البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي
ثم دخلت سنة إحدى وعشرين ومائة ففيها غزا مسلمة بن هشام الروم فافتتح
مطامير وهو حصن، وافتتح مروان بن محمد بلاد صاحب الذهب، وأخذ قلاعه
وخرب أرضه، فأذعن له بالجزية في كل سنة بألف رأس يؤديها إليه، وأعطاه
رهنا على ذلك.
وفيها في صفر قتل زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، الذي تنسب
إليه الطائفة الزيدية، في قول الواقدي، وقال هشام الكلبي: إنما قتل في
صفر من سنة ثنتين وعشرين فالله أعلم.
وقد ساق محمد بن جرير سبب مقتله في هذه السنة تبعا للواقدي، وهو أن
زيدا هذا وفد على يوسف بن عمر فسأله هل أودع خالد القسري (1) عندك مالا
؟ فقال له زيد بن علي: كيف يودعني مالا وهو يشتم آبائي على منبره في كل
جمعة ؟ فأحلفه أنه ما أودع عنده شيئا، فأمر يوسف بن عمر باحضار خالد بن
السجن فجئ به في عباءة، فقال: أنت أودعت هذا شيئا نستخلصه منه ؟ قال:
لا، وكيف وأنا أشتم أباه كل جمعة ؟ فتركه عمر وأعلم أمير المؤمنين بذلك
فعفا عن ذلك، ويقال بل استحضرهم فحلفوا بما حلفوا.
ثم إن طائفة من الشيعة التفت على زيد بن علي، وكانوا نحوا من أربعين
ألفا، فنهاه بعض النصحاء عن الخروج، وهو محمد بن عمر بن علي بن أبي
طالب، وقال له: إن جدك خير منك، وقد التفت على بيعته من أهل العراق
ثمانون ألفا، ثم خانوه أحوج ما كان إليهم، وإني أحذرك من أهل العراق.
فلم يقبل بل استمر يبايع
الناس في الباطن في الكوفة، على كتاب الله وسنة رسوله حتى استفحل أمره
بها في الباطن، وهو يتحول من منزل إلى منزل، وما زال كذلك حتى دخلت سنة
ثنتين وعشرين ومائة، فكان فيها مقتله كما سنذكره قريبا.
وفيها غزا نصر بن سيار أمير خراسان غزوات متعددة في الترك، وأسر ملكهم
كور صول في بعض تلك الحروب وهو لا يعرفه، فلما تيقنه وتحققه، سأل منه
كور صول أن يطلقه على أن يرسل له ألف (2) بعير من إبل الترك - وهي
البخاتي - وألف برذون، وهو مع ذلك شيخ كبير جدا، فشاور نصر من بحضرته
من الامراء في ذلك، فمنهم من أشار باطلاقه، ومنهم من أشار بقتله.
ثم سأله نصر بن سياركم غزوت من غزوة ؟ فقال: ثنتين وسبعين غزوة، فقال
له نصر: ما مثلك يطلق، وقد شهدت هذا كله، ثم أمر به فضربت عنقه وصلبه،
فلما بلغ ذلك جيشه من قتله باتوا تلك الليلة يجعرون ويبكون عليه، وجذوا
لحاهم وشعورهم وقطعوا آذانهم وحرقوا خياما
__________
(1) في رواية عند الطبري 8 / 260 وابن الاثير 5 / 230 وابن الاعثم 8 /
109 - 110 أن زيد بن خالد هو الذي ادعى انه اودع مالا لدى زيد بن علي
ومحمد بن عمر بن علي بن أبي طالب (رض).
(2) في ابن الاثير 5 / 237: أربعة آلاف.
(*)
(9/358)
كثيرة، وقتلوا
أنعاما كثيرة، فلما أصبح أمر نصر بإحراقه لئلا يأخذوا جثته، فكان حريقه
أشد عليهم من قتله، وانصرفوا خائبين صاغرين خاسرين، ثم كر نصر على
بلادهم فقتل منهم خلقا وأسر أمما لا يحصون كثرة، وكان فيمن حضر بين
يديه عجوز كبيرة جدا من الاعاجم أو الاتراك، وهي من بيت مملكة، فقالت
لنصر بن سيار: كل ملك لا يكون عنده ستة أشياء فهو ليس بملك، وزير صادق
يفصل خصومات الناس ويشاوره ويناصحه، وطباخ يصنع له ما يشتهيه، وزوجة
حسناء إذا دخل عليها مغتما فنظر إليها سرته وذهب غمه وحصن منيع إذا فزع
رعاياه لجأوا إليه فيه، وسيف إذا قارع به الاقران لم يخش خيانته،
وذخيرة إذا حملها فأين ما وقع من الارض عاش بها.
وحج بالناس فيها محمد بن هشام بن إسماعيل نائب مكة والمدينة والطائف،
ونائب العراق يوسف بن عمر، ونائب خراسان نصر بن سيار، وعلى أرمينية
مروان بن محمد.
ذكر من توفي فيها من الاعيان: زيد
بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب والمشهور أنه قتل في التي بعدها
كما سيأتي بيانه إن شاء الله.
مسلمة بن عبد الملك ابن مروان القرشي الاموي، أبو سعيد وأبو الاصبغ
الدمشقي، قال ابن عساكر: وداره بدمشق في حجلة القباب عند باب الجامع
القبلي، ولي الموسم أيام أخيه الوليد، وغزا الروم غزوات وحاصر
القسطنطينية، وولاه أخوه يزيد إمرة العراقين، ثم عزله وتولى أرمينية.
وروى الحديث عن عمر بن عبد العزيز، وعنه عبد الملك بن أبي عثمان، وعبيد
الله بن قزعة، وعيينة والد سفيان بن عيينة وابن أبي عمران، ومعاوية بن
خديج، ويحيى بن يحيى الغساني.
قال الزبير بن بكار: كان مسلمة من رجال بني أمية، وكان يلقب بالجرادة
الصفراء، وله آثار كثيرة، وحروب ونكاية في العدو من الروم وغيرهم.
قلت: وقد فتح حصونا كثيرة من بلاد الروم.
ولما ولي أرمينية غزا الترك فبلغ باب الابواب فهدم المدينة التي عنده،
ثم أعاد بناءها بعد تسع سنين.
وفي سنة ثمان وتسعين غزا القسطنطينية فحاصرها وافتتح مدينة الصقالبة،
وكسر ملكهم البرجان، ثم عاد إلى محاصرة القسطنطينية.
قال الاوزاعي: فأخذه وهو يغازيهم صداع عظيم في رأسه، فبعث ملك الروم
إليه بقلنسوة وقال: ضعها على رأسك يذهب صداعك، فخشي أن تكون مكيدة
فوضعها على رأس بهيمة فلم ير إلا خيرا، ثم وضعها على رأس بعض أصحابه
فلم ير إلا خيرا، فوضعها على رأسه فذهب صداعه، ففتقها فإذا فيها سبعون
سطرا هذه الآية (إن الله يمسك السموات والارض أن تزولا) [ فاطر: 41 ]
الآية مكررة لا غير، رواه ابن عساكر.
(9/359)
وقد لقي مسلمة
في حصاره القسطنطينية شدة عظيمة، وجاع المسلمون عندها جوعا شديدا، فلما
ولي عمر بن عبد العزيز أرسل إليهم البريد يأمرهم بالرجوع إلى الشام،
فحلف مسلمة أن لا يقلع عنهم حتى يبنوا له جامعا كبيرا بالقسطنطينية،
فبنوا له جامعا ومنارة، فهو بها إلى الآن يصلي فيه
المسلمون الجمعة والجماعة، قلت: وهي آخر ما يفتحه المسلمون قبل خروج
الدجال في آخر الزمان، كما سنورده في الملاحم والفتن من كتابنا هذا إن
شاء الله.
ونذكر الاحاديث الواردة في ذلك هناك، وبالجملة كانت لمسلمة مواقف
مشهورة، ومساعي مشكورة، وغزوات متتالية منثورة، وقد افتتح حصونا
وقلاعا، وأحيا بعزمه قصورا وبقاعا، وكان في زمانه في الغزوات نظير خالد
بن الوليد في أيامه، في كثرة مغازيه، وكثرة فتوحه، وقوة عزمه، وشده
بأسه، وجودة تصرفه في نقضه وإبرامه.
وهذا مع الكرم والفصاحة، وقال يوما لنصيب الشاعر: سلني، قال: لا، قال:
ولم ؟ قال: لان كفك بالجزيل أكثر من مسألتي باللسان.
فأعطاه ألف دينار.
وقال أيضا: الانبياء لا يتنابون كما يتناب الناس من ناب نبي قط وقد
أوصى بثلث ماله لاهل الادب، وقال: إنها صنعة جحف أهلها.
وقال الوليد بن مسلم وغيره: توفي يوم الاربعاء لسبع مضين من المحرم سنة
إحدى وعشرين ومائة، وقيل في سنة عشرين ومائة، وكانت وفاته بموضع يقال
له الحانوت، وقد رثاه بعضهم، وهو ابن أخيه الوليد بن يزيد بن عبد الملك
فقال: أقول وما العبد إلا الردى * أمسلم لا تبعدن مسلمه فقد كنت نورا
لنا في البلاد * مضيئا فقد أصبحت مظلمه ونكتم موتك نخشى اليقين * فأبدى
اليقين لنا الجمجه نمير بن قيس (1) الاشعري قاضي دمشق، تابعي جليل، روى
عن حذيفة مرسلا وأبي موسى مرسلا وأبي الدرداء وعن معاوية مرسلا وغير
واحد من التابعين، وحدث عنه جماعة كثيرون، منهم الاوزاعي وسعيد بن عبد
العزيز ويحيى بن الحارث الذماري.
ولاه هشام بن عبد الملك القضاء بدمشق بعد عبد الرحمن بن الخشخاش
العذري، ثم استعفى هشاما فعفاه وولى مكانه يزيد بن عبد الرحمن بن أبي
ملك.
وكان نمير هذا لا يحكم باليمين مع الشاهد، وكان يقول: الادب من الآباء،
والصلاح من الله.
قال غير واحد: توفي سنة إحدى وعشرين ومائة، وقيل سنة ثنتين وعشرين
ومائة، وقيل سنة خمس عشرة ومائة، وهو غريب والله سبحانه أعلم.
__________
(1) في طبقات ابن سعد 7 / 456: أوس.
(*)
(9/360)
ثم دخلت سنة ثنتين وعشرين ومائة ففيها كان مقتل زيد بن علي بن الحسين
بن علي بن أبي طالب، وكان سبب ذلك أنه لما أخذ البيعة ممن بايعه من أهل
الكوفة، أمرهم في أول هذه السنة بالخروج والتأهب له، فشرعوا في أخذ
الاهبة لذلك.
فانطلق رجل يقال له سليمان بن سراقة إلى يوسف بن عمر نائب العراق
فأخبره - وهو بالحيرة يومئذ - خبر زيد بن علي هذا ومن معه من أهل
الكوفة، فبعث يوسف بن عمر يتطلبه ويلح في طلبه، فلما علمت الشيعة ذلك
اجتمعو عند زيد بن علي فقالوا له: ما قولك يرحمك الله في أبي بكر وعمر
؟ فقال: غفر الله لهما، ما سمعت أحدا من أهل بيتي تبرأ منهما، وأنا لا
أقول فيها إلا خيرا، قالوا: فلم تطلب إذا بدم أهل البيت ؟ فقال: إنا
كنا أحق الناس بهذا الامر، ولكن القوم استأثروا علينا به ودفعونا عنه،
ولم يبلغ ذلك عندنا بهم كفرا، قد ولوا فعدلوا، وعملوا بالكتاب والسنة.
قالوا: فلم تقاتل هؤلاء إذا ؟ قال: إن هؤلاء ليسوا كأولئك، إن هؤلاء
ظلموا الناس وظلموا أنفسهم، وإني أدعو إلى كتاب الله وسنة نبيه (صلى
الله عليه وسلم)، وإحياء السنن وإماتة البدع، فإن تسمعوا يكن خيرا لكم
ولي، وإن تابوا فلست عليكم بوكيل.
فرفضوه وانصرفوا عنه ونقضوا بيعته وتركوه، فلهذا سموا الرافضة من
يومئذ، ومن تابعه من الناس على قوله سموا الزيدية، وغالب أهل الكوفة
منهم رافضة، وغالب أهل مكة إلى اليوم على مذهب الزيدية، وفي مذهبم حق،
وهو تعديل الشيخين، وباطل وهو اعتقاد تقديم علي عليهما، وليس علي مقدما
عليهما، بل ولا عثمان على أصح قولي أهل السنة الثابتة، والآثار الصحيحة
الثابتة عن الصحابة، وقد ذكرنا ذلك في سيرة أبي بكر وعمر فيما تقدم.
ثم إن زيدا عزم على الخروج بمن بقي معه من أصحابه، فواعدهم ليلة
الاربعاء من مستهل صفر من هذه السنة.
فبلغ ذلك يوسف بن عمر، فكتب إلى نائبه على الكوفة وهو الحكم بن الصلت
يأمره بجمع الناس كلهم في المسجد الجامع، فجمع الناس لذلك في يوم
الثلاثاء سلخ المحرم، قبل خروج زيد بيوم، وخرج زيد ليلة الاربعاء في
برد شديد، ورفع أصحابه النيران،
وجعلوا ينادون يا منصور يا منصور، فلما طلع الفجر إذا قد اجتمع معه
مائتان وثمانية عشر (1) رجلا، فجعل زيد يقول: سبحان الله ! ! أين الناس
؟ فقيل: هم في المسجد محصورون.
وكتب الحكم إلى يوسف يعلمه بخروج زيد بن علي، فبعث إليه سرية إلى
الكوفة، وركبت الجيوش مع نائب الكوفة، وجاء يوسف بن عمر أيضا في طائفة
كبيرة من الناس، فالتقى بمن معه جرثومة منهم فيهن خمسمائة فارس، ثم أتى
الكناسة فحمل على جمع من أهل الشام فهزمهم، ثم اجتاز بيوسف بن عمر وهو
واقف فوق تل، وزيد في مائتي فارس ولو قصد يوسف بن عمر لقتله، ولكن أخذ
ذات اليمين، وكلما لقي طائفة هزمهم، وجعل أصحابه ينادون: يا أهل الكوفة
اخرجوا إلى الدين والعز والدنيا،
__________
(1) في ابن الاعثم 8 / 118: مائتان وعشرون رجلا.
(*)
(9/361)
فإنكم لستم في
دين ولا عز ولا دنيا، ثم لما أمسوا انضاف إليه جماعة من أهل الكوفة،
وقد قتل بعض أصحابه في أول يوم، فلما كان اليوم الثاني اقتتل هو وطائفة
من أهل الشام فقتل منهم سبعين رجلا، وانصرفوا عنه بشر حال، وأمسوا فعبأ
يوسف بن عمر جيشه جدا، ثم أصبحوا فالتقوا مع زيد فكشفهم حتى أخرجهم إلى
السبخة، ثم شد عليهم حتى أخرجهم إلى بني سليم، ثم تبعهم في خيله ورجله
حتى أخذوا على الساه (1)، ثم اقتتلوا هناك قتالا شديدا جدا، حتى كان
جنح الليل رمي زيد بسهم فأصاب جانب جبهته اليسرى، فوصل إلى دماغه، فرجع
ورجع أصحابه، ولا يظن أهل الشام أنهم رجعوا إلا لاجل المساء والليل،
وأدخل زيد في دار في سكة البريد، وجئ بطبيب فانتزع ذلك السهم من جبهته،
فما عدا أن انتزعه حتى مات من ساعته رحمه الله.
فاختلف أصحابه أين يدفنونه، فقال بعضهم: ألبسوه درعه وألقوه في الماء،
وقال بعضهم: احتزوا رأسه وأتركوا جثته في القتلى، فقال ابنه: لا والله
لا تأكل أبي الكلاب.
وقال بعضهم: أدفنوه في العباسية، وقال بعضهم: أدفنوه في الحفرة التي
يؤخذ منها الطين (2)، ففعلوا ذلك وأجروا على قبره الماء لئلا يعرف،
وانفتل أصحابه حيث لم يبق لهم رأس يقاتلون به، فما أصبح الفجر ولهم
قائمة ينهضون بها، وتتبع يوسف بن عمر الجرحى هل يجد زيدا بينهم، وجاء
مولى لزيد سندي قد شهد
دفنه فدل على قبره فأخذ من قبره، فأمر يوسف بن عمر بصلبه على خشبة
بالكناسة، ومعه نضر بن خزيمة ومعاوية بن إسحاق بن زيد بن حارثة
الانصاري، وزياد النهدي، ويقال إن زيدا مكث مصلوبا أربع سنين، ثم أنزل
بعد ذلك وأحرق فالله أعلم.
وقد ذكر أبو جعفر بن جرير الطبري: أن يوسف بن عمر لم يعلم بشئ من ذلك
حتى كتب له هشام بن عبد الملك: إنك لغافل، وإن زيد بن علي غارز ذنبه
بالكوفة يبايع له، فألح في طلبه واعطه الامان، وإن لم يقبل فقاتله،
فتطلبه يوسف حتى كان من أمره ما تقدم، فلما ظهر على قبره حز رأسه وبعثه
إلى هشام، وقام من بعده الوليد بن يزيد فأمر به فأنزل وحرق في أيامه
قبح الله الوليد بن يزيد.
فأما ابنه يحيى بن زيد بن علي فاستجار بعبد الملك بن بشر بن مروان،
فبعث إليه يوسف بن عمر يتهدده حتى يحضره، فقال له عبد الملك بن بشر: ما
كنت لآوي مثل هذا الرجل وهو عدونا وابن عدونا.
فصدقه يوسف بن عمر في ذلك، ولما هدأ الطلب عنه سيره إلى خراسان فخرج
يحيى بن زيد في جماعة من الزيدية إلى خراسان فأقاموا بها هذه المدة.
قال أبو مخنف: ولما قتل زيد خطب يوسف بن عمر أهل الكوفة فتهددهم
وتوعدهم وشتمهم
__________
(1) في الطبري 8 / 275: المسناة.
(2) في ابن الاعثم 8 / 122: دفن في السبخة.
وفي مروج الذهب 3 / 251: دفن في ساقية ماء وجعلوا على قبره التراب
والحشيش وأجري الماء على ذلك.
(*)
(9/362)
وقال لهم فيما
قال: والله لقد استأذنت أمير المؤمنين في قتل خلق منكم، ولو أذن لي
لقتلت مقاتلتكم وسبيت ذراريكم، وما صعدت لهذا المنبر إلا لاسمعكم ما
تكرهون.
قال ابن جرير: وفي هذه السنة قتل عبد الله البطال في جماعة من المسلمين
بأرض الروم، ولم يزد ابن جرير على هذا، وقد ذكر هذا الرجل الحافظ ابن
عساكر في تاريخه الكبير فقال: عبد الله أبويحيى المعروف بالبطال كان
ينزل إنطاكية، حكى عنه أبو مروان الانطاكي، ثم روى باسناده أن عبد
الملك بن مروان
حين عقد لابنه مسلمة على غزو بلاد الروم، ولى على رؤساء أهل الجزيرة
والشام البطال، وقال لابنه: سيره على طلائعك، وأمره فليعس بالليل
العسكر، فإنه أمين ثقة مقدام شجاع.
وخرج معهم عبد الملك يشيعهم إلى باب دمشق.
قال: فقدم مسلمة البطال على عشرة آلاف يكونون بين يديه ترسا من الروم
أن يصلوا إلى جيش المسلمين.
قال محمد بن عائذ الدمشقي: ثنا الوليد بن مسلمة حدثني أبو مروان - شيخ
من أهل إنطاكية - قال: كنت أغازي مع البطال وقد أوطأ الروم ذلا، قال
البطال فسألني بعض ولاة بني أمية عن أعجب ما كان من أمري في مغازي
فيهم، فقلت له: خرجت في سرية ليلا فدفعنا إلى قرية فقلت لاصحابي: ارخوا
لجم خيلكم ولا تحركوا أحدا بقتل ولا بشئ حتى تستمكنوا من القرية ومن
سكانها، ففعلوا وافترقوا في أزقتها، فدفعت في أناس من أصحابي إلى بيت
يزهر سراجه، وإذا امرأة تسكت ابنها من بكائه، وهي تقول له: لتسكتن أو
لادفعنك إلى البطال يذهب بك، وانتشلته من سريره وقالت: خذه يا بطال،
قال: فأخذته.
وروى محمد بن عائذ، عن الوليد بن مسلم، عن أبي مروان الانطاكي عن
البطال قال: انفردت مرة ليس معي أحد من الجند، وقد سمطت خلفي مخلاة
فيها شعير، ومعي منديل فيه خبز وشواء، فبينا أنا أسير لعلي ألقى أحدا
منفردا، أو أطلع على خبر، إذا أنا ببستان فيه بقول حسنة، فنزلت وأكلت
من ذلك البقل بالخبز والشواء مع النقل، فأخذني إسهال عظيم قمت منه
مرارا، فخفت أن أضعف من كثرة الاسهال، فركبت فرسي والاسهال مستمر على
حاله، وجعلت أخشى إن أنا نزلت عن فرسي أن أضعف عن الركوب، وأفرط بي
الاسهال في السير حتى خشيت أن أسقط من الضعف، فأخذت بعنان الفرس ونمت
على وجهي لا أدري أين يسير الفرس بي، فلم أشعر إلا بقرع نعاله على
بلاط، فأرفع رأسي فإذا دير، وإذا قد خرج منه نسوة صحبة امرأة حسناء
جميلة جدا، فجعلت تقول بلسانها: أنزلنه، فأنزلنني فغسلن عني ثيابي
وسرجي وفرسي، ووضعنني على سرير وعملن لي طعاما وشرابا، فمكثت يوما
وليلة مستويا، ثم أقمت بقية ثلاثة أيام حتى ترد إلي حالي، فبينا أنا
كذلك إذا أقبل البطريق وهو يريد أن يتزوجها، فأمرت بفرسي فحول وعلق على
الباب الذي أنا فيه، وإذا هو بطريق كبير فيهم، وهو إنما جاء لخطبتها،
فأخبره من كان هنالك بأن هذا البيت فيه
رجل وله فرس، فهم بالهجوم علي فمنعته المرأة من ذلك، وأرسلت تقول له:
إن فتح عليه الباب لم
(9/363)
أقض حاجته،
فثناه ذلك عن الهجوم علي، وأقام البطريق إلى آخر النهار في ضيافتهم، ثم
ركب فرسه وركب معه أصحابه وانطلق.
قال البطال: فنهضت في أثرهم فهمت أن تمنعني خوفا علي منهم فلم أقبل،
وسقت حتى لحقتهم، فحملت عليه فانفرج عنه أصحابه، وأراد الفرار فألحقه
فأضرب عنقه واستلبته وأخذت رأسه مسمطا على فرسي، ورجعت إلى الدير،
فخرجن إلي ووقفن بين يدي، فقلت: اركبن، فركبن ما هنالك من الدواب وسقت
بهن حتى أتيت أمير الجيش فدفعتهن إليه، فنفلني ما شئت منهن، فأخذت تلك
المرأة الحسناء بعينها، فهي أم أولادي.
والبطريق في لغة ؟ مبارة عن الامير الكبير فيهم، وكان أبوها بطريقا
كبيرا فيهم - يعني تلك المرأة - وكان البطال بعد ذلك يكاتب أباها
ويهاديه.
وذكر أن عبد الملك بن مروان لما ولاه المصيصة بعث البطال سرية إلى أرض
الروم، فغاب عنه خبرهم فلم يدر ما صنعوا، فركب بنفسه وحده على فرس له
وسار حتى وصل عمورية، فطرق بابها ليلا فقال له البواب: من هذا ؟ قال
البطال: فقلت أنا سياف الملك ورسوله إلى البطريق، فأخذ لي طريقا إليه،
فلما دخلت عليه إذا هو جالس على سرير فجلست معه على السرير إلى جانبه،
ثم قلت له: إني قد جئتك في رسالة فمر هؤلاء فلينصرفوا، فأمر من عنده
فذهبوا، قال: ثم قام فأغلق باب الكنيسة علي وعليه، ثم جاء فجلس مكانه،
فاخترطت سيفي وضربت به رأسه صفحا وقلت له: أنا البطال فأصدقني عن
السرية التي أرسلتها إلى بلادك وإلا ضربت عنقك الساعة، فأخبرني ما
خبرها، فقال: هم في بلادي ينتهبون ما تهيأ لهم، وهذا كتاب قد جاءني
يخبر أنهم في وادي كذا وكذا، والله لقد صدقتك.
فقلت: هات الامان، فأعطاني الامان، فقلت: إيتني بطعام، فأمر أصحابه
فجاؤوا بطعام فوضع لي، فأكلت فقمت لانصرف فقال لاصحابه: اخرجوا بين يدي
رسول الملك فانطلقوا يتعادون بين يدي، وانطلقت إلى ذلك الوادي الذي ذكر
فإذا أصحابي هنالك، فأخذتهم ورجعت إلى المصيصة.
فهذا أغرب ما جرى.
قال الوليد: وأخبرني بعض شيوخنا أنه رأى البطال وهو قافل من حجته، وكان
قد شغل بالجهاد عن الحج، وكان يسأل الله دائما الحج ثم الشهادة، فلم
يتمكن من حجة الاسلام إلا في السنة التي استشهد فيها رحمه الله تعالى،
وكان سبب شهادته أن ليون ملك الروم خرج من القسطنطينية في مائة ألف
فارس، فبعث البطريق - الذي البطال متزوج بابنته التي ذكرنا أمرها - إلى
البطال يخبره بذلك، فأخبر البطال أمير عساكر المسلمين بذلك، وكان
الامير مالك بن شبيب، وقال له: المصلحة تقتضي أن نتحصن في مدينة حران،
فنكون بها حتى يقدم علينا سليمان بن هشام في الجيوش الاسلامية، فأبى
عليه ذلك ودهمهم الجيش، فاقتتلوا قتالا شديدا والابطال تحوم بين يدي
البطال ولا يتجاسر أحد أن ينوه باسمه خوفا عليه من الروم، فاتفق أن
ناداه بعضهم وذكر اسمه غلطا منه، فلما سمع ذلك فرسان الروم حملوا عليه
حملة واحدة، فاقتلعوه من سرجه برماحهم فألقوه إلى
(9/364)
الارض، ورأى
الناس يقتلون ويأسرون، وقتل الامير الكبير مالك بن شبيب، وانكسر
المسلمون وانطلقوا إلى تلك المدينة الخراب فتحصنوا فيها، وأصبح إليون
فوقف على مكان المعركة فإذا البطال بآخر رمق فقال له ليون: ما هذا يا
أبا يحيى ؟ فقال: هكذا تقتل الابطال، فاستدعى ليون بالاطباء ليداووه
فإذا جراحه قد وصلت إلى مقاتله، فقال له ليون: هل من حاجة يا أبا يحيى
؟ قال: نعم، فأمر من معك من المسلمين أن يلوا غسلي والصلاة علي ودفني،
ففعل الملك ذلك وأطلق لاجل ذلك أولئك الاسارى، وانطلق ليون إلى جيش
المسلمين الذين تحصنوا فحاصرهم، فبينما هم في تلك الشدة والحصار إذ
جاءتهم البرد بقدوم سليمان بن هشام في الجيوش الاسلامية، ففر ليون في
جيشه الخبيث هاربا راجعا إلى بلاده، قبحه الله، فدخل القسطنطينية وتحصن
بها.
قال خليفة بن خياط: كانت وفاة البطال ومقتله بأرض الروم في سنة إحدى
وعشرين ومائة، وقال ابن جرير: في سنة ثنتين وعشرين ومائة، وقال ابن
حسان الزيادي: قتل في سنة ثلاث عشرة ومائة، قيل وقد قاله غيره وإنه قتل
هو والامير عبد الوهاب بن بخت في سنة ثلاث عشرة ومائة كما ذكرنا ذلك
فالله أعلم، ولكن ابن جرير لم يؤرخ وفاته إلا في هذه السنة فالله أعلم.
قلت: فهذا ملخص ابن عساكر في ترجمة البطال مع تفصيله للاخبار واطلاعه
عليها، وأما ما يذكره العامة عن البطال من السيرة المنسوبة إلى دلهمة
والبطال والامير عبد الوهاب والقاضي عقبة، فكذب وافتراء ووضع بارد،
وجهل وتخبط فاحش، لا يروج ذلك إلا على غبي أو جاهل ردي.
كما يروج عليهم سيرة عنترة العبسي المكذوبة، وكذلك سيرة البكري والدنف
وغير ذلك، والكذب المفتعل في سيرة البكري أشد إثما وأعظم جرما من
غيرها، لان واضعها يدخل في قول النبي (صلى الله عليه وسلم): " من كذب
علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ".
وممن توفي في هذه السنة من الاعيان:
أياس الذكي (1) وهو إياس بن معاوية بن مرة (2) بن إياس بن هلال بن رباب
(3) بن عبيد بن دريد بن أوس بن سواه بن عمرو بن سارية بن ثعلبة بن
ذبيان بن ثعلبة بن أوس بن عثمان بن عمرو بن أد بن طابخة بن الياس بن
مضر بن نزار بن معد بن عدنان، هكذا نسبه خليفة بن خياط، وقيل غير ذلك
__________
(1) ترجمته في حلية الاولياء 3 / 123 الاذكياء لابن الجوزي 1 / 113
ميزان الاعتدال 1 / 283 وفيات الاعيان: 1 / 247 المعارف لابن قتيبة:
467 واخباره منثورة في البيان والتبيين والحيوان والكامل للمبرد والعقد
الفريد وغيرها.
(2) في وفيات الاعيان 1 / 247: قرة.
(3) في ابن سعد 7 / 234: رئاب بن عبيد سواءة بن سارية بن ذبيان بن
ثعلبة بن سليم بن أوس بن مزينة.
(*)
(9/365)
في نسبه، وهو
أبو واثلة المزني قاضي البصرة، وهو تابعي ولجده صحبة، وكان يضرب المثل
بذكائه.
روى عن أبيه عن جده مرفوعا في الحياء عن أنس وسعيد بن جبير وسعيد بن
المسيب ونافع وأبي مجلز، وعنه الحمادان وشعبة والاصمعي وغيرهم.
قال عنه محمد بن سيرين: إنه لفهم إنه لفهم، وقال محمد بن سعد والعجلي
وابن معين والنسائي: ثقة.
زاد بن سعد وكان عاقلا من الرجال فطنا، وزاد العجلي وكان فقيها عفيفا،
وقدم دمشق في أيام عبد الملك بن مروان، ووفد على عمر بن عبد العزيز،
ومرة أخرى حين عزله عدي بن أرطأة عن قضاء البصرة.
قال أبو عبيدة وغيره: تحاكم
إياس وهو صبي شاب وشيخ إلى قاضي عبد الملك بن مروان بدمشق، فقال له
القاضي: إنه شيخ وأنت شاب فلا تساوه في الكلام، فقال إياس: إن كان
كبيرا فالحق أكبر منه، فقال له القاضي: اسكت، فقال: ومن يتكلم بحجتي
إذا سكت ؟ فقال القاضي: ما أحسبك تنطق بحق في مجلسي هذا حتى تقوم، فقال
إياس: أشهد أن لا إله إلا الله، زاد غيره فقال القاضي: ما أظنك إلا
ظالما له، فقال: ما على ظن القاضي خرجت من منزلي.
فقام القاضي فدخل على عبد الملك فأخبره خبره فقال: اقض حاجته واخرجه
الساعة من دمشق لا يفسد على الناس.
وقال بعضهم: لما عزله عدي بن أرطاة عن قضاء البصرة فرمنه إلى عمر بن
عبد العزيز فوجده قد مات، فكان يجلس في حلقة في جامع دمشق، فتكلم رجل
من بني أمية فرد عليه إياس، فأغلظ له الاموى فقام إياس، فقيل للاموي:
هذا إياس بن معاوية المزني، فلما عاد من الغد اعتذر له الاموي وقال: لم
أعرفك، وقد جلست إلينا بثياب السوقة وكلمتنا بكلام الاشراف فلم نحتمل
ذلك.
وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا نعيم بن حماد، ثنا ضمرة، عن أبي شوذب قال:
كان يقال يولد في كل مائة سنة رجل تام العقل، فكانوا يرون أن إياس بن
معاوية منهم.
وقال العجلي: دخل على إياس ثلاث نسوة فلما رآهن قال: أما إحداهن فمرضع،
والاخرى بكر، والاخرى ثيب، فقيل له بم علمت هذا ؟ فقال: أما المرضع
فكلما قعدت أمسكت ثديها بيدها، وأما البكر فكلما دخلت لم تلتفت إلى
أحد، وأما الثيب فكلما دخلت نظرت ورمت بعينها.
وقال يونس بن صعلب.
ثنا الاحنف بن حكيم بأصبهان، ثنا حماد بن سلمة، سمعت إياس بن معاوية
يقول: أعرف الليلة التي ولدت فيها، وضعت أمي على رأسي جفنة.
وقال المدائني: قال إياس بن معاوية لامه: ما شئ سمعته وأنت حامل بي وله
جلبة شديدة ؟ قالت: ذاك طست من نحاس سقط من فوق الدار إلى أسفل، ففزعت
فوضعتك تلك الساعة.
وقال أبو بكر الخرائطي عن عمر بن شيبة النميري قال: بلغني أن إياسا
قال: ما يسرني أن أكذب كذبة يطلع عليها أبي معاوية.
وقال: ما خاصمت أحدا من أهل الاهواء بعقلي كله إلا القدرية، قلت لهم
أخبروني عن الظلم ما
هو ؟ قالوا: أخذ الانسان ما ليس له، قلت: فإن الله له كل شئ قال بعضهم
عن إياس قال:
(9/366)
كنت في الكتاب
وأنا صبي فجعل أولاد النصارى يضحكون من المسلمين ويقولون: إنهم يزعمون
أنه لا فضلة لطعام أهل الجنة، فقلت للفقيه - وكان نصرانيا (1): ألست
تزعم أن في الطعام ما ينصرف في غذاء البدن ؟ قال: بلى، قلت فما ينكر أن
يجعل الله طعام أهل الجنة كله غذاء لابدانهم ؟ فقال له معلمه: ما أنت
إلا شيطان.
وهذا الذي قاله إياس وهو صغير بعقله قد ورد به الحديث الصحيح كما
سنذكره إن شاء الله في أهل الجنة أن طعامهم ينصرف جشاء وعرقا كالمسك،
فإذا البطن ضامر.
وقال سفيان: وحين قدم إياس واسط فجاءه ابن شبرمة بمسائل قد أعدها، فقال
له: أتأذن لي أن أسألك ؟ قال: سل وقد ارتبت حين استأذنت، فسأله عن
سبعين مسألة يجيبه فيها، ولم يختلفا إلا في أربع مسائل، رده إياس إلى
قوله، ثم قال له إياس: أتقرأ القرآن ؟ قال: نعم ! قال أتحفظ قوله
(اليوم أكملت لكم دينكم) ؟ [ المائدة: 3 ] قال: نعم ! قال: وما قبلها
وما بعدها ؟ قال: نعم ! قال: فهل أبقت هذه الآية لآل شبرمة رأيا ؟ وقال
عباس بن يحيى بن معين: حدثنا سعيد بن عامر بن عمر بن علي قال: قال رجل
لاياس بن معاوية: يا أبا واثلة حتى متى يبقى الناس ؟ وحتى متى يتوالد
الناس ويموتون ؟ فقال لجلسائه: أجيبوه فلم يكن عندهم جواب، فقال إياس:
حتى تتكامل العدتان، عدة أهل الجنة، وعدة أهل النار.
وقال بعضهم: اكترى إياس بن معاوية بن الشام قاصدا الحج، فركب معه في
المحارة غيلان القدري، ولا يعرف أحدهما صاحبه، فمكثا ثلاثا لا يكلم
أحدهما الآخر، فلما كان بعد ثلاث تحادثا فتعارفا وتعجب كل واحد منهما
من اجتماعه مع صاحبه، لمباينة ما بينهما في الاعتقاد في القدر، فقال له
إياس: هؤلاء أهل الجنة يقولون حين يدخلون الجنة: (الحمد لله الذي هدانا
لهذا وما كنا لنهتدي لو لا أن هدانا الله) [ الاعراف: 43 ] ويقول أهل
النار (ربنا غلبت علينا شقوتنا) [ المؤمنون: 106 ] وتقول الملائكة
(سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا)
[ البقرة: 32 ] ثم ذكر له من أشعار العرب وأمثال العجم ما فيه من إثبات
القدر ثم اجتمع مرة أخرى إياس وغيلان عند عمر بن عبد العزيز فناظر
بينهما فقهره إياس، وما زال يحصره في الكلام حتى اعترف غيلان بالعجز
وأظهر التوبة، فدعا عليه عمر بن عبد العزيز إن كان كاذبا، فاستجاب الله
منه فأمكن من غيلان فقتل وصلب بعد ذلك ولله الحمد والمنة.
ومن كلام إياس الحسن: لان يكون في فعال الرجل فضل عن مقاله خير من أن
يكون في مقاله فضل عن فعاله.
وقال سفيان بن حسين: ذكرت رجلا بسوء عن إياس بن معاوية فنظر في وجهي
وقال: أغزوت الروم ؟ قلت: لا ! قال: السند والهند والترك، قلت: لا.
قال: أفسلم منك
__________
(1) الخبر في وفيات الاعيان 1 / 248 وفيه ان الفقيه كان يهوديا.
(*)
(9/367)
الروم والسند
والهند والترك ولم يسلم منك أخوك المسلم ؟ قال: فلم أعد بعدها.
وقال الاصمعي عن أبيه: رأيت إياس بن معاوية في بيت ثابت البناني، وإذا
هو أحمر طويل الذراع غليظ الثياب، يلون عمامته، وهو قد غلب على الكلام
فلا يتكلم معه أحد إلا علاه، وقد قال له بعضهم: ليس فيك عيب سوى كثرة
كلامك (1)، فقال: بحق أتكلم أم بباطل ؟ فقيل بل بحق، فقال: كلما كثر
الحق فهو خير، ولامه بعضهم في لباسه الثياب الغليظة فقال: إنما ألبس
ثوبا يخدمني ولا ألبس ثوبا أخدمه، وقال الاصمعي قال إياس بن معاوية: إن
أشرف خصال الرجل صدق اللسان، ومن عدم فضيلة الصدق فقد فجع بأكرم
أخلاقه.
وقال بعضهم: سأل رجل إياسا عن النبيذ فقال: هو حرام، فقال الرجل:
فأخبرني عن الماء فقال: حلال، قال: فالكسور، قال: حلال، قال: فالتمر ؟
قال حلال، قال: فما باله إذا اجتمع حرم ؟ فقال إياس: أرأيت لو رميتك
بهذه الحفنة من التراب أتوجعك ؟ قال: لا، قال: فهذه الحفنة من التبن ؟
قال لا توجعني، قال: فهذه الغرفة من الماء ؟ قال لا توجعني شيئا، قال:
أفرأيت إن خلطت هذا بهذا وهذا بهذا حتى صار طينا ثم تركته حتى استحجر
ثم رميتك أيوجعك ؟ قال: إي والله وتقتلني، قال: فكذلك تلك الاشياء إذا
اجتمعت.
وقال المدائني: بعث عمر بن عبد العزيز عدي بن أرطاة على البصرة نائبا
وأمره أن يجمع
بين إياس والقاسم بن ربيعة الجوشني (2)، فأيهما كان أفقه فليوله
القضاء، فقال إياس وهو يريد أن لا يتولى: أيها الرجل سل فقيهي البصرة،
الحسن وابن سيرين، وكان إياس لا يأتيهما، فعرف القاسم أنه إن سألهما
أشارا به - يعني بالقاسم - لانه كان يأتيهما، فقال القاسم لعدي: والله
الذي لا إله إلا هو إن إياسا أفضل مني وأفقه مني، وأعلم بالقضاء، فإن
كنت صادقا فوله، وإن كنت كاذبا فما ينبغي أن تولي كاذبا القضاء.
فقال إياس: هذا رجل أوقف على شفير جهنم فافتدي منها بيمين كاذبة يستغفر
الله، فقال عدي: أما إذ فطنت إلى هذا فقد وليتك القضاء.
فمكث سنة يفصل بين الناس ويصلح بينهم، وإذا تبين له الحق حكم به، ثم
هرب إلى عمر بن عبد العزيز بدمشق فاستعفاه القضاء، فولى عدي بعده الحسن
البصري.
قالوا: لما تولى إياس القضاء بالبصرة فرح به العلماء حتى قال أيوب: لقد
رموها بحجرها، وجاءه الحسن وابن سيرين فسلما عليه، فبكى إياس وذكر
الحديث (القضاة ثلاثة، قاضيان في النار وواحد في الجنة).
فقال الحسن (وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث) إلى قوله (وكلا آتينا
حكما علما) [ الانبياء: 78 - 79 ] قالوا: ثم جلس للناس في المسجد
واجتمع عليه الناس للخصومات، فما قام حتى فصل سبعين قضية، حتى يشبه
بشريح القاضي.
وروى أنه كان إذا أشكل عليه شئ بعث
__________
(1) الخبر في ابن سعد 7 / 234 وفيه: قال إياس: إن من لا يعرف عيبه
أحمق، قالوا: يا أبا واثلة فما عيبك أنت ؟ قال: كثرة الكلام...(2) في
وفيات الاعيان 1 / 249: الحرشي.
(*)
(9/368)
إلى محمد بن
سيرين فسأله منه.
وقال إياس: إني لاكلم الناس بنصف عقلي، فإذا اختصم إلي اثنان جمعت لهما
عقلي كله.
وقال له رجل: إنك لتعجب برأيك فقال: لولا ذلك لم أقض به، وقال له آخر:
إن فيك خصالا لا تعجبني، فقال: ما هي ؟ فقال تحكم قبل أن تفهم، ولا
تجالس كل أحد، وتلبس الثياب الغليظة.
فقال له: أيها أكثر الثلاثة أو الاثنان ؟ قال: الثلاثة.
فقال: ما أسرع ما فهمت وأجبت، فقال أو يجهل هذا أحد ؟ فقال: وكذلك ما
أحكم أنا به، وأما مجالستي لكل أحد فلان
أجلس مع من يعرف لي قدري أحب إلي من أن أجلس مع من لا يعرف لي قدري،
وأما الثياب الغلاظ فأنا ألبس منها ما يقيني لا ما أقيه أنا.
قالوا، وتحاكم إليه اثنان فادعى أحدهما عند الآخر مالا، وجحده الآخر،
فقال إياس للمودع: أين أودعته ؟ قال: عند شجرة في بستان.
فقال: انطلق إليها فقف عندها لعلك تتذكر، وفي رواية أنه قال له: هل
تستطيع أن تذهب إليها فتأتي بورق منها ؟ قال: نعم ! قال فانطلق، وجلس
الآخر فجعل إياس يحكم بين الناس ويلاحظه، ثم استدعاه فقال له: أوصل
صاحبك بعد إلى المكان ؟ فقال: لا بعد أصلحك الله.
فقال له: قم يا عدو الله فأد إليه حقه، وإلا جعلتك نكالا.
وجاء ذلك الرجل فقام معه فدفع إليه وديعته بكمالها.
وجاء آخر فقال له: إني أودعت عند فلان مالا وقد جحدني، فقال له: اذهب
الآن وائتني غدا، وبعث من فوره إلى ذلك الرجل الجاحد فقال له: إنه قد
اجتمع عندنا ههنا مال فلم نر له أمينا نضعه عنده إلا أنت، فضعه عندك في
مكان حريز.
فقال له سمعا وطاعة، فقال له: اذهب الآن وائتني غدا، وأصبح ذلك الرجل
صاحب الحق فجاء فقال له: اذهب الآن إليه فقل له أعطني حقي وإلا رفعتك
إلى القاضي، فقال له ذلك فخاف أن لا يودع إذا سمع الحاكم خبره، فدفع
إليه ماله بكماله، فجاء إلى إياس فأعلمه، ثم جاء ذلك الرجل من الغدر
رجاء أن يودع فانتهره إياس وطرده وقال له: أنت خائن.
وتحاكم إليه اثنان في جارية فادعى المشتري أنها ضعيفة العقل، فقال لها
إياس: أي رجليك أطول ؟ فقالت: هذه، فقال لها: أتذكرين ليلة ولدت ؟
فقالت نعم فقال للبائع ردرد.
وروى ابن عساكر أن إياسا سمع صوت امرأة من بيتها فقال: هذه امرأة حامل
بصبي، فلما ولدت ولدت كما قال، فسئل بم عرفت ذلك ؟ قال: سمعت صوتها
ونفسها معه فعلمت أنها حامل، وفي صوتها ضحل فعلمت أنه غلام.
قالوا ثم مر يوما ببعض المكاتب فإذا صبي هنالك فقال: إن كنت أدري شيئا
فهذا الصبي ابن تلك المرأة، فإذا هو ابنها.
وقال مالك عن الزهري عن أبي بكر قال شهد رجل عند إياس فقال له: ما اسمك
؟ فقال أبو العنفر فلم يقبل شهادته.
وقال الثوري عن الاعمش: دعوني إلى إياس فإذا رجل كلما فرغ من حدث أخذ
في آخر.
وقال إياس:
كل رجل لا يعرف عيب نفسه فهو أحمق، فقيل له: ما عيبك ؟ فقال كثرة
الكلام.
قالوا: ولما ماتت أمه بكى عليها فقيل له في ذلك فقال: كان لي بابان
مفتوحان إلى الجنة فغلق أحدهما.
وقال له أبوه:
(9/369)
إن الناس يلدون أبناء وولدت أنا أبا.
وكان أصحابه يجلسون حوله ويكتبون عنه الفراسة، فبينماهم حوله جلوس إذ
نظر إلى رجل قد جاء فجلس على دكة حانوت، وجعل كلما مر أحد ينظر إليه،
ثم قام فنظر في وجه رجل ثم عاد، فقال لاصحابه: هذا فقيه كتاب قد أبق له
غلام أعور فهو يتطلبه، فقاموا إلى ذلك الرجل فسألوه فوجدوه كما قال
إياس، فقالوا لاياس: من أين عرفت ذلك ؟ فقال: لما جلس على دكة الحانوت
علمت أنه ذو ولاية، ثم نظرت فإذا هو لا يصلح إلا لفقهاء المكتب، ثم جعل
ينظر إلى كل من مر به فعرفت أنه قد فقد غلاما، ثم لما قام فنظر إلى وجه
ذلك الرجل من الجانب الآخر، عرفت أن غلامه أعور.
وقد أورد ابن خلكان أشياء كثيرة في ترجمته، من ذلك أنه شهد عنده رجل في
بستان فقال له: كم عدد أشجاره ؟ فقال له: كم عدد جذوع هذا المجلس الذي
أنت فيه من مدة سنين ؟ فقلت: لا أدري وأقررت شهادته. |