البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي

فصل فيما أصاب المهاجرين من حمى المدينة قال البخاري: حدثنا عبد الله بن وهب بن يوسف، ثنا مالك عن (2) هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها قالت: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وعك أبو بكر وبلال، قالت: فدخلت عليهما فقلت: يا أبه كيف تجدك ؟ ويا بلال كيف تجدك ؟ قالت وكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول: كل امرئ مصبح في أهله * والموت أدنى من شراك نعله (3)
__________
(1) مرضومة: أي مضمومة بعضها فوق بعض - والرضام من الجبل دون الهضاب.
(2) صحيح البخاري 5 / 168 باب ما جاء في هجرة النبي ح 404 وفيه: مالك عن هشام وفي الاصل مالك بن هشام وهو تحريف.
(3) مصبح: أي مصاب بالموت صباحا.
(*)

(3/268)


وكان بلال إذا أقلع عنه الحمى يرفع عقيرته (1) ويقول:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة * بواد وحولي اذخر وجليل (2) وهل أردن يوما مياه مجنة * وهل يبدون لي شامة وطفيل (3) قالت عائشة: فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: " اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد وصححها وبارك لنا في صاعها ومدها، وانقل حماها فاجعلها بالجحفة (4).
ورواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة عن هشام مختصرا.
وفي رواية البخاري (5) له عن أبي أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة فذكره وزاد بعد شعر بلال ثم يقول: اللهم العن عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة وأمية بن خلف كما أخرجونا [ من أرضنا ] (6) إلى أرض الوباء (7).
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، اللهم بارك لنا في صاعها وفي مدها (8) وصححها لنا وانقل حماها إلى الجحفة " قالت وقدمنا المدينة وهي أوبأ أرض الله، وكان بطحان يجري نجلا (9) - يعني ماء آجنا - وقال زياد عن محمد بن اسحاق حدثني هشام بن عروة وعمر بن عبد الله بن عروة بن الزبير [ عن عروة بن الزبير ] (10) عن عائشة قالت: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة قدمها وهي أوبأ أرض الله من الحمى، فأصاب أصحابه منها بلاء وسقم، وصرف الله ذلك عن نبيه، قالت: فكان أبو بكر وعامر بن فهيرة وبلال موليا أبي بكر في بيت واحد، فأصابتهم الحمى، فدخلت عليهم أعودهم (11) وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب، وبهم ما لا يعلمه إلا الله من شدة الوعك فدنوت من أبي بكر فقلت [ له ] كيف تجدك يا أبه ؟ فقال (12): كل امرئ مصبح في أهله * والموت أدنى من شراك نعله
__________
(1) رفع الصوت بكاء أو غناء.
(2) هو نبت ضعيف يحشى به خصاص البيوت.
(3) مجنة: على بريد من مكة.
شامة وطفيل: جبلان بقرب مكة.
(4) الجحفة: ميقات أهل مصر والشام والمغرب.
(5) صحيح البخاري ج 3 / 55 ح 461.
(6) من البخاري، سقطت من الاصل.
(7) الوباء: المرض العام الذي أصاب المدينة.
(8) في البخاري: في صاعنا وفي مدنا.
(9) نجلا: أي نزا وهو الماء القليل كما في النهاية لابن الاثير.
(10) ما بين معكوفين من ابن هشام ج 2 / 238.
(11) من ابن هشام، وفي الاصل: أدعوهم وهو تحريف.
(12) الابيات لعمرو بن مامة.
(*)

(3/269)


قالت: فقلت: والله ما يدري أبي ما يقول، قالت ثم دنوت إلى عامر بن فهيرة فقلت [ له ] كيف تجدك يا عامر ؟ قال: لقد وجدت الموت قبل ذوقه * إن الجبان حتفه من فوقه كل امرئ مجاهد بطوقه * كالثور يحمي جلده بروقه قال فقلت والله ما يدري ما يقول، قالت وكان بلال إذا أدركته الحمى اضطجع بفناء البيت ثم رفع عقيرته فقال: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة * بفخ وحولي إذخر وجليل وهل أردن يوما مياه مجنة * وهل يبدون لي شامة وطفيل قالت عائشة: فذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمعت منهم وقلت إنهم ليهذون وما يعقلون من شدة الحمى فقال: " اللهم حبب إلينا المدينة، كما حببت الينا مكة أو أشد، وبارك لنا في مدها وصاعها، وانقل وباءها إلى مهيعة " ومهيعة هي الجحفة.
وقال الامام أحمد: حدثنا يونس، ثنا ليث، عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي بكر بن إسحاق بن يسار عن عبد الله بن عروة عن عروة عن عائشة قالت لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة اشتكى أبو بكر وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر وبلال، فاستأذنت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم في عيادتهم فأذن لها، فقالت لابي بكر كيف تجدك ؟ فقال:
كل امرئ مصبح في أهله * والموت أدنى من شراك نعله وسألت عامرا فقال: إني وجدت الموت قبل ذوقه * إن الجبان حتفه من فوقه (1) وسألت بلالا فقال: يا ليت شعري هل أبيتن ليلة * بفخ وحولي إذخر وجليل (2) فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم - فأخبرته، فنظر إلى السماء وقال: اللهم حبب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة أو أشد، اللهم بارك لنا في صاعها وفي مدها، وانقل وباءها إلى مهيعة.
وهي الجحنة فيما زعموا.
وكذا رواه النسائي عن قتيبة عن الليث به ورواه الامام أحمد من طريق عبد الرحمن بن الحارث عنها مثله.
وقال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد بن أبي عمرو.
قالا: ثنا أبو العباس الاصم، حدثنا أحمد بن عبد الجبار ثنا يونس بن بكير، عن هشام بن عروة، عن
__________
(1) في رواية: لقد وجدت، وفي رواية أخرى: قد ذقت طعم الموت قبل ذوقه.
(2) في رواية: بواد، وفخ: قال الدينوري بالخاء المعجمة: موضع خارج مكة.
(*)

(3/270)


أبيه، عن عائشة قالت: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهي أوبأ أرض الله، وواديها بطحان نجل [ يجري عليه الاثل ] (1).
قال هشام: وكان وباؤها معروفا في الجاهلية، وكان إذا كان الوادي وبيئا فأشرف عليها الانسان قيل له أن ينهق نهيق الحمار، فإذا فعل ذلك لم يضره وباء ذلك الوادي.
وقد قال الشاعر حين أشرف على المدينة: لعمري لئن عبرت من خيفة الردى * نهيق الحمار إنني لجزوع (2) وروى البخاري (3) من حديث موسى بن عقبة: عن سالم [ بن عبد الله ] عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " رأيت كأن امرأة سوداء ثائرة الرأس خرجت من المدينة حتى قامت بمهيعة - وهي الجحفة فأولتها أن وباء المدينة نقل إلى مهيعة - وهي الجحفة - " هذا لفظ البخاري ولم يخرجه مسلم ورواه الترمذي وصححه والنسائي وابن ماجه من حديث موسى بن عقبة.
وقد روى حماد بن زيد
عن هشام بن عروة عن عائشة قالت: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهي وبيئة، فذكر الحديث بطوله إلى قوله وانقل حماها إلى الجحفة.
قال هشام: فكان المولود يولد بالجحفة فلا يبلغ الحلم حتى تصرعه الحمى.
ورواه البيهقي في دلائل النبوة (4).
وقال يونس عن ابن إسحاق: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهي وبيئة.
فأصاب أصحابه بها بلاء وسقم حتى أجهدهم ذلك، وصرف الله ذلك عن نبيه صلى الله عليه وسلم وقد ثبت في الصحيحين عن ابن عباس قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه صبيحة رابعة - يعني مكة - عام عمرة القضاء.
فقال المشركون: إنه يقدم عليكم وفد قد وهنهم حمى يثرب، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرملوا [ الاشواط الثلاثة ] (5) وأن يمشوا ما بين الركنين، ولم يمنعه أن يرملوا الاشواط كلها إلا الابقاء عليهم.
قلت: وعمرة القضاء كانت في سنة سبع في ذي القعدة (6) فأما أن يكون تأخر دعاؤه
__________
(1) ما بين معكوفين سقط من الاصل واستدرك من دلائل النبوة ج 2 / 567.
(2) في الدلائل: عشرت بدلا من عبرت.
(3) صحيح البخاري 2 / 37 ونقله البيهقي من طريق فضيل بن سليمان.
(4) ج 2 / 568 وفيه: وبئة بدل وبيئة.
(5) الخبر في البخاري عن سليمان بن حرب 25 كتاب الحج 55 باب ح 1602 فتح الباري 3 / 368 وأعاده في المغازي باب عمرة القضاء.
ورواه مسلم في 15 كتاب الحج 29 باب من طريق حماد بن زيد عن أيوب بن أبي تميمة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس.
ح 240.
- ما بين معكوفين من الصحيحين.
- وهنهم، وفي مسلم وهنتهم: أي أضعفتهم، قال الفراء وغيره: يقال وهنته وأوهنته الحمى لغتان.
ويثرب كان اسم المدينة في الجاهلية.
- يمشوا ما بين الركنين: أي حيث لا تقع عليهم أعين المشركين، فإنهم لم يكونوا في تلك الجهة.
(6) في الكامل لابن الاثير: في ذي الحجة.
وما أثبتناه عن الطبري 3 / 100 وانظر في عمرة القضاء: الطبري = (*)

(3/271)


عليه السلام بنقل الوباء إلى قريب من ذلك، أو أنه رفع وبقي آثار منه قليل.
أو أنهم بقوا في خمار وما كان أصابهم من ذلك إلى تلك المدة والله أعلم.
وقال زياد عن ابن إسحاق: وذكر ابن شهاب الزهري عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة هو وأصحابه أصابتهم حمى المدينة حتى جهدوا مرضا، وصرف الله ذلك عن نبيه صلى الله عليه وسلم حتى كانوا وما يصلون إلا وهم قعود، قال: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يصلون كذلك فقال لهم: " إعلموا أن صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم " فتجشم المسلمون القيام على ما بهم من الضعف والسقم التماس الفضل (1).