البداية والنهاية، ط. دار الفكر
فَصْلٌ فِي فريضة شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ
ثِنْتَيْنِ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ فُرِضَ صِيَامُ شَهْرِ
رَمَضَانَ وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ فُرِضَ فِي شَعْبَانَ مِنْهَا، ثُمَّ
(3/254)
حَكَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَجَدَ
الْيَهُودَ يَصُومُونَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَسَأَلَهُمْ عَنْهُ
فَقَالُوا هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ فِيهِ مُوسَى. فَقَالَ: «نَحْنُ
أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ» فِصَامَهُ وَأَمَرَ النَّاسَ بِصِيَامِهِ،
وَهَذَا الْحَدِيثُ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ
مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى
الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ
خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ
كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ
الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ
فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمن كانَ مَرِيضاً
أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ 2: 183- 185 الآية
وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى ذَلِكَ فِي التَّفْسِيرِ بِمَا فِيهِ
كِفَايَةٌ مِنْ إِيرَادِ الْأَحَادِيثِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِذَلِكَ
وَالْآثَارِ الْمَرْوِيَّةِ فِي ذَلِكَ وَالْأَحْكَامِ
الْمُسْتَفَادَةِ مِنْهُ وللَّه الْحَمْدُ.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ
حَدَّثَنَا الْمَسْعُودِيُّ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مرة عن عبد الرحمن
ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ. قَالَ: أُحِيلَتِ
الصَّلَاةُ ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ، وَأُحِيلَ الصِّيَامُ ثَلَاثَةَ
أَحْوَالٍ فَذَكَرَ أَحْوَالَ الصَّلَاةِ. قَالَ وَأَمَّا أَحْوَالُ
الصِّيَامِ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَجَعَلَ يَصُومُ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ
أَيَّامٍ، وَصَامَ عَاشُورَاءَ ثُمَّ إِنَّ الله فرض عام الصِّيَامَ
وَأَنْزَلَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ 2: 183 إِلَى
قَوْلِهِ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ 2:
184 فَكَانَ مَنْ شَاءَ صَامَ وَمَنْ شَاءَ أَطْعَمَ مِسْكِينًا
فَأَجْزَأَ ذَلِكَ عَنْهُ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الْآيَةَ
الْأُخْرَى شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ 2: 185
إِلَى قَوْلِهِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ 2: 185
فَأَثْبَتَ صِيَامَهُ عَلَى الْمُقِيمِ الصَّحِيحِ وَرَخَّصَ فِيهِ
لِلْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ وَأَثْبَتَ الْإِطْعَامَ لِلْكَبِيرِ
الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ الصِّيَامَ فَهَذَانِ حَوْلَانِ. قَالَ
وَكَانُوا يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَأْتُونَ النِّسَاءَ مَا لَمْ
يَنَامُوا، فَإِذَا نَامُوا امْتَنَعُوا. ثُمَّ إِنَّ رَجُلًا مِنَ
الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ صِرْمَةُ كَانَ يَعْمَلُ صَائِمًا حَتَّى
أَمْسَى فَجَاءَ إِلَى أَهْلِهِ فَصَلَّى الْعِشَاءَ ثُمَّ نَامَ
فَلَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ حَتَّى أَصْبَحَ فَأَصْبَحَ صَائِمًا،
فَرَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ
جَهَدَ جَهْدًا شَدِيدًا فَقَالَ: «مَا لِي أَرَاكَ قَدْ جَهَدْتَ
جَهْدًا شَدِيدًا» فَأَخْبَرَهُ، قَالَ وَكَانَ عُمَرُ قَدْ أَصَابَ
مِنَ النِّسَاءِ بَعْدَ مَا نَامَ فَأَتَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فانزل الله أُحِلَّ
لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ
لَكُمْ 2: 187 إِلَى قَوْلِهِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى
اللَّيْلِ 2: 187. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ وَالْحَاكِمُ
فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ حَدِيثِ الْمَسْعُودِيِّ نَحْوَهُ وَفِي
الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ
عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ عَاشُورَاءُ يُصَامُ، فَلَمَّا
نَزَلَ رَمَضَانُ كَانَ مَنْ شَاءَ صَامَ وَمَنْ شَاءَ أفطر. وللبخاريّ
عن ابن عمرو ابن مَسْعُودٍ مِثْلَهُ. وَلِتَحْرِيرِ هَذَا، مَوْضِعٌ
آخَرُ مِنَ التَّفْسِيرِ وَمِنَ الْأَحْكَامِ الْكَبِيرِ وباللَّه
الْمُسْتَعَانُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أُمِرَ النَّاسُ
بِزَكَاةِ الْفِطْرِ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ
(3/255)
النَّاسَ قَبْلَ الْفِطْرِ بِيَوْمٍ- أَوْ يَوْمَيْنِ- وَأَمَرَهُمْ
بِذَلِكَ. قَالَ وَفِيهَا صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْعِيدِ وَخَرَجَ بِالنَّاسِ إِلَى الْمُصَلَّى
فَكَانَ أَوَّلَ صَلَاةِ عِيدٍ صَلَّاهَا وَخَرَجُوا بَيْنَ يَدَيْهِ
بِالْحَرْبَةِ وَكَانَتْ لِلزُّبَيْرِ وَهَبَهَا لَهُ النَّجَاشِيُّ
فَكَانَتْ تُحْمَلُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَعْيَادِ.
قُلْتُ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ فِيمَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ
الْمُتَأَخِّرِينَ فُرِضَتِ الزَّكَاةُ ذَاتُ النُّصُبِ كَمَا
سَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ كُلِّهِ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ إِنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى وَبِهِ الثِّقَةُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ وَلَا
حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا باللَّه الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ [1] . |