البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي
فصل في منشئه عليه الصلاة والسلام ومرباه وكفاية الله له، وحياطته،
وكيف كان يتيما فأواه وعائلا فأغناه
قال محمد بن إسحاق: فشب رسول الله صلى الله عليه وسلم يكلؤه الله
ويحفظه ويحوطه من أقذار الجاهلية، لما يريد من كرامته ورسالته، حتى بلغ
أن كان رجلا، أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقا، وأكرمهم حسبا، وأحسنهم
جوارا، وأعظمهم حلما، وأصدقهم حديثا، وأعظمهم أمانة، وأبعدهم من الفحش
والاخلاق التي تدنس الرجال تنزها وتكرما، حتى ما اسمه في قومه إلا
الامين، لما جمع الله فيه من الامور الصالحة وكان رسول الله صلى الله
عليه وسلم - فيما ذكر لي - يحدث عما كان الله يحفظه به في صغره وأمر
جاهليته أنه قال: " لقد رأيتني في غلمان من قريش ننقل الحجارة لبعض ما
__________
(1) في ابن سعد: خالد بن خداش.
ج 1 / 120 - 121.
(2) في المسعودي سرجس وكان مؤمنا على دين المسيح عيسى ابن مريم صلى
الله عليه وسلم.
[ * ]
(2/349)
يلعب الغلمان،
كلنا قد تعرى وأخذ إزاره وجعله على رقبته يحمل عليه الحجارة، فإني
لاقبل معهم كذلك وأدبر إذ لكمني لاكم ما أراه لكمة وجيعة، ثم قال شد
عليك إزارك.
قال فأخذته فشددته علي، ثم جعلت أحمل الحجارة على رقبتي وإزاري على من
بين أصحابي ".
وهذه القصة شبيهه بما في الصحيح عند بناء الكعبة حين كان ينقل هو وعمه
العباس فإن لم تكنها فهي متقدمة عليها كالتوطئة لها والله أعلم.
قال عبد الرزاق: أخبرنا ابن جريج أخبرني عمرو بن دينار أنه سمع جابر بن
عبد الله يقول: لما بنيت الكعبة ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل
الحجارة.
فقال العباس لرسول الله صلى الله عليه وسلم اجعل إزارك على عاتقك من
الحجارة ففعل فخر إلى الاض وطمحت عيناه إلى السماء، ثم قال فقال: "
إزاري " فشد عليه إزاره أخرجاه في الصحيحين من حديث عبد الرزاق (1).
وأخرجاه أيضا من حديث روح بن عبادة عن زكرياء بن أبي إسحاق (2) عن عمرو
بن دينار عن جابر بنحوه.
وقال البيهقي (3): أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد بن أبي عمرو
قالا أخبرنا أبو العباس محمد بن يعقوب حدثنا محمد بن إسحاق الصاغاني
حدثنا محمد بن بكير الحضرمي حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله الدشتكي
حدثنا عمرو بن أبي قيس عن سماك عن عكرمة حدثني ابن
عباس عن أبيه: أنه كان ينقل الحجارة إلى البيت حين بنت قريش البيت، قال
وأفردت قريش رجلين رجلين، الرجال ينقلون الحجارة، وكانت النساء تنقل
الشيد.
قال: فكنت أنا وابن أخي وكنا نحمل على رقابنا وأزرنا تحت الحجارة، فإذا
غشينا الناس أئتزرنا.
فبينما أنا أمشي ومحمد أمامي قال: فخر وانبطح على وجهه، فجئت أسعى،
وألقيت حجري وهو ينظر إلى السماء فقلت ما شأنك ؟ فقام وأخذ إزاره قال:
" إني نهيت أن أمشي عريانا ".
قال وكنت أكتمها من الناس مخافة أن يقولوا مجنون.
وروى البيهقي (4) من حديث يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق حدثني محمد بن
عبد الله بن قيس بن مخرمة عن الحسن بن محمد عن علي بن أبي طالب عن أبيه
عن جده علي بن أبي طالب.
قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ما هممت بشئ مما كان
أهل الجاهلية يهمون به من النساء إلا ليلتين كلتاهما عصمني الله عزوجل
فيهما.
قلت ليلة لبعض فتيان مكة - ونحن في رعاء غنم أهلها - فقلت
__________
(1) صحيح البخاري 25 كتاب الحج 42 باب فضل مكة وبنيانها فتح الباري (3
/ 439) ومسلم كتاب الحيض ح 77 ص 268.
البخاري في 8 كتاب الصلاة (8) باب كراهية التعري في الصلاة فتح الباري
(1 / 474) ومسلم.
(2) كذا في الاصل والصواب كريا بن إسحاق: المكي، ثقة رمي بالقدر
(التقريب 1 / 261).
(3) دلائل النوبة ج 2 / 32.
(4) ج 2 / 33.
[ * ]
(2/350)
لصاحبي أبصر لي
غنمي حتى أدخل مكة أسمر فيها كما يسمر الفتيان فقال بلى.
قال: فدخلت حتى جئت أول دار من دور مكة سمعت عزفا بالغرابيل والمزامير،
فقلت ما هذا ؟ قالوا تزوج فلان فلانة.
فجلست أنظر وضرب الله على أذني فوالله ما أيقظني إلا مس الشمس، فرجعت
إلى صاحبي، فقال: ما فعلت ؟ فقلت ما فعلت شيئا ثم أخبرته بالذي رأيت،
ثم قلت له ليلة أخرى أبصر لي غنمي حتى أسمر [ بمكة ] ففعل فدخلت فلما
جئت مكة سمعت مثل الذي سمعت
تلك الليلة.
فسألت، فقيل نكح فلان فلانة، فجلست أنظر، وضرب الله على أذني فوالله ما
أيقظني إلا مس الشمس، فرجعت إلى صاحبي، فقال ما فعلت ؟ فقلت لا شئ ثم
أخبرته الخبر، فوالله ما هممت ولا عدت بعدهما لشئ من ذلك حتى أكرمني
الله عزوجل بنبوته " وهذا حديث غريب جدا وقد يكون عن علي نفسه ويكون
قوله في آخره " حتى أكرمني الله عزوجل بنبوته " مقحما والله أعلم (1).
وشيخ ابن إسحاق هذا ذكره ابن حبان في الثقات.
وزعم بعضهم أنه من رجال الصحيح.
قال شيخنا في تهذيبه ولم أقف على ذلك والله أعلم.
وقال الحافظ البيهقي (2): حدثني أبو عبد الله الحافظ حدثنا أبو العباس
محمد بن يعقوب حدثنا الحسن بن علي بن عفان العامري، حدثنا أبو أسامة
حدثنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة، ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن أسامة
بن زيد عن زيد بن حارثة.
قال: كان صنم من نحاس يقال له: أساف، ونائلة (3) يتمسح به المشركون إذا
طافوا.
فطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم وطفت معه، فلما مررت مسحت به فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تمسه ".
قال زيد: فطفنا فقلت في نفسي لامسنه حتى أنظر ما يكون، فمسحته فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ألم تنه " قال البيهقي: زاد غيره عن
محمد بن عمرو بإسناده قال زيد: فوالذي أكرمه وأنزل عليه الكتاب ما
استلم صنما قط حتى أكرمه الله تعالى بالذي أكرمه وأنزل عليه.
وتقدم قوله عليه الصلاة والسلام لبحيرى حين سأله باللات والعزى " لا
تسألني بهما فوالله ما أبغضت شيئا بغضهما " فأما الحديث الذي قاله
الحافظ أبو بكر البيهقي أخبرنا أبو سعد الماليني (4).
أنبأنا أبو أحمد بن عدي الحافظ حدثنا إبراهيم بن أسباط حدثنا عثمان بن
أبي شيبة حدثنا جرير عن
__________
(1) الخبر رواه السيوطي في الخصائص الكبرى 1 / 89 ورواه أبو نعيم في
دلائله (143) وسبل الهدى (2 / 199) وقال: رواه اسحاق بن راهويه والبزار
وابن حبان.
(2) دلائل النبوة ج 2 / 34 ونقله السيوطي في الخصائص الكبرى ج 1 / 89.
(3) في الدلائل: أو نائلة.
(4) هو أبو سعد أحمد بن محمد الماليني.
[ * ]
(2/351)
سفيان الثوري
عن محمد بن عبد الله بن محمد بن عقيل (1) عن جابر بن عبد الله رضي الله
عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم: يشهد مع المشركين مشاهدهم قال:
فسمع ملكين خلفه وأحدهما يقول لصاحبه: اذهب بنا حتى نقوم خلف رسول الله
صلى الله عليه وسلم.
قال كيف نقوم خلفه، وإنما عهده باستلام الاصنام ؟.
قال فلم يعد بعد ذلك أن يشهد مع المشركين مشاهدهم.
فهو حديث انكره غير واحد من الائمة على عثمان بن أبي شيبة حتى قال
الامام أحمد فيه لم يكن أخوه يتلفظ بشئ من هذا.
وقد حكى البيهقي عن بعضهم (2) أن معناه أنه شهد مع من يستلم الاصنام
وذلك قبل أن يوحى إليه والله أعلم.
وقد تقدم في حديث زيد بن حارثة أنه اعتزل شهود مشاهد المشركين حتى
أكرمه الله برسالته.
وثبت في الحديث أنه كان لا يقف بالمزدلفة ليلة عرفة بل كان يقف مع
الناس بعرفات كما قال يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق.
حدثني عبد الله بن أبي بكر عن عثمان بن أبي سليمان عن نافع بن جبير بن
مطعم عن أبيه جبير.
قال: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على دين قومه وهو يقف
على بعير له بعرفات من بين قومه حتى يدفع معهم، توفيقا من الله عزوجل
له.
قال البيهقي (3): معنى قوله على دين قومه ما كان بقي من إرث إبراهيم
وإسماعيل عليهما السلام، [ في حجهم ومناكحهم وبيوعهم، دون الشرك ] ولم
يشرك بالله قط صلوات الله وسلامه عليه دائما.
قلت: ويفهم من قوله هذا أيضا أنه كان يقف بعرفات قبل أن يوحى إليه.
وهذا توفيق من الله له.
ورواه الامام أحمد عن يعقوب عن محمد بن إسحاق به.
ولفظه رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن ينزل عليه وإنه لواقف
على بعير له مع الناس بعرفات حتى يدفع معهم توفيقا من الله.
وقال الامام أحمد: حدثنا سفيان عن عمرو عن محمد بن جبير بن مطعم عن
أبيه قال: أضللت بعيرا لي بعرفة (4) فذهبت اطلبه فإذا النبي صلى الله
عليه وسلم واقف فقلت إن هذا من الحمس (5) ما شأنه ههنا ؟ وأخرجاه
__________
(1) في دلائل البيهقي: عبد الله بن محمد بن عقيل، أبو محمد المدني،
الطالبي روى عنه ابن عمر وجابر قال فيه
الترمذي صدوق، كان أحمد وإسحاق والحميري يحتجون بحديثه وتوفي فيما قاله
الواقدي بعد سنة 140 ه.
(الكاشف ج 2 / 113 - التقريب والتهذيب 1 / 447).
(2) أبو القاسم الطبراني عن المعمري عن عثمان بن أبي شيبة.
قال ابن حجر: " هذا الحديث أنكره الناس، فبالغوا، والمنكر قوله عن
الملك، " عهده باستلام الاصنام " فإن ظاهره أنه باشر الاستلام، وليس
ذلك مرادا، بل المراد أنه شهد مباشرة المشركين استلام اصنامهم (المطالب
العالية).
وفي السيرة الشامية: المراد بالمشاهد مشاهد الحلف ونحوها لا مشاهد
استلام الاصنام.
(3) دلائل النبوة ج 2 / 37.
(4) كذا في الاصل والصواب: عرنة كما في سيرة ابن كثير وعرنة: واد بحذاء
عرفات.
(5) الحمس: جمع أحمس، وهو الشديد الصلب، وهم قريش وسميت حمسا لزعمهم
بأنهم اشتدوا في دينهم إلى = [ * ]
(2/352)
من حديث سفيان بن عيينة به. |