاله ابن هشام.
قال ابن إسحاق وكان سبب خروجه من اليمن فيما حدثني أبو زيد الانصاري أنه رأى جرذا يحفر في سد مأرب الذي كان يحبس عليهم الماء فيصرفونه حيث شاؤوا من أرضهم، فعلم أنه لا بقاء للسد على ذلك، فاعتزم على النقلة عن اليمن فكاد قومه فأمر أصغر ولده إذا أغلظ عليه ولطمه أن يقوم إليه فيلطمه، ففعل ابنه ما أمره به، فقال عمرو: لا أقيم ببلد لطم وجهي فيه أصغر ولدي.
وعرض أمواله.
فقال أشراف من أشراف اليمن: اغتنموا غضبة عمرو فاشتروا منه أمواله وانتقل في ولده وولد ولده.
وقالت الازد لا نتخلف عن عمرو بن عامر، فباعوا أموالهم وخرجوا معه، فساروا حتى نزلوا بلاد عك مجتازين يرتادون البلدان، فحاربتهم عك، فكانت حربهم سجالا، ففي ذلك قال عباس بن مرداس: وعك بن عدنان الذين تلعبوا (6) بغسان حتى طردوا كل مطرد قال فارتحلوا عنهم فتفرقوا في البلاد فنزل آل جفنة بن عمرو بن عامر الشام ونزل الاوس
__________
(1) مواره: بضم الميم وفتحها: تلاطم مائة وتموجه.
(2) كذا في الاصل الزرع: وفي سيرة ابن كثير وابن هشام: الزروع وهو الصواب.
وفي كتاب الاكليل للهمداني: فأروى الحروث وأعنابها على ساعة ماؤهم ينقسم.
(3) في ابن هشام: ما يقدرون.
(4) في ابن هشام أدد وهو الصواب.
(5) في ابن هشام: هميسع وهو الصواب.
وفي جمهرة أنساب العرب ص 485: ابن زيد بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ.
وزاد ولخم هو مالك.
(6) في أصول الاحساب: تلقبوا.
قال ابن هشام ; وغسان ماء بسد مآرب في اليمن ويقال غسان: ماء بالمشلل جبل وراء عزور: واد قريب من المدينة.
قريب من الجحفة.
وهي قرية على طريق المدينة في مكة.
وقال صاحب فهرست المعجم الجغرافي: رحل آل جفنة من اليمن، إلى الشام ونزلوا بماء يقال له غسان فسموا به وأقاموا ببادية الشام.
ولقد لاحظنا الرأيين هنا لما بينهما من خلاف.
[ * ]

(2/195)


والخزرج يثرب ونزلت خزاعة مرا (1) ونزلت أزد السراة السراة (2) ونزلت أزد عمان عمان ثم أرسل الله تعالى على السد السيل فهدمه وفي ذلك أنزل الله هذه الآيات (3) وقد روي عن السدي قريب من هذا.
وعن محمد بن إسحاق في روايته أن عمرو بن عامر كان كاهنا وقال غيره كانت امرأته طريفة بنت الخير الحميرية كاهنة فأخبرت بقرب هلاك بلادهم وكأنهم رأوا شاهد ذلك في الفأر الذي سلط على سدهم ففعلوا ما فعلوا والله أعلم.
وقد ذكرت قصته مطولة عن عكرمة فيما رواه ابن أبي حاتم في التفسير.
فصل وليس جميع سبأ خرجوا من اليمن لما أصيبوا بسيل العرم بل أقام أكثرهم بها وذهب أهل مأرب الذين كان لهم السد فتفرقوا في البلاد وهو مقتضى الحديث المتقدم عن ابن عباس أن جميع قبائل سبأ لم يخرجوا من اليمن بل إنما تشاءم منهم أربعة وبقي باليمن ستة وهم مذحج وكندة وأنمار والاشعريون وأنمار هو أبو خثعم وبجيلة وحمير فهؤلاء ست قبائل من سبأ أقاموا باليمن واستمر
فيهم الملك والتبايعة حتى سلبهم ذلك ملك الحبشة بالجيش الذي بعثه صحبة أميريه أبرهة وأرياط نحوا من سبعين سنة ثم استرجعه سيف بن ذي يزن الحميري.
وكان ذلك قبل مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم بقليل كما سنذكره مفصلا قريبا إن شاء الله تعالى وبه الثقة وعليه التكلان.
ثم أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن عليا وخالد بن الوليد ثم أبا موسى الاشعري ومعاذ بن جبل وكانوا يدعون إلى الله تعالى ويبينون لهم الحجج ثم تغلب على اليمن الاسود العنسي وأخرج نواب رسول الله صلى الله عليه وسلم منها فلما قتل الاسود استقرت اليد الاسلامية عليها في أيام أبي بكر الصديق رضي الله عنه كما سنبين ذلك بعد البعثة إن شاء الله تعالى.
قصة ربيعة بن نصر بن أبي حارثة بن عمرو بن عامر المتقدم ذكره اللخمي كذا ذكره ابن إسحاق وقال السهيلي: ونساب اليمن تقول نصر بن ربيعة (4) بن نصر بن الحارث بن نمارة بن لخم وقال الزبير بن بكار ربيعة بن نصر بن مالك بن
__________
(1) مر وهو الذي يقال له مر الظهران، وهو على مرحلة من مكة.
(2) السراة: جبل مشرف على عرفة ينقاد إلى صنعاء وإنما سمي بذلك لعلوه ويقال له سراة: (3) قال الله تعالى: (لقد كان لسبإ في مسكنهم آية فجنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم).
(4) في السهيلي: وبعضهم يقول فيه: نصر بن ربيعة وهو في قول نساب اليمن ربيعة بن نصر.
= [ * ]

(2/196)


شعوذ بن مالك بن عجم بن عمرو بن نمارة بن لخم ولخم أخو جذام وسمي لخما لانه لخم أخاه أي لطمه فعضه الآخر في يده فجذمها فسمي جذاما.
وكان ربيعة أحد ملوك حمير التبابعة وخبره مع شق وسطيح الكاهنين وإنذارهما بوجود رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما سطيح فاسمه ربيع بن ربيعة بن مسعود بن مازن بن ذئب بن عدي بن مازن غسان.
وأما شق فهو ابن صعب بن يشكر بن رهم بن أفرك بن قيس (1) بن عبقر بن أنمار بن نزار
ومنهم من يقول أنمار بن أراش بن لحيان بن عمرو بن الغوث بن نابت (2) بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ ويقال إن سطيحا كان لا أعضاء له وإنما كان مثل السطيحة ووجه في صدره وكان إذا غضب انتفخ وجلس وكان شق نصف إنسان ويقال إن خالد بن عبد الله بن القسري كان سلالته وذكر السهيلي أنهما ولدا في يوم واحد وكان ذلك يوم ماتت طريفة بنت الخير الحميرية ويقال إنها تفلت في فم كل منهما فورث الكهانة عنها وهي امرأة عمرو بن عامر المتقدم ذكره والله أعلم.
قال محمد بن إسحاق وكان ربيعة بن نصر ملك اليمن بين أضعاف ملوك التبابعة فرأى رؤيا هائلة هالته وفظع (3) بها فلم يدع كاهنا ولا ساحرا ولا عائفا ولا منجما من أهل مملكته إلا جمعه إليه فقال لهم إني قد رأيت رؤيا هالتني وفظعت بها فأخبروني بها وبتأويلها.
فقالوا (4) اقصصها علينا نخبرك بتأويلها.
فقال: إني إن أخبرتكم بها لم أطمئن إلى خبركم بتأويلها (5) لانه لا يعرف تأويلها إلا من عرفها قبل أن أخبره بها.
فقال له رجل منهم: فإن كان الملك يريد هذا فليبعث إلى شق وسطيح، فإنه ليس أحد أعلم منهما، فهما يخبرانه بما سأل عنه.
فبعث إليهما فقدم إليه سطيح قبل شق فقال له: إني قد رأيت رؤيا هالتني وفظعت بها فأخبرني بها فإنك إن أصبتها أصبت تأويلها فقال أفعل.
رأيت حممة (6) خرجت من ظلمة.
__________
= وفي جمهرة ابن حزم: نصر بن ربيعة بن عمرو بن الحارث بن مسعود بن مالك بن عمم بن نمارة بن لخم.
ولخم هو مالك بن عدي.
(1) في ابن هشام: مس.
وفي الطبري: ابن نذير بن قيس.
(2) في ابن هشام وفي الاشتقاق لابن دريد: نبت.
(3) فظع بها: اشتدت عليه، يقال فظع به الامر: اشتد عليه.
(4) في ابن هشام: قالوا له: (5) في ابن هشام: عن تأويلها.
وفي الطبري بتأويلها.
(6) حممة: فحمة، وأراد هنا فحمة فيها نار.
وفي المسعودي جمرة خرجت ظلمة.
[ * ]

(2/197)


فوقعت بأرض تهمة (1).
فأكلت منها كل ذات جمجمة.
فقال له الملك ما اخطأت منها شيئا يا سطيح فما عندك في تأويلها، قال: أحلف بما بين الحرتين من حنش لتهبطن أرضكم الحبش (2).
فليملكن ما بين أبين إلى جرش (3) فقال له الملك: يا سطيح إن هذا لنا لغائظ موجع فمتى هو كائن أفي زماني أم بعده.
فقال: لا وأبيك بل بعده بحين.
أكثر من ستين أو سبعين.
يمضين من السنين قال أفيدوم ذلك من سلطانهم (4) أم ينقطع قال بل ينقطع لبضع وسبعين من السنين ثم يقتلون (5) ويخرجون منها هاربين قال ومن بلى ذلك من قتلهم وإخراجهم قال يليهم أرم [ بن ] ذي يزن يخرج عليهم من عدن.
فلا يترك منهم أحدا باليمن.
قال أفيدوم ذلك من سلطانه أم ينقطع قال بل ينقطع قال: ومن يقطعه، قال: نبي زكي.
يأتيه الوحي من قبل العلي قال وممن هذا النبي ؟ قال: رجل من ولد غالب بن فهر بن مالك بن النضر.
يكون الملك في قومه إلى آخر الدهر.
قال وهل للدهر من آخر قال نعم يوم يجمع فيه الاولون والآخرون.
يسعد فيه المحسنون ويشقى فيه المسيئون.
قال أحق ما تخبرني قال نعم.
والشفق والغسق والفلق إذا اتسق إن ما أنبأتك به لحق.
قال ثم قدم عليه شق فقال له كقوله لسطيح وكتمه ما قال سطيح لينظر أيتفقان أم يختلفان قال نعم رأيت حممة خرجت من ظلمة.
فوقعت بين روضة وأكمة.
فأكلت منها كل ذات نسمة.
[ قال ] (6): فلما قال له ذلك عرف أنهما قد اتفقا وأن قولهما واحد إلا أن سطيحا قال وقعت بأرض تهمة فأكلت منها كل ذات جمجمة.
وقال شق وقعت بين روضة وأكمة فأكلت منها كل ذات نسمة فقال له الملك ما أخطأت يا شق منها شيئا فما عندك في تأويلها فقال أحلف بما بين الحرتين من انسان.
لينزلن أرضكم السودان فليغلبن على كل طفلة (7) البنان وليملكن ما بين لين إلى نجران فقال له الملك وأبيك ياشق إن هذا لنا لغائظ موجع فمتى هو كائن أفي زماني.
أم بعده قال لا بل بعده بزمان.
ثم يستنقذكم منهم عظيم ذو شان.
ويذيقهم أشد الهوان.
قال ومن هذا العظيم
__________
(1) تهمة: الارض المنخفضة المتصوبة نحو البحر ومنها سميت تهامة.
(2) الحبش: يقال إنهم بنو حبش بن كومش بن حام بن نوح وبه سميت الحبشة.
(3) أبين: بفتح أوله ويكسر، مخلاف باليمن منه عدن.
وفي معجم البلدان: أبين: موضع في جبل عدن.
جرش: بضم أوله وفتح ثانيه: من مخاليف اليمن من جهة مكة.
وفتحت جرش في زمن النبي صلى الله عليه وسلم سنة 10 ه.
(4) في الطبري وابن هشام: ملكهم بدل سلطانهم.
(5) في الطبري: يقتلون بها أجمعون.
(6) ما بين المعكوفين زيادة من ابن هشام.
(7) طفلة: الناعمة الرخصة.
[ * ]

(2/198)


الشان ؟ قال غلام لبس بدني ولا مدن (1) يخرج عليهم من بيت ذي يزن [ فلا يترك منهم أحدا باليمن ].
قال أفيدوم سلطانه أم ينقطع قال بل ينقطع برسول مرسل يأتي بالحق والعدل من أهل الدين والفضل يكون الملك في قومه إلى يوم الفصل قال: وما يوم الفصل ؟ قال يوم يجزى فيه الولات يدعى فيه من السماء بدعوات تسمع منها الاحياء والاموات ويجمع الناس فيه للميتات يكون فيه لمن اتقى الفوز والخيرات.
قال أحق ما تقول قال إي ورب السماء والارض.
وما بينهما من رفع وخفض.
إن ما أنبأتك به لحق ما فيه أمض (2).
قال ابن إسحاق فوقع في نفس ربيعة بن نصر ما قالا فجهز بنيه وأهل بيته إلى العراق وكتب لهم إلى ملك من ملوك فارس يقال له سابور بن خرزاذ فأسكنهم الحيرة قال ابن إسحاق فمن بقية ولد ربيعة بن نصر النعمان بن المنذر بن النعمان بن المنذر بن عمرو بن عدي بن ربيعة بن نصر يعني الذي كان نائبا على الحيرة لملوك الاكاسرة وكانت العرب تفد إليه وتمتدحه وهذا الذي قاله محمد بن إسحاق من أن النعمان بن المنذر من سلالة ربيعة بن نصر قاله أكثر الناس.
وقد روى ابن إسحاق أن امير المؤمنين عمر بن الخطاب لما جئ بسيف النعمان بن المنذر سأل جبير بن مطعم عنه ممن كان ؟ فقال: من أشلاء قنص بن معد بن عدنان قال ابن إسحاق فالله أعلم أي ذلك كان.
قصة تبع أبي كرب مع أهل المدينة
(وكيف أراد غزوة البيت الحرام ثم شرفه وعظمه وكساه الحلل فكان أول من كساه) قال ابن إسحاق فلما هلك ربيعة بن نصر رجع ملك اليمن كله إلى حسان بن تبان أسعد أبي كرب وتبان أسعد تبع الآخر ابن كلكيكرب (3) بن زيد وزيد تبع الاول بن عمرو ذي الاذعار (4) بن أبرهة ذي المنار بن الرائش بن عدي (5) بن صيفي بن سبأ الاصغر بن كعب كهف الظلم بن زيد بن سهل بن عمرو بن قس (6) بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن قطن بن عريب بن زهير بن أنس (7) بن الهميسع بن العربحج والعربحج هو حمير بن سبأ الاكبر بن يعرب بن
__________
(1) مدن: وهو المقصر في الامور وفي ابن الاثير: مزن: المتهم بالامر.
(2) أمض: الشك بلغة حمير.
وقال أبو عمرو: أمض: أي باطل.
(3) في ابن هشام كلي كرب وفي الطبري: بن ملكيكرب.
(4) اتفق الطبري وابن إسحاق على أن ذا الاذعار هو عمرو وخالفهما المسعودي في مروج الذهب فقال: ذو الاذعار هو العبد بن ابراهة وكان ملكة خمسا وعشرين وسنة.
(5) في الطبري: ابن قيس بن صيفي.
(6) في ابن هشام والطبري: ابن قيس.
(7) في الطبري وابن هشام: ابن أيمن بن الهميسع بن العرنجج والعرنجج: هو من قولهم اعرنجج الرجل في أمره: إذا جد فيه.
كأنه أفعنلل.
[ * ]

(2/199)


يشجب بن قحطان.
قال عبد الملك بن هشام سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان.
قال ابن إسحاق وتبان أسعد أبو كرب هو الذي قدم المدينة (1) وساق الحبرين من اليهود إلى اليمن وعمر البيت الحرام وكساه وكان ملكه قبل ملك ربيعة بن نصر.
وكان قد جعل طريقه حين رجع من غزوة بلاد المشرق (2) على المدينة وكان قد مر بها في بدأته فلم يهج أهلها وخلف بين أظهرهم ابنا له فقتل غيلة فقدمها وهو مجمع لا خرابها واستئصال أهلها وقطع نخلها (3).
فجمع له هذا الحي من الانصار ورئيسهم عمرو بن طلحة (4) أخو بني النجار ثم
أحد بني عمرو بن مبذول واسم مبذول عامر بن مالك بن النجار واسم النجار تيم الله بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج بن حارثة بن ثعلبة [ بن ] عمرو بن عامر.
وقال ابن هشام: عمرو بن طلحة (4) هو عمرو بن معاوية بن عمرو بن عامر بن مالك بن النجار وطلة أمه وهي بنت عامر بن زريق الخزرجية.
قال ابن إسحاق: وقد كان رجل من بني عدي بن النجار يقال له أحمر عدا على رجل من أصحاب تبع وجده يجد (5) عذقا له فضربه بمنجله فقتله وقال إنما التمر لمن أبره فزاد ذلك تبعا حنقا عليهم.
فاقتتلوا فتزعم الانصار أنهم كانوا يقاتلونه بالنهار ويقرونه بالليل فيعجبه ذلك منهم ويقول والله إن قومنا لكهام (6) وحكى ابن إسحاق عن الانصار: أن تبعا إنما كان حنقه على اليهود أنهم منعوهم منه.
قال السهيلي ويقال إنه إنما جاء لنصرة الانصار أبناء عمه على اليهود الذين نزلوا عندهم في المدينة على شروط فلم يفوا بها واستطالوا عليهم والله أعلم.
قال ابن إسحاق فبينا تبع على ذلك من قتالهم إذ جاءه حبران من أحبار اليهود من بني قريظة عالمان راسخان (7) حين سمعا بما يريد من إهلاك المدينة وأهلها فقالوا له أيها الملك لا تفعل فإنك إن
__________
(1) في مروج الذهب ج 2 / 82: أن تبع بن حسان بن كليكرب هو الذي قدم المدينة يريد هدم الكعبة.
فمنعه أحبار اليهود، فكساها القصب اليماني.
(2) في ابن هشام والطبري: حين أقبل من المشرق.
(3) قيل إن تبعا لم يقصد غزوها، وإنما قصدها وقتل من اليهود مقتلة عظيمة بسبب شكاية من شكاهم إليه من الاوس والخزرج بسبب سوء الجوار انظر الطبري ج 2 / 39 وشرح السيرة لابي ذر.
(4) في الطبري وابن هشام: عمرو بن الطلة.
(5) يجد: يقطع.
(6) كذا في الاصل لكهام، والصواب كما في الطبري وابن هشام: لكرام.
(7) هما: كعب وأسد من بني قريظة وكانا ابني عم وكانا أعلم أهل زمانهما.
طبري ج 2 / 95.
[ * ]

(2/200)


أبيت إلا ما تريد حيل بينك وبينها ولم نأمن عليك جل (1) العقوبة فقال لهما ولم ذلك قالا هي مهاجر نبي يخرج من هذا الحرم من قريش في آخر الزمان تكون داره وقراره فتناهى [ عن ذلك ] ورأى أن لهما علما وأعجبه ما سمع منهما فانصرف عن المدينة وأتبعهما على دينهما.
قال ابن إسحاق: وكان تبع وقومه أصحاب أوثان يعبدونها فتوجه إلى مكة وهي طريقه إلى اليمن حتى إذا كان بين عسفان وامج (2) أتاه نفر من هذيل بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان فقالوا له أيها الملك ألا ندلك على بيت مال داثرا غفلته الملوك قبلك فيه اللؤلؤ والزبرجد والياقوت والذهب والفضة قال: بلى ; قالوا: بيت بمكة يعبده أهله، ويصلون عنده.
وإنما أراد الهذليون هلاكه بذلك لما عرفوا من هلاك من أراده من الملوك وبغى عنده فلما أجمع لما قالوا أرسل إلى الحبرين فسألهما عن ذلك، فقالا له: ما أراد القوم إلا هلاكك وهلاك جندك ما نعلم بيتا لله عزوجل اتخذه في الارض لنفسه غيره ولئن فعلت ما دعوك إليه لتهلكن وليهلكن من معك جميعا قال: فماذا تأمرانني أن أصنع إذا أنا قدمت عليه قالا: تصنع عنده ما يصنع أهله: تطوف به، وتعظمه وتكرمه، وتحلق رأسك عنده، وتذلل له (3)، حتى تخرج من عنده.
قال: فما يمنعكما أنتما من ذلك قالا أما والله إنه لبيت أبينا إبراهيم عليه السلام وإنه لكما أخبرناك، ولكن أهله حالوا بيننا وبينه بالاوثان التي نصبوها حوله، وبالدماء التي يهريقون عنده، وهم نجس أهل شرك - أو كما قالا له - فعرف نصحهما وصدق حديثهما، وقرب النفر من هذيل، فقطع أيديهم وأرجلهم (4) ثم مضى حتى قدم مكة، فطاف بالبيت، ونحر عنده، وحلق رأسه، وأقام بمكة ستة أيام - فيما يذكرون - ينحر بها للناس ويطعم أهلها ويسقيهم العسل،
__________
(1) في الطبري وابن هشام: عاجل.
وفي تراجعه عن المدينة وفضل ابن الطلة وامتناعه عن تبع بقول خالد بن مالك بن النجار: أصحا أم انتهى ذكره * أم قضى من لذة وطره
يا بني النجار إن لنا * فيهم قبل الاوان تره سيد سامي الملوك ومن * يغز عمرا لا يجد قدره وفي أخبار الازرقي: حتى إذا كان بالدف من جمدان بين أمج وعسفان ج 1 / 133.
وجاء في تعليله: أن هذيل حسدا لقريش على ولايتهم البيت فعلوا ذلك.
(2) عسفان: منهلة من مناهل الطريق بين الجحفة ومكة.
وقيل على ستة وثلاثين ميلا من مكة.
وأمج: بلد من أعراض المدينة وقيل واد.
(3) في الطبري: وتتذلل له ; وفي ابن هشام: وتذل له.
(4) في أخبار الازرقي: فضربت أعناقهم وصلبهم، 1 / 133.
[ * ]

(2/201)


وأري في المنام أن يكسوا البيت فكساء الخصف (1) ثم أري في المنام أن يكسوه أحسن من ذلك فكساء المعافر (2) ثم أري أن يكسوه أحسن من ذلك فكساء الملاء (3) والوصائل، وكان تبع فيما يزعمون أول من كسا البيت وأوصى به ولاته من جرهم وأمرهم بتطهيره وأن لا يقربوه دما ولا ميتة ولا مئلاتا (4) وهي المحايض وجعل له بابا ومفتاحا ففي ذلك قالت سبيعة بنت الاحب تذكر ابنها خالد بن عبد مناف بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب وتنهاه عن البغي بمكة وتذكر له ما كان من أمر تبع فيها: أبني لا تظلم بمك * كة لا الصغير ولا الكبير واحفظ محارمها ب * ني ولا يغرنك الغرور أبني من يظلم بمك * ة يلق أطراف الشرور أبني يضرب وجهه * ويلج بخديه السعير (5) أبني قد جربتها * فوجدت ظالمها يبور الله آمنها وما * بنيت بعرصتها قصور ولله آمن طيرها * والعصم تأمن في ثبير (6)
ولقد غزاها تبع * فكسا بنيتها الحبير وأذل ربي ملكه * فيها فأوفى بالنذور يمشي إليها حافيا * بفنائها ألفا بعير ويظل يطعم أهلها * لحم المهارى والجزور يسقيهم العسل المصفى * والرحيض من الشعير (7)
__________
(1) كذا في الاصل فكساء الخصف وفي الطبري وابن هشام: فكساه الخصف ; والخصف: حصر تنسخ من خوص النخل ومن الليف.
(2) كذا في الاصل فكساء المعافر ; وفي الطبري وابن هشام: فكساه المعافر.
والمعافر ثياب تنسب إلى قبيلة يمنية.
وفي الاخبار الازرقي: كساها الانطاع 1 / 250.
(3) كذا في الاصل فكساء الملاء والصواب كما في الطبري وابن هشام فكساه الملاء والوصائل.
والملاء جمع ملاءة وهي الملحفة.
والوصائل: ثياب مخططة يمنية توصل بعضها ببعض.
وفي أخبار الازرقي: ثياب حبرة من عصب اليمن.
وقال أسعد في ذلك: وكسونا البيت الذي حرم الل * ه ملاء ومعضدا وبرودا (4) في الطبري: ميلاثا.
(5) في ابن هشام وسيرة ابن كثير: يلح.
(6) العصم: الوعول التي تقصم في الجبال.
وثبير: جبل بمكة.
(7) الرحيض: المنقى والمصفى.
[ * ]

(2/202)


والفيل أهلك جيشه * يرمون فيها بالصخور والملك في أقصى البلا * د وفي الاعاجم والخزور (1) فاسمع إذا حدثت واف * هم كيف عاقبة الامور
قال ابن إسحاق ثم خرج تبع متوجها إلى اليمن بمن معه من الجنود (2) وبالحبرين حتى إذا دخل اليمن دعا قومه إلى الدخول فيما دخل فيه فأبوا عليه حتى يحاكموه إلى النار التي كانت باليمن.
قال ابن إسحاق: حدثني أبو مالك بن ثعلبة بن أبي مالك القرظي قال سمعت إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيدالله يحدث: أن تعبا لما دنا من اليمن ليدخلها حالت حمير بينه وبين ذلك وقالوا: لا تدخلها علينا وقد فارقت ديننا فدعاهم إلى دينه وقال: إنه خير من دينكم قالوا تحاكمنا (3) إلى النار قال: نعم.
قال: وكانت باليمن فيما يزعم أهل اليمن نار تحكم بينهم فيما يختلفون فيه تأخذ (4) الظالم ولا تضر المظلوم فخرج قومه بأوثانهم وما يتقربون به في دينهم وخرج الحبران بمصاحفهما في أعناقهما متقلديها حتى قعدوا للنار عند مخرجها الذي تخرج منه فخرجت النار إليهم فلما أقلبت (5) نحوهم حادوا عنها وهابوها فزجرهم (6) من حضرهم من الناس وأمروهم بالصبر لها فصبروا حتى غشيتهم فأكلت الاوثان وما قربوا معها ومن حمل ذلك من رجال حمير وخرج الحبران بمصاحفهما في أعناقهما تعرق جباههما ولم تضرهما فأصفقت عند ذلك حمير على دينهما (7) فمن هنالك كان أصل اليهودية باليمن.
قال ابن إسحاق وقد حدثني محدث (8) أن الحبرين ومن خرج من حمير إنما اتبعوا النار ليردوها وقالوا: من ردها فهو أولى بالحق.
فدنا منها رجال حمير بأوثانهم ليردوها، فدنت منهم لتأكلهم فحادوا عنها ولم يستطيعوا ردها فدنا منها الحبران بعد ذلك وجعلا يتلوان التوراة وهي تنقص (9)
__________
(1) كذا في الاصل الخزور وهو تحريف، وفي ابن هشام وسيرة ابن كثير: الخزير والخزير: أمة من العجم ويقال لهم الخزر أيضا.
(2) في الطبري وابن هشام: من جنوده.
(3) في الطبري وابن هشام وسيرة ابن كثير: فحاكمنا.
(4) في ابن هشام والطبري: تأكل.
(5) في الطبري وابن هشام وسيرة ابن كثير: أقبلت.
(6) في الطبري وابن هشام وسيرة ابن كثير: فذمرهم: أي حضهم وشجعهم.
(7) في سيرة ابن كثير وابن هشام والطبري: فأصفقت حمير عند ذلك على دينه: أي اجتمعت.
(8) في الطبري: عن بعض أصحابه.
(9) كذا في الاصل والمطبوعة تنقص وهو تحريف والصواب في الطبري وابن هشام وسيرة ابن كثير: تنكص.
[ * ]

(2/203)


عنهما، حتى رداها إلى مخرجها الذي خرجت منه فأصفقت عند ذلك حمير على دينهما والله أعلم أي ذلك كان.
قال إبن إسحاق وكان رئام بيتا لهم يعظمونه وينحرون عنده ويكلمون فيه (1) إذ كانوا على شركهم فقال الحبران لتبع: إنما هو شيطان يفتنهم بذلك فخل بيننا وبينه قال: فشأنكما به فاستخرجا منه فيما يزعم أهل اليمن كلبا أسود فذبحاه ثم هدما ذلك البيت فبقاياه اليوم كما ذكر لي بها آثار الدماء التي كانت تهراق عليه.
وقد ذكرنا في التفسير الحديث الذي ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تسبوا تبعا فإنه قد كان أسلم " قال السهيلي وروى معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تسبوا أسعد الحميري فإنه أول من كسى الكعبة ".
قال السهيلي وقد قال تبع حين أخبره الحبران عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شعرا: شهدت على أحمد أنه * رسول من الله باري النسم فلو مد عمري إلى عمره * لكنت وزيرا له وابن عم وجاهدت بالسيف أعداءه * وفرجت عن صدره كل هم قال ولم يزل هذا الشعر تتوارثه الانصار ويحفظونه بينهم وكان عند أبي أيوب الانصاري رضي الله عنه وأرضاه.
قال السهيلي وذكر ابن أبي الدنيا في كتاب القبور أن قبرا حفر بصنعاء فوجد فيه امرأتان معهما لوح من فضة مكتوب بالذهب وفيه هذا قبر لميس وحبى ابنتي تبع ماتا (2) وهما تشهدان ألا إله إلا
الله وحده لا شريك له وعلى ذلك مات الصالحون قبلهما.
ثم صار الملك فيما بعد إلى حسان بن تبان أسعد وهو أخو (3) اليمامة الزرقاء التي صلبت على باب مدينة جو (4) فسميت من يومئذ اليمامة.
__________
(1) في ابن هشام والطبري: منه وهي أكثر مناسبة.
(2) كذا في الاصل والمطبوعة وهو تحريف والصواب: ماتتا من سيرة ابن كثير.
(3) في الطبري حسان بن تبع واليمامة الزرقاء ليست أخته بل هي أخت رياح بن مرة رجل من طسم هرب من اليمامة وأخبر حسان بخبر أخته اليمامة.
وفي نهاية الارب للقلقشندي: سبأ بن سعد صاحب الحادثة.
(4) كانت اليمامة تسمى جو أو القرية، وبها أتى حسان باليمامة ابنة مرة ففقئت عيونها فإذا فيها عروق سود، من أثر كحل حجر الاثمد.
وأمر حسان بأن تسمى جو اليمامة.
انظر الطبري ج 2 / 38 و 100.
[ * ]

(2/204)


قال ابن إسحاق فلما ملك ابنه حسان بن أبي كرب تبان أسعد سار بأهل اليمن يريد أن يطأ بهم أرض العرب وأرض الاعاجم حتى إذا كانوا ببعض أرض العراق كرهت حمير وقبائل اليمن السير معه وأرادوا الرجعة إلى بلادهم وأهليهم فكلموا أخا له يقال له عمرو وكان معه في جيشه فقالوا له أقتل أخاك حسان ونملكك علينا وترجع بنا إلى بلادنا فأجابهم فاجتمعوا على ذلك إلا ذارعين الحميري فإنه نهى عمرا عن ذلك فلم يقبل منه فكتب ذو رعين رقعة فيها هذان البيتان.
ألا من يشتري سهرا بنوم * سعيد من يبيت قرير عين فأما حمير غدرت وخانت (1) * فمعذرة الاله لذي رعين ثم استودعها عمرا (2).
فلما قتل عمرو أخاه حسان ورجع إلى اليمن منع منه النوم وسلط عليه السهر فسأل الاطباء والحذاق (3) من الكهان والعرافين عما به فقيل له إنه والله ما قتل رجل أخاه قط أو ذا رحم بغيا إلا ذهب نومه وسلط عليه السهر فعند ذلك جعل يقتل كل من أمره بقتل أخيه فلما خلص إلى ذي رعين قال له إن لي عندك براءة قال وما هي قال الكتاب الذي دفعته إليك
فأخرجه فإذا فيه البيتان فتركه ورأى أنه قد نصحه وهلك عمرو فمرج أمر حمير عند ذلك وتفرقوا (4).
وثوب لخنيعة (5) ذي شناتر على ملك اليمن وقد ملكها سبعا وعشرين سنة (6).
قال ابن إسحاق فوثب عليهم رجل من حمير لم يكن من بيوت الملك يقال له لخنيعة ينوف ذو شناتر فقتل خيارهم وعبث ببيوت أهل المملكة منهم وكان مع ذلك أمرءا فاسقا يعمل عمل قوم لوط فكان يرسل إلى الغلام من أبناء الملوك فيقع عليه في مشربة له
__________
(1) في الاشتقاق لابن دريد ; 225: فإن تك حمير غدرت وحانت.
(2) زاد ابن الاثير ج 1 / 420 قال: فلما بلغ حسان ما أجمع عليه أخوه وقبائل اليمن قال لعمرو: يا عمرو لا تعجل علي منيتي * فالملك تأخذه بغير حشود فأبى إلا قتله، فقتله بموضع رحبة مالك.
(3) في الطبري وابن هشام وسيرة ابن كثير: والحزاة: جمع حاز وهو الذي ينظر في النجوم ويقضي بها.
(4) ملك عمرو بن تبع بعد أخيه أربعا وستين سنة ثم ملك بعده تبع بن حسان بن كليكرب ثم عمرو بن تبع ثم مرثد بن عبد كلال ثم وليعة بن مرثد ثم ابراهة بن الصباح بن وليعة ثم عمرو بن ذي قيفان.
على ما ذكره صاحب مروج الذهب 1 / 82 وكانت مدة ملكهم بعد عمرو أخي حسان 253 سنة.
وفيما ذكره المسعودي أن تبع بن حسان كان قبل حسان تبان أسعد كما ورد سابقا.
(5) قوله لخنيعة بالنون وهو كذلك في سيرة ابن هشام والطبري وقال ابن دريد: لخيعة وفي ابن الاثير: لختيعة تنوف ذو شناتر وفي القاموس: لختيعة ذو الشناتر من ملوك اليمن.
وفي مروج الذهب: ذو شناتر ولم يكن من أهل بيت الملك.
(6) في مروج الذهب: ثلاثين سنة وقيل: تسعا وعشرين 1 / 83.
[ * ]

(2/205)


قد صنعها لذلك لئلا يملك بعد ذلك (1) ثم يطلع من شربته (2) تلك إلى حرسه ومن حضر من جنده قد أخذ مسواكا (3) فجعله في فيه ليعلمهم أنه قد فرغ منه حتى بعث إلى زرعة (4) ذي
نواس بن تبان أسعد أخي حسان وكان صبيا صغيرا حين قتل أخوه حسان ثم شب غلاما جميلا وسيما ذا هيئة وعقل فلما أتاه رسوله عرف ما يريد منه فأخذ سكينا جديدا لطيفا (5) فخبأه بين قدميه ونعله ثم أتاه فلما خلا معه وثب إليه فواثبه ذو نواس فوجأه حتى قتله ثم حز رأسه فوضعه في الكوة التي كان يشرف منها ووضع مسواكه في فيه ثم خرج على الناس فقالوا له: ذا نواس أرطب أم يباس فقال سل نحماس استرطبان ذو نواس استرطبان لا بأس (6) فنظروا إلى الكوة فإذا رأس لخنيعة مقطوع فخرجوا في أثر ذي نواس حتى أدركوه فقالوا ما ينبغي أن يملكنا غيرك إذ أرحتنا من هذا الخبيث.
فملكوه عليهم واجتمعت عليه حمير وقبائل اليمن فكان آخر ملوك حمير وتسمى يوسف فأقام في ملكه زمانا، وبنجران بقايا من أهل دين عيسى بن مريم عليه السلام على الانجيل أهل فضل واستقامة من أهل دينهم لهم (7) رأس يقال له عبد الله بن الثامر.
ثم ذكر ابن إسحاق سبب دخول أهل نجران في دين النصارى وأن ذلك كان على يدي رجل يقال له فيميون (8) كان من عباد النصارى بأطراف الشام وكان مجلب الدعوة وصحبه رجل
__________
(1) كانت حمير لا تملك من أبناء الملوك من نكح به.
(2) في المطبوعة شربته وفي الطبري وابن الاثير وابن هشام: مشربته.
(3) في ابن الاثير والطبري وابن هشام: سواكا.
(4) في مروج الذهب: يوسف ذو نواس بن زرعة بن تبع الاصفر بن حسان بن كليكرب.
وفي أخبار الدينوري ص 61، اسمه زرعة بن زيد بن كعب كهف الظلم بن زيد بن سهل بن عمرو بن قيس بن جشم وإنما سمي ذا نواس للذؤلبة تنوس على شعره.
(5) في الطبري وابن هشام: حديدا لطيفا.
وفي ابن الاثير: لطيفا.
(6) في ابن هشام والطبري نخماس.
وفي ابن الاثير نحاس.
والعبارة وردت هكذا في الاصل سل نخماس استرطبان أم يباس وهي غير واضحة وسياق العبارة في الاغاني: " كان الغلام إذا خرج من عند لخنيعة وقد لاط به قطعوا مشافر ناقته وذنبها وصاحوا به: أرطب أم يباس ولما
خرج ذو نواس من عنده وركب ناقة له.
قالوا: ذو نواس أرطب أم يباس ؟ فقال: ستعلم الاحراس، است ذي نواس، است رطبان أم يباس ".
(7) كذا في الاصل وابن هشام والعبارة فيها خلل واضح، والصواب في الطبري: أهل فضل واستقامة لهم من أهل دينهم رأس، وفي كامل ابن الاثير: على استقامة، لهم رئيس يقال له..(8) في ابن الاثير أن عبد الله بن الثامر كان أصل النصرانية بنجران.
وفي الطبري أن عبد الله بن الثامر كان موقع أصل ذلك الدين (النصرانية) بنجران.
وقال الدينوري في الاخبار الطوال: أن عبد الله بن التامر ملك النصارى في نجران أبي أن يهود فقتله ذو نواس.
وفي الطبري أن [ * ]

(2/206)


يقال له صالح فكان (1) يتعبدان يوم الاحد ويعمل فيميون بقية الجمعة في البناء وكان يدعوا للمرضى والزمنى وأهل العاهات فيشفون، ثم استأسره وصاحبه بعض الاعراب فباعوهما بنجران فكان الذي اشترى فيميون يراه إذا قام في مصلاه بالبيت الذي هو فيه في الليل يمتلئ عليه البيت نورا فأعجبه ذلك من أمره.
وكان أهل نجران يعبدون نخلة طويلة [ لها عيد كل سنة ] (2) يعلقون عليها حلي نسائهم ويعكفون عندها فقال فيميون لسيده: أرأيت إن دعوت الله على هذه الشجرة فهلكت أتعلمون أن الذي أنتم عليه باطل.
قال نعم فجمع له أهل نجران وقام فيميون إلى مصلاه فدعا الله عليها فأرسل الله عليها قاصفا فجعفها (3) من أصلها ورماها إلى الارض فاتبعه أهل نجران على دين النصرانية وحملهم على شريعة الانجيل حتى حدثت فيهم الاحداث التي دخلت على أهل دينهم بكل أرض فمن هنالك كانت النصرانية بنجران من أرض العرب ثم ذكر ابن إسحاق قصة عبد الله بن الثامر حين تنصر على يدي فيميون وكيف قتله وأصحابه ذو نواس وخد لهم الاخدود (4).
وقال ابن هشام وهو الحفر المستطيل في الارض مثل الخندق وأجج فيه النار وحرقهم بها قتل آخرين حتى قتل قريبا من عشرين ألفا كما قدمنا ذلك مبسوطا في أخبار بني إسرائيل وكما هو مستقصى في تفسير سورة (والسماء ذات البروج) من كتابنا التفسير ولله الحمد (5)
خروج الملك باليمن من حمير إلى الحبشة السودان كما أخبر بذلك شق وسطيح الكاهنان وذلك أنه لم ينج من أهل نجران إلا رجل واحد يقال له دوس ذو ثعلبان (6) على فرس له، فسلك الرمل فأعجزهم فمضى على وجهه ذلك حتى أتى قيصر ملك الروم فاستنصره على ذي نواس وجنوده وأخبره بما بلغ منهم، وذلك لانه نصراني على دينهم.
__________
= عبد الله بن الثامر قتله ملك كان قبل ذي نواس وان ذا نواس قتل من كان بعده من أهل دينه ج 2 / 105.
وكان عبد الله بن الثامر قد تنصر على يدي فيميون، واستجمع أهل نجران على دينه.
الطبري ابن الاثير - ابن هشام.
(1) الصواب: فكانا يتعبدان.
(2) ما بين معكوفين من الطبري وابن هشام.
(3) فجعفها: قطعها، وفي ابن الاثير: ريحا فجففتها والقتها.
وفي ابن هشام والطبري: ريحا فجعفتها من أصلها (4) يقال إن الذين خددوا الاخدود ثلاثة: تبع صاحب اليمن، وقسطنطين بن هلاني حين صرف النصارى عن التوحيد إلى عبادة الصليب، وبختنصر من أهل بابل حين أمر الناس أن يسجدوا فامتنع دانيال وأصحابه، فألقاهم في النار.
(5) راجع الآيات 4، 4، 5، 6 من سورة البروج.
(6) في رواية للطبري أن الذي أفلت هو جبار بن فيض من أهل نجران.
ثم قال: و " الثبت عندي أنه دوس ذو ثعلبان " ج 2 / 106.
وهو يوافق ما ذكره ابن اسحاق وابن الاثير.
[ * ]

(2/207)


فقال له بعدت بلادك منا ولكن سأكتب لك إلى ملك الحبشة فإنه على هذا الدين وهو أقرب إلى بلادك.
فكتب إليه يأمره بنصره والطلب بثأره.
فقدم دوس على النجاشي بكتاب قيصر فبعث معه سبعين ألفا من الحبشة وأمره عليهم رجلا منهم يقال له أرياط (1) ومعه في جنده ابرهة الاشرم فركب ارياط البحر حتى نزل بساحل اليمن ومعه دوس وسار إليه ذو نواس في حمير ومن اطاعه من قبائل
اليمن.
فلما التقوا انهزم ذو نواس وأصحابه فلما رأى ذو نواس ما نزل به وبقومه وجه فرسه في البحر ثم ضربه فدخل فيه فخاض به ضحضاح البحر حتى أفضى به إلى غمرة، فأدخله فيها فكان آخر العهد به ودخل أرياط اليمن وملكها (2).
__________
(1) أورد الطبري وصية النجاشي إلى أرياط في مسيره إلى اليمن: إن أنت ظهرت عليهم فاقتل ثلث رجالهم.
وأخرب ثلث بلادهم واسب ثلث نسائهم وأبنائهم.
(2) تناول جواد علي في تاريخ العرب قبل الاسلام ج 3 / 150 وما بعدها مسألتي علاقة الاحباش باليمن والنصرانية واليهودية في جنوب الجزيرة وأتى على كل الآراء التي أوردها العلماء في ذلك وخلاصاتها: تناول جواد علي في كتابه: تاريخ العرب قبل الاسلام (ج 3 ص 150 وما يليها) مسألتي علاقة الاحباش باليمن والنصرانية واليهودية في جنوبي الجزيرة وأتى على كل الآراء التي أوردها العلماء في ذلك بتفصيل كامل، ونحن نورد خلاصة ذلك فيما يلي: 1 - من العلماء من يذهب إلى أن أصل الاحباش من جنوبي الجزيرة، هاجروا إلى العدوة الافريقية لاسباب كثيرة، منها استيلاء البرثيين على سواحل بلاد العرب الشرقية، ومن هؤلاء العلماء أدوارد جلازر في كتابه " الاحباش ".
2 - إن لفظ أثيوبيا يوناني معناه الوجه المحترق أو الاسود، وقد أطلق على أرض الحبشة وعلى مناطق واسعة لا تدخل في الحبشة اليوم تشمل جنوب مصر وسواحل أفريقيا المطلة على البحر الاحمر والمحيط الهندي جنوبي بلاد العرب، وهي تقابل لفظ كوش الوارد في التوراة، مما يدل على أن الاتصال كان وثيقا من قديم الزمان بين الشعوب التي تسكن هذه النواحي.
3 - إن أصل الاحباش الذين هاجروا من جنوبي جزيرة العرب إلى أفريقية غير معروف.
4 - لا يعرف على وجه التحديد مكان أرض " حبشت " في جزيرة العرب، والموضع الذي نزلوا فيه أول ما عبروا باب المندب.
ويرى هرمل أن الحضارمة القدماء أقرب العرب الجنوبيين إلى الحبش الجنوبيين، بدليل تقارب اللهجة الحضرمية القديمة المبينة في المسند واللغة الحبشية.
5 - يذهب جلازر إلى أن الحبش هاجروا إلى أفريقية بين سنتي 370 و 378 ميلادية، ويرى هرمل أن رحلتهم منها كانت سنة 375، وكان ذلك في عهد ملكين من ملوك الحبش هما " الاعميدة " وابنه عيزان وكان عيزان يلقب بلقب بملك أكسوم وحمير وريدان والحبشة وسلح وتيماء وصيمو والبجة وقسو.
وكان مركز الدولة في أكسوم، أي أن ما دخل في زمامها من بلاد العرب كان تابعا لها.
6 - وحوالي سنة 378 قام زعيم عربي اسمه " ملك كرب يهأمن " بطرد الاحباش من اليمن وانشأ ملكا عربيا، وتلقب بملك سبأ وذو ريدان وحضرموت ويمنات، وخلفه أبناه أبو كرب أسعد ورا أمر أيمن، وكانوا يعبدون إلها = [ * ]

(2/208)


...
__________
= يسمى ذو سموى أي إله السماء، ولوحظ أن بلاد اليمن أخذت تسير بعد ذلك نحو ديانة التوحيد.
7 - يرى المستشرقون أن أبا كرب أسعد هو أسعد كامل تبع، الذي يرى الاخباريون أنه أول من تهود من ملوك اليمن، وليس لدينا دليل على ذلك، والثابت أن هذا الملك كان يتعبد لاله يسمى ذو سموت أو إله السماء.
8 - وكانت لهؤلاء الملوك جميعا عناية بمجموعة السدود التي تعرف بسد مأرب، وأول أخبار نسمعها عن تصدعه حوالي سنة 450 أو 451 ميلادية في عهد الملك شرحبيل يعفر، فاستعان بالحميرين وقبائل حضرموت لاصلاح الصدوع.
9 - كانت عاصمة سبأ مدينة حتى نهاية القرن الثالث للميلاد، ثم حلت محلها مدينة ظفار، ويرى جلازر أن نجم مأرب أخذ في الافول منذ القرن الاول للميلاد، وإن سبب هذا هو غزو الحبش لليمن.
ويرى هارتمان أن السبب ثورة الهمدانيين على الحميرين وانتصارهم، ويرى جواد علي أن السبب قد يكون تحول التجارة عن مأرب بسبب تغير طرق التجارة وتأثير الطرق البحرية التي أخذت تنافس الطرق البرية، وكانت سفن البيزنطيين قد أخذت طريقها في البحر الاحمر " فسلبت من اليمانيين ثروة عظيمة ولم يبق في امكانهم الانفاق على السد لادامته والمحافظة عليه، وهذا ما اضطر القبائل إلى الهجرة من هذه الجنة التي ولجها الجفاف بالتدريج " ولكن الملوك لم يهجروا مأرب دفعة واحدة، إذ تدل النصوص على أنهم أقاموا بها أمدا من الوقت بعد ذلك 10 - وآخر ملوك حمير كما يقول الاخباريون هو ذو نواس (وإن كان بعضهم يذهب إلى أن ابنه ذا جدن خلفه)
وللاخباريين عنه قصص طويل، وفي أيامه غزا الاحباش اليمن من جديد.
ولم تورد النصوص المدونة بالمسند لدى نواس ذكرا، والنص الذي يحدثنا عن غزو الاحباش لليمن هذه المرة يسمى نص " حصن غراب " وتاريخه سنة 525 بعد الميلاد.
11 - ولا يذكر مؤرخو الرومان أن ملك حمير - عندما غزا الاحباش اليمن - كان يهوديا ويكتفي بروكوبيوس بالقول بأن النجاشي كان نصرانيا، وبلغه أن الحميرين كانوا يضطهدون النصارى ويعذبونهم، ولذلك أرسل أسطولا استولى على أرض حمير وأقام عليها ملكا حميريا نصرانيا، وذكر أن بعض الحميريين كانوا على اليهودية، أما بقيتهم فكانوا وثنيين على مذهب الهيلينيين.
أما الرواية الحبشية فتذهب إلى أن معظم أهل سبأ كانوا وثنيين، وأن بعضهم كانوا يهودا، وأن اليهودية دخلت اليمن بعد تشتت اليهود عقب قضاء الرومان على دولة اسرائيل وهم الامبراطور تيتوس لمعبد سليمان في أورشليم.
والمفهوم أن اليهودية دخلت اليمن بعد تشتت اليهود عقب قضاء الرومان على دولة اسرائيل وهم الامبراطور تيتوس لمعبد سليمان في أورشليم.
والمفهوم أن اليهودية دخلت اليمن عن طريق الحجاز.
12 - أما النصرانية فلم تدخل اليمن من طريق واحد، " وإنما دخلتها من البر والبحر، دخلتها من البر من ديار الشام فالحجاز فاليمن، ومن العراق أيضا مع القوافل التجارية المستمرة التي كانت بين اليمن والعراق، ودخلتها من البحر بواسطة السفن اليونانية والرومانية، ودخلتها كذلك مع الاحباش الذين تنصروا أيضا في القرن الرابع للميلاد ".
13 - وقد قامت بين اليهودية والنصرانية منافسة في اليمن، وانتصرت اليهودية بتولي ذي نواس اليهودي العرش، وتسميه كتابات اليونان والسريان دميانوس ودمنوس.
وقد اضطهد ذو نواس النصارى، فكان ذلك سببا في غزو الاحباش لليمن سنة 525 على ما ذكرناه.
14 - وأقام الاحباش ابرهة الحميري حاكما على اليمن، وكان نصرانيا.
ثم اختلف أبرهة مع النجاشي، فأرسل = [ * ]

(2/209)


قد ذكر ابن إسحاق هاهنا أشعارا للعرب فيما وقع من هذه الكائنة الغريبة وفيها فصاحة وحلاوة وبلاغة وطلاوة ولكن تركنا إيرادها خشية الاطالة وخوف الملالة وبالله المستعان.
خروج أبرهة الاشرم على أرياط واختلافهما قال ابن إسحاق: فأقام أرياط بأرض اليمن سنين (1) في سلطانه ذلك ثم نازعه ابرهة [ الحبشي - وكان في جنده ] حتى تفرقت الحبشة عليهما.
فانحاز إلى كل منهما طائفة [ منهم ] ثم سار أحدهما إلى الآخر.
فلما تقارب الناس أرسل أبرهة إلى أرياط: إنك لن تصنع بأن تلقى الحبشة بعضها ببعض حتى تفنيها شيئا شيئا، فابرز لي وأبرز لك، فاينا أصاب صاحبه انصرف إليه جنده، فأرسل إليه أرياط انصفت، فخرج إليه أبرهة، وكان رجلا قصيرا لحميا [ حادرا ] (2) وكان ذا دين في النصرانية وخرج إليه أرياط وكان رجلا جميلا عظيما طويلا وفي يده حربة له.
وخلف أبرهة غلام - يقال له عتودة - يمنع ظهره.
فرفع أرياط الحربة فضرب أبرهة يريد يافوخه.
فوقعت الحربة على جبهة أبرهة فشرمت حاجبه وعينه وأنفه وشفته فبذلك سمي أبرهة الاشرم.
وحمل عتودة على أرياط من خلف أبرهة فقتله (3)، وانصرف جند أرياط إلى أبرهة.
فاجتمعت عليه الحبشة باليمن وودى أبرهة أرياط.
فلما بلغ ذلك النجاشي ملك الحبشة الذي بعثهم إلى اليمن غضب غضبا شديدا على أبرهة وقال عدا على أميري فقتله بغير أمري ثم حلف لا يدع أبرهة حتى يطأ بلاده ويجز ناصيته فحلق أبرهة رأسه وملا جرابا من تراب اليمن ثم بعث به إلى النجاشي ثم كتب إليه: أيها الملك إنما كان أرياط عبدك وأنا عبدك فاختلفنا في أمرك وكل طاعته لك إلا أني كنت أقوى على أمر الحبشة واضبط لها وأسوس منه.
وقد حلقت رأسي كله حين بلغني قسم الملك وبعثت إليه بجراب تراب من أرضي ليضعه تحت قدمه فيبر قسمه في.
فلما انتهى ذلك
__________
= هذا الاخير جيشا بقيادة أرياط ليقضي على أبرهة.
وتمكن أبرهة من قتل أرياط ثم استرضى النجاشي.
وقد ترك لنا ابرهة نصا على درجة كبيرة من الاهمية، أورده جواد علي كاملا، يذكر فيه ترميمه لسد مأرب مرتين، وكان أبرهة نائبا لملك الحبشة ولكنه تلقب بملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنات وأعرابها في النجاد وفي تهامة، وهو اللقب القديم للملوك حمير المستقلين.
وقد عظم شأن أبرهة ووفدت عليه وفود ملك الفرس والمنذر والحارث بن جبلة ورؤساء القبائل.
وقد انتشرت المسيحية في اليمن بعد ذلك وبنيت الكنائس الكثيرة وأهمها الكنيسة المعروفة بالقليس، وتركزت النصرانية بصفة خاصة في نجران على ما هو معروف.
15 - وقد ظل سلطان الاحباش على اليمن حتى ثار عليهم سيف بن ذي يزن وحرر بلاده منهم.
واستعان بالفرس، مما أدى إلى غزوهم اليمن على ما هو معروف.
(1) في مروج الذهب: عشرين سنة، وفي أخبار الازرقي: سنتين.
(2) ما بين معقوفين في الحديث زيادة من الطبري.
(3) في الاخبار الطوال: أن ابرهة ضرب أرياط بالسيف على مفرق رأسه فقتله، مخالفا بروايته ابن الاثير والطبري والمسعودي.
[ * ]

(2/210)


إلى النجاشي رضي عنه وكتب إليه أن أثبت بأرض اليمن حتى يأتيك أمري فأقام أبرهة باليمن.
سبب قصد ابرهة بالفيل مكة ليخرب الكعبة (ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل.
ألم يجعل كيدهم في تضليل.
وأرسل عليهم طيرا أبابيل.
ترميهم بحجارة من سجيل.
فجعلهم كعصف مأكول) (1).
قيل أول من ذلل الفيلة إفريدون بن أثفيان (2) الذي قتل الضحاك قاله الطبري وهو أول من اتخذ للخيل السرج.
وأما أول من سخر الخيل وركبها فطهمورث (3) وهو الملك الثالث من ملوك الدنيا ويقال إن أول من ركبها اسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام ويحتمل أنه أول من ركبها من العرب والله تعالى أعلم.
ويقال إن الفيل مع عظمة خلقه يفرق من الهر.
وقد احتال بعض أمراء الحروب في قتال الهنود بإحضار سنانير إلى حومة الوغى فنفرت الفيلة (4).
قال ابن إسحاق ثم إن أبرهة بني القليس (5) بصنعاء كنيسة لم ير مثلها في زمانها بشئ من الارض وكتب إلى النجاشي إني قد بنيت لك كنيسة لم يبن مثلها لملك كان قبلك ولست بمنته حتى أصرف إليها حج العرب.
فذكر السهيلي أن أبرهة استذل أهل اليمن في بناء هذه الكنيسة الخسيسة وسخرهم فيها أنواعا من السخر.
وكان من تأخر عن العمل حتى تطلع الشمس يقطع يده لا محالة.
وجعل ينقل
إليها من قصر بلقيس رخاما وأحجارا وأمتعة عظيمة وركب فيها صلبانا من ذهب وفضة وجعل فيها منابر من عاج وأبنوس وجعل ارتفاعها عظيما جدا واتساعها باهرا (6) فلما هلك بعد ذلك أبرهة وتفرقت الحبشة كان من يتعرض لاخذ شئ من بنائها وامتعتها أصابته الجن بسوء.
وذلك لانها كانت مبنية على اسم صنمين - كعيب وامرأته - وكان طول كل منهما ستون ذراعا.
فتركها أهل
__________
(1) سورة الفيل الآيات.
(2) في ابن الاثير اثغيان وهو أول من ذلل الفيلة وامتطاها ونتج للبغال.
وفي مروج الذهب 1 / 231 افريدون بن اثقابان.
(3) في الطبري وابن الاثير: أول من اتخذ زينة الملوك من الخيل والبغال والحمير.
(4) في مروج الذهب ج 2 / 9: والفيل يهرب من السنانير وهي القطاط ولا يقف لها البتة.
وقد ذكر من ملوك الفرس أنها كانت توقي الفيلة..بتخلية السنانير عليها.
وفي ذلك يقول هارون بن موسى أحد أمراء السند وكان قد واجه ملك الهند فواجه الفيل بقط معه فهرب الفيل وكان ذلك سبب هزيمة الملك: وكنت قد أعددت هرا لها * قليل التهيب للزندبيل (5) في الاخبار الطوال: بيعة.
(6) في رواية للطبري ج 2 / 110 أن أبرهة كتب إلى قيصر يطلب مساعدته فأعانه بالصناع والفسيفساء والرخام.
[ * ]

(2/211)


اليمن على حالها.
فلم تزل كذلك إلى زمن السفاح (1) أول خلفاء بني العباس فبعث إليها جامعة من أهل العزم والحزم والعلم فنقضوها حجرا حجرا ودرست آثارها إلى يومنا هذا.
قال ابن إسحاق فلما تحدثت العرب بكتاب أبرهة إلى النجاشي غضب رجل من النسأة من كنانة (1) الذين ينسئون شهر الحرام (2) إلى الحل بمكة أيام الموسم كما قررنا ذلك عند قوله: (إنما النسئ زيادة في الكفر) الآية (3).
قال ابن إسحاق فخرج الكناني حتى أتى القليس فقعد فيه (4) أي أحدث حيث لا يراه أحد ثم خرج فلحق بأرضه فأخبر أبرهة بذلك.
فقال من صنع هذا.
فقيل له صنعه رجل من أهل
هذا البيت الذي تحجه العرب بمكة لما سمع بقولك أنك تريد أن تصرف حج العرب إلى بيتك هذا فغضب فجاء فقعد فيها أي أنه ليس لذلك بأهل.
فغضب أبرهة عند ذلك وحلف ليسيرن إلى البيت حتى يهدمه.
ثم أمر الحبشة فتهيأت وتجهزت.
ثم سار وخرج معه بالفيل (5) وسمعت بذلك العرب فاعظموه وفظعوا به ورأوا جهاده حقا عليهم حين سمعوا بأنه يريد هدم الكعبة بيت الله الحرام.
فخرج إليه رجل كان من أشراف أهل اليمن وملوكهم يقال له ذو نفر.
فدعا قومه ومن أجابه من سائر العرب إلى حرب أبرهة وجهاده عن بيت الله الحرام وما يريده من هدمه وإخرابه.
فأجابه من أجابه إلى ذلك.
ثم عرض له فقاتله.
فهزم ذو نفر وأصحابه وأخذ له ذو نفر فأتي به أسيرا.
فلما أراد قتله، قال له ذو نفر: يا أيها الملك لا تقتلني فإنه عسى أن يكون بقائي معك خيرا لك من القتل (6).
فتركه من القتل وحبسه عنده في وثاق، وكان أبرهة رجلا حليما ثم مضى أبرهة على وجهه ذلك يريد ما خرج له حتى إذا كان بأرض خثعم (7) عرض له نفيل بن حبيب الخثعمي (8)
__________
(1) في ابن الاثير والطبري: من بني فقيم.
(2) كانوا يحلون الشهر من الاشهر الحرم، ويحرمون مكانه الشهر من أشهر الحل ويؤخرون ذلك الشهر.
ونسأت الشئ فهو منسوء إذا أخرته.
وكانوا يحرمون القتال في المحرم، فإذا احتاجوا إلى ذلك حرموا صفرا بدله وقاتلوا في المحرم.
(3) سورة التوبة الآية 37.
(4) في ابن هشام والطبري وابن الاثير: فيها وهو الصواب.
(5) قال ابن الاثير 1 / 442: كان اسمه محمودا، وقيل كان معه ثلاثة عشر فيلا، وإنما وحد الله الفيل لانه عنى به كبيرها محمودا.
وقال الضحاك: ثمانية فيلة.
(6) في ابن هشام: قتلي.
(7) في الاشتقاق لابن دريد: خثعم اسم جبل سمي به بنو عفرس بن خلف بن أفتل بن أنمار لانهم نزلوا عنده وقيل لانهم تخثعموا أي تلطخوا بالدم عند حلف عقدوه بينهم.
(8) في ابن هشام والطبري: قبيلي.
[ * ]

(2/212)


في قبيلتي خثعم وهما شهران وناهس (1) ومن تبعه من قبائل العرب فقاتله فهزمه أبرهة وأخذ له نفيل أسيرا فأتى به فلما هم بقتله قال له نفيل أيها الملك لا تقتلني فإني دليلك بأرض العرب وهاتان يداي لك على قبيلتي خثعم - شهران وناهس - بالسمع والطاعة.
فخلى سبيله (2) وخرج به معه يدله حتى إذا مر بالطائف خرج إليه مسعود بن معتب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن ثقيف في رجال ثقيف فقالوا له أيها الملك إنما نحن عبيدك سامعون لك مطيعون ليس عندنا لك خلاف.
وليس بيتنا هذا البيت الذي تريد - يعنون اللآت - إنما تريد البيت الذي بمكة ونحن نبعث معك من يدلك عليه فتجاوز عنهم.
قال ابن إسحاق واللات بيت لهم بالطائف كانوا يعظمونه نحو تعظيم الكعبة.
قال فبعثوا معه أبا رغال يدله على الطريق إلى مكة.
فخرج أبرهة ومعه أبو رغال حتى أنزله بالمغمس (3).
فلما أنزله به مات أبو رغال هنالك فرجمت قبره العرب فهو القبر الذي يرجم الناس بالغمس وقد تقدم في قصة ثمود أن أبا رغال كان رجلا منهم وكان يمتنع بالحرم فلما خرج منه أصابه حجر فقتله وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لاصحابه " وآية ذلك أنه دفن معه غصنان من ذهب " فحفروا فوجدوهما قال وهو أبو ثقيف.
قلت والجمع بين هذا وبين ما ذكر ابن إسحاق أن أبا رغال هذا المتأخر وافق اسمه اسم جده الاعلى ورجمه الناس كما رجموا قبر الاول أيضا والله أعلم.
وقد قال جرير: إذا مات الفرزدق فارجموه * كرجمكم لقبر أبي رغال الظاهر أنه الثاني.
قال ابن إسحاق فلما نزل أبرهة بالمغمس بعث رجلا من الحبشة يقال له الاسود بن مفصود (4) على خيل له حتى انتهى إلى مكة.
فساق إليه أموال [ أهل ] تهامة من قريش وغيرهم.
وأصاب فيها مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم - وهو يومئذ كبير قريش وسيدها - فهمت قريش وكنانة وهذيل (5) ومن كان بذلك الحرم [ من سائر الناس ] (6) بقتاله.
ثم عرفوا أنه لا طاقة لهم به فتركوا
__________
(1) يقال إن خثعم ثلاث: شهران وناعس وأكلب نهاية الارب وقال أبو عبيدة: ويقال هو أكلب بن ربيعة بن نزار.
قال ابن حزم في الجمهرة: وأكلب بن ربيعة بن نزار دخلوا في بني خثعم فقالوا: أكلب بن ربيعة بن عفرس.
(2) في الطبري: فأعفاه.
(3) المغمس: واقع بين الجعرانة والشرايع في طريق السيل إلى الطائف ; على ثلثي فرسخ من مكة.
(4) في الطبري وابن الاثير: مقصود ; وفي نسخة للازرقي كالاصل.
(5) في الازرقي زاد: خزاعة.
(6) ما بين معكوفين زيادة من الطبري.
[ * ]

(2/213)


ذلك.
وبعث أبرهة حناطة الحميري إلى مكة وقال له: سل عن سيد أهل هذا البلد وشريفهم، ثم قل له: إن الملك يقول إني لم آت لحربكم إنما جئت لهدم هذا البيت فإن لم تعرضوا لنا دونه بحرب فلا حاجة لي بدمائكم، فإن هو لم يرد حربي فائتني به فلما دخل حناطة مكة سأل عن سيد قريش وشريفها فقيل له عبد المطلب بن هاشم [ بن عبد مناف بن قصي ].
فجاءه فقال له ما أمره به أبرهة.
فقال له عبد المطلب والله ما نريد حربه ومالنا بذلك من طاقة هذا بيت الله الحرام وبيت خليله إبراهيم عليه السلام - أو كما قال - فإن يمنعه منه فهو حرمه وبيته وإن يخل بينه وبينه فوالله ما عندنا دفع عنه.
فقال له حناطة فانطلق معي إليه فإنه قد أمرني أن آتيه بك.
فانطلق معه عبد المطلب ومعه بعض بنيه حتى أتى العسكر فسأل عن ذي نفر وكان له صديقا - حتى دخل عليه وهو في محبسه فقال له يا ذا نفر هل عندك من غناء فيما نزل بنا ؟ فقال له ذو نفر وما غناء رجل أسير بيدي ملك ينتظر أن يقتله غدوا أو عشيا ؟ ما عندي غناء في شئ مما نزل بك إلا أن أنيسا سائس الفيل صديق لي.
فسأرسل إليه وأوصيه بك وأعظم عليه حقك واسأله أن يستأذن لك على الملك فنكلمه بما بدا لك ويشفع لك عنده بخير إن قدر على ذلك.
فقال حسبي.
فبعث ذو نفر إلى أنيس فقال له: إن عبد المطلب سيد قريش وصاحب عين (1) مكة يطعم الناس بالسهل والوحوش في
رؤوس الجبال وقد أصاب له الملك مائتي بعير فاستأذن له عليه وانفعه عنده بما استطعت.
قال: أفعل.
فكلم أنيس أبرهة فقال له أيها الملك هذا سيد قريش ببابك يستأذن عليك وهو صاحب عين (1) مكة وهو الذي يطعم الناس بالسهل والوحوش في رؤوس الجبال فائذن له عليك فليكلمك في حاجته [ وأحسن إليه ] (2) فأذن له أبرهة قال وكان عبد الملطب أوسم الناس وأعظمهم وأجملهم فلما رآه أبرهة أجله وأكرمه عن أن يجلسه تحته وكره أن تراه الحبشة يجلسه معه على سرير ملكه.
فنزل أبرهة عن سريره فجلس على بساطه وأجلسه معه عليه إلى جانبه ثم قال لترجمانه قل له حاجتك ؟ فقال له ذلك الترجمان فقال: حاجتي أن يرد علي الملك مائتي بعير أصابها لي.
فلما قال له ذلك، قال أبرهة لترجمانه: قل له لقد كنت أعجبتني حين رأيتك ثم قد زهدت فيك حين كلمتني.
أتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك قد جئت لاهدمه لا تكلمني فيه ؟ فقال له عبد المطلب إني أنا رب الابل، وإن للبيت ربا سيمنعه.
فقال ما كان ليمتنع مني.
قال أنت وذاك.
فرد على عبد المطلب إبله.
قال ابن إسحاق ويقال إنه كان قد دخل مع عبد المطلب على أبرهة يعمر (3) بن نفاثة بن
__________
(1) في الطبري وابن هشام والازرقي: صاحب عير مكة.
(2) ما بين معكوفين زيادة من الطبري.
(3) كذا في الاصل وابن هشام والازرقي ; وفي الطبري: يعمرو بن نفاثة بن عدي بن الدئل.
واختلف في الدئل = [ * ]

(2/214)


عدي بن الديل بن بكر بن عبدمناة بن كنانة سيد بني بكر (1) وخويلد بن واثلة (2) سيد هذيل فعرضوا على أبرهة ثلث أموال تهامة على أن يرجع عنهم ولا يهدم البيت فأبى عليهم ذلك فالله أعلم أكان ذلك أم لا.
فلما انصرفوا عنه انصرف عبد المطلب إلى قريش فأخبرهم الخبر وأمرهم بالخروج من مكة والتحرز في رؤوس الجبال [ خوفا عليهم من معرة الجيش ] (3).
ثم قام عبد المطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة وجنده.
وقال عبد المطلب
- وهو أخذ بحلقة باب الكعبة -: لاهم إن العبد يم * نع رحله فامنع رحالك (4) لا يغلبن صليبهم * ومحالهم غدوا محالك إن كنت تاركهم وقب * لتنا فأمر ما بدا لك قال ابن هشام هذا ما صح له منها (5).
وقال ابن إسحاق ثم أرسل عبد المطلب حلقة باب الكعبة وانطلق هو ومن معه من قريش إلى شعف الجبال يتحرزون فيها فينتظرون ما أبرهة فاعل (6).
فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة
__________
= بهمز أو الديل.
والمعروف أن الدئل هم الذين من بني كنانة وهم الهون أيضا وأما الديل فهم من الازد ; وفي اياد وفي عبد القيس.
راجع نهاية الارب للقلقشندي - جمهرة انساب العرب لابن حزم - الانساب للسمعاني.
لسان العرب مادة دأل.
(1) في ابن هشام والازرقي كالاصل وفي الطبري: بني كنانة.
وبنو بكر كما في جمهرة ابن حزم هم بطن من بطون كنانة.
(2) في الطبري والازرقي وابن هشام واثلة.
(3) زيادة اقتضاها السياق، من الطبري وابن الاثير والازرقي وابن هشام.
والتحرز: التمنع، ويروى التحوز: وهو أن ينحاز إلى جهة يتمنع.
ومعرة الجيش: شدته، أي عند نزولهم بقوم فيأكلوا من زروعهم بغير علم وقبل وطأتهم من مروا به من مسلم أو معاهد واصابتهم إياهم في حريمهم وأموالهم وزروعهم بما لم يؤذن لهم فيه.
(4) لاهم وفي الازرقي يا رب.
لاهم أصلها اللهم والعرب تحذف الالف واللام منها وتكتفي بما بقي.
(5) زاد السهيلي: وانصر على آل الصليب * وعابديه اليوم آلك وقد ذكر الطبري قصيدة أخرى لعبد المطلب غير هذه القصيدة ج 2 / 112 - 113.
وذكر الازرقي قصيدة أخرى له ص 145: منها:
قلت والاشرم تردى خيله * إن ذا الاشرم غر بالحرم (6) زاد ابن هشام والطبري وابن الاثير: بمكة إذا دخلها.
[ * ]

(2/215)


وهيأ فيله وعبى جيشه، وكان اسم الفيل محمودا.
فلما وجهوا الفيل إلى مكة أقبل نفيل بن حبيب (1) حتى قام إلى جنب الفيل ثم أخذ بأذنه فقال أبرك محمود وارجع راشدا من حيث أتيت.
فإنك في بلد الله الحرام وأرسل أذنه.
فبرك الفيل.
قال السهيلي أي سقط إلى الارض وليس من شأن الفيلة أن تبرك وقد قيل إن منها ما يبرك كالبعير فالله أعلم (2).
وخرج نفيل بن حبيب يشتد حتى أصعد في الجبل.
وضربوا الفيل ليقوم فأبى فضربوا رأسه بالطبر زين (3) ليقوم فأبى فادخلوا محاجن لهم في مراقه فبزغوه بها ليقوم فأبى فوجهوه راجعا إلى اليمن فقام يهرول.
ووجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك.
ووجهوه إلى مكة فبرك.
وأرسل الله عليهم طيرا من البحر أمثال الخطاطيف والبلسان (4) مع كل طائر منها ثلاثة أحجار يحملها: حجر في منقاره وحجران في رجليه أمثال الحمص والعدس لا تصيب منهم أحدا إلا هلك وليس كلهم أصابت.
وخرجوا هاربين يبتدرون الطريق التي منها جاؤوا.
ويسألون عن نفيل بن حبيب ليدلهم على الطريق إلى اليمن فقال نفيل في ذلك: ألا حييت عنا يا ردينا * نعمناكم مع الاصباح عينا ردينة لو رأيت فلا تريه * لدى جنب المحصب ما رأينا (5) إذا لعذرتني وحمدت أمري * ولم تأسي على ما فات بينا حمدت الله إذ أبصرت طيرا * وخفت حجارة تلقى علينا (6) وكل القوم يسأل عن نفيل * كأن علي للحبشان دينا
__________
(1) نفيل بن حبيب الخثعمي كما في الطبري وابن الاثير والازرقي.
وقال في الروض الانف هو: نفيل بن عبد الله بن جزء بن عامر بن مالك بن واهب بن جليحة بن أكلب بن ربيعة بن عفرس بن جلف بن أفتل.
وهو
خثعم.
ويتفق معه ابن حزم 391 في نسبه إلا أنه يقول: نفيل بن حبيب بن عبد الله..وهو دليل الحبشة إلى البيت.
(2) عبارة السهيلي: قوله فبرك الفيل فيه نظر لان الفيل لا يبرك فيحتمل أن يكون فعل فعل البارك الذي يلزم موضعه ولا يبرح فعبر بالبروك عن ذلك ويحتمل أن يكون بروكه سقوطه إلى الارض لما دهمه من أمر الله تعالى، وقد سمعت أن في الفيلة صنفا يبرك كما يبرك الجمل.
راجع حياة الحيوان الكبرى للدميري ج 2 / 232.
(3) الطبرزين: آلة معقفة من الحديد، وطبر كلمة فارسية معناها الفأس.
وفي حياة الحيوان عند الدميري: فضربوه بالحديد.
(4) قال ابن الاثير في النهاية مادة بلس: قال عباد بن موسى أظنها الزرازير.
1 / 111.
(5) في الطبري وابن الاثير: ولم تريه وفي الازرقي: ولن تريه.
وقبله في الطبري وابن الاثير: آتانا قابس منكم عشاء * فلم يقدر لقابسكم لدينا (6) في الطبري وابن الاثير: إذ عاينت بدل أبصرت.
[ * ]

(2/216)


قال ابن إسحاق: فخرجوا يتساقطون بكل طريق ويهلكون بكل مهلك على كل منهل.
وأصيب أبرهة في جسده وخرجوا به معهم يسقط (1) أنملة أنملة كلما سقطت أنملة اتبعتها منه مدة تمت (2) قيحا ودما حتى قدموا به صنعاء وهو مثل فرخ الطائر.
فما مات حتى أنصدع صدره عن قلبه فيما يزعمون.
قال ابن إسحاق: حدثني يعقوب بن عتبة (3) أنه حدث أن أول ما رؤيت الحصبة والجدري بأرض العرب ذلك العام، وأنه أول ما رئي بها مرائر الشجر الحرمل، والحنظل والعشر (4) ذلك العام.
قال إبن إسحاق: فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم كان مما يعدد الله على قريش من نعمته عليهم وفضله مارد عنهم من أمر الحبشة لبقاء أمرهم ومدتهم فقال تعالى: (ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل.
ألم يجعل كيدهم في تضليل.
وأرسل عليهم طيرا أبابيل.
ترميهم بحجارة من
سجيل.
فجعلهم كعصف مأكول) (5).
ثم شرع ابن إسحاق وابن هشام يتكلمان على تفسير هذه السورة والتي بعدها وقد بسطنا القول في ذلك في كتابنا التفسير بما فيه كفاية إن شاء الله تعالى وله الحمد والمنة.
قال ابن هشام الابابيل الجماعات ولم تتكلم لها العرب بواحد علمناه (6).
قال: وأما السجيل فأخبرني يونس النحوي وأبو عبيدة أنه عند العرب: الشديد الصلب (7).
قال: وزعم
__________
(1) في الطبري: تسقط أنامله أنملة أنملة.
وفي ابن الاثير، فسقطت أعضاؤه عضوا عضوا.
(2) في الطبري وابن هشام: تمث بالثاء أي ترشح وتنزف.
(3) هو يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الاخنس الثقفي المدني كما في أخبار الازرقي وكان فقيها عالما بالسيرة توفي عام 128 ه.
(4) الحرمل: شجر لا يأكله شئ سوى المعزى.
والعشر: شجر مر له صمغ ولبن وتعالج بلبنه الجلود قبل دباغتها.
وأما القول بأن الحصبة والجدري أول ما رؤيا في العرب بعد الفيل وأيضا العشر والحرمل والشجر فهذا مما لا ينبغي أن يعرض عليه ولا يعول عليه كثيرا فالامراض والاشجار مذ خلق الله العالم، ومذ وجد الانسان على الارض وقبل الفيل بدهور.
(5) سورة الفيل (6) أبابيل: قال صاحب القاموس في " أبل ": فرق جمع بلا واحد.
والابالة القطعة من الطير أو المتتابعة منها.
قال صاحب اللسان " أبل ": الابابيل جماعة في تفرقة، واحدها إبيل وإبول.
وزعم الرؤاسي أن واحدها إبالة.
(7) قال صاحب اللسان: السجيل: حجارة كالمدر، ومن قرأ السجيل فهو الصلب الشديد.
وقال أبو عبيدة: تأويله كثيرة شديدة.
وقال أبو إسحاق: سجيل من سجلت إذا أعطيت وعند الجوهري: [ * ]

(2/217)


بعض المفسرين أنهما كلمتان بالفارسية جعلتهما العرب كلمة واحدة وأنها سنج وجل (1) فالسنج
الحجر ; والجل الطين.
يقول: الحجارة من هذين الجنسين الحجر والطين.
قال: والعصف ورق الزرع الذي لم يقصب.
وقال الكسائي سمعت بعض النحويين يقول واحد الابابيل أبيل وقال كثيرون من السلف الابابيل الفرق من الطير التي يتبع بعضها بعضا من ههنا وههنا.
وان ابن عباس كان له خراطيم كخراطيم الطير وأكف كأكف الكلاب وعن عكرمة كانت رؤوسها كرؤوس السباع خرجت عليهم من البحر وكانت خضرا.
وقال عبيد بن عمير كانت سودا بحرية في مناقيرها وأكفها الحجارة.
وعن ابن عباس كانت أشكالها كعنقاء مغرب وعن ابن عباس كان أصغر حجر منها كرأس الانسان ومنها ما هو كالابل.
وهكذا ذكره يونس بن بكير عن ابن إسحاق.
وقيل كانت صغارا والله أعلم (1) وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو زرعة حدثنا محمد بن عبد الله بن أبي شيبة حدثنا أبو معاوية عن الاعمش عن أبي سفيان عن عبيد بن عمير قال لما أراد الله أن يهلك أصحاب الفيل بعث عليهم طيرا أنشئت من البحر أمثال الخطاطيف كل طير منها يحمل ثلاثة أحجار حجرين في رجليه وحجرا في منقاره قال فجاءت حتى صفت على رؤوسهم.
ثم صاحت وألقت ما في رجليها ومناقيرها.
فما يقع حجر على رأس رجل إلا خرج من دبره.
ولا يقع على شئ من جسده إلى خرج من الجانب الآخر (2).
وبعث الله ريحا شديدة فضربت الحجارة فزادنها شدة فأهلكوا جميعا.
وقد تقدم أن ابن إسحاق قال وليس كلهم اصابته الحجارة يعني بل رجع منهم راجعون إلى اليمن حتى أخبروا أهلهم بما حل بقومهم من النكال وذكروا أن ابرهة رجع وهو يتساقط أنملة أنملة فلما وصل إلى اليمن انصدع صدره فمات لعنه الله (3).
__________
= حجارة طبخت بنار جهنم مكتوب فيها اسماء القوم.
(1) في تفسير القرطبي: قال عبد المطلب: إنها اشباه اليعاسيب.
وقال الكلبي: في مناقيرها حصى كحصى الحذف.
أمام كل فرقة طائر يقودها، أحمر المنقار، أسود الرأس طويل العنق.
وقال سعيد بن جبير: خضر لها مناقير صفر.
وقيل كانت بيضا.
(2) قال القرطبي في تفسيره: قيل: كان الحجر يقع على بيضة أحدهم فيخرقها ويقع في دماغه، ويخرق الدابة
والفيل.
ويغيب الحجر في الارض من شدة وقعه.
(3) في تفسير القرطبي ج 20 / 193: وكان أصحاب الفيل ستين ألفا، لم يرجع منهم أحد إلا أميرهم، ورجع معه شرذمة لطيفة، فلما أخبروا بما رأوا هلكوا.
وفي رواية للقرطبي: ولم يسلم منهم إلا رجلا من كندة - نفيل بن حبيب -.
وجاء في أخبار الازرقي: وأقام بمكة فلال من الجيش وعسفاء وبعض من ضمه العسكر، فكانوا بمكة يعتملون ويرعون لاهل مكة.
[ * ]

(2/218)


وروى ابن إسحاق قال حدثني عبد الله بن أبي بكر عن سمرة (1) عن عائشة قالت لقد رأيت قائد الفيل وسائسه بمكة أعميين مقعدين يستطعمان (2).
وتقدم أن سائس الفيل كان اسمه أنيسا فأما قائده فلم يسم والله أعلم.
وذكر النقاش في تفسيره أن السيل احتمل جثثهم فألقاها في البحر (3).
قال السهيلي وكانت قصة الفيل أول المحرم من سنة ست وثمانين وثمانمائة (4) من تاريخ ذي القرنين.
قلت وفي عامها ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم على المشهور.
وقيل كان قبل مولده بسنين كما سنذكر إن شاء الله تعالى وبه الثقة.
ثم ذكر ابن إسحاق ما قالته العرب من الاشعار في هذه الكائنة العظيمة التي نصر الله فيها بيته الحرام الذي يريد أن يشرفه ويعظمه ويطهره ويوقره ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم وما يشرع له من الدين القويم الذي أحد أركانه الصلاة بل عماد دينه وسيجعل قبلته إلى هذه الكعبة المطهرة ولم يكن ما فعله بأصحاب الفيل نصرة لقريش إذ ذاك على النصارى الذين هم الحبشة: فإن الحبشة إذ ذاك كانوا أقرب لها من مشركي قريش وإنما كان النصر للبيت الحرام وإرهاصا وتوطئة لبعثة محمد صلى الله عليه وسلم.
فمن ذلك ما قاله عبد الله بن الزبعرى السهمي: تنكلوا عن بطن مكة إنها * كانت قديما لا يرام حريمها (5) لم تخلق الشعرى ليالي حرمت * إذ لا عزيز من الانام يرومها (6)
سائل أمير الحبش عنها ما رأى * فلسوف ينبي الجاهلين عليمها (7)
__________
(1) كذا في الاصل سمرة.
وفي ابن هشام والطبري وابن الاثير: عمرة.
وعمرة هي بنة عبد الرحمن بن سعد بن زرارة الانصارية المدنية الفقيهة.
كانت في حجر عائشة وروت عنها الكثير توفيت سنة 98 ه وقيل سنة 106 ه عن سبع وسبعين سنة.
(2) جاء في تفسيره عن عتاب بن أسيد قال: وأنا أدركت سائسه وقائده أعميين مقعدين يستطعمان الناس 20 / 195.
(3) في الطبري ج 2 / 115: وبعث الله سيلا أتيا فذهب بهم فألقاهم في البحر.
(4) في السهيلي سنة اثنتين وثمانين ; وفي مروج الذهب ج 2 / 296.
وفي الطبري لمضي 42 سنة من ملك كسرى انوشروان وفي هذا العام كان يوم جبلة.
وفي أيام العرب في الجاهلية يوم جبلة كان قبل الاسلام بسبع وخمسين سنة.
نهاية الارب 414 وقال ابن سيد الناس: ص 27: ذكر أبو بكر محمد بن موسى الخوارزمي قال: كان قدوم الفيل مكة لثلاث عشرة ليلة بقيت من المحرم.
وافقه المسعودي.
وزاد كان قدوم ابرهة مكة لسبع عشرة خلت من المحرم ولست عشرة ومائتين من تاريخ العرب ولسنة أربعين من ملك كسرى.
(5) تنكلوا ورويت تنكبوا ومعناها: انصرفوا وارجعوا خوفا.
(6) الشعرى: وهما شعريان - اسم نجم - الغميصاء والاخرى تتبع الجوزاء.
(7) في ابن هشام الجيش بدل الحبش.
[ * ]

(2/219)


ستون ألفا لم يؤوبوا أرضهم * بل لم يعش بعد الاياب سقيمها (1) كانت بها عاد وجرهم قبلهم * والله من فوق العباد يقيمها ومن ذلك قول أبي قيس بن الاسلت الانصاري المدني: ومن صنعه يوم فيل الحبو * ش إذ كلما بعثوه رزم محاجنهم تحت أقرابه * وقد شرموا أنفه فانخرم (2) وقد جعلوا سوطه مغولا * إذا يمموه قفاه كلم
فولى وأدبر أدراجه * وقد باء بالظلم من كان ثم فأرسل من فوقهم حاصبا * فلفهم مثل لف القزم (4) تحض على الصبر أحبارهم * وقد ثأجوا كثؤاج الغنم (4) ومن ذلك قول أبي الصلت ربيعة بن أبي ربيعة وهب بن علاج الثقفي قال ابن هشام ويروى لامية بن أبي الصلت: إن آيات ربنا ثاقبات * مما يماري فيهن إلا الكفور (5) خلق الليل والنهار فكل * مستبين حسابه مقدور ثم يجلو النهار رب رحيم * بمهاة شعاعها منثور حبس الفيل بالمغمس حتى * صار يحبو كأنه معقور لازما حلقة الجران كما ق * د من صخر كبكب محدور (6) حوله من ملوك كندة أبطا * ل ملاويث في الحروب صقور (7) خلفوه ثم ابذعروا جميعا * كلهم عظم ساقه مكسور كل دين يوم القيامة عند الل * ه إلا دين الحنيفة بور ومن ذلك قول أبي قيس بن الاسلت أيضا: فقوموا فصلوا ربكم وتمسحوا * بأركان هذا البيت بين الاخاشب (8)
__________
(1) في ابن هشام حذفت بل، ونبه السهيلي على أن بل زيادة زادها بعضهم ممن ظن خطأ أن البيت مكسور.
(2) في الازرقي: وقد كلموا أنفه بالخزم.
(3) في الازرقي: يلفهم.
(4) في الازرقي: يحث على الطير أجنادهم.
(5) في الازرقي: إن آيات ربنا بينات.
(6) في ابن هشام كما قطر بدل كما قد.
وكبكب: اسم جبل.
(7) ملاويث جمع ملاث وهو الشديد والشريف.
(8) الاخاشب: جبال مكة وجبال منى.
[ * ]

(2/220)


فعندكم منه بلاء مصدق * غداة أبي يكسوم هادي الكتائب كتيبته بالسهل تمشي ورجله * على القاذفات في رؤوس المناقب فلما أتاكم نصر ذي العرش ردهم * جنود المليك بين ساف وحاصب (1) قولوا سراعا هاربين ولم يؤب * إلى أهله ملحبش غير عصائب (2) ومن ذلك قول عبيد الله بن قيس الرقيات في عظمة البيت وحمايته بهلاك من أراده بسوء: كاده الاشرم الذي جاء بالفي * - ل فولى وجيشه مهزوم واستهلت عليهم الطير بالجن * - دل حتى كأنه مرجوم ذاك من يغزه من الناس ير * جع وهو فل من الجيوش ذميم قال ابن إسحاق: وغيره فلما هلك ابرهة ملك الحبشة (3) بعده ابنه يكسوم.
ثم من بعده أخوه مسروق بن ابرهة وهو آخر ملوكهم.
وهو الذي انتزع سيف بن ذي يزن الحميري الملك من يده بالجيش الذين قدم بهم من عند كسرى أنو شروان كما سيأتي بيانه.
وكانت قصة الفيل في المحرم سنة ست وثمانين وثمانمائة من تاريخ ذي القرنين وهو الثاني إسكندر بن فلبس المقدوني الذي يؤرخ له الروم.
ولما هلك أبرهة وابناه وزال ملك الحبشة عن اليمن هجر القليس الذي كان بناه أبرهة وأراد صرف حج العرب إليه لجهله وقلة عقله.
وأصبح يبابا لا أنيس به.
وكان قد بناه على صنمين وهما كعيب وامرأته وكانا من خشب طول كل منهما ستون ذراعا في السماء وكانا مصحوبين من الجان ولهذا كان لا يتعرض أحد إلى أخذ شئ من بناء القليس وأمتعته إلا أصابوه بسوء.
فلم يزل كذلك إلى أيام السفاح أول خلفاء بني العباس فذكر له أمره وما فيه من الامتعة والرخام الذي كان أبرهة نقله إليه من صرح بلقيس الذي كان باليمن فبعث إليه من خربه حجرا حجرا وأخذ جميع ما فيه من الامتعة والحواصل هكذا ذكره السهيلي والله أعلم.
خروج الملك عن الحبشة ورجوعه إلى سيف بن ذي يزن قال محمد بن إسحاق رحمه الله: فلما هلك ابرهة ملك الحبشة يكسوم بن ابرهة وبه كان يكنى فلما هلك يكسوم ملك اليمن من الحبشة أخوه مسروق بن أبرهة.
قال: فلما طال البلاء على أهل اليمن (4) خرج سيف بن ذي يزن الحميري وهو سيف بن ذي يزن بن ذي أصبح بن مالك بن
__________
(1) في الازرقي: فلما أجازوا بطن نعمان ردهم.
(2) في الازرقي: بالجيش، وفي هامشه قال: كذا في تصحيحات الطبعة الاوروبية.
(3) في ابن هشام: ملك اليمن في الحبشة وفي الطبري: ملك اليمن ابنه في الحبشة.
(4) أذل مسروق اليمن، حمير وقبائل اليمن، ووطئتهم الحبشة فنكحوا نساءهم وقتلوا رجالهم واتخذوا أبناءهم [ * ]

(2/221)


زيد بن سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن قطن بن عريب بن زهير بن أيمن بن الهميسع بن العرنجج، وهو حمير بن سبأ - وكان سيف يكنى أبا مرة - حتى قدم على قيصر ملك الروم فشكى إليه ما هو فيه، وسأله أن يخرجهم عنه ويليهم، وهو يخرج إليهم من شاء من الروم، فيكون له ملك اليمن، فلم يشكه [ ولم يجد عنده شيئا مما يريد ].
فخرج (1) حتى أتى النعمان بن المنذر وهو عامل كسرى على الحيرة وما يليها من أرض العراق، فشكا إليه أمر الحبشة فقال له النعمان إن لي على كسرى وفادة في كل عام فاقم عندي حتى يكون ذلك ففعل ثم خرج معه فأدخله على كسرى وكان كسرى يجلس في إيوان مجلسه الذي فيه تاجه وكان تاجه مثل القنقل (2) العظيم فيما يزعمون يضرب فيه الياقوت والزبرجد واللؤلؤ بالذهب والفضة معلقا بسلسلة من ذهب في رأس طاقة في مجلسه ذلك، وكانت عنقه لا تحمل تاجه إنما يستر عليه بالثياب حتى يجلس في مجلسه ذلك ثم يدخل رأسه في تاجه فإذا استوى في مجلسه كشف عنه الثياب فلا يراه أحد لم يره قبل ذلك إلا برك هيبة له.
فلما دخل عليه [ سيف ] طأطأ رأسه فقال الملك: إن هذا الاحمق يدخل علي من هذا الباب الطويل ثم يطأطئ رأسه.
فقيل ذلك لسيف
فقال إنما فعلت هذا لهمي لانه يضيق عنه كل شئ.
ثم قال: أيها الملك غلبتنا على بلادنا الاغربة.
قال كسرى أي الاغربة الحبشة أم السند قال بل الحبشة فجئتك لتنصرني ويكون ملك بلادي لك فقال له كسرى بعدت بلادك مع قلة خيرها فلم أكن لاورط جيشا من فارس بأرض العرب لا حاجة لي بذلك، ثم أجازه بعشرة آلاف درهم واف (3) وكساه كسوة حسنة فلما قبض ذلك منه سيف خرج فجعل ينثر تلك الورق للناس، فبلغ ذلك الملك فقال إن لهذا لشأنا ثم بعث إليه فقال عمدت إلى حباء الملك تنثره للناس قال وما أصنع بحباك، ما جبال أرضي التي جئت منها إلا ذهب وفضة، يرغبه فيها [ مما رأى من زهادته فيها إنما
__________
= تراجمة بينهم وبين العرب (انظر الطبري - ابن الاثير) وقال المسعودي: عم آذان سائر الناس وزاد على أبيه وأخيه..(1) في مروج الذهب ج 2 / 86: أقام سيف على باب قيصر سبع سنين فأبى نجدته وقال له: أنتم يهود والحبشة نصارى وليس في الديانة أن ننصر المخالف.
فمضى إلى كسرى فاستنجده فوعده أنو شروان بالنصرة، وشغل بحرب الروم.
ومات سيف فأتى بعده ابنه معديكرب بن سيف.
الاخبار الطوال 63 ذهب إليه في انطاكية.
وفي ابن الاثير ان ذي يزن الذي طلب المساعدة الاولى من كسرى.
(2) القنقل: مكيال، يسع ثلاثة وثلاثين منا (والمن: وزان رطلين تقريبا).
(3) واف: وفى الدرهم المثقال، وذلك إذا عدله.
[ *

(2/222)


جئت الملك ليمنعني من الظلم ويدفع عني الذل ] (1) فجمع كسرى مرازبته فقال لهم: ما ترون في أمر هذا الرجل وما جاء له.
فقال قائل: أيها الملك إن في سجونك رجالا قد حبستهم للقتل فلو أنك بعثتهم معه فإن يهلكوا كان ذلك الذي أردت بهم وإن ظفروا كان ملكا أزددته، فبعث معه كسرى من كان في سجونه وكانوا ثمانمائة رجل واستعمل عليهم وهرز وكان ذا سن فيهم وأفضلهم حسبا وبيتا فخرجوا في ثمان سفائن فغرقت سفينتان ووصل إلى ساحل عدن (2) ست سفائن (3)
فجمع سيف إلى وهرز من استطاع من قومه وقال له رجلي ورجلك حتى نموت جميعا أو نظفر جميعا فقال له وهرز: أنصفت وخرج إليه مسروق بن أبرهة ملك اليمن وجمع إليه جنده (4) فأرسل إليهم وهرز ابنا له (5) ليقاتلهم فيختبر قتالهم، فقتل ابن وهرز فزاده ذلك حنقا عليهم فلما تواقف الناس على مصافهم.
قال وهرز: أروني ملكهم فقالوا له أترى رجلا على الفيل عاقدا تاجه على رأسه بين عينيه ياقوتة حمراء.
قال: نعم.
قالوا ذلك ملكهم فقال اتركوه قال فوقفوا طويلا ثم قال علام هو ؟ قالوا قد تحول على الفرس.
قال اتركوه فتركوه طويلا ثم قال علام هو ؟ قالوا على البغلة قال وهرز: بنت الحمار ذل وذل ملكه، إني سأرميه فإن رأيتم أصحابه لم يتحركوا فأثبتوا حتى أوذنكم فإني قد أخطأت الرجل وإن رأيتم القوم قد استداروا به ولاثوا فقد أصبت الرجل فاحملوا عليهم.
ثم وتر قوسه وكانت فيما يزعمون لا يوترها غيره من شدتها وأمر بحاجبيه فعصبا له ثم رماه فصك الياقوتة التي بين عينيه وتغلغلت النشابة في رأسه حتى خرجت من قفاه، ونكس عن دابته واستدارت الحبشة ولاثت به، وحملت عليهم الفرس فانهزموا فقتلوا وهربوا في كل وجه، وأقبل وهرز ليدخل صنعاء حتى إذا أتى بابها قال لا تدخل رايتي منكسة أبدا اهدموا هذا الباب فهدم، ثم دخلها ناصبا رايته فقال سيف بن ذي يزن الحميري: يظن الناس بالملكي * ن أنهما قد التأما ومن يسمع بلامهما * فإن الخطب قد فقما قتلنا القيل مسروقا * وروينا الكثيب دما وإن القيل قيل النا * س وهرز مقسم قسما يذوق مشعشعا حتى * نفئ السبي والنعما
__________
(1) ما بين معكوفين في الحديث زيادة من الطبري اقتضاها اكتمال المعنى.
(2) في مروج الذهب: أتوا ساحل حضرموت في مكان يقال له: مثوب، فأمرهم وهرز أن يحرقوا السفن ليعلموا أنه الموت.
(3) في الطبري: فيهن ستمائة رجل.
(4) في الطبري: مائة ألف من الحبشة وحمير والاعراب.
وكهلان ومن سائر من سكن اليمن من الناس.
مروج الذهب 2 / 87.
(5) في الطبري: يقال له: نوزاد.
[ * ]

(2/223)


ووفدت العرب من الحجاز وغيرها على سيف يهنئونه بعود الملك إليه وامتدحوه.
فكان من جملة من وفد قريش وفيهم عبد المطلب بن هاشم، فبشره سيف برسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بما يعلم من أمره وسيأتي ذلك مفصلا في باب البشارات به عليه الصلاة والسلام.
قال ابن إسحاق: وقال أبو الصلبت بن أبي ربيعة الثقفي قال ابن هشام ويروى لامية بن أبي الصلت (1): ليطلب الوتر أمثال ابن ذي يزن * ريم في البحر للاعداء أحوالا (2) يمم قيصرا لما حان رحلته * فلم يجد عنده بعض الذي سالا (3) ثم انثنى نحو كسرى بعد عاشرة * من السنين يهين النفس والمالا (4) حتى أتى ببني الاحرار يحملهم * إنك عمري لقد أسرعت قلقالا (5) لله درهم من عصبة خرجوا * ما إن أرى لهم في الناس أمثالا (6) غلبا مرازبة بيضا أساورة * أسدا تربب في الغيضات أشبالا (7) يرمون عن سدف كأنها غبط * بزمخر يعجل المرمي إعجالا (8) أرسلت أسدا على سود الكلاب فقد * أضحى شريدهم في الارض فلالا فاشرب هنيئا عليك التاج مرتفقا * في رأس غمدان دارا منك محلالا (9) واشرب هنيئا فقد شالت نعامتهم * وأسبل اليوم في برديك إسبالا (10) تلك المكارم لا قعبان من لبن * شيبا بماء فعادا بعد أبوالا يقال - إن غمدان - قصر باليمن بناه يعرب بن قحطان وملكه بعده واحتله واثلة بن حمير بن سبأ ويقال كان ارتفاعه عشرين طبقة فالله أعلم.
__________
(1) في المسعودي 2 / 90: لابي زمعة جد أمية بن أبي الصلت (2) في المسعودي: في لجة البحر أحوالا وأحوالا.
(3) في الطبري: أتى هرقل وقد شالت نعامتهم..قالا.
(4) في الطبري: ثم انتحى نحو كسرى بعد سابعة.
وفي الشعر والشعراء بعد تاسعة.
(5) في الطبري: انك لعمري لقد أطولت.
والاحرار يعني: الفرس.
وفي المسعودي: تخالهم في سواد الليل أجبالا.
(6) في الطبري: ما إن ترى.
وفي المسعودي: ما إن رأيت.
(7) في الطبري: غر جحاجحة بيض مرازبة.
وفي ابن هشام: بيضا مرازبة غلبا أساورة والغلب: الشداد.
والاساورة: رماة الفرس.
(8) في الطبري وابن هشام: شدف بدل سدف.
وشدف عظام الاشخاص وهنا يعني القسي.
(9) غمدان: قصر بناه يشرح بن يحصب وقيل بناه سليمان عليه السلام وقد هدم في عهد عثمان رضي الله عنه.
(10) شالت نعامتهم: اشارة إلى هلاكهم.
فالهالك ترتفع رجلاه وينتكس رأسه فتظهر نعامة قدميه وترتفع.
[ * ]

(2/224)


قال ابن إسحاق: وقال عدي بن زيد الحميري وكان أحد بني تميم: ما بعد صنعاء كان يعمرها * ولاة ملك جزل مواهبها رفعها من بني لذي قزع ال * مزن وتندى مسكا محاربها محفوفة بالجبال دون عرى ال * كائد ما يرتقى غواربها يأنس فيها صوت النهام إذا * جاوبها بالعشي قاصبها (1) ساقت إليها الاسباب جند بني ال * أحرار فرسانها مواكبها وفوزت بالبغال توسق بالح * تف وتسعى بها توالبها (2) حتى يراها الاقوال من طرف الم * نقل مخضرة كتائبها يوم ينادون آل بربر واليك * سوم لا يفلحن هاربها
فكان يوما باقي الحديث وزا * لت إمة ثابت مراتبها (3) وبدل الهيج بالزرافة والا * يام خون جم عجائبها (4) بعد بني تبع نخاورة * قد اطمأنت بها مرازبها قال ابن هشام: وهذا الذي عني سطيح بقوله يليه إرم ذي يزن يخرج عليهم من عدن، فلا يترك منهم أحدا باليمن.
والذي عنى شق بقوله: غلام ليس بدني ولا مدن يخرج من بيت ذي يزن.
قال ابن إسحاق: وأقام وهرز والفرس باليمن فمن بقية ذلك الجيش من الفرس الابناء (5) الذين باليمن اليوم.
وكان ملك الحبشة باليمن فيما بين أن دخلها أرياط إلى أن قتلت الفرس مسروق بن أبرهة وأخرجت الحبشة اثنتين وسبعين سنة توارث ذلك منهم أربعة: أرياط ثم أبرهة ثم يكسوم بن أبرهة ثم مسروق بن أبرهة.
ما ال إليه أمر الفرس باليمن قال ابن هشام: ثم مات وهرز فأمر كسرى ابنه المرزبان بن وهرز على اليمن ثم مات
__________
(1) النهام: ذكر البوم القاصب: صاحب الزمارة.
(2) توالبها: جمع تولب وهو ولد الحمار.
(3) في بعض النسخ أمة وهو خطأ والصواب إمة: وهي النعمة.
(4) في ابن هشام وسيرة ابن كثير: الفيج بدل الهيج: وهو المنفرد في مشيته.
والزرافة: الجماعة.
(5) في النهاية لابن الاثير: ويقال لاولاد فارس الابناء، وهم الذين أرسلهم كسرى مع سيف بن ذي يزن، فقيل لاولادهم الابناء وغلب عليهم هذا الاسم لان امهاتهم من غير جنس آبائهم.
[ * ]

(2/225)


المرزبان فأمر كسرى ابنه التينجان ثم مات فأمر ابن التينجان (1)، ثم عزله عن اليمن وأمر عليها باذان وفي زمنه بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن هشام فبلغني عن الزهري أنه قال: كتب كسرى إلى باذان: أنه بلغني أن رجلا من قريش خرج بمكة يزعم أنه نبي فسر إليه فاستتبه فإن تاب وإلا فابعث إلي برأسه، فبعث باذان بكتاب كسرى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله قد وعدني أن يقتل كسرى في يوم كذا وكذا من شهر كذا، فلما أتى باذان الكتاب وقف لينتظر وقال إن كان نبيا فسيكون ما قال فقتل الله كسرى في اليوم الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن هشام: على يدي ابنه شيرويه.
قلت: وقال بعضهم بنوه تمالاوا على قتله، وكسرى هذا هو ابروبز بن هرمز بن أنوشروان بن قباز (2)، وهو الذي غلب الروم في قوله تعالى: (آلم غلبت الروم في أدنى الارض).
كما سيأتي بيانه.
قال السهيلي: وكان قتله ليلة الثلاثاء لعشر خلون من جمادى الاولى سنة تسع (3) من الهجرة.
وكان والله أعلم لما كتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى الاسلام فغضب ومزق كتابه، كتب إلى نائبه باليمن يقول له ما قال.
وفي بعض الروايات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرسول باذان: إن ربي قد قتل الليلة ربك فكان كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل تلك الليلة بعينها، قتله بنوه لظلمه بعد عدله بعدما خلعوه وولوا ابنه شيرويه فلم يعش بعد قتله أباه إلا ستة أشهر أو دونها (4).
وفي هذا يقول خالد بن حق الشيباني: وكسرى إذ تقسمه بنوه * بأسياف كما اقتسم اللحام تمخضت المنون له بيوم * ألا ولكل حاملة تمام قال الزهري: فلما بلغ ذلك باذان بعث بإسلامه وإسلام من معه من الفرس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت الرسل: إلى من نحن يارسول الله.
قال أنتم منا وإلينا أهل البيت قال:
__________
(1) في الطبري ج 2 / 121 ابن الاثير ج 1 / 451: اسمه: خر خسره بن البينجان.
وفي مروج الذهب: 2 / 83 ملك النوشجان بن وهرز بعد وهرز ثم رجل يقال له سبحان ثم خرزاد ثم ابن سبحان ثم المرزبان ثم بعد خر خسرو وكان مولده باليمن ثم بعده باذان.
وفي اخبار الدينوري: بعد وهرز وجه كسرى إلى أرض اليمن بادان فلم يزل ملكا عليها إلى أن قام الاسلام.
وقال ابن الاثير: وقد اختلفوا في ولاة اليمن للاكاسرة اختلافا كثيرا
(2) في الطبري وابن الاثير والمسعودي: قباذ، وفي قصة مقتله قال الطبري 2 / 159: وثبت فارس على كسرى فقتلته وساعدهم على ذلك ابنه شيرويه: وكان الذي قتله مهر هرمز بن مردنشاه فاذوسبان نيمروذ.
وزاد ابن الاثير: ان شيرويه أمر بقتل مهرمهز بعد دفن أبيه.
(3) في الطبقات الكبرى لابن سعد ج 1 / 260: سنة سبع.
(4) في الطبري 2 / 166 وابن الاثير 1 / 497 ثمانية أشهر، وفي المسعودي ج 1 / 291 سنة وستة أشهر.
وكان هلاكه بالطاعون.
[ * ]

(2/226)


الزهري ومن ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمان منا أهل البيت.
قلت والظاهر أن هذا كان بعدما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ولهذا بعث الامراء إلى اليمن لتعليم الناس الخير ودعوتهم إلى الله عز وجل، فبعث أولا خالد بن الوليد وعلي بن أبي طالب، ثم أتبعهما أبا موسى الاشعري ومعاذ بن جبل.
ودانت اليمن وأهلها للاسلام ومات باذان فقام بعده ولد شهر بن باذان، وهو الذي قتله الاسود العنسي حين تنبأ وأخذ زوجته كما سيأتي بيانه وأجلى عن اليمن نواب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قتل الاسود عادت اليد الاسلامية عليها.
وقال ابن هشام: وهذا هو الذي عنى به سطيح بقوله: نبي زكي يأتيه الوحي من قبل العلي.
والذي عنى شق بقوله بل ينقطع برسول مرسل، يأتي بالحق والعدل، بين أهل الدين والفضل، يكون الملك في قومه إلى يوم الفصل.
قال ابن إسحاق: وكان في حجر باليمن فيما يزعمون كتاب بالزبور كتب بالزمان الاول: لمن ملك ذمار ؟ الحمير الاخيار، لمن ملك ذمار ؟ للحبشة الاشرار.
لمن ملك ذمار ؟ لفارس الاحرار (1)، لمن ملك ذمار لقريش التجار.
وقد نظم بعض الشعراء هذا المعنى فيما ذكره المسعودي: حين شدت ذمار قيل لمن ان * ت فقالت لحمير الاخيار ثم سيلت من بعد ذاك فقال * ت أنا للحبش أخبث الاشرار ثم قالوا من بعد ذاك لمن أن * ت فقالت لفارس الاحرار
ثم قالوا من بعد ذاك لمن أن * ت فقالت إلى قريش التجار (2) ويقال إن هذا الكلام الذي ذكره محمد بن إسحاق، وجد مكتوبا عند قبر هود عليه السلام حين كشفت الريح عن قبره بأرض اليمن وذلك قبل زمن بلقيس بيسير في أيام مالك بن ذي المنار أخي عمرو ذي الاذعار بن ذي المنار ويقال كان مكتوبا على قبر هود أيضا وهو من كلامه عليه السلام حكاه السهيلي والله أعلم.
__________
(1) سمى حمير الاخيار: لانهم كانوا أهل دين.
وسمى الحبشة الاشرار: لما احدثوا في اليمن من الفتن والعبث والفساد.
وهمهم بهدم بيت الله الحرام.
فارس الاحرار: لانهم لم يؤدوا الاتاوة لسلطان أجنبي ولم تخضع بلادهم لسيطرة ولم يدينوا لملك غريب عنهم.
(2) في مروج الذهب 2 / 94: كانت ملوك اليمن تنزل بمدينة ظفار، وكان على باب ظفار مكتوب بالقلم الاول في حجر أسود: يوم شيدت ظفار قيل: لمن أن ت الاخيار إن ملكي للاحبش الاشرار ثم سلبت من بعد ذلك ؟ فقالت * إن ملكي: لفارس الاحرار ثم سيلت: ما بعد ذلك فقالت * إن ملكي إلى قريش التجار [ * ]

(2/227)


قصة الساطرون صاحب الحضر وقد ذكر قصته هاهنا عبد الملك بن هشام لاجل ما قاله بعض علماء النسب: إن النعمان بن المنذر الذي تقدم ذكره في ورود سيف بن ذي يزن عليه وسؤاله في مساعدته في رد ملك اليمن إليه إنه من سلالة الساطرون صاحب الحضر وقد قدمنا عن ابن إسحاق أن النعمان بن المنذر من ذرية ربيعة بن نصر (1) وأنه روي عن جبير بن مطعم أنه من أشلاء فيصر (2) بن معد بن عدنان فهذه ثلاثة أقوال في نسبه فاستطرد ابن هشام في ذكر صاحب الحضر.
والحضر حصن عظيم بناه هذا الملك وهو الساطرون على حافة الفرات وهو منيف مرتفع البناء، واسع الرحبة والفناء، دوره بقدر مدينة
عظيمة وهو في غاية الاحكام والبهاء والحسن والسناء، وإليه يجبى ما حوله من الاقطار والارجاء.
واسم الساطرون الضيزن بن معاوية بن عبيد بن أجرم من بني سليح بن حلوان بن الحاف بن قضاعة كذا نسبه ابن الكلبي.
وقال غيره: كان من الجرامقة وكان أحد ملوك الطوائف وكان يقدمهم إذا اجتمعوا لحرب عدو من غيرهم وكان حصنه بين دجلة والفرات (3).
قال ابن هشام: وكان كسرى سابور ذو الاكتاف غزا الساطرون ملك الحضر وقال غير (4) ابن هشام: إنما الذي غزا صاحب الحضر سابور بن أردشير بن بابك أول ملوك بني ساسان أذل ملوك الطوائف ورد الملك إلى الاكاسرة.
وأما سابور ذو الاكتاف بن هرمز فبعد ذلك بدهر طويل والله أعلم ذكره السهيلي.
قال ابن هشام: فحضره سنتين - وقال غيره أربع سنين (5)، وذلك لانه كان أغار على بلاد سابور في غيبته بأرض العراق - فأشرفت بنت الساطرون (6) وكان اسمها النضيرة فنظرت إلى سابور وعليه ثياب ديباج وعلى رأسه تاج من ذهب مكلل بالزبرجد والياقوت واللؤلؤ وكان جميلا، فدست إليه: أتتزوجني إن فتحت لك باب الحضر ؟ فقال: نعم ! فلما أمسى ساطرون شرب حتى سكر،
__________
(1) قال الطبري في تاريخه 2 / 28: وهذا قول مضر وحماد الراوية وهو باطل.
(2) كذا في الاصل قيصر، والصواب في الطبري قنص.
وجاء في 2 / 28 عنده: ولم يأت في قنص بن معد شئ أثبت من قول جبير بن مطعم: أن النعمان كان من ولده.
(3) في الطبري 2 / 61 ابن الاثير 1 / 387 بجبال تكريث بين دجلة والفرات مدينة يقال لها الحضر وكان بها رجل من الجرامقة يقال له الساطرون.
وزعم الكلبي أنه من العرب من قضاعة وأنه الضيزن بن معاوية بن عبيد بن الاجرام بن عمرو بن النخع بن سيح بن حلفان بن عمران بن الحاف بن قضاعة وامه من تزيد بن حلوان واسمها جيهلة.
(4) الطبري ج 2 / 61 ابن الاثير 1 / 387 المسعودي مروج الذهب 2 / 271.
(5) في خبر الطبري وابن الاثير أربع سنين: وفي المسعودي: أقام عليه سابور شهرا.
(6) في هشام: ساطرون، وفي المسعودي: والساطرون واسيطرون هذه ألقاب.
[ * ]

(2/228)


وكان لا يبيت إلا سكران فأخذت مفاتيح باب الحضر من تحت رأسه، وبعثت بها مع مولى لها.
ففتح الباب - ويقال بل دلتهم على نهر يدخل منه الماء متسع فولجوا منه إلى الحضر، ويقال بل دلتهم على طلسم كان في الحضر وكان في علمهم أنه لا يفتح حتى تؤخذ حمامة ورقاء وتخضب رجلاها (1) بحيض جارية بكر زرقاء ثم ترسل فإذا وقعت على سور الحضر سقط ذلك الطلسم فيفتح الباب ففعل ذلك فانفتح الباب، فدخل سابو فقتل ساطرون واستباح الحضر وخربه وسار بها معه فتزوجها.
فبينا هي نائمة على فراشها ليلا إذ جعلت تململ لا تنام فدعا لها بالشمع ففتش فراشها فوجد عليه ورقة آس (2).
فقال لها سابور أهذا الذي أسهرك ! قالت: نعم ؟ قال فما كان أبوك يصنع بك ؟ قالت: كان يفرش لي الديباج ويلبسني الحرير ويطعمني المخ ويسقيني الخمر (3).
قال: أفكان جزاء أبيك ما صنعت به.
أنت إلي بذلك أسرع، فربطت قرون (4) رأسها بذنب فرس ثم ركض الفرس حتى قتلها ففيه يقول أعشى بن قيس بن ثعلبة: ألم تر للحضر إذ أهله * بن عمي وهل خالد من نعم أقام به شاهبور الجنو * د حولين تضرب فيه القدم فلما دعا ربه دعوة * أناب إليه فلم ينتقم (5) فهل زاده ربه قوة * ومثل مجاوره لم يقم وكان دعا قومه دعوة * هلموا إلى أمركم قد صرم فموتوا كراما بأسيافكم * أرى الموت يجشمه من جشم وقال عدي بن زيد في ذلك: والحضر صابت عليه داهية * من فوقه أيد مناكبها (6) ربية لم توق والدها * لحينها إذ أضاع راقبها (7) إذ غبقته صهباء صافية * والخمر وهل يهيم شاربها فأسلمت أهلها بليلتها * تظن أن الرئيس خاطبها (8)
__________
(1) في الطبري وابن الاثير والمسعودي: فاكتب في رجلها.
(2) في الطبري وابن الاثير والمسعودي: ورقة من ورق الآس (الريحان) ملتزقة بعكنة من عكنها قد آثرت فيها.
(3) في الطبري وابن الاثير والمسعودي: الزبد والمخ وشهد الابكار من النحل وصفو الخمر: (4) ثم عصب غدائرها (الطبري - ابن الاثير - المسعودي).
(5) كذا في ابن هشام والذي في الطبري: فلما رأى ربه فعله * أتاه طروقا فلم ينتقم (6) كذا في ابن هشام: وفي المسعودي: صبت بدل صابت.
وعجزه: من قصره قد أبد ساكنها.
(7) كذا في ابن هشام وفي المسعودي: ربيبة بدل ربية.
(8) كذا في ابن هشام والذي في المسعودي: واسلمت أهلا لليلتها.
[ * ]

(2/229)


فكان حظ العروس إذ جشر ال * صبح دماء تجري سبائبها (1) وخرب الحضر واستبيح وقد * أحرق في خدرها مشاجبها وقال عدي بن زيد أيضا: أيها الشامت المعير بالده * ر أأت المبرأ الموفور أم لديك العهد الوثيق من الا * يام بل أنت جاهل مغرور من رأيت المنون خلدن أم * من ذا عليه من أن يضام خفير أين كسرى كسرى الملوك أنو * شروان أم أين قبله سابور وبنو الاصفر الكرام ملوك ال ب روم لم يبق منهم مذكور وأخو الحضر إذ بناه وإذ دجل * ة تجبى إليه والخابور شاده مرمرا وجلله كل * سا فللطير في ذراه وكور لم يهبه ريب المنون فبا * ن الملك عنه فبابه مهجور (2) وتذكر رب الخورنق إذ * أشرف يوما وللهدى تفكير سره ماله وكثرة ما يم * لك والبحر معرضا والسدير (3)
فارعوى قلبه وقال وما غب * طة حي إلى الممات يصير ثم اضحوا كأنهم ورق ج * ف فألوت به الصبا والدبور قلت: ورب الخورنق الذي ذكره في شعره رجل من الملوك المتقدمين وعظه بعض علماء زمانه في أمره الذي كان قد أسرف فيه وعتا وتمرد فيه واتبع نفسه هواها ولم يراقب فيها مولاها فوعظه بمن سلف قبله من الملوك والدول وكيف بادوا ولم يبق منهم أحد وأنه ما صار إليه عن غيره إلا وهو منتقل عنه إلى من بعده.
فأخذته موعظته وبلغت منه كل مبلغ فارعوى لنفسه، وفكر في يومه وأمسه، وخاف من ضيق رمسه.
فتاب وأناب ونزع عما كان فيه وترك الملك ولبس زي الفقراء وساح في الفلوات وحظي بالخلوات وخرج عما كان الناس فيه من اتباع الشهوات وعصيان رب السموات وقد ذكر قصته مبسوطة الشيخ الامام موفق بن قدامة المقدسي رحمه الله في كتاب التوابين وكذلك أوردها بإسناد متين الحافظ أبو القاسم السهيلي في كتاب الروض الانف المرتب أحسن ترتيب وأوضح تبيين.
خبر ملوك الطوائف وأما صاحب الحضر وهو ساطرون فقد تقدم أنه كان مقدما على سائر ملوك الطوائف وكان
__________
(1) جشر: طلع وأضاء.
سبائبها: طرائقها.
(2) في الطبري: فباد بدل فبان.
[ * ]

(2/230)


من زمن اسكندر بن فلبيس المقدوني اليوناني وذلك لانه لما غلب على ملك الفرس دارا بن دارا وأذل مملكته وخرب بلاده واستباح بيضة قومه ونهب حواصله ومزق شمل الفرس شذر مذر عزم أن لا يجتمع لهم بعد ذلك شمل ولا يلتئم لهم أمر فجعل يقر كل ملك على طائفة من الناس في أقليم من أقاليم الارض ما بين عربها وأعاجمها فاستمر كل ملك منهم يحمي حوزته ويحفظ حصته ويستغل محلته فإذا هلك قام ولده من بعده أو أحد قومه فاستمر الامر كذلك قريبا من خمسمائة سنة حتى كان ازدشير بن بابك من بني ساسان بن بهمن بن أسفنديار بن يشتاسب بن لهراسب فأعاد ملكهم إلى ما
كان عليه ورجعت الممالك برمتها إليه وأزال ممالك مملوك الطوائف ولم يبق منهم تلد ولا طارف وكان تأخر عليه حصار صاحب الحضر الذي كان أكبرهم وأشدهم وأعظمهم إذ كان رئيسهم ومقدمهم فلما مات أزدشير تصدى له ولده سابور فحاصره حتى أخذه كما تقدم والله سبحانه وتعالى أعلم.
ذكر بني اسماعيل وما كان من أمور الجاهلية إلى زمان البعثة تقدم ذكر اسماعيل نفسه عليه السلام مع ذكر الانبياء وكيف كان من أمره حين احتمله أبوه إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام مع أمه هاجر فاسكنها بوادي مكة بين جبال فاران (1) حيث لا أنيس به ولا حسيس وكان إسماعيل رضيعا ثم ذهب وتركهما هنالك عن أمر الله له بذلك ليس عند أمه سوى جراب (2) فيه تمر ووكاء فيه ماء فلما نفد ذلك أنبع الله لهاجر زمزم التي هي طعام طعم وشفاء سقم كما تقدم بيانه في حديث ابن عباس الطويل الذي رواه البخاري (3) رحمه الله.
ثم نزلت جرهم وهم طائفة من العرب العاربة من أمم العرب الاقدمين عند هاجر بمكة على أن ليس لهم في الماء شئ إلا ما يشربون منه وينتفعون به فاستأنست هاجر بهم وجعل الخليل عليه السلام يطالع أمرهم في كل حين يقال إنه كان يركب البراق من بلاد بيت المقدس في ذهابه وإيابه ثم لما ترعرع الغلام وشب وبلغ مع أبيه السعي كانت قصة الذبح كما تقدم بيان أن الذبيح هو إسماعيل على الصحيح ثم لما كبر تزوج من جرهم امرأة (4) ثم فارقها وتزوج غيرها وتزوج بالسيدة (5) بنت
__________
(1) فاران: كلمة عبرانية معربة، وهي من اسماء مكة ذكرها في التوراة، وقيل هي اسم لجبال مكة.
ياقوت 4 / 324.
(2) في الازرقي: شنة فيها ماء تشرب منها وتدر على ابنها وليس معها زاد - 1 / 55.
(3) صحيح البخاري كتاب بدء الخلق - باب يزفون النسلان في المشي ج 2 / 113.
(4) في الازرقي: عمارة بنت سعيد بن أسامة.
والذي في الروض الآنف: جداء بنت سعد وهي المرأة التي أمره أبوه بتطليقها ثم تزوج أخرى: سامة بنت مهلهل، وقيل عاتكة.
امرأة من العماليق بنت صبدى الطبقات 1 / 51 المسعودي: الجداء بنت سعد 2 / 51.
(5) كذا في الروض الآنف وفي الطبري - وفي ابن هشام رعلة 1 / 5 وفي الازرقي 1 / 86.
وقال الكلبي رعلة بنت يشجب بن يعرب بن لوزان بن جرهم الطبقات 1 / 51.
المسعودي: سامة بنت مهلهل بن سعد بن عوف بن هيني بنت نبت 2 / 52.
[ * ]

(2/231)


مضاض بن عمرو الجرهمي وجاءته بالبنين الاثنى عشر كما تقدم ذكرهم وهم: نابت وقيذر.
ومنشا.
ومسمع.
وماشي.
ودما.
وأذر.
ويطور.
ونيشى.
وطيما.
وقيذما هكذا ذكره محمد بن إسحاق (1) وغيره عن كتب أهل الكتاب وله ابنة واحدة اسمها نسمة (2) وهي التي زوجها من ابن أخيه العيصو بن إسحاق بن إبراهيم فولد له منها الروم وفارس والاشبان أيضا في أحد القولين.
ثم جميع عرب الحجاز على اختلاف قبائلهم يرجعون في أنسابهم إلى ولديه نابت وقيذر (3)، وكان الرئيس بعده والقائم بالامور الحاكم في مكة والناظر في أمر البيت وزمزم نابت بن إسماعيل وهو ابن أخت الجرهميين.
ثم تغلبت جرهم على البيت طمعا في بني أختهم فحكموا بمكة وما والاها عوضا عن بني إسماعيل مدة طويلة فكان أول من صار إليه أمر البيت بعد نابت مضاض بن عمرو بن سعد بن الرقيب بن عيبر (5) بن نبت بن جرهم.
وجرهم بن قحطان ويقال جرهم بن يقطن بن عيبر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح
__________
(1) قال الطبري 1 / 161 وقد ينطق اسماء أولاد اسماعيل بغير الالفاظ التي ذكرت عن ابن إسحاق: نابت متفق عليه.
قيدر - قيذر - قيدار.
أذبل - أدبيل - أدبال - أدب ايل.
مبشا - منشا - مشا - مبشام - منشى.
مسمع - مشماعة.
ماشى - ماسى.
دما - دمار - دوما.
ادر - اذر - آزر - أذور.
قيذما - قيدمان - قيدما - نيش - نفيس - يافيش - فنس.
طيما - طما - ظيما.
يطور - تطور - طور - قمطور.
مسعودي 2 / 52.
نابت فيدار - ادبيل - مبسم - مشمع - دوما - دوام - مسا - حداد - ثيما - يطور - نافش.
(2) في الطبري ج 1 / 162: بسمة تزوجها عيص بن إبراهيم فولدت له الروم بن عيص فكل بني الاصغر من ولده وبعض الناس يزعم أن الاشبان من ولده ولا أدري أمن بنت اسماعيل أم لا.
(3) في الطبري والازرقي: فمن نابت وقيدار نشر الله العرب وزاد الازرقي وكان أكبرهم قيدار ونابت (4) في السهيلي والمسعودي: ابن هيني.
وفي رواية للمسعودي ان ملك جرهم يومئذ الحارث بن مضاض وهو أولى من ولي البيت.
2 / 54 - 55.
[ * ]

(2/232)


الجرهمي، وكان نازلا بأعلى مكة بقعيقعان (1).
وكان السميدع سيد قطوراء نازلا بقومه في أسفل مكة (2) وكل منهما يعشر من مر به مجتازا إلى مكة.
ثم وقع بين جرهم وقطوراء فاقتتلوا [ قتالا شديدا ] فقتل السميدع واستوثق الامر لمضاض وهو الحاكم بمكة والبيت لا ينازعه في ذلك ولد إسماعيل مع كثرتهم وشرفهم وانتثارهم بمكة وبغيرها وذل لخؤولتهم له ولعظمة البيت الحرام [ أن يكون به بغي أو قتال ] (3).
ثم صار الملك بعده إلى ابنه الحارث ثم إلى عمرو بن الحارث.
ثم بغب جرهم بمكة واكثرت فيها الفساد وألحدوا بالمسجد الحرام (4) حتى ذكر أن رجلا منهم يقال له اساف بن بغى وامرأة يقال لها نائلة بنت وائل (5) اجتمعا في الكعبة فكان منه إليها الفاحشة
فمسخهما الله حجرين فنصبهما الناس قريبا من البيت ليعتبروا بهما فلما طال المطال بعد ذلك بمدد عبدا من دون الله في زمن خزاعة كما سيأتي بيانه في موضعه.
فكانا صنمين منصوبين يقال لهما إساف ونائلة.
فلما اكثرت جرهم البغي بالبلد الحرام تمالات عليهم خزاعة الذين كانوا نزلوا حول الحرم
__________
(1) في الازرقي: وكان في أعلى مكة وكان يعشر من دخلها من أعلاها وكان حوزهم وجه الكعبة والركن الاسود والمقام وموضع زمزم مصعدا يمينا وشمالا وقعيقعان إلى أعلى الوادي.
(2) أسفل مكة واجيادين وكان حوزهم المسفلة ظهر الكعبة والركن اليماني والغربي واجيادين والثنية إلى الرمضة وازرقي 1 / 82.
وفي المسعودي السميدع بن هوير بن لاوى بن قبطور بن وجرهم وقطورا يومئذ أهل مكة 1 / 81 - 85.
كركر بن حيد 2 / 54.
(3) مابين معكوفين زيادة من الازرقي.
وفي المسعودي أن القتال كان على الجرهميين ثم اصطلحوا وصارت ولاية البيت إلى العماليق.
ثم كانت لجرهم عليهم وأقاموا ولاة للبيت نحو ثلاثمائة سنة.
وكان أول ملوكهم مضاض بن عمرو.
ثم عمرو بن مضاض ثم الحارث بن عمرو ثم عمرو بن الحارث ثم مضاض بن الحارث بن عمرو بن مضاض بن عمرو.
(4) قال في الازرقي 86: فقام مضاض بن عمرو بن الحارث فيهم فقال: يا قوم احذروا البغي فإنه لا بقاء لاهله قد رأيتم من كان قبلكم من العماليق استخفوا بالحرم فلم يعظموه وتنازعوا بينهم واختلفوا..فلا تستخفوا بحق الحرم وحرمة بيت الله ولا تظلموا من دخله وجاءه معظما لحرمته أو آخر جاءه بائعا لسلعته أو مرتغبا في جواركم.
(5) في الازرقي: أساف بن سهيل اساف بن يعلى - بن عمرو ونايلة بنت عمرو بن ذيب وقيل نائلة بنت زيد من جرهم نائلة بنت سهل - بنت زفيل.
وفي ابن هشام: اساف بن بغى ونائلة بنت ديك 1 / 84 وقيل غير ذلك (ابن الكلبي - معجم البلدان - شرح القاموس).
[ * ]

(2/233)


وكانوا من ذرية عمرو بن عامر الذي خرج من اليمن لاجل ما توقع من سيل العرم كما تقدم.
وقيل إن خزاعة من بني إسماعيل فالله أعلم.
والمقصود أنهم اجتمعوا لحربهم وآذنوهم بالحرب واقتتلوا واعتزل بنو إسماعيل كلا الفريقين فغلبت خزاعة وهم بنو بكر بن عبد مناة وغبشان (1) واجلوهم عن البيت فعمد عمرو (2) بن الحارث بن مضاض الجرهمي وهو سيدهم إلى غزالي الكعبة وهما من ذهب وحجر الركن وهو الحجر الاسود وإلى سيوف محلاة وأشياء أخر فدفنها في زمزم وعلم زمزم وارتحل بقومه فرجعوا إلى اليمن.
وفي ذلك يقول عمرو بن الحارث بن مضاض (3): وقائلة والدمع سكب مبادر * وقد شرقت بالدمع منها المحاجر كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا * أنيس ولم يسمر بمكة سامر (4) فقلت لها والقلب مني كأنما * يلجلجه بين الجناحين طائر بلى نحن كنا أهلها فأزالنا (5) * صروف الليالي والجدود العواثر وكنا ولاة البيت من بعد نابت * نطوف بذاك البيت والخير ظاهر ونحن ولينا البيت من بعد نابت * بعز فما يحظى لدينا المكاثر ملكنا فعززنا فأعظم بملكنا * فليس لحي غيرنا ثم فاخر ألم تنكحوا من خير شخص علمته (6) * فابناؤه منا ونحن الاصاهر فإن تنثني الدنيا علينا بحالها * فإن لها حالا وفيها التشاجر فأخرجنا منها المليك بقدرة * كذلك يا للناس تجري المقادر (7)
__________
(1) بنو غبشان، منهم الحارث وهو غبشان بن عبد عمرو بن بوي بن ملكان بن أفصى بطن من خزاعة.
(2) في الازرقي: مضاض بن عمرو ; وكان مضاض حسب رواية الازرقي قد انعزل عن جرهم بعد بغيهم ولم يشترك في القتال بينهم وبين خزاعة.
وبعد نصر خزاعة جاءهم بنو اسماعيل فسألوهم السكنى معهم وحولهم فأذنوا لهم.
وأرسل مضاض يستأذن
النزول مكة فرفضوا فانطلق مضاض نحو اليمن إلى أهله.
(3) في الازرقي مضاض بن عمرو بن الحارث بن مضاض في قصيدة طويلة 1 / 97.
وفي المسعودي الحارث بن مضاض الاصغر.
وفي ابن هشام عمرو بن الحارث بن عمرو بن مضاض.
(4) الحجون: الجبل المشرف على مسجد الحرس بأعلى مكة.
والصفا: مكان عال في أصل جبل أبي قبيس جنوبي المسجد الحرام.
(5) في ياقوت والمسعودي: فأبادنا.
(6) في الازرقي: فانكح جدي خير شخص علمته.
(7) في التيجان: بالانسان بدل يا للناس وفي الازرقي بين الناس.
[ * ]

(2/234)


أقول إذا نام الخلي ولم أنم * أذا العرش لا يبعد سهيل وعامر (1) وبدلت منها أوجها لا أحبها * قبائل منها حمير ويحابر (2) وصرنا أحاديثا وكنا بغبطة * بذلك عضتنا السنون الغوابر فسحت دموع العين تبكي لبلدة * بها حرم أمن وفيها المشاعر وتبكي لبيت ليس يؤذى حمامه * يظل به أمنا وفيه العصافر (3) وفيه وحوش لا ترام أنيسة * إذا خرجت منه فليست تغادر قال ابن إسحاق: وقال عمرو بن الحارث بن مضاض أيضا يذكر بني بكر وغبشان الذين خلفوا بعدهم بمكة: يا أيها الناس سيروا إن قصاركم (4) * أن تصبحوا ذات يوم لا تسيرونا حثوا المطي وأرخوا من أزمتها * قبل الممات وقضوا ما تقضونا كنا أناسا كما كنتم فغيرنا * دهر فأنتم كما صرنا تصيرونا (5) قال ابن هشام: هذا ماصح له منها وحدثني بعض أهل العلم بالشعر أن هذه الابيات أول شعر قيل في العرب وأنها وجدت مكتوبة في حجر باليمن ولم يسم قائلها.
وذكر السهيلي لهذه
الابيات أخوة وحكى عندها حكاية معجبة وانشادات معربة.
قال: وزاد أبو الوليد الازرقي في كتابه فضائل مكة على هذه الابيات المذكورة المنسوبة إلى عمرو بن الحارث بن مضاض: قد مال دهر علينا ثم أهلكنا * بالبغي فينا وبز الناس ناسونا (6) واستخبروا في صنيع الناس قبلكم * كما استبان طريق عنده الهونا كنا زمانا ملوك الناس قبلكم * بمسكن في حرام الله مسكونا قصة خزاعة وعمرو بن يحيى وعبادة العرب للاصنام قال ابن إسحاق: ثم أن غبشان من خزاعة وليت البيت دون بني بكر بن عبد مناة، وكان
__________
(1) سهيل وعامر: جبل من جبال مكة (الروض الانف - معجم البلدان).
(2) في الازرقي: منهم بدل منها وشطره: وحمير قد بدلتها واليحابر.
(3) في الازرقي والاعلام والروض اختلاف يسير في رواية البيت.
(4) في ابن هشام والازرقي قصركم: أي غايتكم ونهايتكم.
وفي الازرقي: يا أيها الحي.
(5) في ابن هشام عجزه: دهر فأنتم كما كنا تكونونا.
وفي الازرقي: إنا كما كنتموا كنا فغيرنا * دهر فسوف كما صرنا تصيرونا (6) في الازرقي: فيه بدل فينا.
وبر بدل وبز.
[ * ]

(2/235)


الذي يليه منهم عمرو بن الحارث الغبشاني، وقريش إذ ذاك حلول وصرم (1)، وبيوتات متفرقون في قومهم من بني كنانة.
قالوا (2): وإنما سميت خزاعة خزاعة لانهم تخزعوا من ولد عمرو بن عامر حين أقبلوا من اليمن يريدون الشام فنزلوا بمر الظهران فأقاموا به.
قال عون بن أيوب الانصاري ثم الخزرجي في ذلك (3): فلما هبطنا بطن مر تخزعت * خزاعة منا في حلول كراكر (4) حمت كل واد من تهامة واحتمت * بصم القنا والمرهفات البواتر
وقال أبو المطهر اسماعيل بن رافع الانصاري الاوسي: فلما هبطنا بطن مكة أحمدت * خزاعة دار الآكل المتحامل فحلت أكاريسا وشتت قنابلا * على كل حي بين نجد وساحل (5) نفوا جرهما عن بطن مكة واحتبوا * بعز خزاعي شديد الكواهل فوليت خزاعة البيت يتوارثون ذلك كابرا عن كابر حتى كان آخرهم حليل (6) بن حبشية بن سلول بن كعب بن عمرو بن ربيعة الخزاعي الذي تزوج قصي بن كلاب ابنته حبى فولدت له بنيه الاربعة عبد الدار وعبد مناف، وعبد العزى وعبدا، ثم صار أمر البيت إليه كما سيأتي بيانه وتفصيله في موضعه إن شاء الله تعالى وبه الثقة.
واستمرت خزاعة على ولاية البيت نحوا من ثلاثمائة (7) سنة وقيل خمسمائة سنة والله أعلم.
وكانوا سوس (8) في ولايتهم وذلك لان في زمانهم كان أول عبادة الاوثان بالحجاز وذلك بسبب رئيسهم عمرو بن لحي (9) لعنه الله فإنه أول من دعاهم إلى ذلك وكان ذا مال جزيل جدا.
يقال: إنه قفأ أعين عشرين بعيرا وذلك عبارة عن أنه ملك عشرين ألف بعير وكان من عادة العرب أن من الملك ألف بعير فقأ عين واحد منها لانه يدفع بذلك العين عنها.
__________
(1) صرم: جماعات متفرقة.
(2) قالوا: عن ابن هشام وغيره.
(3) كذا في ابن هشام وياقوت، وفي الازرقي حسان بن ثابت الانصاري، ونسب صاحب التيجان الابيات إلى عمرو بن أنيف الغساني.
(4) كذا في الاصل والازرقي والروض الآنف.
وفي ابن هشام: خيول.
والحلول: البيوت الكبيرة.
وكراكر: جمات الخيل.
(5) الاكاريس: الجماعات من الناس.
والقنابل: جمع قنبلة: وهي القطعة من الخيل.
(6) في المسعودي: خليل.
(7) كذا في المسعودي، وفي الازرقي خمسمائة سنة.
(8) كذا في الاصل: ولعلها: وكانوا مشؤومين في ولايتهم.
(9) أبوه لحي وهو ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر وأمه فهيرة بنت عامر بن عمرو بن مضاض بن عمرو الجرهمي.
كما في الازرقي.
[ * ]

(2/236)


وممن ذكر ذلك الازرقي وذكر السهيلي: أنه ربما ذبح أيام الحجيج عشرة آلاف بدنة وكسى عشرة آلاف حلة في كل سنة يطعم العرب ويحيس لهم الحيس بالسمن والعسل ويلت لهم السويق (1).
قالوا: وكان قوله وفعله فيهم كالشرع المتبع لشرفه فيهم ومحلته عندهم وكرمه عليهم.
قال ابن هشام: حدثني بعض أهل العلم أن عمرو بن لحي خرج من مكة إلى الشام في بعض أموره فلما قدم مآب من أرض البلقاء وبها يومئذ العماليق وهم ولد عملاق ويقال ولد عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح رآهم يعبدون الاصنام فقال لهم ما هذه الاصنام التي أراكم تعبدون ؟ قالوا له: هذه أصنام نعبدها فنستمطرها فتمطرنا ونستنصرها فتنصرنا.
فقال لهم: ألا تعطوني منها صنما فأسير به إلى أرض العرب فيعبدونه (2).
فأعطوه صنما يقال له هبل فقدم به مكة فنصبه وأمر الناس بعبادته وتعظيمه.
قال ابن إسحاق: ويزعمون أن أول ما كانت عبادة الحجارة في بني إسماعيل عليه السلام أنه كان لا يظعن من مكة ظاعن منهم، حين ضاقت عليهم، والتمسوا الفسح في البلاد.
إلا حمل معه حجرا من حجارة الحرم تعظيما للحرم، فحيث ما نزلوا وضعوه فطافوا به كطوافهم بالكعبة، حتى سلخ ذلك بهم إلى أن كانوا يعبدون ما استحسنوا من الحجارة وأعجبهم حتى خلفت الخلوف (3) ونسوا ما كانوا عليه.
وفي الصحيح عن أبي رجاء العطاردي.
قال: كنا في الجاهلية إذا لم نجد حجرا جمعنا حثية من التراب وجئنا بالشاة فحلبناها عليه ثم طفنا بها.
قال ابن إسحاق: واستبدلوا بدين ابراهيم واسماعيل عليهما السلام غيره فعبدوا الاوثان وصاروا إلى ما كانت عليه الامم قبلهم من الضلالات ; وفيهم على ذلك بقايا من عهد إبراهيم عليه السلام يتمسكون بها من تعظيم البيت والطواف به والحج والعمرة والوقوف على عرفات
والمزدلفة، وهدى البدن، والاهلال بالحج والعمرة، مع إدخالهم فيه ما ليس منه.
فكانت كنانة وقريش إذا هلوا قالوا: لبيك اللهم لبيك.
لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك.
فيوحدونه بالتلبية ثم يدخلون معه أصنامهم ويجعلون ملكها بيده.
يقول الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) (4) أي ما يوحدونني لمعرفة حقي إلا
__________
(1) وذكر الازرقي: كان أول من أطعم الحج سدايف الابل ولحمانها على الثريد وعم جميع الحاج بثلاثة أثواب من برود اليمن.
(2) في ابن هشام: فيعبدوه.
(3) خلوف: جمع خلف وهو القرن بعد القرن.
(4) سورة يوسف الآية 106.
[ * ]

(2/237)


جعلوا معي شريكا من خلقي (1).
وقد ذكر السهيلي وغيره: أن أول من لبى هذه التلبية عمرو بن لحي وأن ابليس تبدى له في صورة شيخ فجعل يلقنه ذلك فيسمع منه ويقول كما يقول واتبعه العرب في ذلك.
وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سمعهم يقولون لبيك لا شريك لك يقول: " قد قد " أي حسب حسب.
وقد قال البخاري ثنا اسحاق بن إبراهيم حدثنا يحيى بن آدم ثنا اسرائيل عن أبي حفص عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن أول من سيب السوائب وعبد الاصنام، أبو خزاعة عمرو بن عامر وإني رأيته يجر أمعاءه في النار.
تفرد به أحمد من هذا الوجه.
وهذا يقتضي أن عمرو بن لحي هو أبو خزاعة الذي تنسب إليه القبيلة بكمالها كما زعمه بعضهم من أهل النسب فيما حكاه بن إسحاق وغيره ولو تركنا مجرد هذا لكان ظاهرا في ذلك بل كالنص ولكن قد جاء ما يخالفه من بعض الوجوه.
فقال البخاري وقال أبو اليمان: أخبرنا شعيب
عن الزهري.
قال سمعت سعيد بن المسيب قال: البحيرة التي يمنع درها للطواغيت فلا يحلبها أحد من الناس - والسائبة - التي كانوا يسيبونها لآلهتهم لا يحمل عليها شئ.
قال وقال أبو هريرة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه (2) في النار.
كان أول من سيب السوائب.
وهكذا رواه البخاري أيضا ومسلم من حديث صالح بن كيسان عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة به.
ثم قال البخاري ورواه ابن الهاد عن الزهري قال الحاكم أراد البخاري رواه ابن الهاد عن عبد الوهاب بن بخت عن الزهري كذا قال.
وقد رواه أحمد عن عمرو بن سلمة الخزاعي عن الليث بن سعد عن يزيد بن الهاد عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: رأيت عمرو بن عامر يجر قصبه في
__________
(1) قال في مروج الذهب 2 / 137: كانت العرب في جاهليتها فرقا: - منهم الموحد المقر بخالقه المصدق بالبعث والنشور.
- وكان من العرب من أقر بالخالق وانكر الرسل وعكف على عبادة الاصنام وهذا الصنف هم الذين حجوا إلى الاصنام وقصدوها ونحروا لها البدن ونسكوا لها النسائك.
- ومنهم من أقر بالخالق وكذب بالرسل والبعث.
- ومنهم من مال إلى اليهودية والنصرانية.
- ومنهم المار على عنجهيته الراكب لهجمته.
- ومنهم صنف يعبدون الملائكة ويزعمون أنها بنات الله.
(2) قصبه: أمعاءه.
[ * ]

(2/238)


النار، وكان أول من سيب السوائب وبحر البحيرة ولم يذكر بينهما عبد الوهاب بن بخت كما قال الحاكم فالله أعلم.
وقال أحمد أيضا حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن الزهري عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار، وهو أول من سيب السوائب.
وهذا منقطع من هذا الوجه.
والصحيح الزهري عن سعيد عنه كما تقدم وقوله في هذا الحديث والذي قبله الخزاعي يدل على أنه ليس والد القبيلة بل منتسب إليها مع ما وقع في الرواية من قوله أبو خزاعة تصحيف من الراوي من أخو خزاعة أو أنه كان يكني بأبي خزاعة ولا يكون ذلك من باب الاخبار بأنه أبو خزاعة كلهم والله أعلم.
وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي أن أبا صالح السمان حدثه أنه سمع أبا هريرة يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لاكثم بن الجون الخزاعي يا أكثم رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف (1) يجر قصبه في النار فما رأيت رجلا أشبه برجل منك به ولا بك منه ".
فقال أكثم: عسى أن يضرني شبهه يا رسول الله قال: " لا إنك مؤمن وهو كافر، إنه كان أول من غير دين اسماعيل فنصب الاوثان وبحر البحيرة (2) وسيب السائبة ووصل الوصيلة وحمى الحامي ".
ليس في الكتب من هذا الوجه (2).
وقد رواه ابن جرير عن هناد بن عبدة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه أو مثله وليس في الكتب أيضا.
وقال البخاري حدثني محمد بن أبي يعقوب أبو عبد الله الكرماني حدثنا حسان بن إبراهيم حدثنا يونس عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " رأيت جهنم يحطم بعضها بعضا ورأيت عمرا يجر قصبه وهو أول من سيب السوائب ".
تفرد به البخاري.
وروى الطبراني من طريق صالح عن ابن عباس مرفوعا في ذلك.
والمقصود أن عمرو بن لحي لعنه الله كان قد ابتدع لهم أشياء في الدين غير بها دين الخليل فاتبعه العرب في ذلك فضلوا بذلك ضلالا بعيدا بينا فظيعا شنيعا وقد أنكر الله تعالى عليهم في كتابه العزيز في غير ما آية منه فقال تعالى: (ولا تقولوا لم تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب) [ النحل: 116 ] الآية.
وقال تعالى: (ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون) [ المائدة: 106 ] وقد تكلمنا على هذا كله مبسوطا وبينا اختلاف السلف في تفسير ذلك فمن أراده فليأخذه من ثم ولله الحمد والمنة.
وقال تعالى: (ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسئلن عما كنتم تفترون) [ النحل: 56 ].
وقال
__________
(1) قمعة: عمير وسمي قمعة لانه انقمع وقعد.
وخندف لقب بنت عمران بن الحاف بن قضاعة ; وقد خرجت مسرعة فقيل لها: تخندفين، فسميت خندف.
(2) ومثله في الازرقي وفيه: ونصب الاصنام، وهو أول من غير دين الحنيفية دين إبراهيم عليه السلام ; 1 / 100.
[ * ]

(2/239)


تعالى: (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والانعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركائهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون) [ الانعام: 136 ] [ وقال تعالى ]: (وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم وانعام حرمت ظهورها وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه سيجزيهم بما كانوا يفترون) [ الانعام: 138 ].
[ وقال تعالى ].
(وقالوا ما في بطون هذه الانعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء سيجزيهم وصفهم أنه حكيم عليم.
قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين) [ الانعام: 139 - 140 ] (1).
وقال البخاري في صحيحه (2).
باب جهل العرب حدثنا أبو النعمان حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر (3) عن سعيد بن جبير عن ابن عباس [ رضي الله عنهما ] قال إذا سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين ومائة في سورة الانعام (قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين) وقد ذكرنا تفسير هذه الآية وما كانوا ابتدعوه من الشرائع الباطلة الفاسدة التي ظنها كبيرهم عمرو بن لحي قبحه الله مصلحة ورحمة بالدواب والبهائم وهو كاذب مفتر في ذلك ومع هذا الجهل والضلال اتبعه هؤلاء الجهلة الطغام فيه بل قد تابعوه فيما هو أطم من ذلك وأعظم بكثير وهو عبادة الاوثان مع الله عزوجل وبدلوا ما كان الله بعث به إبراهيم خليله من الدين القويم والصراط
المستقيم من توحيد عبادة الله وحده لا شريك له وتحريم الشرك وغيروا شعائر الحج ومعالم الدين بغير علم ولا برهان ولا دليل صحيح ولا ضعيف واتبعوا في ذلك من كان قبلهم من الامم المشركين وشابهوا قوم نوح وكانوا أول من أشرك بالله وعبد الاصنام ولهذا بعث الله إليهم نوحا وكان أول رسول بعث ينهى عن عبادة الاصنام كما تقدم بيانه في قصة نوح (وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن
__________
(1) وانعام حرمت ظهورها أي ما يسيبونه لآلهتهم.
وقال مجاهد: المراد البحيرة والوصيلة والحام.
فالبحيرة: الناقة.
التي انتجبت خمسة أبطن وكان آخرها ذكرا بحروا أذنها واعفوا ظهرها من الركوب والحمل والذبح.
الوصيلة: الناقة التي وصلت بين عشرة أبطن ومن الشاه التي وصلت سبعة أبطن.
والحامي: الفحل من الابل يضرب الضراب المعدود قبل عشرة أبطن فإذا بلغ ذلك قالوا: هذا حام، أي حمى ظهره فيترك.
(2) كتاب بدء الخلق - باب قصة زمزم وجهل العرب ج 4 / 160 - 161.
(3) أبو النعمان هو محمد بن الفضل عارم.
وأبو عوانة اسمه الوضاح بن عبد الله اليشكري وأبو بشر: واسمه جعفر بن أبي وحشية.
[ * ]

(2/240)


ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا وقد أضلوا كثيرا) [ نوح: 23 ] الآية قال ابن عباس كان هؤلاء قوما صالحين في قوم نوح فلما ماتوا عكفوا على قبورهم فلما طال عليهم الامد عبدوهم وقد بينا كيفية ما كان من أمرهم في عبادتهم بما أغنى عن إعادته ههنا.
قال ابن إسحاق وغيره: ثم صارت هذه الاصنام في العرب بعد تبديلهم دين اسماعيل فكان ود لبني كلب بن مرة (1) بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة.
وكان منصوبا بدومة الجندل وكان سواع لبني هذيل بن الياس بن مدركة بن مضر.
وكان منصوبا بمكان يقال له رهاط (2).
وكان يغوث لبني أنعم من طئ ولاهل جرش من مذحج (3) وكان منصوبا بجرش.
وكان يعوق منصوبا بأرض همدان (4) من اليمن لبني خيوان بطن من همدان.
وكان نسر منصوبا بأرض حمير لقبيلة يقال لهم ذو الكلاع (5).
قال ابن إسحاق: وكان لخولان بأرضهم صنم يقال له عم أنس (6) يقسمون له من أنعامهم وحروثهم قسما بينه وبين الله فيما يزعمون فما دخل في حق عم أنس من حق الله الذي قسموه له تركوه له وما دخل في حق الله من حق عم أنس ردوه عليه وفيهم أنزل الله: (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والانعام نصيبا) قال: وكان لبني ملكان بن كنانة بن خزيمة بن مدركة صنم يقال له سعد، صخرة بفلاة (7) من أرضهم طويلة فاقبل رجل منهم بإبل له مؤبلة ليقفها عليه، التماس بركته، فيما يزعم فلما رأته الابل وكانت مرعية لا تركب وكان الصنم يهراق عليه الدماء نفرت منه فذهبت في كل وجه وغضب ربها [ الملكاني ] وأخذ حجرا فرماه به ثم قال لا بارك الله فيك نفرت على إبلي ثم خرج في طلبها فلما اجتمعت له قال:
__________
(1) في ابن هشام وجمهرة أنساب العرب: وبرة ; وسدنته بنو الفرافصة بن الاحوص بن كلب.
(2) كذا في الاصل وابن هشام ومعجم البلدان ورهاط: من أرض ينبع.
وفي جمهرة أنساب العرب ص 492: وفي المحبر 316 كان بنعمان ونعمان واد بقرب مكة من بلاد هذيل.
وسدنته: بنو صاهلة من هذيل وفي ياقوت سدنته بنو لحيان من هذيل.
(3) عبارة ابن الكلبي في الاصنام: واتخذت مذحج وأهل جرش، لم يجعل جرش من مذحج ; والمعروف ان جرش في حمير وفي نهاية الارب للقلقشندي حرش بطن من حمير ص 215، ومذحج من كهلان بن سبأ.
وفي الجمهرة: كان لمذحج.
(4) في الجمهرة 492: في أرحب.
(5) في الجمهرة: كان لحمير بنجران.
وذو الكلاع، رهطه أحاظة بن سعد بن عوف بن عدي بن مالك بن زيد وهم بطن من حمير ص 478 - 492.
(6) في ابن هشام: عميانس، وفي عمود النسب للشنقيطي كالاصل.
وفي الجمهرة لابن حزم: يعوق كان يعبده همدان وخولان.
(7) في معجم البلدان والاصنام لابن الكلبي: الفلاة بساحل جدة.
ولم يذكر الصنم في المحبر.
[ * ]

(2/241)


أتينا إلى سعد ليجمع شملنا * فشتتنا سعد فلا نحن من سعد وهل سعد إلا صخرة بتنوفة (1) * من الارض لا يدعو لغي ولا رشد قال ابن إسحاق: وكان في دوس صنم (2) لعمرو بن حممة الدوسي.
قال [ ابن إسحاق ] وكانت قريش قد اتخذت صنما على بئر في جوف الكعبة يقال له هبل وقد تقدم فيما ذكره ابن هشام أنه أول صنم نصبه عمرو بن لحي لعنه الله.
قال ابن إسحاق: واتخذوا إسافا ونائلة على موضع زمزم (3) ينحرون عندهما ثم ذكر أنهما كانا رجلا وامرأة فوقع عليها في الكعبة فمسخهما الله حجرين.
ثم قال [ ابن إسحاق ]: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عمرة (4) أنها قالت سمعت عائشة تقول: ما زلنا نسمع أن اسافا ونائلة كانا رجلا وامرأة من جرهم أحدثا في الكعبة فمسخهما الله عزوجل حجرين والله أعلم.
وقد قيل إن الله لم يمهلهما حتى فجرا فيها بل مسخهما قبل ذلك فعند ذلك نصبا عند الصفا والمروة فلما كان عمرو بن لحي نقلهما فوضعهما على زمزم وطاف الناس بهما وفي ذلك يقول أبو طالب: وحيث ينيخ الاشعرون ركابهم * بمفضي السيول من أساف ونائل وقد ذكر الواقدي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أمر بكسر نائلة يوم الفتح خرجت منها سوداء شمطاء تخمش وجهها وتدعو بالويل والثبور.
وقد ذكر السهيلي: أن أجا وسلمى وهما جبلان بأرض الحجاز إنما سميا باسم رجل اسمه أجا بن عبد الحي فجر بسلمى بنت حام فصلبا في هذين الجبلين فعرفا بهما قال: وكان بين أجا وسلمى صنم لطي يقال له قلس (5).
قال إبن إسحاق: واتخذ أهل كل دار في دارهم صنما يعبدونه فإذا أراد الرجل منهم سفرا تمسح به حين يركب، فكان ذلك آخر ما يصنع حين يتوجه إلى سفره.
وإذا قدم من سفره تمسح به فكان ذلك أول ما يبدأ به قبل أن يدخل على أهله.
قال فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بالتوحيد قالت قريش: " أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشئ عجاب ".
__________
(1) تنوفة: القفر من الارض الذي لا ينبت شيئا.
(2) يسمى: ذو الكفين كما في ابن حزم ص 494 وأصنام ابن الكلبي ص 37 والمحبر ص 218.
(3) كان أحد الصنمين أولا بلصق الكعبة، والآخر في موضع زمزم فنقلت قريش الذي كان بلصق الكعبة إلى الآخر - أنظر الالوسي - وأصنام ابن الكلبي.
وعند ابن حزم: إساف كان بالصفا ونائلة كانت بالمروة ص 492.
(4) تقدم التعليق فليراجع.
(5) في جمهرة ابن حزم وياقوت: قلس كان بنجد قريبا من فيد سدنته بنو بولان.
[ * ]

(2/242)


قال ابن إسحاق: وقد كانت (1) العرب اتخذت مع الكعبة طواغيت، وهي بيوت تعظمها كتعظيم الكعبة، لها سدنة وحجاب، وتهدي لها كما تهدي للكعبة، وتطوف بها كطوافها بها، وتنحر عندها.
وهي مع ذلك تعرف فضل الكعبة عليها، لانها (2) بناء إبراهيم الخليل عليه السلام ومسجده.
وكانت لقريش وبني كنانة العزى بنخلة (3) وكانت سدنتها وحجابها بني (4) شيبان من سليم حلفاء بني هاشم.
وقد خربها خالد بن الوليد زمن الفتح كما سيأتي.
قال [ ابن إسحاق ]: وكانت اللات لثقيف بالطائف وكانت سدنتها وحجابها بني (5) معتب من ثقيف وخربها أبو سفيان والمغيرة بن شعبة (6) بعد مجئ أهل الطائف كما سيأتي.
قال [ ابن إسحاق ]: وكانت مناة للاوس والخزرج، ومن دان بدينهم من أهل المدينة (7)، على ساحل البحر من ناحية المشلل بقديد.
وقد خربها أبو سفيان أيضا وقيل علي بن أبي طالب كما سيأتي.
قال [ ابن إسحاق ]: وكان ذو الخلصة لدوس وخثعم وبجيلة ومن كان ببلادهم من العرب بتبالة.
وكان يقال له الكعبة اليمانية، ولبيت مكة الكعبة الشامية وقد خربه جرير بن عبد الله البجلي كما سيأتي.
قال: وكان قلس لطي ومن يليها بجبلي طي بين أجا وسلمى، وهما جبلان مشهوران كما تقدم.
قال: وكان رآم بيتا لحمير وأهل اليمن كما تقدم ذكره في قصة تبع أحد ملوك حمير وقصة الحبرين حين خرباه وقتلا منه كلبا أسود.
قال: وكانت رضاء بيتا لبني ربيعة بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم ولها يقول المستوغر واسمه كعب بن ربيعة بن كعب [ حين هدمها ]: ولقد شددت على رضاء شدة * فتركتها قفرا بقاع أسحما (8)
وأعان عبد الله في مكروهها * وبمثل عبد الله أغشى المحرما
__________
(1) في ابن هشام: وكانت.
(2) في ابن هشام: لانها كانت قد عرفت أنها بيت إبراهيم..(3) نخلة: هي نخلة الشامية بإزاء الغمير عن يمين المصعد إلى العراق من مكة وذلك فوق ذات عرق إلى البستان بتسعة أميال، وكانت العزى بواد منها (معجم البلدان) وعند ابن حزم: العزى يعبدها غطفان وتعظمها قريش وغنى وباهلة.
(4) كذا في الاصل: والصواب بنو شيبان كما في ابن هشام.
وعند ابن حزم: سدنتها: بنو صرمة بن مرة.
(5) كذا في الاصل والصواب كما في ابن هشام بنو معتب.
وعند ابن حزم: آل أبي العاصي من بني مالك بن ثقيف.
وعند ابن الكلبي: من ثقيف بن عتاب بن مالك.
(6) كذا في الاصل والمحبر 315.
وعند ابن حزم: هدمه خالد بن الوليد والمغيرة بن شعبة ص 491 واقتصر في الاصنام ص 17 على المغيرة.
(7) في ابن هشام: يثرب.
(8) القاع: المنخفض من الارض.
ورواية العجز عند ابن الكلبي: فتركتها تلا تنازع أسحما.
[ * ]

(2/243)


ويقال إن المستوغر هذا عاش ثلاثمائة سنة وثلاثين سنة وكان أطول مضر كلها عمرا وهو الذي يقول: ولقد سئمت من الحياة وطولها * وعمرت من عدد السنين مئينا مائة حدتها بعدها مائتان لي * وازددت من عدد الشهور سنينا هل ما بقي إلا كما قد فاتنا * يوم يمر وليلة تحدونا قال ابن هشام: ويروى هذه الابيات لزهير بن جناب بن هبل.
قال السهيلي: ومن المعمرين الذين جازوا المائتين والثلاثمائة زهير هذا وعبيد بن شربة ودغفل بن حنظلة النسابة والربيع بن ضبع الفزاري وذو الاصبع العدواني ونصر بن دهمان بن أشجع بن ربث بن غطفان،
وكان قد اسود شعره بعد ابيضاضه وتقوم ظهره بعد اعوجابه.
قال [ ابن إسحاق ]: وكان ذو الكعبات لبكر وتغلب بن (1) وائل وإياد بسنداد وله يقول أعشى بن قيس بن ثعلبة (2): بين الخورنق والسدير وبارق * والبيت ذي الشرفات من سنداد وأول هذه القصيدة: ولقد علمت وأن تطاول بي المدى * أن السبيل سبيل ذي الاعواد ماذا أؤمل بعد آل محرق * تركوا منازلهم وبعد إياد نزلوا بأنقرة يسيل عليهم * ماء الفرات يجئ من أطواد أرض الخورنق والسدير وبارق * والبيت ذي الكعبات من سنداد (3) جرت الرياح على محل ديارهم * فكأنما كانوا على ميعاد (4) وأرى النعيم وكلما يلهى به * يوما يصير إلى بلى ونفاد (5) قال السهيلي: الخورنق قصر بناه النعمان الاكبر لسابور ليكون ولده فيه عنده (6)، وبناه
__________
(1) في ابن هشام: ابني.
وسنداد: منازل لاياد اسفل سواد الكوفة وراء نجران الكوفة (معجم البلدان).
(2) في رواية عند ابن هشام: للاسود بن يعفر النهشلي.
(3) في معجم البلدان " سنداد ": أهل الخورنق وشطره: والقصر ذي الشرفات من سنداد.
(4) في معجم البلدان: عراص ديارهم.
(5) صدره في معجم البلدان: فإذا النعيم وكل ما يلهى به.
(6) قال ابن الكلبي كما نقل عنه ياقوت: أمر ببنائه بهرام جور بن يزدجرد بن سابور ذي الاكتاف وذلك انه كان لا يبقى له ولد وكان قد لحق ابنه بهرام جور في صغره علة فسأل عن منزل مرئ صحيح من الادواء.
فأشار عليه أطباؤه أن يخرجه إلى أرض العرب.
فأنفذه إلى النعمان وأمره أن يبني له قصرا.
فبناه له وأنزله إياه وعالجه حتى برأ من مرضه.
" مادة خورنق ".
[ * ]

(2/244)


رجل يقال له سنمار في عشرين سنة (1) ولم ير بناء أعجب منه فخشي النعمان أن يبني لغيره مثله
فألقاه من أعلاه فقتله ففي ذلك يقول الشاعر: جزاني جزاه الله شر جزائه * جزاء سنمار وما كان ذا ذنب سوى رضفه البنيان عشرين حجة * يعد عليه بالقرامد والسكب (2) فلما انتهى البنيان يوما تمامه * وآض كمثل الطود والباذخ الصعب (3) رمى بسنمار على حق رأسه * وذاك لعمر الله من أقبح الخطب (4) قال السهيلي: أنشده الجاحظ في كتاب الحيوان.
والسنمار من أسماء القمر.
والمقصود أن هذه البيوت كلها هدمت لما جاء الاسلام جهز رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كل بيت من هذه سرايا تخربه، وإلى تلك الاصنام من كسرها، حتى لم يبق للكعبة ما يضاهيها، وعبد الله وحده لا شريك له.
كما سيأتي بيانه وتفصيله في مواضعه إن شاء الله تعالى وبه الثقة.
خبر عدنان جد عرب الحجاز لا خلاف أن عدنان من سلالة اسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام واختلفوا في عدة الآباء بينه وبين اسماعيل.
على أقوال كثيرة فاكثر ما قيل أربعون أبا وهو الموجود عند أهل الكتاب أخذوه من كتاب رخيا كاتب أرميا بن حلقيا على ما سنذكره وقيل بينهما ثلاثون وقيل عشرون وقيل خمسة عشر وقيل عشرة وقيل تسعة وقيل سبعة وقيل إن أقل ما قيل في ذلك أربعة لما رواه موسى بن يعقوب عن عبد الله بن وهب بن زمعة الزمعي عن عمته عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " معد بن عدنان بن أدد بن زند بن اليرى بن اعراق الثرى ".
قالت: أم سلمة فزند هو الهميسع واليرى هو نابت وإعراق الثرى هو إسماعيل لانه ابن إبراهيم وإبراهيم لم تأكله النار كما أن النار لا تأكل الثرى.
قال الدارقطني: لا نعرف زندا إلا في هذا الحديث وزند بن الجون وهو أبو دلامة الشاعر: قال الحافظ أبو القاسم السهيلي وغيره من الائمة: مدة ما بين عدنان إلى زمن اسماعيل أكثر من أن يكون بينهما أربعة أباء أو عشرة أو عشرون وذلك أن معد بن عدنان كان عمره زمن بخت نصر ثنتي عشرة سنة.
وقد ذكر أبو جعفر الطبري وغيره أن الله تعالى أوحى في ذلك الزمان إلى
أرمياء بن حلقيا أن اذهب إلى بخت نصر فأعلمه أني قد سلطته على العرب وأمر الله أرميا أن يحمل
__________
(1) في معجم البلدان: بناه رجل من الروم يقال له سنمار في ستين سنة (2) في معجم البلدان: سوى رمة البنيان، ستين حجة.
(3) في معجم البلدان: فلما رأى البنيان تم سحوقه.
(4) في معجم البلدان: فقال: اقذفوا بالعلج من فوق رأسه..من أعجب الخطب.
[ * ]

(2/245)


معه معد بن عدنان على البراق كي لا تصيبه النقمة فيهم فإني مستخرج من صلبه نبيا كريما أختم به الرسل ففعل أرميا ذلك واحتمل معدا على البراق إلى أرض الشام فنشأ مع بنى إسرائيل ممن بقي منهم بعد خراب بيت المقدس وتزوج هناك امرأة اسمها معانة بنت جوشن من بني دب بن جرهم قبل أن يرجع إلى بلاده ثم عاد بعد أن هدأت الفتن وتمحضت جزيرة العرب وكان رخيا كاتب أرمياء قد كتب نسبه في كتاب عنده ليكون في خزانة أرمياء فيحفظ نسب معد كذلك والله أعلم.
ولهذا كره مالك رحمه الله رفع النسب إلى ما بعد عدنان.
قال السهيلي: وإنما تكلمنا في رفع هذه الانساب على مذهب من يرى ذلك ولم يكرهه كابن إسحاق والبخاري والزبير بن بكار والطبري وغيرهم من العلماء، وأما مالك رحمه الله فقد سئل عن الرجل يرفع نسبه إلى آدم فكره ذلك، وقال له من أين له علم ذلك فقيل له فإلى إسماعيل فأنكر ذلك أيضا وقال ومن يخبره به وكره أيضا أن يرفع في نسب الانبياء مثل أن يقال إبراهيم بن فلان بن فلان هكذا ذكره المعيطي في كتابه.
قال: وقول مالك هذا نحو مما روى عن عروة بن الزبير أنه قال ما وجدنا أحدا يعرف ما بين عدنان وإسماعيل، وعن ابن عباس أنه قال بين عدنان واسماعيل ثلاثون أبا لا يعرفون وروي عن ابن عباس أيضا أنه كان إذا بلغ عدنان يقول كذب النسابون مرتين أو ثلاثا والاصح عن ابن مسعود مثله.
وقال عمر بن الخطاب إنما تنسب إلى عدنان، وقال أبو عمر بن عبد البر في كتابه الانباه في معرفة قبائل الرواه: روى ابن لهيعة (1) عن أبي الاسود أنه سمع عروة بن الزبير يقول ما وجدنا
أحدا يعرف ما وراء عدنان ولا ما وراء قحطان إلا تخرصا، وقال أبو الأسود: سمعت أبا بكر بن سليمان بن أبي خيثمة وكان من أعلم قريش بأشعارهم وأنسابهم يقول ما وجدنا أحدا يعرف ما وراء معد بن عدنان في شعر شاعر ولا علم عالم.
قال أبو عمر: وكان قوم من السلف منهم عبد الله بن مسعود وعمرو بن ميمون الازدي ومحمد بن كعب القرظي إذا تلوا (والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله) قالوا: كذب النسابون.
قال أبو عمر رحمه الله: والمعنى عندنا في هذا غير ما ذهبوا والمراد أن من ادعى احصاء بني آدم فإنهم لا يعلمهم إلا الله الذي خلقهم، وأما أنساب العرب فإن أهل العلم بأيامها وأنسابها قد وعوا وحفظوا جماهيرها وأمهات قبائلها، واختلفوا في بعض فروع ذلك.
__________
(1) ابن لهيعة: هو أبو عبد الرحمن عبد الله بن لهيعة بن عقبة بن لهيعة الحضرمي الغافقي المصري، كان مكثرا من الحديث والاخبار والرواية.
توفي بمصر سنة سبعين ومائة.
وكان عمره احدى وثمانين سنة، وكان مولده سنة سبع وتسعين (ابن خلكان).
[ * ]

(2/246)


قال أبو عمر: والذي عليه أئمة هذا الشأن في نسب عدنان قالوا عدنان بن أدد بن مقوم بن ناحور بن تيرح بن يعرب بن يشجب بن نابت (1) بن إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام وهكذا ذكره محمد بن إسحاق بن يسار في السيرة.
قال ابن هشام: ويقال عدنان بن أد يعني عدنان بن أد بن أدد (2) ثم ساق أبو عمر بقية النسب إلى آدم كما قدمناه في قصة الخليل عليه السلام.
وأما الانساب إلى عدنان من سائر قبائل العرب فمحفوظة شهيرة جدا لا يتمارى فيها اثنان والنسب النبوي إليه أظهر وأوضح من فلق الصبح وقد ورد حديث مرفوع بالنص عليه كما سنورده في موضعه بعد الكلام على قبائل العرب وذكر أنسابها وانتظامها في سلك النسب الشريف والاصل المنيف إن شاء الله تعالى وبه الثقة وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم.
وما أحسن ما نظم النسب النبوي الامام أبو العباس
عبد الله بن محمد الناشئ في قصيدته المشهورة المنسوبة إليه وهي قوله: مدحت رسول الله أبغي بمدحه * وفور حظوظي من كريم المآرب مدحت امرءا فاق المديح موحدا * بأوصافه عن مبعد ومقارب نبيا تسامى في المشارق نوره * فلاحت هواديه لاهل المغارب أتتنا به الانباء قبل مجيئه * وشاعت به الاخبار في كل جانب وأصبحت الكهان تهتف باسمه * وتنفي به رجم الظنون الكواذب وأنطقت الاصنام نطقا تبرأت * إلى الله فيه من مقال الاكاذب وقالت لاهل الكفر قولا مبينا * أتاكم نبي من لؤي بن غالب ورام استراق السمع جن فزيلت * مقاعدهم منها رجوم الكواكب هدانا إلى ما لم نكن نهتدي له * لطول العمى من واضحات المذاهب وجاء بآيات تبين أنها * دلائل جبار مثيب معاقب فمنها أنشقاق البدر حين تعممت * شعوب الضيامنة رؤوس الاخاشب ومنها نبوع الماء بين بنانه * وقد عدم الوراد قرب المشارب فروى به جمأ غفيرا وأسهلت * بأعناقه طوعا أكف المذانب وبئر طغت بالماء من مس سهمه * ومن قبل لم تسمح بمذقة شارب
__________
(1) ابن قتيبة في المعارف ساق نسب عدنان إلى قيدار بن اسماعيل أخي نابت.
وهذا ما فعله الجواني في أصول الاحساب والزيدي في روضة الالباب.
وهكذا قال هشام بن محمد الكلبي كما في رواية ابن الاعرابي عنه (المسعودي) وقال المسعودي: 2 / 289: وقد نهى النبي أن يتجاوز عن معد، وقد اختلف أهل النسب [ في رواياتهم ] فالواجب الواقف عند أمره عليه السلام ونهيه.
(2) في ابن هشام: ويقال عدنان بن أد.
وفي رواية الكلبي: عدنان بن أد بن أدد.
[ * ]

(2/247)


وضرع مراه فاستدر ولم يكن * به درة تصغي إلى كف حالب
ونطق فصيح من ذراع مبينة * لكيد عدو للعداوة ناصب وإخباره بالامر من قبل كونه * وعند بواديه بما في العواقب ومن تلكم الآيات وحي أتى به * قريب المآني مستجم العجائب تقاصرت الافكار عنه فلم يطع * بليغا ولم يخطر على قلب خاطب حوى كل علم واحتوى كل حكمة * وفات مرام المستمر الموارب أتانا به لا عن روية مرتئ * ولا صحف مستمل ولا وصف كاتب يواتيه طورا في إجابة سائل * وافتاء مستفت ووعظ مخاطب واتيان برهان وفرض شرائع * وقص أحاديث ونص مآرب وتصريف أمثال وتثبيت حجة * وتعريف ذي جحد وتوقيف كاذب وفي مجمع النادي وفي حومة الوغى * وعند حدوث المعضلات الغرائب فيأتي على ما شئت من طرقاته * قويم المعاني مستدر الضرائب يصدق منه البعض بعضا كأنما * يلاحظ معناه بعين المراقب وعجز الورى عن أن يجيئوا بمثل ما * وصفناه معلوم بطول التجارب تأبى بعبد الله أكرم والد * تبلج منه عن كريم المناسب (1) وشيبة ذي الحمد الذي فخرت به * قريش على أهل العلى والمناصب ومن كان يستسقى الغمام بوجهه * ويصدر عن آرائه في النوائب وهاشم الباني مشيد افتخاره * بغر المساعي وامتنان المواهب وعبد مناف وهو علم قومه اش * تطاط الاماني واحتكام الرغائب (2) وإن قصيا من كريم غراسه * لفي منهل لم يدن من كف قاضب به جمع الله القبائل بعدما * تقسمها نهب الاكف السوالب وحل كلاب من ذرى المجد معقلا * تقاصر عنه كل دان وغائب ومرة لم يحلل مريرة عزمه * سفاه سفيه أو محوبة حائب
وكعب علا عن طالب المجد كعبه * فنال بأدنى السعي أعلا المراتب وألوى لؤي بالعداة فطوعت * له همم الشم الانوف الاغالب وفي غالب بأس أبى البأس دونهم * يدافع عنهم كل قرن مغالب وكانت لفهر في قريش خطابة * يعوذ بها عند اشتجار المخاطب وما زال منهم مالك خير مالك * وأكرم مصحوب وأكرم صاحب
__________
(1) تبلج: أضاء.
(2) اشتطاط: ابتعاد.
[ * ]

(2/248)


وللنضر طول يقصر الطرف دونه * بحيث التقى ضوء النجوم الثواقب لعمري لقد أبدى كنانة قبله * محاسن تأبى إن تطوع لغالب ومن قبله أبقى خزيمة حمده * تليد تراث عن حميد الاقارب ومدركة لم يدرك الناس مثله * أعف وأعلى عن دني المكاسب وإلياس كان اليأس منه مقارنا * لاعدائه قبل اعتداد الكتائب وفي مضر يستجمع الفخر كله * إذا اعتركت يوما زحوف المقانب وحل نزار من رياسة أهله * محلا تسامى عن عيون الرواقب وكان معد عدة لوليه * إذا خاف من كيد العدو المحارب وما زال عدنان إذا عد فضله * توحد فيه عن قرين وصاحب وأد تأدى الفضل منه بغاية * وأرث حواه عن قروم اشايب وفي أدد حلم تزيد بالحجا * إذا الحلم أزهاه قطوب الحواجب وما زال يستعلي هميسع بالعلى * ويتبع آمال البعيد المراغب ونبت نبته دوحة العز وأبتنى * معاقله في مشمخر الاهاضب وحيزت لقيذار سماحة حاتم * وحكمة لقمان وهمة حاجب
هموا نسل اسماعيل صادق وعده * فما بعده في الفخر مسعى لذاهب وكان خليل الله أكرم من عنت * له الارض من ماش عليها وراكب وتارح ما زالت له أريحية * تبين منه عن حميد المضارب وناحور نحار العدى حفظت له * مآثر لما يحصها عد حاسب وأشرع في الهيجآء ضيغم غابة * يقد الطلى بالمرهفات القواضب وأرغو ناب في الحروب محكم * ضنين على نفس المشح المغالب وما فالغ في فضله تلو قومه * ولا عابر من دونهم في المراتب وشالخ وارفخشذ وسام سمت بهم * سجايا حمتهم كل زار وعائب وما زال نوح عندي ذي العرش فاضلا * يعدده في المصطفين الاطايب ولمك أبوه كان في الروع رائعا * جريئا على نفس الكمي المضارب ومن قبل لمك لم يزل متوشلخ * يذود العدى بالذائدات الشوازب وكانت لادريس النبي منازل * من الله لم تقرن بهمة راغب ويارد بحر عند آل سراته * أبى الخزايا مستدق المآرب وكانت لمهلاييل فهم فضائل * مهذبة من فاحشات المثالب وقينان من قبل اقتنى مجد قومه * وفاد بشأو الفضل وخد الركائب وكان أنوش ناش للمجد نفسه * ونزهها عن مرديات المطالب

(2/249)


وما زال شيث بالفضائل فاضلا * شريفا بريئا من ذميم المعائب وكلهم من نور آدم أقبسوا * وعن عوده أجنوا ثمار المناقب وكان رسول الله أكرم منجب * جرى في ظهور الطيبين المناجب مقابلة آباؤه أمهاته * مبرأة من فاضحات المثالب عليه سلام الله في كل شارق * ألاح لنا ضوءا وفي كل غارب
هكذا أورد القصيدة الشيخ أبو عمر بن عبد البر وشيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي في تهذيبه من شعر الاستاذ أبي العباس عبد الله بن محمد الناشي المعروف بابن شرشير (1) أصله من الانبار ورد بغداد ثم ارتحل إلى مصر فأقام بها حتى مات سنة ثلاث وتسعين ومائتين وكان متكلما معتزليا يحكي عنه الشيخ أبو الحسن الاشعري في كتابه المقالات فيما يحكي عن المعتزلة وكان شاعرا مطبقا حتى أن من جملة اقتداره على الشعر كان يعاكس الشعراء في المعاني فينظم في مخالفتهم ويبتكر ما لا يطيقونه من المعاني البديعة والالفاظ البليغة حتى نسبه بعضهم إلى التهوس والاختلاط وذكر الخطيب البغدادي أن له قصيدة على قافية واحدة قريبا من أربعة آلاف بيت ذكرها الناجم وأرخ وفاته كما ذكرنا.
قلت: وهذه القصيدة تدل على فضيلته وبراعته وفصاحته وبلاغته وعلمه وفهمه وحفظه وحس لفظه واطلاعه واضطلاعه واقتداره على نظم هذا النسب الشريف في سلك شعره وغوصه على هذه المعاني التي هي جواهر نفيسة من قاموس بحره فرحمه الله وأثابه وأحسن مصيره وإيابه.
أصول انساب عرب الحجاز إلى عدنان وذلك لان عدنان ولد له ولدان معد وعك.
قال السهيلي: ولعدنان أيضا ابن اسمه الحارث وآخر يقال له المذهب.
قال وقد ذكر أيضا في بنيه الضحاك.
وقيل إن الضحاك ابن لمعد لا ابن عدنان.
قال وقيل إن عدن الذي تعرف به مدينة عدن وكذلك أبين كانا ابنين لعدنان حكاه الطبري (2) فتزوج عك في الاشعريين وسكن في
__________
(1) ابن شرشير: اسم طائر يصل إلى الديار المصرية في زمن الشتاء وهو أكبر من الحمام بقليل وهو كثير الوجود بساحل دمياط وباسمه سمي الرجل.
وابن شرشير هو الناشئ الاكبر، كان نحويا عروضيا متكلما أقام ببغداد مدة طويلة ثم رحل إلى مصر وأقام بها إلى آخر عمره.
كان متبحرا في عدة علوم من جملتها علم المنطق وكان بقوة علم الكلام نقض علل النحاة وأدخل على قواعد العروض شبها ومثلها بغير أمثلة الخليل مات سنة 293 (شذرات الذهب 2 / 214).
(2) في نهاية الارب 321: قال الزهري: كان لعدنان ستة أولاد: معد، وعبل واسمه الديب، وعدن وبه سميت
عدن من اليمن، وأد، وأبي الضحاك، والعني.
وأمهم مهدد.
وقال في جمهرة الانساب ص 9: ولد عدنان: معد، وعك وقيل اسمه الحارث وقد قيل: عك بن الديث بن عدنان.
[ * ]

(2/250)


بلادهم من اليمن فصارت لغتهم واحدة فزعم بعض أهل اليمن أنهم منهم فيقولون عك بن عدنان بن عبد الله بن الازد بن يغوث ويقال (1) عك بن عدنان بن الذيب بن عبد الله بن الاسد ويقال الريث بدل الذيب والصحيح ما ذكرنا من أنهم من عدنان.
قال عباس بن مرداس: وعك بن عدنان الذين تلعبوا * بغسان حتى طردوا كل مطرد (2) وأما معد فولد له أربعة نزار وقضاعة وقنص وإياد (3) وكان قضاعة بكره وبه كان يكنى وقد قدمنا الخلاف في قضاعة ولكن هذا هو الصحيح عند ابن إسحاق وغيره والله أعلم.
وأما قنص فيقال إنهم هلكوا ولم يبق لهم بقية إلا أن النعمان بن المنذر الذي كان نائبا لكسرى على الحيرة كان من سلالته على قول طائفة من السلف وقيل بل كان من حمير كما تقدم والله أعلم.
وأما نزار فولد له ربيعة ومضر وأنمار قال ابن هشام وإياد بن نزار كما قال الشاعر: وفتو حسن أوجههم * من إياد بن نزار بن معد قال [ ابن هشام ]: وإياد ومضر شقيقان أمهما سودة بنت عك بن عدنان وأم ربيعة وأنمار شقيقة بنت عك بن عدنان.
ويقال جمعة بنت عك بن عدنان: قال ابن إسحاق فأما أنمار فهو والد خثعم وبجيلة (4) قبيلة جرير بن عبد الله البجلي قال وقد تيامنت فلحقت باليمن.
قال ابن هشام: وأهل اليمن يقولون: أنمار بن أراش بن لحيان بن عمرو بن الغوث بن نبت بن ملك بن زيد بن كهلان بن سبأ.
قلت: والحديث المتقدم في ذكر سبأ يدل على هذا والله أعلم.
قالوا: وكان مضر أول من حدا وذلك لانه كان حسن الصوت فسقط يوما عن بعيره فوثبت يده فجعل يقول وايدياه وايدياه فأعنقت الابل لذلك.
قال ابن إسحاق: فولد مضر بن نزار
__________
= والظاهر أن كلمة الديث مقحمة.
فكل الذين عرضوا لعك بن عدنان لم يذكروه في نسبهم.
وفي الجمهرة أن الضحاك ولد لمعد بن عدنان.
(1) هذا قول ابن قتيبة في المعارف، وابن دريد في الاشتقاق والجواني في أصول الاحساب.
(2) كذا في الاصل وفي ابن هشام: تلقبوا.
(3) لا خلاف بين النسابين في نسب نزار لمعد، وأما سائر ولده فمختلف فيهم وفي عددهم.
وفي الجمهرة لم يأت على قضاعة، وذكر عبيد الرماح بن معد، واعتبر الضحاك ولدا لمعد.
وفي الطبري زاد: قناصة وسنام وحيدان وحيدة وحيادة وجنيد وجنادة والقحم.
والعرف وعوف وشك.
(4) في نهاية الارب: قال ابن الكلبي: إن انمار هذا لا عقب له إلا ما يقال في بجيلة وخثعم فإنه يقال انهم ابناء انمار.
وقال في العبر: وبجيلة تنكر هذا.
وأما أنمار فهو كما قال أبو عبيد: خثعم وعنفر والغوث وهنية وخزيمة وامهم بجيلة بنت صعب بن سعد العشيرة ص 216.
[ * ]

(2/251)


رجلين الياس وعيلان (1) وولد لالياس مدركة وطابخة وقمعة (2) وأمهم خندف بنت عمران بن الحاف بن قضاعة.
قال ابن إسحاق وكان اسم مدركة عامرا واسم طابخة عمرا ولكن اصطاد صيدا فبينا هما يطبخانه إذ نفرت الابل فذهب عامر في طلبها حتى أدركها وجلس الآخر يطبخ فلما راحا على أبيهما ذكرا له ذلك فقال لعامر: أنت مدركة وقال لعمرو: أنت طابخة قال: وأما قمعة فيزعم نساب مضر أن خزاعة من ولد عمرو بن لحي بن قمعة بن الياس.
قلت: والاظهر أنه منها لا والدهم وأنهم من حمير كما تقدم (3) والله أعلم.
قال ابن إسحاق: فولد مدركة خزيمة وهذيل وأمهما امرأة من قضاعة وولد خزيمة كنانة وأسدا وأسدة (4) والهون وزاد أبو جعفر الطبري (5): في أبناء كنانة على هؤلاء الاربعة عامرا والحارث والنضير وغنما وسعدا وعوفا وجرولا والحدال وغزوان.
قال [ ابن إسحاق ] وولد كنانة النضر (6) ومالكا وعبد مناة وملكان.
قريش نسبا واشتقاقا وفضلا وهم بنو النضر بن كنانة
قال ابن إسحاق: وأم النضر برة بنت مر بن أد بن طابخة [ بن الياس بن مضر ] وسائر بنيه لامرأة أخرى.
وخالفه ابن هشام فجعل برة بنت مرأم النضر ومالك وملكان.
وأم عبد مناة هاله بنت سويد بن الغطريف من أزد شنوءة (7).
قال ابن هشام: النضر هو قريش فمن كان من ولده فهو قرشي (8)، ومن لم يكن من ولده فليس بقرشي.
وقال: ويقال: فهر بن مالك هو قريش.
__________
(1) في نهاية الارب 376: وفي الروض الانف إياس.
وعيلان قيل هو قيس عيلان وامهما اسمى بنت سود بنت أسلم بن الحارث بن قضاعة وفي كتاب نسب قريش ص 7 هي الحنفاء ابنة إياد بن معد وفي الطبري: أم الياس الرباب بنت حيدة بن معد.
(2) قمعة وهو عمير وسمي قمعة لانه انقمع في الخباء وقعد (نهاية الارب ص 228 - الجمهرة ص 10).
(3) كذا في نهاية الارب والجمهرة وتقدم التعليق فليراجع.
(4) لم يذكر ابن قتيبة في المعارف أسدة، وفي الجمهرة: إن لخما وجذام وعاملة هم بنو أسدة بن خزيمة ص 11.
وأم كنانة عوانة بنت سعد بن قيس بن عيلان.
(5) كذا في الاصل والعبارة مختلة المعنى.
وعبارة الطبري بتمامها ج 2 / 188.
(6) النضر واسمه قيس كما في الطبري.
وفي جمهرة الانساب ملك بدل مالك وقال لم يعقب لكنانة ولد غير هولاء.
(7) وفي الطبري: أم عبد مناة فكيهة وقيل فكهة وهي الذفراء بنت هني بن بلي بن عمرو بن الحاف بن قضاعة.
(8) قرشي: قال صاحب اللسان في مادة قرش: قريش غير مصروف إذا أردت القبيلة، والنسب إليه قرشي نادر، وقريشي على القياس.
قال: بكل قريشي عليه مهابة * سريع إلى داعي الندى والتكرم قال ابن بري: اثبات الياء في النسب إلى قريش.
وقال في التهذيب: إذا نسبوا إلى قريش قالوا: قرشي بحذف الزيادة وللشاعر إذا اضطر أن يقول قريشي.
[ * ]

(2/252)


فمن كان من ولده فهو قرشي، ومن لم يكن من ولده فليس بقرشي.
وهذان القولان قد حكاهما غير واحد من أئمة النسب كالشيخ أبي عمر بن عبد البر والزبير بن بكار ومصعب وغير واحد.
قال
أبو عبيد وابن عبد البر: والذي عليه الاكثرون أنه النضر بن كنانة لحديث الاسعد (1) بن قيس قلت: وهو الذي نص عليه هشام بن محمد بن السائب الكلبي وأبو عبيدة معمر بن المثنى وهو جا مذهب الشافعي رضي الله عنه.
ثم اختار أبو عمر أنه فهر بن مالك واحتج بأنه ليس أحد اليوم ممن ينتسب إلى قريش إلا وهو يرجع في نسبه إلى فهر بن مالك ثم حكى اختيار هذا القول عن الزبير بن بكار ومصعب الزبيري وعلي بن كيسان قال: وإليهم المرجع في هذا الشأن وقد قال الزبير بن بكار: وقد أجمع نساب قريش وغيرهم أن قريشا إنما تفرقت من فهر بن مالك والذي عليه من أدركت من نساب قريش أن ولد فهر بن مالك قرشي وأن من جاوز فهر بن مالك بنسبه فليس من قريش ثم نصر هذا القول نصرا عزيزا وتحامى له بأنه ونحوه أعلم بأنساب قومهم وأحفظ لما آثرهم (2).
وقد روي البخاري (3) من حديث كليب بن وائل قال قلت لربيبة النبي صلى الله عليه وسلم - يعني زينب [ بنت أبي سلمة ] - في حديث ذكره أخبريني عن النبي صلى الله عليه وسلم أكان من مضر ؟ قالت فممن كان إلا من مضر.
من بني النضر بن كنانة.
وقال الطبراني ثنا إبراهيم بن نائلة الاصبهاني حدثنا إسماعيل بن عمرو البجلي ثنا الحسن بن صالح عن أبيه عن الجشيش (4) الكندي قال جاء قوم من كندة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا أنت منا وادعوه فقال: " لا، نحن بنو النضر بن كنانة لا نقف أمنا ولا ننتفي من أبينا " (5).
__________
(1) كذا في الاصل: والصواب كما في البخاري والبيهقي والسمعاني: الاشعث.
(2) اختلف النسابون في قريش فمنهم من قال اسم شخص ومنهم من قال اسم حي أو اسم قبيلة.
قيل هو قريش بن بدر بن يخلد بن النضر وبه سميت قريشا.
وقيل ان النضر بن كنانة كان اسمه قريشا وقيل القرشي.
وقيل أن فهر بن مالك هو جماع قريش، وقيل قريش ولده ولا قريش غيرهم ولا يكون قريشي إلا منهم ولا من ولد فهر أحد إلا قريشي.
وقيل إن قريشا اسم لفهر وان فهر لقب عليه.
وقال المبرد: إن التسمية لقريش وقعت لقصي بن كلاب.
وعند القلقشندي: أن قريش قبيلة من كنانة غلب عليهم اسم أبيهم فقيل لهم قريش على ما ذهب إليه جمهور النسابين وهو الاصح من الوجهين عند الشافعية.
(انظر الانساب للسمعاني - الطبري - ابن الاثير - جمهرة الانساب - نهاية الارب - طبقات ابن سعد).
(3) اول كتاب المناقب فتح الباري (6: 525) ورواه الاسماعيلي من رواية حبان بن هلال، عن عبد الواحد.
(4) في أسد الغابة: جفشيش.
(5) لا نقفو أمنا: أي لا نتهمها ولا نقذفها، يقال قفا فلان فلانا إذا قذفه بما ليس فيه، وقيل معناه لا نترك النسب [ * ]

(2/253)


وقال الامام أبو عثمان سعيد بن يحيى بن سعيد ثنا أبي ثنا الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال جاء رجل من كندة يقال له الجشيش إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يارسول الله إنا نزعم أن عبد مناف منا، فأعرض عنه، ثم عاد فقال: مثل ذلك ثم أعرض عنه، ثم عاد فقال مثل ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " نحن بنو النضر بن كنانة لا نقف أمنا ولا ننتفي من أبينا " قفال الاشعث ألا كنت سكت من المرة الاولى فأبطل ذلك قولهم على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم وهذا غريب أيضا من هذا الوجه والكلبي ضعيف والله أعلم.
وقد قال الامام أحمد (1) حدثنا بهز وعفان قالا ثنا حماد بن سلمة.
قال ثني عقيل بن أبي طلحة وقال عفان عقيل بن طلحة السلمي عن مسلم بن الهيصم عن الاشعث بن قيس أنه قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد كندة.
قال عفان - لا يروني أفضلهم قال فقلت يارسول الله.
انا نزعم أنكم منا قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نحن بنو النضر بن كنانة لا نقف أمنا ولا ننتفي من أبينا.
قال: فقال الاشعث بن قيس: فوالله لا أسمع أحدا نفى قريشا من النضر بن كنانة إلا جلدته الحد.
وهكذا رواه ابن ماجه (2) من طرق عن حماد بن سلمة به وهذا إسناد جيد قوي وهو فيصل في هذه المسألة فلا التفات إلى قول من خالفه والله أعلم ولله الحمد والمنة.
وقد قال جرير بن عطية التميمي يمدح هشام بن عبد الملك بن مروان:
فما الام التي ولدت قريشا * بمقرفة النجار ولا عقيم (3) وما قرم بأنجب من أبيكم * ولا خال بأكرم من تميم (4) قال ابن هشام: يعني أم النضر بن كنانة وهي برة بنت مر أخت تميم بن مر.
وأما اشتقاق قريش فقيل من التقرش وهو التجمع بعد التفرق وذلك في زمن قصي بن كلاب فإنهم كانوا متفرقين فجمعهم بالحرم (5) كما سيأتي بيانه وقد قال حذافة بن غانم العدوي (6): أبوكم قصي كان يدعى مجمعا * به جمع الله القبائل من فهر
__________
= إلى الآباء وننتسب إلى الامهات (النهاية 2 / 303).
(1) مسند الامام أحمد ج 5 / 211 وأخرجه البيهقي في الدلائل ج 1 / 173 وفيه: مسلم بن هيضم.
(2) كتاب الحدود - باب - من نفى رجلا من قبيلته (2 / 871).
(3) المقرفة يعني اللئيمة، والنجار: الاصل.
العقيم: التي لا تحمل.
(4) القرم: استعاره هنا للرجل السيد ; وهو الفحل من الابل.
(5) في الطبري ج 2 / 182: وجمع قبائل قريش فأنزلهم أبطح مكة وكان بعضهم في الشغاب ورؤوس جبال مكة فقسم منازلهم بينهم فسمى مجمعا.
(6) في الطبري: مطرود وفي الازرقي فكالاصل.
[ * ]

(2/254)


وقال بعضهم: كان قصي يقال له قريش قيل من التجمع والتقرش التجمع كما قال أبو خلدة اليشكري (1): اخوة قرشوا الذنوب علينا * في حديث من دهرنا وقديم (2) وقيل سميت قريش من التقرش وهو التكسب والتجارة حكاه ابن هشام رحمه الله.
وقال الجوهري: القرش الكسب والجمع وقد قرش يقرش قال الفراء: وبه سميت قريش وهي قبيلة وأبوهم النضر بن كنانة فكل من كان من ولده فهو قرشي دون ولد كنانة فما فوقه.
وقيل من التفتيش قال هشام بن الكلبي كان النضر بن كنانة تسمى قريشا لانه كان يقرش عن خلة الناس
وحاجتهم فيسدها بماله والتقريش هو التفتيش وكان بنوه يقرشون أهل الموسم عن الحاجة فيرفدونهم بما يبلغهم بلادهم فسموا بذلك من فعلهم وقرشهم قريشا وقد قال الحارث بن حلزة في بيان أن التقرش التفتيش: أيها الناطق المقرش عنا * عند عمرو فهل له إبقاء (2) حكى ذلك الزبير بن بكار وقيل قريش تصغير قرش (3) وهو دابة في البحر قال بعض الشعراء: وقريش هي التي تسكن البح * ر بها سميت قريش قريشا قال البيهقي (4): أخبرنا أبو نصر بن قتادة أنا أبو الحسن علي بن عيسى الماليني حدثنا محمد ابن الحسن بن الخليل النسوي أن أبا كريب حدثهم حدثنا وكيع بن الجراح عن هشام بن عروة عن أبيه عن أبي ركانة العامري أن معاوية قال لابن عباس: فلم سميت قريش قريشا ؟ فقال: لدابة تكون في البحر تكون أعظم دوابه، فيقال لها القرش لا تمر بشئ من الغث والسمين إلا أكلته قال فأنشدني في ذلك شيئا فأنشد [ ته ] شعر الجمحي إذ يقول: وقريش هي التي تسكن البح * ر بها سميت قريش قريشا تأكل الغث والسمين ولا * تتركن لذي الجناحين ريشا (5) هكذا في البلاد حي قريش * يأكلون البلاد أكلا كميشا
__________
(1) في ابن هشام: أبو جلدة وفيه: من عمرنا بدل من دهرنا.
(2) في الطبري: لهن انتهاء وفي اللسان: وهل لذاك بقاء.
(3) في اللسان: قريش دابة في البحر لا تدع دابة إلا أكلتها فجميع الدواب تخافها، وروي عن ابن عباس أن النضر كان في سفينة فطلعت عليهم دابة قريش فرماها بسهم فقتلها وحملها إلى مكة فسمي باسمها (نهاية الارب 356).
(4) أخرجه في دلائل النبوة ج 1 / 180 - 181 وفيه أبي ريحانة العامري بدل من أبي ركانة.
(5) في البيهقي: ولا تترك فيها لذي جناحين ريشا.
[ * ]

(2/255)


ولهم آخر الزمان نبي * يكثر القتل فيهم والخموشا وقيل سموا بقريش بن الحارث (1) بن يخلد بن النضر بن كنانة وكان دليل بني النضر وصاحب ميرتهم فكانت العرب تقول: قد جاءت عير قريش قالوا وابن بدر بن قريش هو الذي حفر البئر المنسوبة إليه (2) التي كانت عندها الوقعة العظمى يوم الفرقان (3) يوم التقى الجمعان والله أعلم.
ويقال في النسبة إلى قريش قرشي وقريشي قال الجوهري وهو القياس.
قال الشاعر: لكل قريشي عليه مهابة * سريع إلى داعي الندا والتكرم قال فإذا أردت بقريش الحي صرفته وإن أردت القبيلة منعته قال الشاعر في ترك الصرف: * وكفى قريش المعضلات وسادها (4) * وقد روى مسلم في صحيحه من حديث أبي عمرو الاوزاعي قال: حدثني شداد أبو عمار حدثني واثلة بن الاسقع قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله [ تعالى ] اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى هاشما من قريش واصطفاني من بني هاشم " (5).
قال أبو عمر بن عبد البر يقال بنو عبد المطلب فصيلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبنو هاشم فخذه وبنو عبد مناف بطنه وقريش عمارته وبنو كنانة قبيلته ومضر شعبه صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين.
ثم قال ابن إسحاق: فولد النضر بن كنانة مالكا ومخلدا (6) قال ابن هشام والصلت وأمهم جميعا بنت سعد بن الظرب العدواني (7).
قال كثير بن عبد الرحمن وهو كثير عزة أحد بني مليح بن عمرو من خزاعة:
__________
(1) في ابن حزم: قريش بن بدر بن يخلد بن النضر.
1 / 9 وفي الطبري قريش بن بدر بن يخلد بن الحارث بن يخلد بن النضر بن كنانة.
(2) في الطبري: سميت بدرا بدرا.
(3) يوم الفرقان: وقعة بدر التي أظهر الله بها الاسلام وفرق بين الحق والباطل.
وبين بدر والمدينة سبعة برد.
(4) البيت لعدي بن الرقاع يمدح الوليد بن عبد الملك وصدره في اللسان: غلب المساميح الوليد سماحة..وقيل في قريش أن بعضهم نظر إلى النضر فقال انظروا إلى النضر كأنه جمل قريش.
وقيل سميت قريشا من أجل أنها تقرشت عن الغارات.
وقيل لغلبة قريش وقهرهم سائر القبائل.
(5) أخرجه مسلم في أول كتاب الفضائل باب فضل نسب النبي صلى الله عليه وسلم ح 1 ص 1782.
وأخرجه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح وأخرجه الامام أحمد في مسنده 4 / 107 وأخرجه البيهقي في دلائله 1 / 165 - 166.
(6) في ابن هشام والطبري: يخلد.
(7) في الطبري عكرشة بنت الحارث بن عمرو بن قيس العدواني وعند ابن إسحاق عاتكة بنت عدوان.
وفي ابن الاثير: اسمها عاتكة ولقبها عكرشة.
[ * ]

(2/256)


أليس أبي بالصلت أم ليس إخوتي * لكل هجان من بني النضر أزهرا (1) رأيت ثياب العصب مختلط السدى * بنا وبهم والحضرمي المخصرا (2) فإن لم تكونوا من بني النضر فاتركوا * أراكا بأذناب الفواتج أخضرا (3) قال ابن هشام: وبنو مليح بن عمرو يعزون إلى الصلت بن النضر (4).
قال ابن إسحاق: فولد مالك بن النضر فهر بن مالك، وأمه جندلة بنت الحارث (5) بن مضاض الاصغر وولد فهر غالبا ومحاربا والحارث وأسدا وأمهم ليلى بنت سعد بن هذيل بن مدركة (6).
قال ابن هشام: وأختهم لابيهم جندلة بنت فهر.
قال ابن إسحاق: فولد غالب بن فهر لؤي بن غالب وتيم بن غالب وهم الذين يقال لهم بنو الادرم (7) وأمهما سلمى بنت عمرو الخزاعي (8).
قال ابن هشام وقيس بن غالب وأمه سلمى بنت كعب بن عمرو الخزاعي وهي أم لؤي (9) قال ابن إسحاق: فولد لؤي بن غالب أربعة نفر كعبا وعامرا وسامة وعوفا.
قال ابن هشام ويقال: الحارث وهم جشم بن الحارث في هزان من ربيعة وسعد بن لؤي وهما بنانة في شيبان بن
ثعلبة وبنانة (10) حاضنة لهم وخزيمة بن لؤي وهم عايذة في شيبان بن ثعلبة.
__________
(1) الهجان: الكريم الاصل والعالي النسب ; والازهر: المشهور.
(2) ثياب العصب: ثياب يمنية.
الحضرمي: النعال.
والمخصرة التي تضيق من جانبيها.
(3) كذا في الاصل وفي ابن هشام الفوائج: وهي رؤوس الاودية وقيل هي عيون.
(4) الصلت بن مالك، وولده دخلوا في بني مليح من خزاعة، وهم رهط كثير بن عبد الرحمن (الانباه على قبائل الرواه 93 - 94 جمهرة ابن حزم 1 / 12).
(5) في الطبري وابن الاثير جندلة بنت عامر بن الحارث.
وقال أبو عبيدة عمر بن المثنى: سلمى بنت أد بن طابخة بن إلياس بن مضر.
(6) في الطبري: ولد فهر غالب الحارث ومحارب وأسد وعوف وجون وذئب وأمهم ليلى بنت الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل بن مدركة.
(7) الادرم: المدفون الكعبين من اللحم، وهو أيضا المنقوص الدقن وغالب كان كذلك، وبنو الادرم هم اعراب مكة، وهم من قريش الظواهر لا من قريش البطاح.
راجع الطبري.
(8) في الطبري وابن الاثير: عاتكة بنت النضر بن يخلد بن كنانة وهي أولى العواتك اللاتي ولدن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قريش.
(9) في الطبري: أم كعب ماوية.
وأم عوف الباردة بنت عوف بن غنم بن عبد الله بن غطفان خرجت إلى قومها لما مات لؤي وتزوجها سعد بن ذبيان بن بغيض وتبنى عوفا.
(10) بناتة حاضنة لهم وهي من بني القين كما عند ابن إسحاق وفي الطبري بناتة أمهم.
واعتبر الطبري مخالفا ابن هشام في أن عائذة أم خزيمة.
[ * ]

(2/257)


ثم ذكر ابن إسحاق خبر سامة بن لؤي وأنه خرج إلى عمان، فكان بها.
وذلك لشنآن كان بينه وبين أخيه عامر فأخافه عامر فخرج عنه هاربا إلى عمان وأنه مات بها غريبا وذلك أنه كان برعى (1) ناقته فعلقت حية بمشفرها فوقعت لشقها ثم نهشت الحية سامة حتى قتلته فيقال إنه كتب
بأصبعه على الارض: عين فابكي لسامة بن لؤي * علقت ما بسامة العلاقة (2) لا أرى مثل سامة بن لؤي * يوم حلوا به قتيلا لناقه بلغا عامرا وكعبا رسولا * أن نفسي إليهما مشتاقة إن تكن في عمان داري فإني * غالبي خرجت من غير فاقه رب كأس هرقت يابن لؤي * حذر الموت لم تكن مهراقه رمت دفع الخوف يابن لؤي * ما لمن رام ذاك بالحتف طاقه وخروس السرى تركت رزيا * بعد جد وحدة ورشاقه (3) قال ابن هشام: وبلغني أن بعض ولده أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فانتسب إلى سامة بن لؤي فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الشاعر ؟ فقال له بعض أصحابه: كأنك يارسول الله أردت قوله " ؟ رب كأس هرقت يابن لؤي * حذر الموت لم تكن مهراقه فقال: " أجل ".
وذكر السهيلي عن بعضهم أنه لم يعقب.
وقال الزبير ولد أسامة (4) بن لؤي غالبا والنبيت والحارث قالوا وكانت له ذرية بالعراق (5) يبغضون عليا ومنهم علي بن الجعد كان يشتم أباه لكونه سماه عليا ومن بني سامة بن لؤي محمد بن عرعرة بن اليزيد شيخ البخاري (6).
__________
= ووافق ابن قتيبة في المعارف، والسيرة في اعتبار الحارث ولدا للؤي وخالفهما الطبري وابن دريد حيث لم يذكر في ولد لؤي اسما للحارث.
(1) كذا بالاصل، وفي ابن هشام: بينا هو يسير على ناقته، إذ وضعت رأسها ترتع فأخذت حية بمشفرها فهصرتها حتى وقعت الناقة.
ويخالف صاحب الاغاني في روايته لقصة سامة بن إسحاق، بل كان الخلاف بين سامة وأخيه كعب.
(2) العلاقة: هنا: الحية التي تعلقت بالناقة.
(3) خروس السرى: يريد ناقة صموتا على السرى لا تضجر منه.
رزيا في ابن هشام رديا والردى: التي سقطت من الاعياء.
(4) كذا بالاصل والصواب سامة.
(5) وهم بنو ناجية الذين قتلهم علي رضي الله عنهم على الردة وسباهم كما عند ابن حزم في الجمهرة ص 13 والاغاني ووفيات الاعيان 1 / 349.
(6) كذا في الاصل اليزيد وهو تصحيف.
[ * ]

(2/258)


وقال ابن إسحاق: وأما عوف بن لؤي فإنه خرج - فيما يزعمون - في ركب من قريش حتى إذا كان بأرض غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان، أبطئ به، فانطلق من كان معه من قومه، فأتاه ثعلبة بن سعد، وهو أخوه في نسب بني ذبيان، فحبسه وزوجه والتاطه (1) وآخاه.
فشاع نسبه في ذبيان.
وثعلبة - فيما يزعمون - (2).
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن جعفر (3) بن الزبير أو محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله ابن الحصين أن عمر بن الخطاب قال: لو كنت مدعيا حيا من العرب أو ملحقهم بنا لادعيت بني مرة بن عوف، إنا لنعرف منهم الاشباه مع ما نعرف من موقع ذلك الرجل حيث وقع يعني عوف بن لؤي.
قال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم أن عمر بن الخطاب قال لرجال منهم من بني مرة: إن شئتم أن ترجعوا إلى نسبكم فارجعوا إليه.
قال ابن إسحاق: وكان القوم أشرافا في غطفان، هم سادتهم وقادتهم (4).
قوم لهم صيت في غطفان وقيس كلها فأقاموا على نسبهم قالوا وكانوا يقولون إذا ذكر لهم نسبهم ما ننكره وما نجحده وإنه لاحب النسب إلينا ثم ذكر أشعارهم في انتمائهم إلى لؤي قال ابن إسحاق: وفيهم كان البسل (5) وهو تحريم ثمانية أشهر لهم من كل سنة من بين العرب وكانت العرب تعرف لهم ذلك ويأمنونهم فيها ويؤمنونهم أيضا قلت: وكانت ربيعة ومضر إنما يحرمون أربعة أشهر من السنة وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم واختلفت ربيعة ومضر في الرابع وهو رجب فقالت: مضر هو الذي بين جمادى وشعبان وقالت ربيعة
__________
= هو محمد بن عريرة بن البرند كما في تقريب التهذيب والكاشف للذهبي وشذرات الذهب توفي سنة 213 ه.
روى عنه البخاري.
(1) تقدم التعليق على خروج أم عوف الباردة وزواجها في بني ذبيان.
إلتاطه: ألصقه به، وضمه إليه وألحقه بنسبه.
(2) نقص في العبارة، لعل الساقط سهوا من الناسخ، وتكملته كما في ابن هشام: " الذي يقول لعوف حين أبطئ به فتركه قومه: أحبس علي ابن لؤي جملك * تركك القوم ولا منزل لك وفي الطبري القائل فزارة بن ذبيان وأوله: عرج علي.
(3) ينتمي إلى الزبير بن العوام الاسدي حدث عن عمه عروة وابن عمه عباد بن عبيد الله كان فقيها عالما وثقه النسائي.
وابن سعد والدارقطني وذكره البخاري في الاوسط.
(4) ومنهم: هرم بن سنان بن مرة بن أبي حارثة، وخارجة بن سنان، والحارث بن عوف، والحصين بن حمام وهاشم بن حرملة.
(5) البسل: الحلال والحرام فهو من الاضداد.
[ * ]

(2/259)


هو الذي بين شعبان وشوال وقد ثبت في الصحيحين (1) عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبة حجة الوداع: " إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السموات والارض السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان " فنص على ترجيح قول مضر لا ربيعة وقد قال الله عزوجل: (إن عدة الشهور عند الله اثني عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والارض منها أربعة حرم) فهذا رد على بني عوف بن لؤي في جعلهم الاشهر الحرم ثمانية فزادوا على حكم الله وأدخلوا فيه ما ليس منه وقوله في الحديث ثلاث متواليات رد على أهل النسئ الذين كانوا يؤخرون تحريم المحرم إلى صفر.
وقوله فيه ورجب مضر رد على ربيعة.
قال ابن إسحاق: فولد كعب بن لؤي ثلاثة، مرة، وعديا، وهصيصا وولد مرة، ثلاثة
أيضا كلاب بن مرة، وتيم بن مرة، ويقظة بن مرة من أمهات ثلاث (2).
قال وولد كلاب رجلين قصي (3) بن كلاب وزهرة بن كلاب وأمهما فاطمة بنت سعد بن سيل أحد [ بني ] الجدرة عمن جعثمة الاسد من اليمن حلفاء بني الديل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة وفي أبيها يقول الشاعر: ما نرى في الناس شخصا واحدا * من علمناه كسعد بن سيل فارسا أضبط فيه عسرة * وإذا ما واقف القرن نزل (4) فارسا يستدرج الخيل كما اس * تدرج الحر القطامي الحجل (5) قال السهيلي: سيل اسمه خير بن جمالة (6) وهو أول من طليت له السيوف بالذهب والفضة.
قال ابن إسحاق: وإنما سمو الجدرة، لان عامر بن عمرو بن خزيمة (7) بن جعثمة تزوج بنت الحارث بن مضاض الجرهمي وكانت جرهم إذ ذاك ولاة البيت.
فبنى للكعبة جدارا فسمي عامر بذلك الجادر فقيل لولده الجدرة لذلك.
__________
(1) رواه البخاري عن ابي بكرة بن أبي شيبة في 64 كتاب المغازي 77 باب حجة الوداع.
ومسلم في 28 كتاب القسامة (9) باب تغليط الدماء ج 29 ص 3 / 1305.
(2) في الطبري أم كلاب هند بنت سرير بن ثعلبة بن الحارث بن فهر بن مالك من بني كنانة.
وتيم ويقظة أمهما كما ذكر ابن الكلبي: اسماء بنت عدي بن حارثة وأما ابن إسحاق فقال أمهما: هند بنت حارثة البارقية.
(3) قصي اسمه زيد مات أبوه وهو فطيم فخرجت امه وتزوجت في بني ربيعة فسمى زيد قصيا لبعده عن دار قومه (راجع الطبري).
(4) الاضبط الذي يعمل بكلتا يديه.
والقرن: الذي يقاوم بصلابة في الحرب.
(5) الحر القطامي: هنا - يعني الصقر.
(6) وفي الطبري: خير بن حمالة بن عوف بن غنم بن عامر الجادر بن عمرو بن جعثمة.
(7) في الطبري والروض الانف: عمرو بن جعثمة، باسقاط خزيمة.
[ * ]

(2/260)


خبر قصي بن كلاب وارتجاعه ولاية البيت إلى قريش وانتزاعه ذلك من خزاعة وذلك أنه لما مات أبوه كلاب تزوج أمه ربيعة بن حرام من عذرة وخرج بها وبه إلى بلاده ثم قدم قصي مكة وهو شاب فتزوج حبى ابنة رئيس خزاعة حليل بن حبشية (1).
فأما خزاعة فزعم أن حليلا أوصى إلى قصي بولاية البيت لما رأى من كثرة نسله من ابنته وقال أنت أحق بذلك مني.
قال ابن إسحاق: ولم نسمع ذلك إلا منهم وأما غيرهم فإنهم يزعمون أنه استغاث بإخوته من أمه وكان رئيسهم رزاح بن ربيعة وأخوته وبني كنانة وقضاعة ومن حول مكة من قريش وغيرهم فأجلاهم عن البيت واستقل هو بولاية البيت لان إجازة الحجيج كانت إلى صوفة (2) وهم بنو الغوث بن مر بن أد بن طابخة بن الياس بن مضر فكان الناس لا يرمون الجمار حتى يرموا ولا ينفرون من منى حتى ينفروا فلم يزل كذلك فيهم حتى انقرضوا فورثهم ذلك بالقعدد بنو سعد بن زيد مناة بن تميم فكان أولهم صفوان بن الحارث بن شجنة بن عطارد بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم وكان ذلك في بيته حتى قام على آخرهم الاسلام وهو كرب بن صفوان.
وكانت الاجازة من المزدلفة في عدوان حتى قام الاسلام على آخرهم وهو أبو سيارة عميلة بن الاعزل وقيل اسمه العاص واسم الاعزل خالد وكان يجيز بالناس على أتان له عوراء مكث يدفع عليها في الموقف أربعين سنة وهو أول من جعل الدية مائة وأول من كان يقول أشرق ثبير كيما نغير حكاه السهيلي.
__________
(1) والسبب في عودته إلى مكة كما يرويه الطبري وابن إسحاق ; هو تعييره بنسبه لانه ادعى في بني ربيعة، ومرة تساب مع آخر فعيره وقال له: لست منا..فأخبرته أمه بنسبه وشرفه فعاد إلى مكة في حاج قضاعة.
وفي مكة تزوج حبى بنت حليل.
وأقام قصي في مكة مع حليل وولدت له حبى عبد الدار وعبد مناف وعبد العزى فلما انتشر ماله وعظم شرفه هلك حليل فرأى قصي أنه أولى بالكعبة وأمر مكة من خزاعة وبني بكر.
فكلم رجالا من قريش وبني كنانة لمساعدته، وكتب إلى أخيه في بني ربيعة..فاقتتلوا بمفضى مأزمي منى وكثرت القتلى في الحرم ودخلت قبائل العرب بينهم واصطلحوا على أن يحكموا بينهم يعمر بن عوف..فحكم إلى قصي بحجابة الكعبة وولاية البيت.
وقيل إن حليل كان ربما أعطى المفاتيح إلى ابنته حبى لما كبر وضعف، وربما كان قصي أخذها في بعض الاحيان ففتح البيت للناس وأغلقه ولما هلك حليل أوصى بولاية البيت لقصي فرفضت خزاعة فهاجت الحرب بينها وبينه.
ويذكر أيضا أن حليل لما كبر وضعف اعطى أبا غبشان المفاتيح وهو من خزاعة فابتاعها منه قصي بزق خمر.
وصارت ولاية البيت له.
(راجع الطبري - ابن هشام - الروض الانف - ابن الاثير - الازرقي).
(2) صوفة وهم الغوث وولده وسمي صوفة لان أمه حين جعلته ربيطا في الكعبة علقت برأسه صوفة ; وقيل ألبسته ثوبا من الصوف.
ويقال: إن من ولي من البيت شيئا من غير أهله أو قام بخدمة في البيت يقال لهم صوفة وصوفان.
[ * ]

(2/261)


وكان عامر بن الظرب العدواني لا يكون بين العرب نائرة (1) إلا تحاكموا إليه فيرضون بما يقضي به فتحاكموا إليه مرة في ميراث خنثى فبات ليلته ساهرا يتروى ماذا يحكم به فرأته جارية له كانت ترعى عليه غنمه اسمها سخيلة، فقالت له مالك لا أبالك ؟ الليلة ساهرا ؟ فذكر لها ما هو - مفكر فيه، وقال لعلها يكون عندها في ذلك شئ فقالت اتبع القضاء المبال (2) فقال فرجتها والله يا سخيلة وحكم بذلك.
قال السهيلي: وهذا الحكم من باب الاستدلال بالامارات والعلامات وله أصل في الشرع قال الله تعالى: (وجاءوا على قميصه بدم كذب) [ يوسف: 18 ] حيث لا أثر لانياب الذئب فيه.
وقال تعالى: (إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين) [ يوسف: 26 - 27 ].
وفي الحديث: " انظروها فإن جاءت به أورق جعدا جماليا فهو للذي رميت به ".
قال ابن إسحاق: وكان النسئ في بني فقيم بن عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر.
قال ابن إسحاق: وكان أول من نسأ الشهور على العرب، القلمس (3) وهو حذيفة بن عبد بن فقيم بن عدي ثم قام بعده ابنه عباد ثم
قلع بن عباد ثم أمية بن قلع ثم عوف بن أمية ثم كان آخرهم أبو ثمامة جنادة بن عوف بن قلع بن عباد بن حذيفة وهو القلمس فعلى أبي ثمامة قام الاسلام (4) وكانت العرب إذا فرغت من حجها اجتمعت إليه فخطبهم فحرم الاشهر الحرم فإذا أراد أن يحل منها شيئا أحل المحرم وجعل مكانه صفرا ليواطئوا عدة ما حرم الله فيقول: (اللهم إني أحللت أحد الصفرين الصفر الاول وانسأت الآخر للعام المقبل) فتتبعه العرب في ذلك ففي ذلك يقول عمير بن قيس أحد بني فراس بن غنم [ بن ثعلبة ] بن مالك بن كنانة ويعرف عمير بن قيس هذا بجدل الطعان (5): لقد علمت معد أن قومي * كرام الناس أن لهم كراما
__________
(1) النائرة: الكائنة الشنيعة تكون بين القوم.
(2) أي دعه يقعد، كما في ابن إسحاق، فإن بال من حيث يبول الرجل فهو رجل، وإن بال من حيث تبول المرأة فهي امرأة.
(3) القلمس: سمي به لجوده إذ القلمس من أسماء البحار.
(4) قال السهيلي: وجدت له خبرا يدل على أنه أسلم فإنه حضر الحج في زمن عمر فرأى الناس يزدحمون على الحجر الاسود فقال: أيها الناس: إني قد أجرته منكم فخفقه عمر بالدرة.
وقال ويحك إن الله قد أبطل أمر الجاهلية.
الاصابة ج 1 / 247.
(5) في ابن هشام جذل الطعان سمي بذلك لثباته في الحرب كأنه جذل شجرة واقف.
وقال أبو عبيدة جذل الطعان هو علقمة بن فراس بن غنم بن ثعلبة بن مالك بن كنانة انظر (سيرة ابن هشام - الروض الانف - شرح السيرة لابي ذر).
[ * ]

(2/262)


فأي الناس فاتونا بوتر * وأي الناس لم نعلك لجاما (1) ألسنا الناسئين على معد * شهور الحل نجعلها حراما وكان قصي في قومه سيدا رئيسا مطاعا معظما والمقصود أنه جمع قريشا من متفرقات مواضعهم من جزيرة العرب واستعان بمن أطاعه من أحياء العرب على حرب خزاعة وإجلائهم عن البيت
وتسليمه إلى قصي فكان بينهم قتال (2) كثيرة ودماء غزيرة ثم تداعوا إلى التحكيم فتحاكموا إلى يعمر بن عوف بن كعب بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة فحكم بأن قصيا أولى بالبيت من خزاعة وأن كل دم أصابه قصي من خزاعة وبني بكر موضوع بشدخه تحت قدميه وأن ما أصابته خزاعة وبنو بكر من قريش وكنانة وقضاعة ففيه الدية مؤداة وأن يخلى بين قصي وبين مكة والكعبة فسمي يعمر يومئذ الشداخ.
قال ابن إسحاق: فولى قصي البيت وأمر مكة، وجمع قومه من منازلهم إلى مكة، وتملك على قومه وأهل مكة فملكوه، إلا أنه أقر العرب على ما كانوا عليه، لانه يرى ذلك دينا في نفسه لا ينبغي تغييره فأقر آل صفوان وعدوان والنسأة ومرة بن عوف على ما كانوا عليه، حتى جاء الاسلام فهدم الله به ذلك كله، قال [ ابن إسحاق ] فكان قصي أول بني كعب أصاب ملكا أطاع له به قومه وكانت إليه الحجابة والسقاية والرفادة والندوة واللواء (3).
، فحاز شرف مكة كله.
وقطع مكة رباعا بين قومه، فأنزل كل قوم من قريش منازلهم من مكة.
قلت: فرجع الحق إلى نصابه، ورد شارد العدل بعد إيابه، واستقرت بقريش الدار، وقضت من خزاعة المراد والاوطار، وتسلمت بيتهم العتيق القديم لكن بما أحدثت خزاعة من عبادة الاوثان ونصبها إياها حول الكعبة ونحرهم لها وتضرعهم عندها واستنصارهم بها وطلبهم الرزق منها.
وأنزل قصي قبائل قريش أباطح مكة، وأنزل طائفة منهم ظواهرها، فكان يقال قريش البطاح، وفريش الظواهر.
فكانت لقصي بن كلاب جميع الرئاسة من حجابة البيت وسدانته واللواء وبنى دارا لازاحة الظلمات وفصل الخصومات سماها دار الندوة إذا أعضلت قضية
__________
(1) الوتر: طلب الثأر.
(2) اقتتلوا عند مفضى مأزمي منى.
فسمي المكان المفجر لما فجر فيه وسفك فيه من الدماء وانتهك من حرمته (الازرقي 1 / 106).
(3) زاد الازرقي: القيادة.
والحجابة: أن تكون مفاتيح البيت عنده لا يدخله أحد إلا بإذنه.
السقاية: يعني سقاية زمزم.
الرفادة: طعام تجمعه قريش كل عام لاهل الموسم.
الندوة: دار تخذها قصي للاجتماع بأهل المشورة والرأي.
[ * ]

(2/263)


اجتمع الرؤساء من كل قبيلة فاشتوروا فيها وفصلوها ولا يعقد عقد لواء ولا عقد نكاح إلا بها ولا تبلغ جارية أن تدرع فتدرع إلا بها وكان باب هذه الدار إلى المسجد الحرام.
ثم صارت هذه الدار فيما بعد إلى حكيم بن حزام (1) بعد بني عبد الدار فباعها في زمن معاوية بمائة ألف درهم فلامه على بيعها معاوية، وقال بعت شرف قومك بمائة ألف ؟ فقال إنما الشرف اليوم بالتقوى والله لقد ابتعتها في الجاهلية بزق خمر وها أنا قد بعتها بمائة ألف وأشهدكم أن ثمنها صدقة في سبيل الله فأينا المغبون.
ذكره الدارقطني في أسماء رجال الموطأ وكانت إليه سقاية الحجيج فلا يشربون إلا من ماء حياضه وكانت زمزم إذ ذاك مطموسة من زمن جرهم قد تناسوا أمرها من تقادم عهدها ولا يهتدون إلى موضعها قال الواقدي: وكان قصي أول من أحدث وقيد النار بالمزدلفة ليهتدي إليها من يأتي من عرفات.
والرفادة وهي إطعام الحجيج أيام الموسم إلى أن يخرجوا راجعين إلى بلادهم.
قال ابن إسحاق: وذلك أن قصيا فرضه عليهم فقال لهم: يا معشر قريش إنكم جيران الله وأهل مكة وأهل الحرم، وأن الحجاج ضيف الله وزوار بيته، وهم أحق بالضيافة، فاجعلوا لهم طعاما وشرابا أيام الحج، حتى يصدروا عنكم.
ففعلوا فكانوا يخرجون لذلك في كل عام من أموالهم خرجا فيدفعونه إليه، فيصنعه طعاما للناس أيام منى.
فجرى ذلك من أمره في الجاهلية حتى قام الاسلام، ثم جرى في الاسلام إلى يومك هذا.
فهو الطعام الذي يصنعه السلطان كل عام بمنى للناس حتى ينقضي الحج.
قلت: ثم انقطع هذا بعد ابن إسحاق ثم أمر بإخراج طائفة من بيت المال فيصرف في حمل زاد وماء لابناء السبيل القاصدين إلى الحج وهذا صنيع حسن من وجوه يطول ذكرها، ولكن الواجب أن يكون ذلك من خالص بيت المال، من أحل ما فيه والاولى أن يكون من جوالي الذمة
لانهم لا يحجون البيت العتيق وقد جاء في الحديث: " من استطاع الحج فلم يحج فليمت إن شاء يهوديا أو نصرانيا " (2).
وقال قائلهم (3) في مدح قصي وشرفه في قومه: قصي لعمري كان يدعى مجمعا * به جمع الله القبائل من فهر
__________
(1) هو حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي.
وفي ابن الاثير ج 2 / 23: أن عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار باعها من معاوية فجعلها دار الامارة بمكة.
وفي جمهرة ابن حزم أن عكرمة كانت له الندوة وباعها من حكيم بن حزام في الجاهلية ولعله الصواب إذ أن حكيم الذي باعها زمن معاوية.
(2) تقدم تخريجه.
(3) هو حذافة بن غانم الجمحي كما في الازرقي: وفيه: أبوهم قصي.
[ * ]

(2/264)


هموا ملاوا البطحاء مجدا وسؤددا * وهم طردوا عنا غواة بني بكر قال ابن إسحاق: ولما فرغ قصي من حربه انصرف أخوه رزاح بن ربيعة إلى بلاده بمن معه واخوته من أبيه الثلاثة وهم حن ومحمود وجلهمة (1).
قال رزاح في إجابته قصيا: ولما أتى من قصي رسول * فقال الرسول أجيبوا الخليلا نهضنا إليه نقود الجيا * د ونطرح عنا الملول الثقيلا نسير بها الليل حتى الصبا * ح ونكمي النهار لئلا نزولا (2) فهن سراع كورد القصا * يجبن بنا من قصي رسولا جمعنا من السر من اشمذين * ومن كل حي جمعنا قبيلا (3) فيا لك حلبة ما ليلة * تزيد على الالف سيبا رسيلا فلما مررن على عسجر * وأسهلن من مستناخ سبيلا (4)
وجاوزن بالركن من ورقا * ن وجاوزن بالعرج حيا حلولا (5) مررن على الحلي ما ذقنه * وعالجن من مر ليلا طويلا (6) ندني من العوذ أفلاءها * إرادة أن يسترقن الصهيلا (7) فلما انتهينا إلى مكة * أبحنا الرجال قبيلا قبيلا نعاورهم ثم حد السيو * ف وفي كل أوب خلسنا العقولا نخبزهم بصلاب النسو * ر خبز القوي العزيز الذليلا (8) قتلنا خزاعة في دارها * وبكرا قتلنا وجيلا فجيلا نفيناهم من بلاد الملي * ك كما لا يحلون أرضا سهولا فأصبح سيبهم في الحدي * د ومن كل حي شفينا الغليلا قال ابن إسحاق: فلما رجع رزاح إلى بلاده نشره الله ونشر حنا، فهما قبيلا عذرة إلى اليوم.
قال ابن إسحاق: وقال قصي بن كلاب في ذلك: أنا ابن العاصمين بني لؤي * بمكة منزلي وبها ربيت
__________
(1) في الطبري هؤلاء ليس بأخوته بل أولاد ربيعة بن حرام من امرأة أخرى غير أم قصي.
(2) نكمي: نكمن.
(3) الاشمذين، قيل قبيلتان.
وقيل جبلان بين المدينة وخيبر.
(4) في ابن هشام عسجد وكلاهما موضع بعينه (انظر معجم البلدان).
(5) ورقان والعرج موضعان: جبل وواد.
(معجم البلدان ومعجم ما استعجم).
(6) في ابن هشام: الحل - (7) العوذ: جمع عائذ: وهي الناقة التي لها أولاد.
(8) نخبزهم: نسوقهم سوقا شديدا.
[ * ]

(2/265)


إلى البطحاء قد علمت معد * ومروتها رضيت بها رضيت
فلست لغالب أن لم تأثل * بها أولاد قيذر والنبيت (1) رزاح ناصري وبه أسامي * فلست أخاف ضيما ما حييت وقد ذكر الاموي عن الاشرم عن أبي عبيدة عن محمد بن حفص: أن رزاحا إنما قدم بعدما نفى قصي خزاعة والله أعلم.
فصل ثم لما كبر قصي فوض أمر هذه الوظائف التي كانت إليه من رئاسات قريش وشرفها من الرفادة والسقاية والحجابة واللواء والندوة إلى ابنه عبد الدار وكان أكبر ولده.
وإنما خصصه بها كلها لان بقية أخوته عبد مناف وعبد الشمس وعبدا كانوا قد شرفوا في زمن أبيهم وبلغوا في قوتهم شرفا كبيرا فأحب قصي أن يلحق بهم عبد الدار في السؤدد فخصصه (2) بذلك فكان أخوته لا ينازعونه في ذلك فلما انقرضوا تشاجر أبناؤهم في ذلك وقالوا إنما خصص قصي عبد الدار بذلك ليلحقه بإخوته فنحن نستحق ما كان آباؤنا يستحقونه وقال بنو عبد الدار هذا أمر جعله لنا قصي فنحن أحق به واختلفوا اختلافا كثيرا وانقسمت بطون قريش فرقتين ففرقة بايعت عبد الدار وحالفتهم وفرقة بايعت بني عبد مناف وحالفوهم على ذلك ووضعوا أيديهم عند الحلف في جفنة (3) فيها طيب ثم لما قاموا مسحوا أيديهم بأركان الكعبة فسموا حلف المطيبين.
وكان منهم من قبائل قريش بنو أسد بن عبد العزى بن قصي وبنو زهرة وبنو تيم وبنو الحارث بن فهر وكان مع بني عبد الدار بنو مخزوم وبنو سهم وبنو جمح وبنو عدي (4) واعتزلت بنو عامر بن لؤي ومحارب بن فهر الجميع فلم يكونوا مع واحد منهما ثم اصطلحوا واتفقوا على أن تكون الرفادة والسقاية لبني عبد مناف وأن تستقر الحجابة واللواء والندوة في بني عبد الدار فانبرم الامر على ذلك واستمر.
وحكى الاموي عن الاشرم عن أبي عبيدة قال: وزعم قوم من خزاعة أن قصيا لما تزوج حبى بنت حليل ونقل حليل عن ولاية البيت جعلها إلى ابنته حبى واستناب عنها أبا غبشان
__________
(1) قيذر والنبيت من أولاد اسماعيل عليه السلام.
(2) قال له قصي: أما والله لالحقنك بالقوم وإن كانوا قد شرفوا عليك لا يدخل رجل منهم الكعبة حتى تكون أنت
تفتحها..فأعطاه دار الندوة التي لا تقضي قريش أمرا إلا فيها.
(الطبري - ابن الاثير - ابن هشام).
(3) التي أعطتهم الجفنة هي أم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب عمة النبي صلى الله عليه وسلم وتوأمة أبيه (جمهرة ابن حزم - الروض الانف).
(4) في الطبري وابن الاثير وابن هشام: وتعاقد بنو عبد الدار وتعاهدوا وحلفاؤهم عند الكعبة حلفا مؤكدا، على أن لا يتخاذلوا ولا يسلم بعضهم بعضا، فسموا الاحلاف.
وتعبوا للقتال.
ثم تداعوا إلى الصلح وتحاجز الناس عن الحرب.
[ * ]

(2/266)


سليم بن عمرو بن لؤي بن ملكان بن قصي بن حارثة بن عمرو بن عامر فاشترى قصي ولاية البيت منه بزق خمر وقعود فكان يقال (أخسر من صفقة أبي غبشان) ولما رأت خزاعة ذلك اشتدوا على قصي فاستنصر أخاه فقدم بمن معه وكان ما كان ثم فوض قصي هذه الجهات التي كانت إليه من السدانة والحجابة واللواء والندوة والرفادة والسقاية إلى ابنه عبد الدار كما سيأتي تفصيله وإيضاحه وأقر الاجازة من مزدلفة في بني عدوان وأقر النسئ في فقيم وأقر الاجازة وهو النفر في صوفة كما تقدم بيان ذلك كله مما كان بأيديهم قبل ذلك.
قال ابن إسحاق: فولد قصي أربعة نفر وامرأتين عبد مناف وعبد الدار وعبد العزى وعبدا وتخمر (1) وبرة، وأمهم كلهم حبى بنت حليل بن حبشية بن سلول بن كعب بن عمرو الخزاعي وهو آخر من ولي البيت من خزاعة ومن يده أخذ البيت قصي بن كلاب.
قال ابن هشام: فولد عبد مناف بن قصي أربعة نفر هاشما وعبد شمس والمطلب وأمهم عاتكة بنت مرة بن هلال ونوفل ين عبد مناف وأمه واقدة بنت عمرو المازنية.
قال ابن هشام: وولد لعبد مناف أيضا أبو عمرو وتماضر وقلابة وحية وريطة وأم الاخثم وأم سفيان.
قال ابن هشام: وولد هاشم بن عبد مناف أربعة نفر، وخمس نسوة: عبد المطلب، وأسدا، وأبا صيفي، ونضلة والشفا، وخالدة وضعيفة، ورقية، وحية ; فأم عبد المطلب ورقية: سلمى بنت عمرو بن زيد بن لبيد (2) بن خداش بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار من المدينة وذكر أمهات الباقين (3).
قال وولد
عبد الملطب عشرة نفر وست نسوة وهم العباس وحمزة وعبد الله وأبو طالب - واسمه عبد مناف - لا عمران والزبير والحارث، وكان بكر أبيه وبه كان يكنى، وجحل، ومنهم من يقول حجل، وكان يلقب بالغيداق لكثرة خيره، والمقوم وضرار وأبو لهب - واسمه عبد العزى - وصفية، وأم حكيم البيضاء، وعاتكة، وأميمة، وأروى، وبرة، وذكر أمهاتهم إلى أن قال وأم عبد الله وأبي طالب والزبير وجميع النساء إلا صفية فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.
قال [ ابن هشام ] فولد عبد الله محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم وأمه آمنة بنت وهب بن
__________
(1) لم يرد ذكر تخمر في الطبري.
وعند ابن الاثير لم يذكر إلا أولاده البنين الاربعة.
وعبدا، عبد قصي في الطبري وابن الاثير.
(2) في الطبري: ابن لبيد بن حرام.
وفي رواية عنده وعند ابن الاثير، اسمها: سلمى بنت عمرو بن زيد الخزرجية النجارية.
(3) أم أسد: قيلة بنت عامر بن مالك الخزاعية ; وأم أبي صيفي وحية: هند بنت عمرو بن ثعلبة الخزرجية، وأم نضلة والشفاء امرأة من قضاعة، وأم خالدة وضعيفة واقدة بنت أبي عدي المازنية.
(ابن هشام).
[ * ]

(2/267)


عبد مناف بن زهرة (1) بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي ثم ذكر أمهاتها فأغرق إلى أن قال فهو أشرف ولد آدم حسبا، وأفضلهم نسبا من قبل أبيه وأمه صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين.
وقد تقدم حديث الاوزاعي عن شداد أبي عمار عن واثلة بن الاسقع قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشا من كنانة واصطفى هاشما من قريش واصطفاني من بني هاشم " رواه مسلم وسيأتي بيان مولده الكريم وما ورد فيه من الاخبار والآثار وسنورد عند سرد النسب فوائد أخر ليست هاهنا إن شاء الله تعالى وبه الثقة وعليه التكلان.
ذكر جمل من الاحداث في الجاهلية
قد تقدم ما كان من أخذ جرهم ولاية البيت من بني إسماعيل طمعوا فيهم لانهم أبناء بناتهم وما كان من توثب خزاعة على جرهم وانتزاعهم ولاية البيت منهم ثم ما كان من رجوع ذلك إلى قصي وبنيه واستمرار ذلك في أيديهم إلى أن بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم فأقر تلك الوظائف على ما كانت عليه.
ذكر جماعة مشهورين في الجاهلية خبر خالد بن سنان العبسي الذي كان في زمن الفترة وقد زعم بعضهم أنه كان نبيا والله أعلم.
قال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا أحمد بن زهير التستري حدثنا يحيى بن المعلى بن منصور الرازي حدثنا محمد بن الصلت حدثنا قيس بن الربيع عن سالم الافطس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: قال: جاءت بنت خالد بن سنان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فبسط لها ثوبه وقال: " بنت نبي ضيعه قومه ".
وقد رواه الحافظ أبو بكر البزار عن يحيى بن المعلى بن منصور عن محمد بن الصلت عن قيس عن سالم عن سعيد عن ابن عباس.
قال ذكر خالد بن سنان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " ذاك نبي ضيعه قومه ".
ثم قال ولا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه وكان قيس بن الربيع (2) ثقة في نفسه إلا أنه كان ردئ الحفظ وكان له ابن يدخل في أحاديثه ما ليس منها والله أعلم.
قال البزار وقد رواه الثوري عن سالم الافطس عن سعيد بن جبير مرسلا وقال الحافظ أبو
__________
(1) ذهب ابن قتيبة في المعارف إلى القول أن زهرة اسم امرأة عرف بها بنو زهرة، وهو خطأ على ما ورد عند ابن إسحاق والطبري وغيرهما أن زهرة هو جد بني زهرة وهو زهرة بن كلاب ومن ولده الحارث وعبد مناف ومن ولد عبد مناف وهب (انظر جمهرة الانساب ص 128).
(2) قيس بن الربيع أبو محمد الكوفي صدوق تغير لما كبر، مات سنة بضع وستين ومائة وقال العجلي: الناس يضعفونه.
وقال ابن معين: ليس بشئ وقال أبو حاتم: ليس بقوي وقال ابن عدي: عامة رواياته مستقيمة (ثقات العجلي - الكاشف 2 / 348 - التقريب 2 / 128).
[ * ]

(2/268)


يعلي الموصلي: حدثنا المعلى بن مهدي الموصلي قال حدثنا أبو عوانة عن أبي يونس عن عكرمة عن ابن عباس أن رجلا من عبس يقال له خالد بن سنان قال لقومه: إني أطفئ عنكم نار الحرتين فقال له رجل من قومه (1) والله يا خالد ما قلت لنا قط إلا حقا فما شأنك وشأن نار الحرتين تزعم أنك تطفئها فخرج خالد ومعه أناس من قومه فيهم عمارة بن زياد فأتوها فإذا هي تخرج من شق جبل فخط لهم خالد خطة فأجلسهم فيها فقال إن أبطأت عليكم فلا تدعوني باسمي فخرجت كأنها خيل شقر يتبع بعضها بعضا فاستقبلها خالد فجعل يضربها بعصاه وهو يقول: بدا بدا بدا كل هدى زعم ابن راعية المعزى أني لا أخرج منها وثيابي بيدي حتى دخل معها الشق فأبطأ عليهم فقال لهم عمارة بن زياد والله إن صاحبكم لو كان حيا لقد خرج إليكم بعد قالوا فادعوه باسمه.
قال فقالوا إنه قد نهانا أن ندعوه باسمه فدعوه باسمه فخرج وهو آخذ برأسه فقال ألم أنهكم أن تدعوني باسمي فقد والله قتلتموني فادفنوني فإذا مرت بكم الحمر فيها حمار أبتر فأنبشوني فإنكم تجدوني حيا فدفنوه فمرت بهم الحمر فيها حمار أبتر فقلنا أنبشوه فإنه أمرنا أن ننبشه فقال لهم عمارة لا تنبشوه لا والله لا تحدث مضر أن ننبش موتانا وقد كان قال لهم خالد إن في عكن امرأته لوحين فإن أشكل عليكم أمر فانظروا فيها فإنكم ستجدون ما تسألون عنه قال ولا يمسهما حائض فلما رجعوا إلى امرأته سألوها عنهما فأخرجتهما إليهم وهي حائض فذهب ما كان فيهما من علم (2).
قال أبو يونس: قال سماك بن حرب سئل عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " ذاك نبي أضاعه قومه " قال أبو يونس: قال سماك بن حرب إن ابن خالد بن سنان أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " مرحبا بابن أخي ".
فهذا السياق موقوف على ابن عباس وليس فيه أنه كان نبيا والمرسلات التي فيها أنه نبي لا يحتج بها هاهنا والاشبه أنه كان رجلا صالحا له أحوال وكرامات فإنه إن كان في زمن الفترة فقد ثبت في صحيح البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن أولى الناس بعيسى بن مريم أنا لانه ليس بيني وبينه نبي ".
وإن كان قبلها فلا يمكن أن يكون نبيا لان الله تعالى قال: (لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك) (3) وقد قال غير واحد من العلماء إن الله تعالى لم يبعث بعد إسماعيل نبيا في
العرب إلا محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم الانبياء الذي دعا به إبراهيم الخليل باني الكعبة المكرمة التي جعلها الله قبلة لاهل الارض شرعا وبشرت به الانبياء لقومهم حتى كان آخر من بشر به عيسى بن مريم عليه السلام وبهذا المسلك بعينه يرد ما ذكره السهيلي وغيره من إرسال نبي من العرب يقال له شعيب بن ذي مهذم بن شعيب بن صفوان صاحب مدين وبعث إلى العرب أيضا حنظلة بن صفوان فكذبوهما فسلط الله على العرب بخت نصر فنال منهم من القتل والسبي نحو ما نال من بني
__________
(1) في المستدرك للحاكم قال: هو عمارة بن زياد.
(2) من الاساطير الغريبة ليس من سبيل لتصديقها والقبول بها.
(3) سورة السجدة الآية 3.
[ * ]

(2/269)


إسرائيل وذلك في زمن معد بن عدنان والظاهر أن هؤلاء كانوا قوما صالحين يدعون إلى الخير والله أعلم.
وقد تقدم ذكر عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف في أخبار خزاعة بعد جرهم.
حاتم الطائي أحد أجواد الجاهلية وهو حاتم بن عبد الله بن سعد بن الحشرج بن امرئ القيس بن عدي بن أحزم بن أبي أحزم (1) واسمه هرومة (2) بن ربيعة بن جرول بن ثعل بن عمرو بن الغوث بن طئ أبو سفانة الطائي والدعدي بن حاتم الصحابي، كان جوادا ممدحا في الجاهلية، وكذلك كان ابنه في الاسلام.
وكانت لحاتم مآثر وأمور عجيبة وأخبار مستغربة في كرمه يطول ذكرها، ولكن لم يكن يقصد بها وجه الله والدار الآخرة، وإنما كان قصده السمعة والذكر.
قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده حدثنا محمد بن معمر حدثنا عبيد بن واقد القيسي حدثنا أبو نصر هو الناجي عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال ذكر حاتم عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " ذاك أراد أمرا فأدركه " (حديث غريب) قال الدارقطني تفرد به عبيد بن واقد عن أبي نصر الناجي ويقال إن اسمه حماد.
قال ابن عساكر: وقد فرق أبو أحمد الحاكم بن أبي نصر الناجي وبين أبي نصر حماد ولم يسم الناجي ووقع في بعض روايات الحافظ ابن عساكر عن أبي نصر شيبة الناجي والله أعلم.
وقال الامام أحمد حدثنا يزيد بن إسماعيل حدثنا سفيان عن سماك بن حرب عن مرى بن قطري عن عدي بن حاتم قال قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أبي كان يصل الرحم ويفعل ويفعل فهل له في ذلك، يعني من أجر.
قال: " إن أباك طلب شيئا فأصابه ".
وهكذا رواه أبو يعلى عن القواريري عن غندر عن شعبة عن سماك به.
وقال: " إن أباك أراد أمرا فأدركه " يعني الذكر.
وهكذا رواه أبو القاسم البغوي عن علي بن الجعد عن شعبة به سواء وقد ثبت في الصحيح في الثلاثة الذين تسعر بهم جهنم منهم الرجل الذي ينفق ليقال إنه كريم فيكون جزاؤه أن يقال ذلك في الدنيا وكذا في العالم والمجاهد وفي الحديث الآخر في الصحيح أنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد الله بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة فقالوا له كان يقري الضيف ويعتق ويتصدق فهل ينفعه ذلك فقال: " إنه لم يقل يوما من الدهر رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين ".
هذا وقد كان من الاجواد المشهورين أيضا المطعمين في السنين الممحلة والاوقات المرملة.
وقال الحافظ أبو بكر البيهقي (4) أنبأنا أبو عبد الله الحافظ حدثني أبو بكر محمد بن عبد الله بن
__________
(1) كذا في بلوغ الارب للالوسي ; وفي جمهرة ابن حزم: أخزم بن أبي أخزم.
(2) في الاغاني 17 / 363 عن ابن السكيت: هزومة.
(3) مسند أحمد ج 4 / 258 بتغيير في بعض ألفاظه.
(4) أخرجه البيهقي في الدلائل ج 5 / 341.
[ * ]

(2/270)


يوسف العماني، حدثنا أبو سعيد عبيد بن كثير بن عبد الواحد الكوفي، حدثنا ضرار بن صرد، حدثنا عاصم بن حميد، عن أبي حمزة الثمالي، عن عبد الرحمن بن جندب، عن كميل بن زياد النخعي، قال: قال علي بن أبي طالب: يا سبحان الله ! ما أزهد كثيرا من الناس في خير عجبا، لرجل يجيئه أخوه المسلم في حاجة (1) فلا يرى نفسه للخير أهلا، فلو كان لا يرجو ثوابا ولا يخشى عقابا لكان ينبغي له أن يسارع في مكارم الاخلاق فإنها تدل على سبيل (2) النجاح.
فقام إليه رجل وقال: فداك أبي وأمي يا أمير المؤمنين أسمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال نعم ! وما هو خير
منه: لما أتى بسبايا طئ وقعت جارية حمراء لعساء زلفا (3) عيطاء، شماء الانف، معتدلة القامة والهامة، درماء الكعبين خدلجة الساقين (4) لفاء الفخذين، خميصة الخصرين، ضامرة الكشحين، مصقولة المتنين.
قال فلما رأيتها أعجبت بها وقلت: لاطلبن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيجعلها في فيئي فلما تكلمت أنسيت جمالها لما رأيت من فصاحتها، فقالت: يا محمد: إن رأيت أن تخلي عني ولا تشمت بي أحياء العرب فإني ابنة سيد قومي، وإن أبي كان يحمي الذمار، ويفك العاني ويشبع الجائع، ويكسو العاري، ويقري الضيف، ويطعم الطعام، ويفشي السلام، ولم يرد طالب حاجة قط، وأنا ابنة حاتم طيئ.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " يا جارية هذه (5) صفة المؤمنين حقا لو كان أبوك مؤمنا (6) لترحمنا عليه، خلوا عنا فإن أباها كان يحب مكارم الاخلاق، والله تعالى يجب مكارم الاخلاق.
فقام أبو بردة بن ينار (7) فقال يا رسول الله، والله يحب مكارم الاخلاق ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " والذي نفسي بيده لا يدخل الجنة أحد إلا بحسن الخلق ".
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثني عمر بن بكر عن أبي عبد الرحمن الطائي - هو القاسم بن عدي - عن عثمان عن عركى بن حليس الطائي عن أبيه عن جده وكان أخا عدي بن حاتم لامه قال قيل لنوار امرأة حاتم (8) حدثينا عن حاتم قالت كل أمره كان عجبا أصابتنا سنة حصت كل شئ فاقشعرت لها الارض واغبرت لها السماء وضنت المراضع على أولادها وراحت الابل حدبا حدابير ما تبض بقطرة وحلقت المال وأنا لفي ليلة صنبر بعيدة ما بين الطرفين إذ تضاغي الا صبية
__________
(1) في الدلائل: الحاجة.
(2) في الدلائل: سبل.
(3) في الدلائل: ذلفاء، وفي الاغاني حماء: وهي بيضاء.
وعيطاء: طويلة العنق.
(4) في الدلائل: درماء العين، خدلة الساقين ; وهو خطأ والصواب ما أثبتناه: ودرماء المرأة التي لا تستبين كعوبها ; وخدلجة: ممتلئة.
(5) وهي ابنة حاتم واسمها سفانة وبها كان يكنى وقد أسلمت.
(6) في الدلائل: مسلما.
(7) في الدلائل: دينار، وفي الكنى والاسماء للدولابي ص 17: نيار واسمه هانئ.
(8) في الاغاني ج 17 / 387: اسمها ماوية.
[ * ]

(2/271)


من الجوع عبد الله وعدي وسفانة فوالله إن وجدنا شيئا نعللهم به فقام إلى أحد الصبيان فحمله وقمت إلى الصبية فعللتها فوالله إن سكتا إلا بعد هدأة من الليل ثم عدنا إلى الصبي الآخر فعللناه حتى سكت وما كاد ثم افترشنا قطيفة لنا شامية ذات خمل فأضجعنا الصبيان عليها ونمت أنا وهو في حجرة والصبيان بيننا ثم أقبل علي يعللني لانام وعرفت ما يريد فتناومت فقال مالك أنمت فسكت فقال: ما أراها إلا قد نامت وما بي نوم فلما أدلهم الليل وتهورت النجوم وهدأت الاصوات وسكنت الرجل إذ جانب البيت قد رفع فقال من هذا ؟ فولى حتى قلت إذا قد أسحرنا أو كدنا عاد فقال من هذا ؟ قالت: جارتك فلانة يا أبا عدي ما وجدت على أحد معولا غيرك أتيتك من عند أصيبة يتعاوون عواء الذئاب من الجوع قال أعجليهم علي قالت النوار: فوثبت.
فقلت.
ماذا صنعت أضطجع والله لقد تضاغى اصبيتك فما وجدت ما تعللهم فكيف بهذه وبولدها فقال أسكتي فوالله لاشبعنك إن شاء الله.
قالت: فأقبلت تحمل اثنين وتمشي جنبتيها أربعة كأنها نهامة حولها رئالها فقام إلى فرسه فوجأ بحربته في لبته ثم قدح زنده وأورى ناره ثم جاء بمدية فكشط عن جلده ثم دفع المدية إلى المرأة ثم قال: دونك ثم قال ابعثي صبيانك فبعثتهم ثم قال سوءة أتأكلون شيئا دون أهل الصرم فجعل يطوف فيهم حتى هبوا وأقبلوا عليه والتفع في ثوبه ثم اضطجع ناحية ينظر إلينا والله ما ذاق مزعة وانه لاحوجهم إليه فأصبحنا وما على الارض منه إلا عظم وحافر.
وقال الدارقطني: حدثني القاضي أبو عبد الله المحاملي حدثنا عبد الله بن أبي سعد وحدثنا عثيم بن ثوابة بن حاتم الطائي عن أبيه عن جده قال: قالت امرأة حاتم لحاتم: يا أبا سفانة أشتهي أن آكل أنا وأنت طعاما وحدنا ليس عليه أحد فأمرها فحولت خيمتها من الجماعة على فرسخ وأمر بالطعام فهئ وهي مرخاة ستورها عليه وعليها فلما قارب نضج الطعام كشف عن رأسه ثم قال:
فلا تطبخي قدري وسترك دونها * علي إذن ما تطبخين حرام ولكن بهذاك اليفاع فأوقدي * بجزل إذا أوقدت لا بضرام قال ثم كشف الستور وقدم الطعام ودعا الناس فأكل وأكلوا فقالت ما أتممت لي ما قلت فأجابها لا تطاوعني نفسي ونفسي أكرم علي من أن يثني علي هذا وقد سبق لي السخاء ثم أنشأ يقول: أمارس نفسي البخل حتى أعزها * واترك نفس الجود ما استثيرها (1) ولا تشتكيني جارتي غير أنها * إذا غاب عنها بعلها لا أزورها سيبلغها خيري ويرجع بعلها * إليها ولم تقصر عليها ستورها ومن شعر حاتم:
__________
(1) أمارس: أعالج.
أعزها: أغلبها وأقوى عليها.
[ * ]

(2/272)


إذا ما بت اشرب فوق ري * لسكر في الشراب فلا رويت إذا ما بت أختل عرس جاري * ليخفيني الظلام فلا خفيت أأفضح جارتي وأخون جاري * فلا والله أفعل ما حييت ومن شعره أيضا: ما ضر جارا لي أجاوره * أن لا يكون لبابه ستر (1) أغضي إذا ما جارتي برزت * حتى يواري جارتي الخدر ومن شعر حاتم أيضا: وما من شيمتي شتم ابن عمي * وما أنا مخلف من يرتجيني وكلمة حاسد من غير جرم * سمعت وقلت مري فانقذيني وعابوها علي فلم تعبني * ولم يعرق لها يوما جبيني وذي وجهين يلقاني طليقا * وليس إذا تغيب يأتسيني ظفرت بعيبه فكففت عنه * محافظة على حسبي وديني
ومن شعره: سلي البائس المقرور يا أم مالك * إذا ما أتاني بين ناري ومجزري أأبسط وجهي إنه أول القرى * وإبذل معروفي له دون منكري وقال أيضا: وانك إن أعطيت بطنك سؤله * وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا وقال القاضي أبو الفرج المعافى بن زكرياء الجريري حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي حدثنا أبو العباس المبرد أخبرني الثوري عن أبي عبيدة.
قال لما بلغ حاتم طئ قول المتلمس: قليل المال تصلحه فيبقى * ولا يبقى الكثير على الفساد وحفظ المال خير من فناه * وعسف في البلاد بغير زاد قال: ماله قطع الله لسانه حمل الناس على البخل فهلا قال:
__________
(1) في الاغاني 17 / 386: وما ضر جارا يا ابنة القوم فاعلمي * يجاورني ألا يكون لي ستر بعيني عن جارات قومي غفلة * وفي السمع مني عن حديثهم وقر قال: ليس البيتان في ديوانه.
وفي الشعر والشعراء نسب البيتان لمسكين الدارمي 1 / 530 ونسبه في الاغاني له في رواية ج 20 / 214 وفيه: ما ضر جارا لي أجاوره * ألا يكون لبابه ستر [ * ]

(2/273)


فلا الجود يفني المال قبل فنائه * ولا البخل في مال الشحيح يزيد فلا تلتمس مالا بعيش مقتر * لكل غد رزق يعود جديد ألم تر أن المال غاد ورائح * وان الذي يعطيك غير بعيد (1) قال القاضي أبو الفرج ولقد أحسن في قوله: " وان الذي يعطيك غير بعيد ".
ولو كان مسلما لرجي له الخير في معاده وقد قال الله في كتابه: (واسألوا الله من فضله) [ النساء: 32 ].
وقال تعالى: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعاني) [ البقرة: 186 ].
وعن الوضاح بن معبد الطائي قال: وفد حاتم الطائي على النعمان بن المنذر فأكرمه وأدناه ثم زوده عند انصرافه جملين ذهبا وورقا غير ما أعطاه من طرائف بلده فرحل، فلما أشرف على أهله تلقته أعاريب طئ.
فقالت: يا حاتم أتيت من عند الملك وأتينا من عند أهالينا بالفقر ! فقال حاتم: هلم فخذوا ما بين يدي فتوزعوه.
فوثبوا إلى ما بين يديه من حباء النعمان فاقتسموه.
فخرجت إلى حاتم طريفة جاريته، فقالت له: اتق الله وابق على نفسك، فما يدع هؤلاء دينارا ولا درهما ولا شاة ولا بعيرا.
فأنشأ يقول: قالت طريفة ما تبقى دراهمنا * وما بنا سرف فيها ولا خرق إن يفن ما عندنا فالله يرزقنا * ممن سوانا ولسنا نحن نرتزق ما يألف الدرهم الكاري خرقتنا * إلا يمر عليها ثم ينطلق إنا إذا اجتمعت يوما دراهمنا * ظلت إلى سبل المعروف تستبق وقال أبو بكر بن عياش: قيل لحاتم هل في العرب أجود منك.
فقال: كل العرب أجود مني.
ثم أنشأ يحدث.
قال: نزلت على غلام من العرب يتيم ذات ليلة، وكانت له مائة من الغنم، فذبح لي شاة منها وأتاني بها، فلما قرب إلي دماغها قلت: ما أطيب هذا الدماغ ! قال: فذهب فلم يزل يأتيني منه حتى قلت قد اكتفيت، فلما أصبحت إذا هو قد ذبح المائة شاة وبقي لا شئ له ؟ فقيل فما صنعت به فقال: ومتى أبلغ شكره ولو صنعت به كل شئ.
قال: على كل حال فقال أعطيته مائة ناقة من خيار إبلي.
وقال محمد بن جعفر الخرائطي في كتاب " مكارم الاخلاق " حدثنا العباس بن الفضل الربعي، حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثني حماد الراوية ومشيخة من مشيخة طئ.
قالوا: كانت عنترة (2) بنت عفيف بن عمرو بن امرئ القيس أم حاتم طئ لا تمسك شيئا سخاء وجودا ;
__________
(1) في البيت إقواء.
(2) كذا في الاصل، وفي مكارم الاخلاق غنية، وفي الشعر والشعراء عنبة، وفي الاغاني ج 17 / 365 عتبة.
[ * ]

(2/274)


وكان اخوتها يمنعونها فتأبى وكانت امرأة موسرة فحبسوها في بيت سنة يطعمونها قوتها لعلها تكف عما تصنع.
ثم اخرجوها بعد سنة وقد ظنوا أنها قد تركت ذلك الخلق فدفعوا إليها صرمة (1) من مالها وقالوا استمتعي بها، فأتتها امرأة من هوازن وكانت تغشاها فسألتها فقالت: دونك هذه الصرمة فقد والله مسني من الجوع ما آليت أن لا أمنع سائلا ثم أنشأت تقول: لعمري لقدما عضني الجوع عضة * فآليت أن لا أمنع الدهر جائعا فقولا لهذا اللائمي اليوم أعفني * وإن أنت لم تفعل فعض الاصابعا فماذا عساكم أن تقولوا لاختكم * سوى عذلكم أو عذل من كان مانعا وماذا ترون اليوم إلا طبيعة * فكيف بتركي يا بن امي الطبائعا (2) وقال الهيثم بن عدي عن ملحان بن عركي بن عدي بن حاتم عن أبيه عن جده.
قال: شهدت حاتما يكيد (3) بنفسه، فقال لي: أي بني إني أعهد من نفسي ثلاث خصال والله ما خاتلت جارة لريبة قط، ولا أوتمنت على أمانة إلا أديتها، ولا أوتي أحد من قبلي بسوء.
وقال أبو بكر الخرائطي: حدثنا علي بن حرب، حدثنا عبد الرحمن بن يحيى العدوي، حدثنا هشام بن محمد بن السائب الكلبي عن أبي مسكين - يعني جعفر بن المحرر بن الوليد - عن المحرر (4) مولى أبي هريرة قال: مر نفر من عبد القيس بقبر حاتم طيئ فنزلوا قريبا منه فقام إليه بعضهم يقال له أبو الخيبري فجعل يركض قبره برجله.
ويقول: يا أبا جعد أقرنا.
فقال له بعض أصحابه: ما تخاطب من رمة (5) وقد بليت ؟ وأجنهم الليل فناموا، فقام صاحب القول فزعا يقول: يا قوم عليكم بمطيكم فإن حاتما أتاني في النوم وأنشدني شعرا وقد حفظته يقول (6): أبا الخيبري وأنت امرؤ * ظلوم العشيرة شتامها أتيت بصحبك تبغي القرى * لدى حفرة قد صدت هامها أتبغي لي الذنب عند المبي * ت وحولك طئ وانعامها
__________
(1) الصرمة: القطعة من الابل ما بين العشر إلى الثلاثين أو إلى الخمسين والاربعين.
أو ما بين العشرة إلى الاربعين أو ما بين عشرة إلى بضع عشرة (القاموس).
(2) في الديوان 42: ولا ما ترون إلا..طبائعا.
(3) يكيد بنفسه: يجود، وهو يحتضر.
(4) كذا في الاصل المحرر وفي الاغاني محرز، وفيه: الحديث عن المحرز عن الوليد مولى أبي هريرة قال: سمعت محرز بن أبي هريرة (في التقريب محرر بن أبي هريرة) ولم أجد للوليد ذكرا لا في التقريب أو في ثقات العجلي والكاشف.
(5) الرمة: العظم البالي والجمع رمم.
(6) الابيات في الاغاني ج 17 / 375 بتغيير في الالفاظ، وفيه أن الذي أنشدها عدي بن حاتم، وهو من جاءه حاتم في النوم.
[ * ]

(2/275)


وإنا لنشبع أضيافنا * وتأتي المطي فنعتامها قال وإذا ناقة صاحب القول تكوس (1) عقيرا فنحروها وقاموا يشتوون ويأكلون.
وقالوا والله لقد أضافنا حاتم حيا وميتا.
قال: وأصبح القوم واردفوا صاحبهم وساروا فإذا رجل ينوه بهم راكبا جملا ويقود آخر.
فقال: أيكم أبو الخيبري قال أنا قال إن حاتما أتاني في النوم فأخبرني أنه قرى أصحابك ناقتك وأمرني آن أحملك وهذا بعير فخذه ودفعه إليه.
شئ من أخبار عبد الله بن جدعان هو عبد الله بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة سيد بني تيم وهو ابن عم والد أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
وكان من الكرماء الاجواد في الجاهلية المطعمين للمسنتين وكان في بدء أمره فقيرا مملقا وكان شريرا يكثر من الجنايات حتى أبغضه قومه وعشيرته وأهله وقبيلته وأبغضوه حتى أبوه فخرج ذات يوم في شعاب مكة حائرا بائرا فرأى شقا في جبل فظن أن يكون به شيئا يؤذي فقصده لعله يموت فيستريح مما هو فيه فلما اقترب منه إذا ثعبان يخرج إليه ويثب عليه
فجعل يحيد عنه ويثب فلا يغني شيئا فلما دنا منه إذا هو من ذهب وله عينان هما ياقوتتان فكسره وأخذه ودخل الغار فإذا فيه قبور لرجال من ملوك جرهم ومنهم الحارث بن مضاض الذي طالت غيبته فلا يدري أين ذهب ووجد عند رؤوسهم لوحا من ذهب فيه تاريخ وفاتهم ومدد ولايتهم وإذا عندهم من الجواهر واللآلئ والذهب والفضة شئ كثير فأخذ منه حاجته ثم خرج وعلم باب الغار ثم انصرف، إلى قومه فأعطاهم حتى أحبوه وسادهم وجعل يطعم الناس وكلما قل ما في يده ذهب إلى ذلك الغار فأخذ حاجته ثم رجع فممن ذكر هذا عبد الملك بن هشام في كتاب " التيجان " وذكره أحمد بن عمار في كتاب " ري العاطش وأنس الواحش " وكانت له جفنة يأكل منها الراكب على بعيره ووقع فيها صغير فغرق.
وذكر ابن قتيبة وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لقد كنت استظل بظل جفنة عبد الله بن جدعان صكة عمي " (2) أي وقت الظهيرة.
وفي حديث مقتل أبي جهل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لاصحابه: " تطلبوه بين القتلى وتعرفوه بشجة في ركبته، فإني تزاحمت أنا وهو على مأدبة لابن جدعان فدفعته فسقط على ركبته فانهشمت
__________
(1) كاس البعير: في القاموس: مشى على ثلاث قوائم وهو معرقب.
وقال الزمخشري في الاساس أي قلب على رأسه.
(2) الصكة شدة الهاجرة، وتضاف إلى عمي، رجل من العمالقة أغار على قومهم في الظهيرة فاجتاحهم.
قال الالوسي في بلوغ الارب: سميت الهاجرة صكة عمي لخبر ذكره أبو حنيفة في الانواء وهو أن عميا رجل من عدوان، وقيل من إياد، وكان فقيها فقدم في قومه معتمرا أو حاجا فلما كان على مرحلتين من مكة قال لقومه وهم في وسط الظهيرة من أتى مكة غدا في مثل هذا الوقت كان له أجر عمرتين فصكوا الابل صكة شديدة حتى أتوا مكة من الغداة.
فسميت الظهيرة صكة عمي.
1 / 89 - 90.
[ * ]

(2/276)


فأثرها باق في ركبته ".
فوجدوه كذلك.
وذكروا أنه كان يطعم التمر والسويق ويسقي اللبن حتى سمع قول أمية بن أبي الصلت: ولقد رأيت الفاعلين وفعلهم * فرأيت أكرمهم بني الديان
البر يلبك بالشهاد طعامهم * لا ما يعللنا بنو جدعان فأرسل ابن جدعان إلى الشام ألفي بعير [ وعادت ] تحمل البر والشهد والسمن، وجعل مناديا ينادي كل ليلة على ظهر الكعبة أن هلموا إلى حفنة ابن جدعان.
فقال أمية في ذلك: له داع بمكة مشمعل * وآخر فوق كعبتها ينادي (1) إلى ردح من الشيزى ملاء * لباب البر يلبك بالشهاد (2) ومع هذا كله فقد ثبت في الصحيح لمسلم أن عائشة قالت: يا رسول الله إن إبن جدعان كان يطعم الطعام ويقري الضيف فهل ينفعه ذلك يوم القيامة ؟ فقال: " لا، إنه لم يقل يوما رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين ".
امرؤ القيس بن حجر الكندي صاحب احدى المعلقات وهي أفخرهن وأشهرهن التي أولها: * قفا نبك من ذكري حبيب ومنزل * قال الامام أحمد: حدثنا هشام (3) حدثنا أبو الجهم (4) عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " امرؤ القيس صاحب لواء الشعراء إلى النار " وقد روى هذا الحديث عن هشام جماعة كثيرون منهم بشر بن الحكم، والحسن بن عرفة، وعبد الله بن هارون أمير المؤمنين المأمون أخو الامين ويحيى بن معين، وأخرجه ابن عدي من طريق عبد الرزاق عن الزهري به وهذا منقطع وردئ من وجه آخر عن أبي هريرة ولا يصح من غير هذا الوجه.
__________
(1) مشمعل: المبادر والمجتهد ; اشمعل القوم في الطلب إذا بادروا فيه وتفرقوا والبيت في الاغاني وبلوغ الارب: وآخر فوق دارته ينادي (2) ردح جمع رداح وهي الجفنة العظيمة قال الالوسي وهي سترة تكون في مؤخر البيت أو قطعة تزاد فيه والرداح الخفيفة العظيمة.
والشيزي: خشب أسود تتخذ منه القصاع وروى الجوهري صدر البيت هكذا: إلى ردح من الشيزى عليها (3) في المسند ج 2 / 228 هشيم بدل من هشام، وهو هشيم بن بشير بن القاسم بن دينار، أبو معاوية السلمي
الواسطي توفي سنة 183 ه (التقريب - الكاشف) ثقة ثبت، كثير التدليس.
(4) في المسند أبو الجهيم الواسطي.
[ * ]

(2/277)


وقال الحافظ ابن عساكر: هو امرؤ القيس بن حجر بن الحارث بن عمرو بن حجر آكل المرار بن عمرو بن معاوية بن الحارث بن يعرب بن ثور بن مرتع بن معاوية بن كندة.
أبو يزيد ويقال أبو وهب ويقال أبو الحارث الكندي.
كان بأعمال دمشق وقد ذكر مواضع منها في شعره فمن ذلك قوله: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل * بسقط اللوى بين الدخول فحومل فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها * لما نسجتها من جنوب وشمال قال وهذه مواضع معروفة بحوران.
ثم روى من طريق هشام بن محمد بن السائب الكلبي حدثني فروة بن سعيد بن عفيف بن معدي كرب عن أبيه عن جده.
قال: بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبل وفد من اليمن فقالوا يا رسول الله لقد أحيانا الله ببيتين من شعر امرئ القيس.
قال: وكيف ذاك ؟ قالوا أقبلنا نريدك حتى إذا كنا ببعض الطريق اخطأنا الطريق فمكثنا ثلاثا لا نقدر على الماء فتفرقنا إلى أصول طلح وسمر ليموت كل رجل منا في ظل شجرة فبينا نحن بآخر رمق إذا راكب يوضع على بعير فلما رآه بعضنا قال والراكب يسمع: ولما رأت أن الشريعة همها * وان البياض من فرائضها دامي (1) تيممت العين التي عند ضارج * يفئ عليها الظل عرمضها طامي (2) فقال الراكب: ومن يقول هذا الشعر وقد رأى ما بنا من الجهد ؟ قال قلنا امرؤ القيس بن حجر قال: والله ما كذب هذا ضارج عندكم فنظرنا فإذا بيننا وبين الماء نحو من خمسين ذراعا فحبونا إليه على الركب فإذا هو كما قال امرؤ القيس عليه العرمض يفئ عليه الظل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ذاك رجل مذكور في الدنيا منسي في الآخرة، شريف في الدنيا خامل في الآخرة، بيده لواء الشعراء يقودهم إلى النار " (3).
وذكر الكلبي: أن امرأ القيس أقبل براياته يريد قتال بني أسد حين قتلوا أباه فمر بتبالة (4) وبها ذو الخلصة وهو صنم وكانت العرب تستقسم عنده فاستقسم فخرج القدح الناهي ثم الثانية ثم الثالثة كذلك فكسر القداح وضرب بها وجه ذي الخلصة وقال عضضت بأير أبيك لو كان أبوك المقتول لما عوقتني.
ثم أغار على بني أسد فقتلهم قتلا ذريعا قال ابن الكلبي: فلم يستقسم عند ذي الخلصة حتى جاء الاسلام.
وذكر بعضهم أنه امتدح قيصر ملك الروم يستنجده في بعض
__________
(1) الشريعة: مشرعة الماء.
(2) ضارج: موضع ببلاد عبس.
(3) القصة في الشعر والشعراء 1 / 58 وما بعدها وعيون الاخبار 1 / 143 - 144 والاغاني 7 / 123.
(4) تبالة: موضع ببلاد اليمن بينها وبين مكة 52 فرسخا ومعجم البلدان 2 / 10.
[ * ]

(2/278)


الحروب ويسترفده فلم يجد ما يؤمله عنده فهجاه بعد ذلك فيقال إنه سقاه سما فقتله فالجأه الموت إلى جنب قبر امرأة عند جبل يقال له عسيب فكتب هنالك: أجارتنا إن المزار قريب * وإني مقيم ما اقام عسيب (1) أجارتنا إنا غريبان ههنا * وكل غريب للغريب نسيب وذكروا أن المعلقات السبع كانت معلقة بالكعبة، وذلك أن العرب كانوا إذا عمل أحدهم قصيدة عرضها على قريش فإن أجازوها علقوها على الكعبة تعظيما لشأنها فاجتمع من ذلك هذه المعلقات السبع فالاولى لامرئ القيس بن حجر الكندي كما تقدم وأولها: ققا نبك من ذكرى حبيب ومنزل * بسقط اللوى بين الدخول فحومل والثانية للنابغة الذبياني: واسمه زياد بن معاوية ويقال زياد بن عمرو بن معاوية بن ضباب بن جابر بن يربوع بن غيظ بن مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان بن بغيض وأولها: يا دار مية بالعلياء فالسند * أقوت وطال عليها سالف الابد والثالثة لزهير بن أبي سلمى ربيعة بن رياح المزني وأولها:
أمن أم أوفى دمنة لم تكلم * بحومانة الدراج فالمتثلم (2) والرابعة لطرفة بن العبد بن سفيان بن سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل وأولها: لخولة أطلال ببرقة ثهمد * تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد والخامسة لعنترة بن شداد بن معاوية بن قراد بن مخزوم بن ربيعة بن مالك بن غالب بن قطيعة بن عبس العبسي وأولها: هل غادر الشعراء من متردم * أم هل عرفت الدار بعد توهم والسادسة لعلقمة بن عبدة بن النعمان بن قيس أحد بني تميم وأولها: طحا بك قلب في الحسان طروب * بعيد الشباب عصر حان مشيب
__________
(1) عسيب: جبل بعالية نجد.
وامرؤ القيس بالاجماع مات مسموما بأنقرة في طريق بلد الروم ; وقد ذكر في أنقرة.
معجم البلدان 4 / 124 - 125.
(2) المتثلم: جبل في بلاد بني مرة معجم البلدان ج 5 / 53.
[ * ]

(2/279)


والسابعة - ومنهم من لا يثبتها في المعلقات وهو قول الاصمعي وغيره - وهي للبيد بن ربيعة ابن مالك بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر وأولها: عفت الديار محلها فمقامها * بمنى تأبد غولها فرجامها فأما القصيدة التي لا يعرف قائلها فيما ذكره أبو عبيدة والاصمعي والمبرد وغيرهم فهي قوله: هل بالطلول لسائل رد * أم هل لها بتكلم عهد وهي مطولة وفيها معان حسنة كثيرة.
أخبار أمية بن أبي الصلت الثقفي
قال الحافظ ابن عساكر: هو أمية بن أبي الصلت عبد الله بن أبي ربيعة بن عوف (1) بن عقدة بن عزة (2) بن عوف بن ثقيف بن منبه بن بكر بن هوازن أبو عثمان ويقال أبو الحكم الثقفي شاعر جاهلي قدم دمشق قبل الاسلام وقيل إنه كان مستقيما (3) وإنه كان في أول أمره على الايمان ثم زاغ عنه وإنه هو الذي أراده الله تعالى بقوله: (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فاتبعه الشيطان فكان من الغاوين) (4).
قال الزبير بن بكار: فولدت رقية بنت عبد شمس بن عبد مناف أمية الشاعر ابن أبي الصلت واسم أبي الصلت ربيعة بن وهب بن علاج بن أبي سلمة بن ثقيف وقال غيره كان أبوه من الشعراء المشهورين بالطائف وكان أمية أشعرهم.
وقال عبد الرزاق قال الثوري: أخبرني حبيب بن أبي ثابت أن عبد الله بن عمرو قال في قوله تعالى: (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فاتبعه الشيطان فكان من الغاوين) هو أمية بن أبي الصلت وكذا رواه أبو بكر بن مردويه عن أبي بكر الشافعي عن معاذ بن المثنى عن مسدد عن أبي عوانة عن عبد الملك بن عمير عن نافع بن عاصم بن مسعود.
قال: إني لفي حلقة فيها عبد الله بن عمرو فقرأ رجل من القوم الآية التي في الاعراف: (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا
__________
(1) في الاغاني: ابن عمرو.
(2) في الاغاني: عنزة وفي الاصابة غيرة.
(3) في ابن عساكر: ويقال إنه كان نبيا.
(4) سورة الاعراف الآية 175.
قال عبد الله بن عمرو بن العاص وزيد بن أسلم: نزلت في أمية، وكان قد قرأ الكتب وعلم أن الله مرسل رسولا في ذلك الوقت، وتمنى أن يكون هو ذلك الرسول ; ولما أرسل الله محمد صلى الله عليه وسلم حسده وكفر به.
وفيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: آمن شعره وكفر قلبه.
وقيل غير ذلك القرطبي 7 / 320.
[ * ]

(2/280)


فانسلخ منها) فقال هل تدرون من هو ؟ فقال بعضهم: هو صيفي بن الراهب.
وقال آخر: بل
هو بلعم رجل من بني إسرائيل فقال لا ! قال فمن ؟ قال هو أمية بن أبي الصلت وهكذا قال أبو صالح والكلبي وحكاه قتادة عن بعضهم.
وقال الطبراني: حدثنا علي بن عبد العزيز حدثنا عبد الله بن شبيب الربعي حدثنا محمد بن مسلمة بن هشام المخزومي حدثنا اسماعيل بن الطريح بن اسماعيل الثقفي حدثني أبي عن أبيه عن مروان بن الحكم عن معاوية بن أبي سفيان عن أبيه.
قال: خرجت أنا وأمية بن أبي الصلت الثقفي تجارا إلى الشام فكلما نزلنا منزلا أخذ أمية سفرا له يقرأه علينا فكنا كذلك حتى نزلنا قرية من قرى النصارى فجاؤوه واكرموه واهدوا له وذهب معهم إلى بيوتهم ثم رجع في وسط النهار فطرح ثوبيه وأخذ ثوبين له أسودين فلبسهما وقال لي هل لك يا أبا سفيان في عالم من علماء النصارى إليه يتناهى علم الكتاب تسأله.
قلت: لا إرب لي فيه والله لئن حدثني بما أحب لا أثق به ولئن حدثني بما أكره لاجدن منه.
قال فذهب وخالفه شيخ من النصارى فدخل علي فقال ما يمنعك أن تذهب إلى هذا الشيخ قلت لست على دينه قال وإن فإنك تسمع منه عجبا وتراه.
ثم قال لي أثقفي أنت ؟ قلت لا ولكن قرشي ؟ قال فما يمنعك من الشيخ فوالله إنه ليحبكم ويوصي بكم.
قال فخرج من عندنا ومكث أمية عندهم حتى جاءنا بعد هدأة من الليل فطرح ثوبيه ثم انجدل على فراشه فوالله ما نام ولا قام حتى أصبح كئيبا حزينا ساقطا غبوقه على صبوحه ما يكلمنا ولا نكلمه.
ثم قال: ألا ترحل.
قلت وهل بك من رحيل ؟ قال نعم ! فرحلنا فسرنا بذلك ليلتين ثم قال في الليلة الثالثة: لا تحدث يا أبا سفيان قلت وهل بك من حديث والله ما رأيت مثل الذي رجعت به من عند صاحبك قال أما إن ذلك لشئ لست فيه إنما ذلك لشئ وجلت منه من منقلبي قلت وهل لك من منقلب.
قال: أي والله لاموتن ثم لاحيين قال قلت هل أنت قابل أمانتي قال على ماذا ؟ قلت على أنك لا تبعث ولا تحاسب قال فضحك ثم قال: بلى ! والله يا أبا سفيان لنبعثن ثم لنحاسبن وليدخلن فريق الجنة وفريق النار.
قلت: ففي أيهما أنت أخبرك صاحبك قال لا علم لصاحبي بذلك لا في ولا في نفسه.
قال فكنا في ذلك ليلتين يعجب مني وأضحك منه حتى قدمنا غوطة دمشق فبعنا متاعنا وأقمنا بها شهرين فارتحلنا حتى نزلنا قرية من قرى النصارى فلما رأوه جاؤوه
واهدوا له وذهب معهم إلى بيعتهم فما جاء إلا بعد منتصف النهار فلبس ثوبيه وذهب إليهم حتى جاء بعد هدأة من الليل فطرح ثوبيه ورمى بنفسه على فراشه فوالله ما نام ولا قام وأصبح حزينا كئيبا لا يكلمنا ولا نكلمه.
ثم قال: ألا ترحل ؟ قلت: بلى إن شئت.
فرحلنا كذلك في بثه وحزنه ليالي.
ثم قال لي: يا أبا سفيان هل لك في المسير لنتقدم أصحابنا قلت هل لك فيه قال نعم ! فسرنا حتى برزنا من أصحابنا ساعة ثم قال: هيا صخر.
فقلت: ما تشاء ؟ قال حدثني عن عتبة بن ربيعة أيجتنب المظالم والمجارم قلت: إي والله قال: ويصل الرحم ويأمر بصلتها.
قلت إي والله ! قال وكريم الطرفين وسط في العشيرة قلت نعم ! قال فهل تعلم قرشيا أشرف منه ؟ قلت

(2/281)


لا والله لا أعلم قال أمحوج هو قلت لا بل هو ذو مال كثير قال وكم أتى عليه من السن فقلت قد زاد على المائة قال فالشرف والسن والمال أزرين به قلت ولم ذاك يزري به لا والله بل يزيده خيرا قال هو ذاك.
هل لك في المبيت قلت لي فيه قال فاضطجعنا حتى مر الثقل قال فسرنا حتى نزلنا في المنزل وبتنا به ثم ارتحلنا منه فلما كان الليل قال لي يا أبا سفيان قلت ما تشاء قال هل لك في مثل البارحة قلت هل لك فيه قال: نعم فسرنا على ناقتين بختيتين حتى إذا برزنا قال: هيا صخر، هيه عن عتبة بن ربيعة قال قلت هبها فيه قال أيجتنب المحارم والمظالم ويصل الرحم ويأمر بصلتها قلت إي والله إنه ليفعل قال وذو مال قلت وذو مال قال أتعلم قرشيا أسود منه قلت: لا والله ما أعلم ؟ قال كم أتى له من السن قلت قد زاد على المائة قال فإن السن والشرف والمال أزرين به قلت كلا والله ما أزرى به ذلك وأنت قائل شيئا فقله.
قال لا تذكر حديثي يأتي منه ما هو آت ثم قال فإن الذي رأيت أصابني أني جئت هذا العالم فسألته عن أشياء ثم قلت أخبرني عن هذا النبي الذي ينتظر قال هو رجل من العرب قلت قد علمت أنه من العرب فمن أي العرب هو قال من أهل بيت تحجه العرب قلت وفينا بيت تحجه العرب قال هو من إخوانكم من قريش فأصابني والله شئ ما أصابني مثله قط وخرج من يدي فوز الدنيا والآخرة وكنت أرجو أن أكون إياه قلت فإذا كان ما كان فصفه لي قال رجل شاب حين دخل في الكهولة.
بدو أمره يجتنب المظالم والمحارم ويصل الرحم ويأمر
بصلتها وهو محوج كريم الطرفين متوسط في العشيرة أكثر جنده من الملائكة قلت وما آية ذلك قال قد رجفت الشام منذ هلك عيسى بن مريم عليه السلام ثمانين رجفة كلها فيها مصيبة وبقيت رجفة عامة فيها مصائب.
قال أبو سفيان: فقلت هذا والله الباطل لئن بعث الله رسولا لا يأخذه إلا مسنا شريفا.
قال أمية: والذي حلفت به إن هذا لهكذا يا أبا سفيان تقول إن قول النصراني حق.
هل لك في المبيت ؟ قلت نعم لي فيه قال فبتنا حتى جاءنا الثقل ثم خرجنا حتى إذا كان بيننا وبين مكة مرحلتان ليلتان أدركنا راكب من خلفنا فسألناه فإذا هو يقول أصابت أهل الشام بعدكم رجفة دمرت أهلها وأصابتهم فيها مصائب عظيمة.
قال أبو سفيان فأقبل على أمية فقال كيف ترى قول النصراني يا أبا سفيان قلت أرى وأظن والله إن ما حدثك به صاحبك حق قال أبو سفيان فقدمنا مكة فقضيت ما كان معي ثم انطلقت حتى جئت اليمن تاجرا فكنت بها خمسة أشهر ثم قدمت مكة فبينا أنا في منزلي جاءني الناس يسلمون علي ويسألون عن بضائعهم حتى جاءني محمد بن عبد الله وهند عندي تلاعب صبيانها فسلم علي ورحب بي وسألني عن سفري ومقامي ولم يسألني عن بضاعته ثم قام.
فقلت: لهند والله إنه هذا ليعجبني ما من أحد من قريش له معي بضاعة إلا وقد سألني عنها وما سألني هذا عن بضاعته.
فقالت لي هند أو ما علمت شأنه فقلت وأنا فزع ما شأنه قالت يزعم أنه رسول الله فوقذتني وتذكرت قول النصراني فرجفت حتى قالت لي هند مالك ؟ فانتبهت فقلت إن هذا لهو الباطل لهو أعقل من أن يقول هذا قالت بلى والله إنه ليقولن ذلك ويدعو إليه وإن له لصحابة على دينه قلت هذا هو الباطل قال وخرجت فبينا أنا أصرف بالبيت

(2/282)


إذ بي قد لقيته فقلت له إن بضاعتك قد بلغت كذا وكذا وكان فيها خير فأرسل من يأخذها ولست آخذ منك فيها ما آخذ من قومي فأبى علي.
وقال إذن لا آخذها قلت فأرسل فخذها وأنا آخذ منك مثل ما آخذ من قومي فأرسل إلى بضاعته فأخذها وأخذت منه ما كنت آخذ من غيره.
قال أبو سفيان: فلم أنشب أن خرجت إلى اليمن ثم قدمت الطائف فنزلت على أمية بن أبي الصلت فقال لي يا أبا سفيان ما تشاء هل تذكر قول النصراني فقلت أذكره وقد كان فقال: ومن ؟ قلت محمد بن
عبد الله قال ابن عبد المطلب قلت ابن عبد المطلب ثم قصصت عليه خبر هند قال فالله يعلم ؟ وأخذ يتصبب عرقا.
ثم قال: والله يا أبا سفيان لعله.
إن صفته لهي ولئن ظهر وأنا حي لاطلبن من الله عزوجل في نصره عذرا قال: ومضيت إلى اليمن فلم أنشب أن جاءني هنالك استهلاله وأقبلت حتى نزلت على أمية بن أبي الصلت بالطائف فقلت يا أبا عثمان قد كان من أمر الرجل ما قد بلغك وسمعته فقال قد كان لعمري قلت فأين أنت منه يا أبا عثمان فقال والله ما كنت لاومن برسول من غير ثقيف أبدا قال أبو سفيان وأقبلت إلى مكة فوالله ما أنا ببعيد حتى جئت مكة فوجدت أصحابه يضربون ويحقرون قال أبو سفيان فجعلت أقول فأين جنده من الملائكة قال فدخلني ما يدخل الناس من النفاسة وقد رواه الحافظ البيهقي في كتاب الدلائل من حديث اسماعيل بن طريح به ولكن سياق الطبراني الذي أوردناه أتم وأطول والله أعلم.
وقال الطبراني: حدثنا بكر بن أحمد بن نفيل حدثنا عبد الله بن شبيب حدثنا يعقوب بن محمد الزهري حدثنا مجامع بن عمرو الاسدي حدثنا ليث بن سعد عن أبي الاسود محمد بن عبد الرحمن عن عروة بن الزبير عن معاوية بن أبي سفيان عن أبي سفيان بن حرب أن أمية بن أبي الصلت كان بغزة أو بايلياء فلما قفلنا قال لي أمية يا أبا سفيان هل لك أن تتقدم على الرفقة فنتحدث قلت نعم ! قال ففعلنا فقال لي يا أبا سفيان إيه عن عتبة بن ربيعة قلت: كريم الطرفين ويجتنب المحارم والمظالم قلت نعم قال وشريف مسن قلت وشريف مسن قال السن والشرف ازريا به فقلت له كذبت ما ازداد سنا إلا ازداد شرفا قال يا أبا سفيان إنها كلمة ما سمعت أحدا يقولها لي منذ تبصرت فلا تعجل علي حتى أخبرك قال قلت هات قال: إني كنت أجد في كتبي نبيا يبعث من حرتنا هذه فكنت أظن بل كنت لا أشك إني أنا هو فلما دارست أهل العلم إذا هو من بني عبد مناف فنظرت في بني عبد مناف فلم أجد أحدا يصلح لهذا الامر غير عتبة بن ربيعة فلما أخبرتني بسنه عرفت أنه ليس به حين جاوز الاربعين ولم يوح إليه قال أبو سفيان فضرب الدهر ضربه فأوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرجت في ركب من قريش أريد اليمن في تجارة فمررت بأمية فقلت له كالمستهزئ به يا أمية قد خرج النبي الذي كنت تنعته قال أما إنه حق فاتبعه قلت ما يمنعك من
اتباعه قال ما يمنعني إلا الاستحياء من نساء ثقيف إني كنت أحدثهن أني هو ثم يرينني تابعا لغلام من بني عبد مناف ثم قال أمية كأني بك يا أبا سفيان قد خالفته ثم قد ربطت كما يربط الجدي حتى يؤتى بك إليه فيحكم فيك بما يريد.

(2/283)


وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن الكلبي قال بينا أمية راقد ومعه ابنتان له إذ فزعت إحداهما فصاحت عليه فقال لها ما شأنك قالت رأيت نسرين كشطا سقف البيت فنزل أحدهما إليك فشق بطنك والآخر واقف على ظهر البيت فناداه فقال أوعى قال نعم قال أزكى قال لا فقال ذاك خير أريد بأبيكما فلم يفعله وقد روى من وجه آخر بسياق آخر فقال إسحاق بن بشر عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن سعيد بن المسيب وعثمان بن عبد الرحمن عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال قدمت الفارعة أخت أمية بن أبي الصلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة وكانت ذات لب وعقل وجمال وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بها معجبا فقال لها ذات يوم يا فارعة هل تحفظين من شعر أخيك شيئا فقالت نعم وأعجب من ذلك ما قد رأيت قالت كان أخي في سفر فلما انصرف بدأني فدخل علي فرقد على سريري وأنا أحلق أديما في يدي إذ أقبل طائران أبيضان أو كالطيرين أبيضين فوقع على الكوة أحدهما ودخل الآخر فوقع عليه فشق الواقع عليه ما بين قصه إلى عانته ثم أدخل يده في جوفه فأخرجه قلبه فوضعه في كفه ثم شمه فقال له الطائر الآخر أوعى قال وعى قال أزكى قال أبي ثم رد القلب إلى مكانه فالتأم الجرح أسرع من طرفة عين ثم ذهبا فلما رأيت ذلك دنوت منه فحركته فقلت هل تجد شيئا.
قال: لا إلا توهينا في جسدي - وقد كنت ارتعبت مما رأيت - فقال مالي أراكي مرتاعة.
قالت فأخبرته الخبر فقال خير أريد بي ثم صرف عني ثم انشأ يقول: باتت همومي تسري طوارقها * اكف عيني والدمع سابقها ما أتاني من اليقين ولم * أوت براة يقص ناطقها أم من تلظى عليه واقدة الن * نار محيط بهم سرادقها أم أسكن الجنة التي وعد ال * أبرار مصفوفة نمارقها
لا يستوي المنزلان ثم ولا ال * أعمال لا تستوي طرائقها هما فريقان فرقة تدخل الجن * نة حفت بهم حدائقها وفرقة منهم قد أدخلت ال * نار فساءتهم مرافقها تعاهدت هذه القلوب إذا * همت بخير عاقت عوائقها وصدها للشقاء عن طلب ال * جنة دينا الله ما حقها عبد دعا نفسه فعاتبها * يعلم أن البصير رامقها ما رغب النفس في الحياة وان * تحيى قليلا فالموت لاحقها يوشك من فر من منيته * يوما على غرة يوافقها إن لم تمت غبطة تمت هرما * للموت كأس والمرء ذائقها قال ثم انصرف إلى رحله فلم يلبث إلا يسيرا حتى طعن في حيارته فأتاني الخبر فانصرفت إليه فوجدته منعوشا قد سجى عليه فدنوت منه فشهق شهقة وشق بصره ونظر نحو السقف ورفع صوته.
وقال: لبيكما لبيكما ها أنا ذا لديكما، لا ذو مال فيفديني ولا ذو أهل فتحميني.
ثم أغمي [ * ]

(2/284)


عليه إذ شهق شهقة فقلت قد هلك الرجل.
فشق بصره نحو السقف فرفع صوته.
فقال: لبيكما لبيكما ها أنا ذا لديكما، لا ذو براءة فاعتذر، ولا ذو عشيرة فانتصر.
ثم أغمي عليه إذ شهق شهقة وشق بصره ونظر نحو السلف.
فقال: لبيكما لبيكما ها أنا ذا لديكما، بالنعم محفود وبالذنب محصود، ثم أغمي عليه إذ شهق شهقة.
فقال: لبيكما لبيكما ها أنا ذا لديكما.
إن تغفر اللهم تغفر جما * وأي عبد لك لا ألما ثم أغمي عليه إذ شهق شهقة فقال: كل عيش وان تطاول دهرا * صائر مرة (2) إلى أن يزولا ليتني كنت قبل ما قد بدا لي * في قلال الجبال أرعى الوعولا قالت: ثم مات.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا فارعة إن مثل أخيك كمثل الذي آتاه الله آياته
فانسلخ منها ".
الآية وقد تكلم الخطابي على غريب هذا الحديث.
وروى الحافظ ابن عساكر عن الزهري أنه قال قال أمة بن أبي الصلت: ألا رسول لنا منا يخبرنا * ما بعد غايتنا من رأس مجرانا قال ثم خرج أمية بن أبي الصلت إلى البحرين وتنبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقام أمية بالبحرين ثماني سنين ثم قدم الطائف فقال لهم: ما يقول محمد بن عبد الله قالوا يزعم أنه نبي هو الذي كنت تتمنى.
قال: فخرج حتى قدم عليه مكة فلقيه.
فقال: يابن عبد المطلب ما هذا الذي تقول قال أقول: إني رسول الله وأن لا إله إلا هو.
قال: إني أريد أن أكلمك فعدني غدا قال فموعدك غدا قال فتحب أن آتيك وحدي أو في جماعة من أصحابي وتأتيني وحدك أو في جماعة من أصحابك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أي ذلك شئت قال فإني آتيك في جماعة فأت في جماعة قال فلما كان الغد غدا أمية في جماعة من قريش قال وغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم معه نفر من أصحابه حتى جلسوا في ظل الكعبة.
قال: فبدأ أمية فخطب ثم سجع ثم أنشد الشعر حتى إذا فرغ الشعر قال أجبني يابن عبد المطلب.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بسم الله الرحمن الرحيم.
يسن والقرآن الحكيم) حتى إذا فرغ منها وثب أمية يجر رجليه قال فتبعته قريش يقولون ما تقول يا أمية قال أشهد أنه على الحق.
فقالوا: هل تتبعه قال حتى أنظر في أمره قال ثم خرج أمية إلى الشام وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فلما قتل أهل بدر قدم أمية من الشام حتى نزل بدرا ثم ترحل يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال قائل: يا أبا الصلت ما تريد ؟ قال أريد محمدا قال وما تصنع ؟ قال أو من به والقى إليه مقاليد هذا الامر قال: أتدري من في القليب ؟ قال لا قال: فيه عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وهما ابنا خالك - وأمه ربيعة بنت عبد شمس - قال فجدع أذني ناقته وقطع ذنبها ثم وقف على القليب يقول: ماذا ببدر فالعقن * - قل من مرازبة جحاجح القصيدة إلى آخرها كما سيأتي ذكرها بتمامها في قصة بدر إن شاء الله.
ثم رجع إلى مكة

(2/285)


والطائف وترك الاسلام.
ثم ذكر قصة الطيرين وقصة وفاته كما تقدم وأنشد شعره عند الوفاة:
كل عيش وإن تطاول دهرا * صائر مرة إلى أن يزولا ليتني كنت قبل ما قد بدا لي * في قلال الجبال أرعى الوعولا فاجعل الموت نصب عينيك واحذر * غولة الدهر إن للدهر غولا نائلا ظفرها القساور والصد * عان والطفل في المنار الشكيلا وبغاث النياف واليعفر النا * فر والعوهج البرام الضئيلا فقوله: القساور جمع قسورة وهو الاسد.
والصدعان ثيران الوحش واحدها صدع والطفل الشكل من حمرة العين، والبغاث الرخم، والنياف الجبال، واليعفر الظبي، والعوهج ولد النعامة.
يعني أن الموت لا ينجو منه الوحوش في البراري ولا الرخم الساكنة في رؤوس الجبال ولا يترك صغيرا لصغره ولا كبيرا لكبره.
وقد تكلم الخطابي وغيره على غريب هذه الاحاديث وقد ذكر السهيلي في كتابه التعريف والاعلام: أن أمية بن أبي الصلت أول من قال باسمك اللهم، وذكر عند ذلك قصة غريبة وهو أنهم خرجوا في جماعة من قريش في سفر فيهم حرب بن أمية والد أبي سفيان قال فمروا في مسيرهم بحية فقتلوها فلما أمسوا جاءتهم امرأة من الجان فعاتبتهم في قتل تلك الحية ومعها قضيب فضربت به الارض ضربة نفرت الابل عن آخرها فذهبت وشردت كل مذهب وقاموا فلم يزالوا في طلبها حتى ردوها فلما اجتمعوا جاءتهم أيضا فضربت الارض بقضيبها فنفرت الابل فذهبوا في طلبها فلما أعياهم ذلك قالوا والله هل عندك لما نحن فيه من مخرج فقال لا والله ولكن سأنظر في ذلك قال فساروا في تلك المحلة لعلهم يجدون أحدا يسألونه عما قد حل بهم من العناء إذا نار تلوح على بعد فجاؤوها فإذا شيخ على باب خيمة يوقد نارا وإذا هو من الجان في غاية الضآلة والدمامة فسلموا عليه فسألهم عما هم فيه فقال إذا جاءتكم فقل بسمك اللهم فإنها تهرب فلما اجتمعوا وجاءتهم الثالثة أو الرابعة قال في وجهها أمية بسمك اللهم فشردت ولم يقر لها قرار لكن عدت الجن على حرب بن أمية فقتلوه بتلك الحية فتبره أصحابه هنالك حيث لا جار ولا دار ففي ذلك يقول الجان: وقبر حرب بمكان قفر * وليس قرب قبر حرب قبر
وذكر بعضهم: أنه كان يتفرس في بعض الاحيان في لغات الحيوانات فكان يمر في السفر على الطير فيقول لاصحابه: إن هذا يقول كذا وكذا فيقولون لا نعلم صدق ما يقول حتى مروا على قطيع غنم قد انقطعت منه شاة ومعها ولدها فالتفتت إليه فثغت كأنها تستحثه.
فقال: أتدرون ما تقول له قالوا لا قال إنها تقول أسرع بنا لا يجئ الذئب فيأكلك كما أكل الذئب أخاك عام أول فاسرعوا حتى سألوا الراعي هل أكل له الذئب عام أول حملا بتلك البقعة فقال نعم.
قال: ومر يوما على بعير عليه امرأة راكبة وهو يرفع رأسه إليها ويرغو.
فقال: إنه يقول لها إنك رحلتيني وفي

(2/286)


الحداجة مخيط فانزلوا تلك المرأة وحلوا ذلك الرحل فإذا فيه مخيط كما قال.
وذكر ابن السكيت: أن أمية بن أبي الصلت بينما هو يشرب يوما إذ نعب غراب.
فقال: له بفيك التراب مرتين.
فقيل له ما يقول ؟ فقال: إنه يقول إنك تشرب هذا الكأس الذي في يدك ثم تموت.
ثم نعب الغراب فقال إنه يقول وآية ذلك أني أنزل على هذه المزبلة فآكل منها فيعلق عظم في حلقي فأموت.
ثم نزل الغراب على تلك المزبلة فأكل شيئا فعلق في حلقه عظم فمات.
فقال: أمية أما هذا فقد صدق في نفسه ولكن سأنظر هل صدق في أم لا ثم شرب ذلك الكأس الذي في يده ثم اتكأ فمات.
وقد ثبت في الصحيح من حديث ابن مهدي عن الثوري عن عبد الملك بن عمير عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: * ألا كل شئ ما خلا الله باطل * وكاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم.
فقال الامام أحمد: حدثنا روح حدثنا زكريا بن إسحاق حدثنا إبراهيم بن ميسرة أنه سمع عمرو بن الشريد يقول قال الشريد كنت ردفا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: أمعك من شعر أمية بن أبي الصلت شئ ؟ قلت نعم ! قال فانشدني فانشدته بيتا فلم يزل يقول لي كلما أنشدته بيتا أيه حتى أنشدته مائة بيت قال ثم سكت النبي صلى الله عليه وسلم وسكت.
وهكذا رواه مسلم من حديث سفيان بن عيينة عن أبي تميم بن ميسرة به.
ومن غير وجه عن عمرو بن الشريد عن أبيه الشريد بن سويد الثقفي عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي بعض الروايات فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أن كاد يسلم ".
وقال يحيى بن محمد بن صاعد حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري حدثنا أبو أسامة حدثنا حاتم بن أبي صفرة عن سماك بن حرب عن عمرو بن نافع عن الشريد الهمداني وأخواله ثقيف قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فبينا أنا أمشي ذات يوم إذا وقع ناقة خلفي فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الشريد فقلت نعم: قال ألا أحملك قلت بلى وما من إعياء ولكني أردت البركة في ركوبي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأناخ فحملني فقال: أمعك من شعر أمية بن أبي الصلت ؟ قلت نعم ! قال هات فأنشدته قال أظنه قال مائة بيت فقال عند الله علم أمية بن أبي الصلت: ثم قال ابن صاعد هذا حديث غريب فأما الذي يروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في أمية: " آمن شعره وكفر قلبه " فلا أعرفه والله أعلم.
وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الله بن محمد - هو أبو بكر بن أبي شيبة - حدثنا عبدة بن سليمان عن محمد بن إسحاق عن يعقوب بن عتبة عن عكرمة عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صدق أمية في شئ من شعره قال:

(2/287)


زحل وثور تحت رجل يمينه * والنسر للاخرى وليث مرصد والشمس تبدو كل آخر ليلة * حمراء يصبح لونها يتورد تأبى فما تطلع لنا في رسلها * إلا معذبة وإلا تجلد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم صدق.
وفي رواية أبي بكر الهذلي عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال إن الشمس لا تطلع حتى ينخسها سبعون ألف ملك يقول لها اطلعي اطلعي فتقول لا أطلع على قوم يعبدونني من دون الله فإذا همت بالطلوع أتاها شيطان يريد أن يثبطها فتطلع بين قرنيه وتحرقه فإذا تضيفت للغروب عزمت لله عزوجل فيأتيها شيطان يريد أن يثبطها عن السجود فتغرب من
قرنيه وتحرقه.
أورده ابن عساكر مطولا.
ومن شعره في حملة العرش: فمن حامل إحدى قوائم عرشه * ولولا إله الخلق كلوا وأبلدوا قيام على الاقدام عانون تحته * فرائصهم من شدة الخوف ترعد رواه ابن عساكر وروى عن الاصمعي أنه كان ينشد من شعر أمية: مجدوا الله فهو للمجد أهل * ربنا في السماء أمسى كبيرا بالبناء الاعلى الذي سبق الن * ناس وسوى فوق السماء سريرا شرجعا [ ما ] يناله بصر العي * - ن ترى دونه الملائك صورا ثم يقول الاصمعي: الملائك جمع ملك والصور جمع أصور وهو المائل العنق وهؤلاء حملة العرش.
ومن شعر أمية بن أبي الصلت يمدح عبد الله بن جدعان التيمي: أأذكر حاجتي أم قد كفاني * حياؤك إن شيمتك الحياء وعلمك بالحقوق وأنت فرع * لك الحسب المهذب والسناء كريم لا يغيره صباح * عن الخلق الجميل ولا مساء يباري الريح مكرمة وجودا * إذا ما الكلب أحجره الشتاء وأرضك أرض مكرمة بنتها * بنو تيم وأنت لها سماء إذا أثنى عليك المرء يوما * كفاه من تعرضه الثناء وله فيه مدائح أخر.
وقد كان عبد الله بن جدعان هذا من الكرماء الاجواد الممحدين المشهورين وكان له جفنة يأكل الراكب منها وهو على بعيره من عرض حافتها وكثرة طعامها، وكان يملاها لباب البر يلبك بالشهد والسمن، وكان يعتق الرقاب ويعين على النوائب وقد سألت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم أينفعه ذلك ؟ فقال إنه لم يقل يوما من الدهر (رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين) ومن شعر أمية البديع: لا ينكثون الارض عند سؤالهم * كتطلب العلات بالعيدان بل يسفرون وجوههم فترى لها * عند السؤال كأحسن الالوان

(2/288)


وإذا المقل أقام وسط رحالهم * ردوه رب صواهل وقيان وإذا دعوتهم لكل ملمة * سدوا شماع الشمس بالفرسان آخر ترجمة أمية بن أبي الصلت.
بحيرا الراهب الذي توسم في رسول الله صلى الله عليه وسلم النبوة وهو مع عمه أبي طالب حين قدم الشام في تجار من أهل مكة وعمره إذا ذاك اثنتي (1) عشرة سنة فرأى الغمامة تظله من بينهم.
فصنع لهم طعاما ضيافة واستدعاهم كما سيأتي بيان ذلك في السيرة وقد روى الترمذي في ذلك حديثا بسطنا الكلام عليه هنالك وقد أورد له الحافظ ابن عساكر شواهد وسائغات في ترجمة بحيرا ولم يورد ما رواه الترمذي وهذا عجب وذكر ابن عساكر أن بحيرا كان يسكن قرية يقال لها الكفر بينها وبين بصرى ستة أميال وهي التي يقال لها (دير بحيرا) قال ويقال: إنه كان يسكن قرية يقال لها منفعة بالبلقاء وراء زيرا والله أعلم.
ذكر قس بن ساعدة الايادي
قال الحافظ أبو بكر محمد بن جعفر بن سهل الخرائطي في كتاب " هواتف الجان ": حدثنا داود القنطري، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثني أبو عبد الله المشرقي، عن أبي الحارث الوراق، عن ثور بن يزيد، عن مورق العجلي، عن عبادة بن الصامت.
قال: لما قدم وفد إياد على النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يا معشر وفد إياد ما فعل قس بن ساعدة الايادي ".
قالوا: هلك يا رسول الله.
قال: " لقد شهدته يوما بسوق عكاظ على جمل أحمر يتكلم بكلام معجب مونق لا أجدني أحفظه ".
فقام إليه أعرابي من أقاصي القوم فقال: أنا أحفظه يارسول الله.
قال: فسر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك قال: " فكان بسوق عكاظ على جمل أحمر وهو يقول: يا معشر الناس اجتمعوا فكل من فات فات، وكل شئ آت آت، ليل داج، وسماء ذات أبراج، وبحر عجاج، نجوم تزهر، وجبال مرسية، وأنهار مجرية، إن في السماء لخبرا، وإن في الارض لعبرا، مالي أرى
الناس يذهبون فلا يرجعون، أرضوا بالاقامة فأقاموا، أم تركوا فناموا.
أقسم قس بالله قسما لا ريب فيه.
إن لله دينا هو أرضى من دينكم هذا ثم أنشأ يقول: في الذاهبين الاولي * ن من القرون لنا بصائر لما رأيت مواردا * للموت ليس لها مصادر ورأيت قومي نحوها * يمضي الاصاغر والاكابر لا من مضى يأتي الي * ك ولا من الباقين غابر أيقنت أني لا محا * لة حيث صار القوم صائر وهذا إسناد غريب من هذا الوجه وقد رواه الطبراني من وجه آخر فقال في كتابه " المعجم
__________
(1) في الاصل اثني وهو خطأ.
[ * ]

(2/289)


الكبير ": حدثنا محمد بن السري بن مهران بن الناقد البغدادي، حدثنا محمد بن حسان السهمي، حدثنا محمد بن الحجاج، عن مجالد، عن الشعبي، عن ابن عباس.
قال: قدم وفد عبد القيس على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " أيكم يعرف القس بن ساعدة الايادي ".
قالوا: كلنا يعرفه يا رسول الله.
قال: " فما فعل " ؟ قالوا: هلك، قال: فما أنساه بعكاظ في الشهر الحرام وهو على جمل أحمر وهو يخطب الناس وهو يقول: يا أيها الناس اجتمعوا واستمعوا وعوا، من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت.
إن في السماء لخبرا، وإن في الارض لعبرا، مهاد موضوع، وسقف مرفوع، ونجوم تمور، وبحار لا تغور.
وأقسم قس قسما حقا لئن كان في الامر رضي ليكون بعده سخط.
إن لله لدينا هو أحب إليه من دينكم الذي أنتم عليه.
مالي أرى الناس يذهبون ولا يرجعون.
أرضوا بالمقام فأقاموا.
أم تركوا فناموا.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أفيكم من يروي شعره ؟ فأنشده بعضهم: في الذاهبين الاولي * - ن من القرون لنا بصائر لما رأيت مواردا * للموت ليس ما مصادر
ورأيت قومي نحوها * يسعي الاصاغر والاكابر لا يرجع الماضي إلي * ولا من الباقين غابر أيقنت أني لا محا * لة حيث صار القوم صائر وهكذا أورده الحافظ البيهقي في كتابه دلائل النبوة من طريق محمد بن حسان السلمي به.
وهكذا رويناه في الجزء الذي جمعه الاستاذ أبو محمد عبد الله بن جعفر بن درستويه في أخبار قس قال حدثنا عبد الكريم بن الهيثم الدير عاقولي عن سعيد بن شبيب، عن محمد بن الحجاج، عن إبراهيم الواسطي نزيل بغداد، ويعرف بصاحب الفريسة.
وقد كذبه يحيى بن معين وأبو حاتم الرازي والدارقطني واتهمه غير واحد منهم ابن عدي بوضع الحديث.
وقد رواه البزار وأبو نعيم من حديث محمد بن الحجاج هذا ورواه ابن درستويه وأبو نعيم من طريق الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، وهذه الطريق أمثل من التي قبلها وفيه: إن أبا بكر هو الذي أورد القصة بكمالها نظمها ونثرها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ورواه الحافظ أبو نعيم من حديث أحمد بن موسى بن إسحاق الحطمي.
حدثنا علي بن الحسين بن محمد المخزومي حدثنا أبو حاتم السجستاني حدثنا وهب بن جرير عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن ابن عباس.
قال قدم وفد بكر بن وائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: " ما فعل حليف لكم يقال له قس بن ساعدة الايادي " وذكر القصة مطولة.
وأخبرنا الشيخ المسند الرحلة أحمد بن أبي طالب الحجار إجازة إن لم يكن سماعا قال أجاز لنا جعفر بن علي الهمداني قال أخبرنا الحافظ أبو طاهر أحمد بن محمد بن أحمد بن إبراهيم السلفي سماعا وقرأت على شيخنا الحافظ أبي عبد الله الذهبي أخبرنا أبو علي الحسن بن علي بن أبي بكر الخلال سماعا قال أنا جعفر بن علي سماعا قال أنا السلفي سماعا

(2/290)


أنا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن إبراهيم الرازي أنا أبو الفضل محمد بن أحمد بن عيسى السعدي أنا أبو القاسم عبيد الله بن أحمد بن علي المقرئ حدثنا أبو محمد عبد الله بن جعفر بن درستويه النحوي قال حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن أحمد السعدي - قاضي فارس - حدثنا أبو داود
سليمان بن سيف بن يحيى بن درهم الطائي من أهل حران حدثنا أبو عمرو سعيد بن يربع عن محمد بن إسحاق حدثني بعض أصحابنا من أهل العلم عن الحسن بن أبي الحسن البصري أنه قال: كان الجارود بن المعلى بن حنش بن معلى العبدي نصرانيا حسن المعرفة بتفسير الكتب وتأويلها عالما بسير الفرس وأقاويلها بصيرا بالفلسفة والطب ظاهر الدهاء والادب كامل الجمال ذا ثروة ومال وأنه قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وافدا في رجال من عبد القيس ذوي اراء وأسنان وفصاحة وبيان وحجج وبرهان فلما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وقف بين يديه وأشار إليه وأنشأ يقول: يا نبي الهدى أتتك رجال * قطعت فدفدا وآلا فآلا وطوت نحوك الصحاصح تهوى * لا تعد الكلال فيك كلالا كل بهماء قصر الطرف عنها * أرقلتها قلاصنا ارقالا وطوتها العتاق يجمح فيها * بكماة كأنجم تتلألأ تبتغي دفع بأس يوم عظيم * هائل أوجع القلوب وهالا ومزادا لمحشر الخلق طرا * وفراقا لمن تمادى ضلالا نحو نور من الاله وبرها * ن وبر ونعمة أن تنالا خصك الله يا بن آمنة الخ * - ير بها إذ أتت سجالا سجالا فاجعل الحظ منك يا حجة الل * ه جزيلا لاحظ خلف أحالا قال فأدناه النبي صلى الله عليه وسلم وقرب مجلسه وقال له.
يا جارود لقد تأخر الموعود بك وبقومك.
فقال الجارود: فداك أبي وأمي أما من تأخر عنك فقد فاته حظه وتلك أعظم حوبة وأغلظ عقوبة وما كنت فيمن رآك أو سمع بك فعداك واتبع سواك وإني الآن على دين قد علمت به قد جئتك وها أنا تاركه لدينك أفذلك مما يمحص الذنوب والمآثم والحوب ؟ ويرضى الرب عن المربوب فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا ضامن لك ذلك واخلص الآن لله بالوحدانية ودع عنك دين النصرانية.
فنال الجارود: فداك أبي وأمي مد يدك فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أنك محمد عبده ورسوله.
قال: فأسلم وأسلم معه أناس من قومه فسر النبي صلى الله عليه وسلم بإسلامهم، وأظهر من
إكرامهم ما سروا به وابتهجوا به.
ثم أقبل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أفيكم من يعرف قس بن ساعدة الايادي فقال الجارود فداك أبي وأمي كلنا نعرفه وإني من بينهم لعالم بخبره واقف على أمره كان قس يارسول الله سبطا من أسباط العرب عمر ستمائة سنة تقفز منها خمسة أعمار في البراري والقفار يضج بالتسبيح على مثال المسيح لا يقره قرار ولا تكنه دار ولا يستمتع به جار.
كان يلبس الامساح ويفوق السياح، ولا يفتر من رهبانيته يتحسى في سياحته بيض النعام ويأنس بالهوام،

(2/291)


ويستمتع بالظلام، يبصر فيعتبر، ويفكر فيختبر، فصار لذلك واحدا تضرب بحكمته الامثال، وتكشف به الاهوال.
أدرك رأس الحواريين سمعان، وهو أول رجل تأله من العرب ووحد، وأقر وتعبد، وأيقن بالبعث والحساب، وحذر سوء المآب، وأمر بالعمل قبل الفوت، ووعظ بالموت وسلم بالقضاء، على السخط والرضا، وزار القبور، وذكر النشور، وندب بالاشعار، وفكر في الاقدار، وأنبأ عن السماء والنماء، وذكر النجوم وكشف الماء، ووصف البحار، وعرف الآثار، وخطب راكبا، ووعظ دائبا، وحذر من الكرب، ومن شدة الغضب، ورسل الرسائل، وذكر كل هائل، وأرغم في خطبه، وبين في كتبه، وخوف الدهر، وحذر الازر، وعظم الامر، وجنب الكفر، وشوق إلى الحنيفية، ودعا إلى اللاهوتية.
وهو القائل في يوم عكاظ.
شرق وغرب، ويتم وحزب، وسلم وحرب، ويابس ورطب، وأجاج وعذب، وشموس وأقمار، ورياح وأمطار، وليل ونهار، وأناث وذكور، وبرار وبحور، وحب ونبات، وآباء وأمهات، وجمع واشتات، وآيات في إثرها آيات، ونور وظلام، ويسر وإعدام، ورب وأصنام، لقد ضل الانام، نشو مولود، ووأد مفقود، وتربية محصود، وفقير وغني، ومحسن ومسئ، تبا لارباب الغفلة، ليصلحن العامل عمله، وليفقدن الآمل أمله، كلا بل هو إله واحد، ليس بمولود ولا والد، أعاد وأبدى، وأمات وأحيا، وخلق الذكر والانثى، رب الآخرة والاولى.
أما بعد: فيا معشر إياد، أين ثمود وعاد ؟ وأين الآباء والاجداد ؟ وأين العليل والعواد ؟ كل له معاد يقسم قس برب العباد، وساطح المهاد، لتحشرن على الانفراد، في يوم التناد، إذا نفخ في الصور، ونقر في
الناقور، وأشرقت الارض، ووعظ الواعظ، فانتبذ القانط وأبصر اللاحظ، فويل لمن صدف عن الحق الاشهر، والنور الازهر، والعرض الاكبر، في يوم الفصل، وميزان العدل، إذا حكم القدير، وشهد النذير، وبعد النصير، وظهر التقصير، ففريق في الجنة وفريق في السعير.
وهو القائل: ذكر القلب من جواه ادكار * وليال خلالهن نهار وسجال هو اطل من غمام * ثرن ماء وفي جواهن نار ضوءها يطمس العيون وأرعا * دشداد في الخافقين تطار وقصور مشيدة حوت الخ * - ير وأخرى خلت بهن قفار وجبال شوامخ راسيات * وبحار مياههن غزار ونجوم تلوح في ظلم اللي * - ل نراها في كل يوم تدار ثم شمس يحثها قمر اللي * - ل وكل متابع موار وصغير وأشمط وكبير * كلهم في الصعيد يوما مزار وكبير مما يقصر عنه * حدسه الخاطر الذي لا يحار فالذي قد ذكرت دل على الل * ه نفوسا لها هدى واعتبار

(2/292)


قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مهما نسيت فلست أنساه بسوق عكاظ، واقفا على جمل أحمر يخطب الناس: اجتمعوا فاسمعوا، وإذا سمعتم فعوا، وإذا وعيتم فانتفعوا، وقولوا وإذا قلتم فاصدقوا، من عاش مات، ومن مات فات، ولك ما هو آت آت، مطر ونبات، واحياء وأموات، ليل داج، وسماء ذات أبراج، ونجوم تزهر، وبحار تزخر، وضوء وظلام، وليل وأيام، وبر وآثام، إن في السماء خبرا، وإن في الارض عبرا، يحار فيهن البصرا، مهاد موضوع، وسقف مرفوع، ونجوم تغور، وبحار لا تفور، ومنايا دوان، ودهر خوان، كحد النسطاس، ووزن القسطاس.
اقسم قس قسما، لا كاذبا فيه ولا آثما، لئن كان في هذا الامر
رضي، ليكونن سخط.
ثم قال: أيها الناس إن لله دينا هو أحب إليه من دينكم هذا الذي أنتم عليه وهذا زمانه وأوانه.
ثم قال مالي أرى الناس يذهبون فلا يرجعون، ارضوا بالمقام فأقاموا ؟ أم تركوا فناموا.
والتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم: إلى بعض أصحابه فقال: أيكم يروي شعره لنا ؟ فقال أبو بكر الصديق: فداك أبي وأمي أنا شاهد له في ذلك اليوم حيث يقول: في الذاهبين الاولي * - ن من القرون لنا بصائر لما رأيت مواردا * للموت ليس لها مصادر ورأيت قومي نحوها * يمضي الاصاغر والاكابر لا يرجع الماض إلي * ي ولا من الباقين غابر أيقنت أني لا محا * لة حيث صار القوم صائر قال: فقام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شيخ من عبد القيس عظيم الهامة، طويل القامة، بعيد ما بين المنكبين فقال: فداك أبي وأمي وأنا رأيت من قس عجبا.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الذي رأيت يا أخا بني عبد القيس ؟ فقال: خرجت في شبيبتي أربع بعيرا لي فدعني أقفو أثره في تنائف قفاف ذات ضغابيس وعرصات جثجاث بين صدور جذعان، وغمير حوذان، ومهمه ظلمان، ورصيع ليهقان، فبينا أنا في تلك القلوات أجول بسبسبها وأرنق فدفدها إذا أنا بهضبة في نشزاتها أراك كباث مخضوضلة واغصانها متهدلة كأن بريرها حب الفلفل وبواسق اقحوان، وإذا بعين خرارة وروضة مدهامة، وشجرة عارمة، وإذا أنا بقس بن ساعدة في أصل تلك الشجرة وبيده قضيب.
فدنوت منه وقلت له: أنعم صباحا ! فقال: وأنت فنعم صباحك ! وقد وردت العين سباع كثيرة فكان كلما ذهب سبع منها يشرب من العين قبل صاحبه ضربه قس بالقضيب الذي بيده.
وقال: اصبر حتى يشرب الذي قبلك فذعرت من ذلك ذعرا شديدا، ونظر إلي فقال لا تخف.
وإذا بقبرين بينهما مسجد فقلت ما هذان ؟ القبران ؟ قال قبر أخوين كانا يعبدان الله عز وجل بهذا الموضع فأنا مقيم بين قبريهما عبد الله حتى الحق بهما.
فقلت له: أفلا تلحق بقومك فتكون معهم في خيرهم وتبيانهم على شرهم ؟ فقال لي: ثكلتك أمك أو ما علمت أن ولد
إسماعيل تركوا دين أبيهم واتبعوا الاضداد وعظموا الانداد ثم أقبل على القبرين وانشأ يقول:

(2/293)


خليلي هبا طالما قد رقدتما * أجد كما لا تقضيان كراكما أرى النوم بين الجلد والعظم منكما * كأن الذي يسقي العقار سقاكما أمن طول نوم لا تجيبان داعيا * كأن الذي يسقي العقار سقاكما ألم تعلما أني بنجران مفردا * ومالي فيه من حبيب سواكما مقيم على قبريكما لست بارحا * إياب الليالي أو يجيب صداكما أأبكيكما طول الحياة وما الذي * يرد على ذي لوعة أن بكاكما فلو جعلت نفس لنفس أمرئ فدى * لجدت بنفسي أن تكون فداكما كأنكما والموت أقرب غاية * بروحي في قبريكما قد أتاكما قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رحم الله قسا أما إنه سيبعث يوم القيامة أمة واحدة.
وهذا الحديث غريب جدا من هذا الوجه وهو مرسل إلا أن يكون الحسن سمعه من الجارود والله أعلم.
وقد رواه البيهقي: والحافظ أبو القاسم بن عساكر من وجه آخر من حديث محمد بن عيسى ابن محمد بن سعيد القرشي الاخباري ثنا أبي ثنا علي بن سليمان بن علي عن علي بن عبد الله عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.
قال: قدم الجارود بن عبد الله فذكر مثله أو نحوه مطولا بزيادات كثيرة في نظمه ونثره، وفيه ما ذكره عن الذي ضل بعيره فذهب في طلبه قال فبت في واد لا آمن فيه حتفي، ولا أركن إلى غير سيفي، أرقب الكوكب، وأرمق الغيهب، حتى إذا الليل عسعس، وكاد الصبح أن يتنفس، هتف بي هاتف يقول: يا أيها الراقد في الليل الاجم * قد بعث الله نبيا في الحرم من هاشم أهل الوفاء والكرم * يجلو دجيات الدياجي والبهم قال فأدرت طرفي فما رأيت له شخصا ولا سمعت له فحصا، قال فأنشأت أقول: يا أيها الهاتف في داجي الظلم * أهلا وسهلا بك من طيف ألم
بين هداك الله في لحن الكلم * ماذا الذي تدعو إليه يغتنم قال فإذا أنا بنحنحة وقائلا يقول: ظهر النور، وبطل الزور، وبعث الله محمدا بالحبور صاحب النجيب الاحمر، والتاج والمغفر، والوجه الازهر، والحاجب الاقمر، والطرف الاحور، صاحب قول شهادة أن لا إله إلا الله وذلك محمد المبعوث إلى الاسود والابيض أهل المدر والوبر ثم أنشأ يقول: الحمد لله الذي * لم يخلق الخلق عبث لم يخلنا يوما سدى * من بعد عيسى واكترث أرسل فينا أحمدا * خير نبي قد بعث صلى عليه الله ما * حج له ركب وحث

(2/294)


وفيه من إنشاء قس بن ساعدة: يا ناعى الموت والملحود في جدث * عليهم من بقايا قولهم خرق دعهم فإن لهم يوما يصاح بهم * فهم إذا انتبهوا من نومهم أرقوا حتى يعودوا بحال غير حالهم * خلقا جديدا كما من قبله خلقوا منهم عراة ومنهم في ثيابهم * منها الجديد ومنها المنهج الخلق ثم رواه البيهقي عن محمد بن عبد الله بن يوسف بن أحمد الاصبهاني.
حدثنا أبو بكر أحمد بن سعيد بن فرضخ الاخميمي بمكة ثنا القاسم بن عبد الله بن مهدي ثنا أبو عبيد الله سعيد بن عبد الرحمن المخزومي ثنا سفيان بن عيينة عن أبي حمزة الثمالي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس.
فذكر القصة وذكر الانشاد قال فوجد واعبد رأسه صحيفة فيها: يا ناعي الموت والاموات في جدث * عليهم من بقايا نومهم خرق دعهم فإن لهم يوما يصاح بهم * كما تنبه من نوماته الصعق منهم عراة وموتى في ثيابهم * منها الجديد ومنها الازرق الخلق
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي بعثني بالحق لقد آمن قس بالبعث.
وأصله مشهور وهذه الطرق على ضعفها كالمتعاضدة على إثبات أصل القصة وقد تكلم أبو محمد بن درستويه على غريب ما وقع في هذا الحديث وأكثره ظاهر إن شاء الله تعالى وما كان فيه غرابة شديدة نبهنا عليه في الحواشي.
وقال البيهقي: أنا أبو سعيد بن محمد بن أحمد الشعيثي ثنا أبو عمرو بن أبي طاهر المحمدي آباذي لفظا ثنا أبو لبابة محمد بن المهدي الاموردي ثنا أبي ثنا سعيد بن هبيرة ثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه عن أنس بن مالك قال قدم وفد أياد على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما فعل قس بن ساعدة ! قالوا هلك.
قال أما إني سمعت منه كلاما أرى أني أحفظه فقال بعض القوم نحن نحفظه يا رسول الله قال هاتوا: فقال قائلهم إني واقف بسوق عكاظ فقال: يا أيها الناس استمعوا واسمعوا وعوا، كل من عاش مات، وكل من مات فات، وكل ما هو آت آت، ليل داج، وسماء ذات أبراج، ونجوم تزهر، وبحار تزخر، وجبال مرسية وأنها مجرية إن في السماء لخبرا، وإن في الارض لعبرا، أرى الناس يموتون ولا يرجعون أرضوا بالاقامة فأقاموا، أم تركوا فناموا، أقسم قس قسما بالله لا آثم فيه، إن لله دينا هو أرضى مما أنتم عليه ثم أنشأ يقول: في الذاهبين الاول * ين من القرون لنا بصائر لما رأيت مصارعا * للقوم ليس لها مصادر ورأيت قومي نحوها * يمضي الاكابر والاصاغر أيقنت أني لا محا * لة حيث صار القوم صائر [ * ]

(2/295)


ثم ساقه البيهقي من طرق أخر قد نبهنا عليها فيما تقدم ثم قال بعد ذلك كله وقد روى هذا الحديث عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس بزيادة ونقصان.
وروى من وجه آخر عن الحسن البصري منقطعا وروى مختصرا من حديث سعد بن أبي وقاص وأبي هريرة.
قلت: وعبادة بن الصامت كما تقدم وعبد الله بن مسعود كما رواه أبو نعيم في كتاب الدلائل عن
عبد الله بن محمد بن عثمان الواسطي عن أبي الوليد طريف بن عبيد الله مولى علي بن أبي طالب بالموصل عن يحيى بن عبد الحميد الحماني عن أبي معاوية عن الاعمش عن أبي الضحى عن مسروق عن ابن مسعود فذكره.
وروى أبو نعيم أيضا حديث عبادة المتقدم وسعد بن أبي وقاص.
ثم قال البيهقي وإذا روى الحديث من أوجه أخر وإن كان بعضها ضعيفا دل على أن للحديث أصلا والله أعلم.
زيد بن عمرو بن نفيل رضي الله عنه هو زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرظ بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي القرشي العدوي.
وكان الخطاب والد عمر بن الخطاب عمه وأخاه لامه وذلك لان عمرو بن نفيل كان قد خلف على امرأة أبيه بعد أبيه، وكان لها من نفيل أخوه الخطاب قاله الزبير بن بكار ومحمد بن إسحاق.
وكان زيد بن عمرو قد ترك عبادة الاوثان وفارق دينهم وكان لا بأكل إلا ما ذبح على اسم الله وحده.
قال يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق حدثني هشام بن عروة عن أبيه عن أسماء بنت أبي بكر قالت: لقد رأيت زيد بن عمرو بن نفيل مسندا ظهره إلى الكعبة يقول: يا معشر قريش والذي نفس زيد بيده ما أصبح أحد منكم على دين إبراهيم غيري.
ثم يقول: اللهم إني لو أعلم أحب الوجوه إليك عبدتك به ولكني لا أعلم ثم يسجد على راحلته.
وكذا رواه أبو أسامة عن هشام به وزاد وكان يصلي إلى الكعبة ويقول إلهي إله إبراهيم، وديني دين إبراهيم.
وكان يحيى الموؤودة ويقول للرجل إذا أراد أن يقتل ابنته لا تقتلها ادفعها إلي أكفلها فإذا ترعرعت فإن شئت فخذها وإن شئت فادفعها.
أخرجه النسائي من طريق أبي أسامة وعلقه البخاري فقال: وقال الليث كتب إلى هشام بن عروة عن أبيه به وقال يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق: وقد كان نفر من قريش زيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى وعثمان بن الحويرث بن أسد بن عبد العزى وعبد الله بن جحش بن رياب بن يعمر بن صبرة بن برة بن كبير بن غنم بن دودان بن أسعد بن أسد بن خزيمة.
وأمه أميمة بنت عبد المطلب.
واخته زينب بنت جحش التى تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد مولاه زيد بن حارثة كما
سيأتي بيانه.
حضروا قريشا عند وثن لهم كانوا يذبحون عنده لعيد من أعيادهم، فلما اجتمعوا خلا بعض أولئك النفر إلى بعض وقالوا تصادقوا وليكتم بعضكم على بعض.
فقال قائلهم تعلمن والله ما قومكم على شئ لقد أخطأوا دين إبراهيم وخالفوه ما وثن يعبد ؟ لا يضر ولا ينفع فابتغوا لانفسكم فخرجوا يطلبون ويسيرون في الارض يلتمسون أهل كتاب من اليهود والنصارى والملل

(2/296)


كلها.
الحنيفية دين إبراهيم، فلما ورقة بن نوفل فتنصر واستحكم في النصرانية وابتغى الكتب من أهلها حتى علم علما كثيرا من أهل الكتاب ولم يكن فيهم أعدل أمرا واعدل ثباتا من زيد بن عمرو بن نفيل اعتزل الاوثان وفارق الاديان من اليهود والنصارى والملل كلها إلا دين الحنيفية دين إبراهيم يوحد الله ويخلع من دونه ولا يأكل ذبائح قومه فإذا هم بالفراق لما هم فيه.
قال: وكان الخطاب قد آذاه أذى كثيرا حتى خرج منه إلى أعلى مكة ووكل به الخطاب شبابا من قريش وسفهاء من سفهائهم فقال لا تتركوه يدخل فكان لا يدخلها إلا سرا منهم فإذا علموا به أخرجوه وآذوه كراهية أن يفسد عليهم دينهم أو يتابعه أحد إلى ما هو عليه.
وقال موسى بن عقبة سمعت من أرضى يحدث عن زيد بن عمرو بن نفيل كان يعيب على قريش ذبائحهم ويقول الشاة خلقها الله وأنزل لها من السماء ماء وأنبت لها من الارض لم تذبحوها على غير اسم الله.
انكارا لذلك وإعظاما له ؟ وقال يونس عن ابن إسحاق وقد كان زيد بن عمرو بن نفيل قد عزم على الخروج من مكة فضرب في الارض يطلب الحنيفية دين إبراهيم وكانت امرأته صفية بنت الحضرمي كلما أبصرته قد نهض للخروج وأراده آدنت الخطاب بن نفيل فخرج زيد إلى الشام يلتمس ويطلب في أهل الكتاب الاول دين إبراهيم ويسأل عنه ولم يزل في ذلك فيما يزعمون حتى أتى الموصل والجزيرة كلها ثم أقبل حتى أتى الشام فجال فيها حتى أتى راهبا ببيعة من أرض البلقاء كان ينتهي إليه علم النصرانية فيما يزعمون فسأله عن الحنيفية دين إبراهيم فقال له الراهب إنك لتسأل عن دين ما أنت بواجد من يحملك عليه اليوم، لقد درس من علمه وذهب من كان يعرفه، ولكنه قد أظل خروج نبي وهذا زمانه.
وقد كان شام اليهودية والنصرانية فلم يرض شيئا منها فخرج سريعا حين قال له الراهب ما
قال يريد مكة حتى إذا كان بأرض لخم عدوا عليه فقتلوه فقال ورقة يرثيه: رشدت وأنعمت ابن عمرو وإنما * تجنبت تنورا من النار حاميا بدينك ربا ليس رب كمثله * وتركك أوثان الطواغي كماهيا وقد تدرك الانسان رحمة ربه * ولو كان تحت الارض ستينا واديا وقال محمد بن عثمان بن أبي شيبة: حدثنا أحمد بن طارق الوابشي ثنا عمرو بن عطية عن أبيه عن ابن عمر عن زيد بن عمرو بن نفيل أنه كان يتأله في الجاهلية فانطلق حتى أتى رجلا من اليهود فقال له أحب أن تدخلني معك في دينك.
فقال له اليهودي لا أدخلك في ديني حتى تبوء بنصيبك من غضب الله.
فقال من غضب الله أفر.
فانطلق حتى أتى نصرانيا فقال له أحب أن تدخلني معك في دينك، فقال لست أدخلك في ديني حتى تبوء بنصيبك من الضلالة.
فقال من الضلالة أفر.
قال له النصراني فإني أدلك على دين إن تبعته اهتديت.
قال أي دين ؟ قال دين إبراهيم قال فقال اللهم إني أشهدك أني على دين إبراهيم عليه أحيى وعليه أموت.
قال فذكر شأنه للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: هو أمة وحده يوم القيامة.
وقد روى موسى بن عقبة عن سالم عن ابن عمر نحو هذا وقال محمد بن سعد حدثنا علي بن محمد بن عبد الله بن سيف القرشي عن اسماعيل عن مجالد

(2/297)


عن الشعبي عن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب قل قال زيد بن عمرو بن نفيل: شاممت اليهودية والنصرانية فكرهتهما فكنت بالشام وما والاها حتى أتيت راهبا في صومعة فذكرت له اغترابي عن قومي وكراهتي عبادة الاوثان واليهودية والنصرانية.
فقال له: أراك تريد دين إبراهيم يا أخا أهل مكة إنك لتطلب دينا ما يوجد اليوم (أحد يدين) به وهو دين أبيك إبراهيم كان حنيفا لم يكن يهوديا ولا نصرانيا كان يصلي ويسجد إلى هذا البيت الذي ببلادك فالحق ببلدك فإن الله يبعث من قومك في بلدك من يأتي بدين إبراهيم الحنيفية وهو أكرم الخلق على الله.
وقال يونس عن ابن إسحاق حدثني بعض آل زيد بن عمرو بن نفيل: إن زيدا كان إذا دخل الكعبة قال لبيك حقا حقا، تعبدا ورقا، عذت بما عاذ به إبراهيم وهو قائم، إذ قال إلهي أنفي لك عان راغم، مهما
تجشمني فإني جاشم، البر أبغي لا انحال، ليس مهجر كمن قال.
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا المسعودي.
عن نفيل بن هشام بن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل العدوي عن أبيه عن جده أن زيد بن عمرو وورقة بن نوفل خرجا يلتمسان الدين حتى انتهيا إلى راهب بالموصل، فقال لزيد بن عمرو من أين أقبلت يا صاحب البعير ؟ فقال من بنية إبراهيم، فقال وما تلتمس قال ألتمس الدين قال ارجع فإنه يوشك أن يظهر في أرضك.
قال: فأما ورقة فتنصر وأما أنا فعزمت على النصرانية فلم يوافقني فرجع وهو يقول: لبيك حقا حقا * تعبدا ورقا البر أبغي لا انحال * فهل مهجر كمن قال آمنت بما آمن به إبراهيم وهو يقول: انفي لك عان راغم، مهما تجشمني فإني جاشم، ثم يخر فيسجد قال وجاء ابنه يعني سعيد بن زيد أحد العشرة رضي الله عنه فقال: يا رسول الله إن أبي كما رأيت وكما بلغك فاستغفر له، قال نعم فإنه يبعث يوم القيامة أمة واحدة.
قال وأتى زيد بن عمرو بن زيد على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه زيد بن حارثة وهما يأكلان من سفرة لهما، فدعواه لطعامهما فقال زيد بن عمرو: يا بن أخي أنا لا آكل مما ذبح على النصب.
وقال محمد بن سعد حدثنا محمد بن عمرو حدثني أبو بكر بن أبي سبرة عن موسى بن ميسرة عن ابن أبي مليكة عن حجر بن أبي أهاب.
قال: رأيت زيد بن عمرو وأنا عند صنم بوانة بعدما رجع من الشام وهو يراقب الشمس فإذا زالت استقبل للكعبة فصلى ركعة سجدتين ثم يقول هذه قبلة إبراهيم وإسماعيل لا أعبد حجرا ولا أصلي له ولا آكل ما ذبح له ولا استقسم الازلام وإنا أصلي لهذا البيت حتى أموت.
وكان يحج فيقف بعرفة، وكان يلبي فيقول: لبيك لا شريك لك ولا ند لك ثم يدفعه من عرفة ماشيا وهو يقول لبيك متعبدا مرقوقا.
وقال الواقدي: حدثني علي بن عيسى الحكمي عن أبيه عن عامر بن ربيعة قال سمعت زيد ابن عمرو بن نفيل يقول: أنا أنتظر نبيا من ولد إسماعيل ثم من بني عبد المطلب ولا أراني أدركه وأنا أو من به وأصدقه وأشهد أنه نبي فان طالت بك مدة فرأيته فاقرئه مني السلام وسأخبرك

(2/298)


ما نعته حتى لا يخفى عليك قلت: هلم ! قال: هو رجل ليس بالطويل ولا بالقصير ولا بكثير الشعر ولا بقليله وليست تفارق عينه حمرة وخاتم النبوة بين كتفيه واسمه أحمد وهذا البلد مولده ومبعثه ثم يخرجه قومه منها ويكرهون ما جاء به حتى يهاجر إلى يثرب فيظهر أمره، فإياك أن تخدع عنه فإني طفت البلاد كلها أطلب دين إبراهيم فكان من اسأل من اليهود والنصارى والمجوس يقولون هذا الدين وراءك وينعتونه مثل ما نعته لك ويقولون لم يبق نبي غيره.
قال عامر بن ربيعة: فلما أسلمت أخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم قول زيد بن عمرو وأقرائه منه السلام فرد عليه السلام وترحم عليه وقال قد رأيته في الجنة يسحب ذيولا.
وقال البخاري في صحيحه: ذكر زيد بن عمرو بن نفيل.
حدثنا محمد بن أبي بكر حدثنا فضيل بن سليمان حدثنا موسى بن عقبة حدثني سالم عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح قبل أن ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي فقدمت إلى النبي صلى الله عليه وسلم سفرة فأبى أن يأكل منها.
ثم قال زيد إني لست آكل مما تذبحون على أنصابكم ولا آكل إلا ما ذكر اسم الله عليه وأن زيد بن عمرو يعيب على قريش ذبائحهم ويقول الشاة خلقها الله وأنزل لها من السماء ماء وأنبت لها من الارض ثم يذبحونها على غير اسم الله انكارا لذلك وإعظاما له.
قال موسى بن عقبة: وحدثني سالم بن عبد الله ولا أعلمه إلا يحدث به عن ابن عمر أن زيد بن عمرو بن نفيل خرج إلى الشام يسأل عن الدين ويتبعه فلقي عالما من اليهود فسأله عن دينهم فقال إني لعلي أن أدين دينكم فأخبرني، فقال إنك لا تكون على ديننا حتى تأخذ نصيبك من غضب الله قال زيد وما أفر إلا من غضب الله تعالى ولا أحمل من غضب الله شيئا ولا أستطيعه فهل تدلني على غيره ؟ قال ما أعلمه إلا أن تكون حنيفا قال زيد وما الحنيف ؟ قال دين إبراهيم عليه السلام لم يكن يهوديا ولا نصرانيا ولا يعبد إلا الله فخرج زيد فلقي عالما من النصارى فذكر مثله فقال لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من على غيره قال ما أعلمه إلا أن تكون حنيفا قال وما الحنيف ؟ قال دين إبراهيم لم يكن يهوديا ولا نصرانيا ولا يعبد إلا الله فلما رأى زيد قولهم في
إبراهيم خرج فلما برز رفع يديه فقال اللهم إني أشهدك أني على دين إبراهيم.
قال وقال الليث: كتب إلى هشام بن عروة عن أبيه عن اسماء بنت أبي بكر قالت رأيت زيد بن عمرو بن نفيل قائما مسندا ظهره إلى الكعبة يقول يا معشر قريش والله ما منكم على دين إبراهيم غيري وكان يحيي الموؤودة يقول للرجل إذا أراد أن يقتل ابنته لا تقتلها أنا أكفيك مؤنتها فيأخذها فإذا ترعرعت قال لابيها إن شئت دفعتها إليك وإن شئت كفيتك مؤنتها انتهى ما ذكره البخاري.
وهذا الحديث الاخير قد أسنده الحافظ ابن عساكر من طريق أبي بكر بن أبي داود عن عيسى بن حماد عن الليث عن هشام عن أبيه عن اسماء فذكر نحوه.
وقال عبد الرحمن بن أبي الزناد عن هشام بن عروة عن أبيه عن أسماء قالت سمعت زيد بن عمرو بن نفيل وهو مسند ظهره إلى

(2/299)


الكعبة يقول: يا معشر قريش إياكم والزنا فإنه يورث الفقر.
وقد ساق ابن عساكر هاهنا أحاديث غريبة جدا وفي بعضها نكارة شديدة.
ثم أورد من طرق متعددة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: يبعث يوم القيامة أمة واحدة.
فمن ذلك ما رواه محمد بن عثمان بن أبي شيبة حدثنا يوسف بن يعوقب الصفار حدثنا يحيى بن سعيد الاموي عن مجالد عن الشعبي عن جابر قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن زيد بن عمرو بن نفيل أنه كان يستقبل القبلة في الجاهلية ويقول إلهي إله إبراهيم وديني دين إبراهيم ويسجد.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يحشر ذاك أمة وحده بيني وبين عيسى بن مريم.
إسناده جيد حسن.
وقال الواقدي: حدثني موسى بن شيبة عن خارجة بن عبد الله بن كعب بن مالك قال سمعت سعيد بن المسيب يذكر زيد بن عمرو بن نفيل فقال توفي وقريش تبني الكعبة قبل أن ينزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس سنين، ولقد نزل به وأنه ليقول أنا على دين إبراهيم فأسلم ابنه سعيد بن زيد واتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتى عمر بن الخطاب وسعيد بن زيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألاه عن زيد بن عمرو بن نفيل فقال: غفر الله له ورحمه فإنه مات على دين إبراهيم قال فكان المسلمون بعد ذلك اليوم لا يذكره ذاكر منهم إلا ترحم عليه واستغفر له، ثم يقول سعيد بن المسيب رحمه الله وغفر له.
وقال محمد بن سعد عن الواقدي حدثني زكريا بن يحيى السعدي عن أبيه قال مات
زيد بن عمرو بن نفيل بمكة ودفن بأصل حراء، وقد تقدم أنه مات بأرض البلقاء من الشام لما عدا عليه قوم من بني لخم فقتلوه بمكان يقال له ميفعة والله أعلم.
وقال الباغندي عن أبي سعيد الاشج عن أبي معاوية عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دخلت الجنة فرأيت لزيد بن عمرو بن نفيل دوحتين.
وهذا إسناد جيد وليس هو في شئ من الكتب.
ومن شعر زيد بن عمرو بن نفيل رحمه الله ما قدمناه في بدء الخلق من تلك القصيدة: إلى الله أهدي مدحتي وثنائيا * وقولا رضيا لا يني الدهر باقيا إلى الملك الاعلى الذي ليس فوقه * إله ولا رب يكون مدانيا وقد قيل إنها لامية بن أبي الصلت والله أعلم.
ومن شعره في التوحيد ما حكاه محمد بن إسحاق والزبير بن بكار وغيرهما: وأسلمت وجهي لمن أسلمت * له الارض تحمل صخرا ثقالا دحاها فلما استوت شدها * سواء وأرسى عليها الجبالا وأسلمت وجهي لمن أسلمت * له المزن تحمل عذبا زلالا إذا هي سيقت إلى بلدة * أطاعت فصبت عليها سجالا وأسلمت وجهي لمن أسلمت * له الريح تصرف حالا فحالا وقال محمد بن إسحاق حدثني هشام بن عروة قال روي أبي أن زيد بن عمرو قال:

(2/300)


أرب واحد أم ألف رب * أدين إذا تقسمت الامور عزلت اللات والعزى جميعا * كذلك يفعل الجلد الصبور فلا العزى أدين ولا ابنتيها * ولا صنمي بني عمرو أزور ولا غنما أدين وكان ربا * لنا في الدهر إذ حلمي يسير عجبت وفي الليالي معجبات * وفي الايام يعرفها البصير
بأن الله قد أفنى رجالا * كثيرا كان شأنهم الفجور وابقى آخرين ببر قوم * فيربل منهم الطفل الصغير وبينا المرء يعثر ثاب يوما * كما يتروح الغصن النضير ولكن أ عبد الرحمن ربي * ليغفر ذنبي الرب الغفور فتقوى الله ربكم احفظوها * متى ما تحفظوها لا تبوروا ترى الابرار دارهم جنان * وللكفار حامية سعير وخزي في الحياة وإن يموتوا * يلاقوا ما تضيق به الصدور هذا تمام ما ذكره محمد بن إسحاق من هذه القصيدة.
وقد رواه أبو القاسم البغوي عن مصعب بن عبد الله عن الضحاك بن عثمان عن عبد الرحمن بن أبي الزناد قال قال هشام بن عروة عن أبيه عن أسماء بنت أبي بكر قالت قال زيد بن عمرو بن نفيل: عزلت الجن والجنان عني * كذلك يفعل الجلد الصبور فلا العزى أدين ولا ابنتيها * ولا صنمي بني طسم أدير ولا غنما أدين وكان ربا * لنا في الدهر إذ حلمي صغير أربا واحدا أم ألف رب * أدين إذا تقسمت الامور ألم تعلم بأن الله أفنى * رجالا كان شأنهم الفجور وابقى آخرين ببر قوم * فيربو منهم الطفل الصغير وبينا المرء يعثر ثاب يوما * كما يتروح الغصن النضير قالت فقال ورقة بن نوفل: رشدت وأنعمت ابن عمرو وإنما * تجنبت تنورا من النار حاميا لدينك ربا ليس ربا كمثله * وتركك جنان الجبال كما هيا أقول إذا أهبطت أرضا مخوفة * حنانيك لا تظهر علي الاعاديا حنانيك أن الجن كانت رجاءهم * وأنت إلهي ربنا ورجائيا
لتدركن المرء رحمة ربه * وإن كان تحت الارض سبعين واديا أدين لرب يستجيب ولا أرى * أدين لمن لا يسمع الدهر واعيا أقول إذا صليت في كل بيعة * تباركت قد أكثرت باسمك داعيا

(2/301)


تقدم أن زيد بن عمرو بن نفيل خرج إلى الشام هو وورقة بن نوفل وعثمان بن الحويرث وعبيد الله بن جحش فتنصروا إلا زيدا فإنه لم يدخل في شئ من الاديان بل بقي على فطرته من عبادة الله وحده لا شريك له متبعا ما أمكنه من دين إبراهيم على ما ذكرناه.
وأما ورقة بن نوفل فسيأتي خبره في أول المبعث.
وأما عثمان بن الحويرث فأقام بالشام حتى مات فيها عند قيصر.
وله خبر عجيب ذكره الاموي ومختصره أنه لما قدم على قيصر فشكى إليه ما لقي من قومه كتب له إلى ابن جفنة ملك عرب الشام ليجهز معه جيشا لحرب قريش فعزم على ذلك فكتب إليه الاعراب تنهاه عن ذلك لما رأوا من عظمة مكة وكيف فعل الله بأصحاب الفيل، فكساه ابن جفنة قميصا مصبوغا مسموما فمات من سمه فرثاه زيد بن عمرو بن نفيل بشعر ذكره الاموي تركناه اختصارا وكانت وفاته قبل المبعث بثلاث سنين أو نحوها والله سبحانه وتعالى أعلم.
شئ من الحوادث في زمن الفترة فمن ذلك بنيان الكعبة وقد قيل: إن أول من بناه آدم وجاء في ذلك حديث مرفوع عن عبد الله بن عمرو وفي سنده ابن لهيعة وهو ضعيف، وأقوى الاقوال أن أول من بناه الخليل عليه السلام.
كما تقدم وكذلك رواه سماك بن حرب عن خالد بن عرعرة عن علي بن أبي طالب قال: ثم تهدم فبنته العمالقة ثم تهدم فبنته جرهم ثم تهدم فبنته قريش.
قلت: سيأتي بناء قريش له وذلك قبل المبعث بخمس سنين وقيل بخمس عشرة سنة وقال الزهري كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بلغ الحلم.
وسيأتي ذلك كله في موضعه إن شاء الله وبه الثقة.
كعب بن لؤي
روى أبو نعيم من طريق محمد بن الحسن بن زبالة عن محمد بن طلحة التيمي عن محمد بن إبراهيم بن الحارث عن أبي سلمة.
قال: كان كعب بن لؤي يجمع قومه يوم الجمعة وكانت قريش تسميه العروبة فيخطبهم فيقول: أما بعد فأسمعوا وتعلموا، وافهموا واعلموا، ليل ساج، ونهار ضاح، والارض مهاد، والسماء بناء، والجبال أوتاد، والنجوم أعلام، والاولون كالآخرين، والانثى والذكر والروح وما يهيج إلى بلى فصلوا أرحامكم، واحفظوا أصهاركم، وثمروا أموالكم.
فهل رأيتم من هالك رجع ؟ أو ميت نشر ؟ الدار أمامكم، والظن غير ما تقولون، حرمكم زينوه وعظموه، وتمسكوا به فسيأتي له نبأ عظيم ; وسيخرج منه نبي كريم، ثم يقول: نهار وليل كل يوم بحادث * سواء علينا ليلها ونهارها يؤوبان بالاحداث حتى تأوبا * وبالنعم الضافي علينا ستورها على غفلة يأتي النبي محمد * فيخبر أخبارا صدوق خبيرها ثم يقول: والله لو كنت فيها ذا سمع وبصر، ويد ورجل، لتنصبت فيها تنصب الجمل،

(2/302)


ولارقلت بها إرقال العجل.
ثم يقول: يا ليتني شاهدا نجواء دعوته * حين العشيرة تبغي الحق خذلانا قال وكان بين موت كعب بن لؤي ومبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسمائة عام وستون سنة.
تجديد حفر زمزم على يدي عبد المطلب بن هاشم التي كان قد درس رسمها بعد طم جرهم لها إلى زمانه.
قال محمد بن إسحاق: ثم إن عبد المطلب بينما هو نائم في الحجر وكان أول ما ابتدى به عبد المطلب من حفرها كما حدثني يزيد بن أبي حبيب المصري عن مرثد بن عبد الله المزني عن عبد الله بن رزين الغافقي أنه سمع علي بن أبي طالب يحدث حديث زمزم حين أمر عبد المطلب بحفرها.
قال قال عبد المطلب إني لنائم في الحجر إذ أتاني آت فقال لي احفر طببة.
قال قلت وما طيبة ؟ قال ثم ذهب عني قال فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فجاءني فقال احفر برة.
قال قلت وما برة ؟ قال ثم ذهب عني فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فجاءني فقال احفر المضنونة قال قلت وما المضنونة ؟ قال ثم ذهب عني فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه فجاءني قال احفر زمزم.
قال قلت وما زمزم ؟ قال: لا تنزف أبدا ولا تزم، تسقي الحجيج الاعظم، وهي بين الفرث والدم، عند نقرة الغراب الاعصم، عند قرية النمل.
قال: فلما بين لي شأنها ودل على موضعها وعزف أنه قد صدق غدا بمعوله ومعه ابنه الحارث بن عبد المطلب وليس له يومئذ ولد غيره فحفر فلما بدا لعبد المطلب الطمى كبر فعرفت قريش أنه قد أدرك حاجته.
فقاموا إليه فقالوا: يا عبد المطلب إنها بئر ابينا اسماعيل وإن لنا فيها حقا فأشركنا معك فيها.
قال: ما أنا بفاعل إن هذا الامر قد خصصت به دونكم وأعطيته من بينكم قالوا له فانصفنا فإنا غير تاركيك حتى نخاصمك فيها.
قال: فاجعلوا بيني وبينكم من شئتم أحاكمكم إليه قالوا كاهنة بني سعد بن هذيم قال: نعم وكانت بإشراف الشام فركب عبد المطلب ومعه نفر من بني أمية وركب من كل قبيلة من قريش نفر فخرجوا والارض إذ ذاك مفاوز حتى إذا كانوا ببعضها نفد ماء عبد المطلب وأصحابه فعطشوا حتى استيقنوا بالهلكة فاستسقوا من معهم فأبوا عليهم وقالوا إنا بمفازة وإنا نخشى على أنفسنا مثل ما أصابكم فقال عبد المطلب إني أرى أن يحفر كل رجل منكم حفرته لنفسه بما لكم الآن من القوة فكلما مات رجل دفعه أصحابه في حفرته ثم واروه حتى يكون آخرهم رجلا واحدا فضيعة رجل واحد أيسر من ضيعة ركب جميعه.
فقالوا: نعما أمرت به فحفر كل رجل لنفسه حفرة ثم قعدوا ينتظرون الموت عطشى ثم إن عبد المطلب قال لاصحابه ألقينا بأيدينا هكذا للموت لا نضرب في الارض لا نبتغي لانفسنا لعجز فعسى أن يزرقنا ماء ببعض البلاد فارتحلوا حتى إذا بعث عبد المطلب راحلته انفجرت من تحت خفها عين ماء عذب فكبر عبد المطلب وكبر أصحابه ثم نزل فشرب وشرب أصحابه واستسقوا حتى ملاوا أسقيتهم ثم دعا قبائل قريش وهم ينظرون إليهم في جميع هذه الاحوال فقال هلموا إلى الماء فقد سقانا الله فجاؤوا فشربوا واستقوا

(2/303)


كلهم ثم قالوا قد والله قضى لك علينا والله ما نخاصمك في زمزم أبدا إن الذي سقاك هذا الماء بهذه
الفلاة هو الذي سقاك زمزم فارجع إلى سقايتك راشدا فرجع ورجعوا معه ولم يصلوا إلى الكاهنة وخلوا بينه وبين زمزم.
قال ابن إسحاق فهذا ما بلغني عن علي بن أبي طالب في زمزم قال ابن إسحاق وقد سمعت من يحدث عن عبد المطلب أنه قيل له حين أمر بحفر زمزم: ثم ادع بالماء الروى غير الكدر * يسقي حجيج الله في كل مبر ليس يخاف منه شئ ما عمر قال فحرج عبد المطلب حين قيل له ذلك إلى قريش فقال تعلموا أني قد أمرت أن أحفر زمزم قالوا فهل بين لك أين هي ؟ قال: لا ! قالوا فارجع إلى مضجعك الذي رأيت فيه ما رأيت فإن يك حقا من الله يبين لك وإن يك من الشيطان فلن يعود إليك فرجع ونام فأتى فقيل له: احفر زمزم.
إنك إن حفرتها لن تندم.
وهي تراث من أبيك الاعظم.
لا تنزف أبدا ولا تزم.
تسقى الحجيج الاعظم.
مثل نعام جافل لم يقسم.
ينذر فيها ناذر بمنعم.
تكون ميراثا وعقدا محكم.
ليست لبعض ما قد تعلم.
وهي بين الفرث والدم.
قال ابن إسحاق: فزعموا أن عبد المطلب حنى قيل له ذلك قال وأين هي ؟ قيل له عند قرية النمل حيث ينقر الغراب غدا.
فالله أعلم أي ذلك كان.
قال فغلبا عبد المطلب ومعه ابنه الحارث وليس له يومئذ ولد غيره.
زاد الاموي ومولاه أصرم فوجد قرية النمل ووجد الغراب ينقر عندها بين الوثنين أساف ونائلة اللذين كانت قريش تنحر عندهما فجاء بالمعول وقام ليحفر حيث أمر فقامت إليه قريش وقالت والله لا نتركنك تحفر بين وثنينا اللذين ننحر عندهما فقال عبد المطلب لابنه الحارث: زد عني حتى أحفر فوالله لامضين لما أمرت به فلما عرفوا أنه غير نازع خلوا بينه وبين الحفر وكفوا عنه فلم يحفر إلا يسيرا حتى بدا له الطمى فكبر وعرف أنه قد صدق فلما تمادى به الحفر وجد فيها غزالتين من ذهب اللتين كانت جرهم قد دفنتهما ووجد فيها أسيافا قلعية وأدرعا.
فقالت له قريش: يا عبد المطلب لنا معك في هذا شرك وحق قال لا ولكن هلم إلى أمر نصف بيني وبينكم نضرب عليها بالقداح قالوا وكيف نصنع قال اجعل للكعبة قدحين ولي قدحين ولكم قدحين فمن
خرج قدحاه على شئ كان له ومن تخلف قدحاه فلا شئ له.
قالوا: أنصفت فجعل للكعبة قدحين أصفرين وله أسودين ولهم أبيضين ثم أعطوا القداح للذي يضرب عند هبل وهبل أكبر أصنامهم ولهذا قال أبو سفيان يوم أحد: أعل هبل.
يعني هذا الصنم.
وقام عبد المطلب يدعو الله.
وذكر يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق أن عبد المطلب جعل يقول: اللهم أنت الملك المحمود * ربي أنت المبدئ المعيد وممسك الراسية الجلمود * من عندك الطارف والتليد

(2/304)


إن شئت ألهمت كما تريد * لموضع الحلية والحديد فبين اليوم لما تريد * إني نذرت العاهد المعهودا أجعله رب لي فلا أعود قال وضرب صاحب القداح فخرج الاصفران على الغزالين للكعبة، وخرج الاسودان على الاسياف والادراع لعبد المطلب، وتخلف قدحا قريش.
فضرب عبد المطلب الاسياف بابا للكعبة، وضرب في الباب الغزالين من ذهب فكان أول ذهب حلية للكعبة فيما يزعون.
ثم أن عبد المطلب أقام سقاية زمزم للحاج وذكر ابن إسحاق وغيره أن مكة كان فيها أبيار كثيرة قبل ظهور زمزم في زمن عبد المطلب ثم عددها ابن إسحاق وسماها وذكر أماكنها من مكة وحافريها إلى أن قال فعفت زمزم على البئار كلها وانصرف الناس كلهم إليها لمكانها من المسجد الحرام ولفضلها على ما سواها من المياه ولانها بئر اسماعيل بن إبراهيم وافتخرت بها بنو عبد مناف على قريش كلها وعلى سائر العرب.
وقد ثبت في صحيح مسلم في حديث إسلام أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في زمزم: إنها لطعام طعم.
وشفاء سقم.
وقال الامام أحمد حدثنا عبد الله بن الوليد عن عبد الله بن المؤمل عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ماء زمزم لما شرب منه.
وقد رواه ابن ماجه من حديث عبد الله بن المؤمل وقد تكلموا فيه ولفظه ماء زمزم لما شرب له.
ورواه سويد بن سعيد عن عبد الله بن المبارك عن عبد الرحمن بن أبي الموالي عن محمد بن المنكدر عن جابر عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: ماء زمزم لما شرب له.
ولكن سويد بن سعيد ضعيف والمحفوظ عن ابن المبارك عن عبد الله بن المؤمل كما تقدم وقد رواه الحاكم عن ابن عباس مرفوعا ماء زمزم لما شرب له وفيه نظر والله أعلم.
وهكذا روى ابن ماجه أيضا والحاكم عن أبن عباس أنه قال لرجل إذا شربت من زمزم فاستقبل الكعبة واذكر اسم الله وتنفس ثلاثا وتضلع منها فإذا فرغت فاحمد الله فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن آية ما بيننا وبين المنافقين لا يتضلعون من ماء زمزم.
وقد ذكر عن عبد المطلب أنه قال: اللهم إني لا أحلها لمغتسل وهي لشارب حل وبل.
وقد ذكره بعض الفقهاء عن العباس بن عبد المطلب، والصحيح أنه عن عبد المطلب نفسه فإنه هو الذي جدد حفر زمزم كما قدمنا والله أعلم.
وقد قال الاموي في مغازيه: حدثنا أبو عبيد أخبرني يحيى بن سعيد عن عبد الرحمن بن حرملة سمعت سعيد بن المسيب يحدث أن عبد المطلب بن هاشم حين احتفر زمزم.
قال: لا أحلها لمغتسل وهي لشارب حل وبل.
وذلك أنه جعل لها حوضين حوضا للشرب، وحوضا للوضوء.
فعند ذلك قال: لا أحلها لمغتسل لينزه المسجد عن أن يغتسل فيه.
قال أبو عبيد قال الاصمعي: قوله وبل اتباع قال أبو عبيد والاتباع لا يكون بواو العطف وإنما هو كما قال معتمر بن سليمان أن بل بلغة حمير مباح ثم قال أبو عبيد حدثنا أبو بكر بن عياش عن عاصم بن أبي النجود أنه سمع زرا أنه سمع العباس يقول: لا أحلها لمغتسل وهي لشارب حل وبل.
وحدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا سفيان عن عبد الرحمن بن علقمة أنه سمع ابن عباس

(2/305)


يقول ذلك وهذا صحيح اليهما، وكأنهما يقولان ذلك في أيامهما على سبيل التبليغ والاعلام بما اشترطه عبد المطلب عند حفره لها فلا ينافي ما تقدم والله أعلم.
وقد كانت السقاية إلى عبد المطلب أيام حياته ثم صارت إلى ابنه أبي طالب مدة ثم اتفق أنه أملق في بعض السنين فاستدان من أخيه العباس عشرة آلاف إلى الموسم الآخر وصرفها أبو طالب في الحجيج في عامه فيما يتعلق بالسقاية فلما كان العام المقبل لم يكن مع أبي طالب شئ فقال لاخيه العباس أسلفني أربعة عشر ألفا أيضا إلى العام المقبل أعطيك جميع مالك فقال له العباس: بشرط إن لم تعطني تترك السقاية لي أكفكها
فقال: نعم فلما جاء العام الآخر لم يكن مع أبي طالب ما يعطي العباس فترك له السقاية فصارت إليه ثم من بعده صارت إلى عبد الله ولده ثم إلى علي بن عبد الله بن عباس ثم إلى داود بن علي ثم إلى سليمان بن علي ثم إلى عيسى بن علي ثم أخذها المنصور واستناب عليها مولاه أبا رزين ذكره الاموي.
نذر عبد المطلب ذبح ولده قال ابن إسحاق: وكان عبد المطلب فيما يزعمون نذر حين لقي من قريش ما لقي عند حفر زمزم لئن ولد له عشرة نفر ثم بلغوا معه حتى يمنعوه ليذبحن أحدهم لله عند الكعبة.
فلما تكامل بنوه عشرة وعرف أنهم سيمنعونه وهم: الحارث.
والزبير.
وحجل.
وضرار.
والمقوم.
وأبو لهب.
والعباس.
وحمزة.
وأبو طالب.
وعبد الله.
جمعهم ثم أخبرهم بنذره ودعاهم إلى الوفاء لله عزوجل بذلك فأطاعوه وقالوا كيف نصنع ؟ قال ليأخذ كل رجل منكم قدحا ثم يكتب فيه اسمه ثم ائتوني ففعلوا ثم أتوه، فدخل بهم على هبل في جوف الكعبة وكانت تلك البئر هي التي يجمع فيها ما يهدى للكعبة، وكان عند هبل قداح سبعة وهي الازلام التي يتحاكمون إليها إذا أعضل عليهم أمر من عقل أو نسب أو أمر من الامور جاؤوه فاستقسموا بها فما أمرتهم به أو نهتهم عنه امتثلوه.
والمقصود أن عبد المطلب لما جاء يستقسم بالقداح عند هبل خرج القدح على ابنه عبد الله وكان أصغر ولده وأحبهم إليه، فأخذ عبد المطلب بيد أبنه عبد الله وأخذ الشفرة ثم أقبل به إلى أساف ونائلة ليذبحه فقامت إليه قريش من انديتها فقالوا: ما تريد يا عبد المطلب ؟ قال اذبحه فقالت له قريش وبنوه أخوة عبد الله والله لا تذبحه أبدا حتى تعذر فيه لئن فعلت هذا لا يزال الرجل يجئ بابنه حتى يذبحه فما بقاء الناس على هذا.
وذكر يونس بن بكير عن ابن إسحاق أن العباس هو الذي اجتذب عبد الله من تحت رجل أبيه حين وضعها عليه ليذبحه فيقال إنه شج وجهه شجا لم يزل في وجهه إلى أن مات ثم أشارت قريش على عبد المطلب أن يذهب إلى الحجاز فإن بها عرافة لها تابع فيسألها عن ذلك ثم أنت على رأس أمرك إن أمرتك بذبحه فاذبحه وإن أمرتك بأمر لك وله فيه مخرج قبلته فانطلقوا حتى أتوا المدينة فوجدوا العرافة وهي سجاح فيما ذكره
يونس بن بكير عن ابن إسحاق بخيبر فركبوا حتى جاؤوها فسألوها وقص عليها عبد المطلب خبره وخبر ابنه فقالت لهم ارجعوا عني اليوم حتى يأتيني تابعي فأسأله فرجعوا من عندها فلما خرجوا قام

(2/306)


عبد المطلب يدعو الله ثم غدوا عليها فقالت لهم قد جاءني الخبر، كم الدية فيكم ؟ قالوا عشر من الابل وكانت كذلك قالت فارجعوا إلى بلادكم ثم قربوا صاحبكم وقربوا عشرا من الابل ثم اضربوا عليها وعليه بالقداح فإن خرجت على صاحبكم فزيدوا من الابل حتى يرضى ربكم وإن خرجت على الابل فانحروها عنه فقد رضي ربكم ونجا صاحبكم فخرجوا حتى قدموا مكة فلما اجمعوا على ذلك الامر قام عبد المطلب يدعو الله ثم قربوا عبد الله وعشرا من الابل ثم ضربوا فخرج القدح على عبد الله فزادوا عشرا ثم ضربوا فخرج القدح على عبد الله فزادوا عشرا فلم يزالوا يزيدون عشرا عشرا ويخرج القدح على عبد الله حتى بلغت الابل مائة.
ثم ضربوا فخرج القدح على الابل فقالت عند ذلك قريش لعبد المطلب وهو قائم عند هبل يدعو الله قد انتهى رضى ربك يا عبد المطلب.
فعندها زعموا أنه قال لا حتى اضرب عليها بالقداح ثلاث مرات فضربوا ثلاثا ويقع القدح فيها على الابل فنحرت ثم تركت لا يصد عنها انسان ولا يمنع.
قال ابن هشام ويقال ولا سبع وقد روى أنه لما بلغت الابل مائة خرج على عبد الله أيضا فزادوا مائة أخرى حتى بلغت مائتين فخرج القدح على عبد الله فزادوا مائة أخرى فصارت الابل ثلاثمائة.
ثم ضربوا فخرج القدح على الابل فنحرها عند ذلك عبد المطلب والصحيح الاول والله أعلم.
وقد روى ابن جرير عن يونس بن عبد الاعلى عن ابن وهب عن يونس بن يزيد عن الزهري عن قبيصة بن ذؤيب أن ابن عباس سألته امرأة أنها نذرت ذبح ولدها عند الكعبة فأمرها بذبح مائة من الابل وذكر لها هذه القصة عن عبد المطلب.
وسألت عبد الله بن عمر فلم يفتها بشئ بل توقف.
فبلغ ذلك مروان بن الحكم وهو أمير على المدينة فقال إنهما لم يصيبا الفتيا ثم أمر المرأة أن تعمل ما استطاعت من خير ونهاها عن ذبح ولدها ولم يأمرها بذبح الابل، وأخذ الناس بقول مروان بذلك والله أعلم.
تزويج عبد المطلب ابنه عبد الله من آمنة بنت وهب الزهرية قال ابن إسحاق: ثم انصرف عبد المطلب آخذا بيد ابنه عبد الله فمر به - فيما يزعمون - على امرأة من بني أسد بن عبد العزى بن قصي وهي أم قتال أخت ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي وهي عند الكعبة فنظرت إلى وجهه فقالت أين تذهب يا عبد الله ؟ قال مع أبي قالت لك مثل الابل التي نحرت عنك وقع على الآن.
قال أنا مع أبي ولا أستطيع خلافه ولا فراقه فخرج به عبد المطلب حتى أتى وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر وهو يومئذ سيد بني زهرة سنا وشرفا فزوجه ابنته آمنة بنت وهب وهي يومئذ سيدة نساء قومها فزعموا أنه دخل عليها حين أملكها مكانه فوقع عليها فحملت منه برسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خرج من عندها فأتى المرأة التي عرضت عليه ما عرضت فقال لها مالك لا تعرضين علي اليوم ما كنت عرضت بالامس ؟ قالت له فارقك النور الذي كان معك بالامس فليس لي بك حاجة.
وكانت تسمع من أخيها ورقة بن نوفل - وكان قد تنصر واتبع الكتب - أنه كائن في هذه الامة نبي

(2/307)


فطمعت أن يكون منها فجعله الله تعالى في أشرف عنصر وأكرم محتد وأطيب أصل كما قال تعالى: (الله أعلم حيث يجعل رسالاته) وسنذكر المولد مفصلا ومما قالت أم قتال بنت نوفل من الشعر تتأسف على ما فاتها من الامر الذي رامته وذلك فيما رواه البيهقي من طريق يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق رحمه الله: عليك بآل زهرة حيث كانوا * وآمنة التي حملت غلاما ترى المهدي حين نزا عليها * ونورا قد تقدمه أماما إلى أن قالت: فكل الخلق يرجوه جميعا * يسود الناس مهتديا إماما يراه الله من نور صفاه * فأذهب نوره عنا الظلاما وذلك صنع ربك إذ حباه * إذا ما سار يوما أو أقاما
فيهدي أهل مكة بعد كفر * ويفرض بعد ذلكم الصياما وقال أبو بكر محمد بن جعفر بن سهل الخرائطي: حدثنا علي بن حرب حدثنا محمد بن عمارة القرشي حدثنا مسلم بن خالد الزنجي حدثنا ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال: لما انطلق عبد المطلب بابنه عبد الله ليزوجه مر به على كاهنة من أهل تبالة متهودة قد قرأت الكتب، يقال لها فاطمة بنت مر الخثعمية فرأت نور النبوة في وجه عبد الله فقالت يافتى هل لك أن تفع علي الآن وأعطيك مائة من الابل ؟ فقال عبد الله: أما الحرام فالممات دونه * والحل لا حل فأستبينه فكيف بالامر الذي تبغينه * يحمي الكريم عرضه ودينه ثم مضى مع أبيه فزوجه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة فأقام عندها ثلاثا.
ثم إن نفسه دعته إلى ما دعته إليه الكاهنة فأتاها فقالت: ما صنعت بعدي ؟ فأخبرها.
فقالت والله ما أنا بصاحبة ريبة ولكني رأيت في وجهك نورا فأردت أن يكون في.
وأبى الله إلا أن يجعله حيث أراد.
ثم أنشأت فاطمة تقول: إني رأيت مخيلة لمعت * فتلالات بحناتم القطر فلمأتها نورا يضئ له * ما حوله كإضاءة البدر ورجوتها فخرا أبوء به * ما كل قادح زنده يوري لله ما زهرية سلبت * ثوبيك ما استلبت وما تدري وقالت فاطمة أيضا: بني هاشم قد غادرت من أخيكم * أمينة إذ للباه يعتركان كما غادر المصباح عند خموده * فتائل قد ميثت له بدهان

(2/308)


وما كل ما يحوي الفتى من تلاده * بحزم ولا ما فاته لتواني فأجمل إذا طالبت أمرا فانه * سيكفيكه جدان يعتلجان
سيكفيكه إما يد مقفللة * وإما يد مبسوطة ببنان ولما حوت منه أمينة ما حوت * حوت منه فخرا ما لذلك ثان وروى الامام أبو نعيم الحافظ في كتاب دلائل النبوة من طريق يعقوب بن محمد الزهري عن عبد العزيز بن عمران عن عبد الله بن جعفر عن ابن عون عن المسور بن مخرمة عن ابن عباس قال إن عبد المطلب قدم اليمن في رحلة الشتاء فنزل على حبر من اليهود قال فقال لي رجل من أهل الديور - يعني أهل الكتاب يا عبد المطلب أتأذن لي أن أنظر إلى بعضك ؟ قال نعم إذا لم يكن عورة.
قال ففتح إحدى منخري فنظر فيه ثم نظر في الآخر فقال أشهد أن في إحدى يديك ملكا وفي الاخرى نبوة وإنا نجد ذلك في بني زهرة فكيف ذلك ؟ قلت لا أدري قال هل لك من شاغة ؟ قلت وما الشاغة ؟ قال زوجة.
قلت أما اليوم فلا قال فإذا رجعت فتزوج فيهم.
فرجع عبد المطلب فتزوج هالة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة فولدت حمزة وصفية ثم تزوج عبد الله بن عبد المطلب آمنة بنت وهب فولدت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت قريش حين تزوج عبد الله بآمنة فلج أي فاز وغلب عبد الله على أبيه عبد المطلب.