البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي

البداية والنهاية - ابن كثير ج 7
البداية والنهاية
ابن كثير ج 7

(7/)


البداية والنهاية

(7/1)


البداية والنهاية للامام الحافظ ابي الفداء اسماعيل بن كثير الدمشقي المتوفى سنة 774 ه حققه ودقق اصوله وعلق حواشيه علي شيري الجزء السابع دار إحياء التراث العربي

(7/3)


جميع الحقوق محفوظة لدار احياء التراث العربي طبعة جديدة محققة الطبعة الاولى 1408 ه 1988 م

(7/4)


بسم الله الرحمن الرحيم سنة ثلاث عشرة من الهجرة استهلت هذه السنة والصديق عازم على جمع الجنود ليبعثهم إلى الشام، وذلك بعد مرجعه من الحج عملا بقوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين) * [ التوبة: 123 ].
وبقوله تعالى: * (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله
ولا باليوم الآخر) * الآية [ التوبة: 29 ].
واقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه جمع المسلمين لغزو الشام - وذلك عام تبوك - حتى وصلها في حر شديد وجهد، فرجع عامه ذلك، ثم بعث قبل موته أسامة بن زيد مولاه ليغزو تخوم الشام كما تقدم.
ولما فرغ الصديق من أمر جزيرة العرب بسط يمينه إلى العراق، فبعث إليها خالد بن الوليد ثم أراد أن يبعث إلى الشام كما بعث إلى العراق، فشرع في جمع الامراء في أماكن متفرقة من جزيرة العرب.
وكان قد استعمل عمرو بن العاص على صدقات قضاعة معه الوليد بن عقبة فيهم، فكتب إليه يستنفره إلى الشام: " إني كنت قد رددتك على العمل الذي ولاكه رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة، وسماه لك أخرى، وقد أحببت أبا عبد الله ن أفرغك لما هو خير لك في حياتك ومعادك منه، إلا أن يكون الذي أنت فيه أحب إليك " فكتب إليه عمرو بن العاص: إني سهم من سهام الاسلام، وأنت عبد (1) الله الرامي بها، والجامع لها، فانظر أشدها وأخشاها (2) فارم بي فيها.
وكتب إلى الوليد بن عقبة بمثل ذلك ورد عليه مثله، وأقبلا بعد ما استخلفا في عملهما، إلى المدينة.
وقدم خالد بن سعيد بن العاص من اليمن فدخل المدينة وعليه جبة ديباج، فلما رآها عمر عليه أمر من هناك من الناس بتحريقها عنه، فغضب خالد بن سعيد (3)
__________
(1) في الطبري والكامل: بعد.
(2) زاد الطبري والكامل: وأفضلها.
(3) قال الطبري: ان خالد بن سعيد قدم من اليمن بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وتربص ببيعة أبي بكر شهرين لم يبايعه وقال لعلي ما قال...فاضطغنها عليه عمر.
ولم يحفلها عليه أبو بكر (4 / 28 - والكامل في التاريخ 2 / 402 وابن سعد 4 / 97).
(*)

(7/5)


أو قال لعلي بن أبي طالب: يا أبا الحسن ! أغلبتم يا بني عبد مناف عن الامرة ؟ فقال له علي: أمغالبة تراها أو خلافة ؟ فقال لا يغلب على هذا الامر أولى منكم.
فقال له عمر بن الخطاب: أسكت فض الله فاك، والله لا تزال كاذبا تخوض فيما قلت ثم لا تضر إلا نفسك.
وأبلغها عمر أبا بكر فلم يتأثر لها أبو بكر.
ولما اجتمع عند الصديق من الجيوش ما أراد قام في الناس خطيبا فأثنى
على الله بما هو أهله، ثم حث الناس على الجهاد فقال: ألا لكل أمر جوامع، فمن بلغها فهي حسبه، ومن عمل لله كفاه الله، عليكم بالجد والقصد فإن القصد أبلغ، ألا إنه لا دين لاحد لا إيمان له، ولا إيمان لمن لا خشية له (1)، ولا عمل لمن لا نية له، ألا وإن في كتاب الله من الثواب على الجهاد في سبيل الله لما ينبغي للمسلم أن يحب أن يخص به (2)، هي النجاة (3) التي دل الله عليها، إذ نجى بها من الخزي، وألحق بها الكرامة [ في الدنيا والآخرة ] (4).
ثم شرع الصديق في تولية الامراء وعقد الالوية والرايات، فيقال إن أول لواء عقده لخالد بن سعيد بن العاص (5)، فجاء عمر بن الخطاب فثناه عنه وذكره بما قال.
فلم يتأثر به الصديق كما تأثر به عمر، بل عزله عن الشام وولاه أرض " تيماء " يكون بها فيمن معه من المسلمين حتى يأتيه أمره.
ثم عقد لواء يزيد بن أبي سفيان ومعه جمهور الناس، ومعه سهيل بن عمرو، وأشباهه من أهل مكة، وخرج معه ماشيا يوصيه بما اعتمده في حربه ومن معه من المسلمين، وجعل له دمشق.
وبعث أبا عبيدة بن الجراح على جند آخر، وخرج معه ماشيا يوصيه، وجعل له نيابة حمص.
وبعث عمرو بن العاص ومعه جند آخر وجعله على فلسطين.
وأمر كل أمير أن يسلك طريقا غير طريق الآخر، لما لحظ في ذلك من المصالح.
وكان الصديق اقتدى في ذلك بنبي الله يعقوب حين قال لبنيه (* يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة وما أغنى عنكم من الله من شئ إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون) * [ يوسف: 67 ].
فكان سلوك يزيد ابن أبي سفيان على تبوك.
قال المدائني بإسناده عن شيوخه قالوا: وكان بعث أبي بكر هذه الجيوش في أول سنة ثلاث عشرة.
قال محمد بن إسحاق عن صالح بن كيسان: خرج أبو بكر ماشيا ويزيد ابن أبي سفيان راكبا فجعل، يوصيه، فلما فرغ قال: أقرئك السلام وأستودعك الله، ثم انصرف ومضى يزيد وأجد السير.
ثم تبعه شرحبيل بن حسنة، ثم أبو عبيدة مددا لهما، فسلكوا غير ذلك الطريق.
وخرج عمرو بن العاص حتى نزل العرمات (6) من أرض الشام.
ويقال إن يزيد بن أبي
__________
(1) في الطبري: ولا أجر لمن لا حسبة له.
(2) في الكنز: أن يحضره، وفي ابن عساكر: أن يحض به.
(3) في الطبري: التجارة.
(4) من الطبري 4 / 30 وأخرجه ابن عساكر في 1 / 133 وذكره في الكنز 8 / 207 بمثله.
(5) قال الواقدي في فتوح الشام: يزيد بن أبي سفيان.
(6) في الطبري: بغمر العربات.
(*)

(7/6)


سفيان نزل البلقاء أولا.
ونزل شرحبيل بالاردن، ويقال ببصرى.
ونزل أبو عبيدة بالجابية.
وجعل الصديق يمدهم بالجيوش، وأمر كل واحد منهم أن ينضاف إلى من أحب من الامراء.
ويقال إن أبا عبيدة لما مر بأرض البلقاء قاتلهم حتى صالحوه وكان أول صلح (1) وقع بالشام.
ويقال إن أول حرب وقع بالشام أن الروم اجتمعوا بمكان يقال له العرية (2) من أرض فلسطين، فوجه إليهم أبا أمامة [ الباهلي ] في سرية فقتلهم وغنم منهم، وقتل منهم بطريقا عظيما.
ثم كانت بعد هذه وقعة مرج الصفراء استشهد فيها خالد بن سعيد بن العاص وجماعة من المسلمين.
ويقال إن الذي استشهد في مرج الصفراء ابن لخالد بن سعيد، وأما هو ففر حتى انحاز إلى أرض الحجاز.
فالله أعلم، حكاه ابن جرير.
قال ابن جرير: ولما انتهى خالد بن سعيد إلى تيماء اجتمع له جنود من الروم في جمع كثير من نصارى العرب، من غيرا (3)، وتنوخ، وبني كلب، وسليح، ولخم وجذام، وغسان، فتقدم إليهم خالد بن سعيد، فلما اقترب منهم تفرقوا عنه ودخل كثير منهم في الاسلام، وبعث إلى الصديق يعلمه بما وقع من الفتح، فأمره الصديق أن يتقدم ولا يحجم، وأمده بالوليد بن عقبة وعكرمة بن أبي جهل وجماعة، فسار إلى قريب من إيلياء فالتقى هو وأمير من الروم يقال له ماهان (4) فكسره، ولجأ ماهان إلى دمشق، فلحقه خالد بن سعيد، وبادر الجيوش إلى لحوق دمشق وطلب الحظوة، فوصلوا إلى مرج الصفراء فانطوت عليه مسالح ماهان وأخذوا عليهم الطريق، وزحف ماهان ففر خالد بن سعيد، فلم يرد إلى ذي المروة.
واستحوذ الروم على جيشهم إلا من فر على الخيل، وثبت عكرمة بن أبي جهل، وقد تقهقر عن الشام قريبا وبقي ردءا
لمن نفر إليه، وأقبل شرحبيل بن حسنة من العراق من عند خالد بن الوليد إلى الصديق، فأمره على جيشه وبعثه إلى الشام، فلما مر بخالد بن سعيد بذي المروة، أخذ جمهور أصحابه الذين هربوا إلى ذي المروة.
ثم اجتمع عند الصديق طائفة من الناس فأمر عليهم معاوية بن أبي سفيان وأرسله وراء أخيه يزيد بن أبي سفيان.
ولما مر بخالد بن سعيد أخذ من كان بقي معه بذي المروة إلى الشام.
ثم أذن الصديق لخالد بن سعيد في الدخول إلى المدينة وقال: كان عمر أعلم بخالد.