البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي

ثم دخلت سنة خمس وخمسين وسبعمائة استهلت هذه السنة وسلطان الديار المصرية والبلاد الشامية وما يتبع ذلك والحرمين الشريفين وما والاهما من بلاد الحجاز وغيرها الملك الصالح صلاح الدين بن الملك الناصر محمد بن الملك المنصور قلاوون الصالحي، وهو ابن بنت تنكز نائب الشام، وكان في الدولة الناصرية، ونائبه بالديار المصرية سيف الدين قبلاي الناصري، ووزيرة القاضي موفق الدين، وقضاة مصر هم المذكورون في العام الماضي، ومنهم قاضي القضاة عز الدين بن جماعة الشافعي، وقد جاور في هذه السنة في الحجاز الشريف، والقاضي تاج الدين المناوي يسد المنصب عنه، وكاتب السر القاضي علاء الدين بن فضل الله العدوي، ومدبرو المملكة الامراء الثلاثة سيف الدين
__________
(1) كذا بالاصل.

(14/286)


شيخون، وصرغتمش الناصري والامير الكبير الدوادار عز الدين مغلطاي الناصري.
ودخلت هذه السنة والامير سيف الدين شيخون في الاحداث من مدة شهر أو قريب ونائب دمشق الامير علاء الدين أمير علي المارداني، وقضاة دمشق هم المذكورون في التي قبلها، وناظر الدواوين الصاحب شمس الدين موسى بن التاج إسحاق وكاتب السر القاضي ناصر الدين بن الشرف يعقوب، وخطيب البلد جمال الدين محمود بن جملة، ومحتسبه الشيخ علاء الدين الانصاري، قريب الشيخ بهاء الدين بن إمام المشهد، وهو مدرس الامينية مكانه أيضا.
وفي شهر ربيع الآخر قدم الامير علاء الدين مغلطاي الذي كان مسجونا بالاسكندرية ثم أفرج عنه، وقد كان قبل ذلك هو الدولة، وأمر بالمسير إلى الشام ليكون عند حمزة أيتمش نائب
طرابلس، وأما منجك الذي كان وزيره بالديار المصرية وكان معتقلا بالاسكندرية مع مغلطاي، فإنه صار إلى صفد مقيما بها بطالا، كما أن مغلطاي أمر بالمقام بطرابلس بطالا إلى حين يحكم الله عز وجل انتهى والله أعلم.
نادرة من الغرائب في يوم الاثنين السادس عشر من جمادى الاولى اجتاز رجل من الروافض من أهل الحلة بجامع دمشق وهو يسب أو من ظلم آل محمد، ويكرر ذلك لا يفتر، ولم يصل مع الناس ولا صلى على الجنازة الحاضرة، على أن الناس في الصلاة، وهو يكرر ويرفع صوته به، فلما فرغنا من الصلاة نبهت عليه الناس فأخذوه وإذا قاضي القضاة الشافعي في تلك الجنازة حاضر مع الناس.
فجئت إليه واستنطقته من الذي ظلم آل محمد ؟ فقال: أبو بكر الصديق، ثم قال جهرة والناس يسمعون: لعن الله أبا بكر وعمر وعثمان ومعاوية ويزيد، فأعاد ذلك مرتين، فأمر به الحاكم إلى السجن، ثم استحضره المالكي وجلده بالسياط، وهو مع ذلك يصرخ بالسب واللعن والكلام الذي لا يصدر إلا عن شقي، واسم هذا اللعين علي بن أبي الفضل بن محمد بن حسين ابن كثير قبحه الله وأخزاه، ثم لما كان يوم الخميس سابع عشره عقد له مجلس بدار السعادة وحضر القضاة الاربعة وطلب إلى هنالك فقدر الله أن حكم المالكي بقتله، فأخذ سريعا فضرب عنقه تحت القلعة وحرقه العامة وطافوا برأسه البلد ونادوا عليه هذا جزاء من سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ناظرت هذا الجاهل بدار القاضي المالكي وإذا عند شئ مما يقوله الرافضة الغلاة، وقد تلقى عن أصحاب ابن مطهر أشياء في الكفر والزندقة، قبحه الله وإياهم.
وورد كتاب بإلزام أهل الذمة بالشروط العمرية.
وفي يوم الجمعة ثامن عشر رجب الفرد قرئ بجامع دمشق بالمقصورة بحضرة نائب السلطنة وأمراء الاعراب، وكبار الامراء، وأهل الحل والعقد والعامة كتاب السلطان بإلزام أهل الذمة

(14/287)


بالشروط العمرية وزيادات أخر: منها أن لا يستخدموا في شئ من الدواوين السلطانية والامراء
ولا في شئ من الاشياء، وأن لا تزيد عمامة أحدهم عن عشرة أذرع ولا يركبوا الخيل ولا البغال ولكن الحمير بالاكف عرضا، وأن لا يدخلوا إلا بالعلامات من جرس أو بخاتم نحاس أصفر، أو رصاص، ولا تدخل نساؤهم مع المسلمات الحمامات، وليكن لهن حمامات تختص بهن، وأن يكون إزار النصرانية من كتان أزرق، واليهودية من كتان أصفر، وأن يكون أحد خفيها أسود والآخر أبيض، وأن يحكم حكم مواريثهم على الاحكام الشرعية.
واحترقت باسورة باب الجابية في ليلة الاحد والعشرين من جمادى الآخرة، وعدم المسلمون تلك الاطعمات والحواصل النافعة من الباب الجواني إلى الباب البراني.
وفي مستهل شهر رمضان عمل الشيخ الامام العالم البارع شمس الدين - بن النقاش المصري الشافعي - ورد دمشق بالجامع الاموي تجاه محراب الصحابة، ميعادا للوعظ واجتمع عنده خلق من الاعيان والفضلاء والعامة، وشكروا كلامه وطلاقة عبارته، من غير تلعثم ولا تخليط ولا توقف، وطال ذلك إلى قريب العصر.
وفي صبيحة يوم الاحد ثالثه صلي بجامع دمشق بالصحن تحت النسر على القاضي كمال الدين حسين بن قاضي القضاة تقي الدين السبكي الشافعي، ونائبه، وحضر نائب السلطنة الامير علاء الدين علي، وقضاة البلد والاعيان والدولة وكثير من العامة، وكانت جنازته محسودة، وحضر والده قاضي القضاة وهو يهادي بين رجلين، فظهر عليه الحزن والكآبة، فصلى عليه إماما، وتأسف الناس عليه لسماحة أخلاقه وانجماعه على نفسه لا يتعدى شره إلى غيره، وكان يحكم جيدا نظيف العرض في ذلك، وكان قد درس في عدة مدارس، منها الشامية البرانية والعذراوية، وأفتى وتصدر، وكانت لديه فضيلة جيدة بالنحو والفقه والفرائض وغير ذلك، ودفن بسفح قاسيون في تربة معروفة لهم رحمهم الله.
عودة الملك الناصر حسن بن الملك الناصر محمد بن قلاوون وذلك يوم الاثنين ثاني شهر شوال اتفق جمهور الامراء مع الامير شيخون وصرغتمش (1) في
__________
(1) أشار المقريزي وهو يورد خبر خلع الملك الصالح في السلوك 2 / 929 إلى أن السبب كان ما بلغ الامير شيخو أن
السلطان قد اتفق مع أخوه طاز على أن يقبض عليه وعلى صرغتمش يوم العيد.
وكان طاز قد توجه إلى البحيرة في هذه الايام بعدما قرر مع السلطان ما ذكر...فلم يحضر شيخو صلاة العيد وكان قد بلغه ما تقرر.
فباتوا على حذر وأصبحوا وقد اجتمع مع الامير شيخو من الامراء صرغتمش وطقطاي ومن يلوذ بهم..وركبوا جميعا إلى تحت القلعة بالسلاح وصعد بعضهم إلى القلعة وقبضوا على السلطان وسجنوه، فزال ملكه في أقل من ساعة.
وأشار في النجوم الزاهرة إلى سبب آخر وهو تخوف طاز وصرغتمش كل منهما من الآخر، وكان كل منهما يحاول الاتفاق =

(14/288)


= مع شيخو فلم يفلحا فاتفق طاز مع اخوته انه فيما يغيب إلى الصيد يركبوا على صرغتمش ومن يلوذ به..عندئذ قرر شيخو مساعدة صرغتمش..وعملوا على خلع الصالح واعادة الناصر حسن لكونه الصالح يميل إلى طاز - بعدما اقنعوا شيخو على ذلك - فخلعوه وأعيد أخاه إلى السلطنة 10 / 286.
غيبة طاز في الصيد على خلع الملك الصالح صالح بن الناصر، وأمه بنت تنكز، وإعادة أخيه الملك الناصر حسن، وكان ذلك يومئذ وألزم الصالح بيته مضيقا عليه، وسلم إلى أمه خوندة بنت الامير سيف الدين تنكز نائب الشام كان، وقطلبو طاز، وأمسك أخوه سنتم وأخو السلطان الصالح لامه عمر بن أحمد بن بكتمز الساقي، ووقعت خبطة عظيمة بالديار المصرية، ومع هذا فلم يقبل البريد إلى الشام وخبر البيعة إلا يوم الخميس الثالث عشر من هذا الشهر، قدم بسببها الامير عز الدين أيدمر الشمسي وبايع النائب بعد ما خلع عليه خلعة سنية، والامراء بدار السعادة على العادة، ودقت البشائر وزين البلد وخطب له الخطيب يوم الجمعة على المنبر بحضرة نائب السلطنة والقضاة والدولة وفي صبيحة يوم الخميس تاسع عشر شوال دخل دمشق الامير سيف الدين منجك على نيابة طرابلس ونزل القصر الابلق مع الامير عز الدين أيدمر فأقام أياما عديدة ثم سار إلى بلده بعد أيام.
وفي صبيحة يوم الخميس السادس والعشرين منه دخل الامير سيف الدين طاز من الديار المصرية في جماعة من أصحابه مجتازا إلى نيابة حلب المحروسة، فتلقاه نائب السلطنة إلى قريب من جامع كريم الدين بالقبيبات، وشيعه إلى قريب من باب الفراديس فسار ونزل بوطأة برزة فبات هنالك، ثم أصبح غاديا وقد كان نظير الامير شيخون ولكن قوي عليه فسيره إلى بلاد
حلب، وهو محبب إلى العامة لما له من السعي المشكور في أمور كبار كما تقدم.
ثم دخلت سنة ست وخمسين وسبعمائة
استهلت هذه السنة وسلطان الاسلام والمسلمين السلطان الملك الناصر حسن بن الملك الناصر محمد بن الملك المنصور قلاوون الصالحي، وليس بالديار المصرية نائب ولا وزير، وقضاتها هم المذكورون في التي قبلها، ونائب دمشق الامير علي المارداني، والقضاة والحاجب والخطيب وكاتب السر هم المذكورون في التي قبلها، ونائب حلب الامير سيف الدين طاز (1)، ونائب طرابلس منجك، ونائب حماة استدمر العمري، ونائب صفد الامير شهاب الدين بن صبح، ونائب حمص الامير ناصر الدين بن الاقوس، ونائب بعلبك الحاج كامل.
وفي يوم الاثنين تاسع صفر مسك الامير أرغون الكاملي الذي ناب بدمشق مدة ثم بعدها
__________
(1) كان الامير طاز عندما خلع الملك الصالح في الصيد غائبا في البحيرة وعند عودته قيده الامير صرغتمش وسجنه بالبرج في القلعة وبقي أياما فشفع فيه بعض الامراء فاخرجه السلطان ثم أخلع عليه وقرره في نيابة حلب ورسم له بأن يخرج إليها من يومه وكان ذلك يوم الجمعة سادس شوال من سنة 755 (بدائع الزهور 1 / 554 - 555 النجوم الزاهرة 10 / 302).

(14/289)


ابن نور الدين علي بن غازي من قرية اللبوة من الكلام السئ الذي نال من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسبه وقذفه بكلام لا يليق ذكره، فقتل لعنة الله يومئذ بعد أذان العصر بسوق الخيل وحرقه الناس وشفى الله صدور قوم مؤمنين ولله الحمد والمنة.
وفي صبيحة يوم الاحد رابع عشر شعبان درس القاضي بهاء الدين أبو البقاء السبكي بالمدرسة القيمرية نزل له عنها ابن عمه قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب ابن قاضي القضاة تقي الدين السبكي وحضر عنده القضاة والاعيان، وأخذ في قوله تعالى (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) [ الحشر: 9 ] وصلي في هذا اليوم بعد الظهر على الشيخ الشاب الفاضل المحصل جمال الدين عبد الله بن العلامة شمس الدين بن قيم الجوزية الحنبلي، ودفن عند أبيه
بمقابر باب الصغير، وكانت جنازته حافلة، وكانت لديه علوم جيدة، وذهنه حاضر خارق، أفتى ودرس وأعاد وناظر وحج مرات عديدة رحمه الله وبل بالرحمة ثراه.
وفي يوم الاثنين تاسع عشر شوال وقع حريق هائل في سوق القطانين بالنهار، وذهب إليه نائب السلطنة والحجبة والقضاة حتى اجتهد الفعول والمتبرعون في إخماده وطفيه، حتى سكن شره وذهب بسببه الدكاكين ودور كثيرة، جدا فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وقد رأيته من الغد والنار كما هي عمالة والدخان صاعد والناس يطفونه بالماء الكثير الغمر والنار لا تخمد، لكن هدمت الجدران وخربت المساكن وانتقل السكان انتهى والله أعلم.
ثم دخلت سنة سبع وخمسين وسبعمائة
استهلت هذه السنة وسلطان البلاد بالديار المصرية والشامية والحرمين وغير ذلك الملك الناصر حسن بن الملك الناصر محمد بن الملك المنصور قلاوون الصالحي، ولا نائب ولا وزير بمصر، وإنما يرجع تدبير المملكة إلى الامير سيف الدين شيخون، ثم الامير سيف الدين صرغتمش، ثم الامير عز الدين مغلطاي الدوايدار، وقضاة مصر هم المذكورون في التي قبلها سوى الشافعي فإنه ابن المتوفي قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب بن تقي الدين السبكي، ونائب حلب الامير سيف الدين طاز، وطرابلس الامير سيف الدين منجك، وبصفد الامير شهاب الدين بن صبح، وبحماة يدمر العمري، وبحمص علاء الدين بن المعظم، وببعلبك الامير ناصر الدين الاقوس.
وفي العشر الاول من ربيع الاول تكامل اصلاح بلاط الجامع الاموي وغسل فصوص المقصورة والقبة، وبسط بسطا حسنا، وبيضت أطباق القناديل، وأضاء حاله جدا، وكان المستحث على ذلك الامير علاء الدين أيدغمش أحد أمراء الطبلخانات، بمرسوم نائب السلطنة له في ذلك.

(14/290)


وفي يوم الجمعة الثامن والعشرين من ربيع الآخر من هذه السنة صلي على الامير سيف الدين
براق أمير أرجو بجامع تنكز، ودفن بمقابر الصوفية، وكان مشكور السيرة كثير الصلاة والصدقة محبا للخير وأهله، من أكابر أصحاب الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله تعالى.
وقد رسم لولديه ناصر الدين محمد وسيف الدين أبي بكر كل منهما بعشرة أرماح، ولناصر الدين بمكان أبيه في الوظيفة باصطبل السلطان.
وفي يوم الخميس رابع شهر جمادى الاولى خلع على الاميرين الاخوين ناصر الدين محمد وسيف الدين أبي بكر ولدي الامير سيف الدين براق رحمه الله تعالى، بأميرين عشرتين (1).
ووقع في هذا الشهر نزاع بين الحنابلة في مسألة المناقلة، وكان ابن قاضي الجبل الحنبلي يحكم بالمناقلة في قرار دار الامير سيف الدين طيدمر الاسماعيلي حاجب الحجاب إلى أرض أخرى يجعلها وقفا على ما كانت قرار داره عليه، ففعل ذلك بطريقه ونفذه القضاة الثلاثة الشافعي والحنفي والمالكي، فغضب القاضي الحنبلي وهو قاضي القضاة جمال الدين المرداوي المقدسي من ذلك، وعقد بسبب ذلك مجالس، وتطاول الكلام فيه، وادعى كثير منهم أن مذهب الامام أحمد في المناقلة إنما هو في حال الضرورة، وحيث لا يمكن الانتفاع بالموقوف، فأما المناقلة لمجرد المصلحة والمنفعة الراجحة فلا، وامتنعوا من قبول ما قرره الشيخ تقي الدين بن تيمية في ذلك، ونقله عن الامام أحمد من وجوه كثيرة من طريق ابنيه صالح وحرب وأبي داود وغيرهم، أنها تجوز للمصلحة الراجحة، وصنف في ذلك مسألة مفردة وقفت عليها - يعني الشيخ عماد الدين بن كثير - فرأيتها في غاية الحسن والافادة، بحيث لا يتخالج من اطلع عليها ممن يذوق طعم الفقه أنها مذهب الامام أحمد رحمه الله، فقد احتج أحمد في ذلك في رواية ابنه صالح بما رواه عن يزيد بن عوف، عن المسعودي، عن القاسم بن محمد: أن عمر كتب إلى ابن مسعود أن يحول المسجد الجامع بالكوفة إلى موضع سوق التمارين، ويجعل السوق في مكان المسجد الجامع العتيق، ففعل ذلك، فهذا فيه أوضح دلالة على ما استدل به فيها من النقل بمجرد المصلحة فإنه لا ضرورة إلى جعل المسجد العتيق سوقا، على أن الاسناد فيه انقطاع بين القاسم وبين عمر وبين القاسم وابن مسعود، ولكن قد جزم به صاحب المذهب، واحتج به، وهو ظاهر واضح في ذلك، فعقد المجلس في يوم
الاثنين الثامن والعشرين من الشهر.
وفي ليلة الاربعاء الرابع والعشرين من جمادى الاولى وقع حريق عظيم ظاهر باب الفرج احترق فيه بسببه قياسير كثيرة لطاز ويلبغا، وقيسرية الطواشي لبنت تنكز، وأخر كثيرة ودور
__________
(1) أمير عشرة وتأتي مرتبته بعد أمير الاربعين، ومن هذه الطبقة صغار الولاة، ونحوه مثل والي الفسطاط وشاد الدواوين ووالي القرافة..ثم تأتي مرتبة أمراء الخمسات (صبح الاعشى 4 / 28 - 50 - 63) وقال ابن شاهين في زبدة الممالك ص 113: وأمراء العشروات فكانت عدتهم قديما خمسين أميرا بخدمته كل واحد منهم عشرة مماليك.

(14/291)


ودكاكين، وذهب للناس شئ كثير من الامتعة والنحاس والبضائع وغير ذلك، مما يقاوم ألف ألف وأكثر خارجا عن الاموال، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وقد ذكر كثير من الناس أنه كان في هذه القياسير شر كثير من الفسق والربا والزغل وغير ذلك.
وفي السابع والعشرين من جمادى الاولى ورد الخبر بأن الفرنج لعنهم الله استحوذوا على مدينة صفد: قدموا في سبعة مراكب وقتلوا طائفة من أهلها ونهبوا شيئا كثيرا وأسروا أيضا، وهجموا على الناس وقت الفجر يوم الجمعة، وقد قتل منهم المسلمون خلقا كثيرا وكسروا مركبا من مراكبهم، وجاء الفرنج في عشية السبت قبل العصر وقدم الوالي وهو جريح مثقل، وأمر نائب السلطنة عند ذلك بتجهيز الجيش إلى تلك الناحية فساروا تلك الليلة ولله الحمد، وتقدمهم حاجب الحجاب وتحدر إليه نائب صفد الامير شهاب الدين بن صبح، فسبق الجيش الدمشقي، ووجد الفرنج قد برزوا بما غنموا من الامتعة والاسارى إلى جزيرة تلقاء صيدا في البحر، وقد أسر المسلمون منهم في المعركة شيخا وشابا من أبناء أشرافهم، وهو الذي عاقهم عن الذهاب، فراسلهم الجيش في انفكاك الاسارى من أيديهم فبادرهم عن كل رأس بخمسمائة فأخذوا من ديوان الاسارى مبلغ ثلاثين ألفا، ولم يبق معهم ولله الحمد أحد.
واستمر الصبي من الفرنج مع المسلمين، وأسلم ودفع إليهم شيخ الجريح، وعطش الفرنج عطشا شديدا، وأرادوا أن يرووا من نهر هناك فبادرهم الجيش إليه فمنعوهم أن ينالوا منه قطرة واحدة، فرحلوا ليلة الثلاثاء
منشمرين بما معهم من الغنائم، وبعثت رؤوس جماعة من الفرنج ممن قتل في المعركة فنصبت على القلعة بدمشق، وجاء الخبر في هذا الوقت بأن إيناس قد أحاط بها الفرنج، وقد أخذوا الربيض (1) وهم محاصرون القلعة، وفيها نائب البلد، وذكروا أنهم قتلوا خلقا كثيرا من أهلها فإنا لله وإنا إليه راجعون، وذهب صاحب حلب في جيش كثيف نحوهم والله المسؤول أن يظفرهم بهم بحوله وقوته، وشاع بين العامة أيضا أن الاسكندرية محاصرة ولم يتحقق ذلك إلى الآن، وبالله المستعان.
وفي يوم السبت رابع جمادى الآخرة قدم رؤوس من قتلى الفرنج على صيدا، وهي بضع وثلاثون رأسا، فنصبت على شرافات القلعة ففرح المسلمون بذلك ولله الحمد.
وفي ليلة الاربعاء الثاني والعشرين من جمادى الآخرة وقع حريق عظيم داخل باب الصغير من مطبخ السكر الذي عند السويقة الملاصقة لمسجد الشناشين، فاحترق المطبخ وما حوله إلى حمام أبي نصر، واتصل بالسويقة المذكورة وما هنالك من الاماكن، فكان قريبا أو أكثر من الحريق ظاهر باب الفرج فإنا لله وإنا إليه راجعون، وحضر نائب السلطنة، وذلك أنه كان وقت صلاة العشاء ولكن كان الريح قويا، وذلك بتقدير العزيز العليم.
وتوفي الشيخ عز الدين محمد بن إسماعيل بن عمر الحموي أحد مشايخ الرواة في ليلة
__________
(1) الربيض: الغنم برعاتها المجتمعة في مرابضها.

(14/292)


الثلاثاء الثامن والعشرين من جمادى الآخرة، وصلي عليه من الغد بالجامع الاموي بعد الظهر ودفن بمقابر باب الصغير.
وكان مولده في ثاني ربيع الاول سنة ثمانين وستمائة، فجمع الكثير وتفرد بالرواية عن جماعة في آخر عمره، وانقطع بموته سماع السنن الكبير للبيهقي، رحمه الله.
ووقع حريق عظيم ليلة الجمعة خامس عشر رجب بمحلة الصالحية من سفح قاسيون، فاحرق السوق القبلي من جامع الحنابلة بكماله شرقا وغربا، وجنوبا وشمالا.
فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وفي يوم الجمعة خامش شهر رمضان خطب بالجامع الذي أنشأه سيف الدين يلبغا الناصري
غربي سوق الخيل وفتح في هذا اليوم وجاء في غاية الحسن والبهاء، وخطب الشيخ ناصر الدين بن الربوة الحنفي، وكان قد نازعه فيه الشيخ شمس الدين الشافعي الموصلي، وأظهر ولاية من واقفه يلبغا المذكور، ومراسيم شريفة سلطانية، ولكن قد قوي عليه ابن الربوة بسبب أنه نائب عن الشيخ قوام الدين الاتقاني الحنفي، وهو مقيم بمصر، ومعه ولايه من السلطان متأخرة عن ولاية الموصلي، فرسم لابن الربوة، فلبس يومئذ الخلعة السوداء من دار السعادة وجاؤوا بين يديه بالسناجق السود الخليفية، والمؤذنون يكبرون على العادة، وخطب يومئذ خطبة حسنة أكثرها في فضائل القرآن، وقرأ في المحراب بأول سورة طه، وحضر كثير من الامراء والعامة والخاصة، وبعض القضاة، وكان يوما مشهودا، وكنت ممن حضر قريبا منه.
والعجب أني وقفت في شهر ذي القعدة على كتاب أرسله بعض الناس إلى صاحب له من بلاد طرابلس وفيه: والمخدوم يعرف الشيخ عماد الدين بما جرى في بلاد السواحل من الحريق من بلاد طرابلس إلى آخر معاملة بيروت إلى جميع كسروان، أحرق الجبال كلها ومات الوحوش كلها مثل النمور والدب والثعلب والخنزير من الحريق، ما بقي للوحوش موضع يهربون فيها، وبقي الحريق عليه أياما وهرب الناس إلى جانب البحر من خوف النار واحترق زيتون كثير، فلما نزل المطر أطفأه بإذن الله تعالى - يعني الذي وقع في تشرين وذلك في ذي القعدة من هذه السنة - قال ومن العجب أن ورقة من شجرة وقعت في بيت من مدخنته فأحرقت جميع ما فيه من الاثاث والثياب وغير ذلك ومن حلية حرير كثير، وغالب هذه البلاد للدرزية والرافضة.
نقلته من خط كاتبه محمد بن يلبان إلى صاحبه، وهما عندي بقبان فيالله العجب.
وفي هذا الشهر - يعني ذي القعدة - وقع بين الشيخ إسماعيل بن العز الحنفي وبين أصحابه من الحنفية مناقشة بسبب اعتدائه على بعض الناس في محاكمته، فاقتضى ذلك إحضاره إلى مجلس الحكم ثلاثة أيام كمثل المتمرد عندهم، فلما لم يحضر فيها حكم عليه القاضي شهاب الدين الكفري نائب الحنفي بإسقاط عدالته، ثم ظهر خبره بأنه قصد بلاد مصر، فأرسل النائب في أثره

(14/293)


من يرده فعنفه، ثم أطلقه إلى منزله، وشفع فيه قاضي القضاة الحنفي فاستحسن ذلك ولله الحمد والمنة.
ثم دخلت سنة ثمان وخمسين وسبعمائة
استهلت هذه السنة والخليفة أمير المؤمنين المعتضد بالله أبو بكر بن المستكفي بالله أبي الربيع سليمان العباسي، وسلطان الاسلام بالديار المصرية وما يتبعها وبالبلاد الشامية وما والاها والحرمين الشريفين وغير ذلك الملك الناصر حسن بن الملك الناصر محمد بن الملك المنصور قلاوون الصالحي ولي له بمصر نائب ولا وزير، وإنما ترجع الامور إصدارا وإيرادا إلى الاميرين الكبيرين سيف الدين شيخون وصرغتمش الناصريين، وقضاة مصر ثم المذكورون في التي قبلها، ونائب الشام بدمشق الامير علاء الدين أمير علي المارداني، وقضاة دمشق هم المذكورون في التي قبلها انتهى.
كائنة غريبة جدا لما كان يوم الاربعاء الرابع والعشرين من رجب من هذه السنة نهدت جماعة من مجاوري الجامع بدمشق من مشهد علي وغيره، واتبعهم جماعة من الفقراء والمغاربة، وجاؤوا إلى أماكن متهمة بالخمر وبيع الحشيش فكسروا أشياء كثيرة من أواني الخمر، وأراقوا ما فيها وأتلفوا شيئا كثيرا من الحشيش وغيره، ثم انتقلوا إلى حكر السماق وغيرهم فثار عليهم من البارذارية والكلابرية وغيرهم من الرعاع فتناوشوا، وضربت عليهم ضربات بالايدي وغيرهم، وربما سل بعض الفساق السيوف عليهم كما ذكر، وقد رسم ملك الامراء لوالي المدينة ووالي البر أن يكونوا عضدا لهم وعونا على الخمارين والحشاشة، فنصروهم عليهم، غير أنه كثر معهم الضجيج ونصبوا راية واجتمع عليهم خلق كثير، ولما كان في أواخر النهار تقدم جماعة من النقباء والخزاندارية ومعهم جنازير فأخذوا جماعة من مجاوري الجامع وضربوا بالمقارع وطيف بهم في البلد ونادوا عليهم: هذا جزاء من يتعرض لما لا يعنيه تحت علم السلطان، فتعجب الناس من ذلك وأنكروه حتى أنه أنكر اثنان من العامة على المنادية فضرب بعض الجند أحدهم بدبوس فقتله، وضرب الآخر فيقال إنه مات أيضا فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وفي شعبان من هذه السنة حكي عن جارية من عتيقات الامير سيف الدين تمر المهمندار أنها حملت قريبا من سبعين يوما، ثم شرعت تطرح ما في بطنها فوضعت في قرب من أربعين يوما في أيام متتاليه ومتفرقة أربع عشر بنتا وصبيا بعدهن قل من يعرف شكل الذكر من الانثى.
وجاء الخبر بأن الامير سيف الدين شيخون مدبر الممالك بالديار المصرية والشامية ظفر عليه

(14/294)


مملوك من مماليك السلطان فضربه بالسيف ضربات فجرحه في أماكن في جسده (1)، منها ما هو في وجهه ومنها ما هو في يده، فحمل إلى منزله صريعا طريحا جريحا، وغضب لذلك طوائف من الامراء حتى قيل إنهم ركبوا ودعوا إلى المبارزة فلم يجئ إليهم وعظم الخطب بذلك جدا واتهموا به الامير سيف الدين صرغتمش وغيره، وأن هذا إنما فعل عن ممالاة منهم فالله أعلم (2).
وفاة أرغون الكاملي باني البيمارستان بحلب
كانت وفاته بالقدس الشريف في يوم الخميس السادس والعشرين من شوال من هذه السنة، ودفن بتربة أنشأها غربي المسجد بشماله، وقد ناب بدمشق مدة بعد حلب، ثم جرت الكائنة التي أصلها بيبغا قبحه الله في أيامه، ثم صار إلى نيابة حلب ثم سجن بالاسكندرية مدة، ثم أفرج عنه فأقام بالقدس الشريف إلى أن كانت وفاته كما ذكرنا في التاريخ المذكور عزره الشريف ابن رزيك.
والله أعلم.
وفاة الامير شيخون
ورد الخبر من الديار المصرية بوفاة الامير شيخون ليلة الجمعة السادس والعشرون من ذي القعدة ودفن من الغد بتربته، وقد ابتنى مدرسة هائلة وجعل فيها المذاهب الاربعة ودار للحديث وخانقاه (3) للصوفية، ووقف عليها شيئا كثيرا، وقرر فيها معاليم وقراءة دارة، وترك أموالا جزيلة وحواصل كثيرة ودواوين في سائر البلاد المصرية والشامية وخلف بنات وزوجة، وورث البقية أولاد السلطان المذكور بالولاء، ومسك بعد وفاته أمراء كثيرون بمصر كانوا من حزبه، من
__________
(1) وكان ذلك يوم الخميس ثامن شعبان سنة 758 ه (السلوك 3 / 34 وفي بدائع الزهور 1 / 562: يوم الاثنين
حادي وعشرين شعبان) وكان المملوك الذي ضربه من المماليك السلطانية واسمه قطلوجاه السلحدار، وقيل: " قطلوخجا ".
(بدائع الزهور 1 / 562 النجوم الزاهرة 10 / 305 الجوهر الثمين لابن دقماق 2 / 209).
__________
(2) نزل السلطان إلى شيخو في اليوم الثاني لمحاولة قتله وحلف له ان ما جرى لم يكن له به علم، وتم استدعاء قطلوجاه فأكد أنه قام بفعله بدافع شخصي.
وقد أشار المقريزي في السلوك 3 / 34 إلى السبب قال: "...قدمت له قصة لينقلني من الجامكية إلى الاقطاع فلم يفعل، فبقي في نفسي منه شئ.
" وفي النجوم الزاهرة 10 / 305 قال: "...طلبت منه خبزا فمنعني منه وأعطاه لغيري " وانظر بدائع الزهور 1 / 562.
__________
(3) الخانقاه: كلمة فارسية تعني البيت وأصلها " خونقاه " أي الموضع الذي يأكل فيه الملك، ثم أصبحت تعني في الاسلام - بيت الصوفية - انظر خطط المقريزي 2 / 414.
وبنى شيخو الخانقاه في خط الصليبة خارج القاهرة وجعل شيخها الشيخ أكمل الدين محمد البابرتي الحنفي المتوفى سنة 786 ه.
وأنشأها على أرض مساحتها تزيد على الفدان حيث اختط الخانقاه وحمامين وعدة حوانيت تعلوها بيوت لسكني العامة ورتب دروسا أربعة لطوائف الفقهاء ودرسا للحديث النبوي ودرسا لاقراء القرآن بالروايات السبع (انظر بدائع الزهور 1 / 557 - 558 السلوك 3 / 17 خطط المقريزي 2 / 321 النجوم الزاهرة 10 / 303).

(14/295)


أشهرهم عز الدين بقطاي والدوادار وابن قوصون وأمه أخت السلطان خلف عليها شيخون بعد قوصون انتهى والله أعلم.
ثم دخلت سنة تسع وخمسين وسبعمائة
استهلت هذه السنة وسلطان الاسلام بالبلاد المصرية والشامية والحرمين الشريفين وما يتبع ذلك الملك الناصر حسن بن الملك الناصر محمد بن الملك المنصور قلاوون بن عبد الله الصالحي، وقد قوي جانبه وحاشيته بموت الامير شيخون كما ذكرنا في سادس عشرين ذي القعدة من السنة الماضية، وصار إليه من ميراثه من زهرة الحياة شئ كثير من القناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والانعام والحرث، وكذلك من المماليك والاسلحة والعدة والبرك والمتاجر ما يشق حصره ويتعذر إحصاؤه ها هنا، وليس في الديار المصرية فيما بلغنا إلى الآن نائب ولا وزير،
والقضاة هم المذكورون في التي قبلها، وأما دمشق فنائبها وقضاتها هم المذكورون في التي قبلها سوى الحنفي فإنه قاضي القضاة شرف الدين الكفري، عوضا عن نجم الدين الطوسي.
توفي في شعبان من السنة الماضية، ونائب حلب سيف الدين طاز، وطرابلس منجك، وحماة استدمر العمري، وصفد شهاب الدين بن صبح، وبحمص صلاح الدين خليل بن خاض برك، وببعلبك ناصر الدين الاقوس.
وفي صبيحة يوم الاثنين رابع عشر المحرم خرجت أربعة آلاف مع أربعة (1) مقدمين إلى ناحية حلب نصرة لجيش حلب على مسك طاز إن امتنع من السلطنة كما أمر، ولما كان يوم الحادي والعشرين من المحرم نادى المنادي من جهة نائب السلطنة أن يركب من بقي من الجند في الحديد ويوافوه إلى سوق الخيل، فركب معهم قاصدا ناحية ثنية العقاب ليمنع الامير طاز من دخول البلد، لما تحقق مجيئه في جيشه قاصدا إلى الديار المصرية، فانزعج الناس لذلك وأخليت دار السعادة من الحواصل والحريم إلى القعلة، وتحصن كثير من الامراء بدورهم داخل البلد، واغلق باب النصر، فاستوحش الناس من ذلك بعض الشئ، ثم غلقت أبواب البلد كلها إلا بابي الفراديس والفرج، وباب الجابية أيضا لاجل دخول الحجاج، ودخل المحمل صبيحة يوم الجمعة الثالث والعشرين من المحرم ولم يشعر به كثير من الناس لشغلهم بما هم فيه من أمر طاز، وأمر العشير بحوران، وجاء الخبر بمسك الامير سيف الدين طيدمر الحاجب الكبير بأرض حوران وسجنه بقلعة صرخد، وجاء سيفه صحبة الامير جمال الدين الحاجب، فذهب به إلى الوطاق عند الثنية، وقد وصل طاز بجنوده إلى باب القطيفة وتلاقي شاليشه بشاليش نائب الشام، ولم يكن منهم قتال ولله الحمد، ثم تراسل هو والنائب في الصلح على أن يسلم طاز نفسه ويركب في عشرة
__________
(1) في الاصل: أربع.

(14/296)


سروج إلى السلطان وينسلخ مما هو فيه، ويكاتب فيه النائب وتلطفوا بأمره عند السلطان وبكل ما يقدر عليه، فأجاب إلى ذلك وأرسل يطلب من يشهده على وصيته، فأرسل إليه نائب السلطنة
القاضي شهاب الدين قاضي العسكر، فذهب إليه فأوصى لولده وأم ولده ولوالده نفسه، وجعل الناظر على وصيته الامير علاء الدين أمير علي المارداني نائب السلطنة، وللامير صرغتمش، ورجع النائب من الثنية عشية يوم السبت بين العشاءين الربع والعشرين منه وتضاعفت الادعية له وفرح الناس بذلك فرحا شديدا، ودعوا إلى الامير طاز بسبب إجابته إلى السمع والطاعة، وعدم مقاتلته مع كثرة من كان معه من الجيوش، وقوة من كان يحرضه على ذلك من أخوته وذويه، وقد اجتمعت بنائب السلطنة الامير علاء الدين أمير علي المارداني فأخبرني بملخص ما وقع مذه خرج إلى أن رجع، ومضمون كلامه أن الله لطف بالمسلمين لطفا عظيما، إذ لم يقع بينهم قتال، فإنه قال: لما وصل طاز إلى القطيفة وقد نزلنا نحن بالقرب من خان لاجين أرسلت إليه مملوكا من مماليكي أقول له: إن المرسوم الشريف قد ورد بذهابك إلى الديار المصرية في عشرة سروج فقط، فإذا جئت هكذا فأهلا وسهلا، وإن لم تفعل فأنت أصل الفتنة.
وركبت ليلة الجمعة طول الليل في الجيش وهو ملبس، فرجع مملوكي ومعه مملوكه سريعا يقول: إنه يسأل أن يدخل بطلبه كما خرج يطلبه من مصر، فقلت لا سبيل إلى ذلك إلا في عشرة سروج كما رسم السلطان، فرجع وجاءني الامير الذي جاء من مصر بطلبه فقال: إنه يطلب منك أن يدخل في مماليكه فإذا جاوز دمشق إلى الكسوة نزل جيشه هناك وركب هو في عشرة سروج كما رسم.
فقلت: لا سبيل إلى أن يدخل دمشق ويتجاوز بطلبه أصلا، وإن كان عنده خيل ورجال وعدة فعندي أضعاف ذلك، فقال لي الامير: يا خوند لا يكون تنسى قيمته، فقلت لا يقع إلا ما تسمع، فرجع فما هو إلا أن ساق مقدار رمية سهم وجاء بعض الجواسيس الذين لنا عندهم فقال يا خوندها قد وصل جيش حماة وطرابلس، ومن معهم من جيش دمشق الذين كانوا قد خرجوا بسببه، وقد اتفقوا هم وهو.
قال فحينئذ ركبت في الجيش وأرسلت طليعتين أمامي وقلت تراءوا للجيوش الذين جاؤوا حتى يروكم فيعلموا أنا قد أحطنا بهم من كل جانب.
فحينئذ جاءت البرد من جهته بطلب الامان ويجهرون بالاجابة إلى أن يركب في عشرة سروج، ويترك طلبه بالقطيفة، وذلك يوم الجمعة، فلما كان الليل ركبت أنا والجيش في السلاح طول الليل وخشيت أن تكون مكيدة وخديعة، فجاءتنا الجواسيس
فأخبرونا أنهم قد أوقدوا نشابهم ورماحهم وكثيرا من سلاحهم، فتحققنا عند ذلك طاعته وإجابته، لكل ما رسم به، فلما أصبح يوم السبت وصى وركب في عشرة سروج وسار نحو الديار المصرية ولله الحمد والمنة (1).
__________
(1) قال في بدائع الزهور 1 / 564: أن صرغتمش أرسل بالقبض على طاز نائب حلب، من غير علم السلطان وسبب ذلك أنه كان بينه وبين الامير طاز حظ نفس من أيام الملك الصالح وكان الاتابكي شيخو عصبة الامير طاز فلما مات شيخو صار صرغتمش صاحب الحل والعقد بالديار المصرية ثم تصرف في أحوال المملكة، وكان إن قضى إربه من الامير طاز وسجنه في ثغر الاسكندرية.

(14/297)


وفي يوم الاثنين الرابع والعشرين من صفر دخل حاجب الحجاب (1) الذي كان سجن في قلعة صرخد مع البريدي الذي قدم بسببه من الديار المصرية، وتلقاه جماعة من الامراء والكبراء، وتصدق بصدقات كثيرة في داره، وفرحوا به فرحا شديدا، وهو والناس يقولون إنه ذاهب إلى الديار المصرية معظما مكرما على تقدمة ألف ووظائف هناك، فلما كان يوم الخميس السابع والعشرين منه لم يفجأ الناس إلا وقد دخل القلعة المنصورة معتقلا بها مضيقا عليه، فتعجب الناس من هذه الترحة من تلك الفرحة فما شاء الله كان.
وفي يوم الاربعاء رابع ربيع الاول عقد مجلس بسبب الحاجب بالمشهد من الجامع.
وفي يوم الخميس أحضر الحاجب من القلعة إلى دار الحديث، واجتمع القضاة هناك بسبب دعاوى يطلبون منه حق بعضهم، ثم لما كان يوم الاثنين تاسعه قدم من الديار المصرية مقدم البريدية بطلب الحاجب المذكور، فأخرج من القلعة السلطانية وجاء إلى نائب السلطنة فقبل قدمه، ثم خرج إلى منزله وركب من يومه قاصدا إلى الديار المصرية مكرما، وخرج بين يديه خلق من العوام والحرافيش يدعون له، وهذا أغرب ما أرخ، فهذا الرجل نالته شدة عظيمة بسبب سجنه بصرخد، ثم أفرج عنه، ثم حبس في قلعة دمشق ثم أفرج عنه، وذلك كله في نحو شهر.
ثم جاءت الاخبار في يوم الاحد ثاني عشر جمادى الاولى بعزل نائب السلطنة عن دمشق فلم
يركب في الموكب يوم الاثنين، ولا حضر في دار العدل، ثم تحققت الاخبار بذلك وبذهابه إلى نيابة حلب، ومجئ نائب حلب إلى دمشق، فتأسف كثير من الناس عليه لديانته وجوده وحسن معاملته لاهل العلم، ولكن حاشيته لا ينفذون أوامره، فتولد بسبب ذلك فساد عريض وحموا كثيرة من البلاد، فوقعت الحروب بين أهلها بسبب ذلك، وهاجت العشيرات فإنا لله وإنا إليه راجعون وفي صبيحة يوم السبت الخامس والعشرين خرج الامير علي المارداني من دمشق في طلبه مستعجلا في أبهة النيابة، قاصدا إلى حلب المحروسة، وقد ضرب وطاقه بوطأة برزة، فخرج الناس للتفرج على طلبه.
وفي هذا اليوم بعد خروج النائب بقليل دخل الامير سيف الدين طيدمر الحاجب من الديار المصرية عائدا إلى وظيفة الحجوبية في أبهة عظيمة، وتلقاه الناس بالشموع، ودعوا له، ثم ركب من يومه إلى خدمة ملك الامراء (2) إلى وطأة برزة، فقبل يده وخلع عليه الامراء، واصطلحا.
انتهى والله أعلم.
__________
(1) حاجب الحجاز: وظيفة حاجب الحجاب في العصر المملوكي ان صاحبها ينصف بين الامراء والجند تارة بنفسه وتارة بمراجعة النائب إن كان، وإليه تقديم من يعرض ومن يرد وعرض الجند وما ناسب ذلك (التعريف بمصطلحات صبح الاعشى ص 97).
__________
(2) ملك الامراء من الالقاب التي اصطلح عليها لكفال الممالك من نواب السلطنة كأكابر النواب بالممالك الشامية ومن في معناهم وذلك لانه يقوم مقام الملك في التصرف والتنفيذ والامراء بخدمته كخدمة السلطان، وأكثر ما يخاطب به =

(14/298)


= النواب في المكاتبات، وذلك مختص بغير المخاطبات السلطانية (التعريف بمصطلحات صبح الاعشى ص 327).
دخول نائب السلطنة منجك إلى دمشق كان ذلك في صبيحة يوم الخميس الرابع والعشرين من جمادى الآخرة من ناحية حلب (1) وبين يديه الامراء على العادة، وأوقدت الشموع وخرج الناس ومنهم من بات على الاسطحة وكان يوما هائلا.
وفي أواخر شهر رجب برز نائب السلطنة إلى الربوة وأحضر القضاة وولاة الامور ورسم بإحضار المفتيين - وكنت فيمن طلب يومئذ إلى الربوة فركبت إليها - وكان نائب السلطنة عزم يومئذ على تخريب المنازل المبنية بالربوة وغلق الحمام من أجل هذه فيما ذكر أنها بنيت ليقضي فيها، وهذا الحمام أوساخه صائرة إلى النهر الذي يشرب منه الناس، فاتفق الحال في آخر الامر على إبقاء المساكن ورد المرتفعات المسلطة على توره وناس، ويترك ما هو مسلط على بردى، فانكف الناس عن الذهاب إلى الربوة بالكلية، ورسم يومئذ بتضييق أكمام النساء وأن تزال الاجراس والركب عن الحمير التي للمكارية.
وفي أوائل شهر شعبان ركب نائب السلطنة يوم الجمعة بعد العصر ليقف على الحائط الرومي الذي بالرحبية، فخاف أهل الاسواق وغلقوا دكاكينهم عن آخرهم، واعتقدوا أن نائب السلطنة أمر بذلك، فغضب من ذلك وتنصل منه، ثم إنه أمر بهدم الحائط المذكور، وأن ينقل إلى العمارة التي استجدها خارج باب النصر في دار الصناعة التي إلى جانب دار العدل، أمر ببنائها خانا ونقلت تلك الاحجار إليها، انتهى والله أعلم.
عزل القضاة الثلاثة بدمشق ولما كان يوم الثلاثاء تاسع شعبان قدم من الديار المصرية بريدي ومعه تذكرة - ورقة - فيها السلام على القضاة المستجدين، وأخبر بعزل القاضي الشافعي والحنفي والمالكي، وأنه ولى قضاة الشافعية القاضي بهاء الدين أبوالبقا السبكي، وقضاء الحنفية الشيخ جمال الدين بن السراج الحنفي وذهب الناس إلى السلام عليهم والتهنئة لهم واحتفلوا بذلك، وأخبروا أن القاضي المالكي سيقدم من الديار المصرية، ولما كان يوم السبت السابع والعشرين من شعبان وصل البريد من الديار المصرية ومعه تقليدان وخلعتان للقاضي الشافعي والقاضي الحنفي، فلبسا الخلعتين وجاءا من دار السعادة إلى الجامع الاموي، وجلسا في محراب المقصورة، وقرأ تقليد قاضي القضاة بهاء
__________
(1) وكان أخلع على الامير منجك اليوسفي وقرره على نيابة حلب عوضا عن الامير طاز بدائع الزهور 1 / 564).

(14/299)


الدين أبي البقاء الشافعي، الشيخ نور الدين بن الصارم المحدث على السدة تجاه المحراب، وقرأ تقليد قاضي القضاة جمال الدين بن السراج الحنفي الشيخ عماد الدين بن السراج المحدث أيضا على السده، ثم حكما هنالك، ثم جاء أيضا إلى الغزالية فدرس بها قاضي القضاة بهاء الدين أبو البقاء، وجلس الحنفي إلى جانبه عن يمينه، وحضرت عنده فأخذ في صيام يوم الشك، ثم جاء معه إلى المدرسة النورية فدرس بها قاضي القضاة جمال الدين المذكور، وحضر عنده القاضي القضاة بهاء الدين، وذكروا أنه أخذ في قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط) الآية [ النساء: 135 ].
ثم انصرف بهاء الدين إلى المدرسة العادلية الكبيرة فدرس بها قوله تعالى: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الامانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) الآية [ النساء: 58 - 59 ].
وفي صبيحة يوم الاربعاء ثامن شهر رمضان دخل القاضي المالكي من الديار المصرية فلبس الخلعة يومئذ ودخل المقصورة من الجامع الاموي وقرئ تقليده هنالك بحضرة القضاة والاعيان، قرأه الشيخ نور الدين بن الصارم المحدث، وهو قاضي القضاة شرف الدين أحمد بن الشيخ شهاب الدين عبد الرحمن بن الشيخ شمس الدين محمد بن عسكر العراقي البغدادي، قدم الشام مرارا ثم استوطن بالديار المصرية بعد ماحكم ببغداد نيابة عن قطب الدين الاخوي، ودرس بالمستنصرية بعد أبيه، وحكم بدمياط أيضا ثم نقل إلى قضاء المالكية بدمشق وهو شيخ حسن كثير التودد ومسدد العبارة حسن البشر عند اللقاء، مشكور في مباشرته عفة ونزاهة وكرم، الله يوفقه ويسدده.
مسك الامير طرغتمش أتابك الامراء بالديار المصرية ورد الخبر إلينا بمسكه يوم السبت الخامس والعشرين من رمضان هذا، وأنه قبض بحضرة السلطان يوم الاثنين (1) العشرين منه، ثم اختلفت الرواية عن قتله (2) غير أنه احتيط على حواصله وأمواله، وصودر أصحابه وأتباعه، فكان فيمن ضرب وعصر تحت المصادرة القاضي ضياء الدين ابن خطيب بيت الابار، واشتهر أنه مات تحت العقوبة، وقد كان مقصدا للواردين إلى الديار
__________
(1) في النجوم الزاهرة 10 / 308: يوم الخميس، وفي بدائع الزهور 1 / 570: يوم الاثنين الحادي والعشرين من
رمضان سنة 761 ه.
وأشار ابن أياس إلى السبب قائلا: وفي هذه السنة تزايدت عظمة الاتابكي صرغتمش إلى الغاية وثقل أمره على السلطان فأشار عليه بعض الامراء بأن يبادر ويقبض عليه، وإلا " يبادر هو ويقبض عليك وتندم أنت بعد ذلك الذي ما بادرت إليه " وقبض عليه.
(انظر بدائع الزهور 1 / 570 والنجوم الزاهرة 10 / 307 - 309 وانظر ص 297 حاشية 1).
__________
(2) أرسل إلى ثغر الاسكندرية وسجن، وأقام مدة يسيرة في السجن واشيع موته.
قال ابن إياس: " قيل انه قد خنق وهو في السجن " انظر بدائع الزهور: 1 / 571.
وفي الجوهر الثمين لابن دقماق 2 / 211: أقام بالسجن بالاسكندرية إلى أوائل ذي الحجة فدخلوا إليه فوجدوه ميتا.

(14/300)


المصرية، لا سيما أهل بلده دمشق، وقد باشر عدة وظائف، وكان في آخر عمره قد فوض إليه نظر جميع الاوقاف ببلاد السلطان، وتكلم في أمر الجامع الاموي وغيره، فحصل بسبب ذلك قطع أرزاق جماعات من الكتبة وغيرهم، ومالا الامير صرغتمش في أمور كثيرة خاصة وعامة، فهلك بسببه، وقد قارب الثمانين، انتهى.
إعادة القضاة وقد كان صرغتمش عزل القضاة الثلاثة بدمشق، وهم الشافعي والحنفي والمالكي كما تقدم، وعزل قبلهم ابن جماعة وولى ابن عقيل (1)، فلما مسك صرغتمش رسم السلطان فإعادة القضاة على ما كانوا عليه، ولما ورد الخبر بذلك إلى دمشق امتنع القضاة الثلاثة من الحكم، غير أنهم حضروا ليلة العيد لرؤية الهلال بالجامع الاموي، وركبوا مع النائب صبيحة العيد إلى المصلى على عادة القضاة، وهم على وجل، وقد انتقلوا من مدارس الحكم فرجع قاضي القضاة أبو البقاء الشافعي إلى بستانه بالزعيفرية، ورجع قاضي القضاة ابن السراج إلى داره بالتعديل، وارتحل قاضي القضاة شرف الدين المالكي إلى الصالحة داخل الصمصامية، وتألم كثير من الناس بسببه، لانه قد قدم غريبا من الديار المصرية وهو فقير ومتدين، وقد باشر الحكم جيدا، ثم تبين بآخرة أنه
لم يعزل وأنه مستمر كما سنذكره، ففرح أصحابه وأحبابه، وكثير من الناس بذلك، فلما كان يوم الاحد رابع شوال قدم البريد وصحبته تقليد الشافعي قاضي القضاة تاج الدين بن السبكي، وتقليد الحنفي قاضي القضاه شرف الدين الكفري واستمر قاضي القضاة شرف الدين المالكي العراقي على قضاء المالكية، لان السلطان تذكر أنه كان شافهه بولاية القضاء بالشام، وسيره بين يديه إلى دمشق، فحمدت سيرته كما حسنت سريرته.
إن شاء الله، وفرح الناس له بذلك.
وفي ذي القعدة توفي المحدث شمس الدين محمد بن سعد الحنبلي يوم الاثنين ثالثه، ودفن من الغد بالسفح، وقد قارب الستين، وكتب كثيرا وخرج، وكانت له معرفة جيدة بأسماء الاحرار ورواتها من الشيوخ المتأخرين، وقد كتب للحافظ البرزالي قطعة كبيرة من مشايخه، وخرج له عن كل حديثا أو أكثر، وأثبت له ما سمعه عن كل منهم، ولم يتم حتى توفي البرزالي رحمه الله.
وتوفي بهاء الدين بن المرجاني باني جامع الفوقاني، وكان مسجدا في الاصل فبناه جامعا، وجعل فيه خطبة، وكنت أول من خطب فيه سنة ثمان وأربعين وسبعمائة، وسمع شيئا من الحديث.
وبلغنا مقتل الامير سيف الدين بن فضل بن عيسى بن مهنا أحد أمراء الاعراب الاجواد
__________
(1) وهما قاضي قضاة الشافعية عز الدين بن جماعة عزل وعين مكانه بهاء الدين بن عقيل فأقام بها ثمانين يوما ثم عزل وأعيد ابن جماعة (بدائع الزهور 1 / 567).

(14/301)


الانجاد وقد ولي إمرة آل مهنا غير مرة كما وليها أبوه من قبله: عدا عليه بعض بني عمه فقتله عن غير قصد بقتله، كما ذكر، لكن لما حمل عليه السيف أراد أن يدفع عن نفسه وبنفسه فضربه بالسيف برأسه ففلقه فلم يعش بعده إلا أياما قلائل ومات رحمه الله انتهى.
عزل منجك عن دمشق ولما كان يوم الاحد ثاني ذي الحجة قدم أمير من الديار المصرية ومعه تقليد نائب دمشق، وهو الامير سيف الدين منجك بنيابة صفد المحروسة، فأصبح من الغد - وهو يوم عرفة - وقد انتقل من دار السعادة إلى سطح المزة قاصدا إلى صفد المحروسة فعمل العيد بسطح المزة، ثم ترحل نحو
صفد، وطمع كثير من المفسدين والخمارين وغيرهم وفرحوا بزواله عنهم.
وفي يوم العيد قرئ كتاب السلطان بدار السعادة على الامراء وفيه التصريح باستنابة أميره علي المارداني عليهم، وعوده إليهم الامر بطاعته وتعظيمه واحترامه والشكر له والثناء عليه، وقدم الامير شهاب الدين بن صبح من نيابة صفد ونزل بداره بظاهر البلد بالقرب من الشامية البرانية.
ووصل البريد يوم السبت الحادي والعشرين من ذي الحجة بنفي صاحب الحجاب طيدمر الاسماعيلي إلى مدينة حماة بطالا في سرجين لا غير والله أعلم.
ثم دخلت سنة ستين وسبعمائة
استهلت هذه السنة وملك الديار المصرية والشامية وما يتبع ذلك من الممالك الاسلامية الملك الناصر حسن بن السلطان الملك الناصر محمد بن السلطان الملك المنصور قلاوون الصالحي، وقضاته بمصر هم المذكورون في السنة التي قبلها، ونائبه بدمشق الامير علاء الدين أمير علي المارداني، وقضاة الشام هم المذكورون في التي قبلها غير المالكي، فإنه عزل جمال الدين المسلاتي بشرف الدين العراقي، وحاجب الحجاب الامير شهاب الدين بن صبح، وخطباء البلد كانت أكثرها المذكورون.
وفي صبيحة يوم الاربعاء ثالث المحرم دخل الامير علاء الدين أمير علي نائب السلطنة إلى دمشق من نيابة حلب، ففرح الناس به وتلقوه إلى أثناء الطريق، وحملت له العمامة الشجوع في طرقات البلد، ولبس الامير شهاب الدين بن صبح خلعة الحجابة الكبيرة بدمشق عوضا عن نيابة صفد ووردت كتب الحجاج يوم السبت الثالث عشر منه مؤرخة سابع عشرين ذي الحجة من العلا وذكروا أن صاحب المدينة النبوية عدا عليه فداويان عند لبسه خلعة السلطان، وقت دخول المحمل إلى المدينة الشريفة فقتلاه، فعدت عبيده على الحجيج الذين هم داخل المدينة فنهبوا من أموالهم وقتلوا بعضهم وخرجوا، وكانوا قد أغلقوا أبواب المدينة دون الجيش فأحرق بعضها، ودخل

(14/302)


الجيش السلطاني فاسنقذوا الناس من أيدي الظالمين.
ودخل المحمل السلطاني إلى دمشق يوم
السبت العشرين من هذا الشهر على عادته، وبين يدي المحمل الفداويان اللذان قتلا صاحب المدينة، وقد ذكرت عنه أمور شنيعة بشعة من غلوه في الرفض المفرط، ومن قوله إنه لو تمكن لاخرج الشيخين من الحجرة، وغير ذلك من عبارات مؤدية لعدم إيمانه إن صح عنه والله أعلم.
وفي صبيحة يوم الثلاثاء سادس صفر مسك الامير شهاب الدين بن صبح حاجب الحجاب وولداه الاميران وحبسوا في القلعة المنصورة، ثم سافر به الامير ناصر الدين بن خاربك بعد أيام إلى الديار المصرية، وفي رجل ابن صبح قيد، وذكر أنه فك من رجله في أثناء الطريق.
وفي يوم الاثنين ثالث عشر صفر قدم نائب طرابلس الامير سيف الدين عبد الغني فأدخل القلعة ثم سافر به الامير علاء الدين بن أبي بكر إلى الديار المصرية محتفظا به مضيقا عليه، وجاء الخبر بأن منجك سافر من صفد على البريد مطلوبا إلى السلطان، فلما كان بينه وبين غزة بريد واحد دخل بمن معه من خدمه التيه فارا من السلطان، وحين وصل الخبر إلى نائب غزة اجتهد في طلبه فأعجزه وتفارط الامر، انتهى والله أعلم (1).
مسك الامير علي المارداني نائب الشام وأصل ذلك أنه في صبيحة يوم الاربعاء الثاني والعشرين من رجب، ركب الجيش إلى تحت القلعة ملبسين وضربت البشائر في القلعة في ناحية الطارمة، وجاء الامراء بالطبلخانات من كل جانب والقائم بأعباء الامر سيف الدين بيدمر الحاجب، ونائب السلطنة داخل دار السعادة والرسل مرددة بينه وبين الجيش، ثم خرج فحمل على سروج يسيرة محتاطا عليه إلى ناحية الديار المصرية، واستوحش من أهل الشام عند باب النصر، فتباكى الناس رحمة له وأسفة عليه، لديانته وقلة أذيته وأذية الرعية وإحسانه إلى العلماء والفقراء والقضاة.
ثم في صبيحة يوم الخميس الثالث والعشرين منه احتيط على الامراء الثلاثة، وهم الامير سيف الدين طيبفاحجي أحد مقدمي الالوف، والامير سيف الدين فطليخا الدوادار أحد المقدمين أيضا والامير علاء الدين أيدغمش المارداني أحد أمراء الطبلخانات، وكان هؤلاء ممن حضر نائب السلطنة المذكور وهم جلساؤه وسماره، والذين بسفارته أعطوا الاجناد والطبلخانات والتقادم،
فرفعوا إلى القلعة المنصورة معتقلين بها مع من بها من الامراء، ثم ورد الخبر بأن الامير علي رد من
__________
(1) قال في بدائع الزهور 1 / 572: " وفي أواخر هذه السنة - يعني سنة 761 - وردت الاخبار بأن التركمان قبضوا على منجك، فلما أحضروا إلى القاهرة، فلما مثل بين يدي السلطان وجده في هيئة الفقراء...وبكى فرق له السلطان وعفا عنه ثم أنعم عليه بأمرية أربعين في الشام فأقام بمصر أياما ثم توجه إلى الشام وأقام بها ".

(14/303)


الطريق بعد مجاوزته وأرسل إليه بتقليد نيابة صفد المحروسة، فتماثل الحال وفرح بذلك أصحابه وأحبابه، وقد متسلم دمشق الذي خلع عليه بنبابتها بالديار المصرية في يوم الخميس سادس عشر شهر رجب بعد أن استعفى من ذلك مرارا، وباس الارض مرارا فلم يعفه السلطان، وهو الامير سيف الدين استدمر أخو يلبغا اليحياوي (1)، الذي كان نائب الشام، وبنته اليوم زوجة السلطان، قدم متسلمه إلى دمشق يوم الخميس سلخ الشهر فنزل في دار السعادة، وراح القضاة والاعيان للسلام عليه والتودد إليه، وحملت إليه الضيافات والتقادم، انتهى والله أعلم.
كائنة وقعت بقرية حوران فأوقع الله بهم بأسا شديدا في هذا الشهر الشريف وذلك أنه أشهر أهل قرية بحوران وهي خاص لنائب الشام وهم حلبية يمن ويقال لهم بنو لبسه وبني ناشى وهى حصينة منيعة يضوي إليها كل مفسد وقاطع ومارق ولجأ إليهم أحد شياطين رويمن العشير وهو عمر المعروف بالدنيط، فأعدوا عددا كثيرة ونهبوا ليغنموا العشير، وفي هذا الحين بدرهم والي الولاة المعروف بشنكل منكل، فجاء إليهم ليردهم ويهديهم، وطلب منهم عمر الدنيط فأبوا عليه وراموا مقاتلته، وهم جمع كثير وجم غفير، فتأخر عنهم وكتب إلى نائب السلطنة ليمده بجيش عونا له عليهم وعلى أمثالهم، فجهز له جماعة من أمراء الطبلخانات والعشراوات ومائة من جند الحلقة الرماة، فما بغتهم في بلدهم تجمعوا لقتال العسكر ورموه بالحجاره والمقاليع، وحجزوا بينهم وبين البلد، فعند ذلك رمتهم الاتراك بالنبال من كل جانب، فقتلوا منهم فوق
المائة، ففروا على أعقابهم، وأسر منهم والي الولاة نحوا من ستين رجلا، وأمر بقطع رؤوس القتلى وتعليقها في أعناق هؤلاء الاسرى، ونهبت بيوت الفلاحين كلهم، وسلمت إلى مماليك نائب السلطنة لم يفقد منها ما يساوي ثلاثمائة درهم، وكر راجعا إلى بصرى وشيوخ العشيرات معه، فأخبر ابن الامير صلاح الدين ابن خاص ترك، وكان من جملة أمراء الطبلخانات الذين قاتلوهم بمبسوط ما يخصه وأنه كان إذا أعيا بعض تلك الاسرى من الجرحى أمر المشاعلي بذبحه وتعليق رأسه على بقية الاسرى، وفعل هذا بهم غير مرة حتى أنه قطع رأس شاب منهم وعلق رأسه على أبيه، شيخ كبير، فإنا لله وإنا إليه راجعون، حتى قدم بهم بصرى فشنكل طائفة من أولئك المأسورين وشنكل آخرين ووسط الآخرين وحبس بعضهم في القلعة، وعلق الرؤوس على أخشاب نصبها حول قلعة بصرى، فحصل بذلك تنكيل شديد لم يقع مثله في هذا الاوان بأهل حوران، وهذا كله سلط عليهم بما كسبت أيديهم وما ربك بظلام للعبيد، وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
انتهى.
__________
(1) في الاصل اليحناوي، وقد تقدمت الاشارة إليه، وقد صحح اليحياوي أينما ورد فيما بعد من الاخبار.

(14/304)


دخول نائب السلطنة الامير سيف الدين استدمر اليحياوي في صبيحة يوم الاثنين حادي عشر شعبان من هذه السنة كان دخول الامير سيف الدين استدمر اليحياوي نائبا على دمشق من جهة الديار المصرية (1)، وتلقاه الناس واحتفلوا له احتفالا زائدا وشاهدته حين ترجل لتقبيل العتبة، وبعضده الامير سيف الدين بيدمر (2) الذي كان حاجب الحجاب وعين لنيابة حلب المحروسة، فاستقبل القبلة وسجد عند القبلة، وقد بسط له عندها مفارش وصمدة هائلة، ثم إنه ركب فتعضده بيدمر أيضا وسار نحو الموكب فأركب ثم عاد إلى دار السعادة على عادة من تقدمه من النواب.
وجاء تقليد الامير سيف الدين بيدمر من آخر النهار لنيابة حلب المحروسة، وفي آخر نهار الثلاثاء بعد العصر ورد البريد البشيري وعلى يده مرسوم شريف بنفي القاضي بهاء الدين أبو البقاء وأولاده وأهله إلى طرابلس بلا وظيفة، فشق ذلك عليه وعلى
أهليه ومن يليه، وتغمم له كثير من الناس، وسافر ليلة الجمعة وقد أذن له في الاستنابة في جهاته، فاستناب ولده الكبير عز الدين، واشتهر في شوال أن الامير سيف الدين منجك الذي كان نائب السلطنة بالشام وهرب ولم يطلع له خبر، فلما كان في هذا الوقت ذكر أنه مسك ببلد بحران من مقاطعة ماردين في زي فقير، وأنه احتفظ عليه وأرسل السلطان قراره، وعجب كثير من الناس من ذلك، ثم لم يظهر لذلك حقيقة وكان الذين رأوه ظنوا أنه هو، فإذا هو فقير من جملة الفقراء يشبهه من بعض الوجوه (3).
واشتهر في ذي القعدة أن الامير عز الدين فياض بن مهنا ملك العرب، خرج عن طاعة السلطان وتوجه نحو العراق فوردت المراسيم السلطانية لمن بأرض الرحبة من العساكر الدمشقية وهم أربعة مقدمين في أربعة آلاف، وكذلك جيش حلب وغيره بتطلبه وإحضاره إلى بين يدي السلطان، فسعوا في ذلك بكل ما يقدرون عليه فعجزوا عن لحاقه والدخول وراءه إلى البراري، وتفارط الحال وخلص إلى أرض العراق فضاق النطاق وتعذر اللحاق.
ثم دخلت سنة إحدى وستين وسبعمائة استهلت وسلطان المسلمين الملك الناصر حسن بن الملك الناصر محمد بن الملك المنصور قلاوون وقضاة مصر والشام هم المذكورون في التي قبلها، ونائب الشام الامير سيف الدين استدمر أخو يلبغا اليحياوي، وكاتب السر القاضي أمين الدين بن القلانسي.
وفي مستهل المحرم جاء الخبر بموت الشيخ صلاح الدين العلائي بالقدس الشريف ليلة الاثنين ثالث المحرم، وصلي عليه من الغد بالمسجد الاقصى بعد صلاة الظهر، ودفن بمقبرة نائب
__________
(1) انظر النجوم الزاهرة 10 / 310 والسلوك 3 / 47.
__________
(2) وهو بيدمر بن عبد الله الخوارزمي المتوفى سنة 779 ه (الدرر 1 / 513).
__________
(3) انظر ما سبق صفحة 303 حاشية 1.

(14/305)


الرحبة، وله من العمر ست وستون سنة، وكان مدة مقامه بالقدس مدرسا بالمدرسة الصلاحية وشيخا بدار الحديث السكرية ثلاثين سنة، وقد صنف وألف وجمع وخرج، وكانت له يد طولى
بمعرفة العالي والنازل، وتخريج الاجزاء والفوائد، وله مشاركة قوية في الفقه واللغة والعربية والادب وفي كتابته ضعف لكن مع صحة وضبط لما يشكل، وله عدة مصنفات، وبلغني أنه وقفها على الخانقاه السمساطية بدمشق، وقد ولى بعده التدريس بالصرخصية الخطيب برهان الدين بن جماعة والنظر بها، وكان معه تفويض منه متقدم التاريخ.
وفي يوم الخميس السادس من محرم احتيط على متولي البر ابن بهادر الشيرجي ورسم عليه بالعذراوية بسبب أنه اتهم بأخذ مطلب من نعمان البلقاء هو وكحلن الحاجب، وقاضي حسان، والظاهر أن هذه مرافعة من خصم عدو لهم، وأنه لم يكن من هذا شي ء والله أعلم.
ثم ظهر على رجل يزور المراسيم الشريفة وأخذ بسببه مدرس الصارمية لانه كان عنده في المدرسة المذكرة، وضرب بين يدي ملك الامراء، وكذلك على الشيخ زين الدين زيد المغربي الشافعي، وذكر عنه أنه يطلب مرسوما لمدرسة الاكرية، وضرب أيضا ورسم عليه في حبس السد، وكذلك حبس الامير شهاب الدين الذي كان متولي البلد، لانه كان قد كتب له مرسوما شريفا بالولاية، فلما فهم ذلك كاتب السر أطلع عليه نائب السلطنة فانفتح عليه الباب وحبسوا كلهم بالسد، وجاءت كتب ؟ الحجاج ليلة السبت الخامس عشر من المحرم وأخبرت بالخصب والرخص والامن ولله الحمد والمنة.
ودخل المحمل بعد المغرب ليلة السبت الحادي والعشرين منه، ثم دخل الحجيج بعده في الطين والرمض (1) (*) وقد لقوا من ذلك من بلاد حوران عناء وشدة، ووقعت جمالات كثيرة وسبيت نساء كثيرة، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وحصل للناس تعب شديد.
ولما كان يوم الاثنين الرابع والعشرين قطعت يد الذي زور المراسيم واسمه السراج عمر القفطي المصري، وهو شاب كاتب مطيق على ما ذكر، وحمل في قفص على جمل وهو مقطوع اليد، ولم يحسم بعد والدم ينصب منها، وأركب معه الشيخ زين الدين زيد على جمل وهو منكوس وجهه إلى ناحية دبر الجمل، وهو عريان مكشوف الرأس، وكذلك البدر الخصمي على جمل آخر، وأركب الوالي شهاب الدين على جمل آخر وعلى تخفيفة صغيرة، وخف وقباء، وطيف بهم في محال البلد، ونودي عليهم: هذا جزاء من يزور على السلطان، ثم أودعوا حبس الباب الصغير وكانوا قبل هذا التعزير في حبس السد،
ومنه أخذوا وأشهروا، فإنا لله وإنا إليه راجعون انتهى.
__________
(1) الرمض: الرمض شدة الحر، والرمض.
حر الحجارة من شدة الشمس.
والرمضي من السحاب والمطر ما كان في آخر القيظ وأول الخريف، وسمي المطر رمضيا لانه يدرك سخونة الشمس وحرها.
والرمض: المطر يأتي قبل الخريف فيجد الارض حارة محترقة (لسان العرب).

(14/306)


مسك منجك وصفة الظهور عليه وكان مختفيا بدمشق حوالي سنة لما كان يوم الخميس السابع والعشرين من المحرم جاء ناصح إلى نائب السلطنة الامير سيف الدين استدمر فأخبره بأن منجك في دار الشرف الاعلى، فأرسل من فوره إلى ذلك المنزل الذي هو فيه بعض الحجبة ومن عنده من خواصه، فاحضر إلى بين يديه محتفظا عليه جدا، بحيث إن بعضهم رزفه من ورائه واحتضنه، فلما واجهه نائب السلطنة أكرمه وتلقاه وأجلسه معه على مقعدته، وتلطف به وسقاه وأضافه، وقد قيل إنه كان صائما فأفطر عنده، وأعطاه من ملابسه وقيده وأرسله إلى السلطان في ليلته - ليلة الجمعة - مع جماعة من الجند وبعض الامراء، منهم حسام الدين أمير حاجب، وقد كان أرسل نائب السلطنة ولده بسيف منجك من أوائل النهار، وتعجب الناس من هذه القضية جدا، وما كان يظن كثير من الناس إلا أنه قد عدم باعتبار أنه في بعض البلاد النائية، ولم يشعر الناس أنه في وسط دمشق وأنه يمشي بينهم متنكرا، وقد ذكر أنه كان يحضر الجمعات بجامع دمشق ويمشي بين الناس متنكرا في لبسه وهيئته، ومع هذا لن يغني حذر من قدر، ولكل أجل الكتاب، وأرسل ملك الامراء بالسيف وبملابسه التي كان يتنكر بها، وبعث هو مع جماعة من الامراء الحجبة وغيرهم وجيش كثيف إلى الديار المصرية مقيدا محتفظا عليه، ورجع ابن ملك الامراء بالتحف والهدايا والخلع والانعام لوالده، ولحاجب الحجاب، ولبس ذلك الامراء يوم الجمعة واحتفل الناس بالشموع وغيرها، ثم تواترت الاخبار بدخول منجك إلى السلطان وعفوه عنه وخلعته الكاملة عليه وإطلاقه له الحسام والخيول المسومة والالبسة المفتخرة، والاموال والامان، وتقديم الامراء والاكابر له من سائر صنوف التحف (1)، وقدوم الامير علي من صفد
قاصدا إلى حماة لنيابتها، فنزل القصر الابلق ليلة الخميس رابع صفر وتوجه ليلة الاحد سابعه.
وفي يوم الخميس الثامن عشر من صفر قدم القاضي بهاء الدين أبو البقاء من طرابلس بمرسوم شريف أن يعود إلى دمشق على وظائفه المبقاة عليه، وقد كان ولده ولي الدين ينوب عنه فيها، فتلقاه كثير من الناس إلى أثناء الطريق، وبرز إليه قاضي القضاة تاج الدين إلى حرستا، وراح الناس إلى تهنئته إلى داره، وفرحوا برجوعه إلى وطنه.
ووقع مطر عظيم في أول هذا الشهر، وهو أثناء شهر شباط، وثلج عظيم، فرويت البساتين التي كانت لها عن الماء عدة شهور، ولا يحصل لاحد من الناس سقي إلا بكلفة عظيمة ومشقة، ومبلغ كثير، حتى كاد الناس يقتتلون عليه بالايدي والدبابيس وغير ذلك من البذل الكثير، وذلك في شهور كانون الاول والثاني، وأول شباط، وذلك لقلة مياه الانهار وضعفها، وكذلك بلاد حوران أكثرهم يروون من أماكن بعيدة في هذه الشهور، ثم من الله تعالى فجرت الاودية وكثرت الامطار والثلوج، وغزرت الانهار ولله الحمد والمنة.
وتوالت الامطار، فكأنه حصل السيل في هذه السنة من كانون إلى شباط فكان شباط
__________
(1) انظر السلوك 3 / 53 النجوم الزاهرة 10 / 310 بدائع الزهور 1 / 572 وانظر ما سبق صفحة 303 حاشية رقم 1.

(14/307)


هو كانون وكانون لم يسل فيه ميزاب واحد.
ووصل في هذا الشهر الامير سيف الدين منجك إلى القدس الشريف ليبتني للسلطان مدرسة وخانقاه غربي المسجد الشريف، وأحضر الفرمان (1) الذي كتب له بماء الذهب إلى دمشق وشاهده الناس ووقعت على نسخته وفيها تعظيم رائد ومدح وثناء له، وشكر على متقدم خدمه لهذه الدولة، والعفو عما مضى من زلاته، وذكر سيرته بعبارة حسنة.
وفي أوائل شهر ربيع الآخر رسم على المعلم سنجر مملوك ابن هلال صاحب الاموال الجزيلة بمرسوم شريف قدم مع البريد وطلب منه ستمائة ألف درهم، واحتيط على العمارة التي أنشأها عند باب النطافيين ليجعلها مدرسة، ورسم بأن يعمر مكانها مكتب للايتام، وأن يوقف عليهم كتابتهم جارية عليهم، وكذلك رسم بأن يجعل في كل مدرسة من مدارس المملكة الكبار، وهذا مقصد جيد.
وسلم المعلم سنجر إلى شاد الدواوين (2) يستخلص منه المبلغ المذكور سريعا،
فعاجل بحمل مائتي ألف، وسيرت مع أمير عشرة إلى الديار المصرية.
الاحتياط على الكتبة والدواوين وفي يوم الاربعاء خامس عشر ربيع الآخر ورد من الديار المصرية أمير معه مرسوم بالاحتياط على دواوين السلطان، بسبب ما أكلوا من الاموال المرتبة للناس من الصدقات السلطانية وغير ذلك فرسم عليهم بدار العدل البرانية وألزموا بأموال جزيلة كثيرة، بحيث احتاجوا إلى بيع أثاثهم وأقمشتهم وفرشهم وأمتعتهم وغيرها، حتى ذكر أن منهم من لم يكن له شئ يعطيه فأحضر بناته إلى الدكة ليبيعهن فتباكى الناس وانتحبوا رحمة ورقة لابيهن، ثم أطلق بعضهم وهم الضعفاء منهم والفقراء الذين لا شئ معهم، وبقيت الغرامة على الكبراء منهم، كالصاحب (3) والمستوفين (4)، ثم شددت عليهم المطالبة وضربوا ضربا مبرحا، وألزموا الصاحب بمال كثير بحيث إنه احتاج إلى أن سأل من الامراء والاكابر والتجار بنفسه وبأوراقه، فأسعفوه بمبلغ كثير يقارب ما ألزم به، بعد
__________
(1) الفرمان: في اللغة ما يصدره السلطان أو الملك من الكتب للولاة والوكلاء والقصاد يعلن فيها تنصيبهم ومأموريتهم والجمع فرمانات وفرامين وفرامنة.
(محيط المحيط).
__________
(2) شاد الدواوين: كانت مهمته مرافقة الوزير والتفتيش عن مالية الدواوين وعلى موظفيها وعادته أمرة عشرة - أي تحت خدمته عشرة مماليك - (التعريف بمصطلحات صبح الاعشى ص 191).
__________
(3) تقدمت الاشارة إليه.
__________
(4) المستوفي: من كتاب الاموال بالدواوين وعمله ضبط الديوان التابع له والتنبيه على ما فيه مصلحته من استخراج أمواله ونحو ذلك وسمي لاهميته " قطب الديوان " لانه كان يقوم بضبط سير الاعمال اليومية بالديوان ومراقبة الموظفين هذا فضلا عن قيامه بتبليغ متولي الديوان بما يجب تحصيله من الموارد المالية في مواعيدها المحددة.
وتحمل المستوفي عدم التنبيه على مواعيد جباية الاموال أو أي تأخير أو إهمال في جباية المتحصلات (ابن مماتي: قوانين الدوانين ص 301 والتعريف بمصطلحات صبح الاعشى ص 310).

(14/308)


أن عري ليضرب، ولكن ترك واشتهر أنه قد عين عوضه من الديار المصرية، انتهى.
موت فياض بن مهنا ورد الخبر بذلك يوم السبت الثامن عشر منه، فاستبشر بذلك كثير من الناس، وأرسل إلى السلطان مبشرين بذلك، لانه كان قد خرج عن الطاعة وفارق الجماعة، فمات موتة جاهلية بأرض الشقاق والنفاق، وقد ذكرت عن هذا أشياء صدرت عنه من ظلم الناس، والافطار في شهر رمضان بلا عذر وأمره أصحابه وذويه بذلك في هذا الشهر الماضي، فإنا لله وإنا إليه راجعون، جاوز السبعين انتهى.
والله أعلم.
كائنة عجيبة جدا هي المعلم سنجر مملوك بن هلال في اليوم الرابع والعشرين من ربيع الآخر أطلق المعلم الهلالي بعد أن استوفوا منه تكميل ستمائة ألف درهم، فبات في منزله عند باب النطافيين سرورا بالخلاص، ولما أصبح ذهب إلى الحمام وقد ورد البرئى من جهة السلطان من الديار المصرية بالاحتياط على أمواله وحواصله، فأقبلت الحجبة ونقباء النقبة والاعوان من كل مكان، فقصدوا داره فاحتاطوا بها وعليها بما فيها، ورسم عليه وعلى ولديه، وأخرجت نساؤه من المنزل في حالة صعبة، وفتشوا النساء وانتزعوا عنهن الحلي والجواهر والنفائس، واجتمعت العامة والغوغاء، وحضر بعض القضاة ومعه الشهود بضبط الاموال والحجج والرهون، وأحضروا المعلم ليستعلموا منه جلية ذلك، فوجدوا من حاصل الفضة أول يوم ثلثمائة ألف وسبعين ألفا، ثم صناديق أخرى لم تفتح، وحواصل لم يصلوا إليها لضيق الوقت ثم أصبحوا يوم الاحد في مثل ذلك، وقد بات الحرس على الابواب والاسطحة لئلا يعدى عليها في الليل وبات هو وأولاده بالقلعة المنصورة محتفظا عليهم، وقد رق له كثير من الناس لما أصابه من المصيبة العظيمة بعد التي قبلها سريعا.
وفي أواخر هذا الشهر توفي الامير ناصر الدين محمد بن الدوادار السكري، كان ذا مكانة عند أستاذه، ومنزلة عالية، ونال من السعادة في وظيفته أقصاها، ثم قلب الله قلب أستاذه عليه فضربه وصادره وعزله وسجنه، ونزل قدره عند الناس، وآل به الحال إلى أن كان يقف على أتباعه بفرسه ويشتري منهم ويحاككهم، ويحمل حاجته معه في سرجه، وصار مثلة بين الناس، بعد أن
كان في غاية ما يكون فيه الدويدارية من العز والجاه والمال والرفعة في الدنيا، وحق على الله تعالى أن لا يرفع شيئا من أمر الدنيا إلا وضعه.
وفي صبيحة يوم الاحد سابع عشره أفرج عن المعلم الهلالي وعن ولديه، وكانوا معتقلين بالقلعة المنصورة، وسلمت إليهم دورهم وحواصلهم، ولكن أخذ ما كان حاصلا في داره، وهو

(14/309)


ثلاثمائة ألف وعشرون ألفا، وختم على حججه ليعقد لذلك مجلس ليرجع رأس ماله منها عملا بقوله تعالى (وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون) [ البقرة: 279 ] ونودي عليه في البلد إنما فعل به ذلك لانه لا يؤدي الزكاة ويعامل بالربا، وحاجب السلطان ومتولي البلد، وبقية المتعممين والمشاعلية تنادي عليه في أسواق البلد وأرجائها.
وفي اليوم الثامن والعشرين منه ورد المرسوم السلطاني الشريف بإطلاق الدواوين إلى ديارهم وأهاليهم، ففرح الناس بسبب ذلك لخلاصهم مما كانوا فيه من العقوبة والمصادرة البليغة، ولكن لم يستمر بهم في مباشراتهم.
وفي أواخر الشهر تكلم الشيخ شهاب الدين المقدسي الواعظ، قدم من الديار المصرية تجاه محراب الصحابة، واجتمع الناس إليه وحضر من قضاة القضاة الشافعي والمالكي، فتكلم على تفسير آيات من القرآن، وأشار إلى أشياء من إشارات الصوفية بعبارات طلقة معربة حادة صادعة للقلوب فأفاد وأجاد، وودع الناس بعوده إلى بلده، ولما دعا استنهض الناس للقيام، فقاموا في حال الدعاء، وقد اجتمعت به المجلس فرأيته حسن الهيئة والكلام والتأدب، فالله يصلحه وإيانا آمين.
وفي مستهل جمادى الآخرة ركب الامير سيف الدين بيدمر نائب حلب لقصد غزو بلاد سيس في جيش، لقاه الله النصر والتأييد (1).
وفي مستهل هذا الشهر أصبح أهل القلعة وقد نزل جماعة من أمراء الاعراب من أعالي مجلسهم في عمائم وحبال إلى الخندق وخاضوه وخرجوا من عند جسر الزلابية فانطلق اثنان وأمسك الثالث الذي تبقى في السجن، وكأنه كان يمسك لهم الحبال حتى
تدلوا فيها، فاشتد نكير نائب السلطنة على نائب القلعة، وضرب ابنيه النقيب وأخاه وسجنهما، وكاتب في هذه الكائنة إلى السلطان، فورد المرسوم بعزل نائب القلعة وإخراجه منها، وطلبه لمحاسبة ما قبض من الاموال السلطانية في مدة ست سني مباشرته، وعزل ابنه عن النقابة وابنه الآخر عن استدرائه السلطان، فنزلوا من عزهم إلى عزلهم.
وفي يوم الاثنين سابع عشره جاء الامير تاج الدين جبريل من عند الامير سيف الدين بيدمر نائب حلب، وقد فتح بلدين من بلاد سيس، وهما طرسوس وأذنة، وأرسل مفاتيحهما صحبة جبريل المذكور إلى السلطان أيده الله، ثم افتتح حصونا أخر كثيرة في أسرع مدة، وأيسر
__________
(1) فوصل في حملته إلى أدنه ونازلها وفتحها بالامان وأخذ طرسوس عنوة وفتح المصيصة وقلعة كلال ودعاليفون والجديدة وسنباط كلاغرون، واستناب عليها نواب من تحت يد السلطان ثم رجع بالعساكر سالمين (انظر الجوهر الثمين لابن دقماق 2 / 212 والسلوك 3 / 50 وبدائع الزهور 1 / 568 وقد ذكر خبر خروج هذه الحملة في حوادث سنة 760).

(14/310)


كلفة (1)، وخطب القاضي ناصر الدين كاتب السر خطبة بليغة حسنة، وبلغني في كتاب أن أبواب كنيسة أذنة حملت إلى الديار المصرية في المراكب.
قلت: وهذه هي أبواب الناصرية التي بالسفح، أخذها سيس عام قازان، وذلك في سنة تسع وتسعين وستمائة، فاستنفذت ولله الحمد في هذه السنة.
وفي أواخر هذا الشهر بلغنا أن الشيخ قطب الدين هرماس الذي كان شيخ السلطان طرد عن جناب مخدومه، وضرب وصودر، وخربت داره إلى الاساس، ونفي إلى مصياف، فاجتاز بدمشق ونزل بالمدرسة الجليلة ظاهر باب الفرج، وزرته فيمن سلم عليه، فإذا هو شيخ حسن عنده ما يقال ويلتفظ معربا جيدا، ولديه فضيلة، وعنده تواضع وتصوف، فالله يحسن عاقبته.
ثم تحول إلى العذراوية.
وفي صبيحة يوم السبت سابع شهر رجب توجه الشيخ شرف الدين أحمد بن الحسن بن
قاضي الجبل الحنبلي إلى الديار المصرية مطلوبا على البريد إلى السلطان لتدريس الطائفة الحنبلية بالمدرسة التي أنشأها السلطان بالقاهرة المعزية، وخرج لتوديعه القضاة والاعيان إلى أثناء الطريق، كتب الله سلامته، انتهى والله تعالى أعلم.
مسك نائب السلطنة استدمر اليحياوي وفي صبيحة يوم الاربعاء الخامس والعشرين من رجب قبض على نائب السلطنة الامير سيف الدين استدمر، أخي يلبغا اليحياوي، عن كتاب ورد من السلطان صحبة الدوادار (2) الصغير، وكان يومئذ راكبا بناحية ميدان ابن بابك، فلما رجع إلى عند مقابر اليهود والنصارى احتاط عليه الحاجب الكبير ومن معه من الجيش وألزموه بالذهاب إلى ناحية طرابلس، فذهب من على طريق الشيخ رسلان، ولم يمكن من المسير، إلى دار السعادة، ورسم عليه من الجند من أوصله إلى طرابلس مقيما بها بطالا، فسبحان من بيده ملكوت كل شئ، يفعل ما يشاء.
وبقي البلد بلا نائب يحكم فيه الحاجب الكبير عن مرسوم السلطان، وعين للنيابة الامير سيف الدين بيدمر النائب بحلب.
وفي شعبان وصل تقليد الامير سيف الدين بيدمر بنيابة دمشق، ورسم له أن يركب في طائفة من جيش حلب ويقصد الامير خيار بن مهنا ليحضره إلى خدمة السلطان، وكذلك رسم لنائب
__________
(1) انظر الحاشية السابقة.
__________
(2) الدوادار: اسم فارسي مركب من لفظين أحدهما عربي وهو الدواة، والثاني دار ومعناها ممسك.
وصاحب وظيفة الدوا دارية هو الذي يحمل دواة السلطان أو الامير أو غيرهما ويتولى أمرها مع ما يلحق ذلك من المهمات نحو تبليغ الرسائل عن السلطان أو الامير وابلاغ عامة الامور.
(التعريف بمصطلحات صبح الاعشى ص 139).

(14/311)


حماة وحمص أن يكونا عونا للامير سيف الدين بيدمر في ذلك، فلما كان يوم الجمعة رابعه التقوا مع خيار عند سلمية، فكانت بينهم مناوشات، فأخبرني الامير تاج الدين الدودار وكان مشاهد الوقعة أن الاعراب أحاطوا بهم من كل جانب، وذلك لكثرة العرب وكانوا نحو الثمانمائة،
وكانت الترك من حماة وحمص وحلب مائة وخمسين، فرموا الاعراب بالنشاب فقتلوا منهم طائفة كثيرة، ولم يقتل من الترك سوى رجل واحد، رماه بعض الترك ظانا أنه من العرب بناشج فقتله، ثم حجز بينهم اليل، وخرجت الترك من الدائرة، ونهبت أموال من الترك ومن العرب، وجرت فتنة وجردت أمراء عدة من دمشق لتدارك الحال، وأقام نائب السلطنة هناك ينتظر ورودهم، وقدم الامير عمر الملقب بمصمع بن موسى بن مهنا من الديار المصرية أميرا على الاعراب وفي صحبته الامير بدر الدين بن جماز أميران على الاعراب، فنزل مصمع بالقصر الابلق، ونزل الامير رملة بالتوزية على عادته ثم توجها إلى ناحية خيار بمن معهما من عرب الطاعة ممن أضيف إليهم من تجريدة دمشق ومن يكون معهم من جيش حماة وحمص لتحصيل الامير خيار، وإحضاره إلى الخدمة الشريفة فالله تعالى يحسن العاقبة.
دخول نائب السلطنة الامير سيف الدين بيدمر إلى دمشق وذلك صبيحة يوم السبت التاسع عشر من شعبان، أقبل بجيشه من ناحية حلب وقد بات بوطأة برزة ليلة السبت، وتلقاه الناس إلى حماة ودونها، وجرت له وقعة مع العرب كما ذكرنا، فلما كان هذا اليوم دخل في أبهة عظيمة، وتجمل حافل، فقبل العتبة على العادة، ومشى إلى دار السعادة، ثم أقبلت جنائبه في لبوس هائلة باهرة، وعدد كثير وعدد ثمينة، وفرح المسلمون به لشهامته وصرامته وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، والله تعالى يؤيده ويسدده.
وفي يوم الجمعة ثاني شهر رمضان خطبت الحنابلة بجامع القبيبات وعزل عنه القاضي شهاب الدين قاضي العسكر الحنبلي، بمرسوم نائب السلطان لانه كان يعرف أنه كان مختصرا بالحنابلة منذ عين إلى هذا الحين.
وفي يوم الجمعة السادس عشر منه قتل عثمان بن محمد المعروف بابن دبادب الدقاق بالحديد على ما شهد عليه به جماعة لا يمكن تواطؤهم على الكذب، أنه كان يكثر من شتم الرسول صلى الله عليه وسلم، فرفع إلى الحاكم المالكي وادعى عليه فأظهر التجابن، ثم استقر أمره على أن قتل قبحه الله وأبعده ولا رحمه.
وفي يوم الاثنين السادس والعشرين منه قتل محمد المدعو زبالة الذي بهتار لابن معبد على ما صدر منه من سب النبي صلى الله عليه وسلم ودعواه أشياء كفرية، وذكر عنه أنه كان يكثر الصلاة والصيام، ومع هذا يصدر منه أحوال بشعة في حق أبي بكر وعمر وعائشة أم المؤمنين، وفي حق النبي صلى الله عليه وسلم،

(14/312)


فضربت عنقه أيضا في هذا اليوم في سوق الخيل ولله الحمد والمنة.
وفي ثالث عشر شوال خرج المحمل السلطاني وأميره الامير ناصر الدين بن قراسنقر وقاضي الحجيج الشيخ شمس الدين محمد بن سند المحدث، أحد المفتيين.
وفي أواخر شهر شوال أخذ رجل يقال له حسن، كان خياطا بمحلة الشاغور، ومن شأنه أن ينتصر لفرعون لعنه الله، ويزعم أنه مات على الاسلام ويحتج بأنه في سورة يونس حين أدركه الغرق قال (آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين) [ يونس: 90 ] ولا يفهم معنى قوله (الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين) [ يونس: 91 ] ولا معنى قوله (فأخذه الله نكال الآخرة والاولى) [ النازعات: 25 ] ولا معنى قوله (فأخذناه أخذا وبيلا) [ المزمل: 16 ] إلى غير ذلك من الآيات والاحاديث الكثيرة الدالة على أن فرعون أكفر الكافرين كما هو مجمع عليه بين اليهود والنصارى والمسلمين.
وفي صبيحة يوم الجمعة سادس القعدة قدم البريد بطلب نائب السلطنة إلى الديار المصرية في تكريم وتعظيم، على عادة تنكز، فتوجه النائب إلى الديار المصرية وقد استصحب معه تحفا سنية وهدايا معظمة تصلح للايوان الشريف.
في صبيحة السبت رابع عشره، خرج ومعه القضاة والاعيان من الحجبة والامراء لتوديعه.
وفي أوائل ذي الحجة ورد كتاب من نائب السلطنة بخطه إلى قاضي القضاة تاج الدين الشافعي يستدعيه إلى القدس الشريف، وزيارة قبر الخليل، ويذكر فيه ما عامله به السلطان من الاحسان والاكرام والاحترام والاطلاق والانعام من الخيل والتحف والمال والغلات فتوجه نحوه قاضي القضاة يوم الجمعة بعد الصلاة رابعه على ستة من خيل البريد، ومعه تحف وما يناسب من الهدايا، وعاد عشية يوم الجمعة ثامن عشره إلى بستانه.
ووقع في هذا الشهر والذي قبله سيول كثيرة جدا في أماكن متعددة، من ذلك ما شاهدنا آثاره في مدينة بعلبك، أتلف شيئا كثيرا من الاشجار، واخترق أماكن كثيرة متعددة عندهم، وبقي آثار سيحه على أماكن كثيرة، ومن ذلك سيل وقع بأرض جعلوص أتلف شيئا كثيرا جدا، وغرق فيه قاضي تلك الناحية، ومعه بعض الاخيار، كانوا وقوفا على أكمة فدهمهم أمر عظيم، ولم يستطيعوا دفعه ولا منعه، فهلكوا.
ومن ذلك سيل وقع بناحية حسة جمال فهلك به شئ كثير من الاشجار والاغنام والاعناب وغيرها.
ومن ذلك سيل بأرض حلب هلك به خلق كثير من التركمان وغيرهم، رجالا ونساء وأطفالا وغنما وإبلا.
قرأته من كتاب من شاهد ذلك عيانا، وذكر أنه سقط عليهم برد وزنت الواحدة منه فبلغت زنتها سبعمائة درهم وفيه ما هو أكبر من ذلك وأصغر، انتهى.

(14/313)


الامر بإلزام القلندرية بترك حلق لحاهم وحواجبهم وشواربهم وذلك محرم بالاجماع حسب ما حكاه ابن حازم وإنما ذكره بعض الفقهاء بالكراهية ورد كتاب من السلطان أيده الله إلى دمشق في يوم الثلاثاء خامس عشر ذي الحجة، بإلزامهم بزي المسلمين وترك زي الاعاجم والمجوس، فلا يمكن أحد منهم من الدخول إلى بلاد السلطان حتى يترك هذا الزي المبتدع، واللباس المستشنع، ومن لا يلتزم بذلك يعزر شرعا، ويقلع من قراره قلعا، وكان اللائق أن يؤمروا بترك أكل الحشيشة الخسيسة، وإقامة الحد عليهم بأكلها وسكرها، كما أفتى بذلك بعض الفقهاء.
والمقصود أنهم نودي عليهم بذلك في جميع أرجاء البلد ونواحيه في صبيحة يوم الاربعاء ولله الحمد والمنة.
وبلغنا في هذا الشهر وفاة الشيخ الصالح الشيخ أحمد بن موسى الزرعي بمدينة جبراص يوم الثلاثاء خامس ذي الحجة، وكان من المبتلين بالامر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقيام في مصالح الناس عند السلطان والدولة، وله وجاهة عند الخاص والعام، رحمه الله.
والامير سيف الدين كحلن بن الاقوس، الذي كان حاجبا بدمشق وأميرا، ثم عزل عن ذلك كله، ونفاه
السلطان إلى طرابلس فمات هناك.
وقدم نائب السلطنة الامير سيف الدين بيدمر عائدا من الديار المصرية، وقد لقي من السلطان إكراما وإحسانا زائدا فاجتاز في طريقه بالقدس الشريف فأقام به يوم عرفة والنحر، ثم سلك على طريق غابة أرصوف يصطاد بها فأصابه وعك منعه عن ذلك، فأسرع السير فدخل دمشق من صبيحة يوم الاثنين الحادي والعشرين منه في أبهة هائلة، ورياسة طائلة، وتزايد وخرج العامة للتفرج عليه والنظر إليه في مجيئه هذا، فدخل وعليه قباء معظم ومطرز، وبين يديه ما جرت به العادة من الحوفية والشاليشية وغيرهم، ومن نيته الاحسان إلى الرعية والنظر في أحوال الاوقاف وإصلاحها على طريقة تنكز رحمه الله، انتهى والله أعلم.
ثم دخلت سنة اثنتين وستين وسبعمائة استهلت هذه السنة المباركة وسلطان الاسلام بالديار المصرية والشامية والحرمين الشريفين وما يتبع ذلك ويلتحق به الملك الناصر حسن بن الملك الناصر محمد بن الملك المنصور قلاوون الصالحي، ولا نائب له بالديار المصرية، وقضاته بها هم المذكورون في العام الماضي، ووزيره القاضي ابن اخصيب ونائب الشام بدمشق الامير سيف الدين بيدمر الخوارزمي، والقضاة

(14/314)


والخطيب وبقية الاشراف وناظر الجيش (1) والمحتسب (2) هم المذكورون في العام الماضي، والوزير ابن قروينة (3)، وكاتب السر القاضي أمين الدين بن القلانسي، ووكيل بيت المال القاضي صلاح الدين الصفدي وهو أحد موقعي الدست (4) الاربعة.
وشاد الاوقاف الامير ناصر الدين بن فضل الله، وحاجب الحجا ب اليوسفي، وقد توجه إلى الديار المصرية ليكون بها أمير جنهار (5)، ومتولي البلد ناصر الدين، ونقيب النقباء ابن الشجاعي.
وفي صبيحة يوم الاثنين سادس المحرم قدم الامير على نائب حماة منها فدخل دمشق مجتازا إلى الديار المصرية فنزل في القصر الابلق ثم تحول إلى دار دويداره يلبغا الذي جدد فيها مساكن كثيرة بالقصاعين.
وتردد الناس إليه للسلام عليه، فأقام بها إلى صبيحة يوم الخميس تاسعه، فسار إلى الديار المصرية.
وفي يوم الاحد تاسع عشر المحرم أحضر حسن بن الخياط من محلة الشاغور إلى مجلس الحكم المالكي من السجن، وناظر في إيمان فرعون وادعي عليه بدعاوى لانتصاره لفرعون لعنه الله، وصدق ذلك باعترافه أولا ثم بمناظرته في ذلك ثانيا وثالثا، وهو شيخ كبير جاهل عامي ذا نص لا يقيم دليلا ولا يحسنه، وإنما قام في مخيلته شبهة يحتج عليها بقوله إخبارا عن فرعون حين أدركه الغرق، وأحيط به ورأى بأس الله، وعاين عذابه الاليم، فقال حين الغرق إذا (آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين) [ يونس: 90 ] قال الله تعالى (الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية) [ يونس: 91 ] فاعتقد هذا العامي أن هذا الايمان الذي صدر من فرعون والحالة هذه ينفعه، وقد قال تعالى (فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم بما رأوا بأسنا سنة الله التي قد
__________
(1) ناظر الجيش: وهو المشرف على ديوان الجيش، وديوان الجيش يشرف على جيش المماليك في وقت السلم أو في وقت الحرب ويعمل في هذا الديوان أرباب القلم، وكان يعاون ناظر الجيش عدد من الكتاب وكان يعين بتكليف أو وصية.
(التعريف بمصطلحات صبح الاعشى ص 342).
__________
(2) المحتسب: من وجوه العدول وأعيانهم، يده مطلقة في الامر بالمعروف والنهي عن المنكر على قاعدة الحسبة ويتحدث في أمر المكاييل والموازين ولا يحال بينه وبين مصلحة إذا رآها.
قال المقريزي: وله استخدام النواب عنه (خطط 1 / 463) و (التعريف بمصطلحات صبح الاعشى ص 302).
__________
(3) وهو فخر الدين بن قروينة القبطي، أخلع عليه وقرر في الوزارة عوضا عن تاج الدين بن ريشة (انظر بدائع الزهور 1 / 567).
__________
(4) موقع الدست هو الذي يوقع على القصص بمصر والشام، ومثله صاحب كتب المظالم في دولة الموحدين بالمغرب (صبح الاعشى 5 / 140).
__________
(5) كذا بالاصل، ولم أجدها فيما بين يدي من مراجع، ولعلها: جندار، وأمير جندار يستأذن على دخول الامراء للخدمة ويدخل أمامهم إلى الديوان ومقدم البريد مع الدوادار وكاتب السر.
وأمير جاندار هو الذي يطوف بالزفة حول السلطان في سفره (صبح الاعشى 4 / 20 زبدة كشف الممالك ص 111 والتعريف بمصطلحات صبح الاعشى ص 48).

(14/315)


خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون) [ غافر: 84 - 86 ] وقال تعالى: (إن الذين حقت عليهم كلمت ربك لا يؤمنون به ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الاليم.
قال قد أجيبت دعوتكما) الآية [ يونس: 96 ].
ثم حضر في يوم آخر وهو مصمم على ضلاله فضرب بالسياط، فأظهر التوبة ثم أعيد إلى السجن في زنجير، ثم أحضر يوما ثالثا وهو يستهل بالتوبة فيما يظهر، فنودي عليه في البلد ثم أطلق.
وفي ليلة الثلاثاء الرابع عشر طلع القمر خاسفا كله ولكن كان تحت السحاب، فلما ظهر وقت العشاء وقد أخذ في الجلاء صلى الخطيب صلاة الكسوف قبل العشاء، وقرأ في الاولى بسورة العنكبوت وفي الاخرى بسورة يس، ثم صعد المنبر فخطب ثم نزل بعد العشاء.
وقدمت كتب الحجاج يخبرون بالرخص والامن، واستمرت زيادة الماء من أول ذي الحجة وقبلها إلى هذه الايام من آخر هذا الشهر والامر على حاله، وهذا شئ لم يعهد كما أخبر به عامة الشيوخ، وسببه أنه جاء ماء من بعض الجبال انهال في طريق النهر.
ودخل المحمل السلطاني يوم الثلاثاء الحادي والعشرين من المحرم قبل الظهر، ومسك أمير الحاج شركتمر المارداني الذي كان مقيما بمكة شرفها الله تعالى، وحماها من الاوغاد، فلما عادت التجريدة مع الحجاج إلى دمشق صحبة القراسنقر من ساعة وصوله إلى دمشق، فقيد وسير إلى الديار المصرية على البريد، وبلغنا أن الامير سند أمير مكة غرر بجند السلطان الذين ساروا صحبة ابن قراسنقر وكبسهم وقتل من حواشيهم وأخذ خيولهم، وأنهم ساروا جرائد بغير شئ مسلوبين إلى الديار المصرية، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وفي أول شوال اشتهر فيه وتواتر خبر الفناء الذي بالديار المصرية بسبب كثرة المستنقعات من فيض النيل عندهم، على خلاف المعتاد، فبلغنا أنه يموت من أهلها كل يوم فوق الالفين، فأما المرض فكثير جدا، وغلت الاسعار لقلة من يتعاطى الاشغال، وغلا السكر والامياه والفاكهة جدا، وتبرز السلطان إلى ظاهر البلد وحصل له تشويش أيضا، ثم عوفي بحمد الله.
وفي ثالث ربيع الآخر قدم من الديار المصرية ابن الحجاف رسول الله صاحب العراق لخطبة بنت السلطان، فأجابهم إلى ذلك بشرط أن يصدقها مملكة بغداد، وأعطاهم مستحقا سلطانيا، وأطلق لهم من التحف والخلع والاموال شيئا كثيرا، ورسم الرسول بمشترى قرية من بيت المال لتوقف على الخانقاه التي يريد أن يتخذها بدمشق قريا من الطواريس ؟، وقد خرج لتلقيه نائب الغيبة وهو حاجب الحجاب، والدولة والاعيان.
وقرأت في يوم الاحد سابع شهر ربيع الآخر كتابا ورد من حلب بخط الفقيه العدل شمس الدين العراقي من أهلها، ذكر فيه أنه كان في حضرة نائب السلطنة في دار العدل يوم الاثنين السابع عشر من ربيع الاول وأنه أحضر رجل قد ولد له ولد عاش ساعة ومات، وأحضره معه وشاهده الحاضرون، وشاهده كاتب الكتاب، فإذا هو شكل

(14/316)


سوي له على كل كتف رأس بوجه مستدير، والوجهان إلى ناحية واحدة فسبحان الخلاق العليم.
وبلغنا أنه في هذا الشهر (1) سقطت المنارة التي بنيت للمدرسة السلطانية بمصر، وكانت مستجدة على صفة غريبة، وذلك أنها منارتان على أصل واحد فوق قبو الباب الذي للمدرسة المذكورة، فلما سقطت أهلكت خلقا كثيرا من الصناع بالمدرسة والمارة والصبيان الذين في مكتب المدرسة، ولم ينج من الصبيان فيما ذكر شئ سوى ستة، وكان جملة من هلك بسببها نحو ثلثمائة نفس، وقيل أكثر وقيل أقل، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وخرج نائب السلطنة الامير سيف الدين بيدمر إلى الغيضة لاصلاحها وإزالة ما فيها من الاشجار المؤذية والدغل يوم الاثنين التاسع والعشرين من الشهر، وكان سلخه، وخرج معه جميع الجيش من الامراء وأصحابه، وأجناد الحلقة برمتهم لم يتأخر منهم أحد، وكلهم يعملون فيها بأنفسهم وغلمانهم، وأحضر إليهم خلق من فلاحي المراج والغوطة وغير ذلك، ورجع يوم السبت خامس الشهر الداخل وقد نظفوها من الغل والدغل والغش.
واتفقت كائنة غريبة لبعض السؤال، وهو أنه اجتمع جماعة منهم قبل الفجر ليأخذوا خبزا من صدقة تربة امرأة ملك الامراء تنكز عند باب الخواصين، فتضاربوا فيما بينهم فعمدوا إلى رجل
منهم فخنقوه خنقا شديدا، وأخذوا منه جرابا فيه نحو من أربعة آلاف درهم.
وشئ من الذهب وذهبوا على حمية، وأفاق هو من الغشي فلم يجدهم، واشتكى أمره إلى متولي البلد فلم يظفر بهم إلى الآن، وقد أخبرني الذي أخذوا منه أنهم أخذوا منه ثلاثة آلاف درهم معاملة، وألف درهم بندقية ودينارين وزنهما ثلاثة دنانير.
كذا قال لي إن كان صادقا.
وفي صبيحة يوم السبت خامس جمادى الاولى طلب قاضي القضاة شرف الدين الحنفي للشيخ علي بن البنا، وقد كان يتكلم في الجامع الاموي على العوام، وهو جالس على الارض شئ من الرعظيات وما أشبهها من صدره، فكأنه تعرض في غضون كلامه لابي حنيفة رحمه الله، فأحضر فاستتيب من ذلك، ومنعه قاضي القضاة شرف الدين الكفري من الكلام على الناس وسجنه، وبلغني أنه حكم بإسلامه وأطلقه يومه، وهذا المذكور ابن البنا عنده زهادة وتعسف، وهو مصري يسمع الحديث ويقرأه، ويتكلم بشئ من الوعظيات والرقائق، وضرب أمثال، وقد مال إليه كثير من العوام واستحلوه، وكلامه قريب إلى مفهومهم، وربما أضحك في كلامه، وحاضرته وهو مطبوع قريب إلى الفهم، ولكنه أشار فيما ذكر عنه في شطحته إلى بعض الاشياء التي لا تنبغي أن تذكر، والله الموفق، ثم إنه جلس للناس في يوم الثلاثاء ثامنه فتكلم على عادته فتطلبه القاضي المذكور فيقال إن المذكور تعنت انتهى والله أعلم.
__________
(1) في بدائع الزهور 1 / 575: في سادس ربيع الاول.

(14/317)


سلطنة الملك المنصور صلاح الدين محمد ابن الملك المظفر حاجي بن الملك الناصر محمد بن الملك المنصور قلاوون بن عبد الله الصالحي وزوال دولة عمه الملك الناصر حسن بن الملك الناصر محمد بن الملك المنصور قلاوون.
لما كثر طمعه وتزايد شرهه، وساءت سيرته إلى رعيته، وضيق عليهم في معايشهم وأكسابهم، وبنى البنايات الجبارة التي لا يحتاج إلى كثير منها، واستحوذ على كثير من أملاك بيت المال وأمواله، واشترى منه قرايا كثيرة ومدنا أيضا ورساتيق، وشق ذلك على الناس جدا، ولم
يتجاسر أحد من القضاة ولا الولاة ولا العلماء ولا الصلحاء على الانكار عليه، ولا الهجوم عليه، ولا النصيحة له بما هو المصلحة له وللمسلمين، انتقم الله منه فسلط عليه جنده وقلب قلوب رعيته من الخاصة والعامة عليه، لما قطع من أرزاقهم ومعاليمهم وجوامكهم وأخبازهم، وأضاف ذلك جميعه إلى خاصته، فقلت الامراء والاجناد والمقدمون والكتاب والموقعون، ومس الناس الضرر وتعدى على جوامكهم وأولادهم ومن يلوذ بهم، فعند ذلك قدر الله تعالى هلاكه على يد أحد خواصه وهو الامير الكبير سيف الدين يلبغا الخاصكي.
وذلك أنه أراد السلطان مسكه فاعتد لذلك، وركب السلطان لمسكه فركب هو في جيش، وتلاقيا في ظاهر القاهرة حيث كانوا نزولا في الوطاقات (1)، فهزم السلطان بعد كل حساب، وقد قتل من الفريقين طائفة، ولجأ السلطان إلى قلعة الجبل، كلا ولاوزر، ولن ينجي حذر من قدر، فبات الجيش بكماله محدقا بالقلعة، فهم بالهرب في الليل على هجن كان قد اعتدها ليهرب إلى الكرك، فلما برز مسك واعتقل ودخل به إلى دار يلبغا الخاصكي المذكور، وكان آخر العهد به (2)، وذلك في يوم الاربعاء تاسع جمادى الاولى من هذه السنة، وصارت الدولة والمشورة متناهية إلى الامير سيف الدين يلبغا الخاصكي، فاتفقت الآراء واجتمعت الكلمة وانعقد ت البيعة للملك المنصور صلاح الدين محمد بن المظفر حاجي، وخطب الخطباء وضربت السكة، وسارت البريدية للبيعة باسمه الشريف، هذا وهو ابن ثنتي عشرة، وقيل أربع عشرة، ومن الناس من قال ست عشرة، ورسم في عود الامور إلى ما كانت عليه في أيام والده الناصر محمد بن قلاوون، وأن يبطل جميع ما كان أخذه الملك الناصر حسن، وأن تعاد المرتبات والجوامك التي كان قطعها، وأمر بإحضار طاز وطاشتمر القاسمي من سجن اسكندرية إلى بين يديه ليكونا أتابكا، وجاء الخبر إلى دمشق صحبة الامير سيف الدين بزلارشاد
__________
(1) وذلك في كوم برا، وكان السلطان قد توجه إليها في زمن الربيع وطابت له الاقامة هناك حيث كان بالقاهرة أوخام ووباء مع أمراض شديدة بالناس فاستمر مقيما هنالك، نحو ثلاثة أشهر.
(بدائع الزهور 1 / 573 والجوهر الثمين لابن دقماق 2 / 213).
__________
(2) حيث قتل في ذات الليلة التي قبض عليه فيها (السلوك 3 / 60 - 62) وفي بدائع الزهور 1 / 577: قيل انه خنق
ورميت جثته في البحر، وقيل إنه مات تحت العقوبة ودفن في مصطبته...وقيل دفنه في بعض الكيمان في مصر العتيقة وأخفى قبره على الناس.

(14/318)


التربخاناة أحد أمراء الطبلخانات بمصر صبيحة يوم الاربعاء سادس عشر الشهر، فضربت البشائر بالقلعة وطبلخانات الامراء على أبوابهم، وزين البلد بكماله، وأخذت البيعة له صبيحة يومه بدار السعادة وخلع عن نائب السلطنة تشريف هائل، وفرح أكثر الامراء والجند والعامة ولله الامر، وله الحكم.
قال تعالى (قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء) الآية [ آل عمران: 26 ].
ووجد على حجر بالحميرية فقرئت للمأمون فإذا مكتوب: ما اختلف الليل والنهار ولا * دارت نجوم السماء في الفلك إلا لنقل النعيم من ملك * قد زال سلطانه إلى ملك وملك ذي العرش دائم أبدا * ليس بفان ولا بمشترك وروي عن سليمان بن عبد الملك بن مروان أنه خرج يوما لصلاة الجمعة، وكان سوي الخلق حسنه، وقد لبس حلة خضراء، وهو شاب ممتلئ شبابا، وينظر في أعطافه ولباسه، فأعجبه ذلك من نفسه، فلما بلغ إلى صرحة الدار تلقته جنية في صورة جارية من حظاياه فأنشدته: أنت نعم لو كنت تبقى * غير أن لا حياة للانسان ليس فيما علمت فيك عي * ب يذكر غير أنك فان فصعد المنبر الذي في جامع دمشق وخطب الناس، وكان جهوري الصوت يسمع أهل الجامع وهو قائم على المنبر، فضعف صوته قليلا قليلا حتى لم يسمعه أهل المقصورة، فلما فرغ من الصلاة حمل إلى منزله فاستحضر تلك الجارية التي تبدت تلك الجنية على صورتها، وقال: كيف أنشدتيني تينك البيتين ؟ فقالت: ما أنشدتك شيئا.
فقال: الله أكبر نعيت والله إلي تفسي.
فأوصى أن يكون الخليفة من بعده ابن عمه عمر بن عبد العزيز رحمه الله.
وقدم نائب طرابلس المعزول عليلا والامير سيف الدين استدمر الذي كان نائب دمشق وكانا
مقيمان بطرابلس جميعا، في صبيحة يوم السبت السادس والعشرين منه، فدخلا دار السعادة فلم يحتفل بهما نائب السلطنة.
وتكامل في هذا الشهر تجديد الرواق غربي الناطفانيين إصلاحا بدر ابزيناته وتبييضا لجدرانه ومحراب فيه، وجعل له شبابيك في الدرا بزينات، ووقف فيه قراءة قرآن بعد المغرب، وذكروا أن شخصا رأى مناما فقصه على نائب السلطنة فأمر بإصلاحه.
وفيه نهض بناء المدرسة التي إلى جانب هذا المكان من الشباك، وقد كان أسسها أولا علم الدين بن هلال، فلما صودر أخذت منه وجعلت مضافة إلى السلطان، فبنوا فوق الاساسات وجعلوا لها خمسة شبابيك من شرقها، وبابا قبليا، ومحرابا وبركة وعراقية، وجعلوا حائطها بالحجارة البيض والسود، وكملوا عاليها بالآجر، وجاءت

(14/319)


في غاية الحسن، وقد كان السلطان الناصر حسن قد رسم بأن تجعل مكتبا للايتام فلم يتم أمرها حتى قتل كما ذكرنا.
واشتهر في هذا الشهر أن بقرة كانت تجئ من ناحية باب الجابية تقصد جراء لكلبة قد ماتت أمهم، وهي في ناحية كنيسة مريم في خرابة، فتجئ إليهم فتنسطح على شقها فترضع أولئك الجراء منها، تكرر هذا منها مرارا، وأخبرني المحدث المفيد التقي نور الدين أحمد بن المقصوص بمشاهدته ذلك.
وفي العشر الاوسط من جمادى الآخرة نادى مناد من جهة نائب السلطنة حرسه الله تعالى في البلد أن النساء يمشين في تستر ويلبسن أزرهن إلى أسفل من سائر ثيابهن، ولا يظهرن زينة ولا يدا، فامتثلن ذلك ولله الحمد والمنة.
وقدم أمير العرب جبار بن مهنا في أبهة هائلة، وتلقاه نائب السلطنة إلى أثناء الطريق، وهو قاصد إلى الابواب الشريفة.
وفي أواخر رجب قدم الامير سيف الدين تمر المهندار (1) من نيابة غزة حاجب الحجاب بدمشق، وعلى مقدمة رأس الميمنة، وأطلق نائب السلطنة مكوسات كثيرة، مثل مكس الحداية والخزل المرددن الحلب والطبابي، وأبطل ما كان يؤخذ من المحتسبين زيادة على نصف درهم، وما يؤخذ من أجرة عدة الموتى كل ميت بثلاثة ونصف،
وجعل العدة التي في القيسارية للحاجة مسبلة لا تنحجر على أحد في تغسيل ميت، وهذا حسن جدا، وكذلك منع التحجر في بيع البلح المختص به، وبيع مثل بقية الناس من غير طرحان فرخص على الناس في هذه السنة جدا، حتى قيل إنه بيع القنطار بعشرة، وما حولها.
وفي شهر شعبان قدم الامير جبار بن مهنا من الديار المصرية فنزل القصر الابلق وتلقاه نائب السلطنة وأكرم كل منهما الآخر، ثم ترحل بعد أيام قلائل، وقدم الامراء الذين كانوا بحبس الاسكندرية في صبيحة يوم الجمعة سابعه، وفيهم الامير شهاب الدين بن صبح وسيف الدين طيدمر الحاجب، وطيبرف ومقدم ألف، وعمر شاه، وهذا ونائب السلطنة الامير سيف الدين بيدمر أعزه الله يبطل المكوسات شيئا بعد شئ مما فيه مضرة بالمسلمين، وبلغني عنه أن من عزمه أن يبطل جميع ذلك إن أمكنه الله من ذلك، آمين انتهى.
تنبيه على واقعة غريبة واتفان عجيب نائب السلطنة الامير سيف الدين بيدمر فيما بلغنا في نفسه عتب على أتابك الديار المصرية
__________
(1) المهندار: صاحب هذه الوظيفة يقوم بلقاء الرسل والعربان الواردين على السلطان وينزلهم دار الضيابة.
وهو مركب من لفظين فارسيين: مهمن بفتح الميمين ومعناه الضيف والثاني: دار ومعناه ممسك، والمعنى إجمالا: القائم على أمره (التعريف بمصطلحات صبح الاعشى ص 334).

(14/320)


الامير سيف الدين يلبغا الخاصكي مدبر الدولة (1) بها، وقد توسم وتوهم منه أنه يسعى في صرفه عن الشام، وفي نفس نائبنا قوة وصرامة شديدة، فتنسم منه ببعض الاباء عن طاعة يلبغا، مع استمراره على طاعة السلطان، وأنه إن اتفق عزل من قبل يلبغا أنه لا يسمع ولا يطيع، فعمل أعمالا واتفق في غضون هذا الحال موت نائب القلعة المنصورة بدمشق وهو الامير سيف الدين برناق الناصري فأرسل نائب السلطنة من أصحابه وحاشيته من يتسلم القلعة برمتها، ودخل هو بنفسه إليها، وطلب الامير زين الدين زبالة الذي كان فقيها ثم نائبها وهو من أخبر الناس بها وبخطاتها وحواصلها، فدار معه فيها وأراه حصونها وبروجها ومفاتحها وأغلاقها ودورها وقصورها
وعددها وبركتها، وما هو معد فيها ولها، وتعجب الناس من هذا الاتفاق في هذا الحال، حيث لم يتفق ذلك لاحد من النواب قبله قط، وفتح الباب الذي هو تجاه دار السعادة وجعل نائب السلطنة يدخل منه إلى القلعة ويخرج بخدمه وحشمه وأبهته يكشف أمرها وينظر في مصالحها أيده الله.
ولما كان يوم السبت خامس عشر شعبان ركب في الموكب على العادة واستدعى الامير سيف الدين استدمر الذي كان نائب الشام، وهو في منزله كالمعتقل فيه، لا يركب ولا يراه أحد، فأحضره إليه وركب معه، وكذلك الامراء الذين قدموا من الديار المصرية: طبترق، وهو أحد أمراء الالوف وطيدمر الحاجب، كان، وأماابن صبح وعمر شاه فإنهما كانا قد سافرا يوم الجمعة عشية النهار، والمقصود أنه سيرهم وجميع الامراء بسوق الخيل، ونزل بهم كلهم إلى دار السعادة فتعاهدوا وتعاقدوا واتفقوا على أن يكونوا كلهم كتفا واحدا، وعصبة واحدة على مخالفة من أرادهم بسوء وأنهم يد على سواهم ممن أراد عزل أحد منهم أو قتله، وأن من قاتلهم قاتلوه، وأن السلطان هو ابن أستاذهم الملك المنصور بن حاجي بن الناصر بن المنصور قلاوون، فطاوعوا كلهم لنائب السلطنة على ما أراد من ذلك، وحلفوا له وخرجوا من عنده على هذا الحلف، وقام نائب السلطنة على عادته في عظمة هائلة، وأبهة كثيرة، والمسؤول من الله حسن العاقبة.
وفي صبيحة يوم الاحد سادس عشر شعبان أبطل ملك الامراء المكس الذي يؤخذ من الملح وأبطل مكس الافراح، وأبطل أن لا تغني امرأة لرجال، ولا رجل لنساء، وهذا في غاية ما يكون من المصلحة العظيمة الشامل نفعها.
وفي يوم الثلاثاء ثامن عشرة شرع نائب السلطنة سيف الدين بيدمر في نصب مجانيق على أعالي بروج القلعة، فنصبت أربع مجانيق من جهاتها الاربع، وبلغني أنه نصب آخر في أرضها عند البحرة، ثم نصب آخر وآخر حتى شاهد الناس ستة مجانيق على ظهور الابرجة، وأخرج منها القلعية وأسكنها خلقا من الاكراد والتركمان وغيرهم من الرجال الانجاد، ونقل إليها من الغلات والاطعمة والامتعة وآلات الحرب شيئا كثيرا، واستعد للحصار إن حوصر
__________
(1) مدبر الدولة: من ألقاب الوزراء وكتاب السر ومرتبته المقر الشريف (التعريف بمصطلحات صبح الاعشى ص 305).

(14/321)


فيها بما يحتاج إليه من جميع ما يرصد من القلاع، بما يفوت الحصر.
ولما شاهد أهل البساتين المجانيق قد نصبت في القلعة انزعجوا وانتقل أكثرهم من البساتين إلى البلد، ومنهم من أودع عند أهل البلد نفائس أموالهم وأمتعتهم، والعاقبة إلى خير إن شاء الله تعالى.
وجاءتني فتيا صورتها: ما تقول السادة العلماء في ملك اشترى غلاما فأحسن إليه وأعطاه وقدمه، ثم إنه وثب على سيده فقتله وأخذ ماله ومنع ورثته منه، وتصرف في المملكة، وأرسل إلى بعض نواب البلاد ليقدم عليه ليقتله، فهل له الامتناع منه ؟ وهل إذا قاتل دون نفسه وماله حتى يقتل يكون شهيدا أم لا ؟ وهل يثاب الساعي في خلاص حق ورثة الملك المقتول من القصاص والمال ؟ أفتونا مأجورين.
فقلت للذي جاءني بها من جهة الامير: إن كان مراده خلاص ذمته فيما بينه وبين الله تعالى فهم أعلم بنيته في الذي يقصده، ولا يسعى في تحصيل حق معين إذا ترتب على ذلك مفسدة راجحة على ذلك، فيؤخر الطلب إلى وقت إمكانه بطريقه، وإن كان مراده بهذا الاستفتاء أن يتقوى بها في جمع الدولة والامراء عليه، فلا بد أن يكتب عليها كبار القضاة والمشايخ أولا، ثم بعد ذلك بقية المفتيين بطريقه والله الموفق للصواب.
هذا وقد اجتمع على الامير نائب السلطنة جميع أمراء الشام، حتى قيل إن فيهم من نواب السلطنة سبعة عشر أميرا، وكلهم يحضر معه المواكب الهائلة، وينزلون معه إلى دار السعادة، ويمد لهم الاسمطة ويأكل معهم، وجاء الخبر بان الامير منجك الطرجاقسي المقيم ببيت المقدس قد أظهر الموافقة لنائب السلطنة، فأرسل له جبريل ثم عاد فأخبر بالموافقة، وأنه قد استحوذ على غزة ونائبه، وقد جمع وحشد واستخدم طوائف، ومسك على الجادة فلا يدع أحدا يمر إلا أن يفتش ما معه، لاحتمال إيصال كتب من ها هنا إلى ها هنا، ومع هذا كله فالمعدلة ثابتة جدا، والامن حاصل هناك، فلا يخاف أحده وكذلك بدمشق وضواحيها، لا يهاج أحد ولا يتعدى أحد على أحد، ولا ينهب لاحد شيئا ولله الحمد، غير أن بعض أهل البساتين توهموا وركبوا إلى المدينة وتحولوا، وأودع بعضهم نفائس ما عندهم، وأقاموا بها على وجل، ذلك لما رأوا المجانيق الستة
منصوبة على رؤوس قلال الابراج التي للقلعة، ثم أحضر نائب السلطنة القضاة الاربعة والامراء كلهم وكتبوا مكتوبا سطره بينهم كاتب السر، أنهم راضون بالسلطان كارهون يلبغا، وأنهم لا يريدونه ولا يوافقون على تصرفه في المملكة، وشهد عليهم القضاة بذلك، وأرسلوا المكتوب مع مملوك للامير طيبغا الطويل (1)، نظير يلبغا بالديار المصرية، وأرسل منجك إلى نائب السلطنة
__________
(1) كان طيبغا قد أخلع عليه بأمرية السلاح (بدائع الزهور 1 / 581) وفي النجوم الزاهرة 11 / 4: " ثم خلع على الامير يلبغا..وصار مدبر المملكة ويشاركه في ذلك خشداشه الامير طيبغا الطويل، على أن كل منهما لا يخالف الآخر في أمر من الامور ".

(14/322)


يستحثه في الحضور إليه في الجيش ليناجزوا المصريين، فعين نائب الشام من الجيش طائفة يبرزون بين يديه، وخرجت التجريدة ليلة السبت التاسع والعشرين من شعبان صحبة الامير استدمر الذي كان نائب الشام مددا للامير في ألفين، ويذكر الناس أن نائب السلطنة بمن بقي من الجيش يذهبون على إثرهم، ثم خرجت أخرى بعدها ثلاثة آلاف، ليلة الثلاثاء الثامن من رمضان كما سيأتي.
وتوفي الشيخ الحافظ علاء الدين مغلطاي المصري بها في يوم الثلاثاء الرابع والعشرين من شعبان من هذه السنة، ودفن من الغد بالريدانية، وقد كتب الكثير وصنف وجمع، وكانت عنده كتب كثيرة رحمه الله.
وفي مستهل رمضان أحضر جماعة من التجار إلى دار العدل ظاهر باب النصر ليباع شئ عليهم من القند (1) والفولاذ والزجاج مما هو في حواصل يلبغا، فامتنعوا من ذلك خوفا من استعادته منهم على تقدير، فضرب بعضهم، منهم شهاب الدين بن الصواف بين يدي الحاجب، وشاد الدواوين، ثم أفرج عنهم في اليوم الثاني ففرج الله بذلك.
وخرجت التجريدة ليلة الثلاثاء بعد العشاء صحبة ثلاثة مقدمين منهم عراق ثم ابن صبح ثم ابن طرغية، ودخل نائب طرابلس الامير سيف الدين تومان إلى دمشق صبيحة يوم الاربعاء عاشر
رمضان، فتلقاه ملك الامراء سيف الدين بيدمر إلى الاقصر، ودخلا معا في أبهة عظيمة، فنزل تومان في القصر الابلق، وبرز من معه من الجيوش إلى عند قبة يلبغا، هذا والقلعة منصوب عليها المجانيق، وقد ملئت حرسا شديدا، ونائب السلطنة في غاية التحفظ.
ولما أصبح يوم الخميس صمم تومان تمر على ملك الامراء في الرحيل إلى غزة ليتوافى هو وبقية من تقدمه من الجيش الشامي، ومنجك ومن معه هنالك، ليقضي الله أمرا كان مفعولا، فأجابه إلى ذلك وأمر بتقدم السبق بين يديه في هذا اليوم، فخرج السبق وأغلقت القلعة بابها المسلوك الذي عند دار الحديث، فاستوحش الناس من ذلك، والله يحسن العاقبة.
خروج ملك الامراء بيدمر من دمشق إلى غزة صلى الجمعة بالمقصورة الثاني عشر من رمضان نائب السلطنة، ونائب طرابلس، ثم اجتمعا بالخطبة في مقصورة الخطابة، ثم راح لدار السعادة ثم خرج طلبه في تجمل هائل على ما ذكر بعد العصر، وخرج معهم فاستعرضهم ثم عاد إلى دار السعادة فبات إلى أن صلى الصبح، ثم ركب خلف الجيش هو ونائب طرابلس، وخرج عامة من بقي من الجيش من الامراء وبقية الحلقة،
__________
(1) القند: عصارة قصب السكر إذا جمد ومنه يتخذ الفانيد (لسان العرب).

(14/323)


وسلمهم الله، وكذلك خرج القضاة، وكذا كاتب السر ووكيل بيت المال وغيرهم من كتاب الدست، وأصبح الناس يوم السبت وليس أحد من الجند بدمشق، سوى نائب الغيبة الامير سيف الدين بن حمزة التركماني، وقريبه والي البر، ومتولي البلد الامير بدر الدين صدقة بن أوحد، ومحتسب البلد ونواب القضاة والقلعة على حالها، والمجانيق منصوبة كما هي.
ولما كان صبح يوم الاحد رجع القضاه بكرة ثم رجع ملك الامراء في أثناء النهار هو وتومان تمر، وهم كلهم في لبس وأسلحة تامة، وكل منهما خائف من الآخر أن يمسكه، فدخل هذا دار السعادة وراح الآخر إلى القصر الابلق، ولما كان بعد العصر قدم منجك واستدمر كان نائب السلطنة بدمشق، وهما مغلولان قد كسرهما من كان قدم على منجك من العساكر التي جهزها بيدمر إلى منجك قوة له على
المصريين، وكان ذلك على يدي الامير سيف الدين تمر حاجب الحجاب ويعرف بالمهمندار، قال لمنجك كلنا في خدمة من بمصر، ونحن لا نطيعك على نصرة بيدمر، فتقاولا ثم تقاتلا فهزم منجك وذهب تمر ومنجك ومن كان معهما كابن صبح وطيدمر.
ولما أصبح الصباح من يوم الاثنين خامس عشر لم يوجد لتومان تمر وطبترق ولا أحد من أمراء دمشق عين ولا أثر، قد ذهبوا كلهم إلى طاعة صاحب مصر، ولم يبق بدمشق من أمرائها سوى ابن قراسنقر من الامراء المتقدمين، وسوى بيدمر ومنجك واستدمر، والقلعة قد هيئت والمجانيق منصوبة على حالها، والناس في خوف شديد من دخول بيدمر إلى القلعة، فيحصل بعد ذلك عند قدوم الجيش المصري حصار وتعب ومشقة على الناس، والله يحسن العاقبة.
ولما كان في أثناء نهار الاثنين سادس عشره دقت البشائر في القلعة وأظهر أن يلبغا الخاصكي قد نفاه السلطان إلى الشام، ثم ضربت وقت المغرب ثم بعد العشاء في صبيحة يوم الثلاثاء أيضا، وفي كل ذلك يركب الامراء الثلاثة منجك وبيدمر واستدمر ملبسين، ويخرجون إلى خارج البلد، ثم يعودون، والناس فيما يقال ما بين مصدق ومكذب، ولكن قد شرع إلى تستير القلعة وتهيئ الحصار فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ثم تبين أن هذه البشائر لا حقيقة لها، فاهتم في عمل ستائر القلعة وحمل الزلط والاحجار إليها، الاغنام والحواصل، وقد وردت الاخبار بأن الركاب الشريف السلطاني وصحبته يلبغا في جميع جيش مصر قد عدا غزة (1)، فعند ذلك خرج الصاحب وكاتب السر والقاضي الشافعي وناظر الجيش ونقباؤه ومتولي البلد وتوجهوا تلقاء حماة لتلقي الامير على الذي قد جاءه تقليد دمشق، وبقي البلد شاغرا عن حاكم فيها سوى المحتسب وبعض القضاة، والناس كغنم لا راعي لهم، ومع هذا الاحوال صالحة والامور ساكنة، لا يعدو على أحد فيما بلغنا، هذا
__________
(1) كان خروجه من القاهرة يوم الاثنين مستهل رمضان كما في النجوم الزاهرة 11 / 5، وفي بدائع الزهور 1 / 582: في أوائل شهر رمضان.
وفي الجوهر الثمين لابن دقماق 2 / 217: في شهر شعبان.

(14/324)


وبيدمر ومنجك واستدمر في تحصين القلعة وتحصيل العدد والاقوات فيها، والله غالب على أمره أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة الستائر تعمل فوق الابرجة، وصلى الامير بيدمر صلاة الجمعة تاسع عشر الشهر في الشباك الكمالي، في مشهد عثمان، وصلى عند منجك إلى جانبه داخل موضع القضاة، وليس هناك أحد من الحجبة ولا النقباء، وليس في البلد أحد من المباشرين بالكلية، ولا من الجند إلا القليل، وكلهم قد سافروا إلى ناحية السلطان، والمباشرون إلى ناحية حماة لتلقي الامير علي نائب الشام المحروس، ثم عاد إلى القلعة ولم يحضر الصلاة استدمر، لانه قيل كان منقطعا أو قد صلى في القلعة.
وفي يوم السبت العشرين من الشهر وصل البريد من جهة السلطان من أبناء الرسول إلى نائب دمشق يستعلم طاعته أو مخالفته، وبعث عليه فيما اعتمده من استحوذ على القلعة ويخطب فيها، وادخار الآلات والاطعمات فيها، وعدم المجانيق والستائر عليها، وكيف تصرف في الاموال السلطانية تصرف الملك والملوك، فتنصل ملك الامراء من ذلك، وذكر أنه إنما أرصد في القلعة جنادتها وأنه لم يدخلها، وأن أبوابها مفتوحة، وهي قلعة السلطان، وإنما له غريم بينه وبينه الشرع والقضاة الاربعة - يعني بذلك يلبغا - وكتب بالجواب وأرسله صحبة البريدي وهو كتكلدي مملوك بقطبه الدويدار، وأرسل في صحبته الامير صارم الدين أحد أمراء العشرات من يوم ذلك.
وفي يوم الاثنين الثاني والعشرين من رمضان تصبح أبواب البلد مغلقة إلى قريب الظهر، وليس ثم مفتوح سوى باب النصر والفرج، والناس في حصر شديد وانزعاج، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ولكن قد اقترب وصول السلطان والعساكر المنصورة.
وفي صبيحة الاربعاء أصبح الحال كما كان وأزيد، ونزل الامير سيف الدين يلبغا الخاصكي بقبة يلبغا، وامتد طلبه من سيف داريا إلى القبة المذكورة في أبهة عظيمة، وهيئة حسنة، وتأخر الركاب الشريف بتأخره عن الصميين بعد، ودخل بيدمر في هذا اليوم إلى القلعة وتحصن بها.
وفي يوم الخميس الخامس والعشرين منه استمرت الابواب كلها مغلقة سوى باب النصر والفرج، وضاق النطاق وانحصر الناس جدا، وقطع المصريون نهر بانياس والفرع الداخل إليها وإلى دار السعادة من القنوات،
واحتاجوا لذلك أن يقطعوا القنوات ليسدوا الفرع المذكور، فانزعج أهل البلد لذلك وملاءوا ما في بيوتهم من برك المدارس، وبيعت القربة بدرهم، والحق بنصف، ثم أرسلت القنوات وقت العصر من يومئذ ولله الحمد والمنة، فانشرح الناس لذلك، وأصبح الصباح يوم الجمعة والابواب مغلقة ولم يفتح باب النصر والفرج إلى بعد طلوع الشمس بزمان، فأرسل يلبغا من جهته أربعة أمراء وهم الامير زين الدين زبالة الذي كان نائب القلعة، والملك صلاح الدين بن كامل، والشيخ علي الذي كان نائب الرحبة من جهة بيدمر، وأمير آخر، فدخلوا البلد وكسروا أقفال أبواب البلد، وفتحوا الابواب، فلما رأى بيدمر ذلك أرسل مفاتيح البلد إليهم انتهى.

(14/325)


وصول السلطان الملك المنصور إلى المصطبة غر بي عقبة سجورا كان ذلك في يوم الجمعة السادس والعشرين من شهر رمضان في جحافل عظيمة كالجبال، فنزل عند المصطبة المنسوبة إلى عم ابنته الملك الاشرف خليل بن المنصور قلاوون، وجاءت الامراء ونواب البلاد لتقبيل يده والارض بين يديه، كنائب حلب، ونائب حماة، وهو الامير علاء الدين المارداني، وقد عين لنيابة دمشق، وكتب بتقليده بذلك، وأرسل إليه وهو بحماة.
فلما كان يوم السبت السابع والعشرين منه خلع على الامير علاء الدين علي المارداني بنيابة دمشق، وأعيد إليها عودا على بدء، ثم هذه الكرة الثالثة، وقبل يد السلطان وركب عن يمينه، وخرج أهل البلد لتهنئته، هذا والقلعة محصنة بيد بيدمر، وقد دخلها ليلة الجمعة واحتمى بها، هو ومنجك واستدمر ومن معه من الاعوان بها، ولسان حال القدر يقول (أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة) [ النساء: 78 ].
ولما كان يوم الاحد طلب قضاة القضاء وأرسلوا إلى بيدمر وذويه بالقلعة ليصالحوه على شئ ميسور يشترطونه، وكان ما سنذكره انتهى والله تعالى أعلم.
سبب خروج بيدمر من القلعة وصفة ذلك لما كان يوم الاحد الثامن والعشرين منه أرسل قضاة القضاء ومعهم الشيخ شرف الدين ابن
قاضي الجبل الحنبلي، والشيخ سراج الدين الهندي الحنفي، قاضي العسكر المصري للخنفية، إلى بيدمر ومن معه ليتكلموا معهم في الصلح لينزلوا على ما يشترطون قبل أن يشرعوا في الحصار والمجانيق التي قد استدعي بها من صفد وبعلبك، وأحضر من رجال النقاعين نحو من ستة آلاف رام فلما اجتمع به القضاة ومن معهم وأخبروه عن السلطان وأعيان الامراء بأنهم قد كتبوا له أمانا إن أناب إلى المصالحة، فطلب أن يكون بأهله ببيت المقدس، وطلب أن يعطى منجك كذا بناحية بلاد سيس ليسترزق هنالك، وطلب أستدمر أن يكون بشمقدارا (2) للامير سيف الدين يلبغا الخاصكي فرجع القضاة إلى السلطان ومعهم الامير زين الدين جبريل الحاجب كان، فأخبروا السلطان والامراء بذلك، فأجيبوا إليه، وخلع السلطان والامراء على جبريل خلعا، فرجع في خدمة القضاة ومعهم الامير استبغا بن الايو بكري، فدخلوا القلعة وباتوا هنالك كلهم، وانتقل
__________
(1) في السلوك 3 / 67: صبيحة يوم الاثنين العشرين من رمضان.
__________
(2) البشمقدار أو البجمقدار: هو الذي يحمل نعل السلطان أو الامير، ويتركب هذا الاسم من لفظين أحدهما من اللغة التركية وهو بشمق ومعناه النعل، والثاني من اللغة الفارسية وهو دار ومعناه ممسك، فيكون معناه مسك النعل أو حامل النعل (التعريف بمصطلحات صبح الاعشى ص 65).

(14/326)


الامير بيدمر بأهله وأثاثه إلى داره بالمطرزين، فلما أصبح يوم الاثنين التاسع والعشرين منه خرج الامراء الثلاثة من القلعة ومعهم جبريل، فدخل القضاة وسلموا القلعة بما فيها من الحواصل إلى الامير استبغا بن الابو بكري انتهى.
دخول السلطان محمد بن الملك أمير حاج بن الملك محمد بن الملك قلاوون إلى دمشق في جيشه وأمرائه لما كان صبيحة يوم الاثنين التاسع والعشرين من رمضان من هذه السنة رجع القضاة إلى الوطاق الشريف، وفي صحبتهم الامراء الذين كانوا بالقلعة، وقد أعطوا الامان من جهة السلطان ومن معهم وذويهم، فدخل القضاة وحجب الامراء المذكورون، فخلع على القضاة الاربعة
وانصرفوا راجعين مجبورين، وأما الامراء المذكورون فإنهم أركبوا على خيل ضعيفة، وخلف كل واحد منهم وساقي أخذ بوسطه قبل، وفي يد كل واحد من الوساقية خنجر كبير مسلول لئلا يستنقذه منه أحد فيقتله بها، فدخل جهرة بين الناس ليروهم ذلتهم التي قد لبستهم، وقد أحدق الناس بالطريق من كل جانب، فقام كثير من الناس، الله أعلم بعدتهم، إلا أنهم قد يقاربون المائة ألف أو يزيدون عليها، فرأى الناس منظرا فظيعا، فدخل بهم الوساقية إلى الميدان الاخضر الذي فيه القصر، فأجلسوا هنالك وهم ستة نفر: الثلاثة النواب وجبريل وابن استدمر، وسادس، وظن كل منهم أن يفعل بهم فاقرة، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وأرسلت الجيوش داخلة إلى دمشق أطلابا في تجمل عظيم، ولبس الحرب بنهر النصر وخيول وأسلحة ورماح، ثم دخل السلطان في آخر ذلك كله بعد العصر بزمن، وعليه من أنواع الملابس قباز بخاري، والقبة والطبر (1) يحملها على رأسه الامير سيف الدين تومان تمر، الذي كان نائب طرابلس، والامراء مشاة بين يديه، والبسط تحت قدمي فرسه، والبشائر تضرب خلفه فدخل القلعة المنصورة المنصورية لا البدرية.
ورأى ما قد أرصد بها من المجانيق والاسلحة، فاشتد حنقه على بيدمر وأصحابه كثيرا، ونزل الطارمة، وجلس على سرير المملكة ووقف الامراء والنواب بين يديه، ورجع الحق إلى نصابه، وقد كان بين دخوله ودخول عمه الصالح صالح في أول يوم من رمضان، وهذا في التاسع والعشرين منه، وقد قيل إنه سلخه والله أعلم.
وشرع الناس في الزينة.
وفي صبيحة يوم الثلاثاء سلخ الشهر نقل الامراء المغضوب عليهم الذين ضل سعيهم فيما كانوا أبرموه من ضمير سوء للمسلمين إلى القلعة فأنزلوا في أبراجها مهانين مفرقا بينهم، بعد ما كانوا بها آمنين حاكمين، أصبحوا معتقلين مهانين خائفين، فجاروا بعد ما كانوا رؤساء،
__________
(1) الطبر: كلمة فارسية معناها الفأس، والذي يحمله حول السلطان عند ركوبه في المراكب وغيرها يسمى الطبردار (التعريف بمصطلحات صبح الاعشى 228).

(14/327)


وأصبحوا بعد عزهم أذلاء، ونقبت أصحاب هؤلاء ونودي عليهم في البلد، ووعد من دل على
أحد منهم بمال جزيل، وولاية إمرة بحسب ذلك، ورسم في هذا اليوم على الرئيس أمين الدين ابن القلانسي كاتب السر، وطلب منه ألف ألف درهم، وسلم إلى الامير زين الدين زبالة نائب القلعة، وقد أعيد إليها وأعطي تقدمة ابن قراسنقر، وأمره أن يعاقبه إلى أن يزن هذا المبلغ، وصلى السلطان وأمراؤه بالميدان الاخضر صلاة العيد، ضرب له خام عظيم وصلى به خطيبا القاضي تاج الدين الساوي الشافعي، قاضي العسكر المنصورة للشافعية، ودخل الامراء مع السلطان للقلعة من باب المدرسة، ومد لهم سماطا هائلا أكلوا منه ثم رجعوا إلى دورهم وقصورهم، وحمل الطبر في هذا اليوم على رأس السلطان الامير علي نائب دمشق، وخلع عليه خلعة هائلة.
وفي هذا اليوم مسك الامير تومان تمر الذي كان نائب طرابلس، ثم قدم على بيدمر، فكان معه، ثم قفل إلى المصريين واعتذر إليهم فعذروه فيما يبدو للناس، ودخل وهو حامل الخبز على رأس السلطان يوم الدخول، ثم ولوه نيابة حمص، فصغروه وحقروه، ثم لما استمر ذاهبا إليها فكان عند القابون أرسلوا إليه فأمسكوه وردوه، وطلب منه المائة ألف التي كان قبضها من بيدمر، ثم ردوه إلى نيابة حمص.
وفي يوم الخميس اشتهر الخبر بأن طائفة من الجيش بمصر من طواشية وخاصكية (1) ملكوا عليهم حسين الناصر ثم اختلفوا فيما بينهم واقتتلوا، وأن الامر قد انفصل ورد حسين للمحل الذي كان معتقلا فيه، وأطفأ الله شر هذه الطائفة ولله الحمد.
وفي آخر هذا اليوم لبس القاضي ناصر الدين بن يعقوب خلعة كتابة السر الشريفية، والمدرستين، ومشيخة الشيوخ عوضا عن الرئيس علاء الدين بن القلانسي، عزل وصودر، وراح الناس لتهنئته بالعود إلى وظيفته كما كان.
وفي صبيحة يوم الجمعة ثالث شوال مسك جماعة من الامراء الشاميين منهم الحاجبان صلاح الدين وحسام الدين والمهمندار ابن أخي الحاجب الكبير، تمر، وناصر الدين بن الملك صلاح الدين بن الكامل، وابن حمزة والطرخاني واثنان أخوان وهما طيبغا زفر وبلجات، كلهم
__________
(1) كان ذلك أن حسين بن الملك الناصر محمد بن قلاوون اتفق مع الطواشي جوهر الزمردي مقدم المماليك بأن يقتلوا الامراء الذين بالقلعة ويتسلطن هو عوضا عن ابن أخيه المنصور، فبادر الامير ايدمر الشمسي ونائب الغيبة الامير موسى بن عبد الله الازكشي (المتوفى سنة 780 ه) وقبضا على الطواشين جوهر ونصر السليماني وأودعاهما في السجن بخزانة شمايل إلى أن يحضر السلطان من دمشق وبعد عودة السلطان من دمشق نفاهما إلى قوص (بدائع الزهور 1 / 584).

(14/328)


طبلخانات، وأخرجوا خير وتمر حاجب الحجاب، وكذلك الحجوبية أيضا لقاربي أحد أمراء مصر.
وفي يوم الثلاثاء سابع شوال مسك سنة عشر أميرا من أمراء العرب بالقلعة المنصورة، منهم عمر بن موسى بن مهنا الملقب بالمصمع، الذي كان أمير العرب في وقت، ومعيقل بن فضل بن مهنا وأخرون، وذكروا أن سبب ذلك أن طائفة من آل فضل عرضوا للامير سيف الدين الاحمدي الذي استاقوه على حلب، وأخذوا منه شيئا من بعض الامتعة، وكادت الحرب تقع بينهم.
وفي ليلة الخميس بعد المغرب حمل تسعة عشر أميرا من الاتراك والعرب على البريد مقيدين في الاغلال أيضا إلى الديار المصرية، منهم بيدمر ومنجك واستدمر وجبريل وصلاح الدين الحاجب وحسام الدين أيضا وبلجك وغيرهم، ومعهم نحو من مائتي فارس ملبسين بالسلاح متوكلين بحفظهم، وساروا بهم نحو الديار المصرية، وأمروا جماعة من البطالين منهم أولاد لاقوش، وأطلق الرئيس أمين الدين بن القلانسي من المصادرة والترسيم بالقلعة، بعد ما وزن بعض ما طلب منه، وصار إلى منزله، وهنأه الناس.
خروج السلطان من دمشق قاصدا مصر ولما كان يوم الجمعة عاشر شهر شوال خرج طلب يلبغا الخاصكي صبيحته في تجمل عظيم لم ير الناس في هذا المدد مثله، من نجائب وجنائب ومماليك وعظمة هائلة، وكانت عامة الاطلاب قد تقدمت قبله بيوم، وحضر السلطان إلى الجامع الاموي قبل أذان الظهر، فصلى في مشهد
عثمان هو ومن معه من أمراء المصريين، ونائب الشام، وخرج من فوره من باب النصر ذاهبا نحو الكسوة والناس في الطرقات والاسطحة على العادة، وكانت الزينة قد بقي أكثرها في الصاغة والخواصين وباب البريد إلى هذا اليوم، فاستمرت نحو العشرة أيام.
وفي يوم السبت حادي عشر شوال خلع على الشيخ علاء الدين الانصاري بإعادة الحسبة إليه وعزل عماد الدين بن السيرجي، وخرج المحمل يوم الخميس سادس عشر شوال على العادة، والامير مصطفى البيري.
وتوفي يوم الخميس ويوم الجمعة أربعة أمراء بدمشق، وهم طشتمر وفر وطيبغا الفيل، ونوروز أحد مقدمي الالوف، وتمر المهمندار، وقد كان مقدم ألف، وحاجب الحجاب وعمل نيابة غزة في وقت، ثم تعصب عليه المصريون فعزلوه عن الامرة، وكان مريضا فاستمر مريضا إلى أن توفي يوم الجمعة، ودفن بيوم السبت بتربته التي أنشأها بالصوفية، لكنه لم يدفن فيها بل على بابها كأنه مودع أو ندم على بنائها فوق قبور المسلمين رحمه الله.
وتوفي الامير ناصر الدين بن لاقوش يوم الاثنين العشرين من شوال ودفن بالقبيبات، وقد ناب ببعلبك وبحمص، ثم قطع خبره هو وأخوه كحلن ونفوا عن البلد إلى بلدان شتى، ثم رضي

(14/329)


عنهم الامير يلبغا وأعاد عليهم أخبارا بطبلخانات، فما لبث ناصر الدين إلا يسيرا حتى توفي إلى رحمة الله تعالى، وقد أثر آثارا حسنة كثيرة منها عند عقبة الرمانة خان مليح نافع، وله ببعلبك جامع وحمام وخان وغير ذلك، وله من العمر ست وخمسون سنة.
وفي يوم الاحد سادس والعشرين منه درس القاضي نور الدين محمد بن قاضي القضاة بهاء الدين بن أبي البقاء الشافعي بالمدرسة الاتابكية، نزل له عنها والده بتوقيع سلطاني، وحضر عنده القضاة والاعيان، وأخذ في قوله تعالى (الحج أشهر معلومات) [ البقرة: 197 ] وفي هذا اليوم درس القاضي نجم الدين أحمد بن عثمان النابلسي الشافعي المعروف بابن الجابي بالمدرسة العصرونية استنزل له عنها القاضي أمين الدين بن القلانسي في مصادراته.
وفى صبيحة يوم الاثنين التاسع والعشرين من شوال درس القاضي ولي الدين عبد الله بن القاضي بهاء الدين أبي البقاء
بالمدرستين والرواحية ثم القيمرية (1)، نزل له عنهما والده المذكور بتوقيع سلطاني، وحضر عنده فيهما القضاة والاعيان.
وفي صبيحة يوم الخميس سلخ شوال شهر الشيخ أسد ابن الشيخ الكردي على جمل وطيف به في حواضر البلد ونودي عليه: هذا جزاء من يخامر على السلطان ويفسد نواب السلطان، ثم أنزل عن الجمل وحمل على حمار وطيف به في البلد ونودي عليه بذلك، ثم ألزم السجن وطلب منه مال جزيل وقد كان المذكور من أعوان بيدمر المتقدم ذكره وأنصاره، وكان هو المتسلم للقلعة في أيامه.
وفي صبيحة يوم الاثنين حادي عشر ذي القعدة خلع على قاضي القضاة بدر الدين بن أبي الفتح بقضاء العسكر الذي كان متوفرا عن علاء الدين بن شمرنوخ، وهنأه الناس بذلك وركب البغلة بالزناري مضافا إلى ما بيده من نيابة الحكم والتدريس.
وفي يوم الاثنين ثامن عشره أعيد تدريس الركنية بالصالحية إلى قاضي القضاة شرف الدين الكفري الحنفي، استرجعا بمرسوم شريف سلطاني، من يد القاضي عماد الدين بن العز، وخلع على الكفري، وذهب الناس إليه للتهنئة بالمدرسة المذكورة.
وفي شهر ذي الحجة اشتهر وقوع فتن بين الفلاحين بناحية عجلون، وأنهم اقتتلوا فقتل من الفريقين اليمني والقيسي طائفة، وأن عين حيتا التي هي شرقي عجلون دمرت وخربت، وقطع أشجارها ودمرت بالكلية.
وفي صبيحة يوم السبت الثاني والعشرين من ذي الحجة لم تفتح أبواب دمشق إلى ما بعد طلوع الشمس، فأنكر الناس ذلك، وكان سببه الاحتياط على أمير يقال له كسبغا، كان يريد الهرب إلى بلاد الشرق، فاحتيط عليه حتى أمسكوه.
__________
(1) المدرسة القيمرية الكبرى بدمشق، أنشأها القيمري الامام مقدم الجيوش ناصر الدين حسين بن عبد العزيز المتوفى سنة 665 ه (الدارس 1 / 441).

(14/330)


وفي ليلة الاربعاء السادس والعشرين من ذي الحجة قدم الامير سيف الدين طاز من القدس فنزل بالقصر الابلق، وقد عمي من الكحل حين كان مسجونا بالاسكندرية (1)، فأطلق كما
ذكرنا، ونزل بيت المقدس مدة، ثم جاءه تقليد بأنه يكون طرخانا (2) ينزل حيث شاء من بلاد السلطان، غير أنه لا يدخل ديار مصر، فجاء فنزل بالقصر الابلق، وجاء الناس إليه على طبقاتهم - نائب السلطنة فمن دونه - يسلمون عليه وهو لا يبصر شيئا، وهو على عزم أن يشتري أو يستكري له دارا بدمشق يسكنها.
انتهى والله سبحانه وتعالى أعلم.
ثم دخلت سنة ثلاث وستين وسبعمائة استهلت هذه السنة وسلطان الديار المصرية والشامية والحرمين الشريفين وما والاهما من الممالك الاسلامية السلطان الملك المنصور صلاح الدين محمد بن الملك المظفر أمير حاج بن الملك المنصور قلاوون، وهو شاب دون العشرين، ومدبر الممالك بين يديه الامير يلبغا، ونائب الديار المصرية طشتمر، وقضاتها هم المذكورون في التي قبلها، والوزير سيف الدين قزوينة، وهو مريض مدنف ونائب الشام بدمشق الامير علاء الدين المارداني، وقضاته هم المذكورون في التي قبلها، وكذلك الخطيب ووكيل بيت المال والمحتسب علاء الدين الانصاري، عاد إليها في السنة المنفصلة، وحاجب الحجاب قماري، والذي يليه السليماني وآخر من مصر أيضا، وكاتب السر القاضي ناصر الدين محمد بن يعقوب الحلبي، وناظر الجامع القاضي تقي الدين بن مراجل.
وأخبرني قاضي القضاة تاج الدين الشافعي أنه جدد في أول هذه السنة قاضي حنفي بمدينة صفد المحروسة مع الشافعي، فصار في كل من حماة وطرابلس وصفد قاضيان شافعي وحنفي.
وفي ثاني المحرم قدم نائب السلطنة بعد غيبة نحو من خمسة عشر يوما، وقد أوطأ بلاد فرير بالرعب، وأخذ من مقدميهم طائفة فأودعهم الحبس، وكان قد اشتهر أنه قصد العشيرات المواسين ببلاد عجلون، فسألته عن ذلك حين سلمت عليه فأخبرني أنه لم يتعد ناحية فرير، وأن العشيرات قد اصطلحوا واتفقوا، وأن التجريدة عندهم هناك.
قال: وقد كبس الاعراب من حرم الترك فهزمهم الترك وقتلوا منهم خلقا كثيرا، ثم ظهر للعرب كمين فلجأ الترك إلى وادي
__________
(1) وكان الملك الناصر حسن قد حبسه وأكحله وبقي مسجونا مدة ثلاث سنين وأشهرا في ثغر الاسكندرية وأفرج عنه الملك المنصور محمد لما بويع بالسلطنة.
وكان قد سأل الاقامة في القدس فأجيب إلى ذلك وقد أنعم عليه بطبلخاناه
(السلوك 3 / 65 والجوهر الثمين 2 / 216).
__________
(2) الطرخان في اللغة التركية بمعنى الامير، والجمع طرخانيات، وهم من الامراء أو الجنود من طبقة المماليك ممن كبروا في السن أو ضعفت قدرتهم وأصبحوا لذلك لا يستطيعون القتال أو القيام بأعباء عمل في الدولة، وهؤلاء لا يتسلمون اقطاعا وانما يمنحون مبلغا معلوما من المال ويصدر لهم بذلك تقليد من السلطان يعدد فيه مزاياهم واستحقاقهم ويكون لهم الحق في أي مكان يشاؤون.
(التعريف بمصطلحات صبح الاعشى ص 230).

(14/331)


صرح فحصروهم هنالك، ثم ولت الاعراب فرارا ولم يقتل من الترك أحد، وإنما جرح منهم أمير واحد فقط، وقتل من الاعراب فوق الخمسين نفسا.
وقدم الحجاج يوم الاحد الثاني والعشرين من المحرم، ودخل المحمل السلطاني ليلة الاثنين بعد العشاء، ولم يحتفل لدخوله كما جرت به العادة، وذلك لشدة ما نال الركب في الرجعة من بريز إلى هنا من البرد الشديد، بحيث إنه قد قيل إنه مات منهم بسبب ذلك نحو المائة، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولكن أخبروا برخص كثير وأمن، وبموت نفسة أخي عجلان صاحب مكة، وقد استبشر بموته أهل تلك البلاد لبغيه على أخيه عجلان العادل فيهم انتهى والله أعلم.
منام غريب جدا ورأيت - يعنى المصنف - في ليلة الاثنين الثاني والعشرين من المحرم سنة ثلاث وستين وسبعمائة الشيخ محيي الدنين النواوي رحمه الله فقلت له: يا سيدي الشيخ لم لا أدخلت في شرحك المهذب شيئا من مصنفات ابن حزم ؟ فقال ما معناه: إنه لا يحبه، فقلت له: أنت معذور فيه فإنه جمع بين طرفي النقيضين في أصوله وفروعه، أما هو في الفروع فظاهري جامد يابس، وفي لاصول تول مائع قرمطة القرامطة وهرس الهرائسة، ورفعت بها صوتي حتى سمعت وأنا نائم، ثم أشرت له إلى أرض خضراء تشبه النخيل بل هي أردأ شكلا منه، لا ينتفع بها في استغلال ولا رعي، فقلت له: هذه أرض ابن حزم التي زرعها قال: أنظر هل ترى فيها شجرا مثمرا أو شيئا ينتفع به، فقلت: إنما تصلح للجلوس عليها في ضوء القمر.
فهذا حاصل ما رأيته، ووقع في خلدي
أن ابن حزم كان حاضرنا عندما أشرت للشيخ محيي الدين إلى الارض المنسوبة لابن حزم، وهو ساكت لا يتكلم.
وفي يوم الخميس الثالث والعشرين من صفر خلع على القاضي عماد الدين بن الشيرجي بعود الحسبة إليه بسبب ضعف علاء الدين الانصاري عن القيام بها لشغله بالمرض المدنف، وهنأه الناس على العادة.
وفي يوم السبت السادس والعشرين من صفر توفي الشيخ علاء الدين الانصاري المذكور بالمدرسة الامينية، وصلي عليه الظهر بالجامع الاموي، ودفن بمقابر باب الصغير خلف محراب جامع جراح، في تربة هنالك، وقد جاوز الاربعين سنة، ودرس في الامينية وفي الحسبة مرتين وترك أولادا صغارا وأموالا جزيلة سامحه الله ورحمه، وولي المدرسة بعده قاضي القضاة تاج الدين بن السبكي بمرسوم كريم شريف.
وفي العشر الاخير من صفر بلغنا وفاة قاضي قضاة المالكية الاخنائي (1) بمصر وتولية أخيه
__________
(1) وهو تاج الدين بن علم الدين محمد بن أبي بكر بن عيسى بن بدران الاخنائي (بدائع الزهور 1 / 587).

(14/332)


برهان الدين [ إبراهيم ] (1) ابن قاضي القضاة علم الدين الاخنائي الشافعي أبوه قاضيا مكان أخيه، وقد كان على الحسبة بمصر مشكور السيرة فيها، وأضيف إليه نظر الخزانة كما كان أخوه.
وفي صبيحة يوم الاحد رابع شهر ربيع الاول كان ابتداء حضور قاضي القضاة تاج الدين أبو نصر عبد الوهاب بن قاضي القضاة تقي الدين بن الحسن بن عبد الكافي السبكي الشافعي تدريس الامينية عوضا عن الشيخ علاء الدين المحتسب، بحكم وفاته رحمه الله كما ذكرنا، وحضر عنده خلق من العلماء والامراء والفقهاء والعامة، وكان درسا حافلا، أخذ في قوله تعالى (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله) [ النساء: 54 ] الآية وما بعدها، فاستنبط أشياء حسنة، وذكر ضربا من العلوم بعبارة طلقة جارية معسولة، أخذ ذلك من غير تلعثم ولا تلجلج ولا تكلف فأجاد وأفاد، وشكره الخاصة والعامة من الحاضرين وغيرهم حتى قال بعض الاكابر: إنه لم يسمع درسا مثله.
وفي يوم الاثنين الخامس والعشرين منه توفى الصدر برهان الدين بن لؤلؤ الحوضي، في داره بالقصاعين ولم يمرض إلا يوما واحدا، وصلي عليه من الغد بجامع دمشق بعد صلاة الظهر، وخرجوا به من باب النصر، فخرج نائب السلطنة الامير علي فصلى عليه إماما خارج باب النصر، ثم ذهبوا به فدفنوه بمقابرهم بباب الصغير، فدفن عند أبيه رحمه الله، وكان رحمه الله فيه مروءة وقيام مع الناس، وله وجاهة عند الدولة وقبول عند نواب السلطنة وغيرهم، ويحب العلماء وأهل الخير، ويواظب على سماع مواعيد الحديث والخير، وكان له مال وثروة ومعروف، قارب الثمانين رحمه الله.
وجاء البريد من الديار المصرية فأخبر بموت الشيخ شمس الدين محمد بن النقاش المصري بها، وكان واعظا باهرا، وفصيحا ماهرا، ونحويا شاعرا، له يد طولى في فنون متعددة، وقدرة على نسج الكلام، ودخول على الدولة وتحصيل الاموال، وهو من أبناء الاربعين رحمه الله.
وأخبر البريد بولاية قاضي القضاة شرف الدين المالكي البغدادي (2)، الذي كان قاضيا بالشام للمالكية، ثم عزل بنظر الخزانة بمصر، فإنه رتب له معلوم وافر يكفيه ويفضل عنه، ففرح بذلك من يحبه.
وفي يوم الاحد السابع عشر من ربيع الآخر توفي الرئيس أمين الدين محمد بن الصدر جمال الدين أحمد بن الرئيس شرف الدين محمد بن القلانسي، أحد من بقي من رؤساء البلد وكبرائها،
__________
(1) من بدائع الزهور 1 / 587.
__________
(2) وهو شرف الدين محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن عسكر البغدادي المالكي، وقد تولى نظر الخزانة الشريفة عوضا عن التاج الاخنائي (بدائع الزهور 1 / 587).

(14/333)


وقد كان باشر مباشرات كبار كأبيه وعمه علاء الدين، ولكن فاق هذا على أسلافه فإنه باشر وكالة المال مدة، وولي قضاء العساكر أيضا، ثم ولي كتابة السر مع مشيخة الشيوخ وتدريس الناصرية والشامية الجوانية، وكان قد درس في العصرونية من قبل سنة ست وثلاثين، ثم لما قدم السلطان
في السنة الماضية عزل عن مناصبه الكبار، وصودر بمبلغ كثير يقارب مائتي ألف، فباع كثيرا من أملاكه وما بقي بيده من وظائفه شئ، وبقي خاملا مدة إلى يومه هذا، فتوفي بغتة، وكان قد تشوش قليلا لم يشعر به أحد، وصلي عليه العصر بجامع دمشق، وخرجوا به من باب الناطفانيين إلى تربتهم التي بسفح قاسيون رحمه الله.
وفي صبيحة يوم الاثنين ثامن عشره، خلع على القاضي جمال الدين بن قاضي القضاة شرف الدين الكفري الحنفي (1)، وجعل مع أبيه شريكا في القضاء ولقب في التوقيع الوارد صحبة البريد من جهة السلطان " قاضي القضاة " فلبس الخلعة بدار السعادة وجاء ومعه قاضي القضاة تاج الدين السبكي إلى النورية فقعد في المسجد ووضعت الربعة فقرئت وقرئ القرآن ولم يكن درسا، وجاءت الناس للتهنئة بما حصل من الولاية له مع أبيه.
وفي صبيحة يوم الثلاثاء توفي الصالح العابد الناسك الجامع فتح الدين بن الشيخ زين الدين الفارقي، إمام دار الحديث الاشرفية، وخازن الاثر بها، ومؤذن في الجامع، وقد أتت عليه تسعون سنة في خير وصيانة وتلاوه وصلاة كثيرة وانجماع عن الناس، صلي عليه صبيحة يومئذ، وخرج به من باب النصر إلى نحو الصالحية رحمه الله.
وفي صبيحة يوم الاثنين عاشر جمادي الاولى ورد البريد وهو قرابغا دوادار نائب الشام الصغير ومعه تقليد بقضاء قضاة الحنفية للشيخ جمال الدين يوسف (2) بن قاضي القضاة شرف الدين الكفري، بمقتضى نزول أبيه له عن ذلك، ولبس الخلعة بدار السعادة وأجلس تحت المالكي، ثم جاؤوا المقصورة من الجامع وقرئ تقليده هناك، قرأه شمس الدين بن السبكي نائب الحسبة، واستناب اثنين من أصحابهم وهما شمس الدين بن منصور، وبدر الدين بن الخراش، ثم جاء معه إلى النورية فدرس بها ولم يحضره والده بشئ من ذلك انتهى والله أعلم.
موت الخليفة المعتضد بالله كان ذلك في العشر الاوسط (3) من جمادى الاولى بالقاهرة، وصلي عليه يوم الخميس،
__________
(1) وهو أحمد بن الحسين بن سليمان بن فزارة الكفري.
__________
(2) في بدائع الزهور 1 / 589 أحمد، وانظر الحاشية السابقة.
__________
(3) في بدائع الزهور 1 / 587: ليلة الاربعاء ثامن عشر جمادى الاولى، وكانت مدة خلافته بالديار المصرية نحو عشر سنين.
وفي شذرات الذهب 6 / 198: يوم الخميس ثاني عشري جمادى الاولى.

(14/334)


أخبرني بذلك قاضي القضاة تاج الدين الشافعي، عن كتاب أخيه الشيخ بهاء الدين رحمهما الله.
خلافة المتوكل على الله ثم بويع بعده ولده المتوكل على الله أبو عبد الله محمد بن المعتضد أبي بكر أبي الفتح بن المستكفي بالله أبي الربيع سليمان بن الحاكم بأمر الله أبي العباس أحمد رحم الله أسلافه.
وفي جمادي الاولى توجه الرسول من الديار المصرية ومعه صناجق خليفية وسلطانية وتقاليد وخلع وتحف لصاحبي الموصل وسنجار من جهة صاحب مصر ليخطب له فيهما، وولى قاضي القضاة تاج الدين الشافعي السبكي الحاكم بدمشق لقاضيهما من جهته تقليدين، حسب ما أخبرني بذلك، وأرسلا مع ما أرسل به السلطان إلى البلدين، وهذا أمر غريب لم يقع مثله فيما تقدم فيما أعلم والله أعلم.
وفي جمادى الآخرة خرج نائب السلطنة إلى مرج الفسولة ومعه حجبته ونقباء النقباء، وكاتب السر وذووه، ومن عزمهم الاقامة مدة، فقدم من الديار المصرية أمير على البريد فأسرعوا الاوبة فدخلوا في صبيحة الاحد الحادي والعشرين منه، وأصبح نائب السلطنة فحضر الموكب على العادة وخلع على الامير سيف الدين يلبغا الصالحي، وجاء النص من الديار المصرية بخلعة دوادار عوضا عن سيف الدين كحلن، وخلع في هذا اليوم على الصدر شمس الدين بن مرقي بتوقيع الدست، وجهات أخر، قدم بها من الديار المصرية، فانتشر الخبر في هذا اليوم باجلاس قاضي القضاة شمس الدين الكفري الحنفي، فوق قاضي القضاة المالكية، لكن لم يحضر في هذا اليوم، وذلك بعد ما قد أمر باجلاس المالكي فوقه.
وفي ثاني رجب توفي القاضي الامام العالم شمس الدين [ محمد ] (1) بن مفلح المقدسي
الحنبلي، نائب مشيخة قاضي القضاة جمال الدين يوسف بن محمد المقدسي الحنبلي، وزوج ابنته، وله منها سبعة أولاد ذكور وإناث، وكان بارعا فاضلا متفننا في علوم كثيرة، ولاسيما علم الفروع، كان غاية في نقل مذهب الامام أحمد، وجمع مصنفات كثيرة منها كتاب المقنع نحوا من ثلاثين مجلدا كما أخبرني بذلك عنه قاضي القضاة جمال الدين، وعلق على محفوظة أحكام الشيخ مجد الدين بن تيمية مجلدين، وله غير ذلك من الفوائد والتعليقات رحمه الله، توفي عن نحو خمسين سنة (2)، وصلي عليه بعد الظهر من يوم الخميس ثاني الشهر بالجامع المظفري، ودفن بمقبرة الشيخ الموفق، وكانت له جنازة حافلة حضرها القضاة كلهم، وخلق من الاعيان رحمه الله وأكرم مثواه.
__________
(1) من بدائع الزهور 1 / 589 وهو محمد بن مفلح بن محمد بن مفرج الدمشقي الحنبلي الصالحي الراميني.
__________
(2) في شذرات الذهب 6 / 200: وله بضع وخمسون سنة.
وفي بدائع الزهور 1 / 589: ومولده بعد سنة سبعمائة.

(14/335)


وفي صبيحة يوم السبت رابع رجب ضرب نائب السلطنة جماعة من أهل قبر عاتكة أساؤوا الادب على النائب ومماليكه، بسبب جامع للخطبة جدد بناحيتهم، فأراد بعض الفقراء أن يأخذ ذلك الجامع ويجعله زاوية للرقاصين، فحكم القاضي الحنبلي بجعله جامعا قد نصب فيه منبر، وقد قدم شيخ الفقراء على يديه مرسوم شريف بتسليمه إليه، فأنفت أنفس أهل تلك الناحية من عوده زاوية بعد ما كان جامعا، وأعظموا ذلك، فتكلم بعضهم بكلام سئ، فاستحضر نائب السلطنة طائفة منهم وضربهم بالمقارع بين يديه، ونودى عليهم في البلد، فأراد بعض العامة إنكارا لذلك، وحدد ميعاد حديث يقرأ بعد المغرب تحت قبة النسر على الكرسي الذي يقرأ عليه المصحف، رتبه أحد أولاد القاضي عماد الدين بن الشيرازي، وحدث فيه الشيخ عماد الدين بن السراج، واجتمع عنده خلق كثير وجم غفير، وقرأ في السيرة النبوية من خطي، وذلك في العشر الاول من هذا الشهر.
أعجوبة من العجائب وحضر شاب عجمي من بلاد التبريز وخراسان يزعم أنه يحفظ البخاري ومسلما وجامع
المسانيد والكشاف للزمخشري وغير ذلك من محاضيرها، في فنون أخر، فلما كان يوم الاربعاء سلخ شهر رجب قرأ في الجامع الاموي بالحائط الشمالي منه، عند باب الكلاسة من أول صحيح البخاري إلى أثناء كتاب العلم منه، من حفظه وأنا أقابل عليه من نسخة بيدي، فأدى جيدا، غير أنه يصحف بعضا من الكلمات لعجم فيه، وربما لحن أيضا في بعض الاحيان، واجتمع خلق كثير من العامة والخاصة وجماعة من المحدثين، فأعجب ذلك جماعة كثيرين، وقال آخرون منهم إن سرد بقية الكتاب على هذا المنوال لعظيم جدا، فاجتمعنا في اليوم الثاني وهو مستهل شعبان في المكان المذكور، وحضر قاضي القضاة الشافعي وجماعة من الفضلاء، واجتمع العامة محدقين فقرأ على العادة غير أنه لم يطول كأول يوم، وسقط عليه بعض الاحاديث، وصحف ولحن في بعض الالفاظ، ثم جاء القاضيان الحنفي والمالكي فقرأ بحضرتهما أيضا بعض الشئ، هذا والعامة محتفون به متعجبون من أمره، ومنهم من يتقرب بتقبيل يديه، وفرح بكتابتي له بالسماع على الاجازة، وقال: أنا ما خرجت من بلادي إلا إلى القصد إليك، وأن تجيزني، وذكرك في بلادنا مشهور، ثم رجع إلى مصر ليلة الجمعة وقد كارمه القضاة والاعيان بشئ من الدراهم يقارب الالف.
عزل الامير علي عن نيابة دمشق في يوم الاحد حادي عشر شعبان ورد البريد من الديار المصرية وعلى يديه مرسوم شريف

(14/336)


بعزل (1) الامير علي عن نيابة دمشق، فأحضر الامراء إلى دار السعادة وقرئ المرسوم الشريف عليهم بحضوره، وخلع عليه خلعة وردت مع البريد، ورسم له بقرية دومة وأخرى فبلاد طرابلس على سبيل الراتب، وأن يكون في أي البلاد شاء من دمشق أو القدس أو الحجاز، فانتقل من يومه من دار السعادة وبباقي أصحابه ومماليكه، واستقر نزوله في دار الخليلي بالقصاعين التي جددها وزاد فيها دويداره يلبغا، وهي دار هائلة، وراح الناس للتأسف عليه والحزن له انتهى.
طلب قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب بن السبكي الشافعي إلى الديار المصرية
ورد البريد بطلبه من آخر نهار الاحد بعد العصر الحادي عشر من شعبان سنة ثلاث وستين وسبعمائة، فأرسل إليه حاجب الحجاب قماري وهو نائب الغيبة أن يسافر من يومه، فاستنظرهم إلى الغد فأمهل، وقد ورد الخبر بولاية أخيه الشيخ بهاء الدين بن السبكي بقضاء الشام عوضا عن أخيه تاج الدين، وأرسل يستنيب ابن أختهما قاضي القضاة تاج الدين في التأهب والسير، وجاء الناس إليه ليودعوه ويستوحشون له، وركب من بستانه بعد العصر يوم الاثنين ثاني عشر شعبان، متوجها على البريد إلى الديار المصرية، وبين يديه قضاة القضاء والاعيان، حتى قاضي القضاة بهاء الدين أبو البقاء السبكي، حتى ردهم قريبا من الجسورة ومنهم من جاوزها والله المسؤول في حسن الخاتمة في الدنيا والآخرة، انتهى والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
أعجوبة أخرى غريبة لما كان يوم الثلاثاء العشرين من شعبان دعيت إلى بستان الشيخ العلامه كمال الدين بن الشريشي شيخ الشافعية وحضر جماعة من الاعيان منهم الشيخ العلامة شمس الدين بن الموصلي الشافعي، والشيخ الامام العلامة صلاح الدين الصفدي، وكيل بيت المال، والشيخ الامام العلامة شمس الدين الموصلي الشافعي، والشيخ الامام العلامة مجدالدين محمد بن يعقوب الشيرازي من ذرية الشيخ أبي إسحق الفيروز ابادي، من أئمة اللغويين، والخطيب الامام العلامة صدر الدين بن العز الحنفي أحد البلغاء الفضلاء، والشيخ الامام العلامة نور الدين علي بن الصارم أحد القراء المحدثين البلغاء، وأحضروا نيفا وأربعين مجلدا من كتاب المنتهى في اللغة للتميمي البرمكي، وقف الناصرية وحضر ولد الشيخ كمال الدين بن الشريشي، وهو العلامة بدر الدين محمد، واجتمعنا كلنا عليه، وأخذ كل منا مجلدا بيده من تلك المجلدات، ثم أخذنا نسأله عن بيوت الشعر المستشهد عليها بها، فينشر كلا منها ويتكلم عليه بكلام مبين مفيد، فجزم الحاضرون والسامعون أنه يحفظ جميع شواهد اللغة ولا يشذ عنه منها إلا القليل الشاذ، وهذا من أعجب العجائب، وأبلغ الاعراب.
__________
(1) في بدائع الزهور 1 / 588 قال انه لم يعزل بل طلب استعفاءه منها.

(14/337)


دخول نائب السلطنة سيف الدين تشتمر (1) (*) وذلك في أوائل رمضان يوم السبت ضحى والحجبة بين يديه والجيش بكماله، فتقدم إلى سوق الخيل فأركب فيه ثم جاء ونزل عند باب السر، وقبل العتبة ثم مشى إلى دار السعادة والناس بين يديه، وكان أول شئ حكم فيه أن أمر بصلب الذي كان قتل بالامس والي الصالحية، وهو ذاهب إلى صلاة الجمعة، ثم هرب فتبعه الناس فقتل منهم آخر وجرح آخرين ثم تكاثروا عليه فمسك، ولما صلب طافوا به على حمل إلى الصالحية فمات هناك بعد أيام، وقاسى أمرا شديدا من العقوبات، وقد ظهر بعد ذلك على أنه قتل خلقا كثيرا من الناس قبحه الله.
قدوم قاضي القضاة بهاء الدين أحمد بن تقي الدين عوضا عن أخيه قاضي القضاة تاج الدين بن عبد الوهاب قدم يوم الثلاثاء قبل العصر فبدأ بملك الامراء فسلم عليه، ثم مشى إلى دار الحديث فصلى هناك ثم مشى إلى المدرسة الركنية فنزل بها عند ابن أخيه قاضي القضاة بدر الدين بن أبي الفتح، قاضي العساكر، وذهب الناس للسلام عليه وهو يكره من يلقبه بقاضي القضاة، وعليه تواضع وتقشف، ويظهر عليه تأسف على مفارقة بلده ووطنه وولده وأهله، والله المسؤول المأمول أن يحسن العاقبة.
وخرج المحمل السلطاني يوم الخميس ثامن عشر شوال، وأمير الحاج الملك صلاح الدين بن الملك الكامل بن السعيد العادل الكبير، وقاضيه الشيخ بهاء الدين بن سبع مدرس الامينية ببعلبك وفي هذا الشهر وقع الحكم بما يخص المجاهدين من وقف المدرسة التقوية إليهم، وأذن القضاة الاربعة إليهم بحضرة ملك الامراء في ذلك.
وفي ليلة الاحد ثالث شهر ذي القعدة توفي القاضي ناصر الدين محمد بن يعقوب كاتب السر، وشيخ الشيوخ ومدرس الناصرية الجوانية والشامية الجوانية بدمشق، ومدرس الاسدية بحلب، وقد باشر كتابة السر بحلب أيضا، وقضاء العساكر وأفتى بزمان ولاية الشيخ كمال الدين
الزملكاني قضاء حلب، أذن له هنالك في حدود سنة سبع وعشرين وسبعمائة، ومولده سنة سبع وسبعمائة، وقد قرأ التنبيه ومختصر ابن الحاجب في الاصول، وفي العربية، وكان عنده نباهة وممارسة للعلم، وفيه جودة طباع وإحسان بحسب ما يقدر عليه، وليس يتوسم منه سوء، وفيه ديانة وعفة، حلف لي في وقت بالايمان المغلظة أنه لم يمكن قط منه فاحشة اللواط ولا خطر له ذلك، ولم يزن ولم يشرب مسكرا ولا أكل حشيشة، فرحمه الله وأكرم مثواه، صلي عليه بعد
__________
(1) كان قد أخلع عليه في جمادى الآخرة نيابة السلطنة في الشام.
(بدائع الزهور 1 / 588).

(14/338)


الظهر يومئذ وخرج بالجنازة من باب النصر فخرج نائب السلطنة من دار السعادة فحضر الصلاة عليه هنالك، ودفن بمقبرة لهم بالصوفية وتأسفوا عليه وترحموا، وتزاحم جماعة من الفقهاء بطلب مدارسه انتهى.