البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي
ثم دخلت سنة خمس عشرة
قال ابن جرير: قال بعضهم فيها (3) مصر سعد بن أبي وقاص الكوفة دلهم
عليها ابن بقيلة قال لسعد: أدلك على أرض ارتفعت عن البق وانحدرت عن
الفلاة ؟ فدلهم على موضع الكوفة اليوم، قال: وفيها كانت وقعة مرج
الروم، وذلك لما انصرف أبو عبيدة وخالد من وقعة فحل قاصدين إلى حمص حسب
ما أمر به أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما تقدم في رواية
سيف بن عمر، فسارا حتى نزلا على ذي الكلاع، فبعث هرقل بطريقا يقال له
توذرا في جيش معه فنزل بمرج دمشق وغربها، وقد هجم الشتاء فبدأ أبو
عبيدة بمرج الروم، وجاء أمير آخر من الروم
__________
(1) في الاصابة: وقتلتهم.
(2) جزم ابن سعد انها ماتت في خلافة عثمان، وفي الاصابة: عن صاحب
الامثال انها بقيت إلى خلافة عثمان بل بعد ذلك.
(3) قال الواقدي في سنة سبع عشرة.
وقال أبو عبيدة: كان تكويف الكوفة سنة ثماني عشرة وفي الكوفة قال
الاثرم: قيل التكوف الاجتماع، وقيل أيضا ان المواضع المستديرة من الرمل
تسمى كوفاني، وبعضهم يسمي الارض التي فيها الحصباء مع الطين والرمل:
كوفة.
(*)
(7/60)
يقال له شنس
وعسكر معه كثيف، فنازله أبو عبيدة فاشتغلوا به عن توذرا فسار توذرا نحو
دمشق لينازلها وينتزعها من يزيد بن أبي سفيان، فاتبعه خالد بن الوليد
وبرز إليه يزيد بن أبي سفيان من دمشق، فاقتتلوا وجاء خالد وهم في
المعركة فجعل يقتلهم من ورائهم ويزيد يفصل فيهم من أمامهم، حتى أناموهم
ولم يفلت منهم إلا الشارد، وقتل خالد توذرا وأخذوا من الروم أموالا
عظيمة فاقتسماها ورجع يزيد إلى دمشق وانصرف خالد إلى أبي عبيدة فوجده
قد واقع شنس بمرج
الروم فقاتلهم فيه مقاتلة عظيمة حتى أنتنت الارض من زهمهم، وقتل أبو
عبيدة شنس وركبوا أكتافهم إلى حمص فنزل عليها يحاصرها.
وقعة حمص الاولى لما وصل أبو عبيدة
في اتباعه الروم المنهزمين إلى حمص، نزل حولها يحاصرها، ولحقه خالد ابن
الوليد فحاصروها حصارا شديدا، وذلك في زمن البرد الشديد، وصابر أهل
البلد رجاء أن يصرفهم عنهم شدة البرد، وصبر الصحابة صبرا عظيما بحيث
إنه ذكر غير واحد أن من الروم من كان يرجع، وقد سقطت رجله وهي في الخف،
والصحابة ليس في أرجلهم شئ سوى النعال، ومع هذا لم يصب منهم قدم ولا
أصبع أيضا، ولم يزالوا كذلك حتى انسلخ فصل الشتاء فاشتد الحصار (1)،
وأشار بعض كبار أهل حمص عليهم بالمصالحة فأبوا عليه ذلك وقالوا: أنصالح
والملك منا قريب ؟ فيقال إن الصحابة كبروا في بعض الايام تكبيرة ارتجت
منها المدينة حتى تفطرت منها بعض الجدران، ثم تكبيرة أخرى فسقطت بعض
الدور، فجاءت عامتهم إلى خاصتهم فقالوا: ألا تنظرون إلى ما نزل بنا،
وما نحن فيه ؟ ألا تصالحون القوم عنا ؟ قال: فصالحوهم على ما صالحوا
عليه أهل دمشق، على نصف المنازل، وضرب الخراج على الاراضي، وأخذ الجزية
على الرقاب بحسب الغنى والفقر.
وبعث أبو عبيدة بالاخماس والبشارة إلى عمر مع عبد الله بن مسعود.
وأنزل أبو عبيدة بحمص جيشا كثيفا يكون بها مع جماعة من الامراء، منهم
بلال والمقداد وكتب أبو عبيدة إلى عمر يخبره بأن هرقل قد قطع الماء إلى
الجزيرة (2) وأنه يظهر تارة ويخفى أخرى.
فبعث إليه عمر يأمره بالمقام ببلده.
__________
(1) في فتوح البلدان أن أهل حمص قاتلوا ثم لجأوا إلى المدينة وطلبوا
الامان والصلح، فتم على مئة ألف وسبعين ألف دينار 1 / 155.
وقال الواقدي في فتوح الشام ان حمص جرى تسليمها إلى أبي عبيدة بعد قتال
عنيف، وأصبحت المدينة تحت ذمامه وأمانه - يعني أبا عبيدة 1 / 144.
وهذا ما ذهب إليه ابن الاعثم في الفتوح: اقتتلوا يوما قتالا شديدا ولما
كان الغد سألوا أبا عبيدة الصلح 1 / 216.
(2) لم يشر ابن الاعثم في كتاب أبي عبيدة إلى أمر هرقل، انظر نص الكتاب
في الفتوح 1 / 216 والعبارة في الطبري:
إلى الجزيرة وهو بالرهاء ينغمس حينا ويطلع أحيانا، فبعث إلى عمر: ان
أقم في مدينتك وادع أهل القوة والجلد من عرب الشام فإني غير تارك
البعثة إليك بمن يكانفك إن شاء الله.
(*)
(7/61)
وقعة قنسرين
لما فتح أبو عبيدة حمص بعث خالد بن الوليد إلى قنسرين، فلما جاءها ثار
إليه أهلها ومن عندهم من نصارى العرب، فقاتلهم خالد فيها قتالا شديدا،
وقتل منهم خلقا كثيرا، فأما من هناك من الروم فأبادهم وقتل أميرهم
ميتاس (1).
وأما الاعراب فإنهم اعتذروا إليه بأن هذا القتال لم يكن عن رأينا فقبل
منهم خالد وكف عنهم ثم خلص إلى البلد فتحصنوا فيه، فقال لهم خالد إنكم
لو كنتم في السحاب لحملنا الله إليكم أو لانزلكم إلينا.
ولم يزل بهم حتى فتحها الله عليه.
ولله الحمد.
فلما بلغ عمر ما صنعه خالد في هذه الوقعة قال يرحم الله أبا بكر، كان
أعلم بالرجال مني، والله إني لم أعزله عن ريبة ولكن خشيت أن يوكل الناس
إليه.
وفي هذه السنة تقهقر هرقل بجنوده، وارتحل عن بلاد الشام إلى بلاد
الروم.
هكذا ذكره ابن جرير عن محمد بن إسحاق: قال وقال سيف: كان ذلك في سنة ست
عشرة، قالوا: وكان هرقل كلما حج إلى بيت المقدس وخرج منها يقول عليك
السلام يا سورية، تسليم مودع لم يقض منك وطرا وهو عائد.
فلما عزم على الرحيل من الشام وبلغ الرها، طلب من أهلها أن يصحبوه إلى
الروم، فقالوا: إن بقاءنا هاهنا أنفع لك من رحيلنا معك، فتركهم.
فلما وصل إلى شمشان (2) وعلا على شرف هنالك التفت إلى نحو بيت المقدس
وقال: عليك السلام يا سورية سلاما لا اجتماع بعده إلا أن أسلم عليك
تسليم المفارق، ولا يعود إليك رومي أبدا إلا خائفا حتى يولد المولود
المشؤم، ويا ليته لم يولد.
ما أحلى فعله وأمر عاقبته على الروم ! ! ثم سار هرقل حتى نزل
القسطنطينية واستقر بها ملكه، وقد سأل رجلا ممن اتبعه كان قد أسر مع
المسلمين، فقال: أخبرني عن هؤلاء القوم، فقال: أخبرك كأنك تنظر إليهم،
هم فرسان بالنهار، رهبان بالليل، لا يأكلون في ذمتهم إلا بثمن، ولا
يدخلون إلا
بسلام، يقفون على من حاربوه حتى يأتوا عليه.
فقال: لئن كنت صدقتني ليملكن (3) موضع قدمي هاتين.
قلت وقد حاصر المسلمون قسطنطينية في زمان بني أمية فلم يملكوها ولكن
سيملكها المسلمون في آخر الزمان كما سنبينه في كتاب الملاحم، وذلك قبل
خروج الدجال بقليل على ما صحت به الاحاديث عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم في صحيح مسلم وغيره من الائمة ولله الحمد والمنة.
وقد حرم الله على الروم أن يملكوها بلاد الشام برمتها إلى آخر الدهر،
كما ثبت به الحديث في الصحيحين عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم " إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك
__________
(1) في الطبري: ميناس.
(2) في الطبري: شمشاط.
(3) في الطبري: ليرثن.
(*)
(7/62)
قيصر فلا قيصر
بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله عز وجل " وقد وقع
ما أخبر به صلوات الله وسلامه عليه كما رأيت، وسيكون ما أخبر به جزما
لا يعود ملك القياصرة إلى الشام أبدا لان قيصر علم جنس عند العرب يطلق
على كل من ملك الشام مع بلاد الروم.
فهذا لا يعود لهم أبدا.
وقعة قيسارية قال ابن جرير: وفي هذه
السنة أمر عمر معاوية بن أبي سفيان على قيسارية وكتب إليه: أما بعد فقد
وليتك قيسارية فسر إليها واستنصر الله عليهم، وأكثر من قول لا حول ولا
قوة إلا بالله العلي العظيم، الله ربنا وثقتنا ورجاؤنا ومولانا فنعم
المولى ونعم النصير.
فسار إليها فحاصرها (1)، وزاحفه أهلها مرات عديدة، وكان آخرها وقعة أن
قاتلوا قتالا عظيما، وصمم عليهم معاوية، واجتهد في القتال حتى فتح الله
عليه فما انفصل الحال حتى قتل منهم نحوا من ثمانين ألفا، وكمل المائة
الالف من الذين انهزموا عن المعركة، وبعث بالفتح والاخماس إلى أمير
المؤمنين عمر رضي الله عنه.
قال ابن جرير: وفيها كتب عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص بالمسير إلى
إيليا، ومناجزة صاحبها فاجتاز في طريقه عند الرملة بطائفة من الروم
فكانت.
وقعة أجنادين وذلك أنه سار بجيشه
وعلى ميمنته ابنه عبد الله بن عمرو، وعلى ميسرته جنادة بن تميم
المالكي، من بني مالك بن كنانة، ومعه شرحبيل بن حسنة، واستخلف على
الاردن أبا الاعور السلمي، فلما وصل إلى الرملة وجد عندها جمعا من
الروم عليهم الارطبون، وكان أدهى الروم وأبعدها غورا، وأنكأها فعلا،
وقد كان وضع بالرملة جندا عظيما وبايلياء جندا عظيما، فكتب عمرو إلى
عمر بالخبر.
فلما جاءه كتاب عمرو قال: قد رمينا أرطبون الروم بأرطبون العرب،
فانظروا عما تنفرج.
وبعث عمرو بن العاص علقمة بن حكيم الفراسي، ومسروق بن بلال العكي على
قتال أهل إيليا.
وأبا أيوب المالكي إلى الرملة، وعليها التذارق، فكانوا بإزائهم
ليشغلوهم عن عمرو بن العاص وجيشه، وجعل عمرو كلما قدم عليه إمداد من
جهة عمر يبعث منهم طائفة إلى هؤلاء وطائفة إلى هؤلاء.
وأقام عمرو على أجنادين لا يقدر من الارطبون على سقطة
__________
(1) قال الواقدي: والذي اجتمع عليه العلماء ان أول الناس حاصرها عمرو
بن العاص سنة ثلاث عشرة.
ثم حاصرها معاوية ودام حصارها سبع سنين وكان فتحها في شوال سنة تسع
عشرة.
وانظر فتوح البلدان 2 / 169.
(*)
(7/63)
ولا تشفيه
الرسل فوليه بنفسه، فدخل عليه كأنه رسول، فأبلغه ما يريد وسمع كلامه
وتأمل حضرته (1) حتى عرف ما أراد، وقال الارطبون في نفسه: والله إن هذا
لعمرو أو أنه الذي يأخذ عمرو برأيه، وما كنت لاطيب القوم بأمر هو أعظم
من قتله.
فدعا حرسيا فساره فأمره بفتكه فقال: اذهب فقم في مكان كذا وكذا، فإذا
مر بك فاقتله، ففطن عمرو بن العاص فقال للارطبون: أيها الامير إني قد
سمعت كلامك وسمعت كلامي، وإني واحد من عشرة بعثنا عمر
ابن الخطاب لنكون مع هذا الوالي لنشهد أموره، وقد أحببت أن آتيك بهم
ليسمعوا كلامك ويروا ما رأيت.
فقال الارطبون: نعم ! فاذهب فأتني بهم، ودعا رجلا فساره فقال: اذهب إلى
فلان فرده.
وقام عمرو فذهب إلى جيشه ثم تحقق الارطبون أنه عمرو بن العاص، فقال:
خدعني الرجل، هذا والله أدهى العرب (2).
وبلغت عمر بن الخطاب فقال: لله در عمرو.
ثم ناهضه عمرو فاقتتلوا بأجنادين قتالا عظيما، كقتال اليرموك، حتى كثرت
القتلى بينهم ثم اجتمعت بقية الجيوش إلى عمرو بن العاص، وذلك حين
أعياهم صاحب إيليا وتحصن منهم بالبلد، وكثر جيشه، فكتب الارطبون إلى
عمرو بأنك صديقي ونظيري أنت في قومك مثلي في قومي، والله لا تفتح من
فلسطين شيئا بعد أجنادين فارجع ولا تغر فتلقى مثل ما لقي الذين قبلك من
الهزيمة، فدعا عمرو رجلا يتكلم بالرومية فبعثه إلى أرطبون وقال: اسمع
ما يقول لك ثم ارجع فأخبرني.
وكتب إليه معه: جاءني كتابك وأنت نظيري ومثلي في قومك، لو أخطأتك خصلة
تجاهلت فضيلتي وقد علمت أني صاحب فتح هذه البلاد، واقرأ كتابي هذا
بمحضر من أصحابك ووزرائك.
فلما وصله الكتاب جمع وزراءه وقرأ عليهم الكتاب فقالوا للارطبون: من
أين علمت أنه ليس بصاحب فتح هذه البلاد ؟ فقال: صاحبها رجل اسمه على
ثلاثة أحرف.
فرجع الرسول إلى عمرو فأخبره بما قال فكتب عمرو إلى عمر يستمده ويقول
له: إني أعالج حربا كؤدا صدوما، وبلادا ادخرت لك، فرأيك.
فلما وصل الكتاب إلى عمر علم أن عمرا لم يقل ذلك إلا لامر علمه، فعزم
عمر على الدخول إلى الشام لفتح بيت المقدس كما سنذكر تفصيله.
قال سيف بن عمر عن شيوخه: وقد دخل عمر الشام أربع مرات، الاولى كان
راكبا فرسا حين فتح بيت المقدس، والثانية على بعير، والثالثة وصل إلى
سرع ثم رجع لاجل ما وقع بالشام من الوباء.
والرابعة دخلها على حمار هكذا نقله ابن جرير عنه.
فتح بيت المقدس على يدي عمر بن الخطاب
ذكره أبو جعفر بن جرير في هذه السنة عن رواية سيف بن عمر وملخص ما ذكره
هو وغيره
__________
(1) في الطبري: حصونه.
(2) في الطبري: الخلق.
(*)
(7/64)
أن أبا عبيدة
لما فرغ من دمشق كتب (1) إلى أهل إيليا يدعوهم إلى الله وإلى الاسلام،
أو يبذلون الجزية أو يؤذنوا بحرب.
فأبوا أن يجيبوا إلى ما دعاهم إليه.
فركب إليهم في جنوده واستخلف على دمشق سعيد بن زيد ثم حاصر بيت المقدس
وضيق عليهم (2) حتى أجابوا إلى الصلح بشرط أن يقدم إليهم أمير المؤمنين
عمر بن الخطاب.
فكتب إليه أبو عبيدة بذلك فاستشار عمر الناس في ذلك فأشار عثمان بن
عفان بأن لا يركب إليهم ليكون أحقر لهم وأرغم لا نوفهم.
وأشار علي بن أبي طالب بالمسير إليهم ليكون أخف وطأة على المسلمين في
حصارهم بينهم، فهوى ما قال علي ولم يهو ما قال عثمان.
وسار بالجيوش نحوهم واستخلف على المدينة علي بن أبي طالب وسار العباس
ابن عبد المطلب (3) على مقدمته، فلما وصل إلى الشام تلقاه أبو عبيدة
ورؤس الامراء، كخالد بن الوليد، ويزيد بن أبي سفيان، فترجل أبو عبيدة
وترجل عمر فأشار أبو عبيدة ليقبل يد عمر فهم عمر بتقبيل رجل أبي عبيده
فكف أبو عبيدة فكف عمر.
ثم سار حتى صالح نصارى بيت المقدس واشترط عليهم إجلاء الروم إلى ثلاث
ثم دخلها إذ دخل المسجد من الباب الذي دخل منه رسول الله صلى الله عليه
وسلم ليلة الاسراء.
ويقال إنه لبى حين دخل بيت المقدس فصلى فيه تحية المسجد بمحراب داود،
وصلى بالمسلمين فيه صلاة الغداة من الغد فقرأ في الاولى بسورة ص وسجد
فيها والمسلمون معه، وفي الثانية بسورة بني إسرائيل، ثم جاء إلى الصخرة
فاستدل على مكانها من كعب الاحبار وأشار عليه كعب أن يجعل المسجد من
ورائه فقال ضاهيت اليهودية.
ثم جعل المسجد في قبلي بيت المقدس وهو العمري اليوم ثم نقل التراب عن
الصخرة في طرف ردائه وقبائه، ونقل المسلمون معه في ذلك، وسخر أهل
الاردن في نقل بقيتها، وقد كانت الروم جعلوا الصخرة مزبلة لانها قبلة
اليهود، حتى أن المرأة كانت ترسل خرقة حيضتها من داخل الحوز لتلقى في
الصخرة، وذلك مكافأة لما كانت اليهود عاملت به القمامة وهي المكان الذي
كانت اليهود صلبوا فيه المصلوب فجعلوا يلقون على قبره القمامة فلاجل
ذلك سمي ذلك الموضع القمامة وانسحب هذا الاسم على
الكنيسة التي بناها النصارى هنالك.
__________
(1) ذكر الازدي في فتوح الشام 243 نص كتاب أبي عبيدة إلى أهل إيلياء
وفيه: بسم الله الرحمن الرحيم من أبي عبيدة بن الجراح إلى بطارقة أهل
إيلياء وسكانها...فإنا ندعوكم إلى شهادة ان لا إله إلا الله...فإن
أبيتم فأقروا لنا باعطاء الجزية...وإن أبيتم سرت إليكم بقوم هم أشد حبا
للموت منكم للحياة ولشرب الخمر وأكل الخنزير، ثم لا أرجع عنكم إن شاء
الله حتى أقتل مقاتلتكم واسبي ذراريكم.
(2) قال الازدي: فخرج أهل إيلياء فقاتلوا المسلمين ساعة، ثم انهزموا ثم
قاتلوهم ثم انهزموا إلى داخل حصنهم.
أما الواقدي فذكر في فتوح الشام: ولم يزل أبو عبيدة ينازل بيت المقدس
أربعة أشهر كاملة وما من يوم إلا ويقاتلهم قتالا شديدا، (ثم طلبوا أن
يبعث إلى عمر ليفتحوا له البلد) فأمر أبو عبيدة بالكف عنهم 1 / 218 -
219.
(3) في الطبري فكالاصل، وفي فتوح الواقدي 1 / 220: سار معه الزبير
وعبادة بن الصامت.
(*)
(7/65)
وقد كان هرقل
حين جاءه الكتاب النبوي وهو بإيلياء وعظ النصارى فيما كانوا قد بالغوا
في إلقاء الكناسة على الصخرة حتى وصلت إلى محراب داود قال لهم: إنكم
لخليق أن تقتلوا على هذه الكناسة مما امتهنتم هذا المسجد كما قتلت بنو
إسرائيل على دم يحيى بن زكريا ثم أمروا بإزالتها فشرعوا في ذلك فما
أزالوا ثلثها حتى فتحها المسلمون فأزالها عمر بن الخطاب وقد استقصى هذا
كله بأسانيده ومتونه الحافظ بهاء الدين بن الحافظ أبي القاسم بن عساكر
في كتابه المستقصى في فضائل المسجد الاقصى.
وذكر سيف في سياقه: أن عمر رضي الله عنه ركب من المدينة على فرس ليسرع
السير بعد ما استخلف عليها علي بن أبي طالب، فسار حتى قدم الجابية فنزل
بها وخطب بالجابية خطبة طويلة بليغة منها: " أيها الناس أصلحوا سرائركم
تصلح علانيتكم، واعملوا لآخرتكم تكفوا أمر دنياكم، واعلموا أن رجلا ليس
بينه وبين آدم أب حي ولا بينه وبين الله هوادة، فمن أراد لحب (طريق)
وجه الجنة فليلزم الجماعة فإن الشيطان مع الواحد وهو مع الاثنين أبعد،
ولا يخلون
أحدكم بإمرأة فإن الشيطان ثالثهما (1)، ومن سرته حسنته وساءته سيئته
فهو مؤمن (2) " وهي خطبة طويلة اختصرناها.
ثم صالح عمر أهل الجابية ورحل إلى بيت المقدس وقد كتب إلى أمراء
الاجناد أن يوافوه في اليوم الفلاني إلى الجابية فتوافوا أجمعون في ذلك
اليوم إلى الجابية.
فكان أول من تلقاه يزيد بن أبي سفيان، ثم أبو عبيدة، ثم خالد بن الوليد
في خيول المسلمين وعليهم يلامق الديباج، فسار إليهم عمر ليحصبهم (3)
فاعتذروا إليه بأن عليهم السلاح، وأنهم يحتاجون إليه في حروبهم.
فسكت عنهم واجتمع الامراء كلهم بعد ما استخلفوا على أعمالهم، سوى عمرو
بن العاص وشرحبيل فإنهما مواقفان الارطبون بأجنادين، فبينما عمر في
الجابية إذا بكردوس من الروم بأيديهم سيوف مسللة، فسار إليهم المسلمون
بالسلاح فقال عمر: إن هؤلاء قوم يستأمنون.
فساروا نحوهم فإذا هم جند (4) من بيت المقدس يطلبون الامان والصلح من
أمير المؤمنين حين سمعوا بقدومه فأجابهم عمر رضي الله عنه إلى ما
سألوا، وكتب لهم كتاب أمان ومصالحة، وضرب عليهم الجزية، واشترط عليهم
شروطا ذكرها ابن جرير (5)، وشهد في الكتاب خالد بن الوليد، وعمرو بن
العاص، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاوية بن أبي سفيان، وهو كاتب الكتاب
__________
(1) في فتوح الشام للواقدي: فإنهن من حبائل الشيطان.
وعن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله قال: لا يخلون رجل بامرأة إلا كان
ثالثهما الشيطان.
رواه الترمذي.
(2) انظر الخطبة في فتوح الواقدي 1 / 222 - 223.
(3) وقال لهم لما رأى ما عليهم من ثياب: ويحكم لا تعتزوا بغير ما أعزكم
الله به فتذلوا.
(4) وكان على جند إيلياء القادمين: ابن الجعيد قاله الازدي في فتوحه ص
(254) وفي ابن الاعثم: أبو الجعيد وهو من المستعربة.
(5) انظر صورتي عهد عمر لاهل بيت مقدس وأهل لد في الطبري 4 / 159.
(*)
(7/66)
وذلك في سنة
خمس عشرة (1).
ثم كتب لاهل لد ومن هنالك من الناس كتابا آخر (2) وضرب عليهم الجزية،
ودخلوا فيما صالح عليه أهل إيلياء، وفر الارطبون إلى بلاد مصر، فكان
بها حتى
فتحها عمرو بن العاص، ثم فر إلى البحر فكان يلي بعض السرايا الذين
يقاتلون المسلمين فظفر به رجل من قيس فقطع يد القيسي وقتله القيسي وقال
في ذلك: فإن يكن أرطبون الروم أفسدها * فإن فيها بحمد الله منتفعا وإن
يكن أرطبون الروم قطعها * فقد تركت بها أوصاله قطعا ولما صالح أهل
الرملة وتلك البلاد، أقبل عمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة حتى قدما
الجابية فوجدا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب راكبا، فلما اقتربا منه
أكبا على ركبتيه فقبلاها واعتنقهما عمر معا رضي الله عنهم * قال سيف ثم
سار عمر إلى بيت المقدس من الجابية وقد توحى فرسه فأتوه ببرذون فركبه
فجعل يهملج به فنزل عنه وضرب وجهه وقال لا علم الله من علمك، هذا من
الخيلاء (3)، ثم لم يركب برذونا قبله ولا بعده، ففتحت إيلياء وأرضها
على يديه ما خلا أجنادين فعلى يدي عمرو.
وقيسارية فعلى يدي معاوية.
هذا سياق سيف بن عمر وقد خالفه غيره من أئمة السير فذهبوا إلى أن فتح
بيت المقدس كان في سنة ست عشرة.
قال محمد بن عائذ عن الوليد بن مسلم عن عثمان بن حصن بن علان قال يزيد
بن عبيدة: فتحت بيت المقدس سنة ست عشرة وفيها قدم عمر بن الخطاب
الجابية.
وقال أبو زرعة الدمشقي عن دحيم عن الوليد بن مسلم قال: ثم عاد في سنة
سبع عشرة فرجع من سرع ثم قدم سنة ثماني عشرة فاجتمع إليه الامراء
وسلموا إليه ما اجتمع عندهم من الاموال فقسمها وجند الاجناد ومصر
الامصار ثم عاد إلى المدينة.
وقال يعقوب بن سفيان: ثم كان فتح الجابية وبيت المقدس سنة ست عشرة.
وقال أبو معشر: ثم كان عمواس والجابية في سنة ست عشرة.
ثم كانت سرع في سبع عشرة، ثم كان عام الرمادة في سنة ثماني عشرة قال:
وكان فيها طاعون عمواس (4) - يعني فتح البلدة المعروفة بعمواس - فأما
الطاعون المنسوب إليها فكان في سنة ثماني عشرة كما سيأتي قريبا إن شاء
الله تعالى.
قال أبو مخنف: لما قدم عمر الشام فرأى غوطة دمشق ونظر إلى المدينة
والقصور والبساتين تلا
__________
(1) بالاصل: خمسة عشر.
خطأ.
(2) زاد الواقدي في فتوحه 1 / 224: واني سمعت رسول الله صلى الله عليه
وآله يقول: " لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من الكبر " ولقد كاد
أن يهلكني برذونكم المهملج وثوبكم الابيض.
(3) عمواس: كورة من فلسطين بالقرب من بيت المقدس، على أربعة أميال من
الرملة على طريق القدس.
والطاعون: بثور أو أورام تظهر في الجسم مع التهاب شديد ومؤذ جدا وهو
مرض فتاك شديد العدوى.
(*)
(7/67)
قوله تعالى *
(كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين،
كذلك وأورثناها قوما آخرين) * [ الدخان: 24 ] ثم أنشد قول النابغة: هما
فتيا دهر يكر عليهما * نهار وليل يلحقان التواليا إذا ما هما مرا بحي
بغبطة * أناخا بهم حتى يلاقوا الدواهيا وهذا يقتضي بادي الرأي أنه دخل
دمشق وليس كذلك، فإنه لم ينقل أحد أنه دخلها في شئ من قدماته الثلاث
إلى الشام، أما الاولى وهي هذه فإنه سار من الجابية إلى بيت المقدس،
كما ذكر سيف وغيره والله أعلم.
وقال الواقدي أما رواية غير أهل الشام فهي أن عمر دخل الشام مرتين ورجع
الثالثة من سرع سنة سبع عشرة وهم يقولون دخل في الثالثة دمشق وحمص
وأنكر الواقدي ذلك.
قلت: ولا يعرف أنه دخل دمشق إلا في الجاهلية قبل إسلامه كما بسطنا ذلك
في سيرته.
وقد روينا أن عمر حين دخل بيت المقدس سأل كعب الاحبار عن مكان الصخرة
فقال: يا أمير المؤمنين اذرع من وادي جهنم كذا وكذا ذراعا فهي ثم.
فذرعوا فوجدوها وقد اتخذها النصارى مزبلة، كما فعلت اليهود بمكان
القمامة، وهو المكان الذي صلب فيه المصلوب الذي شبه بعيسى فاعتقدت
النصارى واليهود أنه المسيح.
وقد كذبوا في اعتقادهم هذا كما نص الله تعالى على خطئهم في ذلك.
والمقصود أن النصارى لما حكموا على بيت المقدس قبل البعثة بنحو من
ثلثمائة سنة، طهروا مكان القمامة واتخذوه كنيسة هائلة بنتها أم الملك
قسطنطين باني المدينة المنسوبة إليه، واسم أمه هيلانة الحرانية
البندقانية.
وأمرت ابنها فبنى للنصارى بيت لحم على موضع الميلاد، وبنت هي على موضع
القبر فيما يزعمون.
والغرض أنهم اتخذوا مكان قبلة اليهود مزبلة أيضا، في مقابلة ما صنعوا
في قديم الزمان وحديثه.
فلما فتح عمر بيت المقدس وتحقق موضع الصخرة، أمر بإزالة ما عليها من
الكناسة حتى قيل إنه كنسها بردائه، ثم استشار كعبا أين يضع المسجد ؟
فأشار عليه بأن يجعله وراء الصخرة، فضرب في صدره وقال: يا ابن أم كعب
ضارعت اليهود: وأمر ببنائه في مقدم بيت المقدس.
قال الامام أحمد: حدثنا أسود بن عامر، ثنا حماد بن سلمة، عن أبي سنان،
عن عبيد بن آدم وأبي مريم وأبي شعيب أن عمر بن الخطاب كان بالجابية
فذكر فتح بيت المقدس، قال: قال ابن سلمة: فحدثني أبو سنان عن عبيد بن
آدم سمعت عمر يقول لكعب: أين ترى أن أصلي ؟ قال إن أخذت عني صليت خلف
الصخرة وكانت القدس كلها بين يديك، فقال عمر ضاهيت اليهودية لا ولكن
أصلي حيث صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتقدم إلى القبلة فصلى، ثم
جاء فبسط رداءه وكنس الكناسة في ردائه وكنس الناس.
وهذا إسناد جيد اختاره الحافظ ضياء الدين المقدسي في كتابه المستخرج،
وقد تكلمنا على رجاله في كتابنا الذي أفردناه في مسند عمر، ما رواه من
الاحاديث المرفوعة وما روي
(7/68)
عنه من الآثار
الموقوفة مبوبا على أبواب الفقه ولله الحمد والمنة.
وقد روى سيف بن عمر عن شيوخه عن سالم قال: لما دخل عمر الشام تلقاه رجل
من يهود دمشق، فقال السلام عليك يا فاروق، أنت صاحب إيلياء ؟ لاها لله
لا ترجع حتى يفتح الله عليك إيلياء.
وقد روى أحمد بن مروان الدينوري، عن محمد بن عبد العزيز، عن أبيه، عن
الهيثم بن عدي، عن أسامة بن زيد بن أسلم، عن أبيه عن جده أسلم مولى عمر
بن الخطاب أنه قدم دمشق في تجار من قريش، فلما خرجوا تخلف عمر لبعض
حاجته، فبينما هو في البلد إذا البطريق يأخذ بعنقه، فذهب ينازعه فلم
يقدر، فأدخله دارا فيها تراب وفأس ومجرفة وزنبيل، وقال له: حول هذا من
ههنا إلى ههنا، وغلق عليه الباب وانصرف فلم يجئ إلى نصف النار.
قال: وجلست مفكرا ولم أفعل مما قال لي شيئا.
فلما جاء قال: مالك لم تفعل ؟ ولكمني في رأسي بيده قال: فأخذت الفأس
فضربته بها فقتلته وخرجت على وجهي فجئت ديرا لراهب فجلست عنده من
العشي، فأشرف علي فنزل وأدخلني الدير فأطعمني وسقاني، وأتحفني، وجعل
يحقق النظر في، وسألني عن أمري فقلت: إني أضللت أصحابي.
فقال: إنك لتنظر بعين خائف، وجعل يتوسمني ثم قال: لقد علم أهل دين
النصرانية أني أعلمهم بكتابهم، وإني لاراك الذي تخرجنا من بلادنا هذه،
فهل لك أن تكتب لي كتاب أمان على ديري هذا ؟ فقلت: يا هذا لقد ذهبت غير
مذهب.
فلم يزل بي حتى كتبت له صحيفة بما طلب مني، فلما كان وقت الانصراف
أعطاني أتانا فقال لي اركبها، فإذا وصلت إلى أصحابك فابعث إلي بها
وحدها فإنها لا تمر بدير إلا أكرموها.
ففعلت ما أمرني به، فلما قدم عمر لفتح بيت المقدس أتاه ذلك الراهب وهو
بالجابية بتلك الصحيفة فأمضاها له عمر واشترط عليه ضيافة من يمر به من
المسلمين، وأن يرشدهم إلى الطريق.
رواه ابن عساكر وغيره.
وقد ساقه ابن عساكر من طريق أخرى في ترجمة يحيى بن عبيد الله بن أسامة
القرشي البلقاوي عن زيد بن أسلم، عن أبيه فذكر حديثا طويلا عجيبا هذا
بعضه.
وقد ذكرنا الشروط العمرية على نصارى الشام مطولا في كتابنا الاحكام،
وأفردنا له مصنفا على حدة ولله الحمد والمنة.
وقد ذكرنا خطبته في الجابية بألفاظها وأسانيدها في الكتاب الذي أفردناه
لمسند عمر، وذكرنا تواضعه في دخوله الشام في السيرة التي أفردناها له.
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثني الربيع بن ثعلب، نا أبو إسماعيل
المؤدب، عن عبد الله ابن مسلم بن هرمز المكي، عن أبي الغالية الشامي
قال: قدم عمر بن الخطاب الجابية على طريق إيلياء على جمل أورق، تلوح
صلعته للشمس، ليس عليه قلنسوة ولا عمامة، تصطفق رجلاه بين شعبتي الرحل
بلا ركاب، وطاؤه كساء انبجاني ذو صوف هو وطاؤه إذا ركب، وفراشه إذا
نزل، حقيبته نمرة أو شملة محشوة ليفا، هي حقيبته إذا ركب ووسادته إذا
نزل وعليه قميص من كرابيس قد رستم وتخرق جنبه.
فقال: ادعوا لي رأس القوم، فدعوا له الجلومس، فقال: اغسلوا قميصي
(7/69)
وخيطوه
وأعيروني ثوبا أو قميصا.
فأتي بقميص كتان فقال: ما هذا ؟ قالوا: كتان.
قال: وما
الكتان ؟ فأخبروه فنزع قميصه فغسل ورقع وأتي به فنزع قميصهم ولبس
قميصه.
فقال له الجلومس: أنت ملك العرب وهذه بلاد لا تصلح بها الابل، فلو لبست
شيئا غير هذا وركبت برذونا لكان ذلك أعظم في أعين الروم.
فقال: نحن قوم أعزنا الله بالاسلام فلا نطلب بغير الله بديلا.
فأتي ببرذون فطرح عليه قطيفة بلا سرج ولا رحل فركبه بها فقال: احبسوا
احبسوا، ما كنت أرى الناس يركبون الشيطان قبل هذا فأتي بجمله فركبه.
وقال إسماعيل بن محمد الصفار: حدثنا سعد أن بن نصر، حدثنا سفيان، عن
أيوب الطائي، عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب قال: لما قدم عمر الشام
عرضت له مخاضة فنزل عن بعيره ونزع موقيه فأمسكهما بيد، وخاض الماء ومعه
بعيره، فقال له أبو عبيدة: قد صنعت اليوم صنيعا عظيما عند أهل الارض،
صنعت كذا وكذا، قال: فصك في صدره وقال: أولو غيرك يقولها يا أبا عبيدة،
إنكم كنتم أذل الناس وأحقر الناس وأقل الناس، فأعزكم الله بالاسلام
فمهما تطلبوا العز بغيره يذلكم الله.
[ أيام برس وبابل وكوثى ] قال ابن جرير: وفي هذه السنة - أعني سنة خمس
عشرة - كانت بين المسلمين وفارس وقعات في قول سيف بن عمر.
وقال ابن إسحاق والواقدي: إنما كان ذلك في سنة ست عشرة، ثم ذكر ابن
جرير وقعات كثيرة كانت بينهم، وذلك حين بعث عمر بن الخطاب إلى سعد بن
أبي وقاص يأمره بالمسير إلى المدائن، وأن يخلف النساء والعيال بالعقيق
(1) في خيل كثيرة كثيفة، فلما تفرغ سعد من القادسية بعث على المقدمة
زهرة بن حوية، ثم أتبعه بالامراء واحدا بعد واحد، ثم سار في الجيوش وقد
جعل هاشم بن عتبة بن أبي وقاص على خلافته مكان خالد بن عرفطة، وجعل
خالدا هذا على الساقة، فساروا في خيول عظيمة، وسلاح كثير، وذلك لايام
بقين من شوال من هذه السنة، فنزلوا الكوفة وارتحل زهرة بين أيديهم نحو
المدائن (2)، فلقيه بها يصبهرى في جيش من فارس فهزمهم زهرة وذهبت الفرس
في هزيمتهم إلى بابل وبها جمع كثير ممن انهزم يوم القادسية قد جعلوا
عليهم الفيرزان، فبعث زهرة إلى سعد فأعلمه باجتماع المنهزمين ببابل،
فسار سعد
بالجيوش إلى بابل، فتقابل هو والفيرزان عند بابل فهزمهم كأسرع من لفة
الرداء، وانهزموا بين يديه فرقتين ففرقة ذهبت إلى المدائن، وأخرى سارت
إلى نهاوند (3)، وأقام سعد ببابل أياما ثم سار
__________
(1) كذا بالاصل وفي الطبري والكامل: العتيق وفي فتوح الواقدي 2 / 194:
الحيرة.
(2) في الطبري والكامل: برس.
وفي الواقدي: بالس.
وبرس موضع بأرض بابل به آثار لبخت نصر وثل مفرط العلويسمى صرح البرس.
(3) في الكامل والطبري: ثلاث فرق، والثالثة عليها الهرمزان سار إلى
الاهواز.
(*)
(7/70)
منها نحو
المدائن فلقوا جمعا آخر من الفرس فاقتتلوا قتالا شديدا وبارزوا أمير
الفرس، وهو شهريار، فبرز إليه رجل من المسلمين يقال له نائل الاعرجي
أبو نباتة من شجعان بني تميم، فتجاولا ساعة بالرماح، ثم ألقياها
فانتضيا سيفيهما وتصاولا بهما، ثم تعانقا وسقطا عن فرسيهما إلى الارض،
فوقع شهريار على صدر أبي نباتة، وأخرج خنجرا ليذبحه بها، فوقعت أصبعه
في فم أبي نباتة فقضمها حتى شغله عن نفسه، وأخذ الخنجر فذبح شهريار بها
وأخذ فرسه وسواريه وسلبه، وانكشف أصحابه فهزموا، فأقسم سعد على نائل
ليلبس سواري شهريار وسلاحه، وليركبن فرسه إذا كان حرب فكان يفعل ذلك.
قالوا: وكان أول من تسور بالعراق، وذلك بمكان يقال له كوثى (1).
وزار المكان الذي حبس فيه الخليل وصلى عليه وعلى سائر الانبياء، وقرأ *
(وتلك الايام نداولها بين الناس) * الآية [ آل عمران: 140 ].
وقعة نهر شير (2) قالوا: ثم قدم سعد
زهرة بين يديه من كوثى إلى نهرشير فمضى إلى المقدمة وقد تلقاه شيرزاذ
(3) إلى ساباط بالصلح والجزية فبعثه إلى سعد فأمضاه، ووصل سعد بالجنود
إلى مكان يقال له مظلم ساباط، فوجدوا هنالك كتائب كثيرة لكسرى يسمونها
بوران، وهم يقسمون كل يوم لا يزول ملك فارس ما عشنا، ومعهم أسد كبير
لكسرى يقال له المقرط، قد أرصدوه في طريق المسلمين فتقدم إليه ابن أخي
سعد، وهو هاشم بن عتبة، فقتل الاسد والناس ينظرون وسمى
يومئذ سيفه المتين (4) وقبل سعد يومئذ رأس هاشم، وقبل هاشم قدم سعد
(5).
وحمل هاشم على الفرس فأزالهم عن أماكنهم وهزمهم وهو يتلو قوله تعالى *
(أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال) * فلما كان الليل ارتحل
المسلمون ونزلوا نهر شير فجعلوا كلما وقفوا كبروا وكذلك حتى كان آخرهم
مع سعد فأقاموا بها شهرين ودخلوا في الثالث وفرغت السنة.
قال ابن جرير: وفيها حج بالناس عمر وكان عامله فيها على مكة عتاب بن
أسيد، وعلى الشام أبو عبيدة، وعلى الكوفة والعراق سعد، وعلى الطائف
يعلى بن أمية (6) وعلى البحرين
__________
(1) في فتوح الواقدي: كوثاريا.
وكوثى موضع بالعراق في أرض بابل، وكوثى العراق كوثيان: أحدهما كوثى
الطريق والآخر كوثى ربى وبها مشهد الخليل عليه السلام وبها مولده وبها
طرح ابراهيم في النار.
(2) كذا بالاصل وفي الطبري والكامل والبلاذري: بهرسير.
وفي فتوح الواقدي: نهمشير.
(3) في الواقدي: سرزاد.
(4) في الطبري: المنن.
(5) كذا في الطبري والكامل: أما الواقدي فقال في فتوح العراق 2 / 198:
ان هاشم بن المرقال قتل سرزاد وذكر بقية القصة كالاصل.
(6) في الطبري: منية.
(*)
(7/71)
واليمامة عثمان
بن أبي العاص، وعلى عمان حذيفة بن محصن.
قلت: وكانت وقعة اليرموك في سنة خمس عشرة في رجب منها عند الليث بن سعد
وابن لهيعة وأبي معشر والوليد بن مسلم ويزيد بن عبيدة وخليفة بن خياط
وابن الكلبي ومحمد بن عائذ وابن عساكر وشيخنا أبي عبد الله الذهبي
الحافظ.
وأما سيف بن عمر وأبو جعفر بن جرير فذكروا وقعة اليرموك في سنة ثلاث
عشرة.
وقد قدمنا ذكرها هنالك تبعا لابن جرير، وهكذا وقعة القادسية عند بعض
الحفاظ أنها كانت في أواخر هذه السنة - سنة خمس عشرة - وتبعهم في ذلك
شيخنا الحافظ الذهبي.
والمشهور أنها كانت في سنة أربع عشرة كما تقدم ثم ذكر شيخنا الذهبي.
من توفي في هذه السنة مرتبين على
الحروف
سعد بن عبادة الانصاري الخزرجي، وهو أحد أقوال المؤرخين.
وقد تقدم * سعد بن عبيد ابن النعمان أبو زيد الانصاري الاوسي، قتل
بالقادسية، ويقال إنه أبو زيد القاري أحد الاربعا الذين جمعوا القرآن
على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنكر آخرون ذلك، ويقال إنه
والد عمير بن سعد الزاهد أمير حمص.
وذكر محمد بن سعد وفاته بالقادسية وقال: كانت في سنة ست عشرة والله
أعلم * سهيل بن عمرو بن عبد شمس بن عبدود بن نصر بن حسل بن عامر بن لؤي
أبو يزيد العامري أحد خطباء قريش وأشرافهم، أسلم يوم الفتح وحسن إسلامه
وكان سمحا جوادا فصيحا كثير الصلاة والصوم والصدقة وقراءة القرآن
والبكاء.
ويقال إنه قام وصام حتى شحب لونه.
وله سعي مشكور في صلح الحديبية.
ولما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس بمكة خطبة عظيمة تثبت
الناس على الاسلام، وكانت خطبته بمكة قريبا من خطبة الصديق بالمدينة،
ثم خرج في جماعة إلى الشام مجاهدا فحضر اليرموك وكان أميرا على بعض
الكراديس، ويقال إنه استشهد يومئذ.
وقال الواقدي والشافعي.
توفي بطاعون عمواس * عامر بن مالك بن أهيب الزهري أخي سعد بن أبي وقاص،
هاجر إلى الحبشة، وهو الذي قدم بكتاب عمر إلى أبي عبيدة بولايته على
الشام وعزل خالد عنها، استشهد يوم اليرموك * عبد الله بن سفيان بن عبد
الاسد المخزومي، صحابي هاجر إلى الحبشة مع عمه أبي سلمة بن عبد الاسد.
روى عنه عمرو بن دينار منقطعا لانه قتل يوم اليرموك * عبد الرحمن بن
العوام، أخو الزبير بن العوام، حضر بدرا مشركا ثم أسلم واستشهد يوم
اليرموك في قول * عتبة بن غزوان، توفي فيها في قول * عكرمة بن أبي جهل
استشهد باليرموك في قول * عمرو بن أم مكتوم استشهد يوم القادسية وقد
تقدم، ويقال بل رجع إلى المدينة * عمرو بن الطفيل بن عمرو تقدم * عامر
بن أبي ربيعة تقدم * فراس بن النضر بن الحارث يقال استشهد يوم اليرموك
* قيس بن عدي بن سعد بن سهم من مهاجرة الحبشة قتل باليرموك * قيس بن
أبي صعصعة * عمرو بن زيد بن عوف الانصاري المازني شهد العقبة وبدرا،
وكان أحد أمراء الكراديس يوم اليرموك، وقتل يومئذ، وله حديث قال: قلت
يا رسول الله في كم
(7/72)
أقرأ القرآن ؟ قال: " في خمس عشرة " الحديث، قال شيخنا أبو عبد الله
الذهبي: ففيه دليل على أنه ممن جمع القرآن في عهد رسول الله صلى الله
عليه وسلم * نصير بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف بن عبد الدار
بن قصي القرشي العبدري، أسلم عام الفتح، وكان من علماء قريش، وأعطاه
رسول الله صلى الله عليه سلم يوم حنين مائة من الابل، فتوقف في أخذها
وقال: لا أرتشي على الاسلام، ثم قال: والله ما طلبتها ولا سألتها، وهي
عطية من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذها وحسن إسلامه، واستشهد
يوم اليرموك * نوفل بن الحارث بن عبد المطلب ابن عم رسول الله صلى الله
عليه وسلم، كان أسن من أسلم من بني عبد المطلب، وكان ممن أسر يوم بدر
ففاداه العباس، ويقال إنه هاجر أيام الخندق وشهد الحديبية والفتح،
وأعان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين بثلاثة آلاف رمح، وثبت
يومئذ وتوفي سنة خمس عشرة، وقيل سنة عشرين والله أعلم، توفي بالمدينة
وصلى عليه عمر ومشى في جنازته ودفن بالبقيع وخلف عدة أولاد فضلاء
وأكابر * هشام بن العاص أخو عمرو بن العاص تقدم وقال ابن سعد: قتل يوم
اليرموك. |