البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي

فصل في مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والانصار كما قال تعالى [ والذين تبوؤا الدار والايمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ] [ الحشر: 9 ] وقال تعالى: [ والذين عاقدت ايمانكم فآتوهم نصيبهم
إن الله كان على كل شئ شهيدا ] [ النساء: 33 ].
قال البخاري: حدثنا الصلت بن محمد، ثنا أبو أسامة، عن إدريس، عن طلحة بن مصرف عن سعيد بن جبير عن ابن عباس [ ولكل جعلنا موالي) قال: ورثة (والذين عاقدت ايمانكم) كان المهاجرون لما قدموا المدينة يرث المهاجري الانصاري دون ذوي رحمه للاخوة التي آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم، فلما نزلت (ولكل جعلنا موالي) نسخت ثم قال: (والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم) من النصر والرفادة والنصيحة، وقد ذهب الميراث ويوصى له.
وقال الامام أحمد قرئ على سفيان سمعت عاصما عن أنس قال: حالف النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والانصار في دارنا قال سفيان: كأنه يقول آخي.
وقال محمد بن إسحاق: وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه من المهاجرين والانصار، فقال: - فيما بلغنا ونعوذ بالله أن نقول عليه ما لم يقل - " تأخوا في الله أخوين أخوين " ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب فقال " هذا أخي " فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد المرسلين، وإمام المتقين، ورسول رب العالمين، الذي ليس له خطير (1) ولا نظير من العباد، وعلي بن أبي طالب أخوين، وكان حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله وعم رسول الله صلى الله عليه وسلم وزيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخوين وإليه أوصى حمزة يوم أحد، وجعفر بن أبي طالب ذو الجناحين ومعاذ بن جبل أخوين.
قال ابن هشام: كان جعفر يومئذ غائبا بأرض الحبشة (2).
قال ابن إسحاق: وكان أبو بكر وخارجة بن زيد الخزرجي أخوين، وعمر بن الخطاب وعتبان بن مالك أخوين، وأبو عبيدة وسعد بن معاذ أخوين وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع أخوين، والزبير بن العوام وسلمة بن سلامة بن وقش أخوين، ويقال بل كان الزبير وعبد الله بن مسعود (3) أخوين،
__________
(1) خطير: النظير والمثل.
(2) قال الواقدي: آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين معاذ بن جبل وعبد الله بن مسعود لا اختلاف فيه عندنا، وأما في رواية ابن إسحاق خاصة فلم يذكره غيره.
وقال الواقدي معلقا على روايته: كيف يكون هذا ؟ وإنما كانت المؤاخاة بينهم بعد قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وقبل يوم بدر، وجعفر قد هاجر قبل ذلك من مكة إلى الحبشة،
وقدم بعد ذلك بسبع سنين.
هذا وهل من ابن اسحاق.
راجع طبقات ابن سعد 3 / 584.
(3) في الطبقات ج 3 / 102: كان الزبير وطلحة أخوين، وفي رواية له عن عروة وأخرى عن بشير بن = (*)

(3/277)


وعثمان بن عفان وأوس بن ثابت بن المنذر النجاري أخوين، وطلحة [ بن عبيدالله ] (2) وكعب بن مالك أخوين، وسعيد (2) بن زيد وأبي بن كعب أخوين، ومصعب بن عمير وأبو أيوب أخوين، وأبو حذيفة بن عتبة وعباد بن بشر أخوين، وعمار وحذيفة بن اليمان العبسى حليف عبد الاشهل أخوين.
ويقال بل كان عمار وثابت بن قيس بن شماس أخوين.
قلت: وهذا السند من وجهين.
قال: وأبو ذر برير بن جنادة (3) والمنذر بن عمرو المعنق ليموت أخوين، وحاطب بن أبي بلتعة (4) وعويم بن ساعدة أخوين، وسلمان وأبو الدرداء [ عويمر بن ثعلبة ] أخوين وبلال وأبو رويحة (5) عبد الله بن عبد الرحمن الخثعمي ثم أحد الفزع (6) أخوين.
قال فهؤلاء ممن سمى لنا ممن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بينهم من أصحابه رضي الله عنهم.
قلت: وفي بعض ما ذكره نظر، أما مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم وعلي فإن من العلماء من ينكر ذلك ويمنع صحته ومستنده في ذلك أن هذه المؤاخاة إنما شرعت لاجل ارتفاق بعضهم من بعض وليتألف قلوب بعضهم على بعض، فلا معنى لمؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم لاحد منهم، ولا مهاجري لمهاجري آخر كما ذكره من مؤاخاة حمزة وزيد بن حارثة اللهم إلا أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يجعل مصلحة علي إلى غيره فإنه كان ممن ينفق عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من صغره في حياة أبيه أبي طالب كما تقدم عن مجاهد وغيره.
وكذلك يكون حمزة قد التزم بمصالح مولاهم زيد بن حارثة فآخاه بهذا الاعتبار والله أعلم.
وهكذا ذكره لمؤاخاة جعفر ومعاذ بن جبل فيه نظر كما أشار إليه عبد الملك بن هشام، فان جعفر بن أبي طالب إنما قدم في فتح خيبر في أول سنة سبع كما سيأتي بيانه، فكيف يؤاخي بينه وبين
__________
= عبد الرحمن بن كعب بن مالك: كان الزبير وكعب بن مالك اخوين.
(1) من ابن هشام.
(2) في ابن هشام: سعد.
وفي الطبقات لابن سعد: سعيد وقد آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين رافع بن مالك الزرقي.
(3) وقال ابن هشام: يقال أبو ذر: جندب بن جنادة.
قال ابن سعد في الطبقات: آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المنذر بن عمرو وطليب بن عمرو.
وعلق محمد بن عمر على قول ابن إسحاق قال: كيف يكون هكذا، وإنما آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه قبل بدر وأبو ذر يومئذ غائب عن المدينة ولم يشهد بدرا ولا أحدا ولا الخندق وإنما قدم المدينة بعد ذلك.
(4) واسم أبي بلتعة: عمرو بن أشد بن معاذ.
قال الواقدي: آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عويم وعمر بن الخطاب.
(5) في طبقات ابن سعد: آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين بلال وعبيدة بن الحارث بن المطلب، وعلق الواقدي على رواية ابن إسحاق قال: ليس ذلك بثبت ولم يشهد أبو رويحة بدرا.
(6) قال السهيلي: الفزع بالفتح عند أهل النسب هو ابن شهران بن عفرس، وبالسكون ابن عبد الله بن ربيعة.
(راجع ابن حبيب في مؤتلف القبائل ومختلفها).
(*)

(3/278)


معاذ بن جبل أول مقدمه عليه السلام إلى المدينة اللهم إلا أن يقال إنه أرصد لاخوته إذا قدم حين يقدم، وقوله وكان أبو عبيدة وسعد بن معاذ أخوين يخالف لما رواه الامام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا حماد، ثنا ثابت، عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بين أبي عبيدة بن الجراح وبين أبي طلحة.
وكذا رواه مسلم منفردا به عن حجاج بن الشاعر عن عبد الصمد بن عبد الوارث به وهذا أصح مما ذكره ابن إسحاق من مؤاخاة أبي عبيدة وسعد بن معاذ والله أعلم (1).
وقال البخاري باب كيف آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه.
وقال عبد الرحمن بن عوف: آخى النبي صلى الله عليه وسلم بيني وبين سعد بن الربيع لما قدمنا المدينة.
وقال أبو جحيفة: آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان الفارسي وأبي الدرداء رضي الله عنهما: حدثنا محمد بن يوسف، ثنا سفيان، عن حميد، عن أنس قال: قدم عبد الرحمن بن عوف [ المدينة ] فآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع الانصاري،
فعرض عليه أن يناصفه أهله وماله فقال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك، دلني على السوق.
فربح شيئا من أقط وسمن، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم بعد أيام وعليه وضر من صفرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " مهيم يا عبد الرحمن ؟ " قال: يا رسول الله تزوجت امرأة من الانصار.
قال: " فما سقت فيها ؟ " قال وزن نواة من ذهب، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أولم ولو بشاة " تفرد به من هذا الوجه.
وقد رواه ايضا في مواضع أخر، ومسلم من طرق عن حميد به (2).
وقال الامام أحمد حدثنا عفان ثنا حماد ثنا ثابت وحميد عن أنس: أن عبد الرحمن بن عوف قدم المدينة فآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع الانصاري، فقال له سعد: أي أخي أنا أكثر أهل المدينة مالا فانظر شطر مالي فخذه وتحتي امرأتان فانظر أيهما أعجب إليك حتى أطلقها.
فقال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك، دلوني على السوق.
فدلوه فذهب فاشترى وباع فربح فجاء بشئ من أقط وسمن.
ثم لبث ما شاء الله أن يلبث فجاء وعليه ودع زعفران (3) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " مهيم ؟ " فقال: يا رسول الله تزوجت امرأة، قال: " ما أصدقتها ؟ " قال وزن نواة من ذهب، قال " أولم ولو بشاة ".
قال عبد الرحمن: فلقد رأيتني ولو رفعت حجرا لرجوت أن
__________
(1) قال في طبقات ابن سعد عن الواقدي: آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أبي عبيدة ومحمد بن مسلمة.
وفي رواية أخرى للواقدي عن محمد بن إبراهيم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بين أبي عبيدة وسالم مولى أبي حذيفة.
وقال الواقدي: آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سعد بن معاذ وسعد بن أبي وقاص.
وبشأن أبي طلحة قال عن عاصم بن عمر بن قتادة قال: آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أبي طلحة وأرقم بن الارقم المخزومي (راجع طبقات ابن سعد 3 / 410 و 421 و 505).
(2) وأخرجه البخاري من حديث حماد بن زيد في 67 كتاب النكاح 56 باب كيف يدعى للمتزوج وأخرجه مسلم في 16 كتاب النكاح 12 باب الصداق.
(3) كذا في الاصل: ودع زعفران، وفي البيهقي ردع: بفتح الراء وسكون الدال: أثر الطيب.
(*)

(3/279)


أصيب ذهبا وفضة (1).
وتعليق البخاري هذا الحديث عن عبد الرحمن بن عوف غريب فإنه لا
يعرف مسندا إلا عن أنس اللهم إلا أن يكون أنس تلقاه عنه فالله أعلم.
وقال الامام أحمد: حدثنا يزيد، أخبرنا حميد عن أنس.
قال: قال المهاجرون يا رسول الله ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساة في قليل، ولا أحسن بذلا من كثير، لقد كفونا المؤونة وأشركونا في المهنأ، حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالاجر كله.
قال: " لا ! ما أثنيتم عليهم ودعوتم الله لهم " هذا حديث ثلاثي الاسناد على شرط الصحيحين ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة من هذا الوجه، وهو ثابت في الصحيح من (2).
وقال البخاري: أخبرنا الحكم بن نافع، أخبرنا شعيب ثنا أبو الزناد، عن الاعرج، عن أبي هريرة.
قال قالت الانصار: أقسم بيننا وبين إخواننا النخيل.
قال: لا.
قالوا أفتكفوننا المؤونة ونشرككم في الثمرة، قالوا سمعنا وأطعنا.
تفرد به.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للانصار " إن إخوانكم قد تركوا الاموال والاولاد وخرجوا إليكم " فقالوا أموالنا بيننا قطائع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أو غير ذلك ؟ " قالوا وما ذاك يا رسول الله ؟ قال: " هم قوم لا يعرفون العمل، فتكفونهم وتقاسمونهم الثمر ".
قالوا نعم ! وقد ذكرنا ما ورد من الاحاديث والآثار في فضائل الانصار وحسن سجاياهم عند قوله تعالى: (والذين تبوؤا الدار والايمان من قبلهم) الآية.