البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي
باب ذكر أخلاقه وشمائله الطاهرة صلى الله عليه وسلم
قد قدمنا طيب أصله ومحتده، وطهارة نسبه ومولده، وقد قال الله تعالى: *
(الله أعلم حيث يجعل رسالته) * [ الانعام: 124 ].
وقال البخاري: حدثنا قتيبة، ثنا يعقوب بن عبد الرحمن، عن عمرو، عن سعيد
المقبري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " بعثت من
خير قرون بني آدم قرنا بعد قرن حتى كنت من القرن الذي كنت فيه " (3) *
وفي صحيح مسلم عن واثلة بن
الاسقع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله اصطفى قريشا
من بني إسماعيل، واصطفى بني هاشم من قريش، واصطفاني من بني هاشم " وقال
الله تعالى: * (ن والقلم وما يسطرون * ما أنت بنعمة ربك بمجنون * إن لك
لاجرا غير ممنون وإنك لعلى خلق عظيم) * [ القلم: 1 - 4 ] * قال العوفي
عن ابن عباس: في قوله تعالى - * (وإنك لعلى خلق عظيم) * يعني - وإنك
لعلى دين عظيم - وهو الاسلام * وهكذا قال مجاهد وابن مالك والسدي
والضحاك وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وقال عطية: لعلى أدب عظيم * وقد
ثبت في صحيح مسلم من حديث قتادة، عن زرارة بن [ أبي ] (4) أوفى عن سعد
بن هشام قال: سألت عائشة أم المؤمنين فقلت: أخبريني عن خلق رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فقالت: أما تقرأ القرآن ؟ قلت: بلى، فقالت: كان
خلقه القرآن * وقد روى الامام أحمد بن إسماعيل بن علية، عن يونس بن
عبيد، عن الحسن البصري قال: وسئلت عائشة عن خلق رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقالت: كان خلقه القرآن * وروى الامام أحمد عن عبد الرحمن بن
مهدي والنسائي من حديثه، وابن جرير من حديث ابن وهب كلاهما
__________
(1) من البخاري حديث 3542.
وفي الاصل: ياباي شبه النبي.
وأخرج البخاري الحديث في كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وآله
باب مناقب الحسن والحسين.
(2) في البيهقي 1 / 307: عمر.
(3) فتح الباري 6 / 566.
وهو صفة من صفاته صلى الله عليه وآله ولم يخرجه إلا البخاري.
(4) من مسلم، حديث (139) ص (512).
والحديث أخرجه أحمد في مسنده 6 / 54، 91، 111.
وأبو داود في الصلاة حديث 1342.
وابن ماجة في الاحكام حديث (2333) والنسائي في قيام الليل.
والحاكم في المستدرك 2 / 499 وابن حبان في صحيحه حديث (466).
(*)
(6/39)
عن معاوية بن
صالح، عن أبي الزاهرية عن جبير بن نفير قال: حججت فدخلت على عائشة
فسألتها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: كان خلقه القرآن *
ومعنى أنه عليه السلام مهما أمره به القرآن امتثله، ومهما نهاه عنه
تركه.
هذا ما جبله الله عليه من الاخلاق الجبلية الاصلية
العظيمة التي لم يكن أحد من البشر ولا يكون على أجمل منها، وشرع له
الدين العظيم الذي لم يشرعه لاحد قبله، وهو مع ذلك خاتم النبيين فلا
رسول بعده ولا نبي صلى الله عليه وسلم، فكان فيه من الحياء والكرم
والشجاعة والحلم والصفح والرحمة وسائر الاخلاق الكاملة ما لا يحد ولا
يمكن وصفه * وقال يعقوب بن سفيان: ثنا سليمان (1)، ثنا عبد الرحمن ثنا
الحسن بن يحيى، ثنا زيد بن واقد، عن بشر بن عبيد الله، عن أبي إدريس
الخولاني، عن أبي الدرداء قال: سألت عائشة عن خلق رسول الله صلى الله
عليه وسلم، فقالت: كان خلقه القرآن يرضى لرضاه ويسخط لسخطه * وقال
البيهقي: أنا أبو عبد الله الحافظ، أنا أحمد بن سهل الفقيه ببخارى، أنا
قيس بن أنيف، ثنا قتيبة بن سعيد، ثنا جعفر بن سليمان، عن أبي عمران عن
زيد بن بابنوس (2) قال: قلنا لعائشة يا أم المؤمنين كيف كان خلق رسول
الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت: كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم
القرآن ثم قالت: أتقرأ سورة المؤمنين ؟ إقرأ: قد أفلح المؤمنون، إلى
العشر.
قالت: هكذا كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم * وهكذا رواه النسائي
عن قتيبة * وروى البخاري من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن
الزبير في قوله تعالى: * (خذ العفو وأمر بالمعروف وأعرض عن الجاهلين) *
[ الاعراف: 199 ].
قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ العفو من أخلاق الناس *
وقال الامام أحمد: حدثنا سعيد بن منصور، ثنا عبد العزيز بن محمد، عن
محمد بن عجلان، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنما بعثت لاتمم صالح الاخلاق "
تفرد به أحمد.
ورواه الحافظ أبو بكر الخرائطي في كتابه فقال: وإنما بعثت لاتمم مكارم
الاخلاق * وتقدم ما رواه البخاري من حديث أبي إسحاق عن البراء بن عازب
قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجها، وأحسن الناس
خلقا * وقال مالك عن الزهري عن عروة عن عائشة أنها قالت: ما خير رسول
الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثما فإن
كان إثما كان أبعد الناس منه، وما انتقم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله
فينتقم لله بها (3) * ورواه البخاري ومسلم من حديث مالك * وروى مسلم عن
أبي كريب، عن أبي أسامة، عن هشام عن أبيه عن
__________
(1) في رواية البيهقي 1 / 309: سليمان بن عبد الرحمن.
(2) من البيهقي، وفي الاصل: بابنوس.
ويزيد بن بابنوس بصري روى عن عائشة وروى عنه أبو عمران الجوني.
ذكره ابن حبان في " الثقات " 5 / 548.
(3) الحديث رواه البخاري: فتح الباري 6 / 566، 10 / 524، 12 / 86.
ومسلم في الفضائل (ح: 77) ومالك في الموطا في كتاب حسن الخلق.
وأبو داود في الادب والترمذي في المناقب.
وأحمد في مسنده (6 / 85، 113، 114، 116، 209، 262).
(*)
(6/40)
عائشة قالت: ما
ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده شيئا قط لا عبدا ولا إمرأة ولا
خادما إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا نيل منه شئ فينتقم من صاحبه إلا
أن ينتهك شئ من محارم الله فينتقم لله عز وجل (1) * وقد قال الامام
أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أنا معمر.
عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: ما ضرب رسول الله صلى الله عليه
وسلم بيده خادما له قط ولا إمرأة، ولا ضرب بيده شيئا إلا أن يجاهد في
سبيل الله، ولا خير بين شيئين قط إلا كان أحبهما إليه أيسرهما، حتى
يكون إثما، فإذا كان إثما كان أبعد الناس من الاثم، ولا انتقم لنفسه من
شئ يؤتى إليه حتى تنتهك حرمات الله فيكون هو ينتقم لله عز وجل * وقال
أبو داود الطيالسي: ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، سمعت أبا عبد الله الجدلي
يقول: سمعت عائشة وسألتها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت:
لم يكن فاحشا ولا متفحشا، ولا سخابا في الاسواق، ولا يجزى بالسيئة
السيئة، ولكن يعفو ويصفح، أو قال يعفو ويغفر.
شك أبو داود (2) * ورواه الترمذي من حديث شعبة وقال: حسن صحيح * وقال
يعقوب بن سفيان: ثنا آدم وعاصم بن علي قالا: ثنا ابن أبي ذئب، ثنا صالح
مولى التوأمة قال: كان أبو هريرة ينعت رسول الله قال: كان يقبل جميعا
ويدبر جميعا بأبي وأمي لم يكن فاحشا ولا متفحشا ولا سخابا في الاسواق *
زاد آدم ولم أر مثله قبله ولم أر مثله بعده * وقال البخاري: ثنا عبدان،
عن أبي حمزة، عن الاعمش، عن أبي وائل، عن مسروق عن عبد الله بن عمرو
قال: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحشا ولا متفحشا وكان يقول: إن
من خياركم أحسنكم (3) أخلاقا * ورواه مسلم من حديث الاعمش به * وقد روى
البخاري من حديث فليح بن سليمان، عن هلال بن علي، عن عطاء بن يسار عن
عبد الله بن عمرو أنه قال: إن رسول الله موصوف بالتوراة بما هو موصوف
في القرآن، * (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا) * وحرزا
للاميين أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في
الاسواق: ولا يجزى بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح ولن يقبضه حتى يقيم
به الملة العوجاء بأن يقولوا: لا إله إلا الله ويفتح أعينا عميا،
وآذانا صما، وقلوبا غلفا " وقد روي عن عبد الله بن سلام وكعب الاحبار *
وقال البخاري: ثنا مسدد، ثنا يحيى، عن شعبة، عن قتادة، عن عبد الله بن
أبي عتبة، عن أبي سعيد قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم أشد حياء من
العذراء في خدرها (4) * حدثنا ابن بشار ثنا يحيى وعبد الرحمن قالا: ثنا
شعبة مثله وإذا كره
__________
(1) مسلم: كتاب الفضائل (ح: 79).
(2) مسند أحمد ج 6 / 236.
(3) في رواية مسلم: أحاسنكم.
والحديث فيه في الفضائل حديث 68 ص 1810.
ورواه البخاري: فتح الباري 6 / 566 و 7 / 102 و 10 / 452، 456.
(4) أخرجه البخاري فتح الباري 6 / 566 و 10 / 513، 521 ومسلم في
الفضائل (ح: 67) ص 1809 وابن ماجة في الزهد، والامام أحمد في المسند 3
/ 77، 79، 91، 92.
(*)
(6/41)
شيئا عرف ذلك
في وجهه، ورواه مسلم من حديث شعبة * وقال الامام أحمد: ثنا أبو عامر،
ثنا فليح، عن هلال بن علي، عن أنس بن مالك قال: لم يكن رسول الله صلى
الله عليه وسلم سبابا ولا لعانا ولا فاحشا، كان يقول لاحدنا عند
المعاتبة: ماله تربت جبينه.
ورواه البخاري عن محمد بن سنان عن فليح * وفي الصحيحين، واللفظ لمسلم:
من حديث حماد بن زيد، عن ثابت، عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم أحسن الناس وكان أجود الناس، وكان أشجع الناس، ولقد فزع أهل
المدينة ذات ليلة فانطلق ناس قبل الصوت، فتلقاهم رسول الله راجعا وقد
سبقهم إلى الصوت وهو على فرس لابي طلحة عرى في عنقه السيف وهو يقول: لم
تراعوا لم تراعوا، قال: وجدناه بحرا، أو إنه لبحر، قال وكان فرسا يبطأ
(1) * ثم قال مسلم: ثنا بكر بن أبي شيبة، ثنا وكيع،
عن سعيد، عن قتادة عن أنس قال: كان فزع بالمدينة فاستعار رسول الله صلى
الله عليه وسلم فرسا لابي طلحة يقال له مندوب فركبه فقال: ما رأينا من
فزع وإن وجدناه لبحرا، قال: كنا إذا اشتد البأس اتقينا برسول الله صلى
الله عليه وسلم * وقال أبو إسحاق السبيعي، عن حارثة بن مضرب، عن علي بن
أبي طالب قال: لما كان يوم بدر اتقينا المشركين برسول الله صلى الله
عليه وسلم وكان أشد الناس بأسا (2) * رواه أحمد والبيهقي * وتقدم في
غزوة هوزان أنه عليه السلام لما فر جمهور أصحابه يومئذ ثبت وهو راكب
بغلته وهو ينوه بإسمه الشريف يقول: أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد
المطلب، وهو مع ذلك يركضها إلى نحور الاعداء.
وهذا في غاية ما يكون من الشجاعة العظيمة والتوكل التام صلوات الله
عليه * وفي صحيح مسلم: من حديث إسماعيل ابن علية، عن عبد العزيز عن أنس
قال: لما قدم رسول الله المدينة أخذ أبو طلحة بيدي فانطلق بنا إلى رسول
الله فقال: يا رسول الله إن أنسا غلام كيس فليخدمك قال: فخدمته في
السفر والحضر، والله ما قال لي لشئ صنعته لم صنعت هذا هكذا ؟ ولا لشئ
لم أصنعه لم لم تصنع هذا هكذا ؟ * وله من حديث سعيد بن أبي بردة، عن
أنس قال: خدمت رسول الله تسع سنين فما أعلمه قال لي قط: لم فعلت كذا
وكذا ؟ ولا عاب علي شيئا قط * وله من حديث عكرمة بن عمار عن إسحاق قال
أنس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خلقا فأرسلني
يوما لحاجة فقلت: والله لا أذهب - وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به رسول
الله صلى الله عليه وسلم - فخرجت حتى أمر على صبيان وهم يلعبون في
السوق فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قبض بقفاي من ورائي قال:
فنظرت إليه وهو يضحك فقال: يا أنيس ذهبت حيث أمرتك ؟ فقلت: نعم أنا
أذهب يا رسول الله.
قال أنس: والله لقد خدمته تسع سنين ما علمته قال لشئ صنعته لم صنعت كذا
وكذا أو لشئ تركته هلا فعلت كذا وكذا * وقال الامام أحمد: ثنا كثير،
ثنا هشام، ثنا جعفر، ثنا عمران القصير، عن أنس بن مالك قال: خدمت النبي
صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما أمرني بأمر فتوانيت عنه أو ضيعته
فلامني، وإن لامني أحد من أهله إلا
__________
(1) فتح الباري 6 / 95 و 10 / 455، ومسلم في كتاب الفضائل (ح: 48) ص
1802.
(2) دلائل النبوة ج 1 / 324 ومسند أحمد ج 1 / 86.
(*)
(6/42)
قال: دعوه فلو
قدر - أو قال قضي - أن يكون كان * ثم رواه أحمد عن علي بن ثابت، عن
جعفر، هو ابن برقان، عن عمران البصري، وهو القصير، عن أنس فذكره، تفرد
به الامام أحمد * وقال الامام أحمد: ثنا عبد الصمد، ثنا أبي، ثنا أبو
التياح، ثنا أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس
خلقا وكان لي أخ يقال له أبو عمير (1)، قال: أحسبه قال: فطيما، قال:
فكان إذا جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآه قال: أبا عمير ما فعل
النغير، قال نغر كان يلعب به، قال: فربما تحضر الصلاة وهو في بيتنا
فيأمر بالبساط الذي تحته فيكنس ثم ينضح ثم يقوم رسول الله صلى الله
عليه وسلم ونقوم خلفه يصلي بنا، قال: وكان بساطهم من جريد النخل * وقد
رواه الجماعة إلا أبا داود من طرق عن أبي التياح، يزيد بن حميد، عن أنس
بنحوه * وثبت في الصحيحين: من حديث الزهري، عن عبيدالله بن عبد الله بن
عتبة، عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس،
وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، فلرسول
الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة (2) * وقال
الامام أحمد: حدثنا أبو كامل، ثنا حماد بن زيد، ثنا سلم العلوي، سمعت
أنس بن مالك: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى على رجل صفرة فكرهها قال
فلما قام قال: لو أمرتم هذا أن يغسل عنه هذه الصفرة.
قال: وكان لا يكاد يواجه أحدا بشئ يكرهه * وقد رواه أبو داود والترمذي
في الشمائل، والنسائي في اليوم والليلة من حديث حماد بن زيد عن سلم بن
قيس العلوي البصري.
قال أبو داود: وليس من ولد علي بن أبي طالب، وكان يبصر في النجوم، وقد
شهد عند عدي بن أرطأة على رؤية الهلال فلم يجز شهادته * وقال أبو داود:
ثنا عثمان ابن أبي شيبة، ثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني، ثنا الاعمش،
عن مسلم، عن مسروق، عن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا
بلغه عن رجل شئ لم يقل ما بال فلان يقول ولكن يقول: ما بال أقوام
يقولون كذا وكذا * وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: لا يبلغني أحد عن أحد شيئا، إني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم
الصدر * وقال مالك: عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك
قال: كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم وعليه برد غليظ الحاشية،
فأدركه أعرابي فجبذ
بردائه جبذا شديدا، حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله صلى الله عليه
وسلم فإذا قد أثرت بها حاشية البرد من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد مر
لي من مال الله الذي عندك، قال: فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه
وسلم
__________
(1) أبو عمير زيد بن سهل بن أبي طلحة الانصاري وهو أخو أنس بن مالك
لامه، أمهما أم سليم مات على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله.
والحديث رواه البخاري في الادب.
فتح الباري 9 / 572 و 10 / 526.
ومسلم في الادب (5) باب وأبو داود في الادب ح (4969) والترمذي في
الصلاة ح 333 وقال: حسن صحيح.
وابن ماجة في الادب ح 3720.
وأحمد في المسند 3 / 115، 119، 188، 190، 201.
(2) أخرجه البخاري فتح الباري 1 / 30، 4 / 116، 6 / 566، 9 / 43، 10 /
445 ومسلم في الفضائل ح (50) ص 1803 والنسائي في باب الفضل.
وأحمد في المسند 1 / 231.
(*)
(6/43)
فضحك ثم أمر له
بعطاء (1).
أخرجاه من حديث مالك * وقال الامام أحمد: ثنا زيد بن الحباب، أخبرني
محمد بن هلال القرشي، عن أبيه أنه سمع أبا هريرة يقول: كنا مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فلما قام قمنا معه فجاء أعرابي
فقال: اعطني يا محمد، فقال: لا وأستغفر الله، فجذبه بحجزته فخدشه، قال:
فهموا به فقال: دعوه قال ثم أعطاه، قال: فكانت يمينه: لا وأستغفر الله،
وقد روى أصل هذا الحديث أبو داود والنسائي وابن ماجة من طرق عن محمد بن
هلال بن أبي هلال مولى بني كعب، عن أبيه عن أبي هريرة بنحوه * وقال
يعقوب بن سفيان: ثنا عبيدالله ابن موسى، عن شيبان، عن الاعمش، عن ثمامة
بن عقبة عن زيد بن أرقم قال: كان رجل من الانصار يدخل على رسول الله
صلى الله عليه وسلم ويأتمنه، وأنه عقد له عقدا وألقاه في بئر، فصرع (2)
ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه ملكان يعودانه، فأخبراه أن
فلانا عقد له عقدا وهي في بئر فلان، ولقد اصفر الماء من شدة عقده،
فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم فاستخرج العقد، فوجد الماء قد اصفر فحل
العقد، ونام النبي صلى الله عليه وسلم، فلقد رأيت الرجل بعد ذلك يدخل
على النبي صلى الله عليه وسلم فما رأيته في وجه النبي صلى الله عليه
وسلم حتى مات (3) * قلت والمشهور في الصحيح: أن لبيد بن الاعصم اليهودي
هو الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم في
مشط ومثاقة في جف طلعة ذكر تحت بئر ذروان، وأن الحال استمر نحو ستة
أشهر أنزل الله سورتي المعوذتين ويقال: إن آياتهما إحدى عشرة آية وأن
عقد ذلك الذي سحر فيه كان إحدى عشرة عقدة، وقد بسطنا ذلك في كتابنا
التفسير بما فيه كفاية والله أعلم * وقال يعقوب بن سفيان: ثنا أبو
نعيم، ثنا عمران بن زيد أبو يحيى الملائي، ثنا زيد العمي، عن أنس بن
مالك قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صافح أو صافحه الرجل،
لا ينزع يده من يده حتى يكون الرجل ينزع يده، وإن استقبله بوجه لا
يصرفه عنه حتى يكون الرجل ينصرف عنه، ولا يرى مقدما ركبتيه بين يدي
جليس له (4) * ورواه الترمذي وابن ماجة من حديث عمران بن زيد الثعلبي
أبي يحيى الطويل الكوفي عن زيد بن الحواري العمي عن أنس به * وقال أبو
داود: ثنا أحمد بن منيع، ثنا أبو قطن، ثنا مبارك بن فضالة، عن ثابت
البناني، عن أنس بن مالك قال: ما رأيت رجلا قط التقم أذن النبي صلى
الله عليه وسلم فينحي رأسه حتى يكون الرجل هو الذي ينحي رأسه، وما رأيت
رسول الله آخذا بيده رجل فترك يده حتى يكون الرجل هو الذي يدع يده (5).
تفرد به أبو داود * قال الامام أحمد: وحدثنا محمد بن جعفر وحجاج قالا:
ثنا شعبة قال ابن جعفر في حديثه قال:
__________
(1) أخرجه البخاري فتح الباري 6 / 251 و 10 / 275 وفي كتاب الادب (68)
باب.
ومسلم في كتاب الزكاة ح 128.
وأخرجه أبو داود في الادب.
والنسائي في القسامة.
وأحمد في المسند 3 / 153، 210.
(2) في رواية البيهقي: فصدع.
(2) الخبر في دلائل النبوة للبيهقي 1 / 319 وأخرجه الذهبي في التاريخ
وابن سعد في الطبقات 2 / 199.
(4) رواه البيهقي في الدلائل 1 / 320 والترمذي في الزهد، وقال: غريب.
وأخرجه ابن ماجة في الادب.
(5) أخرجه أبو داود في الادب باب في حسن العشرة ح 4794.
(*)
(6/44)
سمعت علي بن
يزيد قال قال: أنس بن مالك إن كانت الوليدة من ولائد أهل المدينة لتجئ
فتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فما ينزع يده من يدها حتى تذهب
به حيث شاءت * ورواه ابن ماجة من حديث شعبة، وقال الامام أحمد: ثنا
هشيم، ثنا حميد عن أنس بن مالك قال: إن كانت الامة
من أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنطلق به في
حاجتها * وقد رواه البخاري في كتاب الادب من صحيحه معلقا فقال: وقال
محمد بن عيسى هو ابن الطباع: ثنا هشيم فذكره * وقال الطبراني: ثنا أبو
شعيب الحراني، ثنا يحيى بن عبد الله البابلتي، ثنا أيوب بن نهيك، سمعت
عطاء بن أبي رباح، سمعت ابن عمر، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
رأى صاحب بز فاشترى منه قميصا بأربعة دراهم فخرج وهو عليه فإذا رجل من
الانصار فقال: يا رسول الله اكسني قميصا كساك الله من ثياب الجنة فنزع
القميص فكساه إياه ثم رجع إلى صاحب الحانوت فاشترى منه قميصا بأربعة
دراهم وبقي معه درهمان، فإذا هو بجارية في الطريق تبكي فقال: ما يبكيك
؟ فقالت: يا رسول الله دفع إلي أهلي درهمين أشتري بهما دقيقا فهلكا،
فدفع إليها رسول الله الدرهمين الباقيين ثم انقلب وهو تبكي فدعاها فقال
ما يبكيك وقد أخذت الدرهمين ؟ فقالت: أخاف أن يضربوني، فمشى معها إلى
أهلها فسلم فعرفوا صوته ثم عاد فسلم ثم عاد فسلم ثم عاد فثلث فردوا،
فقال: أسمعتم أول السلام ؟ قالوا: نعم ولكن أحببنا أن تزيدنا من السلام
فما أشخصك بأبينا وأمنا، فقال: أشفقت هذه الجارية أن تضربوها، فقال
صاحبها: هي حرة لوجه الله لممشاك معها، فبشرهم رسول الله بالخير
والجنة.
ثم قال: لقد بارك الله في العشرة: كسا الله نبيه قميصا ورجلا من
الانصار قميصا وأعتق الله منها رقبة وأحمد الله هو الذي رزقنا هذا
بقدرته * هكذا رواه الطبراني وفي إسناده أيوب بن نهيك الحلبي وقد ضعفه
أبو حاتم، وقال أبو زرعة منكر الحديث، وقال الازدي متروك * وقال الامام
أحمد: ثنا عفان، ثنا حماد، عن ثابت، عن أنس: أن إمرأة كان في عقلها شئ
فقالت: يا رسول الله إن لي حاجة، فقال: يا أم فلان انظري أي الطرق شئت،
فقام معها يناجيها حتى قضت حاجتها (1)، وهكذا رواه مسلم من حديث حماد
بن سلمة * وثبت في الصحيحين من حديث الاعمش عن أبي حازم عن أبي هريرة
قال: ما عاب رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما قط إن اشتهاه أكله
وإلا تركه * وقال الثوري عن الاسود بن قيس عن شيخ العوفي (2) عن جابر
قال: أتانا رسول الله في منزلنا فذبحنا له شاة فقال: كأنهم علموا أنا
نحب اللحم الحديث، وقال محمد بن إسحاق عن يعقوب ابن عتبة، عن عمر بن
عبد العزيز، عن يوسف بن عبد الله بن سلام عن أبيه قال: كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم إذا جلس
__________
(1) رواه مسلم في الفضائل ح (76) ص 1812.
وأحمد في مسنده 3 / 285.
(2) قال في هامش النسخة المطبوعة: " لعله شقيق الكوفي، وهو شقيق بن
سلمة الاسدي أبو وائل الكوفي أحد سادة التابعين، وقد أخذ عنه الاسود بن
قيس.
محمود الامام ".
(*)
(6/45)
يتحدث، كثيرا
ما يرفع طرفه إلى السماء (3)، وهكذا رواه أبو داود في كتاب الادب من
سننه من حديث محمد بن إسحاق به * وقال أبو داود: حدثنا سلمة بن شعيب،
ثنا عبد الله بن إبراهيم، ثنا إسحاق بن محمد الانصاري، عن ربيح بن عبد
الرحمن، عن أبيه عن جده أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم كان إذا جلس احتبى بيده * ورواه البزار في مسنده ولفظه: كان إذا
جلس نصب ركبتيه واحتبى بيديه، ثم قال أبو داود: ثنا حفص بن عمر وموسى
بن إسماعيل قالا: ثنا عبد الرحمن بن حسان العنبري، حدثني جدتاي صفية
ودحيبة ابنتا عليبة قال موسى ابنة حرملة وكانتا ربيبتي قيلة بنت مخرمة
وكانت جدة أبيهما أنها أخبرتهما أنها رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهو قاعد القرفصاء قالت: فلما رأيت رسول الله المتخشع في الجلسة أرعدت
من الفرق * ورواه الترمذي في الشمائل وفي الجامع عن عبد بن حميد، عن
عفان بن مسلم بن عبد الله بن حسان به.
وهو قطعة من حديث طويل قد ساقه الطبراني بتمامه في معجمه الكبير * وقال
البخاري: ثنا الحسن بن الصباح البزار، ثنا سفيان عن الزهري، عن عروة،
عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان يحدث حديثا لوعده العاد
لاحصاه.
قال البخاري: وقال الليث: حدثني يونس، عن ابن شهاب أخبرني عروة بن
الزبير عن عائشة أنها قالت: ألا أعجبك أبو فلان جاء فجلس إلى جانب
حجرتي يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمعني ذلك وكنت أسبح فقام
قبل أن أقضي سبحتي ولو أدركته لرددت عليه إن رسول الله صلى الله عليه
وسلم لم يكن يسرد الحديث كسردكم * وقد رواه أحمد: عن علي بن إسحاق،
ومسلم عن حرملة، وأبو داود عن سليمان بن داود كلهم عن ابن وهب عن يونس
بن يزيد به، وفي روايتهم: ألا أعجبك من أبي هريرة فذكرت نحوه * وقال
الامام أحمد: حدثنا وكيع، عن
سفيان، عن أسامة، عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: كان كلام النبي صلى
الله عليه وسلم فصلا يفهمه كل أحد لم يكن يسرد سردا * وقد رواه أبو
داود عن ابن أبي شيبة عن وكيع * وقال أبو يعلى: ثنا عبد الله بن محمد
بن أسماء، ثنا عبد الله بن مسعر، حدثني شيخ أنه سمع جابر بن عبد الله -
أو ابن عمر - يقول: كان في كلام النبي صلى الله عليه وسلم ترتيل أو
ترسيل (2) * وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا عبد الله بن
المثنى، عن ثمامة، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا
تكلم بكلمة رددها ثلاثا وإذا أتى قوما يسلم عليهم سلم ثلاثا، ورواه
البخاري من حديث عبد الصمد * وقال أحمد: ثنا أبو سعيد بن أبي مريم، ثنا
عبد الله بن المثنى، سمعت ثمامة بن أنس يذكر أن أنسا كان إذا تكلم تكلم
ثلاثا ويذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان إذا تكلم تكلم ثلاثا،
وكان يستأذن ثلاثا وجاء في الحديث الذي رواه الترمذي: عن عبد الله بن
المثنى، عن ثمامة، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا
تكلم يعيد الكلمة ثلاثا لتعقل عنه، ثم قال الترمذي حسن صحيح غريب * وفي
الصحيح أنه قال: أوتيت جوامع الكلم وأختصر الحكم اختصارا * قال الامام
أحمد
__________
(1) سنن أبي داود - كتاب الادب حديث 4837.
ودلائل البيهقي 1 / 321.
(2) سنن أبي داود - كتاب الادب حديث 4838.
(*)
(6/46)
حدثنا حجاج،
حدثنا ليث، حدثني عقيل بن خالد عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أن أبا
هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: بعثت بجوامع
الكلم، ونصرت بالرعب، وبينا أنا نائم أوتيت بمفاتيح خزائن الارض فوضعت
في يدي (1)، وهكذا رواه البخاري من حديث الليث * وقال أحمد: حدثنا
إسحاق بن عيسى، ثنا ابن لهيعة عن عبد الرحمن الاعرج عن أبي هريرة قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نصرت بالرعب، وأوتيت جوامع الكلم،
وبينا أنا نائم أتيت بمفاتيح خزائن الارض فوضعت في يدي (2) * تفرد به
أحمد من هذا الوجه، وقال أحمد: حدثنا يزيد، ثنا محمد بن عمرو، عن أبي
سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم نصرت بالرعب،
وأوتيت جوامع الكلم، وجعلت لي الارض مسجدا وطهورا، وبينا أنا نائم أتيت
بمفاتيح خزائن الارض فتلت في يدي، تفرد به أحمد من هذا الوجه وهو على
شرط مسلم * وثبت في الصحيحين: من حديث ابن وهب، عن عمرو بن الحرث،
حدثني أبو النضر، عن سليمان بن يسار، عن عائشة قالت: ما رأيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم مستجمعا ضاحكا حتى أرى منه لهواته إنما كان يتبسم
(3) * وقال الترمذي: ثنا قتيبة، ثنا ابن لهيعة عن عبد الله بن المغيرة
عن عبد الله بن الحرث بن جزء قال: ما رأيت أحدا أكثر تبسما من رسول
الله صلى الله عليه وسلم * ثم رواه من حديث الليث، عن يزيد بن أبي
حبيب، عن عبد الله بن الحرث بن جزء قال: ما كان ضحك رسول الله صلى الله
عليه وسلم إلا تبسما، ثم قال صحيح * وقال مسلم: ثنا يحيى بن يحيى، ثنا
أبو خيثمة، عن سماك بن حرب قلت لجابر بن سمرة: أكنت تجالس رسول الله
صلى الله عليه وسلم ؟ قال: نعم كثيرا كان لا يقوم من مصلاه الذي يصلي
فيه الصبح حتى تطلع الشمس [ فإذا طلعت الشمس ] (4) قام، وكانوا يتحدثون
فيأخذون في أمر الجاهلية فيضحكون ويتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم
* وقال أبو داود الطيالسي: ثنا شريك وقيس بن سعد، عن سماك بن حرب، قال:
قلت لجابر بن سمرة: أكنت تجالس النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال: نعم
كان قليل الصمت، قليل الضحك فكان أصحابه ربما يتناشدون الشعر عنده
وربما قال الشئ من أمورهم فيضحكون وربما يتبسم * وقال الحافظ أبو بكر
البيهقي: أنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد بن أبي عمرو، قالا: ثنا
أبو العباس: محمد بن يعقوب، ثنا محمد بن إسحاق، أنا أبو عبد الرحمن
المقري، ثنا الليث بن سعد، عن الوليد بن أبي الوليد أن سليمان بن خارجة
أخبره عن خارجة بن زيد - يعني ابن ثابت - أن نفرا دخلوا على أبيه
فقالوا: حدثنا عن
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه 1 / 371 والبخاري في الجهاد - باب (122).
وأحمد في مسنده: 2 / 264، 455.
(2) مسند أحمد ج 2 / 268، 314، ؟ ؟ 4.
(3) أخرجه البخاري في كتاب التفسير فتح الباري 8 / 578 وكتاب الادب 10
/ 504.
ومسلم في الاستسقاء ص (616) وأبو داود في الادب حديث 5098 والامام أحمد
في المسند 6 / 66.
(4) سقطت من الاصل واستدركت من صحيح مسلم 1 / 463.
(*)
(6/47)
بعض أخلاق رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فقال: كنت جاره فكان إذا نزل الوحي بعث إلي
فأتيه فأكتب الوحي، وكنا إذا ذكرنا الدنيا ذكرها معنا، وإذا ذكرنا
الآخرة ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الطعام ذكره معنا.
فكل هذا نحدثكم عنه (1) * ورواه الترمذي في الشمائل عن عباس الدوري عن
أبي عبد الرحمن، عن عبد الله بن يزيد المقري به نحوه.
كرمه عليه السلام
تقدم ما أخرجاه في الصحيحين من طريق الزهري عن عبيد الله بن عبد الله،
عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان
أجود ما يكون في شهر رمضان حين يلقاه جبريل بالوحي فيدارسه القرآن
فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة، وهذا
التشبيه في غاية ما يكون من البلاغة في تشبيهه الكرم بالريح المرسلة في
عمومها وتواترها وعدم انقطاعها * وفي الصحيحين من حديث سفيان بن سعيد
الثوري، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله قال: ما سئل رسول
الله صلى الله عليه وسلم شيئا قط فقال لا (2) * وقال الامام أحمد:
حدثنا ابن أبي عدي، عن حميد، عن موسى بن أنيس، عن أنس أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم لم يسأل شيئا على الاسلام إلا أعطاه، قال: فأتاه رجل
فأمر له بشاء كثير بين جبلين من شاء الصدقة، قال: فرجع إلى قومه فقال:
يا قوم اسلموا فإن محمدا يعطي عطاء ما يخشى الفاقة (3).
ورواه مسلم عن عاصم بن النضر عن خالد بن الحارث عن حميد * وقال أحمد:
ثنا عفان، ثنا حماد، ثنا ثابت، عن أنس أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه
وسلم فأعطاه غنما بين جبلين فأتى قومه فقال: يا قوم اسلموا، فإن محمدا
يعطي عطاء ما يخلف الفاقة، فإن كان الرجل ليجئ إلى رسول الله ما يريد
إلا الدنيا، فما يمسي حتى يكون دينه أحب إليه وأعز عليه من الدنيا وما
فيها * ورواه مسلم من حديث حماد بن سلمة به.
وهذا العطاء ليؤلف به قلوب ضعيفي القلوب في الاسلام، ويتألف آخرين
ليدخلوا في الاسلام كما فعل يوم حنين حين قسم تلك الاموال الجزيلة من
الابل والشاء والذهب والفضة في المؤلفة، ومع هذا لم يعط الانصار وجمهور
المهاجرين شيئا، بل أنفق فيمن كان يحب أن يتألفه على الاسلام، وترك
أولئك لما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير، وقال مسليا لمن سأل عن
وجه الحكمة في هذه القسمة لمن عتب من جماعة الانصار: أما ترضون أن يذهب
الناس بالشاء والبعير، وتذهبون برسول الله تحوزونه إلى رحالكم ؟ قالوا:
رضينا يا رسول الله * وهكذا أعطى عمه العباس بعدما أسلم حين جاءه ذلك
المال من البحرين فوضع بين يديه في المسجد رجاء العباس فقال: يا رسول
الله اعطني فقد فاديت نفسي يوم بدر وفاديت عقيلا، فقال: خذ، فنزع ثوبه
عنه وجعل
__________
(1) دلائل النبوة للبيهقي ج 1 / 324 والترمذي في الشمائل.
تحفة الاشراف للمزي (3 / 213).
(2) أخرجه البخاري في الادب.
ومسلم في فضائل النبي.
والترمذي في الشمائل عن بندار عن ابن مهدي.
(3) مسند أحمد 1 / 231 ومسلم في الفضائل ص (1803) والنسائي 4 / 125 في
باب الفضل والجود.
(*)
(6/48)
يضع فيه من ذلك
المال ثم قام ليقله فلم يقدر فقال لرسول الله: ارفعه علي، قال: لا
أفعل، فقال: مر بعضهم ليرفعه علي، فقال: لا، فوضع منه شيئا ثم عاد فلم
يقدر فسأله أن يرفعه أو أن يأمر بعضهم برفعه فلم يفعل، فوضع منه ثم
احتمل الباقي وخرج به من المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتبعه
بصره عجبا من حرصه * قلت: وقد كان العباس رضي الله عنه رجلا شديدا
طويلا نبيلا، فأقل ما احتمل شئ يقارب أربعين ألفا والله أعلم * وقد
ذكره البخاري في صحيحه في مواضع معلقا بصيغة الجزم وهذا يورد في مناقب
العباس لقوله تعالى: * (يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الاسرى إن
يعلم الله في قلوبكم خيرا ويؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم والله
غفور رحيم) * [ الانفال: 70 ] * وقد تقدم عن أنس بن مالك خادمه عليه
السلام أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وأشجع
الناس، الحديث * وكيف لا يكون كذلك وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم
المجبول على أكمل الصفات، الواثق بما في يدي الله عز وجل، الذي أنزل
الله عليه في محكم كتابه العزيز: * (وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله
ولله ميراث السموات والارض) * الآية * وقال تعالى: * (وما أنفقتم من شئ
فهو يخلفه وهو خير الرازقين) * [ سبأ: 39 ] وهو عليه السلام القائل
لمؤذنه بلال وهو الصادق المصدوق في الوعد والمقال: " أنفق بلال ولا تخش
من
ذي العرش إقلالا " وهو القائل عليه السلام " ما من يوم تصبح العباد فيه
إلا وملكان يقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعط
ممسكا تلفا " وفي الحديث الآخر أنه قال لعائشة: " لا توعي فيوعي الله
عليك، ولا توكي فيوكي الله عليك " * وفي الصحيح أنه عليه السلام قال:
يقول الله تعالى: * (ابن آدم أنفق أنفق عليك) * فكيف لا يكون أكرم
الناس وأشجع الناس، وهو المتوكل الذي لا أعظم منه في توكله، الواثق
برزق الله ونصره، المستعين بربه في جميع أمره ؟ ثم قد كان قبل بعثته
وبعدها وقبل هجرته، ملجأ الفقراء والارامل، والايتام والضعفاء،
والمساكين، كما قال عمه أبو طالب فيما قدمناه من القصيدة المشهورة وما
ترك قوم لا أبالك سيدا * يحوط الذمار غير ذرب موكل وأبيض يستسقي الغمام
بوجهه * ثمال اليتامى عصمة للارامل يلوذ به الهلال من آل هاشم * فهم
عنده في نعمة وفواضل ومن تواضعه ما روى الامام أحمد من حديث حماد بن
سلمة عن ثابت زاد النسائي - وحميد عن أنس - أن رجلا قال لرسول الله صلى
الله عليه وسلم يا سيدنا وابن سيدنا، فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: يا أيها الناس قولوا بقولكم ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد بن
عبد الله ورسوله، والله ما أحب أن ترفعوني فوق ما رفعني الله * وفي
صحيح مسلم عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله لا تطروني كما أطرت
النصارى عيسى بن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله * وقال
الامام أحمد: حدثنا يحيى عن شعبة، حدثني الحكم عن إبراهيم عن الاسود
قال: قلت لعائشة: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع في أهله ؟
قالت: كان في مهنة أهله، فإذا حضرت الصلاة خرج إلى
(6/49)
الصلاة (1) *
وحدثنا وكيع ومحمد بن جعفر قالا: حدثنا شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم عن
الاسود قال: قلت لعائشة: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع إذا دخل
بيته ؟ قالت: كان يكون في مهنة أهله، فإذا حضرت الصلاة خرج فصلى *
ورواه البخاري عن آدم عن شعبة * وقال الامام أحمد: حدثنا عبدة، ثنا
هشام بن عروة عن رجل قال: سئلت عائشة: ما كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم
يصنع في بيته ؟ قالت: كان يرقع الثوب ويخصف النعل ونحو هذا، وهذا منقطع
من هذا الوجه * وقد قال عبد الرزاق: أنا معمر عن الزهري عن عروة وهشام
بن عروة عن أبيه قال: سأل رجل عائشة هل كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم يعمل في بيته ؟ قالت: نعم، كان يخصف نعله، ويخيط ثوبه كما يعمل
أحدكم في بيته (2) * رواه البيهقي فاتصل الاسناد * وقال البيهقي: أنا
أبو الحسين بن بشران، أنا أبو جعفر محمد بن عمرو بن البختري (3) -
إملاء - حدثنا محمد بن إسماعيل السلمي، حدثنا أبو (4) صالح، حدثني
معاوية بن صالح، عن يحيى بن سعيد عن عمرة قالت: قلت (5) لعائشة: ما كان
يعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته ؟ قالت: كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم بشرا من البشر، يفلي ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه *
ورواه الترمذي في الشمائل عن محمد بن إسماعيل عن عبد الله بن صالح، عن
معاوية بن صالح، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة قالت: قيل لعائشة ما كان
يعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته الحديث * وروى ابن عساكر من
طريق أبي أسامة، عن حارثة بن محمد الانصاري عن عمرة قالت: قلت لعائشة:
كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في أهله ؟ قالت: كان ألين الناس،
وأكرم الناس، وكان ضحاكا بساما * وقال أبو داود الطيالسي: ثنا شعبة،
حدثني مسلم أبو عبد الله الاعور، سمع أنسا يقول: كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم يكثر الذكر ويقل اللغو، ويركب الحمار، ويلبس الصوف،
ويجيب دعوة المملوك، ولو رأيته يوم خيبر على حمار خطامه من ليف * وفي
الترمذي وابن ماجة من حديث مسلم بن كيسان الملائي عن أنس بعض ذلك *
وقال البيهقي: أنا أبو عبد الله الحافظ - إملاء - ثنا أبو بكر محمد بن
جعفر الآدمي القاري ببغداد، ثنا عبد الله بن أحمد بن إبراهيم الدروري
(6)، ثنا أحمد بن نصر بن مالك الخزاعي، ثنا علي بن الحسين بن واقد، عن
أبيه قال: سمعت يحيى بن عقيل يقول: سمعت عبد الله بن أبي أوفى يقول:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر الذكر، ويقل اللغو، ويطيل
الصلاة،
__________
(1) مسند أحمد 6 / 49، 126، 206.
والبخاري في الاذان.
فتح الباري 2 / 162 وفي النفقات 9 / 507.
وفي الادب.
فتح الباري 10 / 461.
والترمذي في صفة القيامة حديث 2489 وقال هذا حديث صحيح.
(2) مسند أحمد 6 / 121، 167، 260.
(3) في نسخ البداية المطبوعة: البحتري تحريف.
(4) في دلائل البيهقي 1 / 328، وفي نسخ البداية المطبوعة: " ابن صالح
".
(5) في البيهقي: قيل.
(6) في البيهقي: الدروقي.
(*)
(6/50)
ويقصر الخطبة،
ولا يستنكف أن يمشي مع العبد، ولا مع الارملة، حتى يفرغ لهم من حاجاتهم
(1) * ورواه النسائي عن محمد بن عبد العزيز، عن أبي زرعة، عن الفضل بن
موسى، عن الحسين بن واقد، عن يحيى بن عقيل الخزاعي البصري عن ابن أبي
أوفى بنحوه * وقال البيهقي: أنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو بكر:
إسماعيل بن محمد بن إسماعيل الفقيه بالري، ثنا أبو بكر محمد بن الفرج
الازرق، ثنا هاشم بن القاسم، ثنا شيبان أبو معاوية، عن أشعث بن أبي
الشعثاء عن أبي بردة عن أبي موسى (2) قال: كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم يركب الحمار، ويلبس الصوف، ويعتقل الشاة، ويأتي مراعاة الضيف،
وهذا غريب من هذا الوجه، ولم يخرجوه وإسناده جيد * وروى محمد بن سعد،
عن إسماعيل بن أبي فديك، عن موسى بن يعقوب الزمعي (3)، عن سهل مولى
عتيبة (4)، أنه كان نصرانيا من أهل مريس (5)، وأنه كان في حجر عمه،
وأنه قال: قرأت يوما في مصحف (6) لعمي، فإذا فيه ورقة بغير الخط وإذا
فيها نعت محمد، صلى الله عليه وسلم: لا قصير ولا طويل أبيض ذو ضفيرتين،
بين كتفيه خاتم، يكثر الاحتباء، ولا يقبل الصدقة، ويركب الحمار
والبعير، ويحتلب الشاة، ويلبس قميصا مرقوعا، ومن فعل ذلك فقد برئ من
الكبر، وهو من ذرية إسماعيل إسمه أحمد.
قال: فلما جاء عمي ورآني قد قرأتها ضربني وقال: مالك وفتح هذه، فقلت:
إن فيها نعت أحمد، فقال: إنه لم يأت بعد * وقال الامام أحمد: ثنا
إسماعيل، ثنا أيوب، عن عمرو، عن سعيد، عن إنس قال: ما رأيت أحدا كان
أرحم بالعيال من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر الحديث، ورواه
مسلم عن زهير بن حرب عن إسماعيل بن علية به * وقال الترمذي في الشمائل:
ثنا محمود بن غيلان، ثنا أبو داود عن شعبة عن الاشعث بن سليم،
[ قال ] سمعت عمتي تحدث عن عمها قال: بينا أنا أمشي بالمدينة إذا إنسان
خلفي يقول: ارفع إزارك فأنه أنقى وأبقى، [ فنظرت ] فإذا هو رسول الله،
فقلت: يا رسول الله إنما هي بردة ملحاء، قال: أمالك في أسوة ؟ فإذا
إزاره إلى نصف ساقيه * ثم قال: ثنا سويد بن نصر، ثنا عبد الله بن
المبارك، عن موسى بن عبيدة عن إياس بن سلمة عن أبيه قال: كان عثمان بن
عفان متزرا إلى أنصاف ساقيه قال: هكذا كانت أزرة صاحبي صلى الله عليه
وسلم * وقال أيضا: ثنا يوسف بن عيسى، ثنا
__________
(1) دلائل النبوة ج 1 / 329.
وأخرجه النسائي في الصلاة تحفة الاشراف 4 / 290.
والحاكم في المستدرك 2 / 614 وقال: " هذا حديث صحيح على شرط الشيخين
ولم يخرجاه ".
(2) في البيهقي 1 / 329: عن أبي بردة قال:...(3) من ابن سعد 1 / 363
وفي الاصل الربعي.
(4) من ابن سعد، وفي الاصل عتبة.
(5) مريس: لعلها المريسة كما في معجم البلدان قال: وهي جزيرة في بلاد
النوبة.
(6) في ابن سعد: وانه كان يقرأ الانجيل، قال: فأخذت مصحفا لعمي
فقرأته...حتى مرت بي ورقة، فأنكرت كتابتها حين مرت بي ومسستها بيدي،
قال: فنظرت فإذا فصول الورقة ملصق بغراء، قال: ففتقتها فإذا فيها نعت
محمد صلى الله عليه وآله:..الطبقات 1 / 363.
(*)
(6/51)
وكيع، ثنا
الربيع بن صبيح، ثنا يزيد بن أبان، عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم يكثر القناع، كأن ثوبه ثوب زيات، وهذا فيه غرابة
ونكارة.
والله أعلم * وروى البخاري، عن علي بن الجعد، عن شعبة، عن [ سيار بن
الحكم ] (1) عن ثابت عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على
صبيان يلعبون فسلم عليهم * ورواه مسلم من وجه آخر عن شعبة.
مزاحه عليه السلام
وقال ابن لهيعة: حدثني عمارة بن غزية، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي
طلحة عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أفكه الناس مع
صبي (2) * وقد تقدم حديثه في ملاعبته أخاه أبا
عمير، وقوله أبا عمير ما فعل النغير، يذكره بموت نغر كان يلعب به
ليخرجه (3) بذلك كما جرت به عادة الناس من المداعبة مع الاطفال الصغار
* وقال الامام أحمد: ثنا خلف بن الوليد، ثنا خالد بن عبد الله، عن حميد
الطويل، عن أنس بن مالك: أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم
فاستحمله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا حاملوك على ولد ناقة،
فقال: يا رسول الله ما أصنع بولد ناقة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: وهل تلد الابل إلا النوق (4) ؟ * ورواه أبو داود عن وهب بن بقية،
والترمذي عن قتيبة كلاهما عن خالد بن عبد الله الواسطي الطحان به، وقال
الترمذي صحيح غريب * وقال أبو داود في هذا الباب: ثنا يحيى بن معين،
ثنا حجاج بن محمد، ثنا يونس بن أبي إسحاق، عن أبي إسحاق، عن العيزار بن
حريث (5)، عن النعمان بن بشير قال: استأذن أبو بكر على النبي صلى الله
عليه وسلم فسمع صوته عائشة عاليا على رسول الله، فلما دخل تناولها
ليلطمها وقال: ألا أراك ترفعين صوتك على رسول الله !، فجعل النبي صلى
الله عليه وسلم يحجزه، وخرج أبو بكر مغضبا، فقال رسول الله حين خرج أبو
بكر: كيف رأيتيني أنقذتك من الرجل ؟ فمكث أبو بكر أياما ثم استأذن على
رسول الله فوجدهما قد اصطلحا.
فقال لهما: أدخلاني في سلمكما كما أدخلتماني في حربكما، فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: قد فعلنا قد فعلنا * وقال أبو داود: ثنا مؤمل بن
الفضل، ثنا الوليد بن مسلم، عن عبد الله بن العلاء عن بشر بن عبيد
الله، عن أبي إدريس الخولاني عن عوف بن مالك الاشجعي قال: أتيت رسول
الله في غزوة تبوك وهو في قبة من أدم.
فسلمت فرد وقال: ادخل، فقلت: أكلي يا رسول الله فقال: كلك، فدخلت *
وحدثنا صفوان بن صالح، ثنا الوليد بن
__________
(1) من البخاري ومسلم، وفي الاصل يسار أبي الحكم تحريف.
أخرجه البخاري في كتاب الاستئذان - باب التسليم على الصبيان.
ومسلم في السلام ص (1708).
(2) رواه البيهقي في الدلائل 1 / 331.
(3) لعلها ليمازحه.
(4) سنن أبي داود - باب ما جاء في المزاح حديث 4998.
(5) من سنن أبي داود: حديث 4999، وفي الاصل حرب.
(*)
(6/52)
عثمان بن أبي
العاتكة (1) إنما قال: " أدخل كلي " من صغر القبة * ثم قال أبو داود:
ثنا إبراهيم بن مهدي، ثنا شريك عن عاصم عن أنس قال: قال لي رسول الله
صلى الله عليه وسلم يا ذا الاذنين * قلت: ومن هذا القبيل ما رواه
الامام أحمد: ثنا عبد الرزاق، ثنا معمر، عن ثابت، عن أنس أن رجلا من
أهل البادية كان إسمه زاهرا وكان يهدي النبي صلى الله عليه وسلم الهدية
من البادية، فيجهزه النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج، فقال
رسول الله: إن زاهرا باديتنا ونحن حاضروه، وكان رسول الله صلى الله
عليه وسلم يحبه، وكان رجلا دميما فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهو يبيع متاعه فاحتضنه من خلفه ولا يبصره الرجل، فقال: أرسلني، من هذا
؟ فالتفت فعرف النبي صلى الله عليه وسلم فجعل لا يألو ما ألصق ظهره
بصدر النبي صلى الله عليه وسلم حين عرفه، وجعل رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول: من يشتري العبد فقال: يا رسول الله إذن والله تجدني كاسدا،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن عند الله لست بكاسد أو قال: لكن
عند الله أنت غال * وهذا إسناد رجاله كلهم ثقات على شرط الصحيحين ولم
يروه إلا الترمذي في الشمائل عن إسحاق بن منصور عن عبد الرزاق * ورواه
ابن حبان في صحيحه عن (2)...ومن هذا القبيل ما رواه البخاري من صحيحه
أن رجلا كان يقال له عبد الله - ويلقب حمارا - وكان يضحك النبي صلى
الله عليه وسلم، وكان يؤتى به في الشراب، فجئ به يوما فقال رجل: لعنه
الله ما أكثر ما يؤتى به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا
تلعنه فإنه يحب الله ورسوله " * ومن هذا ما قال الامام أحمد: ثنا حجاج،
حدثني شعبة عن ثابت البناني عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه
وسلم كان في مسير وكان حاد يحدو بنسائه أو سائق، قال: فكان نساؤه
يتقدمن بين يديه، فقال: يا أنجشة ويحك، ارفق بالقوارير * وهذا الحديث
في الصحيحين عن أنس، قال: كان للنبي صلى الله عليه وسلم حاد يحدو
بنسائه يقال له أنجشة، فحدا فأعنقت الابل، فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: ويحك يا أنجشة ارفق بالقوارير، ومعنى القوارير النساء وهي
كلمة دعابة صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين.
ومن مكارم أخلاقه ودعابته وحسن خلقه استماعه عليه السلام حديث أم زرع
من عائشة بطوله، ووقع في بعض الروايات أنه عليه السلام هو الذي قصه على
عائشة * ومن هذا ما رواه
الامام أحمد: ثنا أبو النضر، ثنا أبو عقيل - يعني عبد الله بن عقيل
الثقفي - به، حدثنا مجالد بن سعيد، عن عامر عن مسروق، عن عائشة قالت:
حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه ذات ليلة حديثا، فقالت إمرأة
منهن، يا رسول الله كان الحديث حديث خرافة، فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: أتدرين ما خرافة ؟ إن خرافة كان رجلا من عذرة أسرته الجن في
الجاهلية، فمكث فيهم دهرا طويلا، ثم ردوه إلى الانس، فكان يحدث الناس
بما رأى فيهم من الاعاجيب، فقال الناس: حديث خرافة * وقد رواه الترمذي
في الشمائل عن الحسن بن الصباح البزار، عن أبي النضر
__________
(1) من أبي داود حديث 5001 وفي الاصل العالية.
(2) بياض بنسخة دار الكتب.
(*)
(6/53)
هاشم بن القاسم
به * قلت: وهو من غرائب الاحاديث وفية نكارة.
ومجالد بن سعيد يتكلمون فيه فالله أعلم * وقال الترمذي في باب خراج
النبي صلى الله عليه وسلم عن كتابه الشمائل: ثنا عبد بن حميد، ثنا مصعب
بن القدام، ثنا المبارك بن فضالة عن الحسن قال: أتت عجوز النبي صلى
الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله أدع لي أن يدخلني الله الجنة، قال:
يا أم فلان إن الجنة لا يدخلها عجوز، فولت العجوز تبكي، فقال أخبروها
أنها لا تدخلها وهي عجوز فإن الله تعالى يقول * (إنا أنشأناهن إنشاء
فجعلناهن أبكارا) * [ الواقعة: 35 ] وهذا مرسل من هذا الوجه * وقال
الترمذي: ثنا عباس ابن محمد الدوري، ثنا علي بن الحسن بن شقيق، ثنا عبد
الله بن المبارك، عن أسامة بن زيد، عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال:
قالوا يا رسول الله إنك تداعبنا، قال: إني لا أقول إلا حقا.
تداعبنا - يعني تمازحنا - وهكذا رواه الترمذي في جامعه في باب البر
بهذا الاسناد ثم قال: وهذا حديث مرسل حسن *
باب زهده عليه السلام وإعراضه عن هذه الدار
قال الله تعالى: * (ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة
الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى) * [ طه: 131 ] وقال
تعالى: * (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم
بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة
الدنيا ولا تطع من أغفلنا قبله عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا) *
[ الكهف: 28 ] وقال تعالى: * (فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا
الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم) * [ النجم: 29 ] وقال: * (ولقد
آتيناك سبعا من المثانى والقرآن العظيم لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به
أزواجا منهم ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين) * والآيات في هذا
كثيرة.
وأما الاحاديث، فقال يعقوب بن سفيان: حدثني أبو العباس حيوة بن شريح،
أنا بقية (1) عن الزبيدي، عن الزهري عن محمد بن عبد الله بن عباس قال:
كان ابن عباس يحدث أن الله أرسل إلى نبيه ملكا من الملائكة معه جبريل،
فقال الملك لرسوله: " إن الله يخيرك بين أن تكون عبدا نبيا وبين أن
تكون ملكا نبيا " فالتفت رسول الله إلى جبريل كالمستشير له، فأشار
جبريل إلى رسول الله: أن تواضع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل
أكون عبدا نبيا، قال، فما أكل بعد تلك الكلمة طعاما متكئا حتى لقي الله
عز وجل (2) * وهكذا رواه البخاري في التاريخ عن حيوة بن شريح، وأخرجه
النسائي عن عمرو بن
__________
(1) بقية: وهو بقية بن الوليد.
الزبيدي: وهو محمد بن الوليد بن عامر الحافظ الامام الحجة القاضي أبو
الهذيل الزبيدي قاضي حمص ولد في خلافة عبد الملك.
(2) رواه البخاري في التاريخ الكبير (1 / 1 / 124) وابن أبي حاتم،
وأحمد في مسنده عن أبي هريرة 2 / 231.
(*)
(6/54)
عثمان كلاهما
عن بقية بن الوليد به، وأصل هذا الحديث في الصحيح بنحو من هذا اللفظ *
وقال الامام أحمد: حدثنا محمد بن فضيل، عن عمارة، عن أبي زرعة - ولا
أعلمه إلا عن أبي هريرة - قال: جلس جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم فنظر إلى السماء، فإذا ملك ينزل، فقال جبريل: إن هذا الملك ما نزل
منذ يوم خلق قبل الساعة، فلما نزل قال: يا محمد أرسلني إليك ربك:
أفملكا نبيا يجعلك أو عبدا رسولا (1) * هكذا وجدته بالنسخة التي عندي
بالمسند مقتصرا وهو من إفراده من هذا الوجه * وثبت في الصحيحين: من
حديث ابن عباس، عن عمر بن الخطاب في حديث
إيلاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من أزواجه أن لا يدخل عليهن شهرا
واعتزل عنهن في علية، فلما دخل عليه عمر في تلك العلية فإذا ليس فيها
سوى صبرة من قرظ، وأهبة معلقة، وصبرة من شعير، وإذا هو مضطجع على رمال
حصير قد أثر في جنبه، فهملت عينا عمر، فقال: مالك، فقلت: يا رسول الله
أنت صفوة الله من خلقه، وكسرى وقيصر فيما هما فيه، فجلس محمرا وجهه
فقال: أو في شك أنت يا ابن الخطاب ؟ ثم قال: أولئك قوم عجلت له طيباتهم
في حياتهم الدنيا.
وفي رواية لمسلم أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة ؟ فقلت: بلى
يا رسول الله، قال: فاحمد الله عز وجل، ثم لما انقضى الشهر أمره الله
عز وجل أن يخير أزواجه وأنزل عليه قوله: * (يا أيها النبي قل لازواجك
إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا
جميلا وإن كنت تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات
منكن أجرا عظيما) * [ الاحزاب: 28 - 29 ].
وقد ذكرنا هذا مبسوطا في كتابنا التفسير وأنه بدأ بعائشة، فقال لها:
إني ذاكر لك أمرا فلا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك، وتلا عليها
هذه الآية، قالت: فقلت أفي هذا أستأمر أبوي ؟ فإني أختار الله ورسوله
والدار الآخرة، وكذلك قال سائر أزواجه عليه السلام ورضي عنهن (2) *
وقال مبارك بن فضالة، عن الحسن، عن أنس قال: دخلت على رسول الله صلى
الله عليه وسلم وهو على سرير مزمول بالشريط، وتحت رأسه وسادة من أدم
حشوها ليف، ودخل عليه عمر وناس من الصحابة فانحرف رسول الله انحرافة،
فرأى عمر أثر الشريط في جنبه فبكى، فقال له: ما يبكيك يا عمر ؟ قال:
ومالي لا أبكي وكسرى وقيصر يعيشان فيما يعيشان فيه من الدنيا، وأنت على
الحال الذي أرى، فقال: يا عمر، أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا
الآخرة ؟ قال: بلى، قال: هو كذلك.
هكذا رواه البيهقي (3) * وقال الامام أحمد: [ حدثنا أبو النضر ] ثنا
مبارك، عن الحسن، عن أنس بن مالك قال: دخلت على رسول الله وهو على سرير
مضطجع مزمل بشريط، وتحت قدمي رأسه وسادة من أدم حشوها ليف فدخل عليه
نفر من أصحابه، ودخل عمر فانحرف رسول الله انحرافة فلم ير عمر بين جنبه
وبين الشريط ثوبا وقد أثر الشريط
__________
(1) وتمامه: قال جبريل: تواضع لربك يا محمد، قال: بل عبدا رسولا.
(2) أخرجه البخاري في النكاح فتح الباري 9 / 278.
ومسلم في الطلاق حديث 35 ص 1113.
(3) دلائل البيهقي 1 / 337، وانظر الحاشية السابقة.
(*)
(6/55)
بجنب رسول
الله، فبكى عمر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يبكيك يا
عمر ؟ قال والله ما أبكي ألا أكون أعلم أنك أكرم على الله من كسرى
وقيصر وهما يعيشان في الدنيا فيما يعيشان فيه ؟ وأنت يا رسول الله في
المكان الذي أرى، فقال رسول الله: أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا
الآخرة ؟ قال: بلى، قال، فإنه كذلك (1) * وقال أبو داود الطيالسي، ثنا
المسعودي عن عمرو بن مرة، عن إبراهيم، عن علقمة عن مسعود قال: اضطجع
رسول الله على حصير، فأثر الحصير بجلده، فجعلت أمسحه وأقول بأبي أنت
وأمي إلا آذنتنا فنبسط لك شيئا يقيك منه تنام عليه ؟ فقال: مالي
وللدنيا، ما أنا والدنيا [ إنما أنا والدنيا ] (2) كراكب استظل تحت
شجرة ثم راح وتركها * ورواه ابن ماجة عن يحيى بن حكيم عن أبي داود
الطيالسي به.
وأخرجه الترمذي عن موسى بن عبد الرحمن الكندي عن زيد بن الحباب كلاهما
عن المسعودي به.
وقال الترمذي حسن صحيح * وقد رواه الامام أحمد من حديث ابن عباس، فقال:
حدثنا عبد الصمد وأبو سعيد وعفان قالوا: ثنا ثابت، ثنا هلال عن عكرمة
عن ابن عباس أن رسول الله دخل عليه عمر وهو على حصير قد أثر في جنبه،
فقال: يا رسول الله لو اتخذت فراشا، أوثر من هذا، فقال: مالي وللدنيا
ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف فاستظل تحت شجرة ساعة
من نهار ثم راح وتركها (3) * تفرد به أحمد * وفي صحيح البخاري: من حديث
الزهري، عن عبيد الله (4) بن عبد الله بن عتبة عن أبي هريرة أن رسول
الله قال: لو أن لي مثل أحد ذهبا ما سرني أن تأتي علي ثلاث ليال وعندي
منه شئ، إلا شئ أرصده لدين * وفي الصحيحين من حديث عمارة بن القعقاع،
عن أبي زرعة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اللهم
اجعل رزق آل محمد قوتا (5) * فأما الحديث الذي رواه ابن ماجة من حديث
يزيد بن سنان، عن ابن المبارك، عن عطاء عن أبي سعيد أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال: اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة
المساكين، فإنه حديث ضعيف لا يثبت من جهة إسناده لان فيه يزيد بن سنان
أبا فروة الرهاوي وهو ضعيف جدا.
والله أعلم * وقد رواه الترمذي من وجه آخر فقال: حدثنا عبد الاعلى بن
واصل الكوفي: ثنا ثابت بن محمد العابد الكوفي، حدثنا الحارث بن النعمان
الليثي، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اللهم أحيني
مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين يوم القيامة،
__________
(1) أخرجه أحمد في مسنده ج 3 / 140.
(2) من ابن ماجة حديث (4109)، وفي الاصل إلا كراكب.
والحديث أخرجه الترمذي في الزهد رقم (2377).
(3) أخرجه أحمد في مسنده ج 1 / 441.
(4) من البخاري فتح الباري 11 / 264، وفي الاصل عبد الله تحريف.
(5) أخرجه البخاري في الرقاق فتح الباري 11 / 283 ومسلم في الزهد (ح:
18) صفحة (2281) وفي الزكاة: ص (730).
وأخرجه الترمذي، وابن ماجة في الزهد.
وأحمد في المسند 2 / 232، 446.
(*)
(6/56)
فقالت عائشة:
لم يا رسول الله ؟ قال: إنهم يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بأربعين خريفا
يا عائشة لا تردي المسكين ولو بشق تمرة.
يا عائشة حبي المساكين وقربيهم فإن الله يقربك يوم القيامة * ثم قال:
هذا حديث غريب * قلت: وفي إسناده ضعف وفي متنه نكارة والله أعلم * وقال
الامام أحمد: حدثنا عبد الصمد، [ قال حد ] ثنا أبو عبد الرحمن - يعني -
عبد الله بن دينار، عن أبي حازم، عن سعيد بن سعد أنه قيل له: هل رأى
النقى بعينه - يعني الحوارى - فقال له ما رأى رسول الله النقى بعينه
حتى لقي الله عز وجل، فقيل له: هل كانت لكم مناخل على عهد رسول الله ؟
فقال: ما كانت لنا مناخل، فقيل له: فكيف كنتم تصنعون بالشعير ؟ قال:
ننفخه فيطير [ منه ] ما طار * وهكذا رواه الترمذي من حديث عبد الرحمن
بن عبد الله بن دينار به وزاد ثم نذريه ونعجنه، ثم قال حسن صحيح * وقد
رواه مالك عن أبي حازم.
قلت: وقد رواه البخاري عن سعيد بن أبي مريم، عن محمد بن مطرف بن غسان
المدني، عن أبي حازم عن
سهل بن سعد به، ورواه البخاري أيضا والنسائي عن شيبة، عن يعقوب بن عبد
الرحمن القاري، عن أبي حازم عن سهل به، وقال الترمذي: حدثنا عباس بن
محمد الدوري، ثنا يحيى بن أبي بكير، ثنا جرير بن عثمان، عن سليم بن
عامر سمعت أبا أمامة يقول: ما كان يفضل عن أهل بيت رسول الله صلى الله
عليه وسلم خبز الشعير، ثم قال: حسن صحيح غريب * وقال الامام أحمد: ثنا
يحيى بن سعيد، عن يزيد بن كيسان، حدثني أبو حازم قال: رأيت أبا هريرة
يشير بأصبعه مرارا: والذي نفسي أبي هريرة بيده ما شبع نبي الله وأهله
ثلاثة أيام تباعا من خبز حنطة حتى فارق الدنيا، ورواه مسلم والترمذي
وابن ماجة من حديث يزيد بن كيسان * وفي الصحيحين: من حديث جرير بن عبد
الحميد، عن منصور، عن إبراهيم، عن الاسود عن عائشة قالت: ما شبع آل
محمد صلى الله عليه وسلم منذ قدموا المدينة ثلاثة أيام تباعا من خبز بر
حتى مضى لسبيله (1) * وقال الامام أحمد: حدثنا هاشم، ثنا محمد بن طلحة،
عن إبراهيم، عن الاسود عن عائشة قالت: ما شبع آل محمد ثلاثا من خبز بر
حتى قبض وما رفع من مائدته كسرة قط حتى قبض * وقال أحمد: ثنا محمد بن
عبيد، ثنا مطيع الغزال عن كردوس عن عائشة قالت: قد مضى رسول الله
لسبيله وما شبع أهله ثلاثة أيام من طعام بر * وقال الامام أحمد: ثنا
حسن، ثنا زويد، عن أبي سهل عن سليمان بن رومان - مولى عروة - عن عروة
عن عائشة أنها قالت: والذي بعث محمدا بالحق ما رأى منخلا ولا أكل خبزا
منخولا منذ بعثه الله [ عز وجل ] إلى أن قبض.
قلت: كيف كنتم تأكلون الشعير ؟ قالت: كنا نقول أف (2) * تفرد به أحمد
من هذا الوجه * وروى البخاري: عن محمد بن كثير، عن الثوري، عن عبد
الرحمن بن عابس بن ربيعة، عن
__________
(1) أخرجه البخاري في الاطعمة فتح الباري 9 / 549، وفي الرقاق فتح
الباري 11 / 282.
ومسلم في الزهد: صفحة (2281).
والنسائي في الضحايا.
وابن ماجة في الاطعمة.
(2) هذا الحديث وما قبله في مسند أحمد 2 / 92، 434 و 4 / 442 و 6 /
128، 156، 187، 255، 277.
(*)
(6/57)
أبيه عن عائشة
قالت: إن كنا لنخرج الكراع (1) بعد خمسة عشر يوما فنأكله، قلت: ولم
تفعلون
ذلك ؟ فضحكت وقالت: ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم من خبز مأدوم
حتى لحق بالله عز وجل * وقال أحمد: ثنا يحيى، ثنا هشام، أخبرني أبي عن
عائشة قالت: كان يأتي على آل محمد الشهر ما يوقدون فيه نارا ليس إلا
التمر والماء إلا أن يؤتى باللحم * وفي الصحيحين: من حديث هشام بن
عروة، عن أبيه عن عائشة أنها قالت: إن كنا آل محمد ليمر بنا الهلال ما
نوقد نارا إنما هو الاسودان، التمر والماء إلا أنه كان حولنا أهل دور
من الانصار يبعثون إلى رسول الله بلبن منائحهم فيشرب ويسقينا من ذلك
اللبن (2) * ورواه أحمد عن بريدة، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة عنها
بنحوه * وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الله، حدثني أبي، ثنا حسين، ثنا
محمد بن مطرف، عن أبي حازم عن عروة بن الزبير أنه سمع عائشة تقول: كان
يمر بنا هلال وهلال ما يوقد في بيت من بيوت رسول الله صلى الله عليه
وسلم نار، قال قلت: يا خالة على أي شئ كنتم تعيشون ؟ قالت: على
الاسودين التمر والماء تفرد به أحمد * وقال أبو داود الطيالسي: عن
شعبة، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن الاسود عن عائشة قالت:
ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خبز شعير يومين متتابعين حتى
قبض (3)، وقد رواه مسلم من حديث شعبة.
وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الله، حدثني أبي، ثنا بهز، ثنا سليمان بن
المغيرة، عن حميد بن هلال قال: قالت عائشة: أرسل إلينا آل أبي بكر
بقائمة شاة ليلا فأمسكت وقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قالت:
أمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقطعت قالت - تقول للذي تحدثه - هذا
على غير مصباح وفي رواية لو كان عندنا مصباح لا تدمنا به، قال: قالت
عائشة: إنه ليأتي على آل محمد الشهر ما يختبزون خبزا ولا يطبخون قدرا،
وقد رواه أيضا عن بهز بن أسد، عن سليمان بن المغيرة، وفي رواية شهرين
تفرد به أحمد * وقال الامام أحمد: ثنا خلف، ثنا أبو معشر، عن سعيد - هو
ابن أبي سعيد - عن أبي هريرة قال: كان يمر بآل رسول الله هلال ثم هلال
لا يوقدون في بيوتهم النار لا بخبز ولا بطبخ، قالوا: بأي شئ كانوا
يعيشون يا أبا هريرة ؟ قال: الاسودان التمر والماء، وكان لهم جيران من
الانصار جزاهم الله خيرا لهم منائح يرسلون إليهم شيئا من لبن، تفرد به
أحمد * وفي صحيح مسلم من حديث منصور بن عبد الرحمن الحجبي، عن أمه، عن
عائشة
قالت: توفي رسول الله وقد شبع الناس من الاسودين: التمر والماء (4) *
وقال ابن ماجة: حدثنا سويد بن سعيد، ثنا علي بن مسهر، عن الاعمش، عن
أبي صالح، عن أبي هريرة قال: أتي
__________
(1) أخرجه البخاري في الاطعمة فتح الباري 9 / 552 و 563.
والترمذي في الاضاحي: ح (1511) وابن ماجة في الاطعمة ح: 3313.
والكراع: طعام، مستدق الساق.
(2) أخرجه البخاري في الرقاق ومسلم في الزهد وأحمد في المسند 6 / 108.
(3) رواه البيهقي في الدلائل 1 / 343.
ومسلم في الزهد: ح (22) ص (2282).
(4) صحيح مسلم - كتاب الزهد حديث (30) ص (2283).
(*)
(6/58)
رسول الله صلى
الله عليه وسلم يوما بطعام سخن فأكل فلما فرغ قال: (الحمد لله) ما دخل
بطني طعام سخن منذ كذا وكذا (1) * وقال الامام أحمد: ثنا عبد الصمد،
ثنا [ عمار ] أبو هاشم صاحب الزعفراني، عن أنس بن مالك: أن فاطمة ناولت
رسول الله صلى الله عليه وسلم كسرة من خبز الشعير فقال، هذا أول طعام
أكله أبوك منذ ثلاثة أيام (2)، تفرد به أحمد * وروى الامام أحمد عن
عفان والترمذي وابن ماجة جميعا عن عبد الله بن معاوية كلاهما عن ثابت
بن يزيد، عن هلال بن خباب العبدي الكوفي، عن عكرمة، عن ابن عباس أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبيت الليالي المتتابعة طاويا وأهله
لا يجدون عشاء، وكان عامة خبزهم خبز الشعير، وهذا لفظ أحمد * وقال
الترمذي في الشمائل: ثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، ثنا عمر بن
حفص بن غياث، عن أبيه، عن محمد بن أبي يحيى الاسلمي، عن يزيد، عن أبي
أمية الاعور، عن أبي يوسف بن عبد الله بن سلام قال: رأيت رسول الله أخذ
كسرة من [ خبز ال ] شعير فوضع عليها تمرة، وقال: هذه إدام هذه وأكل *
وفي الصحيحين من حديث الزهري عن عروة عن عائشة قالت: كان أحب الشراب
إلى رسول الله الحلو البارد * وروى البخاري من حديث قتادة عن أنس قال:
ما أعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رغيفا مرققا حتى لحق بالله،
ولا شاة سميطا بعينه قط (3) * وفي رواية له عنه أيضا: ما أكل رسول الله
صلى الله عليه وسلم على خوان ولا سكرجة ولا خبز له مرقق، فقلت لانس:
فعلى ما كانوا يأكلون ؟
قال: على السفر (4) * وله من حديث قتادة أيضا عن أنس: أنه مشى إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم بخبز شعير وإهالة (5) سنخة ولقد رهن درعه من
يهودي فأخذ لاهله شعيرا، ولقد سمعته ذات يوم يقول: ما أمسى عند آل محمد
صاع تمر ولا صاع حب * وقال الامام أحمد: ثنا عفان، ثنا أبان بن يزيد،
ثنا قتادة عن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجتمع
له غداء ولا عشاء من خبز ولحم إلا على ضفف * ورواه الترمذي في الشمائل
عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، عن عفان، وهذا الاسناد على شرط
الشيخين * وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا شعبة، عن سماك بن حرب، سمعت
النعمان بن بشير يقول: سمعت عمر بن الخطاب يخطب فذكر ما فتح الله على
الناس، فقال: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلتوي من الجوع ما
يجد من من الدقل ما يملا بطنه (6)،
__________
(1) ابن ماجة في الزهد حديث 4150 وفي الزوائد قال: اسناد حسن، وسويد
مختلف فيه.
(2) في مسند الامام أحمد 3 / 213.
(3) الحديث أخرجه البخاري في الرقاق فتح الباري 11 / 282، وفي الاطعمة
(باب) شاة مسموطة.
الكتف.
وابن ماجة في الاطعمة ح (3339).
والامام أحمد في المسند 3 / 128، 130.
(4) أخرجه البخاري في الاطعمة فتح الباري 9 / 530 وفي الرقاق 11 / 273،
والترمذي في الاطعمة ح (1788) وابن ماجة في الاطعمة.
والامام أحمد في المسند 3 / 120.
(5) الاهالة: الودك كما في الصحاح.
وقال الخليل: هي الالية تقطع ثم تذاب.
والسنخة: المتغيرة الطعم والرائحة من طول الزمان.
(6) صحيح مسلم - كتاب الزهد.
ح (34) ص (2284).
الدقل: التمر الردئ.
(*)
(6/59)
وأخرجه مسلم من
حديث شعبة * وفي الصحيح أن أبا طلحة قال: يا أم سليم، لقد سمعت صوت
رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرف فيه الجوع، وسيأتي الحديث في دلائل
النبوة وفي قصة أبي الهيثم بن التيهان: أن أبا بكر وعمر خرجا من الجوع
فبينما هما كذلك إذ خرج رسول الله، فقال: ما أخرجكما ؟ فقالا: الجوع،
فقال: والذي نفسي بيده لقد أخرجني الذي أخرجكما، فذهبوا إلى
حديقة الهيثم بن التيهان فأطعمهم رطبا وذبح لهم شاة فأكلوا وشربوا
الماء البارد، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا من النعيم الذي
تسألون عنه * وقال الترمذي: ثنا عبد الله بن أبي زياد، ثنا سيار، ثنا
يزيد بن أسلم عن يزيد بن أبي منصور، عن أنس عن أبي طلحة قال: شكونا إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع ورفعنا عن بطوننا عن حجر حجر، فرفع
رسول الله صلى الله عليه وسلم [ عن بطنه ] عن حجرين، ثم قال غريب *
وثبت في الصحيحين من حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أنها سئلت
عن فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: كان من أدم حشوه ليف (1)
* وقال الحسن بن عرفة: ثنا عباد بن عباد المهلبي، عن مجالد بن سعيد، عن
الشعبي، عن مسروق عن عائشة قالت: دخلت علي إمرأة من الانصار، فرأت فراش
رسول الله عباءة مثنية، فانطلقت فبعثت إلي بفراش حشوة الصوف، فدخل علي
رسول الله فقال: ما هذا يا عائشة ؟ قالت: قلت: يا رسول الله: فلانة
الانصارية دخلت علي فرأت فراشك فذهبت فبعثت إلي بهذا فقال: رديه قالت:
فلم أرده وأعجبني أن يكون في بيتي، حتى قال ذلك ثلاث مرات، قالت: فقال
رديه يا عائشة فو الله لو شئت لا جرى الله معي جبال الذهب والفضة (2) *
وقال الترمذي في الشمائل: حدثنا أبو الخطاب زياد بن يحيى البصري، ثنا
عبد الله بن مهدي، ثنا جعفر بن محمد، عن أبيه قال: سئلت عائشة ما كان
فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتك ؟ قالت: من أدم حشوه ليف،
وسئلت حفصة ما كان فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت: مسحا
نثنيه ثنيتين فينام عليه، فلما كان ذات ليلة قلت: لو ثنيته بأربع ثنيات
كان أوطأ له، فثنيناه له بأربع ثنيات، فلما أصبح قال " ما فرشتم لي
الليلة ؟ قالت: قلنا هو فراشك إلا أنا ثنيناه بأربع ثنيات قلنا هو أوطأ
لك، قال: ردوه لحالته الاولى، فإنه منعتني وطأته صلاتي الليلة * وقال
الطبراني: حدثنا محمد بن أبان الاصبهاني، حدثنا محمد بن عبادة الواسطي،
حدثنا يعقوب بن محمد الزهري، حدثنا محمد بن إبراهيم، حدثنا ابن لهيعة،
عن أبي الاسود، عن عروة عن حكيم بن حزام قال: خرجت إلى اليمن فابتعت
حلة ذي يزن فأهديتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فردها، فبعتها
فاشتراها فلبسها ثم خرج على أصحابه وهي عليه فما رأيت شيئا أحسن منه
فيها، فما ملكت نفسي أن قلت:
ما ينظر الحكام بالفضل بعدما * بدا واضح من غرة وحجول (3)
__________
(1) أخرجه البخاري في الرقاق ح 6456.
ومسلم في اللباس ح 37 ص 1650.
(2) رواه البيهقي في الدلائل من طريق اسماعيل الصفار ج 1 / 345.
(3) الغرة: بياض في الجبهة.
والحجول والتحجيل: بياض في القوائم.
(*)
(6/60)
إذا قايسوه
الجد أربى عليهم * بمستفرع ماض الذباب سجيل (1) فسمعها النبي صلى الله
عليه وسلم فالتفت إلي يتبسم ثم دخل فكساها أسامة بن زيد * وقال الامام
أحمد: حدثه [ حسين بن ] علي، عن زائدة عن عبد الملك بن عمير [ قال:
حدثني ] ربعي بن خراش عن أم سلمة قالت: دخل علي رسول الله صلى الله
عليه وسلم وهو ساهم الوجه، قالت: فحسبت ذلك من وجع، فقلت: يا رسول الله
أراك ساهم الوجه، أفمن وجع ؟ فقال: لا، ولكن الدنانير السبعة التي
أتينا بها [ أمس أمسينا ] ولم ننفقها نسيتها في خضم الفراش (2) ".
تفرد به أحمد * وقال الامام أحمد: ثنا أبو سلمة، [ قال: أنا بكر ] (3)
بن مضر، ثنا موسى بن جبير، عن أبي أمامة بن سهل قال: دخلت أنا وعروة بن
الزبير يوما على عائشة فقالت: لو رأيتما نبي الله صلى الله عليه وسلم
ذات يوم في مرض مرضه ؟ قالت: وكان له عندي ستة دنانير، قال موسى أو
سبعة، قالت: فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أفرقها، قالت:
فشغلني وجع نبي الله صلى الله عليه وسلم حتى عافاه الله عز وجل، قالت:
ثم سألني عنها فقال: ما فعلت الستة ؟ قال: أو السبعة، قلت: لا والله
لقد شغلني عنها وجعك، قالت: فدعا بها ثم صفها في كفه، فقال: ما ظن نبي
الله لو لقي الله وهذه عنده.
تفرد به أحمد * وقال قتيبة: ثنا جعفر بن سليمان، عن ثابت، عن أنس قال:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدخر شيئا لغد (4) * وهذا الحديث
في الصحيحين، والمراد أنه كان لا يدخر شيئا لغد مما يسرع إليه الفساد
كالاطعمة ونحوها لما ثبت في الصحيحين عن عمر أنه قال: كانت أموال بني
النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف المسلمون عليها بخيل ولا
ركاب فكان يعزل نفقة أهله سنة ثم يجعل ما بقي في الكراع والسلاح عدة في
سبيل الله عز وجل * ومما يؤيد ما ذكرناه ما رواه الامام أحمد: حدثنا
مروان بن معاوية، [ قال: أخبرني ] هلال بن سويد أبو معلى [ قال ]: سمعت
أنس بن مالك وهو يقول أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة طوائر
فأطعم خادمه طائرا فلما كان من الغد أتته به، فقال لها رسول الله صلى
الله عليه وسلم: ألم أنهك أن ترفعي شيئا لغد، فإن الله [ عز وجل ] يأتي
برزق كل غد (5).
حديث بلال في ذلك قال البيهقي: ثنا أبو الحسين بن بشران، أنا أبو محمد
بن جعفر بن نصير، ثنا إبراهيم بن عبد الله البصري، ثنا بكار بن محمد،
أنا عبد الله بن عون، عن ابن سيرين عن أبي هريرة: أن
__________
(1) مستفرع: السيف ماضي الذباب: قاطع الحد.
سحيل: الذي يريق الدم.
(2) مسند أحمد ج 6 / 314 وما بين معكوفين زيادة من المسند، ورواه بنحوه
عن أم سلمة 6 / 293.
(3) من مسند أحمد ج 6 / 104.
(4) وأخرج الحديث الترمذي في الزهد.
ح (2362) وقال: غريب، وقد روى عن جعفر، عن ثابت، عن النبي صلى الله
عليه وآله مرسلا.
(5) مسند الامام أحمد ج 3 / 198 وما بين معكوفين زيادات استدركت من نص
المسند.
(*)
(6/61)
رسول الله دخل
على بلال فوجد عنده صبرا من تمر، فقال: ما هذا يا بلال ؟ قال: تمر
أدخره، قال ويحك يا بلال، أو ما تخاف أن تكون له بخار في النار ! أنفق
بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالا (1).
قال البيهقي بسنده عن أبي داود السجستاني وأبي حاتم الرازي كلاهما عن
أبي توبة الربيع بن نافع، حدثني معاوية بن سلام عن يزيد (2) بن سلام،
حدثني عبد الله الهوزني (3) قال: لقيت بلالا مؤذن رسول الله صلى الله
عليه وسلم بحلب، فقلت: يا بلال حدثني كيف كانت نفقة رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقال: ما كان له شئ إلا أنا الذي كنت ألي ذلك منه منذ بعثه
الله إلى أن توفي، فكان إذا أتاه الانسان المسلم فرآه عاريا (4)،
يأمرني فأنطلق فأستقرض فأشتري البردة والشئ فأكسوه وأطعمه، حتى اعترضني
رجل من المشركين، فقال: يا بلال، إن عندي سعة فلا تستقرض من أحد إلا
مني، ففعلت، فلما كان ذات يوم توضأت، ثم قمت لاؤذن بالصلاة فإذا
المشرك في عصابة من التجار، فلما رآني قال: يا حبشي، قال: قلت يا لبيه،
فتجهمني، وقال قولا عظيما أو غليظا، وقال: أتدري كم بينك وبين الشهر ؟
قلت: قريب، قال: إنما بينك وبينه أربع ليال فاخذك بالذي لي عليك، فإني
لم أعطك الذي أعطيتك من كرامتك ولا من كرامة صاحبك، وإنما أعطيتك لتصير
لي عبدا فأذرك ترعى في الغنم كما كنت قبل ذلك، قال فأخذني في نفسي ما
يأخذ في أنفس الناس، فانطلقت فناديت بالصلاة، حتى إذا صليت العتمة ورجع
رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله فاستأذنت عليه فأذن لي، فقلت:
يا رسول الله بأبي أنت وأمي إن المشرك الذي ذكرت لك أني كنت أتدين منه
قد قال كذا وكذا، وليس عندك ما يقضي عني، ولا عندي، وهو فاضحي، فأذن لي
أن آتي إلى بعض هؤلاء الاحياء الذين قد أسلموا حتى يرزق الله رسوله صلى
الله عليه وسلم ما يقضي عني، فخرجت حتى أتيت منزلي فجعلت سيفي وحرابي
ورمحي ونعلي عند رأسي، فاستقبلت بوجهي الافق.
فكلما نمت انتبهت، فإذا رأيت علي ليلا نمت حتى انشق عمود الصبح الاول،
فأردت أن أنطلق فإذا إنسان يدعو: يا بلال، أجب رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فانطلقت حتى آتيه، فإذا أربع ركائب عليهن أحمالهن، فأتيت رسول
الله فأستأذنت، فقال لي رسول الله: أبشر، فقد جاءك الله بقضاء دينك،
فحمدت الله وقال: ألم تمر على الركائب المناخات الاربع ؟.
قال قلت: بلى، قال: فإن لك رقابهن وما عليهن - فإذا عليهن كسوة وطعام
أهداهن له عظيم فدك - فاقبضهن إليك ثم اقض دينك، قال: ففعلت، فحططت
عنهن أحمالهن، ثم علفتهن (5)
__________
(1) دلائل البيهقي ج 1 / 347.
(2) من دلائل البيهقي 1 / 348.
(3) من الدلائل، وفي الاصل الهوريني، والهوزني أبو عامر واسمه عبد الله
بن لحي الحمصي، ثقة، مخضرم من الثانية (تقريب التهذيب 1 / 573 / 444).
(4) من الدلائل، وفي الاصل عائلا.
(5) في الدلائل: ثم عقلتهن.
(*)
(6/62)
ثم عمدت إلى
تأذين صلاة الصبح، حتى إذا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجت إلى
البقيع، فجعلت أصبعي في أذني [ فناديت ] فقلت: من كان يطلب من رسول
الله صلى الله عليه وسلم دينا فليحضر، فما زلت أبيع وأقضي، وأعرض حتى
لم يبق على رسول الله صلى الله عليه وسلم دين في الارض، حتى فضل عندي
أوقيتان أو أوقية ونصف، ثم انطلقت إلى المسجد، وقد ذهب عامة النهار،
فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد في المسجد وحده، فسلمت عليه،
فقال لي: ما فعل ما قبلك ؟ قلت: قد قضى الله كل شئ كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم فلم يبق شئ، قال: فضل شئ ؟ قلت: نعم ديناران، قال: انظر
أن تريحني منهما، فلست بداخل على أحد من أهلي حتى تريحني منهما، فلم
يأتنا أحد، فبات في المسجد حتى أصبح، وظل في المسجد اليوم الثاني، حتى
إذا كان في آخر النهار، جاء راكبان فانطلقت بهما، فكسوتهما وأطعمتهما،
حتى إذا صلى العتمة دعاني، فقال: ما فعل الذي قبلك ؟ قلت: قد أراحك
الله منه، فكبر وحمد الله شفقا من أن يدركه الموت وعنده ذلك، ثم اتبعته
حتى جاء أزاوجه فسلم على إمرأة امرأة، حتى أتى مبيته، فهذا الذي سألتني
عنه (1) * وقال الترمذي في الشمائل: حدثنا هارون بن موسى بن أبي علقمة
المديني، حدثني أبي عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن
الخطاب أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه،
فقال: ما عندي ما أعطيك، ولكن ابتع علي شيئا فإذا جاءني شئ قضيته، فقال
عمر: يا رسول الله قد أعطيته، فما كلفك الله ما لا تقدر عليه، فكره
النبي صلى الله عليه وسلم قول عمر، فقال رجل من الانصار: يا رسول الله
انفق ولا تخف من ذي العرش إقلالا، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وعرف التبسم في وجهه لقول الانصاري وقال: بهذا أمرت، وفي الحديث ألا
إنهم ليسألوني ويأبى الله علي البخل * وقال يوم حنين حين سألوه قسم
الغنائم: والله لو أن عندي عدد هذه العضاه نعما لقسمتها فيكم ثم لا
تجدوني بخيلا ولا ضانا ولا كذابا صلى الله عليه وسلم * وقال الترمذي:
ثنا علي بن حجر، ثنا شريك، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن الربيع بنت
معوذ بن عمر قالت: أتيت رسول الله بقناع من رطب، وأجرز عنب، فأعطاني
ملء كفه حليا أو ذهبا * وقال الامام أحمد: حدثنا سفيان، عن مطرف، عن
عطية، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كيف أنعم وقد
التقم صاحب القرن القرن، وحنى جبهته
وأصغى سمعه ينتظر متى يؤمر، قال المسلمون: يا رسول الله فما نقول ؟
قال: قولوا * (حسبنا الله ونعم الوكيل على الله توكلنا) * [ آل عمران:
173 ] ورواه الترمذي عن ابن أبي عمر، عن سفيان بن عيينة، عن مطرف.
ومن حديث خالد بن طهمان، كلاهما عن عطية وأبي سعيد العوفي البجلي، وأبو
الحسن الكوفي عن أبي سعيد الخدري، وقال الترمذي حسن * قلت.
وقد روي من وجه آخر عنه ومن حديث ابن عباس كما سيأتي في موضعه.
ومن تواضعه عليه الصلاة والسلام.
قال أبو عبد الله بن ماجه (2): حدثنا أحمد بن محمد بن
__________
(1) روى الحديث البيهقي في الدلائل ج 1 / 348 - 350.
(2) في كتاب الزهد 7 باب حديث 4127.
(*)
(6/63)
يحيى بن سعيد
القطان، ثنا عمرو بن محمد، ثنا أسباط بن نصر، عن السدي، عن أبي سعد
الازدي - وكان قارئ الازد - عن أبي الكنود، عن خباب في قوله تعالى: *
(ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه) * [ الانعام:
52 ] إلى قوله * (فتكون من الظالمين) * قال: جاء الاقرع بن حابس
التميمي، وعيينة بن حصن الفزاري، فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم
مع صهيب وبلال وعمار وخباب، قاعدا في ناس من الضعفاء من المؤمنين، فلما
رأوهم حول رسول الله حقروهم، فأتوا فخلوا به فقالوا: نريد أن تجعل لنا
منك مجلسا، تعرف لنا به العرب فضلنا، فإن وفود العرب تأتيك فنستحي أن
ترانا العرب مع هذه الاعبد، فإذا نحن جئناك فأقمهم عنك، فإذا نحن
فرغنا، فاقعد معهم إن شئت.
قال نعم، قالوا: فاكتب لنا عليك كتابا، قال: فدعا بصحيفة ودعا عليا
ليكتب، ونحن قعود في ناحية، فنزل جبريل عليه السلام فقال: * (ولا تطرد
الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شئ
وما من حسابك عليهم من شئ فتطردهم فتكون من الظالمين) * ثم ذكر الاقرع
بن حابس وعيينة بن حصن فقال: * (وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء
من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين) * [ الانعام: 53 ]
ثم قال: * (وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل
سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة) * [ الانعام: 54 ] قال: فدنونا
منه حتى وضعنا ركبنا على ركبته، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يجلس معنا، فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا، فأنزل الله عز وجل: * (واصبر
نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك
عنهم) * ولا تجالس الاشراف * (ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا) * يعني
عيينة والاقرع * (واتبع هواه وكان أمره فرطا) * قال: هلاكا، قال: أمر
عيينة والاقرع، ثم ضرب لهم مثل الرجلين ومثل الحياة الدنيا، قال خباب:
فكنا نقعد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا بلغنا الساعة التي
يقوم قمنا وتركناه حتى يقوم * ثم قال ابن ماجة (1): حدثنا يحيى بن
حكيم، ثنا أبو داود، ثنا قيس بن الربيع، عن المقدام بن شريح، عن أبيه
عن سعد (2) قال: نزلت هذه الآية فينا.
ستة: في وفي ابن مسعود وصهيب وعمار والمقداد وبلال.
قال قالت قريش: يا رسول الله إنا لا نرضى أن نكون أتباعا لهم.
فاطردهم عنك، قال، فدخل قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك ما
شاء الله أن يدخل، فأنزل الله عز وجل: * (ولا تطرد الذين يدعون ربهم
بالغداة والعشي يريدون وجهه) * الآية * وقال الحافظ البيهقي: أنا أبو
محمد: عبد الله بن يوسف الاصفهاني، أنا أبو سعيد بن الاعرابي، ثنا أبو
الحسن: خلف بن محمد الواسطي الدوسي (3)، ثنا يزيد بن هارون، ثنا جعفر
بن سليمان الضبعي، ثنا المعلى بن زياد - يعني عن العلاء بن بشير
المازني [ عن ] أبي الصديق الناجي - عن
__________
(1) المصدر السابق - حديث 4128.
(2) يعني سعد بن أبي وقاص.
(3) في الدلائل 1 / 351: كردوس.
(*)
(6/64)
أبي سعيد
الخدري قال: كنت في عصابة من المهاجرين جالسا معهم وإن بعضهم ليستتر
ببعض من العري، وقارئ لنا يقرأ علينا، فكنا نستمع (1) إلى كتاب الله،
فقال رسول الله: الحمد لله الذي جعل من أمتي من أمرت أن أصبر معهم
نفسي، قال [ ثم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وسطنا ليعدل نفسه
فينا، ثم قال بيده هكذا ] فاستدارت الحلقة وبرزت وجوههم، قال: فما عرف
رسول الله أحدا
منهم غيري، فقال رسول الله: أبشروا معاشر صعاليك المهاجرين بالنور [
التام ] يوم القيامة، تدخلون [ الجنة ] قبل الاغنياء بنصف يوم، وذلك
خمسمائة عام (2) وقد روى الامام أحمد وأبو داود والترمذي من حديث حماد
بن سلمة عن حميد عن أنس قال لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى
الله عليه وسلم، قال: وكانوا إذا رأوه لم يقوموا لما يعلمون من كراهيته
لذلك.
فصل عبادته عليه السلام واجتهاده في ذلك
قالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول لا يفطر،
ويفطر حتى نقول لا يصوم، وكان لا تشاء تراه من الليل قائما إلا رأيته،
ولا تشاء تراه نائما إلا رأيته، قالت: وما زاد رسول الله صلى الله عليه
وسلم في رمضان وفي غيره احدى عشرة ركعة، يصلي أربعا، فلا تسأل عن حسنهن
وطولهن، ثم يصلي أربعا، فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يوتر بثلاث.
قالت: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ السورة فيرتلها حتى تكون
أطول من أطول منها، قالت: ولقد كان يقوم حتى أرثي له من شدة قيامه *
وذكر ابن مسعود أنه صلى معه ليلة فقرأ في الركعة الاولى بالبقرة
والنساء وآل عمران ثم ركع قريبا من ذلك، ورفع نحوه وسجد نحوه * وعن أبي
ذر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام ليلة حتى أصبح يقرأ هذه
الآية: * (إن تعذبهم فانهم عبادك وإن تغفر لهم فانك أنت العزيز الحكيم)
* رواه أحمد * وكل هذا في الصحيحين وغيرهما من الصحاح، وموضع بسط هذه
الاشياء في كتاب الاحكام الكبير * وقد ثبت في الصحيحين من حديث سفيان
بن عيينة، عن زياد بن علاقة، عن المغيرة بن شعبة: أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قام حتى تفطرت قدماه، فقيل له: أليس قد غفر الله لك ما
تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ قال: أفلا أكون عبدا شكورا (3) * وتقدم في
حديث
__________
(1) من الدلائل، في الاصل: نسمع.
(2) رواه البيهقي في الدلائل 1 / 351 - 352 وما بين معكوفتين في الحديث
استدركت من الدلائل.
ورواه الترمذي في الزهد ح (2353) وقال حسن صحيح.
وابن ماجة في الزهد كلاهما عن أبي هريرة ح 4122.
والدارمي في الرقاق باب (118).
وأحمد في المسند 2 / 296، 343، 513، 519 - 5 / 366.
(3) أخرجه الستة سوى أبي داود والامام أحمد.
في البخاري - كتاب التهجد فتح الباري 3 / 14 و 8 / 584 ومسلم في
المنافقين ح 81.
والترمذي في الصلاة 2 / 268.
والنسائي في قيام الليل.
وابن ماجة في إقامة الصلاة حديث 1420.
(*)
(6/65)
سلام بن
سليمان، عن ثابت، عن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: حبب إلي الطيب والنساء وجعلت قرة عيني في الصلاة.
رواه أحمد والنسائي * وقال الامام أحمد: ثنا عفان، ثنا حماد بن سلمة،
أخبرني علي بن زيد عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس: أن جبريل قال لرسول
الله صلى الله عليه وسلم: " قد حبب إليك الصلاة فخذ منها ما شئت " *
وثبت في الصحيحين عن أبي الدرداء قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم في شهر رمضان في حر شديد، وما فينا صائم إلا رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وعبد الله بن رواحة.
وفي الصحيحين من حديث منصور، وعن إبراهيم عن علقمة قال: سألت عائشة هل
كان رسول الله يخص شيئا من الايام ؟ قالت: لا، كان عمله ديمة.
وأيكم يستطيع ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستطيع (1) ؟ * وثبت
في الصحيحين من حديث أنس وعبد الله بن عمر وأبي هريرة وعائشة أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم كان يواصل ونهى أصحابه عن الوصال وقال: إني
لست كأحدكم، إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني (2) * والصحيح أن هذا
الاطعام والسقيا معنويان كما ورد في الحديث الذي رواه ابن عاصم عن...أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تكرهوا مرضاكم على الطعام
والشراب، فإن الله يطعمهم ويسقيهم * وما أحس ما قال بعضهم: لها أحاديث
من ذكراك يشغلها * عن الشراب ويلهيها عن الزاد وقال النضر بن شميل عن
محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: إني لاستغفر الله وأتوب إليه في اليوم مائة مرة (3) وروى
البخاري: عن الفريابي، عن الثوري.
عن الاعمش، عن إبراهيم، عن عبيدة عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: اقرأ علي، فقلت: اقرأ عليك وعليك أنزل ؟ فقال: إني أحب
أن أسمعه من غيري، قال:
فقرأت سورة النساء حتى بلغت: * (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا
بك على هؤلاء شهيدا) * [ الآية: 41 ] قال: حسبك، فالتفت فإذا عيناه
تذرفان (4) * وثبت في الصحيح: أنه عليه السلام كان يجد التمرة على
فراشه فيقول: لولا أني أخشى أن تكون من الصدقة لاكلتها.
وقال الامام أحمد: حدثنا وكيع، ثنا أسامة بن زيد، عن عمرو بن شعيب، عن
أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد تحت جنبه تمرة من
الليل، فأكلها فلم ينم تلك الليلة، فقال بعض نسائه: يا
__________
(1) أخرجه البخاري في الصوم فتح الباري 4 / 235، و 11 / 294 كتاب
الرقاق.
ومسلم في صلاة المسافرين ص (541).
وأبو داود في الصلاة ح (1370) والامام أحمد 6 / 43، 55، 174، 189
والبيهقي في الدلائل 1 / 355 والسنن الكبرى 4 / 299.
(2) أخرجه البخاري في الصوم باب (49).
ومسلم في الصيام باب (11) ومالك في الموطأ صفحة (301).
والامام أحمد في المسند 2 / 231، 237، 244، 315.
(3) رواه البيهقي في الدلائل 1 / 356.
(4) أخرجه البخاري في فضائل القرآن فتح الباري 9 / 94 ومسلم في صلاة
المسافرين باب 40 ح 247.
(*)
(6/66)
رسول الله أرقت
الليلة، قال: إني وجدت تحت جنبي تمرة فأكلتها، وكان عندنا تمر من تمر
الصدقة، فخشيت أن تكون منه، تفرد به أحمد.
وأسامة بن زيد هو الليثي من رجال مسلم.
والذي نعتقد أن هذه التمرة لم تكن من تمر الصدقة لعصمته عليه السلام
ولكن من كمال ورعه عليه السلام أرق تلك الليلة، وقد ثبت عنه في الصحيح
أنه قال: [ والله إني ] لاتقاكم لله وأعلمكم بما أتقى.
وفي الحديث الآخر أنه قال: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك * وقال حماد بن
سلمة، عن ثابت، عن مطرف بن عبد الله بن الشخير، عن أبيه قال: أتيت رسول
الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل (1)، وفي
رواية: وفي صدره أزيز كأزيز الرحا من البكاء (2).
وروى البيهقي من طريق أبي كريب محمد بن العلاء الهمداني، ثنا معاوية بن
هشام، عن شيبان، عن أبي إسحاق، عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال أبو بكر:
يا رسول الله أراك شبت،
فقال: شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت
(3).
وفي رواية له عن أبي كريب عن معاوية بن هشام، عن شيبان، عن فراس، عن
عطية عن أبي سعيد قال: قال عمر بن الخطاب: يا رسول الله أسرع إليك
الشيب، فقال: شيبتني هود وأخواتها: الواقعة وعم يتساءلون وإذا الشمس
كورت.
فصل في شجاعته (صلى الله عليه وسلم)
ذكرت في التفسير عن بعض من السلف أنه استنبط من قوله تعالى: * (فقاتل
في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين) * [ النساء: 88 ] أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مأمورا أن لا يفر من المشركين إذا
واجهوه ولو كان وحده من قوله * (لا تكلف إلا نفسك) * وقد كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم من أشجع الناس وأصبر الناس وأجلدهم، ما فر قط من
مصاف ولو تولى عنه أصحابه.
قال بعض أصحابه: كنا إذا اشتد الحرب وحمى الناس، نتقي برسول الله صلى
الله عليه وسلم ففي يوم بدر رمى ألف مشرك بقبضة من حصا فنالتهم أجمعين
حين قال: شاهت الوجوه، وكذلك يوم حنين كما تقدم، وفر أكثر أصحابه في
ثاني الحال يوم أحد وهو ثابت في مقامه لم يبرح منه ولم يبق معه إلا
اثنا عشر قتل منهم سبعة وبقي الخمسة.
وفي هذا الوقت قتل أبي بن خلف لعنه الله فعجله الله إلى النار.
ويوم حنين ولى الناس كلهم وكانوا يومئذ اثنا عشر ألفا وثبت هو في نحو
من مائة من الصحابة وهو راكب يومئذ بغلته وهو يركض بها إلى نحو العدو،
وهو ينوه باسمه ويعلن بذلك قائلا: أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد
المطلب.
حتى جعل العباس وعلي وأبو سفيان يتعلقون في تلك البغلة ليبطئوا سيرها
__________
(1) أخرجه الامام أحمد في المسند 24 / 25 والنسائي في كتاب السهو (3 /
13).
(2) أخرجه أبو داود في الصلاة ح 904.
(3) رواه البيهقي في الدلائل 1 / 358.
والترمذي في تفسير القرآن ح 3297.
والحاكم في المستدرك 2 / 342 وقال: " هذا حديث صحيح على شرط البخاري
ولم يخرجاه " ووافقه الذهبي.
(*)
(6/67)
خوفا عليه من
أن يصل أحد من الاعداء إليه.
وما زال كذلك حتى نصره الله وأيده في مقامه ذلك
وما تراجع الناس إلا والاشلاء مجندلة بين يديه صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو زرعة: حدثنا العباس بن الوليد بن صبح الدمشقي، حدثنا مروان -
يعني ابن محمد - حدثنا سعيد بن بشير، عن قتادة عن أنس بن مالك قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم فضلت على الناس بشدة البطش.
فصل فيما يذكر من صفاته عليه السلام في
الكتب المأثورة عن الانبياء الاقدمين
قد أسلفنا طرفا صالحا من ذلك في البشارات قبل مولده، ونحن نذكر هنا
غررا من ذلك، فقد روى البخاري والبيهقي واللفظ له من حديث فليح بن
سليمان، عن هلال بن علي، عن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو
فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة، فقال:
أجل والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في الفرقان (1): يا أيها
النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للاميين أنت عبدي ورسولي
سميتك: المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب (2) بالاسواق، ولا يدفع
السيئة بالسيئة ولكن يعفو ويغفر، ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء،
أن يقولوا: (لا إله إلا الله) وأفتح به أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا
غلفا.
قال عطاء بن يسار ثم لقيت كعبا الحبر (3) فسألته، فما اختلفا في حرف
إلا أن كعبا قال أعينا [ عمويا، واذانا صمومي، وقلوبا غلوفى ] (4) *
ورواه البخاري أيضا عن عبد الله غير منسوب، قيل: هو ابن رجاء، وقيل:
عبد الله بن صالح، وهو الارجح، عن عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون، عن
هلال بن علي به.
قال البخاري: وقال سعيد، عن هلال، عن عطاء، عن عبد الله بن سلام كذا
علقه البخاري.
وقد روى البيهقي من طريق يعقوب بن سفيان: حدثنا أبو صالح - هو عبد الله
بن صالح كاتب الليث - حدثني خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن
أسامة، عن عطاء بن يسار عن ابن سلام أنه كان يقول: إنا لنجد صفة رسول
الله صلى الله عليه وسلم * (إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا) * أنت عبدي
ورسولي، سميته: المتوكل ليس بفظ ولا غليظ، ولا سخاب في
__________
(1) في البخاري: القرآن.
(2) في البيهقي: سخب.
(3) في البيهقي: كعب الاحبار.
(4) ما بين معكوفتين من دلائل البيهقي 1 / 374.
والفقرة من قال عطاء...ليست في البخاري.
والجزء الاول من الحديث أخرجه البخاري في البيوع ح 2125، وفي التفسير
فتح الباري 8 / 585.
(*)
(6/68)
الاسواق، ولا
يجزى بالسيئة مثلها، ولكن يعفو (ويغفر) (1) ويتجاوز، ولن (2) أقبضه حتى
يقيم الملة العوجاء: بأن تشهد * (أن لا إله إلا الله) * يفتح به أعينا
عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا، قال عطاء ابن يسار: وأخبرني الليثي (3):
أنه سمع كعب الاحبار يقول مثل ما قال ابن سلام.
وقد روي عن عبد الله بن سلام من وجه آخر فقال الترمذي: حدثنا زيد بن
أخرم الطائي البصري، ثنا أبو قتيبة - مسلم بن قتيبة -، حدثني أبو مودود
المدني، ثنا عثمان الضحاك، عن محمد بن يوسف، عن عبد الله بن سلام، عن
أبيه عن جده قال: مكتوب في التوراة " محمد وعيسى بن مريم يدفن معه "
فقال أبو مودود: قد بقي في البيت موضع قبر، ثم قال الترمذي: هذا حديث
حسن.
هكذا قال الضحاك والمعروف الضحاك بن عثمان المدني، وهكذا حكى شيخنا
الحافظ المزي في كتابه الاطراف عن ابن عساكر أنه قال مثل قول الترمذي،
ثم قال: وهو شيخ آخر أقدم من الضحاك بن عثمان ذكره ابن أبي حاتم عن
أبيه فيمن اسمه عثمان، فقد روي هذا عن عبد الله بن سلام، وهو من أئمة
أهل الكتاب ممن آمن وعبد الله بن عمرو بن العاص، وقد كان له اطلاع على
ذلك من جهة زاملتين كان أصابهما يوم اليرموك، فكان يحدث منهما عن أهل
الكتاب، وعن كعب الاحبار، وكان بصيرا بأقوال المتقدمين على ما فيها من
خلط وغلط، وتحريف وتبديل، فكان يقولها بما فيها من غير نقد، وربما أحسن
بعض السلف بها الظن فنقلها عنه مسلمة، وفي ذلك من المخالفة لبعض ما
بأيدينا من الحق جملة كثيرة، لكن لا يتفطن لها كثير من الناس.
ثم ليعلم أن كثيرا من السلف يطلقون التوراة على كتب أهل الكتاب المتلوة
عندهم، أو أعم من ذلك، كما أن
لفظ القرآن يطلق على كتابنا خصوصا ويراد به غيره، كما في الصحيح: خفف
على داود القرآن فكان يأمر بدوابه فتسرح فيقرأ القرآن مقدار ما يفرغ،
وقد بسط هذا في غير هذا الموضع والله أعلم.
وقال البيهقي عن الحاكم، عن الاصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن
بكير، عن ابن إسحاق، حدثني محمد بن ثابت بن شرحبيل عن أم الدرداء قالت:
قلت لكعب الحبر: كيف تجدون صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في
التوراة ؟ قال: نجده محمد رسول الله، اسمه المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ،
ولا سخاب بالاسواق، وأعطي المفاتيح ليبصر الله به أعينا عميا (4)،
ويسمع به آذانا وقرا، ويقيم به ألسنا معوجة حتى تشهد أن لا إله إلا
الله وحده لا شريك له، يعين المظلوم ويمنعه.
وبه عن يونس بن بكير عن يونس بن عمرو عن العيزار بن حريث (5) عن عائشة:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكتوب في الانجيل: لا فظ، ولا غليظ
ولا سخاب في الاسواق، ولا يجزي
__________
(1) من الدلائل للبيهقي 1 / 376، وروى الحديث ابن عساكر في تاريخه 1 /
343.
(2) من الدلائل وفي الاصل وليس.
(3) الليثي هو أبو واقد الليثي من الصحابة له ترجمة في الاصابة.
(4) في الدلائل 1 / 377 أعينا عورا.
(5) من الدلائل 1 / 377 وفي الاصل: خريب.
(*)
(6/69)
بالسيئة مثلها،
بل يعفو ويصفح.
وقال يعقوب بن سفيان: ثنا قيس (1) البجلي، حدثنا سلام بن مسكين، عن
مقاتل بن حيان قال: أوحى الله عز وجل إلى عيسى بن مريم.
جد في أمري ولا تهزل، واسمع وأطع يا ابن الطاهر البتول، إني خلقتك من
غير فحل، وجعلتك آية للعالمين، فإياي فاعبد، وعلي فتوكل، فبين لاهل
سوران أني أنا الحق القائم الذي لا أزول (2)، صدقوا بالنبي العربي،
صاحب الجمل والمدرعة والعمامة والنعلين والهراوة، الجعد الرأس، الصلت
الجبين، المقرون الحاجبين، الادعج العينين، الاقنى الانف الواضح الخدين
(3) الكث اللحية، عرقه في وجهه كاللؤلؤ، ريحه المسك ينفخ منه، كأن عنقه
إبريق فضة، وكأن الذهب يجري في تراقيه، له
شعرات من لبته إلى سرته تجري كالقضيب، ليس على صدره ولا بطنه شعر غيره،
شثن الكفين والقدم، إذا جاء مع الناس غمرهم، وإذا مشى كأنما ينقلع من
الصخر، وينحدر في صبب ذو النسل القليل (4) * وروى الحافظ البيهقي بسنده
عن وهب بن منبه اليمامي قال: إن الله عز وجل لما قرب موسى نجيا، قال:
رب إني أجد في التوراة أمة: خير أمة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف
وينهون عن المنكر، ويؤمنون بالله، فاجعلهم أمتي، قال: تلك أمة أحمد،
قال: رب إني أجد في التوراة أمة هم خير الامم الآخرون من الامم،
السابقون يوم القيامة، فاجعلهم أمتي، قال: تلك أمة أحمد، قال: يا رب
إني أجد في التوراة أناجيلهم في صدورهم يقرؤنها، وكان من قبلهم يقرؤن
كتبهم نظرا ولا يحفظونها، فاجعلهم أمتي، قال: تلك أمة أحمد، قال: رب
إني أجد في التوراة أمة يؤمنون بالكتاب الاول والآخر ويقاتلون رؤوس
الضلالة، حتى يقاتلوا الاعور الكذاب، فاجعلهم أمتي، قال: تلك أمة أحمد،
قال: رب إني أجد في التوراة أمة يأكلون صدقاتهم في بطونهم، وكان من
قبلهم إذا أخرج صدقته بعث الله عليها نارا فأكلتها، فان لم تقبل لا
تقربها النار، فاجعلهم أمتي، قال: تلك أمة أحمد، قال: رب إني أجد في
التوراة أمة إذا هم أحدهم بسيئة لم تكتب عليه، فإن عملها كتبت عليه
سيئة واحدة، وإذا هم أحدهم بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة، فإن علمها
كتب له عشر أمثالها إلى سبعمائة (5) ضعف، فاجعلهم أمتي، قال: تلك أمة
أحمد، قال: رب إني أجد في التوراة أمة هم المستجيبون والمستجاب لهم،
فاجعلهم أمتي، قال: تلك أمة أحمد.
قال وذكر وهب بن منبه: في قصة داود عليه السلام وما أوحى إليه في
الزبور: يا داود: إنه سيأتي من بعدك نبي اسمه: أحمد ومحمد، صادقا سيدا،
لا
__________
(1) في دلائل البيهقي 1 / 378: فيض.
(2) العبارة في دلائل البيهقي 1 / 378: فسر لاهل سوران بالسريانة.
بلغ من بين يديك: أني أنا الله الحي القيوم الذي لا أزول.
(3) في الدلائل: الواضح الجبين، الاهدب الاشفار.
(4) رواه البيهقي في الدلائل 1 / 378 وأورده ابن عساكر في تاريخه
باختصار 1 / 344.
(5) في الدلائل: مائة ضعف.
(*)
(6/70)
أغضب عليه
أبدا، ولا يغضبني أبدا، وقد غفرت له قبل أن يعصيني ما تقدم من ذنبه وما
تأخر، أمته مرحومة، أعطيهم من النوافل مثل ما أعطيت الانبياء، وافترضت
عليهم الفرائض التي افترضت على الانبياء والرسل، حتى يأتوني بوم
القيامة ونورهم مثل نور الانبياء، وذلك اني افترضت عليهم أن يتطهروا
إلى كل صلاة، كما افترضت على الانبياء قبلهم، وأمرتهم بالغسل من
الجنابة كما أمرت الانبياء قبلهم، وأمرتهم بالحج كما أمرت الانبياء
قبلهم، وأمرتهم بالجهاد كما أمرت الرسل قبلهم.
يا داود إني فضلت محمدا وأمته على الامم كلها، أعطيتهم ست خصال لم
أعطها غيرهم من الامم: لا آخذهم بالخطأ والنسيان، وكل ذنب ركبوه على
غير عمد إن استغفروني منه غفرته لهم، وما قدموا لآخرتهم من شئ ضيبة به
أنفسهم جعلته لهم أضعافا مضاعفة ولهم في المدخر عندي أضعاف مضاعفة
وأفضل من ذلك وأعطيتهم، على المصائب في البلايا إذا صبروا وقالوا: إنا
لله وإنا إليه راجعون، الصلاة والرحمة والهدى إلى جنات النعيم، فإن
دعوني استجبت لهم، فإما أن يروه عاجلا، وإما أن أصرف عنهم سوءا، وإما
أن أدخره لهم في الآخرة، يا داود ! من لقيني من أمة محمد يشهد أن لا
إله إلا الله وحده لا شريك له صادقا بها، فهو معي في جنتي وكرامتي، ومن
لقيني وقد كب محمدا أو كذب بما جاء به، واستهزأ بكتابي صببت عليه في
قبره العذاب صبا، وضربت الملائكة وجهه ودبره عند منشره من قبره، ثم
أدخله في الدرك الاسفل من النار (1).
وقال الحافظ البيهقي: أخبرنا الشريف أبو الفتح العمري، ثنا عبد الرحمن
بن أبي شريح الهروي، ثنا يحيى بن محمد بن صاعد، ثنا عبد الله بن شبيب
أبو سعيد [ الربعي ]، حدثني محمد بن عمر بن سعيد - يعني ابن محمد بن
جبير بن مطعم - قال: حدثتني أم عثمان بنت سعيد بن محمد بن جبير بن
مطعم، عن أبيها عن أبيه قال: سمعت أبي جبير بن مطعم يقول: لما بعث الله
نبيه صلى الله عليه وسلم وظهر أمره بمكة، خرجت إلى الشام، فلما كنت
ببصرى أتتنى جماعة من النصارى فقالوا لي: أمن الحرم أنت ؟ قلت: نعم،
قالوا: فتعرف هذا
الذي تنبأ فيكم ؟ قلت: نعم، قال: فأخذوا بيدي فأدخلوني ديرا لهم فيه
تماثيل وصور، فقالوا لي: أنظر هل ترى صورة هذا النبي الذي بعث فيكم ؟
فنظرت فلم أر صورته، قلت: لا أرى صورته، فأدخلوني ديرا أكبر من ذلك
الدير، فإذا فيه تماثيل وصورا أكثر مما في ذلك الدير، فقالوا لي: انظر
هل ترى صورته ؟ فنظرت فإذا أنا بصفة رسول الله صلى الله عليه وسلم
وصورته، وإذا أنا بصفة أبي بكر وصورته وهو آخذ بعقب رسول الله صلى الله
عليه وسلم، فقالوا لي: هل ترى صفته ؟ قلت: نعم، قالوا: هو هذا ؟ -
وأشاروا إلى صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم - قلت: (اللهم) نعم،
أشهد أنه هو، قالوا: أتعرف هذا الذي آخذ بعقبه ؟ قلت: نعم، قالوا: نشهد
أن هذا صاحبكم وأن هذا الخليفة من بعده (2).
ورواه البخاري في التاريخ عن محمد غير منسوب، عن محمد بن عمر هذا
باسناده
__________
(1) دلائل النبوة ج 1 / 380 - 381.
(2) رواه البيهقي في الدلائل ج 1 / 384 - 385 والبخاري في التاريخ
الكبير 1 / 1 / 179.
(*)
(6/71)
فذكره مختصرا،
وعنده فقالوا: إنه لم يكن نبي إلا بعده نبي إلا هذا النبي * وقد ذكرنا
في كتابنا التفسير عند قوله تعالى في سورة الاعراف: * (الذين يتبعون
الرسول النبي الامي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل
يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر) * الآية.
ذكرنا ما أورده البيهقي وغيره من طريق أبي أمامة الباهلي، عن هشام بن
العاص الاموي قال: بعثت أنا ورجل من قريش إلى هرقل صاحب الروم ندعوه
إلى الاسلام، فذكر اجتماعهم به وأن عرفته تنغصت (1) حين ذكروا الله عز
وجل، فأنزلهم في دار ضيافته ثم استدعاهم بعد ثلاث فدعا بشئ نحو الربعة
العظيمة فيها بيوت صغار عليها أبواب، وإذا فيها صور الانبياء ممثلة في
قطع من حرير من آدم إلى محمد صلوات الله عليهم أجمعين، فجعل يخرج لهم
واحدا واحدا ويخبرهم عنه، وأخرج لهم صورة آدم ثم نوح ثم إبراهيم ثم
تعجل إخراج صورة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ثم فتح بابا آخر
فإذا فيها صورة بيضاء، وإذا والله رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:
أتعرفون هذا ؟ قلنا: نعم، محمد رسول الله، قال: وبكينا قال: والله يعلم
أنه قام قائما ثم جلس وقال: والله إنه لهو ؟ قلنا: نعم
إنه لهو كما ننظر إليه، فأمسك ساعة ينظر إليها ثم قال: أما إنه كان آخر
البيوت ولكني عجلته لكم لانظر ما عندكم، ثم ذكر تمام الحديث في إخراجه
بقية صور الانبياء وتعريفه إياهما بهم، وقال في آخره قلنا له: من أين
لك هذه الصور ؟ لانا نعلم أنها ما على صورت عليه الانبياء عليهم
السلام، لانا رأينا صورة نبينا عليه السلام مثله، فقال: إن آدم عليه
السلام سأل ربه أن يريه الانبياء من ولده، فأنزل عليه صورهم، فكانت في
خزانة آدم عليه السلام عند مغرب الشمس فاستخرجها ذو القرنين من مغرب
الشمس فدفعها إلى دانيال، ثم قال: أما والله إن نفسي طابت بالخروج من
ملكي، وأني كنت عبدا لاشركم ملكة حتى أموت، قال: ثم أجازنا فأحسن
جائزتنا وسرحنا، فلما أتينا أبا بكر الصديق رضي الله عنه حدثناه بما
رأينا وما قال لنا وما أجازنا، قال: فبكى أبو بكر فقال: مسكين لو أراد
الله به خيرا لفعل ثم قال: أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم
واليهود يجدون نعت محمد صلى الله عليه وسلم عندهم (2).
وقال الواقدي: حدثني علي بن عيسى الحكيمي عن أبيه، عن عامر بن ربيعة
قال: سمعت زيد بن عمرو بن نفيل يقول: أنا أنتظر نبيا من ولد إسماعيل،
ثم من بني عبد المطلب ولا أراني أدركه وأنا أو من به وأصدقه وأشهد
برسالته، فإن طالت بك مدة فرأيته فأقرئه مني السلام، وسأخبرك ما نعته
حتى لا يخفي عليك.
قلت: هلم، قال: هو رجل ليس بالطويل ولا بالقصير، ولا بكثير الشعر ولا
بقليله، وليست تفارق عينيه حمرة، وخاتم النبوة بين كتفيه، واسمه أحمد،
وهذا البلد مولده ومبعثه ثم يخرجه قوم منها ويكرهون ما جاء به حتى
يهاجر إلى يثرب
__________
(1) في البيهقي: وأن غرفته تنفضت.
وهو مناسب أكثر.
(2) رواه البيهقي في الدلائل 1 / 386 - 390 وابن كثير في التفسير.
(*)
(6/72)
فيظهر أمره، فإياك أن تخدع عنه، فإني طفت البلاد كلها أطلب دين
إبراهيم، فكل من سأل من اليهود والنصارى والمجوس يقولون: هذا الدين
وذاك، وينعتونه مثل ما نعته لك،، ويقولون لم يبق نبي غيره * قال عامر
بن ربيعة.
فلما أسلمت أخبرت النبي صلى الله عليه وسلم، قول زيد بن عمرو بن نفيل
واقرائه منه السلام، فرد عليه السلام وترحم عليه، وقال: قد رأيته في
الجنة يسحب ذيولا. |