البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي
ثم دخلت سنة سبع عشرة
في المحرم منها انتقل سعد بن أبي وقاص من المدائن إلى الكوفة، وذلك أن
الصحابة استوخموا المدائن، وتغيرت ألوانهم وضعفت أبدانهم، لكثرة ذبابها
وغبارها.
فكتب سعد إلى عمر في ذلك، فكتب عمر: إن العرب لا تصلح إلا حيث يوافق
إبلها (1).
فبعث سعد حذيفة وسلمان بن زياد يرتادان للمسلمين منزلا مناسبا يصلح
لاقامتهم (2).
فمرا على أرض الكوفة وهي حصباء في رملة حمراء، فأعجبتهما ووجد هنالك
ديرات ثلاث دير حرقة (3) بنت النعمان، ودير أم عمرو، ودير سلسلة، وبين
ذلك خصاص خلال هذه الكوفة، فنزلا فصليا هنالك وقال كل واحد منهما:
اللهم رب السماء وما أظلت، ورب الارض وما أقلت، ورب الريح وما ذرت،
والنجوم وما هوت، والبحار وما جرت، والشياطين وما أضلت، والخصاص وما
أجنت، بارك لنا في هذه الكوفة واجعلها منزل ثبات.
ثم كتبا إلى سعد بالخبر، فأمر سعد باختطاط الكوفة، وسار إليها في أول
هذه السنة في محرمها، فكان أول بناء وضع فيها المسجد.
وأمر سعد رجلا راميا شديد الرمي، فرمى من المسجد إلى الاربع جهات فحيث
سقط سهمه بنى الناس منازلهم، وعمر قصرا تلقاء محراب المسجد للامارة
وبيت المال، فكان أول ما بنوا المنازل بالقصب، فاحترقت في أثناء السنة،
فبنوها باللبن عن أمر عمر، بشرط أن لا يسرفوا ولا يجاوزوا الحد.
وبعث سعد إلى الامراء والقبائل فقدموا عليه، فأنزلهم الكوفة، وأمر سعد
أبا هياج (4) الموكل بإنزال الناس فيها بأن
__________
(1) زاد في فتوح البلدان: فارتد لهم موضعا عدنا، ولا تجعل بيني وبينهم
بحرا.
(2) في فتوح البلدان: ان الذي دل سعدا على أرض الكوفة عبد المسيح بن
عمرو بن بقيلة 2 / 339.
(3) كذا بالاصل والطبري، وفي الكامل: حرمة.
(4) أبو الهياج الاسدي واسمه عمرو بن مالك بن جنادة.
(*)
(7/86)
يعمروا ويدعوا
للطريق المنهج وسع أربعين ذراعا.
ولما دون ذلك ثلاثين وعشرين ذراعا، وللازقة سبعة أذرع، وبنى لسعد قصر
قريب من السوق، فكانت غوغاء الناس تمنع سعدا من الحديث، فكان يغلق بابه
ويقول: سكن الصويت فلما بلغت هذه الكلمة عمر بن الخطاب بعث محمد بن
مسلمة، فأمره إذا انتهى إلى الكوفة أن يقدح زناده ويجمع حطبا ويحرق باب
القصر ثم يرجع من فوره.
فلما انتهى إلى الكوفة فعل ما أمره به عمر، وأمر سعدا أن لا يغلق بابه
عن الناس، ولا يجعل على بابه أحدا يمنع الناس عنه، فامتثل ذلك سعد وعرض
على محمد بن مسلمة شيئا من المال فامتنع من قبوله، ورجع إلى المدينة،
واستمر سعد بعد ذلك في الكوفة ثلاث سنين ونصف، حتى عزله عنها عمر، من
غير عجز ولا خيانة.
أبو عبيدة وحصر الروم له بحمص وقدم عمر إلى الشام وذلك أن جمعا من
الروم عزموا على حصار أبي عبيدة بحمص، واستجاشوا بأهل الجزيرة.
وخلق ممن هنالك، وقصدوا أبا عبيدة، فبعث أبو عبيدة إلى خالد فقدم عليه
من قنسرين، وكتب إلى عمر بذلك، واستشار أبو عبيدة المسلمين في أن يناجز
الروم أو يتحصن بالبلد حتى يجئ أمر عمر ؟ فكلهم أشار بالتحصن، إلا
خالدا فإنه أشار بمناجزتهم، فعصاه وأطاعهم.
وتحصن بحمص وأحاط به الروم، وكل بلد من بلدان الشام مشغول أهله عنه
بأمرهم، ولو تركوا ما هم فيه وأقبلوا إلى حمص لانخرم النظام في الشام
كله.
وكتب عمر إلى سعد أن يندب الناس مع القعقاع بن عمرو، ويسيرهم إلى حمص
من يوم يقدم عليه الكتاب، نجدة لابي عبيدة فإنه محصور، وكتب إليه أن
يجهز جيشا إلى أهل الجزيرة الذين مالاوا الروم على حصار أبي عبيدة
ويكون أمير الجيش إلى الجزيرة (1) عياض بن غنم.
فخرج الجيشان معا من الكوفة، القعقاع في أربعة آلاف نحو حمص لنجدة أبي
عبيدة، وخرج عمر بنفسه من المدينة لينصر أبا عبيدة، فبلغ الجابية وقيل
إنما بلغ سرع.
قاله ابن إسحاق، وهو أشبه والله أعلم.
فلما بلغ أهل الجزيرة الذين مع الروم على حمص أن الجيش قد طرق بلادهم،
انشمروا إلى بلادهم، وفارقوا الروم، وسمعت
الروم بقدوم أمير المؤمنين عمر لينصر نائبه عليهم فضعف جانبهم جدا.
وأشار خالد على أبي عبيدة بأن يبرز إليهم ليقاتلهم، ففعل ذلك أبو
عبيدة، ففتح الله عليه ونصره، وهزمت الروم هزيمة فظيعة.
وذلك قبل ورود عمر عليهم، وقبل وصول الامداد إليهم بثلاث ليال.
فكتب أبو عبيدة إلى عمر وهو بالجابية يخبره بالفتح وأن المدد وصل إليهم
بعد ثلاث ليال وسأله هل يدخلهم في القسم معهم مما أفاء الله عليهم ؟
فجاء الجواب بأن يدخلهم معهم في الغنيمة، فإن العدو إنما ضعف وإنما
انشمر عنه المدد من خوفهم منهم، فأشركهم أبو عبيدة في الغنيمة.
وقال عمر: جزى
__________
(1) سهيل بن عدي إلى الرقة، وعبد الله بن عتبان إلى نصيبين، والوليد بن
عقبة إلى عرب الجزيرة من تنوخ وربيعة، وأمير الفرق جميعا عياض.
(الطبري - الكامل).
(*)
(7/87)
الله أهل
الكوفة خيرا يحمون (1) حوزتهم ويمدون أهل الامصار.
فتح الجزيرة قال ابن جرير: وفي هذه
السنة فتحت الجزائر فيما قاله سيف بن عمر، قال ابن جرير: في ذي الحجة
من سنة سبع عشرة فوافق سيف بن عمر في كونها في هذه السنة.
وقال ابن إسحاق: كان ذلك في سنة تسع عشرة.
سار إليها عياض بن غنم.
وفي صحبته أبو موسى الاشعري وعمر ابن سعد بن أبي وقاص (2)، وهو غلام
صغير السن ليس إليه من الامر شئ، وعثمان بن أبي العاص.
فنزل الرها فصالحه أهلها على الجزية، وصالحت حران على ذلك.
ثم بعث أبا موسى الاشعري إلى نصيبين، وعمر بن سعد إلى رأس العين، وسار
بنفسه إلى دارا، فافتتحت هذه البلدان، وبعث عثمان بن أبي العاص إلى
أرمينية، فكان عندها شئ من قتال قتل فيه صفوان بن المعطل السلمي شهيدا.
ثم صالحهم عثمان بن أبي العاص على الجزية، على كل أهل بيت دينار.
وقال سيف في روايته: جاء عبد الله بن عبد الله بن غسان (2) فسلك على
رجليه (3) حتى انتهى إلى الموصل فعبر إلى بلد حتى انتهى إلى نصيبين،
فلقوه بالصلح وصنعوا كما صنع أهل
الرقة (4).
وبعث إلى عمر برؤوس النصارى من عرب أهل الجزيرة، فقال لهم عمر: أدوا
الجزية.
فقالوا: أبلغنا مأمننا فوالله لئن وضعت علينا الجزية لندخلن أرض الروم،
والله لتفضحنا من بين العرب.
فقال لهم: أنتم فضحتم أنفسكم، وخالفتم أمتكم، ووالله لتؤدن الجزية
وأنتم صغرة قمئة، ولئن هربتم إلى الروم لاكتبن فيكم، ثم لاسبينكم.
قالوا: فخذ منا شيئا ولا تسميه جزية.
فقال: أما نحن فنسميه جزية، وأما أنتم فسموه ما شئتم.
فقال له علي بن أبي طالب: ألم يضعف عليهم سعد الصدقة ؟ قال: بلى، وأصغى
إليه ورضي به منهم.
قال ابن جرير: وفي هذه السنة قدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الشام
فوصل إلى
__________
(1) في الطبري: يكفون.
وفي فتوح البلدان عن شمر بن عطية قال قال عمر: هم رمح الله وكنز
الايمان وجمجمة العرب، يحرسون ثغورهم ويمدون أهل الامصار 2 / 354.
(2) في فتوح البلدان: عمير بن سعد، قال الكلبي وهو عمير بن سعد بن شهيد
بن عمرو أحد الاولى.
وقال الواقدي: هو عمير بن سعد بن عبيد وقتل أبوه سعد يوم القادسية.
(3) في الطبري: عتبان، وفي الواقدي كالاصل.
والعبارة في الطبري: عبد الله بن عيد الله بن عتبان سلك على دجلة...(4)
قال البلاذري في فتوح البلدان عن ثابت بن الحجاج: فتح عياض الرقة وحران
والرها ونصيبين وميا فارقين وقرقيسيا وقرى الفرات ومدائنها صلحا وأرضها
عنوة.
(*)
(7/88)
سرع في قول
محمد بن إسحاق، وقال سيف: وصل إلى الجابية.
قلت: والاشهر أنه وصل سرع، وقد تلقاه أمراء الاجناد، أبو عبيدة، ويزيد
بن أبي سفيان، وخالد بن الوليد (1)، إلى سرع فأخبروه أن الوباء قد وقع
بالشام، فاستشار عمر المهاجرين والانصار فاختلفوا عليه، فمن قائل يقول:
أنت قد جئت لامر فلا ترجع عنه.
ومن قائل يقول: لا نرى أن تقدم بوجوه أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم على هذا الوباء.
فيقال إن عمر أمر الناس بالرجوع من الغد.
فقال أبو عبيدة: أفرارا من قدر الله ؟ قال: نعم ! نفر من قدر الله إلى
قدر الله، أرأيت لو هبطت واديا ذا
عدوتين إحداهما مخصبة والاخرى مجدبة، فإن رعيت الخصبة رعيتها بقدر
الله، وإن أنت رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله ؟ ثم قال لو غيرك يقولها
يا أبا عبيدة.
قال ابن إسحاق في روايته وهو في صحيح البخاري: وكان عبد الرحمن بن عوف
متغيبا في بعض شأنه، فلما قدم قال: إن عندي من ذلك علما، سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا سمعتم به بأرض قوم فلا تقدموا عليه،
وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا فرارا منه (2).
فحمد الله عمر - يعني لكونه وافق رأيه - ورجع بالناس.
وقال الامام أحمد: ثنا وكيع، ثنا سفيان بن حسين ابن أبي ثابت، عن
إبراهيم بن سعد، عن سعد بن مالك بن أبي وقاص وخزيمة بن ثابت وأسامة ابن
زيد قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن هذا الطاعون رجز
وبقية عذاب عذب به قوم قبلكم، فإذا وقع بأرض أنتم فيها فلا تخرجوا منها
فرارا منه، وإذا سمعتم به بأرض فلا تدخلوا عليه (3) " ورواه الامام
أحمد أيضا من حديث سعيد بن المسيب ويحيى بن سعيد عن سعد بن أبي وقاص
به.
قال سيف بن عمر: كان الوباء قد وقع بالشام في المحرم من هذه السنة ثم
ارتفع، وكأن سيفا يعتقد أن هذا الوباء هو طاعون عمواس، الذي هلك فيه
خلق من الامراء ووجوه المسلمين، وليس الامر كما زعم، بل طاعون عمواس من
السنة المستقبلة بعد هذه، كما سنبينه إن شاء الله تعالى.
وذكر سيف بن عمر: أن أمير المؤمنين عمر كان قد عزم على أن يطوف
البلدان، ويزور الامراء، وينظر فيما اعتقدوه وما آثروا من الخير،
فاختلف عليه الصحابة فمن قائل يقول ابدأ بالعراق، ومن قائل يقول
بالشام.
فعزم عمر على قدوم الشام لاجل قسم مواريث من مات من المسلمين في طاعون
عمواس، فإنه أشكل قسمها على المسلمين بالشام فعزم على ذلك.
وهذا يقتضي أن عمر عزم على قدوم الشام بعد طاعون عمواس، وقد كان
الطاعون في سنة ثماني عشرة كما سيأتي، فهو قدوم آخر غير قدوم سرع.
والله أعلم.
قال سيف عن أبي عثمان وأبي حارثة والربيع بن النعمان قالوا: قال عمر:
ضاعت مواريث
__________
(1) في الطبري: شرحبيل بن حسنة بدل خالد.
(2) أخرجه البخاري في الانبياء 54 وفي الحيل 13، ومالك في الموطأ في
المدينة 22، 23، 24.
(3) أخرجه الامام أحمد في مسنده ج 1 / 182 و 4 / 195.
(*)
(7/89)
الناس بالشام
أبدأ بها فأقسم المواريث وأقيم لهم ما في نفسي، ثم أرجع فأتقلب في
البلاد وأنبذ إليهم أمري.
قالوا: فأتى عمر الشام أربع مرات مرتين في سنة ست عشرة، ومرتين في سنة
سبع عشرة، ولم يدخلها في الاولى من الاخريين.
وهذا يقتضي ما ذكرناه عن سيف أنه يقول بكون طاعون عمواس في سنة سبع
عشرة.
وقد خالفه محمد بن إسحاق وأبو معشر وغير واحد، فذهبوا إلى أنه كان في
سنة ثماني عشرة.
وفيه توفي أبو عبيدة ومعاذ ويزيد بن أبي سفيان، وغيرهم من الاعيان، على
ما سيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى.
شئ من أخبار طاعون عمواس الذي توفي فيه أبو عبيدة ومعاذ ويزيد بن أبي
سفيان وغيرهم من أشراف الصحابة وغيرهم.
أورده ابن جرير في هذه السنة.
قال محمد بن إسحاق عن شعبة عن المختار (1) بن عبد الله البجلي عن طارق
بن شهاب البجلي.
قال: أتينا أبا موسى وهو في داره بالكوفة لنتحدث عنده فلما جلسنا قال:
لا تحفوا فقد أصيب في الدار إنسان بهذا السقم، ولا عليكم أن تتنزهوا عن
هذه القرية فتخرجوا في فسيح بلادكم ونزهها، حتى يرتفع هذا البلاء، فإني
سأخبركم بما يكره مما يتقى.
من ذلك أن يظن من خرج أنه لو قام مات، ويظن من أقام فأصابه ذلك أنه لو
خرج لم يصبه، فإذا لم يظن ذلك هذا المرء المسلم فلا عليه أن يخرج وأن
يتنزه عنه، إني كنت مع أبي عبيدة بن الجراح بالشام عام طاعون عمواس،
فلما اشتعل الوجع وبلغ ذلك عمر كتب إلى أبي عبيدة ليستخرجه منه: أن
سلام عليك أما بعد فإنه قد عرضت لي إليك حاجة أريد أن أشافهك بها،
فعزمت عليك إذا نظرت في كتابي هذا أن لا تضعه من يدك حتى تقبل إلي: قال
فعرف أبو عبيدة أنه إنما أراد أن يستخرجه من الوباء، فقال: يغفر الله
لامير المؤمنين.
ثم كتب إليه يا أمير المؤمنين إني قد عرفت حاجتك إلي، وإني في جند من
المسلمين لا أجد بنفسي رغبة عنهم، فلست أريد فراقهم حتى يقضي الله في
وفيهم
أمره وقضاءه، فخلني من عزمتك يا أمير المؤمنين، ودعني في جندي.
فلما قرأ عمر الكتاب بكى فقال الناس: يا أمير المؤمنين أمات أبو عبيدة
؟ قال: لا، وكأن قد.
قال: ثم كتب إليه " سلام عليك أما بعد فإنك أنزلت الناس أرضا عميقة
فارفعهم إلى أرض مرتفعة نزهة " قال أبو موسى: فلما أتاه كتابه دعاني
فقال: يا أبا موسى، إن كتاب أمير المؤمنين قد جاءني بما ترى، فأخرج
فارتد للناس منزلا حتى أتبعك بهم، فرجعت إلى منزلي لارتحل فوجدت صاحبتي
قد أصيبت، فرجعت إليه وقلت: والله لقد كان في أهلي حدث.
فقال: لعل صاحبتك قد أصيبت ؟ قلت: نعم، فأمر ببعير فرحل فلما وضع رجله
في غرزه طعن فقال: والله لقد أصبت، ثم سار بالناس حتى نزل
__________
(1) في الطبري المخارق.
(*)
(7/90)
الجابية ورفع
عن الناس الوباء (1).
وقال محمد بن إسحاق عن أبان بن صالح بن شهر بن حوشب عن رابة - رجل من
قومه -.
وكان قد خلف على أمه بعد أبيه، وكان قد شهد طاعون عمواس.
قال: لما اشتعل الوجع قام أبو عبيدة في الناس خطيبا فقال: أيها الناس،
إن هذا الوجع رحمة بكم ودعوة نبيكم (2) وموت الصالحين قبلكم، وإن أبا
عبيدة يسأل الله أن يقسم لابي عبيدة [ منه ] حظه، فطعن، فمات واستخلف
على الناس معاذ بن جبل، فقام خطيبا بعده.
فقال: أيها الناس، إن هذا الوجع رحمة بكم، ودعوة نبيكم، وموت الصالحين
قبلكم، وإن معاذا يسأل الله تعالى أن يقسم لآل معاذ [ منه ] حظهم، فطعن
ابنه عبد الرحمن فمات، ثم قام فدعا لنفسه فطعن في راحته فلقد رأيته
ينظر إليها ثم يقلب (3) ظهر كفه ثم يقول: ما أحب أن لي بما فيك شيئا من
الدنيا.
فلما مات استخلف على الناس عمرو بن العاص فقام فيهم خطيبا فقال: أيها
الناس، إن هذا الوجع إذا وقع فإنما يشتعل اشتعال نار، فتحصنوا (4) منه
في الجبال.
فقال أبو وائل الهذلي: كذبت والله لقد صحبت رسول الله صلى الله عليه
وسلم وأنت شر من حماري هذا.
فقال: والله ما أرد عليك ما تقول، وأيم الله لا نقيم عليه.
قال: ثم خرج وخرج الناس فتفرقوا ودفعه الله عنهم.
قال: فبلغ ذلك عمر بن الخطاب
من رأي عمرو بن العاص فوالله ما كرهه.
قال ابن إسحاق: ولما انتهى إلى عمر مصاب أبي عبيدة ويزيد بن أبي سفيان،
أمر معاوية على جند دمشق وخراجها، وأمر شرحبيل بن حسنة على جند الاردن
وخراجها.
وقال سيف بن عمر عن شيوخه قالوا: لما كان طاعون عمواس وقع مرتين لم ير
مثلهما (5) وطال مكثه، وفني خلق كثير من الناس، حتى طمع العدو وتخوفت
قلوب المسلمين لذلك.
قلت: ولهذا قدم عمر بعد ذلك إلى الشام فقسم مواريث الذين ماتوا لما
أشكل أمرها على الامراء، وطابت قلوب الناس بقدومه، وانقمعت الاعداء من
كل جانب لمجيئه إلى الشام ولله الحمد والمنة.
__________
(1) الخبر في الطبري 4 / 201 والكامل في التاريخ 2 / 558 في حوادث سنة
81 ه.
(2) قوله دعوة نبيكم: حين جاءه جبرائيل فقال: فناء أمتك بالطعن أو
الطاعون فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: فبالطاعون.
(3) في الطبري: يقبل، وفي الكامل: يقبلها.
وانظر خطبتيهما في فتوح ابن الاعثم 1 / 312 - 313.
(4) في الطبري: فتجبلوا.
وفي فتوح ابن الاعثم 1 / 313 قال: إن هذا الوباء قد وقع فيكم، إنما هو
وخز من الجن، فمن أقام به هوى ومن انحاز عنه نجا.
(5) في الطبري: وقع موتانا لم ير مثله.
وفي الكامل: وأصاب الناس من الموت ما لم يروا مثله قط، وكان عدة من مات
في طاعون عمواس خمسة وعشرين ألفا.
(*)
(7/91)
وقال سيف بعد
ذكره قدوم عمر بعد طاعون عمواس في آخر سنة سبع عشرة، قال: فلما أراد
القفول إلى المدينة في ذي الحجة منها خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه
ثم قال: ألا إني قد وليت عليكم وقضيت الذي علي في الذي ولاني الله من
أمركم إن شاء الله، فبسطنا (1) بينكم فيأكم ومنازلكم ومغازيكم،
وأبلغناكم ما لدينا، فجندنا لكم الجنود، وهيأنا لكم الفروج، وبوأنا
لكم، ووسعنا عليكم ما بلغ فيؤكم وما قاتلتم عليه من شامكم، وسمينا لكم
أطعماتكم، وأمرنا
لكم بأعطياتكم وأرزاقكم ومغانكم.
فمن علم شيئا ينبغي العمل به فليعلمنا نعمل به إن شاء الله ولا قوة إلا
بالله.
قال وحضرت الصلاة فقال الناس: لو أمرت بلالا فأذن ؟ فأمره فأذن فلم يبق
أحد كان أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلال يؤذن إلا بكى حتى بل
لحيته، وعمر أشدهم بكاء، وبكى من لم يدركه لبكائهم ولذكره صلى الله
عليه وسلم.
وذكر ابن جرير في هذه السنة من طريق سيف بن عمر عن أبي المجالد أن عمر
بن الخطاب بعث ينكر على خالد بن الوليد في دخوله إلى الحمام، وتدلكه
بعد النورة بعصفر معجون بخمر، فقال في كتابه: إن الله قد حرم ظاهر
الخمر وباطنه، كما حرم ظاهر الاثم وباطنه، وقد حرم مس الخمر فلا تمسوها
أجسامكم فإنها نجس، فإن فعلتم فلا تعودوا.
فكتب إليه خالد: إنا قتلناها فعادت غسولا غير خمر.
فكتب إليه عمر: إني أظن أن آل المغيرة قد ابتلوا بالجفاء فلا أماتكم
الله عليه فانتهى لذلك.
قال سيف: وأصاب أهل البصرة تلك السنة طاعون أيضا فمات بشر كثير وجم
غفير، رحمهم الله ورضي الله عنهم أجمعين.
قالوا: وخرج الحارث بن هشام في سبعين من أهله إلى الشام فلم يرجع منهم
إلا أربعة.
فقال المهاجر بن خالد في ذلك: من يسكن الشام يعرس به * والشام إن لم
يفننا كارب أفنى بني ريطة فرسانهم * عشرون لم يقصص لهم شارب ومن بني
أعمامهم مثلهم * لمثل هذا يعجب العاجب طعنا وطاعونا مناياهم * ذلك ما
خط لنا الكاتب كائنة غريبة
فيها عزل خالد عن قنسرين أيضا قال
ابن جرير: وفي هذه السنة أدرب خالد بن الوليد وعياض بن غنم، أي سلكا
درب الروم وأغارا عليهم، فغنموا أموالا عظيمة وسبيا كثيرا.
ثم روى من طريق سيف عن أبي عثمان وأبي حارثة والربيع وأبي المجالد.
قالوا: لما رجع خالد ومعه أموال جزيلة من الصائفة انتجعه
__________
(1) في الطبري: قسطنا.
(*)
(7/92)
الناس يبتغون
رفده ونائله، فكان ممن دخل عليه الاشعث بن قيس فأجازه بعشرة آلاف فلما
بلغ ذلك عمر كتب إلى أبي عبيدة يأمره أن يقيم خالدا ويكشف عمامته وينزع
عنه قلنسوته ويقيده بعمامته ويسأله عن هذه العشرة آلاف، إن كان أجازها
الاشعث من ماله فهو سرف، وإن كان من مال الصائفة فهي خيانة ثم أعزله عن
عمله.
فطلب أبو عبيدة خالدا وصعد أبو عبيدة المنبر، وأقيم خالد بين يدي
المنبر، وقام إليه بلال ففعل ما أمر به عمر بن الخطاب هو والبريد الذي
قدم بالكتاب.
هذا وأبو عبيدة ساكت لا يتكلم، ثم نزل أبو عبيدة واعتذر إلى خالد مما
كان بغير اختياره وإرادته، فعذره خالد وعرف أنه لا قصد له في ذلك.
ثم سار خالد إلى قنسرين فخطب أهل البلد وودعهم، وسار بأهله إلى حمص
فخطبهم أيضا وودعهم وسار إلى المدينة، فلما دخل خالد على عمر أنشد عمر
قول الشاعر: صنعت فلم يصنع كصنعك صانع * وما يصنع الاقوام فالله صانع
ثم سأله من أين هذا اليسار الذي تجيز منه بعشرة آلاف ؟ فقال: من
الانفال والسهمان.
قال: فما زاد على الستين ألفا فلك، ثم قوم أمواله وعروضه وأخذ منه
عشرين ألفا ثم قال: والله إنك علي لكريم، وإنك إلي لحبيب، ولن تعمل (1)
لي بعد اليوم على شئ.
وقال سيف عن عبد الله عن المستورد عن أبيه عن عدي بن سهل.
قال: كتب عمر إلى الامصار: إني لم أعزل خالدا عن سخطة ولا خيانة، ولكن
الناس فتنوا به فأحببت أن يعلموا أن الله هو الصانع.
ثم رواه سيف عن مبشر عن سالم قال: لما قدم خالد على عمر فذكر مثله.
قال الواقدي: وفي هذه السنة اعتمر عمر في رجب منها، وعمر في المسجد
الحرام وأمر بتجديد أنصاب الحرم، أمر بذلك لمخرمة بن نوفل، وأزهر بن
عبد عوف، وحويطب بن عبد العزى، وسعيد بن يربوع.
قال الواقدي: وحدثني كثير بن عبد الله المري عن أبيه عن جده قال: قدم
عمر مكة في عمرة سنة سبع عشرة، فمر في الطريق فكلمه أهل المياه أن
يبنوا منازل بين مكة والمدينة - ولم يكن قبل ذلك بناء - فأذن لهم وشرط
عليهم أن ابن السبيل أحق بالظل والماء.
قال الواقدي: وفيها تزوج عمر بأم كلثوم بنت علي بن أبي طالب، من فاطمة
بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخل بها في ذي القعدة.
وقد ذكرنا في سيرة عمر ومسنده صفة تزويجه بها وأنه أمهرها أربعين ألفا،
وقال إنما تزوجتها لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " كل سبب ونسب
فإنه ينقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي " قال: وفي هذه السنة ولى عمر
أبا موسى الاشعري البصرة، وأمره أن يشخص إليه المغيرة بن شعبة في ربيع
الاول فشهد عليه فيما حدثني معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب: أبو
بكرة، وشبل بن معبد البجلي، ونافع بن عبيد (2)، وزياد.
ثم ذكر الواقدي وسيف هذه القصة
__________
(1) في الطبري: ولن تعاتبني.
(2) في الطبري: ابن كلدة.
(*)
(7/93)
وملخصها: أن
امرأة كان يقال لها أم جميل بنت الافقم، من نساء بني عامر بن صعصعة،
ويقال من نساء بني هلال.
وكان زوجها (1) من ثقيف قد توفي عنها، وكانت تغشى نساء الامراء
والاشراف، وكانت تدخل على بيت المغيرة بن شعبة وهو أمير البصرة، وكانت
دار المغيرة تجاه دار أبي بكرة، وكان بينهما الطريق، وفي دار أبي بكرة
كوة تشرف على كوة في دار المغيرة، وكان لا يزال بين المغيرة وبين أبي
بكرة شنآن.
فبينما أبو بكرة في داره وعنده جماعة يتحدثون في العلية، إذ فتحت الريح
باب الكوة، فقام أبو بكرة ليغلقها، فإذا كوة المغيرة مفتوحة، وإذا هو
على صدر امرأة وبين رجليها، وهو يجامعها، فقال أبو بكرة لاصحابه:
تعالوا فانظروا إلى أميركم يزني بأم جميل.
فقاموا فنظروا إليه وهو يجامع تلك المرأة، فقالوا لابي بكرة.
ومن أين قلت إنها أم جميل ؟ - وكان رأساهما من الجانب الآخر -.
فقال: انتظروا، فلما فرغا قامت المرأة فقال أبو بكرة: هذه أم جميل.
فعرفوها فيما يظنون.
فلما خرج المغيرة - وقد اغتسل - ليصلي بالناس منعه أبو بكرة أن يتقدم.
وكتبوا إلى عمر في ذلك، فولى عمر أبا موسى الاشعري أميرا على البصرة.
وعزل المغيرة، فسار إلى البصرة فنزل البرد.
فقال المغيرة: والله ما جاء أبو موسى تاجرا ولا زائرا ولا جاء إلا
أميرا.
ثم قدم أبو موسى على الناس وناول المغيرة كتابا من عمر هو أوجز كتاب
فيه " أما بعد فإنه بلغني نبأ عظيم فبعثت أبا موسى
أميرا فسلم ما في يديك والعجل " وكتب إلى أهل البصرة: إني قد وليت
عليكم أبا موسى ليأخذ من قويكم لضعيفكم، وليقاتل بكم عدوكم، وليدفع عن
دينكم وليجبي لكم فيأكم ثم ليقسمه بينكم.
وأهدى المغيرة لابي موسى جارية من مولدات الطائف تسمى عقيلة وقال: إني
رضيتها لك، وكانت فارهة.
وارتحل المغيرة والذين شهدوا عليه وهم أبو بكرة، ونافع بن كلدة، وزياد
بن أمية، وشبل بن معبد البجلي.
فلما قدموا على عمر جمع بينهم وبين المغيرة.
فقال المغيرة: سئل هؤلاء الاعبد كيف رأوني ؟ مستقبلهم أو مستدبرهم ؟
وكيف رأوا المرأة وعرفوها، فإن كانوا مستقبلي فكيف لم يستتروا ؟ أو
مستدبري فكيف استحلوا النظر في منزلي على امرأتي ؟ والله ما أتيت إلا
امرأتي وكانت تشبهها.
فبدأ عمر بأبي بكرة فشهد عليه أنه رآه بين رجلي أم جميل وهو يدخله
ويخرجه كالميل في المكحلة، قال: كيف رأيتهما ؟ قال: مستدبرهما.
قال: فكيف استبنت رأسها قال: تحاملت.
ثم دعا شبل بن معبد فشهد بمثل ذلك، فقال استقبلتهما أم استدبرتهما ؟
قال: استقبلتهما.
وشهد نافع بمثل شهادة أبي بكرة ولم يشهد زياد بمثل شهادتهم.
قال: رأيته جالسا بين رجلي امرأة فرأيت قدمين مخضوبتين يخفقان وأستين
مكشوفتين، وسمعت حفزانا شديدا.
قال: هل رأيت كالميل في المكحلة ؟ قال: لا.
فهل تعرف المرأة ؟ قال: لا ولكن أشبهها.
قال: فتنح.
وروي أن عمر رضي الله عنه كبر عند ذلك ثم أمر بالثلاثة فجلدوا الحد وهو
يقرأ قوله تعالى * (فإذا لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم
الكاذبون) * [ النور: 13 ] فقال المغيرة: اشفني من الاعبد.
قال: اسكت أسكت الله فاك، والله لو تمت الشهادة لرجمناك بأحجارك.
__________
(1) واسمه: الحجاج بن عبيد.
(*)
(7/94)
فتح الاهواز
ومناذر ونهر تيري قال ابن جرير: كان في هذه السنة، وقيل: في سنة ست
عشرة.
ثم روى من طريق سيف ؟ ن شيوخه أن الهرمزان كان قد تغلب على هذه
الاقاليم وكان ممن فر يوم القادسية من الفرس، جهز أبو موسى من البصرة
(1)، وعتبة بن غزوان من الكوفة جيشين لقتاله، فنصرهم الله عليه،
أخذوا منه ما بين دجلة إلى دجيل، وغنموا من جيشه ما أرادوا، وقتلوا من
أرادوا، ثم صانعهم طلب مصالحتهم عن بقية بلاده (2)، فشاروا في ذلك عتبة
بن غزوان فصالحه، وبعث بالاخماس البشارة إلى عمر، وبعث وفدا فيهم
الاحنف بن قيس.
فأعجب عمر به وحظي عنده.
وكتب إلى عتبة يوصيه به ويأمره بمشاورته والاستعانة برأيه.
ثم نقض الهرمزان العهد والصلح، واستعان بطائفة من الاكراد، وغرته نفسه،
وحسن له الشيطان عمله في ذلك.
فبرز إليه المسلمون فنصروا عليه وقتلوا من جيشه جما غفيرا، وخلقا
كثيرا، وجمعا عظيما، واستلبوا منه ما بيده من الاقاليم والبلدان إلى
تستر، فتحصن بها، وبعثوا إلى عمر بذلك.
وقد قال الاسود بن سريع في ذلك - وكان صحابيا رضي الله عنه -.
لعمرك ما أضاع بنو أبينا * ولكن حافظوا فيمن يطيعوا أطاعوا ربهم وعصاه
قوم * أضاعوا أمره فيمن يضيع مجوس لا ينهنهها كتاب * فلاقوا كبة فيها
قبوع وولى الهرمزان على جواد * سريع الشد يثفنه الجميع وخلى سرة
الاهواز كرها * غداة الجسر إذ نجم الربيع وقال حرقوص بن زهير السعدي
وكان صحابيا أيضا: غلبنا الهرمزان على بلاد * لها في كل ناحية ذخائر
سواء برهم والبحر فيها * إذا صارت نواحيها بواكر لها بجر يعج بجانبيه *
جعافر لا يزال لها زواخر
__________
(1) لم يأت الطبري في روايته على ذكر أبي موسى، الخبر فيه 4 / 208.
وقال في فتوح البلدان: أن المغيرة بن شعبة غزا في ولايته سوق الاهواز
وشخص عتبة من البصرة آخر سنة خمس عشرة أو أول سنة ست عشرة.
وبعد نكث الهرمزان صلحه غزاها أبو موسى وكان قد تولى البصرة بعد
المغيرة وذلك في سنة سبع عشرة 2 / 464.
ويؤيده ما ذكره ابن الاعثم في فتوحه 2 / 3 في كتاب عمر إلى أبي موسى: "
فقد بلغني أن الاعاجم قد تحركت بأرض الاهواز من تستر والسوس ومناذر وما
والى ذلك...سر على بركة الله ".
(2) كان الصلح معه على الاهواز كلها ومهرجان خان ما خلا نهر تيري
ومناذر وما غلبوا عليه من سوق الاهواز.
(*)
(7/95)
فتح تستر المرة الاولى صلحا
قال ابن جرير: كان ذلك في هذه السنة في قول سيف وروايته.
وقال غيره: في سنة ست عشرة وقال غيره: كانت في سنة تسع عشرة.
ثم قال ابن جرير: ذكر الخبر عن فتحها، ثم ساق من طريق سيف عن محمد
وطلحة والمهلب وعمرو قالوا: ولما افتتح حرقوص بن زهير (1) سوق الاهواز،
وفر الهرمزان بين يديه، فبعث في إثره جزء بن معاوية - وذلك عن كتاب عمر
بذلك - فما زال جزء يتبعه حتى انتهى إلى رامهرمز فتحصن الهرمزان في
بلادها، وأعجز جزءا تطلبه، واستحوذ جزء على تلك البلاد والاقاليم
والاراضي، فضرب الجزية على أهلها، وعمر عامرها، وشق الانهار إلى خرابها
ومواتها: فصارت في غاية العمارة والجودة.
ولما رأى الهرمزان ضيق بلاده عليه لمجاورة المسلمين، طلب من جزء بن
معاوية المصالحة، فكتب إلى حرقوص، فكتب حرقوص إلى عتبة بن غزوان، وكتب
عتبة إلى عمر في ذلك.
فجاء الكتاب العمري بالمصالحة على رامهرمز، وتستر، وجندسابور، ومدائن
أخر من ذلك.
فوقع الصلح على ذلك كما أمر به عمر رضي الله عنه (2).
ذكر غزو بلاد فارس من ناحية البحرين
عن ابن جرير عن سيف وذلك أن العلاء بن الحضرمي كان على البحرين في أيام
الصديق، فلما كان عمر عزله عنها وولاها لقدامة بن مظعون.
ثم أعاد العلاء بن الحضرمي إليها.
وكان العلاء بن الحضرمي يباري سعد بن أبي وقاص.
فلما افتتح سعد القادسية، وأزاح كسرى عن داره، وأخذ حدود ما يلي
السواد، واستعلى وجاء بأعظم مما جاء به العلاء بن الحضرمي من ناحية
البحرين.
فأحب العلاء أن يفعل فعلا في فارس نظير ما فعله سعد فيهم، فندب الناس
إلى حربهم، فاستجاب له أهل بلاده، فجزأهم أجزاء، فعلى فرقة الجارود بن
المعلى، وعلى الاخرى السوار بن همام، وعلى الاخرى خليد بن المنذر بن
ساوى، وخليد هو أمير الجماعة.
فحملهم في البحر إلى فارس،
وذلك بغير إذن عمر له في ذلك - وكان عمر يكره ذلك لان رسول الله صلى
الله عليه وسلم وأبا بكر ما أغزيا فيه المسلمين - فعبرت تلك الجنود من
البحرين إلى فارس، فخرجوا من عند اصطخر فحالت فارس بينهم وبين سفنهم،
فقام في الناس خليد بن المنذر فقال: أيها الناس، إنما أراد هؤلاء القوم
بصنيعهم هذا محاربتكم، وأنتم جئتم لمحاربتهم، فاستعينوا بالله
وقاتلوهم، فإنما الارض والسفن لمن غلب، واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها
لكبيرة إلا على الخاشعين فأجابوه إلى ذلك فصلوا الظهر
__________
(1) حرقوص بن زهير السعدي، مدد عمر لعتبة بن غزوان بعد نقض الهرمزان
صلحه (الطبري - الكامل).
(2) انظر الطبري 4 / 211 وفتوح البلدان 2 / 464 - 465 والكامل: 2 /
545.
وفتوح ابن الاعثم 2 / 9 فعند ابن الاعثم والبلاذري أن أبا موسى الاشعري
تولى بنفسه صلح تستر.
(*)
(7/96)
ثم ناهدوهم
فاقتتلوا قتالا شديدا في مكان من الارض يدعى طاوس، ثم أمر خليد
المسلمين فترجلوا وقاتلوا فصبروا، ثم ظفروا فقتلوا فارس مقتلة لم
يقتلوا قبلها مثلها.
ثم خرجوا يريدون البصرة فغرقت بهم سفنهم، ولم يجدوا إلى الرجوع في
البحر سبيلا ووجدوا شهرك في أهل اصطخر قد أخذوا على المسلمين بالطرق،
فعسكروا وامتنعوا من العدو.
ولما بلغ عمر ما صنع العلاء بن الحضرمي، اشتد غضبه عليه، وبعث إليه
فعزله وتوعده، وأمره بأثقل الاشياء عليه، وأبغض الوجوه إليه.
فقال: الحق بسعد بن أبي وقاص [ فيمن قبلك، فخرج بمن معه نحو سعد ] (1)
مضافا إليه، وكتب عمر إلى عتبة بن غزوان: إن العلاء بن الحضرمي خرج
بجيش فأقطعهم أهل فارس وعصاني، وأظنه لم يرد الله بذلك، فخشيت عليهم إن
لا ينصروا، أن يغلبوا وينشبوا، فاندب إليهم الناس واضممهم إليك من قبل
أن يجتاحوا.
فندب عتبة المسلمين وأخبرهم بكتاب عمر إليه في ذلك، فانتدب جماعة من
الامراء والابطال، منهم هاشم بن أبي وقاص، وعاصم بن عمرو، وعرفجة بن
هرثمة، وحذيفة بن محصن، والاخنف بن قيس، وغيرهم، في اثني عشر ألفا.
وعلى الجميع أبو سبرة بن أبي رهم.
فخرجوا على البغال يجنبون الخيل سراعا، فساروا على الساحل لا يلقون
أحدا حتى انتهوا إلى موضع الوقعة التي كانت بين المسلمين من أصحاب
العلاء،
وبين أهل فارس بالمكان المسمى بطاوس، وإذا خليد بن المنذر ومن معه من
المسلمين محصورون قد أحاط بهم العدو من كل جانب، وقد تداعت عليهم تلك
الامم من كل وجه، وقد تكاملت أمداد المشركين، ولم يبق إلا القتال.
فقدم المسلمون إليهم في أحوج ما هم فيه إليهم، فالتقوا مع المشركين
رأسا، فكسر أبو سبرة المشركين كسرة عظيمة، وقتل منهم مقتلة عظيمة جدا،
وأخذ منهم أموالا جزيلة باهرة، واستنقذ خليدا ومن معه من المسلمين من
أيديهم، وأعز به الاسلام وأهله، ودفع الشرك وذله ولله الحمد والمنة ثم
عادوا إلى عتبة بن غزوان إلى البصرة.
ولما استكمل عتبة فتح تلك الناحية، استأذن عمر في الحج فأذن له فسار
إلى الحج واستخلف على البصرة أبا سبرة بن أبي رهم، واجتمع بعمر في
الموسم، وسأله أن يقيله فلم يفعل، وأقسم عليه ليرجعن إلى عمله.
فدعا عتبة الله عز وجل فمات ببطن نخلة، وهو منصرف من الحج، فتأثر عليه
عمر وأثنى عليه خيرا، وولى بعده بالبصرة المغيرة بن شعبة، فوليها بقية
تلك السنة والتي تليها، لم يقع في زمانه حدث، وكان مرزوق السلامة في
عمله.
ثم وقع الكلام في تلك المرأة من أبي بكرة فكان من أمره ما قدمنا.
ثم بعث إليها أبا موسى الاشعري واليا عليها رضي الله عنهم.
__________
(1) بياض بالاصل، وما بين معكوفين من الطبري.
(*)
(7/97)
ذكر فتح تستر ثانية وأسر الهرمزان وبعثه إلى عمر بن الخطاب
قال ابن جرير: كان ذلك في هذه السنة في رواية سيف بن عمر التميمي.
وكان سبب ذلك أن يزدجرد كان يحرض أهل فارس في كل وقت ويؤنبهم بملك
العرب بلادهم وقصدهم إياهم في حصونهم فكتب إلى أهل الاهواز وأهل فارس
فتحركوا وتعاهدوا وتعاقدوا على حرب المسلمين، وأن يقصدوا البصرة.
وبلغ الخبر إلى عمر، فكتب إلى سعد - وهو بالكوفة - أن ابعث جيشا كثيفا
إلى الاهواز مع النعمان بن مقرن وعجل وليكونوا بإزاء الهرمزان (1)،
وسمى رجالا من الشجعان
الاعيان الامراء يكونون في هذا الجيش، منهم جرير بن عبد الله البجلي،
وجرير بن عبد الله الحميري، والنعمان بن مقرن، وسويد بن مقرن: وعبد
الله بن ذي السهمين.
وكتب عمر إلى أبي موسى وهو بالبصرة أن ابعث إلى الاهواز جندا كثيفا
وأمر عليهم سهيل (2) بن عدي، وليكن معه البراء بن مالك، وعاصم بن عمرو،
ومجزأة بن ثور، وكعب بن ثور (3)، وعرفجة بن هرثمة، وحذيفة بن محصن،
وعبد الرحمن بن سهل، والحصين بن معبد.
وليكن على أهل الكوفة وأهل البصرة جميعا أبو سبرة بن أبي رهم، وعلى كل
من أتاه من المدد.
قالوا: فسار النعمان بن مقرن بجيش الكوفة فسبق البصريين فانتهى إلى
رامهرمز (4) وبها الهرمزان، فخرج إليه الهرمزان في جنده ونقض العهد
بينه وبين المسلمين، فبادره طمعا أن يقتطعه قبل مجئ أصحابه من أهل
البصرة رجاء أن ينصر أهل فارس، فالتقى معه النعمان بن مقرن بأربل (5)،
فاقتتلا قتالا شديدا، فهزم الهرمزان وفر إلى تستر، وترك رامهرمز
فتسلمها النعمان عنوة وأخذ ما فيها من الحواصل والذخائر والسلاح
والعدد.
فلما وصل الخبر إلى أهل البصرة بما صنع الكوفيون بالهرمزان وأنه فر
فلجأ إلى تستر، ساروا إليها ولحقهم أهل الكوفة حتى أحاطوا بها فحاصروها
جميعا، وعلى الجميع أبو سبرة، فوجدوا الهرمزان قد حشد بها خلقا كثيرا،
وجما غفيرا.
وكتبوا إلى عمر في ذلك وسألوه أن يمدهم، فكتب إلى أبي موسى أن يسير
إليهم.
فسار إليهم - وكان أمير أهل البصرة واستمر أبو سبرة على الامرة (6) على
جميع أهل الكوفة والبصرة، فحاصرهم أشهرا وكثر القتل من
__________
(1) كذا بالاصل والطبري وفتوح البلدان والكامل، وفي فتوح ابن الاعثم:
الهرمزدان أنو شروان.
(2) في الطبري والكامل: سهل بن عدي أخو سهيل.
(3) في الطبري: سور.
(4) في فتوح البلان: أن أبا موسى هادن أهل رامهرمز ولما انقضت هدنتهم
وجه إليهم أبا مريم الحنفي فصالحهم على ثماني مئة ألف درهم ثم غدروا
ففتحها أبو موسى عنوة.
(2 / 466 - 467) وفي ابن الاعثم أن النعمان وجرير ابن عبد الله افتتحا
معا قلاع ومدينة رمهرمز بالسيف قسرا بعد أن هادنهم وأجلهم أبو موسى ستة
أشهر 2 / 11.
(5) في الطبري والكامل: اربك.
(6) في فتوح البلدان وفتوح ابن الاعثم: أبو موسى كان الامير على الناس.
وفي الطبري والكامل فكالاه.
(*)
(7/98)
الفريقين، وقتل
البراء بن مالك أخو أنس بن مالك يومئذ مائة مبارز سوى من قتل غير ذلك،
وكذلك فعل كعب بن ثور، ومجزأة بن ثور، وأبو يمامة (1) وغيرهم من أهل
البصرة، وكذلك أهل الكوفة قتل منهم جماعة مائة مبارزة كحبيب بن قرة،
وربعي بن عامر، وعامر بن عبد الاسود وقد تزاحفوا أياما متعددة، حتى إذا
كان في آخر زحف قال المسلمون للبراء بن مالك - وكان مجاب الدعوه -: يا
براء اقسم على ربك ليهزمنهم لنا.
فقال: اللهم اهزمهم لنا، واستشهدني قال: فهزمهم المسلمون حتى أدخلوهم
خنادقهم واقتحموها عليهم، ولجأ المشركون إلى البلد فتحصنوا به، وقد
ضاقت بهم البلد، وطلب رجل (2) من أهل البلد الامان من أبي موسى فأمنه،
فبعث يدل المسلمين على مكان يدخلون منه إلى البلد، وهو من مدخل الماء
إليها، فندب الامراء الناس إلى ذلك فانتدب رجال من الشجعان والابطال،
وجاؤا فدخلوا مع الماء - كالبط - إلى البلد، وذلك في الليل، فيقال كان
أول من دخلها عبد الله بن مغفل المزني (3)، وجاؤا إلى البوابين
فأناموهم وفتحوا الابواب، وكبر المسلمون فدخلوا البلد، وذلك في وقت
الفجر إلى أن تعالى النهار، ولم يصلوا الصبح يومئذ إلا بعد طلوع الشمس
- كما حكاه البخاري عن أنس بن مالك قال: شهدت فتح تستر، وذلك عند صلاة
الفجر، فاشتغل الناس بالفتح فما صلوا الصبح إلا بعد طلوع الشمس - فما
أحب أن لي بتلك الصلاة حمر النعم.
احتج بذلك البخاري لمكحول والاوزاعي في ذهابهما إلى جواز تأخير الصلاة
لعذر القتال.
وجنح إليه البخاري واستدل بقصة الخندق في قوله عليه السلام " شغلونا عن
الصلاة الوسطى ملا الله قبورهم وبيوتهم نارا (4) " وبقوله يوم بني
قريظة " لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة (5) " فأخرها فريق
من الناس إلى بعد غروب الشمس، ولم يعنفهم، وقد تكلمنا على ذلك في غزوة
الفتح.
والمقصود أن الهرمزان لما فتحت البلد لجأ إلى القلعة فتبعه جماعة من
الابطال ممن ذكرنا وغيرهم فلما حصروه في مكان من القلعة ولم يبق إلا
تلافه أو تلافهم، قال لهم بعد ما قتل البراء بن
مالك ومجزأة بن ثور رحمهما الله: إن معي جعبة فيها مائة سهم، وإنه لا
يتقدم إلي أحد منكم إلا رميته بسهم قتلته.
ولا يسقط لي سهم إلا في رجل منكم، فماذا ينفعكم إن أسرتموني بعدما قتلت
منكم مائة رجل ؟ قالوا: فماذا تريد ؟ قال: تؤمنوني حتى أسلمكم يدي
فتذهبوا بي إلى عمر بن
__________
(1) في الطبري: أبو تميمة.
(2) في فتوح ابن الاعثم ذكر اسمه: نسيبه بن دارنه.
وفي الاخبار الطوال: سينة.
(3) في فتوح ابن الاعثم عوف بن مجزأة.
وفي فتوح البلدان 2 / 468: رجل من بني شيبان يقال له أشرس بن عوف وفي
الاخبار الطوال ص (131) مثل فتوح البلدان.
(4) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد (98) باب ح (2931) فتح الباري 6 /
105.
وفي المغازي ح (4111) ومسلم في كتاب المساجد (36) باب.
ح 204.
(5) أخرجه البخاري في المغازي فتح الباري 7 / 407 ومسلم في الجهاد ح
(69) ص (1391).
(*)
(7/99)
الخطاب فيحكم
في بما يشاء.
فأجابوه إلى ذلك فألقى قوسه ونشابه وأسروه فشدوه وثاقا وأرصدوه ليبعثوه
إلى أمير المؤمنين عمر، ثم تسلموا ما في البلد من الاموال والحواصل
فاقتسموا أربعة أخماسه فنال كل فارس ثلاثة آلاف وكل راجل ألف درهم.
فتح السويس ثم ركب أبو سبرة في
طائفة من الجيش ومعه أبو موسى الاشعري والنعمان بن مقرن، واستصحبوا
معهم الهرمزان، وساروا في طلب المنهزمين من الفرس حتى نزلوا على السوس،
فأحاطوا بها.
وكتب أبو سبرة إلى عمر فجاء الكتاب بأن يرجع أبو موسى إلى البصرة، وأمر
عمر زر ابن عبد الله بن كليب العقيمي (1) - وهو صحابي - أن يسير إلى
جندسابور، فسار.
ثم بعث أبو سبرد بالخمس وبالهرمزان مع وفد فيهم أنس بن مالك والاحنف بن
قيس، فلما اقتربوا من المدينة هيؤا الهرمزان بلبسه الذي كان يلبسه من
الديباج والذهب المكلل بالياقوت واللآلئ.
ثم دخلوا المدينة وهو كذلك فتيمموا به منزل أمير المؤمنين، فسألوا عنه
فقالوا: إنه ذهب إلى المسجد بسبب
وفد من الكوفة.
فجاؤا المسجد فلم يروا أحدا فرجعوا، فإذا غلمان يلعبون فسألوهم عنه
فقالوا: إنه نائم في المسجد متوسدا برنسا له.
فرجعوا إلى المسجد فإذا هو متوسد برنسا له كان قد لبسه للوفد، فلما
انصرفوا عنه توسد البرنس ونام وليس في المسجد غيره، والدرة معلقة في
يده.
فقال الهرمزان: أين عمر ؟ فقالوا: هو ذا.
وجعل الناس يخفضون أصواتهم لئلا ينبهوه، وجعل الهرمزان يقول: وأين
حجابه ؟ أين حرسه ؟ فقالوا: ليس له حجاب ولا حرس، ولا كاتب ولا ديوان.
فقال: ينبغي أن يكون نبيا.
فقالوا: بل يعمل عمل الانبياء.
وكثر الناس فاستيقظ عمر بالجلبة فاستوى جالسا، ثم نظر إلى الهرمزان،
فقال: الهرمزان ؟ قالوا: نعم.
فتأمله وتأمل ما عليه ثم قال: أعوذ بالله من النار وأستعين بالله.
ثم قال: الحمد لله الذي أذل بالاسلام هذا وأشياعه، يا معشر المسلمين
تمسكوا بهذا الدين، واهتدوا بهدي نبيكم، ولا تبطرنكم الدنيا فإنها
غدارة (2).
فقال له الوفد: هذا ملك الاهواز فكلمه.
فقال: لا حتى لا يبقى عليه من حليته شئ.
ففعلوا ذلك وألبسوه ثوبا صفيقا، فقال عمر: يا هرمزان كيف رأيت وبال
الغدر وعاقبة أمر الله ؟ فقال: يا عمر: إنا وإياكم في الجاهلية كان
الله قد خلى بيننا وبينكم فغلبناكم، إذ لم يكن معنا ولا معكم، فلما كان
معكم غلبتمونا.
فقال عمر: إنما غلبتمونا في الجاهلية باجتماعكم وتفرقنا.
ثم قال: ما عذرك وما حجتك في انقاضك مرة بعد مرة ؟ فقال: أخاف أن
تقتلني قبل أن أخبرك.
قال: لا تخف ذلك.
فاستسقى الهرمزان ماء فأتي به في قدح غليظ (3)، فقال: لو
__________
(1) في الطبري والكامل: الفقيمي.
وفي فتوح البلدان أن أبا موسى سار إلى جنديسابور فطلبوا الامان وصالحهم
2 / 470.
(2) في الطبري: غرارة.
(3) في ابن الاعثم: من خشب.
(*)
(7/100)
مت عطشا لم
أستطع أن أشرب في هذا.
فأتي به في قدح آخر يرضاه فلما أخذه جعلت يده ترعد، وقال: إني أخاف أن
أقتل وأنا أشرب.
فقال عمر: لا بأس عليك حتى تشربه فأكفأه.
فقال
عمر: أعيدوه عليه ولا تجمعوا عليه القتل والعطش.
فقال: لا حاجة لي في الماء، إنما أردت أن أستأنس (1) به.
فقال له عمر: إني قاتلك، فقال: إنك أمنتني.
قال: كذبت: فقال أنس: صدق يا أمير المؤمنين، فقال عمر: ويحك يا أنس أنا
أؤمن من قتل مجزأة والبراء ؟ لتأتيني بمخرج وإلا عاقبتك، قال: قلت لا
بأس عليك حتى تخبرني.
وقلت: لا بأس عليك حتى تشربه، وقال له من حوله مثل ذلك.
فأقبل على الهرمزان فقال: خدعتني والله لا أنخدع إلا أن تسلم.
فأسلم ففرض له في ألفين وأنزله المدينة.
وفي رواية أن الترجمان بين عمر وبين الهرمزان كان المغيرة بن شعبة،
فقال له عمر: قل له من أي أرض أنت ؟ قال مهرجاني.
قال: تكلم بحجتك.
فقال: أكلام حي أم ميت ؟ قال: بل كلام حي.
فقال قد أمنتني، فقال خدعتني ولا أقبل ذلك إلا أن تسلم.
فأسلم ففرض له في ألفين وأنزله المدينة.
ثم جاء زيد فترجم بينهما أيضا.
قلت: وقد حسن إسلام الهرمزان وكان لا يفارق عمر حتى قتل عمر فاتهمه بعض
الناس بممالاة أبي لؤلؤة هو وجفينة، فقتل عبيد الله بن عمر الهرمزان
وجفينة على ما سيأتي تفصيله.
وقد روينا أن الهرمزان لما علاه عبيد الله بالسيف قال: لا إله إلا
الله.
وأما جفينة فصلب على وجهه.
والمقصود أن عمر كان يحجر على المسلمين أن يتوسعوا في بلاد العجم خوفا
عليهم من العجم، حتى أشار عليه الاحنف بن قيس بأن المصلحة تقتضي توسعهم
في الفتوحات فإن الملك يزدجرد لا يزال يستحثهم على قتال المسلمين، وإن
لم يستأصل شأو العجم وإلا طمعوا في الاسلام وأهله، فاستحسن عمر ذلك منه
وصوبه.
وأذن للمسلمين في التوسع في بلاد العجم، ففتحوا بسبب ذلك شيئا كثيرا،
ولله الحمد.
وأكثر ذلك وقع في سنة ثماني عشرة كما سيأتي بيانه فيها.
ثم نعود إلى فتح السوس وجندسابور وفتح نهاوند في قول سيف.
كان قد تقدم أن أبا سبرة سار بمن معه من علية الامراء من تستر إلى
السوس، فنازلها حينا وقتل من الفريقين خلق كثير، فأشرف عليه علماء
أهلها فقالوا: يا معشر المسلمين لا تتعبوا في حصار هذا البلد فإنا نأثر
فيما نرويه عن قدمائنا من أهل هذا البلد أنه لا يفتحه إلا الدجال أو
قوم معهم الدجال، واتفق أنه كان في
جيش أبي موسى الاشعري صاف بن صياد، فأرسله أبو موسى فيمن يحاصره، فجاء
إلى الباب فدقه برجله فتقطعت السلاسل، وتكسرت الاغلاق، ودخل المسلمون
البلد فقتلوا من وجدوا حتى نادوا بالامان ودعوا إلى الصلح فأجابوهم إلى
ذلك، وكان على السوس شهريار (2) أخو
__________
(1) في الطبري: أستأمن.
(2) في فتوح ابن الاعثم: سابور ابن آذرماهان 2 / 6.
(*)
(7/101)
الهرمزان،
فاستحوذ المسلمون على السوس، وهو بلد قديم العمارة في الارض يقال إنه
أول بلد وضع على وجه الارض.
والله أعلم.
وذكر ابن جرير أنهم وجدوا قبر دانيال بالسوس، وأن أبا موسى لما قدم بها
بعد مضي أبي سبرة إلى جندي سابور، كتب إلى عمر في أمره فكتب إليه أن
يدفنه وأن يغيب عن الناس موضع قبره، ففعل (1).
وقد بسطنا ذلك في سيرة عمر ولله الحمد.
قال ابن جرير: وقال بعضهم أن فتح السوس ورامهز وتسيير الهرمزان من تستر
إلى عمر في سنة عشرين والله أعلم.
وكان الكتاب العمري قد ورد بأن النعمان بن مقرن يذهب إلى أهل نهاوند
فسار إليها فمر بماه - بلدة كبيرة قبلها - فافتتحها ثم ذهب إلى نهاوند
ففتحها.
ولله الحمد.
قلت: المشهور أن فتح نهاوند إنما وقع في سنة إحدى وعشرين كما سيأتي
فيها بيان ذلك، وهي وقعة عظيمة وفتح كبير، وخبر غريب ونبأ عجيب، وفتح
زر بن عبد الله الفقيمي مدينة جندي سابور (2) فاستوثقت تلك البلاد
للمسلمين.
هذا وقد تحول يزدجرد من بلد إلى بلد، حتى انتهى أمره إلى الاقامة
بأصبهان، وقد كان صرف طائفة من أشراف أصحابه قريبا من ثلثمائة من
العظماء عليهم رجل يقال له سياه، فكانوا يفرون من المسلمين من بلد إلى
بلد حتى فتح المسلمون تستر واصطخر، فقال سياه لاصحابه: إن هؤلاء بعد
الشقاء والذلة ملكوا أماكن الملوك الاقدمين، ولا يلقون جندا إلا كسروه،
والله ما هذا عن باطل.
- ودخل في قلبه الاسلام وعظمته - فقالوا له: نحن تبع لك.
وبعث عمار بن ياسر في غضون ذلك يدعوهم إلى الله، فأرسلوا إلى أبي موسى
الاشعري بإسلامهم، وكتب فيهم إلى عمر في ذلك، فأمره أن يفرض لهم
في ألفين ألفين، وفرض لستة منهم في ألفين وخمسمائة، وحسن إسلامهم، وكان
لهم نكاية عظيمة في قتال قومهم حتى بلغ من أمرهم أنهم حاصروا حصنا
فامتنع عليهم فجاء أحدهم فرمى بنفسه في الليل على باب الحصن وضمخ ثيابه
بدم، فلما نظروا إليه حسبوا أنه منهم، ففتحوا إليه باب الحصن ليأووه
فثار إلى البواب فقتله، وجاء بقية أصحابه ففتحوا ذلك الحصن، وقتلوا من
فيه من المجوس.
إلى غير ذلك من الامور العجيبة والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
وذكر ابن جرير أن عمر بن الخطاب عقد الالوية والرايات الكبيرة في بلاد
خراسان والعراق لغزو فارس والتوسع في بلادهم كما أشار عليه بذلك الاحنف
بن قيس، فحصل بسبب ذلك فتوحات كثيرة في السنة المستقبلة بعدها كما
سنبينه وننبه عليه ولله الحمد والمنة.
__________
(1) ذكرت مضامين هذه الرسالة في مصادرها مختصرة فقال الطبري: " وكتب
إلى عمر فيه، فكتب إليه يأمره بتوريته " وقال ابن الاثير في الكامل: "
فاستأذنوا عمر فيه فأمر بدفنه " وقال البلاذري: " فكتب أبو موسى بذلك
إلى عمر فكتب إليه عمر: أن كفنه وادفنه.
فسكر أبو موسى نهرا حتى إذا انقطع، دفنه، ثم اجرى الماء عليه ".
(2) في الاصل جند سابور، والتصحيح من الطبري.
(*)
(7/102)
قال: وحج بالناس في هذه السنة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، ثم ذكر
نوابه على البلاد، وهم من ذكر في السنة قبلها غير المغيرة فإن على
البصرة بدله أبو موسى الاشعري.
قلت: وقد توفي في هذه السنة أقوام قيل إنهم توفوا قبلها وقد ذكرناهم،
وقيل فيما بعدها وسيأتي ذكرهم في أماكنهم والله تعالى أعلم. |