البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي
فصل في تحويل القبلة في سنة ثنتين من الهجرة قبل وقعة بدر
وقال بعضهم: كان ذلك في رجب من سنة ثنتين وبه قال قتادة وزيد بن أسلم
وهو رواية عن محمد بن إسحاق.
وقد روى أحمد عن ابن عباس ما يدل على ذلك وهو ظاهر حديث البراء بن عازب
كما سيأتي والله أعلم.
وقيل في شعبان منها.
قال ابن إسحاق بعد غزوة عبد الله بن جحش: ويقال صرفت القبلة (3) في
شعبان على رأس ثمانية عشر شهرا من مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) في الطبري: وقيل، متابعا السدي كلامه.
(2) دلائل النبوة 3 / 17.
(3) كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي إلى صخرة بيت المقدس، وكان أول
ما فرضت القبلة إليها والنبي صلى الله عليه وسلم بمكة، وكان يحب = (*)
(3/308)
المدينة.
وحكى هذا القول ابن جرير من طريق السدي فسنده عن ابن عباس وابن مسعود
وناس من الصحابة.
قال الجمهور الاعظم: إنما صرفت في النصف من شعبان على رأس ثمانية عشر
شهرا من الهجرة.
ثم حكى عن محمد بن سعد عن الواقدي أنها حولت يوم الثلاثاء النصف من
شعبان، وفي هذا التحديد نظر والله أعلم.
وقد تكلمنا على ذلك مستقصى في التفسير عند قوله تعالى: (قد نرى تقلب
وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث
ما كنتم فولوا وجوهكم شطره وأن الذين أورثوا الكتاب يعلمون أنه الحق من
ربهم وما الله بغافل عما تعملون) [ البقرة: 144 ].
وما قبلها وما بعدها من اعتراض سفهاء اليهود والمنافقين والجهلة الطغام
على ذلك لانه أول نسخ وقع في الاسلام هذا وقد أحال الله قبل ذلك في
سياق القرآن تقرير جواز النسخ عند قوله: (ما ننسخ من آية، أو ننسأها
(1) نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شئ قدير) وقد قال
البخاري: حدثنا أبو نعيم سمع زهيرا عن أبي إسحاق عن البراء أن النبي
صلى الله عليه وسلم صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا - أو سبعة عشر
شهرا - وكان يعجبه أن تكون قبلته إلى البيت، وأنه صلى أول صلاة صلاها
إلى الكعبة العصر وصلى معه قوم فخرج رجل ممن كان معه فمر على أهل مسجد
وهم راكعون فقال: أشهد بالله لقد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل
مكة فداروا كما هم قبل البيت، وكان الذي مات على القبلة قبل أن تحول
رجال قتلوا لم ندر ما نقول فيهم فأنزل الله: (وما كان ليضيع إيمانكم إن
الله بالناس لرؤف رحيم) [ البقرة: 143 ] رواه مسلم من وجه آخر (2).
وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو زرعة حدثنا الحسن بن عطية حدثنا إسرائيل
عن أبي إسحاق عن البراء.
قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صلى نحو بيت المقدس ستة عشر
- أو سبعة عشر - شهرا، وكان يحب أن يوجه نحو الكعبة فأنزل الله:
(قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد
الحرام) [ البقرة: 144 ].
قال فوجه نحو الكعبة وقال السفهاء من الناس - وهم اليهود - ما ولاهم عن
قبلتهم التي كانوا عليها.
فأنزل الله: (قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم)
وحاصل الامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي بمكة إلى بيت
المقدس والكعبة بين يديه كما رواه الامام أحمد عن ابن عباس رضي الله
عنه، فلما هاجر إلى المدينة لم يمكنه أن يجمع بينهما فصلى إلى بيت
المقدس أول مقدمه المدينة واستدبر الكعبة ستة عشر شهرا - أو سبعة شهرا
- وهذا (*) = استقبال الكعبة وكان يصلي بمكة ويجعل الكعبة بينه وبين
بيت المقدس، فلما هاجر إلى المدينة لم يمكنه ذلك.
وكان يؤثر أن يصرف إلى الكعبة فأمره الله أن يستقبل الكعبة.
(1) ننسأها: كذا في الاصل، وهي قراءة أبي عمرو، وصورتها في القرآن
الكريم: ننسها.
(2) أخرجه مسلم في (5) كتاب المساجد 2 باب ح 11 و 13 والبخاري في 8
كتاب الصلاة 31 باب التوجه نحو القبلة.
والحديث رواه الشافعي في الرسالة، وأخرجه مالك في الموطأ في 14 كتاب
القبلة (4) باب ما جاء في القبلة ح 6 ص 1 / 195.
(*)
(3/309)
يقتضي أن يكون
ذلك إلى رجب من السنة الثانية والله أعلم.
وكان عليه السلام يحب أن يصرف قبلته نحو الكعبة قبلة إبراهيم وكان يكثر
الدعاء والتضرع والابتهال إلى الله عزوجل فكان مما يرفع يديه وطرفه إلى
السماء سائلا ذلك فأنزل الله عزوجل: (قد نرى تقلب وجهك في السماء
فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام) الآية.
فلما نزل الامر بتحويل القبلة خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم
المسلمين وأعلمهم بذلك كما رواه النسائي عن أبي سعيد بن المعلى وأن ذلك
كان وقت الظهر.
وقال بعض الناس نزل تحويلها بين الصلاتين قاله مجاهد وغيره ويؤيد ذلك
ما ثبت في الصحيحين عن البراء أن أول صلاة صلاها عليه السلام إلى
الكعبة بالمدينة العصر والعجب أن أهل قباء لم يبلغهم خبر ذلك إلى صلاة
الصبح من اليوم الثاني كما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر.
قال: بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال: إن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قد
أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة، فاستقبلوها وكانت
وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة، وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك
نحو ذلك (1).
والمقصود أنه لما نزل تحويل القبلة إلى الكعبة ونسخ به الله تعالى حكم
الصلاة إلى بيت المقدس طعن طاعنون من السفهاء والجهلة والاغبياء قالوا
ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها هذا والكفرة من أهل الكتاب يعلمون
أن ذلك من الله لما يجدونه من صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتبهم من
أن المدينة مهاجره وأنه سيؤمر بالاستقبال إلى الكعبة كما قال: (وإن
الذين أورثوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم) الآية وقد أجابهم الله
تعالى مع هذا كله عن سؤالهم، ونعتهم فقال: (سيقول السفهاء من الناس ما
ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء
إلى صراط مستقيم) أي هو المالك المتصرف الحاكم الذي لا معقب لحكمه الذي
يفعل ما يشاء في خلقه ويحكم ما يريد في شرعه وهو الذي يهدي من يشاء إلى
صراط مستقيم ويضل من يشاء عن الطريق القويم وله في ذلك الحكمة التي يجب
لها الرضا والتسليم ثم قال تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) أي خيارا
(لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) أي وكما اخترنا
لكم أفضل الجهات في صلاتكم وهديناكم إلى قبلة أبيكم إبراهيم والد
الانبياء بعد التي كان يصلي بها موسى فمن قبله من المرسلين كذلك
جعلناكم خيار الامم وخلاصة العالم وأشرف الطوائف وأكرم التالد والطارف
لتكونوا يوم القيامة شهداء على الناس لاجماعهم عليكم وإشارتهم يومئذ
بالفضيلة إليكم كما ثبت في صحيح البخاري: عن أبي سعيد مرفوعا من
استشهاد نوح بهذه الامة يوم القيامة وإذا استشهد بهم نوح مع تقدم زمانه
فمن بعده بطريق الاولى والاحرى.
ثم قال تعالى مبينا حكمته في حلول نقمته بمن شك وارتاب بهذه الواقعة.
وحلول نعمته على من صدق وتابع هذه الكائنة.
فقال: (وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول).
قال ابن عباس: إلا لنرى من يتبع
__________
(1) فتح الباري 8 كتاب الصلاة 32 باب وفي مسلم 5 كتاب المساجد 2 باب
تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة ح 13.
(*)
(3/310)
الرسول ممن ينقلب على عقبيه، وإن كانت لكبيرة أي وإن كانت هذه الكائنة
العظيمة الموقع كبيرة المحل شديدة الامر إلا على الذي هدى الله أي فهم
مؤمنون بها مصدقون لها لا يشكون ولا يرتابون بل يرضون ويؤمنون ويعملون
لانهم عبيد للحاكم العظيم القادر المقتدر الحليم الخبير اللطيف العليم
وقوله: (وما كان الله ليضيع إيمانكم) أي بشرعته استقبال بيت المقدس
والصلاة إليه (إن الله بالناس لرؤف رحيم) والاحاديث والآثار في هذا
كثيرة جدا يطول استقصاؤها وذلك مبسوط في التفسير وسنزيد ذلك بيانا في
كتابنا الاحكام الكبير.
وقد روى الامام أحمد: حدثنا علي بن عاصم، حدثنا حصين بن عبد الرحمن، عن
عمرو بن قيس، عن محمد بن الاشعث، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم - يعني في أهل الكتاب -: " إنهم لم يحسدونا على شئ كما
يحسدوننا على يوم الجمعة التي هدانا الله إليها وضلوا عنها، وعلى
القبلة التي هدانا الله لها وضلوا، وعلى قولنا خلف الامام آمين ". |