البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي
باب هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه الكريمة من مكة إلى
المدينة
ومعه أبو بكر الصديق رضي الله عنه وذلك أول التاريخ الاسلامي كما اتفق
عليه الصحابة في الدولة العمرية كما بيناه في سيرة عمر رضي الله عنه
وعنهم أجمعين.
قال البخاري: حدثنا مطر بن الفضل، ثنا روح، ثنا هشام (2)، ثنا عكرمة عن
ابن عباس.
قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم لاربعين سنة، فمكث فيها (3) ثلاث
عشرة يوحى إليه، ثم أمر بالهجرة فهاجر عشر سنين، ومات وهو ابن ثلاث
وستين سنة.
وقد
__________
(1) قال في الروض الآنف 1 / 292 روى الحارث بن أبي أسامة في مسنده عن
النبي صلى الله عليه وسلم في ذكر فضل يس، أنها: إن قرأها خائف أمن، أو
جائع شبع، أو عار كسي أو عاطش سقي..وعلل امتناعهم من الدخول إليه صلى
الله عليه وسلم قال: وذكر بعض أهل التفسير السبب المانع لهم من التقحم
عليه في الدار، إنهم هموا بالولوج عليه - وإنهم إنما جاءوا لقتله -
فصاحت امرأة من الدار، فقال بعضهم لبعض: والله إنها للسبة في العرب أن
يتحدث عنا أنا تسورنا الحيطان على بنات العم، وهتكنا ستر
حرمتنا..فأصبحوا ينتظرون خروجه - على باب الدار -.
(2) روح بن عبادة، وهشام بن حسان.
(3) في البخاري ورواية البيهقي: بمكة بدلا من فيها.
والحديث أخرجه البخاري في 63 كتاب مناقب الانصار (45) باب هجرة النبي
صلى الله عليه وسلم ح 3902 فتح الباري 7 / 227 والبيهقي في الدلائل 2 /
131.
(*)
(3/217)
كانت هجرته
عليه السلام في شهر ربيع الاول سنة ثلاث عشرة من بعثته عليه السلام
وذلك في يوم الاثنين كما رواه الامام أحمد عن ابن عباس أنه قال: ولد
نبيكم يوم الاثنين، وخرج من مكة يوم
الاثنين، ونبئ يوم الاثنين، ودخل المدينة يوم الاثنين، وتوفي يوم
الاثنين (1).
قال محمد بن إسحاق: وكان أبو بكر حين استأذن رسول الله صلى الله عليه
وسلم في الهجرة فقال له: لا تعجل لعل الله أن يجعل لك صاحبا، قد طمع
بأن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما يعني نفسه، فابتاع راحلتين
(2) فاحتبسهما في دار يعلفهما إعدادا لذلك.
قال الواقدي: اشتراهما بثمانمائة درهم.
قال ابن إسحاق: فحدثني من لا أتهم عن عروة بن الزبير عن عائشة أم
المؤمنين أنها قالت: كان لا يخطئ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي
بيت أبي بكر أحد طرفي النهار، إما بكرة، وإما عشية حتى إذا كان اليوم
الذي أذن الله فيه رسوله صلى الله عليه وسلم في الهجرة والخروج من مكة
من بين ظهري قومه أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهاجرة في ساعة
كان لا يأتي فيها، قالت فلما رآه أبو بكر قال: ما جاء رسول الله صلى
الله عليه وسلم في هذه الساعة إلا لامر حدث ! قالت فلما دخل تأخر له
أبو بكر عن سريره، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس عند رسول
الله صلى الله عليه وسلم (3) أحد إلا أنا وأختي أسماء بنت أبي بكر،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أخرج عني من عندك " قال: يا رسول
الله إنما هما ابنتاي (4)، وما ذاك فداك أبي وأمي ؟ قال: " إن الله قد
أذن لي في الخروج والهجرة " قالت: فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله ؟
قال: " الصحبة " قالت فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحدا يبكي من
الفرح حتى رأيت أبا بكر يومئذ يبكي.
ثم قال: يا نبي الله إن هاتين راحلتين كنت أعددتهما لهذا، فاستأجرا عبد
الله بن أرقط (5) قال ابن هشام: ويقال عبد الله بن أريقط.
رجلا من بني الدئل بن بكر، وكانت أمه من بني سهم بن عمرو، وكان مشركا
يدلهما على الطريق ودفعا إليه راحلتيهما، فكانتا عنده يرعاهما
لميعادهما.
قال ابن إسحاق: ولم يعلم - فيما بلغني - بخروج رسول الله صلى الله عليه
وسلم أحد حين خرج إلا علي بن أبي طالب وأبو بكر الصديق وآل أبي بكر،
أما علي، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يتخلف حتى يؤدي عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم الودائع التي كانت عنده للناس، وكان
__________
(1) تقدم تخريجه في هذا الجزء فليراجع.
(2) قال البيهقي: 2 / 472: وعلف راحلتين، كانتا عنده ورق السمر أربعة
أشهر.
وفي ابن سعد: وكان أبو بكر اشتراهما بثمانمائة درهم - عن محمد بن عمر -
من نعم بني قشير.
(3) في ابن هشام: وليس عند أبي بكر إلا أنا وأختي.
(4) في البخاري: إنما هما أهلك.
وقد كان أبو بكر قد أنكح عائشة من رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل
ذلك.
(5) من ابن هشام، وفي الاصل أرقد.
وقال الزرقاني في شرح المواهب 1 / 339: رقيط، وهو من بني الديل وقيل
الدئل كما في فتح الباري.
وكان على دين الكفار ولم يعرف له إسلام فيما بعد كما جزم المقدسي وتبعه
النووي، وقال في الاصابة: لم أر من ذكره في الصحابة إلا الذهبي في
التجريد وعند السهيلي 1 / 8: لم يكن مسلما إذ ذاك ولا وجدنا من طريق
صحيحة أنه أسلم بعد ذلك.
(*)
(3/218)
رسول الله صلى
الله عليه وسلم وليس بمكة أحد عنده شئ يخشى عليه إلا وضعه عنده لما
يعلم من صدقه وأمانته.
قال ابن اسحاق: فلما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم [ الخروج ] (1)
أتى بأبكر بن أبي قحافة فخرجا من خوخة لابي بكر في ظهر بيته.
وقد روى أبو نعيم من طريق إبراهيم بن سعد عن محمد بن إسحاق.
قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج من مكة مهاجرا إلى
الله يريد المدينة قال: " الحمد لله الذي خلقني ولم أك شيئا، اللهم
أعني على هول الدنيا، وبوائق الدهر، ومصائب الليالي والايام.
اللهم أصحبني في سفري.
واخلفني في أهلي، وبارك لي فيما رزقتني ولك فذللني.
وعلى صالح خلقي فقومني، وإليك رب فحببني، وإلى الناس فلا تكلني، رب
المستضعفين وأنت ربي أعوذ بوجهك الكريم الذي أشرقت له السموات والارض،
وكشفت به الظلمات، وصلح عليه أمر الاولين والآخرين، أن تحل علي غضبك،
وتنزل بي سخطك، أعوذ بك من زوال نعمتك، وفجأة نقمتك، وتحول عافيتك
وجميع سخطك.
لك العقبى (2) عندي خير ما استطعت، لا حول ولا قوة إلا بك ".
قال ابن إسحاق: ثم عمدا إلى غار بثور - جبل بأسفل مكة - فدخلاه، وأمر
أبو بكر الصديق ابنه عبد الله أن يتسمع لهما ما يقول الناس فيهما
نهاره، ثم يأتيهما إذا أمسى بما يكون في ذلك اليوم من الخبر.
وأمر عامر بن فهيرة (3) مولاه أن يرعى غنمه نهاره، ثم يريحها عليهما [
يأتيهما ] إذا أمسى في الغار.
فكان عبد الله بن أبي بكر يكون في قريش نهاره معهم يسمع ما
يأتمرون به، وما يقولون في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر،
ثم يأتيهما إذا أمسى فيخبرهما الخبر.
وكان عامر بن فهيرة يرعى في رعيان أهل مكة، فإذا أمسى أراح عليهما غنم
أبي بكر فاحتلبا وذبحا.
فإذا غدا عبد الله بن أبي بكر من عندهما إلى مكة أتبع عامر بن فهيرة
أثره بالغنم يعفي عليه.
وسيأتي في سياق البخاري ما يشهد لهذا وقد حكى ابن جرير عن بعضهم أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم سبق الصديق في الذهاب إلى غار ثور، وأمر
عليا أن يدله على مسيره ليلحقه، فلحقه في أثناء الطريق.
وهذا غريب جدا وخلاف المشهور من أنهما خرجا معا.
قال ابن إسحاق: وكانت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها تأتيهما من
الطعام إذا أمست بما يصلحهما، قالت أسماء: ولما خرج رسول الله صلى الله
عليه وسلم وأبو بكر أتانا نفر من قريش فيهم أبو جهل بن هشام فوقفوا على
باب أبي بكر، فخرجت إليهم فقالوا أين أبوك يا أبنة أبي بكر ؟ قالت:
قلت: لا أدري والله أين أبي.
قالت فرفع أبو جهل يده - وكان فاحشا خبيثا - فلطم خدي لطمة طرح منها
__________
(1) من ابن هشام.
(2) من أبي نعيم، وفي الاصل العقبى.
(3) عامر بن فهيرة، مولى أبي بكر الصديق، وكان مولدا من مولدي الازد.
أسلم وهو مملوك، فاشتراه أبو بكر واعتقه، شهد بدرا وأحدا وقتل يوم بئر
معونة.
قتله عامر بن الطفيل (*)
(3/219)
قرطي ثم
انصرفوا.
قال ابن إسحاق: وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير أن أباه
حدثه عن جدته أسماء قالت: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج
أبو بكر معه، احتمل أبو بكر ماله كله معه خمسة آلاف درهم - أو ستة آلاف
درهم - فانطلق بها معه، قالت: فدخل علينا جدي أبو قحافة - وقد ذهب بصره
- فقال: والله إني لاراه قد فجعكم بماله مع نفسه ؟ قالت: قلت: كلا يا
أبة إنه قد ترك لنا خيرا كثيرا، قالت وأخذت أحجارا فوضعتها في كوة في
البيت الذي كان أبي يضع ماله فيها، ثم وضعت عليها ثوبا، ثم أخذت بيده
فقلت يا أبة ضع يدك على هذا المال.
قالت فوضع يده عليه فقال: لا بأس إذ كان قد ترك لكم هذا فقد أحسن، وفي
هذا بلاغ لكم، ولا والله ما
ترك لنا شيئا ولكن أردت أن أسكن الشيخ بذلك.
وقال ابن هشام: وحدثني بعض أهل العلم أن الحسن بن أبي الحسن البصري.
قال: انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر إلى الغار ليلا،
فدخل أبو بكر قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلمس الغار لينظر أفيه
سبع أو حية، بقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه.
وهذا فيه انقطاع من طرفيه.
وقد قال أبو القاسم البغوي حدثنا داود بن عمرو الضبي، ثنا نافع بن عمر
الجمحي، عن ابن أبي مليكة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج هو
وأبو بكر إلى ثور، فجعل أبو بكر يكون أمام النبي صلى الله عليه وسلم
مرة، وخلفه مرة.
فسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: إذا كنت خلفك خشيت أن
تؤتى من أمامك، وإذا كنت أمامك خشيت أن تؤتى من خلفك.
حتى إذا انتهى إلى الغار من ثور قال أبو بكر: كما أنت حتى أدخل يدي
فأحسه وأقصه فإن كانت فيه دابة أصابتني قبلك.
قال نافع: فبلغني أنه كان في الغار جحر فألقم أبو بكر رجله ذلك الجحر
تخوفا أن يخرج منه دابة أو شئ يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا
مرسل.
وقد ذكرنا له شواهد أخر في سيرة الصديق رضي الله عنه.
وقال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن
اسحاق، أنا موسى بن الحسن ثنا عباد، ثنا عفان بن مسلم ثنا السري بن
يحيى ثنا محمد بن سيرين.
قال: ذكر رجال على عهد عمر فكأنهم فضلوا عمر على أبي بكر.
فبلغ ذلك عمر فقال: والله لليلة من أبي بكر خير من آل عمر، وليوم من
أبي بكر خير من آل عمر لقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة
انطلق إلى الغار ومعه أبو بكر فجعل يمشي ساعة بين يديه وساعة خلفه، حتى
فطن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " يا أبا بكر مالك تمشي ساعة
خلفي وساعة بين يدي ؟ " فقال: يا رسول الله اذكر الطلب، فأمشي خلفك، ثم
أذكر الرصد، فأمشي بين يديك.
فقال: " يا أبا بكر لو كان شئ لاحببت أن يكون بك دوني ؟ " قال: نعم،
والذي بعثك بالحق [ ما كانت لتكون من ملمة إلا أحببت أن تكون لي دونك ]
(1).
فلما انتهيا إلى الغار قال أبو بكر: مكانك يا رسول الله حتى أستبرئ لك
الغار،
__________
(1) ما بين معكوفين سقطت من الاصل واستدركت من دلائل البيهقي ج 2 /
477.
(*)
(3/220)
فدخل فاستبرأه،
حتى إذا كان [ في أعلاه ] (1) ذكر أنه لم يستبرئ الجحرة فقال: مكانك يا
رسول الله حتى أستبرئ [ الجحرة ].
فدخل فاستبرأ ثم قال: انزل يا رسول الله، فنزل.
ثم قال عمر: والذي نفسي بيده لتلك الليلة خير من آل عمر.
وقد رواه البيهقي من وجه آخر (2) عن عمر وفيه: أن أبا بكر جعل يمشي بين
يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم تارة، وخلفه أخرى، وعن يمينه وعن
شماله.
وفيه أنه لما حفيت رجلا رسول الله صلى الله عليه وسلم حمله الصديق على
كاهله، وأنه لما دخل الغار سدد تلك الاجحرة كلها.
وبقي منها جحر واحد، فألقمه كعبه فجعلت الافاعي تنهشه ودموعه تسيل.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تحزن إن الله معنا " وفي
هذا السياق غرابة ونكارة.
وقال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد بن أبي عمرو.
قالا: ثنا أبو العباس الاصم، ثنا عباس الدوري، ثنا أسود بن عامر:
شاذان، ثنا اسرائيل، عن الاسود عن جندب بن عبد الله.
قال: كان أبو بكر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار، فأصاب يده
حجر فقال: إن أنت إلا أصبع دميت * وفي سبيل الله ما لقيت (3) وقال
الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، أخبرني عثمان الجزري أن
مقسما مولى ابن عباس أخبره عن ابن عباس في قوله تعالى: (وإذ يمكر بك
الذين كفروا ليثبتوك) (4) قال: تشاورت قريش ليلة بمكة، فقال بعضهم إذا
أصبح فأثبتوه بالوثاق، يريدون النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال بعضهم بل اقتلوه.
وقال بعضهم بل أخرجوه.
فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك، فبات علي على فراش النبي
صلى الله عليه وسلم تلك الليلة، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم حتى لحق
بالغار، وبات المشركون يحرسون عليا يحسبونه النبي صلى الله عليه وسلم.
فلما أصبحوا ثاروا عليه، فلما رأوا عليا رد الله عليهم مكرهم.
فقالوا: أين صاحبك هذا ؟ فقال: لا أدري.
فاقتفوا أثره فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم، فصعدوا الجبل فمروا
بالغار، فرأوا على بابه نسج العنكبوت، فقالوا لو دخل ها هنا أحد لم يكن
نسج العنكبوت على بابه.
فمكث فيه ثلاث ليال.
وهذا إسناد حسن وهو من أجود ما روي في قصة نسج العنكبوت على فم الغار،
وذلك من حماية الله رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقال الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن سعيد القاضي في مسند أبي بكر:
حدثنا بشار الخفاف
__________
(1) من دلائل البيهقي.
(2) رواه من طريق فرات بن السائب عن ميمون بن مهران عن ضبة بن محصن
الفزاري.
عن عمر..(3) رواه البيهقي في الدلائل ج 2 / 480 ورواه ابن مردويه عن
جندب بن عبد الله البجلي.
(4) الانفال 30، قال القرطبي في أحكام القرآن في تفسير قوله تعالى:
(والله خير الماكرين): المكر من الله هو جزاؤهم بالعذاب على مكرهم من
حيث لا يشعرون وقال الزمخشري في الكشاف: أي مكره أنفذ من مكر غيره
وأبلغ تأثيرا لانه لا ينزل إلا ما هو حق وعدل ولا يصيب إلا بما هو
مستوجب.
وفي النهاية 4 / 103: مكر الله: إيقاع بلائه بأعدائه.
وقال العسكري في الفروق اللغوية: إن الكيد والمكر متغايران والشاهد أن
الكيد يتعدى بنفسه والمكر يتعدي بحرف.
فيقال كاده يكيده ومكر به ولا يقال مكره والذي يتعدى بنفسه اقوى.
(*)
(3/221)
ثنا جعفر
وسليمان (1) ثنا أبوعمران الجوني، حدثنا المعلى بن زياد عن الحسن
البصري.
قال: انطلق النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر إلى الغار.
وجاءت قريش يطلبون النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا رأوا على باب
الغار نسج العنكبوت قالوا: لم يدخل أحد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم
قائما يصلي وأبو بكر يرتقب، فقال أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم:
هؤلاء قومك يطلبونك، أما والله ما على نفسي أئل (2) ولكن مخافة أن أرى
فيك ما أكره.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " يا أبا بكر لا تخف إن الله معنا "
وهذا مرسل عن الحسن، وهو حسن بحاله من الشاهد، وفيه زيادة صلاة النبي
صلى الله عليه وسلم في الغار.
وقد كان عليه السلام إذا أحزنه أمر صلى وروى هذا الرجل - أعني أبو بكر
أحمد بن علي القاضي - [ عن ] عمرو الناقد عن خلف بن تميم عن موسى بن
مطر عن أبيه عن أبي هريرة أن أبا بكر.
قال لابنه: يا بني إذا حدث في الناس حدث فأت الغار الذي اختبأت فيه أنا
ورسول الله صلى الله عليه وسلم فكن فيه فإنه سيأتيك رزقك فيه بكرة
وعشيا.
وقد نظم بعضهم هذا في شعره حيث يقول: نسج داود ما حمى صاحب الغا * ر
وكان الفخار للعنكبوت وقد ورد أن حمامتين عششتا على بابه أيضا، وقد نظم
ذلك الصرصري في شعره حيث يقول:
فغمى عليه العنكبوت بنسجه * وظل على الباب الحمام يبيض والحديث بذلك
رواه الحافظ ابن عساكر من طريق يحيى بن محمد بن صاعد: حدثنا عمرو بن
علي، ثنا عون بن عمرو أبو عمرو القيسي - ويلقب بعوين (3) - حدثني أبو
مصعب المكي.
قال: أدركت زيد بن أرقم والمغيرة بن شعبة وأنس بن مالك، يذكرون أن
النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الغار أمر الله شجرة فخرجت في وجه النبي
صلى الله عليه وسلم تستره (4)، وأن الله بعث العنكبوت فنسجت ما بينهما
فسترت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر الله حمامتين وحشيتين
فأقبلتا يدفان حتى وقعتا بين العنكبوت وبين الشجرة وأقبلت فتيان قريش
من كل بطن منهم رجل، معهم عصيهم وقسيهم وهراواتهم، حتى إذا كانوا من
رسول الله صلى الله عليه وسلم قدر مائتي ذراع قال الدليل - وهو سراقة
بن مالك بن جعشم المدلجي - هذا الحجر ثم لا أدري أين وضع رجله.
فقال الفتيان: أنت لم تخطئ منذ الليلة.
__________
(1) لعله جعفر بن سليمان الضبعي.
(2) آل المريض: حن ورفع صوته عند ابتلائه بالمصيبة.
(3) الاصل: عوين.
(4) في رواية قاسم بن ثابت بن حزم العوفي السرقسطي، حيث ألف كتابا في
شرح الحديث سماه الدلائل وجاء فيه: هذا على ما ذكره السهيلي في الروض
الآنف 2 / 4: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل الغار، وأبو بكر
معه أنبت الله على بابه الراءة، وهي شجرة معروفة، فحجبت عن النار أعين
الكفار.
والراءة شجرة مثل قامة الانسان ولها خيطان وزهر أبيض كالريش.
(*)
(3/222)
حتى إذا أصبحوا
(1) قال: أنظروا في الغار، فاستبقه القوم حتى إذا كانوا من النبي صلى
الله عليه وسلم قدر خمسين ذراعا، فإذا الحمامتان، فرجع (2) فقالوا ما
ردك أن تنظر في الغار ؟ قال رأيت حمامتين وحشيتين بفم الغار، فعرفت أن
ليس فيه أحد.
فسمعها النبي صلى الله عليه وسلم فعرف أن الله قد درأ عنهما بهما، فسمت
عليهما - أي برك عليهما وأحدرهما الله إلى الحرم فأفرخا كما ترى (3).
وهذا حديث غريب جدا من هذا الوجه.
قد رواه الحافظ أبو نعيم من حديث مسلم بن إبراهيم وغيره عن عون بن عمرو
- وهو
الملقب بعوين - بإسناده مثله.
وفيه أن جميع حمام مكة من نسل تيك الحمامتين، وفي هذا الحديث أن القائف
الذي اقتفى لهم الاثر سراقة بن مالك المدلجي وقد روى الواقدي عن موسى
بن محمد بن إبراهيم عن أبيه أن الذي اقتفى لهم الاثر كرز بن علقمة.
قلت: ويحتمل أن يكونا جميعا اقتفيا الاثر والله أعلم.
وقد قال الله تعالى: " إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا
ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل
الله سكينته عليه (4) وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا
السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم) [ التوبة: 40 ] يقول
تعالى مؤنبا لمن تخلف عن الجهاد مع الرسول: (إلا تنصروه) أنتم فان الله
ناصره ومؤيده ومظفره كما نصره (إذ أخرجه الذين كفروا) من أهل مكة هاربا
ليس معه غير صاحبه وصديقه أبي بكر ليس غيره ولهذا قال: (ثاني اثنين إذ
هما في الغار) أي وقد لجآ إلى الغار فأقاما فيه ثلاثة أيام ليسكن الطلب
عنهما، وذلك لان المشركين حين فقدوهما كما تقدم ذهبوا في طلبهما كل
مذهب من سائر الجهات، وجعلوا لمن ردهما - أو أحدهما - مائة من الابل،
واقتصوا آثارهما حتى اختلط عليهم، وكان الذي يقتص الاثر لقريش سراقة بن
مالك بن جعشم كما تقدم، فصعدوا الجبل الذي هما فيه وجعلوا يمرون على
باب الغار، فتحاذي أرجلهم لباب الغار ولا يرونهما، حفظا من الله لهما.
كما قال الامام أحمد: حدثنا عفان، ثنا همام أنا ثابت، عن أنس بن مالك
أن أبا بكر حدثه.
قال قلت للنبي صلى الله عليه وسلم ونحن في الغار.
لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لابصرنا تحت قدميه ؟ فقال: " يا أبا بكر ما
ظنك باثنين الله ثالثهما " وأخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث
همام به (5).
وقد ذكر بعض أهل السير أن أبا
__________
(1) في الاصل: أصبحن وهو تحريف.
(2) في الاصل: ترجع، وهو تحريف.
(3) رواه أبو نعيم في دلائل النبوة والبيهقي في الدلائل 2 / 482 وابن
سعد 1 / 229 وكلهم عن أبي مصعب المكي.
(4) قال القرطبي في تفسيره قوله تعالى: (فأنزل الله سكينته عليه) أي
على أبي بكر بتأمين النبي صلى الله عليه وسلم له فسكن جأشة (جأشه) وذهب
روعه 8 / 148.
(5) أخرجه البخاري في 62 كتاب فضائل الصحابة (2) باب مناقب المهاجرين ح
3653 وأعاده في 63 كتاب الانصار باب (45).
وأخرجه الترمذي في كتاب التفسير.
تفسير سورة التوبة ح 3096 والامام أحمد في مسنده 1 / 4.
(3/223)
بكر لما قال
ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لو جاؤنا من ههنا لذهبنا من هنا "
فنظر الصديق إلى الغار قد انفرج من الجانب الآخر، وإذا البحر قد اتصل
به، وسفينة مشدودة إلى جانبه.
وهذا ليس بمنكر من حيث القدرة العظيمة، ولكن لم يرد ذلك بإسناد قوي ولا
ضعيف، ولسنا نثبت شيئا من تلقاء أنفسنا، ولكن ما صح أو حسن سنده قلنا
به.
والله أعلم.
وقد قال الحافظ أبو بكر البزار حدثنا الفضل بن سهل ثنا خلف بن تميم ثنا
موسى بن مطير القرشي عن أبيه عن أبي هريرة أن أبا بكر قال لابنه: يا
بني إن حدث في الناس حدث فأت الغار الذي رأيتني اختبأت فيه أنا ورسول
الله صلى الله عليه وسلم فكن فيه، فإنه سيأتيك فيه رزقك غدوة وعشية.
ثم قال البزار: لا نعلم يرويه غير خلف بن تميم.
قلت: وموسى بن مطير هذا ضعيف متروك، وكذبه يحيى بن معين فلا يقبل
حديثه.
وقد ذكر يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق أن الصديق قال في دخولهما
الغار، وسيرهما بعد ذلك وما كان من قصة سراقة كما سيأتي شعرا.
فمنه قوله: قال النبي - ولم أجزع - يوقرني * ونحن في سدف من ظلمة الغار
لا تخش شيئا فإن الله ثالثنا * وقد توكل لي منه بإظهار وقد روى أبو
نعيم هذه القصيدة من طريق زياد عن محمد بن إسحاق فذكرها مطولة جدا،
وذكر معها قصيدة أخرى والله أعلم.
وقد روى ابن لهيعة عن أبي الاسود عن عروة بن الزبير.
قال فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الحج - يعني الذي بايع فيه
الانصار - بقية ذي الحجة والمحرم وصفر، ثم إن مشركي قريش أجمعوا أمرهم
ومكرهم على أن يقتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يحبسوه.
أو يخرجوه فأطلعه الله على ذلك فأنزل عليه: (وإذ يمكر بك الذين كفروا)
الآية.
فأمر عليا فنام على
فراشه، وذهب هو وأبو بكر، فلما أصبحوا ذهبوا في طلبهما في كل وجه
يطلبونهما.
وهكذا ذكر موسى بن عقبة في مغازيه، وإن خروجه هو وأبو بكر إلى الغار
وكان ليلا.
وقد تقدم عن الحسن البصري فيما ذكره ابن هشام التصريح بذلك أيضا.
وقال البخاري حدثنا يحيى بن بكير ثنا الليث عن عقيل.
قال ابن شهاب فأخبرني عروة بن الزبير عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه
وسلم قالت: لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم
إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار: بكرة وعشية،
فلما ابتلي المسلمون، خرج أبو بكر مهاجرا نحو أرض الحبشة، حتى إذا بلغ
برك الغماد (1) لقيه ابن الدغنة (2) وهو سيد القارة، فذكرت ما كان من
رده لابي بكر إلى مكة وجواره له
__________
(1) برك الغماد: موضع بناحية اليمن مما يلي ساحل البحر، وقال ابن فارس:
بضم الغين، وقيل: موضع بأقاضي هجر وقيل وراء مكة بخمس ليال.
(2) ابن الدغنة: ربيعة بن رفيع بن اهبان بن ثعلبة السلمي، سمي باسم امه
- الدغنة - شهد حنينا ثم قدم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني
تميم.
(*)
(3/224)
كما قدمناه عند
هجرة الحبشة، إلى قوله فقال أبو بكر: فإني أرد عليك جوارك وأرضى بجوار
الله.
قالت والنبي صلى الله عليه وسلم يومئذ بمكة فقال النبي صلى الله عليه
وسلم للمسلمين: " إني أريت دار هجرتكم ذات نخل بين لابتين: وهما
الحرتان.
فهاجر من هاجر قبل المدينة، ورجع بعض من كان هاجر قبل الحبشة إلى
المدينة، وتجهز أبو بكر مهاجرا قبل المدينة.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " على رسلك فإني أرجو أن يؤذن
لي " فقال أبو بكر: وهل ترجو ذلك بأبي أنت وأمي ؟ قال: نعم.
فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه، وعلف
راحلتين كانتا عنده ورق السمر - وهو الخبط - (1) أربعة أشهر، وذكر
بعضهم أنه علفهما ستة أشهر.
قال ابن شهاب قال عروة قالت عائشة: فبينما نحن يوما جلوس في بيت أبي
بكر في حر (2) الظهيرة، فقال قائل لابي بكر: هذا رسول الله صلى الله
عليه وسلم [ مقبلا ] (3) متقنعا في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو
بكر: فداء له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر.
قالت فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذن فأذن له، فدخل فقال
النبي صلى الله عليه وسلم: " أخرج
من عندك " فقال أبو بكر: إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله.
قال: فإنه قد أذن لي في الخروج.
فقال أبو بكر: الصحبة بأبي أنت وأمي، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "
نعم " ! قال أبو بكر: فخذ أنت يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بالثمن (4).
قالت عائشة: فجهزناهما أحث الجهاز فصنعنا لهما سفرة في جراب، فقطعت
أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب، فلذلك سميت
ذات النطاقين (5).
قالت ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغار في جبل ثور،
فمكثا (6) فيه ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام شاب
ثقف لقن فيدلج (7) من عندهما بسحر فيصبح مع قريش بمكة كبائت، لا يسمع
أمرا يكادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، ويرعى
عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر
__________
(1) كذا في الاصل، وفي النهاية لابن الاثير: السمر بضم الميم ضرب من
شجر الطلح، وأما الخبط فهو ضرب الشجرة لتناثر ورقها.
(2) في دلائل البيهقي: نحر الظهيرة: أي في أول وقت الحرارة، وهي
المهاجرة، ويقال أول الزوال، وهو أشد ما يكون من حر النهار، والغالب في
أيام الحر القيلولة فيها.
(3) من البيهقي.
(4) بالثمن: أي لا آخذها إلا بالثمن، وفي رواية ابن إسحاق: لا أركب
بعيرا ليس هو لي، قال: فهو لك، قال: لا، ولكن بالثمن الذي ابتعته، قال:
أخذته بكذا وكذا، قال: هو لك.
وفي رواية الطبراني عن اسماء بنت أبي بكر: قال بثمنها.
وقد تقدم عن الواقدي ان ثمنها ثمانمائة اشتراها من نعم بني قشير.
فأخذ إحداهما وهي القصواء.
وأخرج ابن حبان: أنها الجذعاء.
(5) النطاق: كل شئ شددت به الوسط، وسميت ذات النطاقين: لانها كانت تجعل
نطاقا على نطاق، وقيل: كان لها نطاقان، تلبس أحدهما، وتحمل في الآخر
الزاد لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الغار.
(6) في البخاري والبيهقي: فكمنا.
(7) يدلج: يخرج بالسحر، يقال أدلج: إذا سار في أول الليل، وادلج: إذا
سار في آخره.
(*)
(3/225)
منحة (1) من
غنم فيريحها عليهما حين يذهب ساعة من العشاء، فيبيتان في رسل - وهو لبن
منحتهما ورضيعهما - حتى ينعق بها عامر بن فهيرة بغلس، يفعل ذلك في كل
ليلة من تلك الليالي الثلاث.
واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلا من بني الدئل وهو
من بني عبد بن عدي هاديا خريتا (2) - والخريت الماهر بالهداية - قد غمس
حلفا في آل العاص بن وائل السهمي، وهو على دين كفار قريش فأمناه فدفعا
إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما صبح ثلاث
ليال.
وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل فأخذ بهم طريق السواحل (3).
قال ابن شهاب فأخبرني عبد الرحمن بن مالك المدلجي وهو ابن أخي سراقة أن
أباه أخبره أنه سمع سراقة بن مالك بن جعشم.
يقول: جاءنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأبي بكر دية كل واحد منهما لمن قتله أو أسره، فبينما أنا جالس في مجلس
من مجالس قومي بني مدلج إذ أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس.
فقال: يا سراقة إني رأيت آنفا أسودة بالساحل أراها محمدا وأصحابه.
قال سراقة: فعرفت أنهم هم فقلت له: إنهم ليسوا بهم، ولكنك رأيت فلانا
وفلانا انطلقوا بأعيننا، ثم لبثت في المجلس ساعة (4) ثم قمت فدخلت [
بيتي ] (5) فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي، وهي من وراء أكمة فتحبسها علي،
وأخذت رمحي فخرجت من ظهر البيت، فخططت بزجه (6) الارض وخفضت عاليه، حتى
أتيت فرسي فركبتها فدفعتها ففرت بي (7) حتى دنوت منهم، فعثرت بي فرسي،
فخررت عنها فقمت فأهويت يدي إلى كنانتي فاستخرجت منها الازلام فاستقسمت
بها أضرهم أم لا، فخرج الذي أكره، فركبت فرسي وعصيت الازلام فجعل فرسي
يقرب بي حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يلتفت
وأبو بكر يكثر الالتفات ساخت يدا فرسي في الارض حتى بلغتا الركبتين،
فخررت عنها فأهويت، ثم زجرتها فنهضت، فلم تكد تخرج يديها، فلما استوت
قائمة إذا لاثر يديها غبار (8) ساطع في السماء مثل الدخان، فاستقسمت
الازلام فخرج الذي أكره،
__________
(1) منحة من غنم، أي غنم فيها لبن، وقد تقع المنحة على الهبة مطلقا لا
قرضا ولا عارية.
(2) قال الخطابي: الخريت مأخوذ من خرت الابرة كأنه يهتدي لمثل خرتها من
الطريق، وخرت الابرة بالضم ثقبها، قال الكسائي: خرتنا الارض إذا
عرفناها ولم تخف علينا طرقها.
وقال ابن الاثير في النهاية: الخريت الماهر الذي
يهتدي لآخرات المفازة، وهي طرقها الخفية.
(3) أخرجه البخاري بطوله في 63 كتاب مناقب الانصار 45 باب هجرة النبي
صلى الله عليه وسلم، وأخرج جزءا منه في كتاب الصلاة، وفي كتاب الاجارة
وفي كتاب الكفالة..وفي مواضع أخر مقاطع مختصرة.
(4) وفي رواية البيهقي: ثم قل ما لبث في المجلس.
(5) من البيهقي.
(6) الزج: الحديدة التي في أسفل الرمح.
(7) في البيهقي: فركبتها فرفعتها تقرب.
والتقريب: السير دون العدو، وفوق العادة، وقيل: أن ترفع الفرس بديها
(بيديها) معا، وتضعهما معا.
(8) في البيهقي: عثان، وهو الدخان.
(*)
(3/226)
فناديتهم
الامان فوقفوا فركبت فرسي حتى جئتهم ووقع في نفسي حين لقيت من الحبس
عنهم (1) أن سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقلت له: إن قومك قد جعلوا فيك الدية، وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس
بهم، وعرضت عليهم الزاد والمتاع.
فلم يرزآني ولم يسألاني إلا أن قالا: أخف عنا.
فسألته أن يكتب لي كتاب أمن فأمر عامر بن فهيرة فكتب لي رقعة من أدم.
ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم (2).
وقد روى محمد بن إسحاق عن الزهري عن عبد الرحمن بن مالك بن جعشم عن
أبيه عن عمه سراقة فذكر هذه القصة، إلا أنه ذكر أنه استقسم بالازلام
أول ما خرج من منزله فخرج السهم الذي يكره لا يضره، وذكر أنه عثر به
فرسه أربع مرات، وكل ذلك يستقسم بالازلام ويخرج الذي يكره لا يضره.
حتى ناداهم بالامان.
وسأل أن يكتب له كتابا يكون أمارة (3) ما بينه وبين رسول الله صلى الله
عليه وسلم، قال فكتب لي كتابا في عظم - أو رقعة أو خرقة - وذكر أنه جاء
به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة (4) مرجعه من
الطائف، فقال له: " يوم وفاء وبر، أدنه " فدنوت منه وأسلمت.
قال ابن هشام: هو عبد الرحمن بن الحارث بن مالك بن جعشم وهذا الذي قاله
جيد.
ولما رجع سراقة جعل لا يلقى أحدا من الطلب إلا رده وقال: كفيتم هذا
الوجه، فلما ظهر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وصل إلى المدينة.
جعل سراقة يقص على الناس ما رأى وما شاهد من أمر النبي صلى الله عليه
وسلم وما كان من قضية جواده، واشتهر هذا عنه.
فخاف رؤساء قريش معرته، وخشوا أن يكون ذلك سببا لاسلام كثير منهم، وكان
سراقة أمير بني مدلج ورئيسهم، فكتب أو جهل - لعنه الله - إليهم: بني
مدلج إني أخاف سفيهكم * سراقة مستغو لنصر محمد عليكم به ألا يفرق جمعكم
* فيصبح شتى بعد عز وسؤدد قال: فقال سراقة بن مالك يجيب أبا جهل في
قوله هذا: أبا حكم والله لو كنت شاهدا * لامر جوادي إذ تسوخ قوائمه
عجبت ولم تشكك بأن محمدا * رسول وبرهان فمن ذا يقاومه (5)
__________
(1) في البيهقي: عنهما، والرواية بالمثنى.
(2) أخرجه البخاري في 63 كتاب مناقب الانصار (45) باب هجرة النبي صلى
الله عليه وسلم إلى المدينة ح 3906.
ورواه البيهقي في الدلائل ج 2 / 486 - 487.
(3) في ابن هشام: آية.
(4) الجعرانة: بكسر أوله: ماء بين الطائف ومكة، وهي إلى مكة أقرب.
(5) في السهيلي: علمت بدل عجبت، ببرهان: بدلا من وبرهان.
(*)
(3/227)
عليك فكف القوم
عنه فإنني * أخال لنا يوما ستبدو معالمه (1) بأمر تود النصر فيه فإنهم
* وإن جميع الناس طرا مسالمه (2) وذكر هذا الشعر الاموي في مغازيه
بسنده عن أبي اسحاق وقد رواه أبو نعيم بسنده من طريق زياد عن ابن
إسحاق، وزاد في شعر أبي جهل أبياتا تتضمن كفرا بليغا.
وقال البخاري بسنده إلى إبن شهاب: فأخبرني عروة بن الزبير أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم لقي الزبير في ركب من المسلمين كانوا تجارا قافلين
من الشام [ إلى مكة ] (3)، فكسى الزبير رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأبا بكر ثياب بياض، وسمع المسلمون بالمدينة بمخرج رسول الله صلى الله
عليه وسلم من مكة، فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرة فينتظرونه حتى يردهم
حر الظهيرة، فانقلبوا يوما بعد ما أطالوا انتظارهم، فلما أووا إلى
بيوتهم أوفى (4) رجل من اليهود على أطم من آطامهم لامر ينظر إليه، فبصر
برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مبيضين يزول (5) بهم السراب فلم
يملك اليهودي أن قال بأعلا صوته: يا معشر العرب (6) هذا جدكم الذي
تنتظرون فثار المسلمون إلى السلاح فتلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم
بظهر الحرة، فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف، وذلك
يوم الاثنين (7) من شهر ربيع الاول فقام أبو بكر للناس وجلس رسول الله
صلى الله عليه وسلم صامتا فطفق من جاء من الانصار ممن لم ير رسول الله
صلى الله عليه وسلم يحيى أبا بكر حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله
عليه وسلم، فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه.
فعرف الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك فلبث رسول الله صلى
الله عليه وسلم في بني عمرو بن عوف بضع (8) عشرة ليلة وأسس المسجد الذي
أسس على التقوى وصلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ركب راحلته
وسار يمشي معه الناس حتى بركت عند مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم
بالمدينة، وهو يصلي فيه يومئذ رجال من المسلمين.
وكان مربدا للتمر لسهيل وسهل (9) غلامين يتيمين في حجر أسعد بن زرارة.
فقال
__________
(1) في الروض الانف: أرى أمره يوما ستبدو معالمه.
(2) في الروض: صدره بأمر يود الناس فيه بأسرهم.
(3) من دلائل البيهقي.
(4) أوفى: صعد إلى مكان عال وأشرف منه على ما تحته.
(5) قال ابن حجر، يزول بسبب عروضهم له، وفي رواية: يلوح بهم.
(6) وفي رواية: يا بني قبلة، وهي جدة الانصار: والدة الاوس والخزرج.
(أنظر شرح المواهب 1 / 350).
(7) منهم من يقول لليلتين مضتا من شهر ربيع الاول، والحديث المعروف
لاثنتي عشرة خلت منه، وقيل لثمان خلون وقال أبو سعيد في شرف المصطفى من
طريق أبي بكر بن حزم: لثلاث عشرة من ربيع الاول، وهذا يجمع
بينه وبين الذي قبله بالحمل على الاختلاف في رؤية الهلال.
وعن عبد الرحمن بن عويم قال: وبنو عمرو بن عوف يزعمون أنه لبث فيهم
ثمان عشرة ليلة (البيهقي 2 / 512).
(8) في رواية البيهقي: ثلاث ليال.
وفي ابن سعد: أربع عشرة ليلة.
وفي البيهقي عن ابن إسحاق: أقام يوم الاثنين والثلاثاء والاربعاء
والخميس.
(9) وهما ابنا رافع بن أبي عمرو بن عباد بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن
النجار، وفي البيهقي إنهما كانا في حجر معاذ = (*)
(3/228)
رسول الله صلى
الله عليه وسلم حين بركت به راحلته: " هذا إن شاء الله المنزل "، ثم
عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم الغلامين فساومهما بالمربد ليتخذه
مسجدا، فقالا بل نهبه لك يا رسول الله، فأبى رسول الله صلى الله عليه
وسلم أن يقبله منهما هبة حتى ابتاعه منهما (1).
ثم بناه مسجدا.
فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل معهم اللبن في بنيانه، وهو
يقول حين ينقل اللبن: هذا الحمال لا حمال خيبر * هذا أبر ربنا وأطهر
ويقول: لا هم إن الاجر أجر الآخرة * فارحم الانصار والمهاجرة (2) فتمثل
بشعر رجل من المسلمين لم يسم لي.
قال ابن شهاب: ولم يبلغنا في الاحاديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
تمثل ببيت شعر تام غير هذه الابيات.
هذا لفظ البخاري وقد تفرد بروايته دون مسلم (3)، وله شواهد من وجوه أخر
وليس فيه قصة أم معبد الخزاعية، ولنذكر هنا ما يناسب ذلك مرتبا أولا
فأولا.
قال الامام أحمد: حدثنا عمرو بن محمد، أبو سعيد العنقزي، ثنا إسرائيل،
عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب.
قال: اشترى أبو بكر من عازب سرجا بثلاثة عشر درهما فقال أبو بكر لعازب:
مر البراء فليحمله إلى منزلي.
فقال: لا حتى تحدثنا كيف صنعت حين خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأنت معه ؟ فقال أبو بكر: خرجنا فادلجنا فاحثثنا يومنا وليلتنا حتى
أظهرنا وقام قائم
الظهيرة، فضربت بصري هل أرى ظلا نأوي إليه، فإذا أنا بصخرة فأهويت
إليها فإذا بقية
__________
= ابن عفراء وقد شهد سهيل بدرا والمشاهد كلها ومات في خلافة عمر، ولم
يشهد سهل بدرا وشهد غيرها ومات قبل أخيه سهيل.
وقال الواقدي: عن الزهري: كانا في حجر أسعد بن زرارة.
وفي سيرة ابن هشام: قال معاذ: هما يتيمان لي.
وفي رواية أخرى عنده: وهما في حجر معاذ بن عفراء.
(1) في رواية البيهقي: قال معاذ بن عفراء: سأرضيهما منه فاتخذه مسجدا،
وقال قائلون: اشتراه.
وقال الواقدي: ابتاعه منهما بعشرة دنانير، وأمر أبا بكر أن يعطيهما
ذلك.
(2) وفي السيرة لابن هشام: وارتجز المسلمون وهم يبنونه يقولون: لا عيش
إلا عيش الآخرة * اللهم ارحم الانصار والمهاجرة قال ابن هشام: هذا كلام
وليس برجز.
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا عيش إلا عيش الآخرة اللهم ارحم
المهاجرين والانصار.
(3) أخرجه البخاري في 63 كتاب مناقب الانصار 45 باب هجرة النبي صلى
الله عليه وسلم إلى المدينة فتح الباري 7 / 239 وانظر في بناء هذا
المسجد: طبقات ابن سعد 1 / 239 سيرة ابن هشام: 2 / 141 صحيح البخاري
الجزء الاول.
الطبري تاريخه 2 / 395 وابن عبد البر في الدرر (88) وسبل الهدى 3 / 485
ونهاية الارب للنويري 16 / 344 وغيرها كثير.
(*)
(3/229)
ظلها، فسويته
لرسول الله صلى الله عليه وسلم وفرشت له فروة وقلت اضطجع يا رسول الله
فاضطجع، ثم خرجت أنظر هل أرى أحدا من الطلب فإذا أنا براعي غنم، فقلت
لمن أنت يا غلام ؟ فقال لرجل من قريش - فسماه فعرفته - فقلت هل في غنمك
من لبن ؟ قال نعم ! قلت هل أنت حالب لي ؟ قال نعم ! فأمرته فاعتقل شاة
منها ثم أمرته فنفض ضرعها من الغبار، ثم أمرته فنفض كفيه من الغبار،
ومعي إداوة على فمها خرقة فحلب لي كثبة (1) من اللبن فصببت على القدح
حتى برد أسفله ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فوافيته وقد
استيقظ، فقلت اشرب يا رسول الله فشرب حتى رضيت، ثم قلت هل آن الرحيل ؟
فارتحلنا والقوم يطلبوننا فلم يدركنا أحد منهم إلا سراقة بن
مالك بن جعشم على فرس له، فقلت يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا ؟ قال:
" لا تحزن إن الله معنا " حتى إذا دنا منا فكان بيننا وبينه قدر رمح -
أو رمحين أو قال رمحين أو ثلاثة - قلت يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا
؟ وبكيت، قال لم تبكي ؟ [ قلت ] أما والله ما على نفسي أبكي، ولكن أبكي
عليك.
فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " اللهم اكفناه بما شئت
" فسلخت قوائم فرسه إلى بطنها في أرض صلد ووثب عنها وقال: يا محمد قد
علمت أن هذا عملك فادع الله أن ينجيني مما أنا فيه، فوالله لاعمين على
من ورائي من الطلب، وهذه كنانتي فخذ منها سهما فإنك ستمر بابلي وغنمي
بموضع كذا وكذا فخذ منها حاجتك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا حاجة لي فيها " ودعا له رسول
الله صلى الله عليه وسلم فأطلق ورجع إلى أصحابه، ومضى رسول الله صلى
الله عليه وسلم وأنا معه حتى قدمنا المدينة [ ليلا ] (2) وتلقاه الناس
فخرجوا في الطرق على الاناجير (3) واشتد الخدم والصبيان في الطريق
يقولون: الله أكبر جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاء محمد، قال
وتنازع القوم أيهم ينزل عليه، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" أنزل الليلة على بني النجار أخوال عبد المطلب لاكرمهم بذلك " فلما
أصبح غدا حيث أمر.
قال البراء: أول من قدم علينا من المهاجرين مصعب بن عمير أخو بني
عبدالدار، ثم قدم علينا ابن أم مكتوم الاعمى أحد بني فهر، ثم قدم علينا
عمر بن الخطاب في عشرين راكبا، فقلنا ما فعل رسول الله ؟ قال هو على
أثري، ثم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر معه.
قال البراء: ولم يقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قرأت سورا من
المفصل (4) أخرجاه في الصحيحين
__________
(1) الكثبة: كل قليل جمعته من طعام أو لبن أو غير ذلك، والجمع كتب
(أنظر النهاية).
(2) من دلائل البيهقي.
(3) الاناجير: في النهاية الاناجير والاجاجير: يعني السطوح.
(4) أخرجه أحمد في مسنده 1 / 2 - 3 ويعقوب بن سفيان في المعرفة
والتاريخ 1 / 239 والبيهقي 2 / 483 و 503 و 504 وعنهم الصالحي في
السيرة الشامية 3 / 345 والبخاري في 63 كتاب 45 باب ح 24 - 39 وفي 66
كتاب 6 باب فتح الباري 7 / 7 و 7 / 259 ومسلم في 53 كتاب الزهد 19 باب
4 / 2310 ح 75.
وأشار المزي في تحفة الاشراف 2 / 55 أن النسائي أخرجه في سننه عن
اسماعيل بن مسعود، عن خالد.
(*)
(3/230)
من حديث
اسرائيل بدون قول البراء أول من قدم علينا الخ.
فقد انفرد به مسلم فرواه من طريق إسرائيل به.
وقال ابن إسحاق: فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار ثلاثا
ومعه أبو بكر، وجعلت قريش فيه حين فقدوه مائة ناقة لمن رده عليهم، فلما
مضت الثلاث وسكن عنهما الناس، أتاهما صاحبهما الذي استأجراه ببعيريهما
وبعير له، وأتتهما أسماء بنت أبي بكر بسفرتهما، ونسيت أن تجعل لها
عصاما (1) فلما ارتحلا ذهبت لتعلق السفرة فإذا ليس فيها عصام، فتحل
نطاقها فتجعله عصاما ثم علقتها به.
فكان يقال لها ذات النطاقين لذلك.
قال ابن إسحاق: فلما قرب أبو بكر الراحلتين إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم قدم له أفضلهما ثم قال: اركب فداك أبي وأمي، فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: " إني لا أركب بعيرا ليس لي " قال: فهي لك يا رسول
الله بأبي أنت وأمي.
قال: " لا ولكن ما الثمن الذي ابتعتها به " قال كذا وكذا.
قال: " أخذتها بذلك " قال هي لك يا رسول الله.
وروى الواقدي بأسانيده أنه عليه السلام أخذ القصواء، قال وكان أبو بكر
اشتراهما بثمانمائة درهم.
وروى ابن عساكر من طريق أبي أسامة عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت: وهي
الجدعاء وهكذا حكى السهيلي عن ابن إسحاق أنها الجدعاء والله أعلم.
قال ابن إسحق: فركبا وانطلقا، وأردف أبو بكر عامر بن فهيرة مولاه خلفه،
ليخدمهما في الطريق فحدثت عن اسماء أنها قالت: لما خرج رسول الله صلى
الله عليه وسلم وأبو بكر أتانا نفر من قريش منهم أبو جهل فذكر ضربه لها
على خدها لطمة طرح منها قرطها من أذنها كما تقدم.
قال: فمكثنا ثلاث ليال ما ندري أين وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم
حتى أقبل رجل من الجن من أسفل مكة يتغنى بأبيات من شعر غناء العرب، وأن
الناس ليتبعونه يسمعون صوته وما يرونه حتى خرج من أعلا مكة وهو يقول:
جزى الله رب الناس خير جزائه * رفيقين حلا خيمتي أم معبد هما نزلا
بالبر ثم تروحا * فأفلح من أمسى رفيق محمد ليهن بني كعب مكان فتاتهم *
ومقعدها للمؤمنين بمرصد قالت أسماء: فلما سمعنا قوله عرفنا حيث وجه
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن وجهه إلى المدينة.
قال ابن إسحاق: وكانوا أربعة، رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر،
وعامر بن فهيرة مولى أبي
__________
(1) العصام: ما تعلق بن السفرة وغيرها.
(*)
(3/231)
بكر، وعبد الله
بن أرقد (1) كذا يقول ابن إسحاق، والمشهور عبد الله بن أريقط الدئلي.
وكان إذ ذاك مشركا.
قال ابن إسحاق: ولما خرج بهما دليلهما عبد الله بن أرقد سلك بهما أسفل
مكة، ثم مضى بهما على الساحل حتى عارض الطريق أسفل من عسفان، ثم سلك
بهما على أسفل أمج (2)، ثم استجاز بهما حتى عارض الطريق بعد أن أجاز
قديدا (3)، ثم أجاز بهما من مكانه ذلك فسلك بهما الخرار (4) ثم أجاز
بهما ثنية المرة، ثم سلك بهما لقفا (5)، ثم أجاز بهما مدلجة لقف، ثم
استبطن بهما مدلجة محاج (6) ثم سلك بهما مرجح مجاج، ثم تبطن بهما مرجح
من ذي العضوين، ثم بطن ذي كشد (7)، ثم أخذ بهما على الجداجد (8)، ثم
على الاجرد (9)، ثم سلك بهما ذا سلم، من بطن أعداء مدلجة تعهن (10)، ثم
على العبابيد، ثم أجاز بهما القاحة.
ثم هبط بهما العرج وقد أبطأ عليهم بعض ظهرهم، فحمل رسول الله صلى الله
عليه وسلم رجل من أسلم يقال له أوس بن حجر على جمل يقال له: ابن الرداء
- إلى المدينة وبعث معه غلاما يقال له مسعود بن هنيدة، خرج بهما [
دليلهما من العرج فسلك بها ثنية العائر عن يمين ركوبة - ويقال ثنية
الغائر فيما قال ابن هشام - حتى هبط بهما بطن ريم، ثم قدم بهما ] (11)
قباء على بني عمرو بن عوف لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الاول يوم
الاثنين حين اشتد الضحاء وكادت الشمس تعتدل.
وقد روى أبو نعيم من طريق الواقدي نحوا من ذكر هذه المنازل، وخالفه في
بعضها والله
علم قال أبو نعيم: حدثنا أبو حامد بن جبلة، حدثنا محمد بن إسحاق، عن
السراج، حدثنا محمد بن عبادة بن موسى العجلي، حدثني أخي موسى بن عبادة
حدثني عبد الله بن سيار، حدثني
__________
(1) في ابن هشام: أرقط.
وقد تقدم التعليق عليه.
(2) أمج: بلد من أعراض المدينة، وقيل واد يأخذ من حرة بني سليم.
(معجم البلدان).
(3) قديد: اسم موضع قرب مكة، وفي معجم ما استعجم: أن هذه القرية سميت
قديدا لتقدد السيول بها، وهي لخزاعة.
(4) الخرار: موضع بالحجاز، وقيل واد أو ماء في المدينة (معجم البلدان).
(5) لقف: ماء وآبار كثيرة، وقيل واد من ناحية السوارقية على فرسخ.
(6) مجاج: قال ياقوت والصحيح عندنا غير ذلك - قال الزبير بن بكار: وهو
مجاح بفتح الميم.
(7) كشد: كذا بالاصل، وفي ياقوت كشر.
بين مكة والمدينة.
(8) جدا جد: يجوز أن يكون جمع جدجد، وهي البئر القديمة، وهي هنا الارض
المستوية الصلبة.
(معجم البلدان).
(9) الاجرد: اسم جبل من جبال القبلية، قال نصر: بين المدينة والشام
(معجم البلدان).
(10) تعهن: اسم عين ماء على ثلاثة أميال من السقيا بين مكة والمدينة.
(11) ما بين معكوفين سقط من الاصل واستدرك من سيرة ابن هشام.
(*)
(3/232)
إياس بن مالك
بن الاوس الاسلمي عن أبيه.
قال: لما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر مروا بابل لنا
بالجحفة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لمن هذه الابل ؟ "
فقالوا لرجل من أسلم، فالتفت إلى أبي بكر فقال: " سلمت إن شاء الله،
فقال ما اسمك ؟ " قال مسعود، فالتفت إلى أبي بكر فقال: " سعدت إن شاء
الله ".
قال فأتاه أبي فحمله على جمل يقال له ابن الرداء.
قلت: وقد تقدم عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من مكة
يوم الاثنين، ودخل المدينة يوم الاثنين.
والظاهر أن بين خروجه عليه السلام من مكة ودخوله المدينة خمسة عشر يوما
لانه أقام بغار ثور ثلاثة أيام، ثم سلك طريق الساحل وهي أبعد من الطريق
الجادة واجتاز في مروره على أم معبد بنت كعب من بني كعب بن خزاعة، قال
ابن هشام.
وقال يونس عن ابن إسحاق: اسمها عاتكة بنت خلف بن معبد بن ربيعة بن
أصرم.
وقال الاموي: هي عاتكة بنت تبيع حليف بني منقذ بن ربيعة بن أصرم بن
صنبيس (2) بن حرام بن خيسة بن كعب بن عمرو، ولهذه المرأة من الولد معبد
ونضرة وحنيدة بنو أبي معبد، واسمه أكتم (3) بن عبد العزى بن معبد بن
ربيعة بن أصرم بن صنبيس، وقصتها مشهورة مروية من طرق يشد بعضها بعضا.
وهذه قصة أم معبد الخزاعية: قال يونس عن ابن إسحاق: فنزل رسول الله صلى
الله عليه وسلم بخيمة أم معبد واسمها عاتكة بنت خلف (4) بن معبد بن
ربيعة بن أصرم فأرادوا القرى فقالت والله ما عندنا طعام ولا لنا منحة
ولا لنا شاة إلا حائل، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض غنمها
فمسح ضرعها بيده ودعا الله، وحلب في العس حتى أرغى وقال: " اشربي يا أم
معبد " فقالت: اشرب فأنت أحق به فرده عليها فشربت، ثم دعا بحائل أخرى
ففعل مثل ذلك بها فشربه، ثم دعا بحائل أخرى ففعل بها مثل ذلك فسقى
دليله، ثم دعا بحائل أخرى ففعل بها مثل ذلك فسقى عامرا، ثم تروح.
وطلبت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغوا أم معبد فسألوا عنه
فقالوا: أرأيت محمدا من حليته كذا كذا ؟ فوصفوه لها.
فقالت: ما أدري ما تقولون، قدمنا فتى حالب الحائل.
قالت قريش: فذاك الذي نريد.
وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا محمد بن معمر، حدثنا يعقوب بن محمد،
حدثنا عبد الرحمن بن عقبة، بن عبد الرحمن بن جابر بن عبد الله، ثنا أبي
عن أبيه عن جابر.
قال: لما
__________
(1) في ابن سعد ضبيس وفي الاصابة خبيس.
قال السهيلي: اسمها عاتكة بنت خلد إحدى بني كعب من خزاعة وهي أخت حبيش
بن خلد، وخلد الاشعر أبوهما هو بن خنيف بن منقد بن ربيعة بن أصرم بن
ضمبيس بن عرم بن حبشية بن كعب بن عمرو.
وذكرها ابن سعد قال: عاتكة بنت خالد بن خليف بن منقذ بن ربيعة بن أصرم
بن ضبيس بن حرام..من خزاعة: (2) في ابن سعد: اسمه تميم، وهو ابن عمها
عبد العزى وذكر تمام نسبهما وكان منزلهما بقديد.
(3) في البيهقي: خالد بن منقذ بن ربيعة.
(*)
(3/233)
خرج رسول الله
صلى الله عليه وسلم وأبو بكر مهاجرين فدخلا الغار، إذا في الغار جحر
فألقمه أبو بكر عقبه حتى أصبح مخافة أن يخرج على رسول الله صلى الله
عليه وسلم منه شئ.
فأقاما في الغار ثلاث ليال ثم خرجا حتى نزلا بخيمات أم معبد فأرسلت
إليه أم معبد إني أرى وجوها حسانا، وإن الحي أقوى على كرامتكم مني،
فلما أمسوا عندها بعثت مع ابن لها صغير بشفرة وشاة، فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: " أردد الشفرة وهات لنا فرقا " يعني القدح فأرسلت إليه
أن لا لبن فيها ولا ولد.
قال هات لنا فرقا فجاءت بفرق فضرب ظهرها فاجترت ودرت فحلب فملا القدح
فشرب وسقى أبا بكر، ثم حلب فبعث فيه إلى أم معبد.
ثم قال البزار لا نعلمه يروى إلا بهذا الاسناد.
وعبد الرحمن بن عقبة لا نعلم أحدا حدث عنه إلا يعقوب بن محمد وإن كان
معروفا في النسب.
وروى الحافظ البيهقي من حديث يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، حدثنا محمد
بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ثنا عبد الرحمن بن الاصبهاني، سمعت عبد
الرحمن بن أبي ليلى عن أبي بكر الصديق [ رضي الله عنه ].
قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة فانتهينا إلى حي من
أحياء العرب، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت منتحيا فقصد
إليه، فلما نزلنا لم يكن فيه إلا امرأة فقالت: يا عبد الله ! إنما أنا
امرأة وليس معي أحد، فعليكما بعظيم الحي إن أردتم القرى، قال فلم يجبها
وذلك عند المساء، فجاء ابن لها بأعنز [ لها ] يسوقها، فقالت: يا بني
انطلق بهذه العنز والشفرة إلى هذين الرجلين فقل لهما تقول لكما أمي:
اذبحا هذه وكلا وأطعمانا، فلما جاء قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "
انطلق بالشفرة وجئني بالقدح " قال إنها قد عزبت وليس بها لبن، قال
انطلق، [ فانطلق ] فجاء بقدح فمسح النبي صلى الله عليه وسلم ضرعها، ثم
حلب حتى ملا القدح، ثم قال: انطلق به إلى أمك، فشربت حتى رويت، ثم جاء
به فقال: انطلق بهذه وجئني بأخرى.
ففعل بها كذلك ثم سقى أبا بكر، ثم جاء بأخرى ففعل بها كذلك، ثم شرب
النبي صلى الله عليه وسلم [ قال ] فبتنا ليلتنا، ثم انطلقنا.
فكانت تسميه المبارك.
وكثرت غنمها حتى جلبت جلبا إلى المدينة، فمر أبو بكر فرأى
ابنها فعرفه، فقال: يا أمه هذا الرجل الذي كان مع المبارك.
فقامت إليه فقالت: يا عبد الله من الرجل الذي كان معك ؟ قال أو ما
تدرين من هو ؟ قالت: لا، قال هو نبي الله.
قالت: فأدخلني عليه.
قال: فأدخلها فأطعمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطاها - زاد ابن
عبدان (1) في روايته - قالت فدلني عليه، فانطلقت معي وأهدت لرسول الله
صلى الله عليه وسلم شيئا من أقط ومتاع الاعراب.
قال فكساها وأعطاها.
قال: ولا أعلمه إلا قال وأسلمت (2).
إسناد حسن.
وقال البيهقي: هذه القصة شبيهة بقصة أم معبد، والظاهر أنها هي والله
أعلم (3).
وقال
__________
(1) أحد إسناد رواية البيهقي.
واسمه أبو الحسن علي بن أحمد بن عبدان.
(2) قال الواقدي وغيره أنها تأخرت في إسلامها وبيعتها إلى أيام عمر بن
الخطاب، وكان ذلك بعد سنة ثماني عشرة (الطبقات 8 / 289).
(3) دلائل البيهقي 2 / 491 - 492 وقال: وقد ذكر ابن اسحاق من قصة أم
معبد شيئا يدل على أنها وهذه واحدة.
= (*)
(3/234)
البيهقي (1)
أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو بكر أحمد بن الحسن القاضي.
قالا: ثنا أبو العباس الاصم ثنا الحسن بن مكرم حدثني أبو أحمد بشر (2)
بن محمد السكري ثنا عبد الملك بن وهب المذحجي ثنا أبجر بن الصباح (3)
عن أبي معبد الخزاعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ليلة هاجر من
مكة إلى المدينة هو وأبو بكر وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر ودليلهم عبد
الله بن أريقط الليثي، فمروا بخيمتي أم معبد الخزاعية، وكانت أم معبد
امرأة برزة (4) جلدة تحتبى وتجلس بفناء الخيمة (5) فتطعم وتسقى،
فسألوها هل عندها لحم أو لين (لبن) يشترونه منها ؟ فلم يجدوا عندها
شيئا من ذلك.
وقالت: لو كان عندنا شئ ما أعوذكم القرى، وإذا القوم مرملون مسنتون
(6).
فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا شاة في كسر خيمتها، فقال: " ما
هذه الشاة يا أم معبد ؟ " فقالت شاة خلفها الجهد عن الغنم.
قال: فهل بها من لبن " قالت هي أجهد من ذلك.
قال تأذنين لي أن أحلبها ؟ قالت إن كان بها حلب فاحلبها.
فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشاة فمسحها وذكر اسم الله ومسح
ضرعها وذكر اسم الله ودعا بأناء لها يربض الرهط فتفاجت واجترت فحلب
فيها ثجا حتى
ملاه (7) فسقاها وسقى أصحابه فشربوا عللا بعد نهل، حتى إذا رووا شرب
آخرهم وقال " ساقي القوم آخرهم " ثم حلب فيه ثانيا عودا على بدء فغادره
عندها ثم ارتحلوا قال فقلما لبث أن جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزا
عجافا يتساوكن (8) هزلى لا نقي بهن، مخهن قليل فلما رأى اللبن عجب وقال
من أين هذا اللبن يا أم معبد ولا حلوبة في البيت والشاء عازب (9) ؟
فقالت: لا والله
__________
= وانظر الروض الآنف 2 / 8 وشرح السيرة لابي ذر 1 / 126 والسيرة
الشامية 3 / 350.
(1) في دلائل البيهقي - باب حديث أم معبد - روى البيهقي حديثا طويلا من
طرق ثلاث كلها عن حبيش بن خالد أخو عاتكة - أم معبد ج 1 / 277 - 278
ولم يرد في روايته من طريق أبي معبد، ولعل ابن كثير وهم في إسناد هذه
الرواية إلى البيهقي، والرواية التالية - والتي رواها ابن سعد في
الطبقات 1 / 230 عن أبي معبد قريبة جدا من رواية البيهقي.
(2) في ابن سعد: محمد بن بشر بن محمد السكري.
(3) في ابن سعد: الحر بن الصياح.
(4) امرأة برزة: يريد أنها خلا لها سن فهي تبرز، ليست بمنزلة الصغيرة
المحجوبة، والبرزة إذا كانت كهلة لا تحجب احتجاب الشواب وهي مع ذلك
عاقلة تجلس للناس وتحدثهم، من البروز وهو الظهور.
(5) كذا في الاصل وابن سعد وفي رواية البيهقي: القبة.
(6) مرملون: أصله من الرمل، كأنهم لصقوا بالرمل، يريد قد نفد زادهم.
مسنتون، وتروى مشتون أي دخلوا في الشتاء.
ومسنتون: أي داخلون في السنة وهي الجدب والمجاعة.
(7) هكذا في الاصل حتى ملاه، وفي الكلام نقص، وفي ابن سعد: حتى عليه
الثمال.
وفي البيهقي: حتى علاه البهاء: أي بهاء اللبن، وهو وبيص رغوته، يريد
أنه ملاها.
(8) في ابن سعد: ما تساوق.
والتساوك: السير الضعيف، وقيل رداءة المشي قال الازهري: تقول العرب:
جاءت الغنم تساوك: أي تتمايل من الهزال والضعف في مشيها.
(9) الشاء العازب: أي بعيدة عن المرعى لا تأوي المنزل في الليل.
(3/235)
إنه مر بنا رجل
ملوك كان من حديثه كيت وكيت.
فقال صفيه لي فوالله إني لا راه صاحب قريش الذي تطلب.
فقالت رأيت رجلا ظاهر الوضاءة.
حسن الخلق مليح (1) الوجه لم تعبه ثجلة (2) ولم تزر به صعلة قسيم وسيم
في عينيه دعج، وفي أشفاره وطف (3)، وفي صوته صحل (4).
أحول أكحل أزج أقرن في عنقه سطع وفي لحيته كثاثة.
إذا صمت فعليه الوقار، وإذا تكلم سما وعلاه البهاء، حلو المنطق، فصل،
لا نزر ولا هذر (5) كأن منطقه خرزات نظم ينحدرون، أبهى الناس وأجمله من
بعيد، وأحسنه من قريب.
ربعة لا تنساه (6) عين من طول، ولا تقتحمه (7) عين من قصر، غصن بين
غصنين، فهو أنصر الثلاثة منظرا، وأحسنهم قدا (8) له رفقاء يجفون به إن
قال استمعوا لقوله، وإن أمر تبادروا لامره.
محفود (9) محشود، لا عابس ولا معتد (10) فقال يعني بعلها: هذا والله
صاحب قريش الذي تطلب، ولو صادفته لالتمست أن أصحبه، ولا جهدن إن وجدت
إلى ذلك سبيلا، قال وأصبح صوت بمكة عال بين السماء والارض يسمعونه ولا
يرون من يقول وهو يقول: جزى الله رب الناس خير جزائه * رفيقين حلا
خيمتي أم معبد (11) هما نزلا بالبر وارتحلا به (12) * فأفلح من أمسى
رفيق محمد
__________
(1) في ابن سعد: متبلج الوجه، وفي البيهقي: أبلج الوجه.
(2) وفي البيهقي: نحلة.
والثجلة: أي ضخم البطن.
والنحلة والنجلة: بمعنى: الدقة والضمر والنحول.
وصعلة: صغر الرأس.
(3) في البيهقي عطف، قال القتيبي: سألت عنه الرياشي فقال: لا أعرف
العطف.
وأحسبه قال غطف: وهو أن تطول الاشغار ثم تنعطف، وقال: وتروى وطف: وهو
الطول.
(4) صهل، كما في ابن سعد وفي البيهقي صهل.
هما واحد: أي كالبحة وهو أن لا يكون حادا.
(5) فصل لانزر ولا هذر: أي وسط ليس بقليل ولا كثير.
(6) في ابن سعد: ربعة لا تنشؤه من طول.
وفي البيهقي: ربعة لا بأس من طول: يحتمل أن يكون معناه: إنه
ليس بالطويل الذي يؤيس مباريه عند مطاولته، ويحتمل أن يكون تصحيفا، قال
البيهقي: وأحسبه: لا بائن من طول.
(7) لا تقتحمه عين من قصر: لا تحتقره ولا تزدريه.
(8) في ابن سعد والبيهقي: قدرا.
(9) محفود: مخدوم، محشود: من حشد: أي إذا أردت أنك أعددت له وجمعت.
وقيل: حشده أصحابه: أطافوا به.
(10) في ابن سعد: لا عابث ولا مفند، وفي البيهقي: لا عابس ولا مفند.
(11) في البيهقي: قالا مكان حلا: من القيلولة.
(12) في البيهقي: هما نزلاها بالهدى واهتدت به فقد فاز.
(3/236)
فيال قصي ما
زوى الله عنكم * به من فعال لا تجارى وسؤدد (1) سلوا أختكم عن شاتها
وإنائها * فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد دعاها بشاة حائل فتحلبت * له
بصريح ضرة الشاة مربد فغادره رهنا لديها لحالب * يدر لها في مصدر ثم
مورد (2) قال وأصبح الناس - يعني بمكة - وقد فقدوا نبيهم، فأخذوا على
خيمتي أم معبد حتى لحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم قال وأجابه
حسان بن ثابت: لقد خاب قوم زال عنهم نبيهم (3) * وقد سر (4) من يسري
إليهم ويغتدي ترحل عن قوم فزالت عقولهم * وحل على قوم بنور مجدد [
هداهم به بعد الضلالة ربهم * وأرشدهم من يتبع الحق يرشد ] (5) وهل
يستوي ضلال قوم تسفهوا * عمى وهداة يهتدون بمهتد ؟ نبي يرى ما لا يرى
الناس حوله * ويتلو كتاب الله في كل مشهد (6) وإن قال في يوم مقالة
غائب * فتصديقها في اليوم أو في ضحى الغد (7)
ليهن أبا بكر سعادة جده * بصحبته، من يسعد الله يسعد ويهن بني كعب مكان
فتاتهم * ومقعدها للمسلمين بمرصد (8) قال - يعني عبد الملك بن وهب -
فبلغني أن أبا (9) معبد أسلم وهاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وهكذا روى الحافظ أبو نعيم من طريق عبد الملك بن وهب المذحجي فذكر مثله
سواء وزاد في آخره قال عبد الملك: بلغني أن أم معبد هاجرت وأسلمت ولحقت
برسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رواه أبو نعيم (10) من
__________
= وفي ابن هشام: هما نزلا بالبر ثم تروحا..(13) في ابن سعد: لا يجازى
بدلا من لا تجارى.
(1) في البيهقي: فغادرها بدلا من فغادره.
ويرددها بدلا من يدر لها وفي ابن سعد: تدر بها.
(2) في ابن سعد والسهيلي: غاب بدل زال.
(3) في ابن سعد والبيهقي وأبي ذر: وقدس: بمعنى طهر.
(4) سقط من الاصل واستدرك من البيهقي.
(5) في البيهقي: مسجد بدل مشهد.
وقبله: وقد نزلت منه على أهل يثرب * ركاب هدى حلت عليهم بأسعد (6) عجزه
في ابن سعد: فتصديقها في ضحوة اليوم أو غد.
(7) في البيهقي: مقام بدل مكان.
وللمؤمنين بدل للمسلمين.
(8) في ابن سعد: قال عبد الملك: بلغني أن أم معبد هاجرت إلى النبي صلى
الله عليه وسلم وأسلمت.
(9) ورواه البيهقي من نفس طرق أبي نعيم: وأسانيده: مكرم بن محرز وليس
بكر بن محرز.
وحزام بن هشام بدلا من حرام.
(*)
(3/237)
طرق عن بكر بن
محرز الكلبي الخزاعي عن أبيه محرز بن مهدي عن حرام بن هشام عن (2) حبيش
بن خالد عن أبيه عن جده حبيش بن خالد صاحب رسول الله صلى الله عليه
وسلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين
أخرج من مكة خرج منها مهاجرا هو وأبو بكر وعامر بن فهيرة ودليلهما عبد
الله بن أريقط الليثي فمروا بخيمة (2) أم معبد وكانت امرأة برزة جلدة
تحتبي بفناء القبة، وذكر مثل ما تقدم سواء.
قال وحدثناه - فيما أظن - محمد بن أحمد بن علي بن مخلد ثنا محمد بن
يونس بن موسى - يعني الكديمي - ثنا عبد العزيز بن يحيى بن عبد العزيز
مولى العباس بن عبد المطلب ثنا محمد بن سليمان بن سليط الانصاري: حدثني
أبي عن أبيه سليط البدري.
قال: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة ومعه أبو بكر
وعامر بن فهيرة وابن أريقط يدلهم على الطريق، مر بأم معبد الخزاعية وهي
لا تعرفه فقال لها: " يا أم معبد هل عندك من لبن ؟ " قالت: لا والله إن
الغنم لعازبة قال فما هذه الشاة ؟ قالت خلفها الجهد عن الغنم ؟ ثم ذكر
تمام الحديث كنحو ما تقدم.
ثم قال البيهقي: يحتمل أن هذه القصص كلها واحدة، ثم ذكر قصة شبيهة بقصة
شاة أم معبد الخزاعية فقال حدثنا أبو عبد الله الحافظ - إملاء - حدثنا
أبو بكر أحمد بن إسحاق بن أيوب، أخبرنا محمد بن غالب، ثنا أبو الوليد،
ثنا عبد الله (3) بن إياد بن لقيط، ثنا إياد بن لقيط عن قيس بن
النعمان.
قال لما انطلق النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر مستخفين، مروا بعبد
يرعى غنما، فاستسقياه اللبن، فقال: ما عندي شاة تحلب، غير أن ههنا
عناقا حملت أول الشتاء، وقد أخدجت (4) وما بقي لها من لبن، فقال ادع
بها، فدعا بها فاعتقلها النبي صلى الله عليه وسلم ومسح ضرعها ودعا حتى
أنزلت، وجاء أبو بكر بمجن فحلب فسقى أبا بكر، ثم حلب فسقى الراعي، ثم
جلس فشرب.
فقال الراعي: بالله من أنت ؟ فوالله ما أريت مثلك قط.
قال: أو تراك تكتم علي حتى أخبرك ؟ قال: نعم ! قال فإني محمد رسول
الله.
فقال: أنت الذي تزعم قريش أنه صابئ ؟ قال: إنهم ليقولون ذلك.
قال: فإني أشهد أنك نبي، وأشهد أن ما جئت به حق، وأنه لا يفعل ما فعلت
إلا نبي وأنا متبعك.
قال: إنك لا تستطيع ذلك يومك هذا فإذا بلغك أني قد ظهرت فأتنا.
ورواه أبو يعلى الموصلي عن جعفر بن حميد الكوفي عن عبد الله بن إياد بن
لقيط به.
وقد ذكر أبو نعيم ههنا قصة عبد الله بن مسعود فقال: حدثنا عبد الله بن
جعفر، ثنا يونس بن حبيب، ثنا أبو داود، ثنا حماد بن سلمة، عن عاصم، عن
زر، عن عبد الله بن مسعود.
قال: كنت غلاما يافعا أرعى
غنما لعقبة (5) بن أبي معيط بمكة، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأبو بكر - وقد فرا من المشركين - فقال: " يا
__________
(1) من البيهقي: وفي الاصل بن وهو تحريف.
(2) في البيهقي: على خيمتي أم معبد.
(3) في دلائل البيهقي ج 2 / 497: عبيدالله بن إياد بن لقيط، عن قيس بن
النعمان.
(4) في البيهقي أخرجت.
وخدجت: ألقت ولدها قبل أوانه وإن كان تام الخلق، وأخدجت: ولدته ناقص
الخلق وإن كان لتمام الحمل.
(5) من البيهقي وابن سعد.
وفي الاصل عتبة وهو تحريف.
(*)
(3/238)
غلام عندك لبن
تسقينا ؟ " فقلت إني مؤتمن ولست بساقيكما، فقالا هل عندك من جذعة لم
ينز عليها الفحل بعد ؟ قلت نعم ! فأتيتهما بها، فاعتقلها أبو بكر، وأخذ
رسول الله صلى الله عليه وسلم الضرع فدعا فحفل الضرع، وجاء أبو بكر
بصخرة متقعرة فحلب فيها.
ثم شرب هو وأبو بكر وسقياني، ثم قال للضرع: أقلص أقلص.
فلما كان بعد، أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: علمني من هذا
القول الطيب - يعني القرآن - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنك
غلام معلم " فأخذت من فيه سبعين سورة ما ينازعني فيها أحد (1).
فقوله في هذا السياق وقد فرا من المشركين ليس المراد منه وقت الهجرة،
إنما ذلك في بعض الاحوال قبل الهجرة.
فإن ابن مسعود ممن أسلم قديما وهاجر إلى الحبشة ورجع إلى مكة كما تقدم،
وقصته هذه صحيحة ثابتة في الصحاح وغيرها والله أعلم.
[ وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الله بمن مصعب بن عبد الله - هو الزبيري
- حدثني أبي عن فائد مولى عبادل قال خرجت مع [ إبراهيم بن عبد الرحمن
بن عبد الله بن أبي ربيعة فأرسل ] ابراهيم بن عبد الرحمن بن سعد حتى
إذا كنا بالعرج أتى ابن سعد - وسعد هو الذي دل رسول الله صلى الله عليه
وسلم على طريق ركوبه (2) - فقال إبراهيم ] أخبرني ] ما حدثك أبوك ؟ قال
ابن سعد: حدثني أبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاهم ومعه أبو
بكر - وكانت لابي بكر عندنا بنت مسترضعة - وكان رسول الله صلى الله
عليه وسلم أراد الاختصار في الطريق إلى المدينة، فقال لها سعد: هذا
الغائر (3) من ركوبه وبه
لصان من أسلم يقال لهما المهانان.
فإن شئت أخذنا عليهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " خذ بنا عليهما
" قال سعد فخرجنا حتى إذا أشرفنا إذا أحدهما يقول لصاحبه هذا اليماني.
فدعاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض عليهما الاسلام فأسلما، ثم
سألهما عن أسمائهما فقالا: نحن المهانان.
فقال: " بل أنتما المكرمان " وأمرهما أن يقدما عليه المدينة فخرج [ نا
] حتى إذا أتينا ظاهر قباء فتلقاه بنو عمرو بن عوف فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: " أين أبو أمامة أسعد بن زرارة ؟ " فقال سعد بن خيثمة.
إنه أصاب قبلي يا رسول الله أفلا أخبره ذلك ؟ ثم مضى رسول الله صلى
الله عليه وسلم حتى إذا طلع على النخل فإذا الشرب مملوء، فالتفت رسول
الله إلى أبي بكر فقال: يا أبا بكر هذا المنزل.
رأيتني أنزل إلى حياض كحياض بنى مدلج " انفرد به أحمد (4)
__________
(1) أخرجه البيهقي في الدلائل ج 2 / 171، والامام أحمد في مسنده 1 /
379 والفسوي في المعرفة والتاريخ 2 / 537.
(2) من مسند أحمد ج 4 / 74 وفي الاصل ركونة، وركوبة: ثنية بنى مكة
والمدينة عند العرج قرب جبل ورقان.
(3) من مسند أحمد، وفي الاصل: الغامر.
(4) أخرجه أحمد في مسند ج 4 / 74.
وما بين معكوفين في الخبر زيادة من المسند (*)
(3/239)
فصل في دخوله عليه السلام المدينة واين استقر منزله
[ بها ] (1) قد تقدم فيما رواه البخاري عن الزهري عن عروة أن النبي صلى
الله عليه وسلم دخل المدينة عند الظهيرة.
قلت: ولعل ذلك كان بعد الزوال لما ثبت في الصحيحين من حديث اسرائيل عن
أبي إسحاق عن البراء بن عازب عن أبي بكر في حديث الهجرة قال فقدمنا
ليلا فتنازعه القوم أيهم ينزل عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: " أنزل على بني النجار أخوال عبد المطلب أكرمهم بذلك " وهذا
والله أعلم إما أن يكون يوم قدومه إلى قباء فيكون حال وصوله إلى قرب
المدينة كان في حر الظهيرة وأقام تحت تلك النخلة ثم سار بالمسلمين فنزل
قباء وذلك ليلا، وأنه أطلق على ما بعد الزوال ليلا، فإن
العشى من الزوال، وإما أن يكون المراد بذلك لما رحل من قباء كما سيأتي
فسار فما انتهى إلى بني النجار إلا عشاء كما سيأتي بيانه والله أعلم.
وذكر البخاري عن الزهري عن عروة أنه نزل في بني عمرو بن عوف بقباء
وأقام فيهم بضع عشرة ليلة وأسس مسجد قباء في تلك الايام، ثم ركب ومعه
الناس حتى بركت به راحلته في مكان مسجده، وكان مربدا لغلامين يتيمين
وهما سهل وسهيل، فابتاعه منهما واتخذه مسجدا.
وذلك في دار بني النجار رضي الله عنهم.
وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن جعفر بن الزبير [ عن عروة بن الزبير
] (2) عن عبد الرحمن بن عويم (3) بن ساعدة قال: حدثني رجال من قومي من
أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: لما بلغنا مخرج النبي صلى الله
عليه وسلم من مكة وتوكفنا قدومه كنا نخرج إذا صلينا الصبح، إلى ظاهر
حرتنا ننتظر النبي صلى الله عليه وسلم فوالله، ما نبرح حتى تغلبنا
الشمس على الظلال، فإذا لم نجد ظلا دخلنا - وذلك في أيام حارة - حتى
إذا كان اليوم الذي قدم فيه رسول الله جلسنا كما كنا نجلس، حتى إذ لم
يبق ظل دخلنا بيوتنا، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخلنا
البيوت فكان أول من رآه من رجل من اليهود [ وقد رأى ما كنا نصنع، وأنا
ننتظر قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا ] (4) فصرخ بأعلا صوته:
يا بني قيلة ! هذا جدكم قد جاء، فخرجنا إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم وهو في ظل نخلة، ومعه أبو بكر في مثل سنه، وأكثرنا لم يكن رأى
رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك: وركبه (5) الناس وما يعرفونه من
أبي بكر،
__________
(1) زيادة من السيرة النبوية لابن كثير.
(2) من ابن هشام.
(3) في ابن هشام: عويمر.
(4) من ابن هشام.
(5) أي ازدحموا عليه.
(*)
(3/240)
حتى زال الظل
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام أبو بكر فأظله بردائه، فعرفناه
عند ذلك.
وقد تقدم مثل
ذلك في سياق البخاري وكذا ذكر موسى بن عقبة في مغازيه.
وقال الامام أحمد: حدثنا هاشم ثنا سليمان [ بن المغيرة ]، عن ثابت عن
أنس بن مالك.
قال: إني لا سعى في الغلمان يقولون: جاء محمد، فأسعى ولا أرى شيئا، ثم
يقولون: جاء محمد، فأسعى ولا أرى شيئا، قال: حتى جاء رسول الله صلى
الله عليه وسلم وصاحبه أبو بكر.
فكمنا في بعض خراب (1) المدينة، ثم بعثا رجلا من أهل البادية يؤذن بهما
الانصار فاستقبلهما زهاء خمسمائة من الانصار حتى انتهوا إليهما فقالت
الانصار: انطلقا آمنين مطاعين.
فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه بين أظهرهم، فخرج أهل
المدينة حتى أن العواتق (2) لفوق البيوت يتراءينه يقلن: أيهم هو ؟ أيهم
هو ؟ فما رأينا منظرا شبيها به.
قال أنس: فلقد رأيته يوم دخل علينا ويوم قبض.
فلم أر يومين شبيها بهما ورواه البيهقي عن الحاكم عن الاصم عن محمد بن
إسحاق الصنعاني عن أبي النضر هاشم بن القاسم عن سليمان بن المغيرة عن
ثابت عن أنس بنحوه - أو مثله (3) - وفي الصحيحين من طريق إسرائيل عن
أبي إسحاق عن البراء عن أبي بكر في حديث الهجرة.
قال: وخرج الناس حين قدمنا المدينة في الطرق وعلى البيوت والغلمان
والخدم يقولون: الله أكبر جاء رسول الله، الله أكبر جاء محمد، الله
أكبر جاء محمد، الله أكبر جاء رسول الله.
فلما أصبح انطلق وذهب حيث أمر (4).
وقال البيهقي أخبرنا أبو عمرو الاديب أخبرنا أبو بكر الاسماعيلي: سمعت
أبا خليفة يقول سمعت ابن عائشة يقول: لما قدم رسول الله صلى الله عليه
وسلم المدينة جعل النساء والصبيان يقلن: طلع البدر علينا * من ثنيات
الوداع وجب الشكر علينا * ما دعا لله داع (5) قال محمد بن إسحاق: فنزل
رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما يذكرون يعني حين نزل - بقباء على
كلثوم (6) بن الهدم أخي بني عمرو بن عوف ثم أحد بني عبيد، ويقال بل نزل
على سعد بن
__________
(1) في رواية البيهقي: حدار.
(2) العواتق: جمع عاتق، وهي الشابة أول ما تدرك، وقيل هي التي لم تبن
من والدتها، ولم تزوج بعد وقد أدركت وشبت.
(3) دلائل النبوة ج 2 / 507.
(4) فتح الباري 7 / 8 ومسلم في 53 كتاب الزهد 19 باب في حديث الهجرة ح
75 ص 4 / 2310.
(5) دلائل النبوة ج 2 / 506 وزاد رزين قال: أيها المبعوث فينا * جئت
بالامر المطاع (6) كلثوم بن الهدم بن أمرئ القيس بن الحارث بن زيد بن
مالك بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الاوس، مات بعد قدوم رسول الله
صلى الله عليه وسلم بيسر، وكان مسنا، وهو أول من مات من الانصار بعد
قدوم النبي صلى الله عليه وسلم وكان كلثوم يكنى أبا قيس (الروض -
الاستيعاب).
(*)
(3/241)
خيثمة، ويقول
من يذكر أنه نزل على كلثوم بن الهدم: إنما كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم إذا خرج من منزل كلثوم بن الهدم جلس للناس في بيت سعد بن خيثمة،
وذلك أنه كان عزبا لا أهل له، وكان يقال لبيته بيت الاعزاب (1) والله
أعلم.
ونزل أبو بكر رضي الله عنه على خبيب بن إساف أحد بني الحارث بن الخزرج
بالسنح وقيل على خارجة بن زيد بن أبي زهير أخي بني الحارث بن الخزرج.
قال ابن إسحاق: وأقام علي بن أبي طالب بمكة ثلاث ليال وأيامها، حتى أدى
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الودائع التي كانت عنده، ثم لحق برسول
الله صلى الله عليه وسلم فنزل معه على كلثوم بن الهدم.
فكان علي بن أبي طالب إنما كانت إقامته بقباء ليلة أو ليلتين.
يقول: كانت بقباء امرأة لا زوج لها مسلمة، فرأيت إنسانا يأتيها من جوف
الليل فيضرب عليها بابها فتخرج إليه فيعطيها شيئا معه فتأخذه، فاستربت
بشأنه فقلت لها يا أمة الله من هذا الذي يضرب عليك بابك كل ليلة
فتخرجين إليه فيعطيك شيئا لا أدري ما هو ؟ وأنت امرأة مسلمة لا زوج لك
؟ قالت: هذا سهل بن حنيف.
وقد عرف أني امرأة لا أحد لي، فإذا أمسى عدا على أوثان قومه فكسرها ثم
جاءني بها فقال احتطبي بهذا، فكان علي رضي الله عنه يأثر ذلك من شأن
سهل بن حنيف حين هلك عنده بالعراق.
قال ابن إسحاق: فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء في بني عمرو
بن عوف يوم الاثنين ويوم الثلاثاء
ويوم الاربعاء ويوم الخميس وأسس مسجده، ثم أخرجه الله من بين أظهرهم
يوم الجمعة وبنو عمرو بن عوف يزعمون أنه مكث فيهم أكثر من ذلك.
وقال عبد الله بن إدريس عن محمد بن إسحاق قال: وبنو عمرو بن عوف يزعمون
أنه عليه السلام أقام فيهم ثماني عشر ليلة.
قلت: وقد تقدم فيما رواه البخاري من طريق الزهري عن عروة أنه عليه
السلام وأقام فيهم بضع عشرة ليلة، وحكى موسى بن عقبة عن مجمع بن يزيد
بن حارثة أنه.
قال: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا - يعني في بني عمرو بن
عوف بقباء - اثنتين وعشرين ليلة.
وقال الواقدي: ويقال أقام فيهم أربع عشرة ليلة.
قال ابن إسحاق: فأدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة في بني
سالم بن عوف فصلاها في المسجد الذي في بطن الوادي - وادي رانوناء (2) -
فكان أول جمعة صلاها بالمدينة (3).
فأتاه عتبان بن مالك وعباس بن عبادة بن نضلة في رجال من بني سالم
فقالوا: يا رسول الله أقم عندنا في العدد والعدة والمنعة قال: " خلوا
سبيلها فإنها مأمورة " لناقته فخلوا سبيلها فانطلقت حتى إذا وازت (4)
دار بني
__________
(1) من ابن هشام، وفي الاصل العزاب وهو تحريف.
(2) في رواية جرير بن حازم عن ابن إسحاق: ببطن مهزور (دلائل البيهقي 2
/ 504).
(3) قال ابن سعد: فلما أتى مسجد بني سالم جمع بمن كان معه من المسلمين
وهم مائة.
(4) في ابن هشام: وازنت.
(*)
(3/242)
بياضة تلقاه
زياد بن لبيد وفروة بن عمرو في رجال من بني بياضة فقالوا: يا رسول الله
هلم إلينا إلى العدد والعدة والمنعة ؟ قال: " خلوا سبيلها فإنها مأمورة
" فخلوا سبيلها.
فانطلقت حتى إذا مرت بدار بني ساعدة اعترضه سعد بن عبادة والمنذر بن
عمرو في رجال من بني ساعدة فقالوا: يا رسول الله هلم إلينا في العدد
والمنعة.
قال " خلوا سبيلها فإنها مأمورة " فخلوا سبيلها فانطلقت حتى إذا وازت
دار بني الحارث بن الخزرج اعترضه سعد بن الربيع وخارجة بن زيد وعبد
الله بن رواحة في رجال من بني الحارث بن الخزرج فقالوا: يا رسول هلم
إلينا إلى العدد والعدة والمنعة.
قال: " خلوا سبيلها فإنها مأمورة " فخلوا سبيلها فانطلقت حتى إذا مرت
بدار عدي بن النجار - وهم أخواله - دنيا أم عبد المطلب، سلمى بنت عمرو
إحدى نسائهم، اعترضه سليط بن قيس وأبو سليط أسيرة بن خارجة (1) في رجال
من بني عدي بن النجار فقالوا يا رسول الله هلم إلى أخوالك إلى العدد
والعدة والمنعة ؟ قال: " خلوا سبيلها فإنها مأمورة " فخلوا سبيلها
فانطلقت حتى إذا أتت دار بني مالك بن النجار بركت على باب مسجده عليه
السلام اليوم، وكل يومئذ مربدا لغلامين يتيمين من بني مالك بن النجار،
وهما سهل وسهيل ابنا عمرو، وكانا في حجر معاذ بن عفراء.
قلت: وقد تقدم في رواية البخاري من طريق الزهري عن عروة أنهما كانا في
حجر أسعد بن زرارة والله أعلم.
وذكر موسى بن عقبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر في طريقه بعبد
الله بن أبي بن سلول وهو في بيت.
فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظر أن يدعوه إلى المنزل - وهو
يومئذ سيد الخزرج في أنفسهم - فقال عبد الله: أنظر الذين دعوك فأنزل
عليهم فذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفر من الانصار.
فقال سعد بن عبادة يعتذر عنه: لقد من الله علينا بك يا رسول الله وإنا
نريد أن نعقد على رأسه التاج ونملكه علينا (2).
قال موسى بن عقبة: وكانت الانصار قد اجتمعوا قبل أن يركب رسول الله صلى
الله عليه وسلم من بني عمرو بن عوف فمشوا حول ناقته لا يزال أحدهم
ينازع صاحبه زمام الناقة شحا على كرامة رسول الله صلى الله عليه وسلم
وتعظيما له، وكلما مر بدار من دور الانصار دعوه إلى المنزل فيقول صلى
الله عليه وسلم: " دعوها فإنها مأمورة فإنما أنزل حيث أنزلني الله "
فلما انتهت [ الناقة ] إلى دار أبي أيوب بركت به على الباب فنزل فدخل
بيت أبي أيوب حتى ابتنى مسجده ومساكنه.
__________
(1) في الاصابة: أسير بن عمرو بن قيس أبو سليط البدري، وفي ابن هشام:
بن أبي خارجة.
(2) نقل الخبر وفاء الوفا 1 / 184 ونقله البيهقي في الدلائل 2 / 500
وفيه: فقال له سعد بن عبادة: إنا والله يا رسول الله لقد كنا قبل الذي
خصنا الله به منك، ومن علينا بقدومك، أردنا أن نعقد على رأس عبد الله
بن أبي
التاج ونملكه علينا.
(*)
(3/243)
قال ابن إسحاق:
لما بركت الناقة برسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينزل عنها حتى وثبت
فسارت غير بعيد ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع لها زمامها لا
يثنيها به، ثم التفتت [ إلى ] خلفها فرجعت إلى مبركها أول مرة، فبركت
فيه، ثم تحلحلت (1) ورزمت ووضعت جرانها فنزل عنها رسول الله صلى الله
عليه وسلم.
فأحتمل أبو أيوب خالد بن زيد رحله فوضعه في بيته ونزل عليه رسول الله
صلى الله عليه وسلم وسأل عن المربد لمن هو ؟ فقال له معاذ بن عفراء هو
يا رسول الله لسهل وسهيل ابني عمرو وهما يتيمان لي وسأرضيهما منه
فاتخذه مسجدا، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبني ونزل رسول
الله صلى الله عليه وسلم في دار أبي أيوب حتى بني مسجده ومساكنه فعمل
فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون من المهاجرين والانصار.
وستأتي قصة بناء المسجد قريبا إن شاء الله.
وقال البيهقي في الدلائل: وقال أبو عبد الله أخبرنا أبو الحسن علي بن
عمرو الحافظ ثنا أبو عبد الله محمد بن مخلد الدوري ثنا محمد بن سليمان
بن اسماعيل بن أبي الورد ثنا إبراهيم بن صرمة ثنا يحيى بن سعيد عن
إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس.
قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فلما دخلنا جاء الانصار
برجالها ونسائها فقالوا: إلينا يا رسول الله.
فقال: " دعوا الناقة فإنها مأمورة " فبركت على باب أبي أيوب، فخرجت
جوار من بني النجار يضربن بالدفوف وهن يقلن: نحن جوار من بني النجار *
يا حبذا محمد من جار فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "
أتحبونني ؟ " فقالوا: أي والله يا رسول الله.
فقال: " وأنا والله أحبكم، وأنا والله أحبكم، وأنا والله أحبكم " هذا
حديث غريب من هذا الوجه لم يروه أحد من أصحاب السنن، وقد خرجه الحاكم
في مستدركه كما يروى (2).
ثم قال البيهقي أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي أخبرنا أبو القاسم عبد
الرحمن بن سليمان النحاس المقرئ ببغداد، ثنا عمر بن الحسن الحلبي،
حدثنا أبو خيثمة المصيصي، ثنا عيسى بن يونس، عن عوف الاعرابي، عن ثمامة
عن أنس.
قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بحي من بني النجار، وإذا جوار يضربن
بالدفوف يقلن: نحن جوار من بني النجار * يا حبذا محمد من جار فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: " يعلم الله أن قلبي يحبكم " (3) ورواه ابن
ماجه عن هشام بن عمار عن عيسى بن يونس به.
وفي صحيح البخاري عن معمر، عن عبد الوارث، عن عبد العزيز،
__________
(1) قال السهيلي: " وفسره ابن قتيبة على تلحلح: أي لزم مكانه ولم يبرح.
قال: وتحلحل، معناه زال عن موضعه.
وقال أبو ذر: تحلحلت معناه: تحركت وانزجرت.
(2) نقله السيوطي عن البيهقي في الخصائص 1 / 190 ورواه البيهقي في
الدلائل 2 / 508.
(3) في البيهقي 2 / 508: يحبكن.
(*)
(3/244)
عن أنس قال:
رأى النبي صلى الله عليه وسلم النساء والصبيان مقبلين - حسبت أنه قال
من عرس - فقام النبي صلى الله عليه وسلم ممثلا فقال: " اللهم أنتم من
أحب الناس إلي " قالها ثلاث مرات.
وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، حدثني أبي، حدثني
عبد العزيز بن صهيب ثنا أنس بن مالك.
قال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وهو مردف أبا بكر،
وأبو بكر شيخ يعرف ورسول الله صلى الله عليه وسلم شاب لا يعرف (1)، قال
فيلقى الرجل أبا بكر فيقول: يا أبا بكر من هذا الرجل الذي بين يديك ؟
فيقول: هذا الرجل يهديني السبيل، فيحسب الحاسب أنما يهديه الطريق،
وإنما يعني سبيل الخير.
فالتفت أبو بكر فإذا هو بفارس قد لحقهم فقال: يا نبي الله هذا فارس قد
لحق بنا، فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " اللهم اصرعه "
فصرعته فرسه ثم قامت تحمحم، ثم قال: مرني يا نبي الله بما شئت.
فقال: " قف مكانك ولا تتركن أحدا يلحق بنا ".
قال فكان أول النهار جاهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان آخر
النهار مسلحة له.
قال فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم جانب الحرة ثم بعث إلى الانصار
فجاؤوا فسلموا عليهما وقالوا اركبا آمنين مطاعين.
فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وحفوا حولهما بالسلاح،
وقيل في المدينة: جاء نبي الله صلى الله عليه وسلم فاستشرفوا نبي الله
ينظرون إليه ويقولون: جاء نبي الله.
قال فأقبل يسير حتى نزل إلى جانب دار أبي أيوب، قال فإنه ليحدث
أهله إذ سمع به عبد الله بن سلام وهو في نخل لاهله يحترف (2) لهم، فعجل
أن يضع الذي يحترف فيها فجاء وهي معه، وسمع من نبي الله صلى الله عليه
وسلم ورجع إلى أهله، وقال نبي الله: أي بيوت أهلنا أقرب ؟ فقال أبو
أيوب أنا يا نبي الله، هذه داري وهذا بأبي قال فانطلق فهيئ لنا مقيلا،
فذهب فهيأ [ لهما مقيلا ] (3) ثم جاء فقال يا رسول الله قد هيأت مقيلا
قوما على بركة الله فقيلا، فلما جاء نبي الله صلى الله عليه وسلم جاء
عبد الله بن سلام فقال: أشهد أنك نبي الله حقا، وأنك جئت بحق ولقد علمت
يهود أني سيدهم وابن سيدهم، وأعلمهم وابن أعلمهم، فادعهم فسلهم (4)،
فدخلوا عليه فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا معشر اليهود
ويلكم اتقوا الله فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول
الله حقا وأني جئت بحق أسلموا ".
فقالوا: ما نعلمه، ثلاثا.
وكذا رواه البخاري منفردا به عن محمد (5) غير منسوب عن عبد الصمد به.
__________
(1) يريد هنا: دخول الشيب في لحيته دونه لا السن.
(2) في دلائل البيهقي: يخترف، في الموضعين.
اخترف: جنى من الثمار.
(3) زيادة من البيهقي.
(4) زاد البيهقي في روايته للخبر: فادعهم فسلهم عني قبل أن يعلموا أني
قد أسلمت، فإنهم إن يعلموا اني قد أسلمت قالوا في ما ليس في، فأرسل نبي
الله صلى الله عليه وسلم إليهم.
الخ دلائل ج 2 / 527.
(5) أخرجه البخاري في 63 كتاب الانصار 45 باب هجرة النبي صلى الله عليه
وسلم وأصحابه إلى المدينة ح 3911 فتح الباري ج 7 / 199.
قال ابن حجر في الفتح: محمد: هو ابن سلام، وقال أبو نعيم في المستخرج:
أظنه أنه محمد بن المثنى أبو موسى.
ورواه البيهقي من طريق أبو معمر عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج عن عبد
الوارث.
(*)
(3/245)
قال ابن إسحاق:
وحدثني يزيد بن أبي حبيب عن مرثد بن عبد الله اليزني عن أبي رهم
السماعي حدثني أبو أيوب.
قال: لما نزل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي نزل في السفل،
وأنا وأم أيوب في العلو، فقلت له بأبي أنت وأمي يا رسول الله، إني أكره
وأعظم أن أكون فوقك وتكون
تحتي، فأظهر أنت فكن في العلو وننزل نحن فنكون في السفل، فقال: " يا
أبا أيوب إن أرفق بنا وبمن يغشانا أن أكون في سفل البيت " فكان رسول
الله صلى الله عليه وسلم في سفله وكنا فوقه في المسكن.
فلقد انكسر حب (1) لنا فيه ماء، فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة لنا، مالنا
لحاف غيرها ننشف بها الماء تخوفا أن يقطر على رسول الله صلى الله عليه
وسلم منه شئ فيؤذيه، قال وكنا نصنع له العشاء ثم نبعث إليه فإذا رد
علينا فضلة تيممت أنا وأم أيوب موضع يده فأكلنا منه نبتغي بذلك البركة،
حتى بعثنا إليه ليلة بعشائه وقد جعلنا له فيه بصلا - أو ثوما - فرده
رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أر ليده فيه أثرا، قال فجئته فزعا
فقلت يا رسول الله بأبي أنت وأمي رددت عشاءك ولم أر فيه موضع يدك ؟
فقال: " إني وجدت فيه ريح هذه الشجرة، وأنا رجل أناجي فأما أنتم فكلوه
" قال فأكلناه ولم نصنع له تلك الشجرة بعد (2).
وكذلك رواه البيهقي من طريق الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي
الحسن - أو أبي الخير - مرثد بن عبد الله اليزني عن أبي رهم عن أبي
أيوب فذكره.
ورواه أبو بكر بن أبي شيبة عن يونس بن محمد المؤدب عن الليث.
وقال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو عمرو الحيري،
ثنا عبد الله بن محمد، ثنا أحمد بن سعيد الدارمي، ثنا أبو النعمان، ثنا
ثابت بن يزيد (3) ثنا عاصم الاحول عن عبد الله بن الحارث عن أفلح مولى
أبي أيوب عن أبي أيوب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل عليه فنزل
في السفل، وأبو أيوب في العلو فانتبه أبو أيوب فقال: نمشي فوق رأس رسول
الله صلى الله عليه وسلم ! فتنحوا فباتوا في جانب، ثم قال للنبي صلى
الله عليه وسلم - يعني في ذلك - فقال [ النبي صلى الله عليه وسلم ]: "
السفل أرفق بنا " فقال لا أعلو سقيفة أنت تحتها، فتحول رسول الله صلى
الله عليه وسلم في العلو، وأبو أيوب في السفل فكان يصنع لرسول الله صلى
الله عليه وسلم طعاما، فإذا جئ به سأل عن موضع أصابعه فيتتبع موضع
أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم فصنع له طعاما فيه ثوم، فلما رد
إليه سأل عن موضع أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل له لم يأكل
ففزع وصعد إليه فقال أحرام ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا
ولكني أكرهه " قال فإني أكره ما تكره - أو ما كرهت - قال وكان النبي
صلى الله عليه وسلم يأتيه الملك (4).
رواه
__________
(1) حب: الجرة الضخمة.
(2) سيرة ابن هشام ج 2 / 144.
والبيهقي في الدلائل ج 2 / 510 وقال: رواه ابن إسحاق..غير أنه قال عن
أبي أمامة الباهلي عن أبي أيوب.
(3) في البيهقي: بن زيد.
(4) رواه البيهقي في الدلائل ج 2 / 509، ومسلم في 36 كتاب الاشربة 31
باب إباحة أكل الثوم ح 171.
وأخرجه الترمذي في كتاب الاطعمة 13 باب ح 1807.
عن محمود بن غيلان وقال: حسن صحيح.
وأخرجه أحمد في مسنده 4 / 249، 5 / 94، 96، 100 و 106.
(*)
(3/246)
مسلم عن أحمد
بن سعيد به، وثبت في الصحيحين عن انس بن مالك قال: جئ رسول الله صلى
الله عليه وسلم ببدر (1) وفي رواية بقدر فيه خضروات من بقول، قال فسأل
فأخبر بما فيها فلما رآها كره أكلها، قال: " كل فإني أناجي من لا تناجي
" وقد روى الواقدي أن أسعد بن زرارة لما نزل رسول الله صلى الله عليه
وسلم في دار أبي أيوب أخذ بخطام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم
فكانت عنده، وروي عن زيد بن ثابت أنه قال: أول هدية أهديت إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم حين نزل دار أبي أيوب أنا جئت بها، قصعة فيها
خبز مثرود بلبن وسمن، فقلت أرسلت بهذه القصعة أمي، فقال: " بارك الله
فيك " ودعا أصحابه فأكلوا، ثم جاءت قصعة سعد بن عبادة ثريد وعراق لحم،
وما كانت من ليلة إلا وعلى باب رسول الله صلى الله عليه وسلم الثلاث
والاربعة يحملون الطعام يتناوبون، وكان مقامه في دار أبي أيوب سبعة
أشهر قال وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو نازل في دار أبي
أيوب - مولاه زيد بن حارثة وأبا رافع ومعهما بعيران وخمسمائة درهم
ليجئا بفاطمة وأم كلثوم ابنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسودة بنت
زمعة زوجته، وأسامة بن زيد، وكانت رقية قد هاجرت مع زوجها عثمان، وزينب
عند زوجها بمكة أبي العاص بن الربيع، وجاءت معهم أم أيمن امرأة زيد بن
حارثة وخرج معهم عبد الله بن أبي بكر بعيال أبي بكر وفيهم عائشة أم
المؤمنين ولم يدخل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال البيهقي: أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان، أخبرنا أحمد بن عبيد
الصفار، حدثنا خلف بن عمرو العكبري، ثنا سعيد بن منصور، ثنا عطاف بن
خالد، ثنا صديق بن موسى، عن عبد الله بن الزبير أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قدم المدينة، فاستناخت به راحلته بين دار جعفر بن
محمد بن علي وبين دار الحسن بن ريد، فأتاه الناس فقالوا: يا رسول الله
المنزل.
فانبعثت به راحلته فقال: " دعوها فإنها مأمورة " ثم خرجت به حتى جاءت
موضع المنبر فاستناخت ثم تحللت، وثم عريش كانوا يعرشونه ويعمرونه
ويتبردون فيه، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن راحلته فيه فآوى
إلى الظل فأتاه أبو أيوب فقال: يا رسول الله إن منزلي أقرب المنازل
إليك فأنقل رحلك إلي ؟ قال: نعم ! فذهب برحله إلى المنزل، ثم أتاه رجل
فقال يا رسول الله أين تحل ؟ قال: " ان الرجل مع رحله حيث كان " وثبت
رسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش اثنتي عشرة ليلة حتى بنى
المسجد، وهذه منقبة عظيمة لابي أيوب خالد بن زيد رضي الله عنه، حيث نزل
في داره رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد روينا من طريق يزيد بن أبي حبيب عن محمد بن علي بن عبد الله بن
عباس رضي الله عنه أنه لما قدم أبو أيوب البصرة - وكان ابن عباس نائبا
عليها من جهة علي بن أبي طالب رضي الله عنه - فخرج له ابن عباس عن داره
حتى أنزله فيها كما أنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في داره، وملكه
كل ما أغلق عليها بابها.
ولما أراد الانصراف أعطاه ابن عباس عشرين ألفا، وأربعين عبدا.
وقد صارت دار أبي بعده إلى مولاه أفلح.
فاشتراها منه المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بألف دينار وصلح
ما وهي من بنيانها ووهبها لاهل بيت فقراء من أهل المدينة.
وكذلك نزوله
__________
(1) في النهاية لابن الاثير: بدر: طبق مستدير، شبهه بالبدر لاستدارته.
(*)
(3/247)
عليه السلام في
دار بني النجار واختيار الله له ذلك منقبة عظيمة وقد كان في المدينة
دور كثيرة تبلغ تسعا كل دار محلة مستقلة بمساكنها ونخيلها وزروعها
وأهلها، كل قبيلة من قبائلهم قد اجتمعوا في محلتهم وهي كالقرى
المتلاصقة، فاختار الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم دار بني مالك بن
النجار.
وقد ثبت في الصحيحين من حديث شعبة: سمعت قتادة، عن أنس بن مالك.
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خير دور الانصار بنو النجار،
ثم بنو عبد الاشهل، ثم بنو الحارث بن الخزرج، ثم بنو ساعدة، وفي كل دور
الانصار خير " فقال سعد بن عبادة: ما أرى النبي صلى الله عليه وسلم إلا
قد فضل علينا فقيل قد فضلكم على كثير: هذا لفظ البخاري.
وكذلك رواه البخاري ومسلم من
حديث أنس وأبي سلمة عن أبي أسيد مالك بن ربيعة، ومن حديث عبادة بن سهل
عن أبي حميد عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله سواء.
زاد في حديث أبي حميد، فقال أبو أسيد لسعد بن عبادة: ألم تر أن النبي
صلى الله عليه وسلم خير الانصار فجعلنا آخرا، فأدرك سعد النبي صلى الله
عليه وسلم فقال: يا رسول الله خيرت دور الانصار فجعلتنا آخرا ؟ قال: "
أو ليس بحسبكم أن تكونوا من الاخيار " قد ثبت لجميع من أسلم من أهل
المدينة وهم الانصار الشرف والرفعة في الدنيا والآخرة.
قال الله تعالى: (والسابقون الاولون من المهاجرين والانصار والذين
اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري من تحتها
الانهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم) [ التوبة: 100 ] وقال
تعالى: (والذين تبوؤا الدار والايمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا
يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة
ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) [ الحشر: 9 ] وقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: " لولا الهجرة لكنت أمرءا من الانصار، ولو سلك الناس
واديا وشعبا لسلكت وادي الانصار وشعبهم، الانصار شعار والناس دثار "
وقال: " الانصار كرشي وعيبتي " وقال: " أنا سلم لمن سالمهم، وحرب لمن
حاربهم " وقال البخاري حدثنا حجاج بن منهال ثنا شعبة حدثني عدي بن ثابت
قال سمعت البراء بن عازب يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم - أو
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -: " الانصار لا يحبهم إلا
مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق.
فمن أحبهم أحبه الله ومن أبغضهم أبغضه الله " وقد أخرجه بقية الجماعة
إلا أبا داود من حديث شعبة به.
وقال البخاري أيضا حدثنا مسلم بن إبراهيم ثنا شعبة عن عبد الرحمن بن
عبد الله بن جبير عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "
آية الايمان حب الانصار، وآية النفاق بغض الانصار " ورواه البخاري أيضا
عن أبي الوليد [ و ] الطيالسي ومسلم من حديث خالد بن الحارث وعبد
الرحمن بن مهدي أربعتهم عن شعبة به.
والآيات والاحاديث في فضائل الانصار كثيرة جدا.
وما أحسن ما قال أبو قيس صرمة بن أبي أنس المتقدم ذكره أحد شعراء
الانصار في قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم ونصرهم إياه
ومواساتهم له ولاصحابه رضي الله عنهم أجمعين.
قال ابن إسحاق: وقال أبو قيس صرمة بن أبي أنس أيضا يذكر ما أكرمهم الله
به من
الاسلام وما خصهم به من رسوله عليه السلام:
(3/248)
ثوى في قريش
بضع عشرة حجة * يذكر لو يلقى صديقا مواتيا ويعرض في أهل المواسم نفسه *
فلم ير من يؤوي ولم ير داعيا فلما أتانا واطمأنت به النوى (1) * وأصبح
مسرورا بطيبة راضيا وألفى صديقا واطمأنت به النوى * وكان له عونا من
الله باديا يقص لنا ما قال نوح لقومه * وما قال موسى إذ أجاب المناديا
فأصبح لا يخشى من الناس واحدا * قريبا ولا يخشى من الناس نائيا بذلنا
له الاموال من جل مالنا * وأنفسنا عند الوغى والتآسيا (2) نعادي الذي
عادى من الناس كلهم * جميعا ولو كان الحبيب المواسيا ونعلم أن الله لا
شئ غيره * وإن كتاب الله أصبح هاديا (3) أقول إذا صليت في كل بيعة *
حنانيك لا تظهر علينا الاعاديا (4) أقول إذا جاوزت أرضا مخيفة * تباركت
اسم الله أنت المواليا فطا معرضا إن الحتوف كثيرة * وانك لا تبقي لنفسك
باقيا (5) فوالله ما يدري الفتى كيف سعيه * إذا هو لم يجعل له الله
واقيا ولا تحفل النخل المعيمة ربها * إذا أصبحت ريا وأصبح ثاويا (6)
ذكرها ابن إسحاق وغيره، ورواها عبد الله بن الزبير الحميدي وغيره عن
سفيان بن عيينة عن يحيى بن سعيد الانصاري عن عجوز من الانصار قالت:
رأيت عبد الله بن عباس يختلف إلى صرمة بن قيس يروي هذه الابيات.
رواه البيهقي.
فصل وقد شرفت المدينة أيضا بهجرته عليه
السلام إليها وصارت كهفا لاولياء الله وعباده
__________
(1) في ابن هشام: فلما أتانا أظهر الله دينه.
(2) في ابن هشام: من حل، وتروى من جل بالجيم ومعناه: العظيم الكبير من
الابل، أو معظم كل شئ.
(3) في ابن هشام: ونعلم أن الله أفضل هاديا.
(4) في ابن هشام: ورد البيت والذي بعده: أقول إذا أدعوك في كل بيعة *
تباركت قد أكثرت لاسمك داعيا أقول إذا جاوزت أرضا مخوفة * حنانيك لا
تظهر علي الاعاديا (5) قال ابن هشام: هذا البيت والذي يليه لافنون
التغلبي، وهو صريم بن معشر في أبيات له وبعدهما: كفى حزنا أن يرحل
الركب غدوة * واترك في جنب الالهة ثاويا قالهما لما أحس بالموت، بعد أن
بركت ناقته على حية فنهشته الحية فمات.
(6) في الاصل المقيمة، والتصويب من ابن هشام وشرح السيرة لابي ذر.
والمعيمة: العاطشة.
(*)
(3/249)
الصالحين،
ومعقلا وحصنا منيعا للمسلمين، ودار هدى للعالمين.
والاحاديث في فضلها كثيرة جدا لها موضع آخر نوردها فيه إن شاء الله.
وقد ثبت في الصحيحين من طريق حبيب بن يساف عن جعفر بن عاصم عن أبي
هريرة.
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الايمان ليأرز إلى
المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها " (1) ورواه مسلم أيضا عن محمد بن
رافع عن شبابة عن عاصم بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر عن أبيه عن
ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.
وفي الصحيحين أيضا من حديث مالك عن يحيى بن سعيد أنه سمع أبا الحباب
سعيد بن يسار سمعت أبا هريرة يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "
أمرت بقرية تأكل القرى، يقول: يثرب، وهي المدينة، تنقي الناس كما ينقي
الكير خبث الحديد " (2) وقد انفرد الامام مالك عن بقية الائمة الاربعة
بتفضيلها على مكة.
وقد قال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أخبرني أبو الوليد، وأبو
بكر بن عبد الله قالا ثنا الحسن بن سفيان ثنا ابو موسى الانصاري، ثنا
سعيد بن سعيد، حدثني أخي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: " اللهم إنك أخرجتني من أحب البلاد إلي فاسكني أحب البلاد إليك "
فأسكنه الله المدينة " (3)،.
وهذا حديث غريب جدا والمشهور عن
الجمهور أن مكة أفضل من المدينة إلا المكان الذي ضم جسد رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وقد استدل الجمهور على ذلك بأدلة يطول ذكرها ههنا
ومحلها ذكرناها في كتاب المناسك من الاحكام إن شاء الله تعالى.
وأشهر دليل لهم في ذلك ما قال الامام أحمد: حدثنا أبو اليمان ثنا شعيب
عن الزهري أخبرنا أبو سلمة بن عبد الرحمن أن عبد الله بن عدي بن
الحمراء أخبره أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو واقف بالحزورة في
سوق مكة يقول: " والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلي، ولولا أني
أخرجت منك ما خرجت " وكذا رواه أحمد عن يعقوب بن إبراهيم عن أبيه عن
صالح بن كيسان عن الزهري به.
وهكذا رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث الليث عن عقيل عن
الزهري به.
وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقد رواه يونس عن الزهري به.
ورواه محمد بن عمرو عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة، وحديث
الزهري عندي أصح.
قال الامام أحمد: حدثنا
__________
(1) رواه مسلم في 1 كتاب الايمان 65 باب ح 233.
والبخاري في 29 كتاب فضائل المدينة 6 باب ح 1876 فتح الباري 4 / 93 عن
خبيب بن عبد الرحمن بن يساف.
وأخرجه الترمذي في الايمان وابن ماجه في المناسك وأحمد في المسند 1 /
184.
(2) أخرجه البخاري في 29 فضائل المدينة (2) باب فتح الباري 4 / 87
ومسلم في 15 كتاب الحج 88 باب ح 488 وأحمد في 2 / 237، 247، 384.
أمرت بقرية: اي أمرني ربي بالهجرة إلى قرية - يثرب -.
- تأكل القرى: تغلبها وتظهر عليها.
- تنقي، وفي النهاية: تنفي: تخرجه عنها من النفي، وتنقي من إخراج النقي
وهو المخ أو من التنقية وهي إفراد الجيد من الردئ.
(3) دلائل النبوة ج 2 / 519.
(*)
(3/250)
عبد الرزاق،
ثنا معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة
قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحزورة فقال: " علمت
أنك خير أرض الله وأحب الارض إلى الله،
ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت " (1) وكذا رواه النسائي من
حديث معمر به.
قال الحافظ البيهقي وهذا وهم من معمر، وقد رواه بعضهم عن محمد بن
عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة وهو أيضا وهم والصحيح رواية الجماعة
(2).
وقال أحمد ايضا حدثنا إبراهيم بن خالد، ثنا رباح، عن معمر.
عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري عن أبي سلمة عن بعضهم أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال وهو في سوق الحزورة: " والله إنك لخير أرض
الله وأحب الارض إلى الله ولولا أني أخرجت منك ما خرجت " ورواه
الطبراني عن أحمد بن خليد الحلبي عن الحميدي عن الدراوردي عن ابن
أخي الزهري عن محمد بن جبير بن مطعم عن عبد الله بن عدي بن الحمراء
به.
فهذه طرق هذا الحديث، وأصحها ما تقدم والله أعلم.
وقائع السنة الاولى من الهجرة
اتفق الصحابة رضي الله عنهم في سنة ست عشرة - وقيل سنة سبع عشرة،
أو ثماني عشرة - في الدولة العمرية على جعل ابتداء التاريخ
الاسلامي من سنة الهجرة، وذلك أن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه
رفع إليه صك - أي حجة - لرجل على آخر وفيه، إنه يحل عليه في شعبان.
فقال عمر: أي شعبان ؟ أشعبان هذه السنة التي نحن فيها أو السنة
الماضية، أو الآتية ؟ ثم جمع الصحابة فاستشارهم في وضع تاريخ
يتعرفون به حلول الديون وغير ذلك.
فقال قائل: أرخوا كتاريخ الفرس فكره ذلك، وكانت الفرس يؤرخون
بملوكهم واحدا بعد واحد.
وقال قائل: أرخوا بتاريخ الروم.
وكانوا يؤرخون بملك اسكندر بن فلبس المقدوني فكره ذلك.
وقال آخرون أرخوا بمولد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال آخرون
بل بمبعثه، وقال آخرون بل بهجرته، وقال آخرون بل بوفاته عليه
السلام.
فمال عمر رضي الله عنه إلى التاريخ بالهجرة لظهوره واشتهاره.
واتفقوا معه على ذلك.
وقال البخاري في صحيحة: التاريخ ومتى أرخوا التاريخ.
حدثنا عبد الله بن مسلم ثنا عبد العزيز عن أبيه عن سهل بن سعد.
قال: ما عدوا من مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ولا من وفاته، ما
عدوا إلا من مقدمة المدينة.
__________
(1) أخرجه الترمذي في المناقب باب في فضل مكة ح 3925 وقال: هذا
حديث حسن غريب صحيح.
وأخرجه ابن ماجه في المناسك.
والنسائي في المناسك في سننه الكبرى على ما ذكره المزي في تحفة
الاشراف 5 / 316 و 11 / 54.
(2) دلائل النبوة ج 2 / 518.
(*)
(3/251)
وقال الواقدي:
حدثنا ابن أبي الزناد عن أبيه.
قال: استشار عمر في التاريخ فأجمعوا على الهجرة.
وقال أبو داود الطيالسي عن قرة (1) بن خالد السدوسي عن محمد بن
سيرين قال: قام رجل إلى عمر فقال أرخوا.
فقال ما أرخوا ؟ فقال شئ تفعله الاعاجمم يكتبون في شهر كذا من سنة
كذا.
فقال عمر: حسن فأرخوا، فقالوا من أي السنين نبدأ.
فقالوا من مبعثه، وقالوا من وفاته، ثم أجمعوا على الهجرة، ثم قالوا
وأي الشهور نبدأ ؟ قالوا رمضان، ثم قالوا المحرم فهو مصرف (2)
الناس من حجهم وهو شهر حرام فاجتمعوا (3) على المحرم.
وقال ابن جرير: حدثنا قتيبة ثنا نوح بن قيس الطائي (4) عن عثمان بن
محصن أن ابن عباس كان يقول في قوله تعالى: (والفجر وليال عشر) هو
المحرم فجر السنة وروى عن عبيد بن عمير.
قال: إن المحرم شهر الله وهو رأس السنة يكسي البيت، ويؤرخ به الناس
(5)، ويضرب فيه الورق.
وقال أحمد: حدثنا روح بن عبادة ثنا زكريا بن إسحاق عن عمرو بن
دينار قال: إن أول من ورخ الكتب يعلى بن أمية باليمن، وأن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة في ربيع الاول وأن الناس
أرخوا لاول السنة.
وروى محمد بن إسحاق عن الزهري وعن محمد بن صالح عن الشعبي أنهما
قالا: أرخ بنو اسماعيل من نار إبراهيم، ثم أرخوا من بنيان إبراهيم
واسماعيل البيت (6)، ثم أرخوا من موت كعب بن لؤي، ثم أرخوا من
الفيل، ثم أرخ عمر بن الخطاب من الهجرة وذلك سنة سبع عشرة
- أو ثماني عشرة - وقد ذكرنا هذا الفصل محررا بأسانيده وطرقه في
السيرة العمرية ولله الحمد، والمقصود أنهم جعلوا ابتداء التاريخ
الاسلامي من سنة الهجرة، وجعلوا أولها من المحرم فيما اشتهر عنهم
وهذا هو قول جمهور الائمة.
__________
(1) من الطبري، وفي الاصل فروة وهو تحريف.
(2) في الطبري: منصرف.
(3) من الطبري وفي الاصل فأجتمعوا.
(4) في الطبري: 2 / 253: الطاحي.
(5) في الطبري: ويؤرخ التاريخ.
(6) في رواية الطبري: فكان كلما خرج قوم من تهامة أرخوا بمخرجهم
ومن بقي بتهامة من بني اسماعيل يؤرخون من خروج سعد ونهد وجهينة
وبني زيد من تهامة حتى مات كعب بن لؤي.
وعلق الطبري على رواية ابن اسحاق قال: وهذا الذي رواه علي بن مجاهد
عن ابن إسحاق غير بعيد من الحق لانهم لم يكونوا يؤرخون على أمر
معروف يعمل به عامتهم وإنما كان المؤرخ منهم يؤرخ بزمان قحمة كانت
في ناحية من نواحي من نواحي بلادهم.
(*)
(3/252)
وحكى السهيلي
وغيره عن الامام مالك أنه قال: أول السنة الاسلامية ربيع الاول
لانه الشهر الذي هاجر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد استدل السهيلي على ذلك في موضع آخر بقوله تعالى: (لمسجد أسس
على التقوى من أول يوم) أي من أول يوم حلول النبي صلى الله عليه
وسلم المدينة، وهو أول يوم من التاريخ كما اتفق الصحابة على أول
سني التاريخ عام الهجرة.
ولا شك أن هذا الذي قاله الامام مالك رحمه الله مناسب، ولكن العمل
على خلافه، وذلك لان أول شهور العرب المحرم فجعلوا السنة الاولى
سنة الهجرة.
وجعلوا أولها المحرم كما هو المعروف لئلا يختلط النظام والله أعلم.
فنقول وبالله المستعان: استهلت سنة الهجرة المباركة ورسول الله صلى
الله عليه وسلم مقيم بمكة، وقد بايع
الانصار بيعة العقبة الثانية كما قدمنا في أوسط أيام التشريق وهي
ليلة الثاني عشر من ذي الحجة قبل سنة الهجرة، ثم رجع الانصار وأذن
رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين في الهجرة إلى المدينة
فهاجر من هاجر من أصحابه إلى المدينة حتى لم يبق بمكة من يمكنه
الخروج إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحبس أبو بكر نفسه على
رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه في الطريق كما قدمنا ثم خرجا
على الوجه الذي تقدم بسطه وتأخر علي بن أبي طالب بعد النبي صلى
الله عليه وسلم بأمره ليؤدي ما كان عنده عليه السلام من الودائع ثم
لحقهم بقباء فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين قريبا
من الزوال وقد اشتد الضحاء.
قال الواقدي وغيره: وذلك لليلتين خلتا من شهر ربيع الاول.
وحكاه ابن إسحاق إلا أنه لم يعرج عليه ورجح أنه لثنتي عشرة ليلة
خلت منه، وهذا هو المشهور الذي عليه الجمهور.
وقد كانت مدة إقامته عليه السلام بمكة بعد البعثة (1) ثلاث عشرة
سنة في أصح الاقوال، وهو رواية حماد بن سلمة عن أبي جمرة (2)
الضبعي عن ابن عباس.
قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لاربعين سنة، وأقام بمكة
ثلاث عشرة سنة.
وهكذا روى ابن جرير عن محمد بن معمر عن روح بن عبادة عن زكريا بن
إسحاق عن عمرو بن دينار عن ابن عباس أنه قال: مكث رسول الله صلى
الله عليه وسلم بمكة ثلاث عشرة.
وتقدم أن ابن عباس كتب أبيات صرمة بن أبي أنس بن قيس: ثوى في قريش
بضع عشرة حجة * يذكر لو يلقى صديقا مواتيا وقال الواقدي عن إبراهيم
بن اسماعيل عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس أنه استشهد
بقول صرمة:
__________
(1) يعني هنا من أول الوقت الذي استنبى فيه، عن عروة عن عائشة
قالت: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا
الصالحة في النوم.
(2) من الطبري، وفي الاصل: أبي حمزة الضبي.
وأبو جمرة الضبعي، واسمه نصر بن عمران بن عصام الضبعي، البصري نزيل
خراسان مشهور بكنيته، ثقة ثبت من الثالثة مات سنة ثمان وعشرين.
تقريب التهذيب 2 / 72 / 300.
(*)
(3/253)
ثوى في قريش
بضع عشرة حجة * يذكر لو يلقى صديقا مواتيا وهكذا رواه ابن جرير عن
الحارث عن محمد بن سعد عن الواقدي خمس عشرة حجة، وهو قول غريب جدا،
وأغرب منه ما قال ابن جرير: حدثت عن روح بن عبادة ثنا سعيد عن
قتادة قال: نزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثماني
سنين بمكة، وعشرا بالمدينة.
وكان الحسن يقول: عشرا بمكة، وعشرا بالمدينة، وهذا القول الآخر
الذي ذهب إليه الحسن البصري من أنه أقام بمكة عشر سنين ذهب إليه
أنس بن مالك وعائشة وسعيد بن المسيب وعمرو بن دينار فيما رواه ابن
جرير عنهم، وهو رواية عن ابن عباس رواها أحمد بن حنبل عن يحيى بن
سعيد عن هشام عن عكرمة عن ابن عباس.
قال: أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وأربعين،
فمكث بمكة عشرا وقد قدمنا عن الشعبي أنه قال: قرن إسرافيل برسول
الله صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين يلقى إليه الكلمة والشئ وفي
رواية يسمع حسه ولا يرى شخصه، ثم كان بعد ذلك جبريل.
وقد حكى الواقدي عن بعض مشايخه أنه أنكر قول الشعبي هذا، وحاول ابن
جرير (1) أن يجمع بين قول من قال إنه عليه السلام أقام بمكة عشرا،
وقول من قال ثلاث عشرة بهذا الذي ذكره الشعبي والله أعلم.
|