البداية والنهاية، ط. دار الفكر

سَرِيَّةُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ إِلَى بَنِي فَزَارَةَ
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا بَهْزٌ ثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ ثَنَا إِيَاسُ بْنُ سَلَمَةَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ أَبِي بكر [ابن] أَبِي قُحَافَةَ وَأَمَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْنَا فَغَزَوْنَا بَنِيَ فَزَارَةَ، فَلَمَّا دَنَوْنَا مِنَ الْمَاءِ أَمَرَنَا أَبُو بَكْرٍ فَعَرَّسْنَا، فَلَمَّا صَلَّيْنَا الصُّبْحَ أَمَرَنَا أَبُو بَكْرٍ فَشَنَنَّا الغارة فقتلنا على الماء من مر قبلنا، قَالَ سَلَمَةُ ثُمَّ نَظَرْتُ إِلَى عُنُقٍ مِنَ النَّاسِ فِيهِ مِنَ الذُّرِّيَةِ وَالنِّسَاءِ نَحْوَ الْجَبَلِ وَأَنَا أَعْدُو فِي آثَارِهِمْ فَخَشِيتُ أَنْ يَسْبِقُونِي إِلَى الْجَبَلِ فَرَمَيْتُ بِسَهْمٍ فَوَقَعَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْجَبَلِ، قَالَ فَجِئْتُ بِهِمْ أَسُوقُهُمْ إِلَى أَبِي بَكْرٍ حَتَّى أَتَيْتُهُ عَلَى الْمَاءِ وَفِيهِمُ امْرَأَةٌ مِنْ فَزَارَةَ عَلَيْهَا قَشْعٌ مِنْ أَدَمِ وَمَعَهَا ابْنَةٌ لَهَا مِنْ أَحْسَنِ الْعَرَبِ، قَالَ فَنَفَّلَنِي أبو بكر بنتها،
__________
[1] الفدع محركة اعوجاج الرسغ من اليد أو الرجل حتى ينقلب الكف أو القدم الى انسيها.

(4/220)


قَالَ فَمَا كَشَفْتُ لَهَا ثَوْبًا حَتَّى قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ ثُمَّ بِتُّ فَلَمْ أَكْشِفْ لَهَا ثَوْبًا، قَالَ فَلَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السُّوقِ فَقَالَ لِي «يَا سَلَمَةُ هَبْ لِي الْمَرْأَةَ» قَالَ فَقُلْتُ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ أَعْجَبَتْنِي وَمَا كَشَفْتُ لَهَا ثَوْبًا، قَالَ فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَرَكَنِي حَتَّى إِذَا كَانَ مِنَ الْغَدِ لَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السُّوقِ فَقَالَ «يَا سَلَمَةُ هَبْ لي المرأة» قَالَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاللَّهِ لَقَدْ أَعْجَبَتْنِي وَمَا كَشَفْتُ لَهَا ثَوْبًا، قَالَ فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَرَكَنِي حَتَّى إِذَا كَانَ مِنَ الْغَدِ لَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السُّوقِ فَقَالَ «يَا سَلَمَةُ هَبْ لِي الْمَرْأَةَ للَّه أبوك» قال قلت يا رسول الله والله ما كَشَفْتُ لَهَا ثَوْبًا وَهِيَ لَكَ يَا رَسُولَ الله، قال بعث بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ وَفِي أَيْدِيهِمْ أُسَارَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَفَدَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتِلْكَ الْمَرْأَةِ.
وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ بِهِ.
سَرِيَّةُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى تربة من أرض هوازن وَرَاءَ مَكَّةَ بِأَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ
ثُمَّ أَوْرَدَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْوَاقِدِيِّ بِأَسَانِيدِهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي ثَلَاثِينَ رَاكِبًا وَمَعَهُ دَلِيلٌ مِنْ بَنِي هِلَالٍ وَكَانُوا يَسِيرُونَ اللَّيْلَ وَيَكْمُنُونَ النَّهَارَ، فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَى بِلَادِهِمْ هَرَبُوا مِنْهُمْ وَكَرَّ عُمَرُ رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَقِيلَ لَهُ هَلْ لَكَ فِي قِتَالِ خَثْعَمٍ؟ فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْمُرْنِي إِلَّا بِقِتَالِ هَوَازِنَ فِي أَرْضِهِمْ.
سَرِيَّةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ إِلَى يُسَيْرِ [1] بْنِ رِزَامٍ الْيَهُودِيِّ
ثُمَّ أَوْرَدَ مِنْ طريق إبراهيم بن لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ عَنْ عُرْوَةَ وَمِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ فِي ثَلَاثِينَ رَاكِبًا فيهم عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ إِلَى يُسَيْرِ بْنِ رِزَامٍ الْيَهُودِيِّ حَتَّى أَتَوْهُ بِخَيْبَرَ، وَبَلَغَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يَجْمَعُ غَطَفَانَ لِيَغْزُوَهُ بِهِمْ، فَأَتَوْهُ فَقَالُوا أَرْسَلَنَا إِلَيْكَ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليستملك عَلَى خَيْبَرَ فَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى تَبِعَهُمْ فِي ثَلَاثِينَ رَجُلًا مَعَ كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ رديف من المسلمين، فلما بلغوا قرقرة نيار وَهِيَ مِنْ خَيْبَرَ عَلَى سِتَّةِ أَمْيَالٍ نَدِمَ يسير ابن رِزَامٍ فَأَهْوَى بِيَدِهِ إِلَى سَيْفِ عَبْدِ اللَّهِ بن رواحة، ففطن له عبد الله بن رواحة فَزَجَرَ بِعَيْرَهُ ثُمَّ اقْتَحَمَ يَسُوقُ بِالْقَوْمِ حَتَّى اسْتَمْكَنَ مِنْ يُسَيْرٍ ضَرَبَ رِجْلَهُ فَقَطَعَهَا، وَاقْتَحَمَ يسير وفي يده مخراش مِنْ شَوْحَطٍ فَضَرَبَ بِهِ وَجْهَ عَبْدِ اللَّهِ بن رواحة فَشَجَّهُ شَجَّةً مَأْمُومَةً. وَانْكَفَأَ كُلُّ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى رَدِيفِهِ فَقَتَلَهُ غَيْرَ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنَ الْيَهُودِ أَعْجَزَهُمْ شَدًّا وَلَمْ يُصَبْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَحَدٌ، وَبَصَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَجَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رواحة فلم تقيح وَلَمْ تُؤْذِهِ حَتَّى مَاتَ.
سَرِيَّةٌ أُخْرَى مَعَ بَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ
رَوَى مِنْ طَرِيقِ الْوَاقِدِيِّ بِإِسْنَادِهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ بَشِيرَ بْنَ سَعْدٍ فِي ثَلَاثِينَ راكبا
__________
[1] وفي بعض السير وفي الاصابة: أسير بضم الهمزة وفتح السين المهملة.

(4/221)


الى بنى مرة من أَرْضِ فَدَكَ فَاسْتَاقَ نَعَمَهُمْ، فَقَاتَلُوهُ وَقَتَلُوا عَامَّةَ مَنْ مَعَهُ وَصَبَرَ هُوَ يَوْمَئِذٍ صَبْرًا عَظِيمًا، وَقَاتَلَ قِتَالًا شَدِيدًا، ثُمَّ لَجَأَ إِلَى فَدَكَ فَبَاتَ بِهَا عِنْدَ رَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ، ثُمَّ كَرَّ رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: ثُمَّ بَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَالِبَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ فَذَكَرَ مِنْهُمْ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، وَأَبَا مَسْعُودٍ الْبَدْرِيَّ، وَكَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ ثُمَّ ذَكَرَ مَقْتَلَ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ لِمِرْدَاسِ بْنِ نَهِيكٍ حَلِيفِ بَنِي مُرَّةَ وَقَوْلُهُ حِينَ عَلَاهُ بِالسَّيْفِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ الصَّحَابَةَ لَامُوهُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى سُقِطَ فِي يَدِهِ وَنَدِمَ عَلَى مَا فَعَلَ. وَقَدْ ذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ شَيْخٍ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ عَنْ رِجَالٍ مِنْ قَوْمِهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ غَالِبَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْكَلْبِيَّ إِلَى أَرْضِ بَنِي مُرَّةَ فَأَصَابَ مِرْدَاسَ بْنَ نَهِيكٍ [حَلِيفًا لَهُمْ مِنَ الْحُرَقَةِ فَقَتَلَهُ أُسَامَةُ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ:
فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أُسَامَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أُسَامَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ أَدْرَكْتُهُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ- يَعْنِي مِرْدَاسَ بن نهيك-] فلما شهرنا عليه السيف قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَلَمْ نَنْزِعْ عَنْهُ حَتَّى قَتَلْنَاهُ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرْنَاهُ فَقَالَ: «يَا أُسَامَةُ مَنْ لَكَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا قَالَهَا تَعَوُّذًا مِنَ الْقَتْلِ، قَالَ «فَمَنْ لَكَ يَا أُسَامَةُ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» فو الّذي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ مَا زَالَ يُرَدِّدُهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنَّ مَا مَضَى مِنْ إِسْلَامِي لَمْ يَكُنْ، وَأَنِّي أَسْلَمْتُ يَوْمَئِذٍ وَلَمْ أَقْتُلْهُ. فَقُلْتُ إِنِّي أُعْطِي اللَّهَ عَهْدًا أَنْ لَا أَقْتُلُ رَجُلًا يَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَبَدًا، فَقَالَ: «بَعْدِي يَا أُسَامَةُ» فَقُلْتُ بَعَدَكَ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا هُشَيْمُ بْنُ بَشِيرٍ أَنْبَأَنَا حُصَيْنٌ عَنْ أَبِي ظَبْيَانِ قَالَ سَمِعْتُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ يُحَدِّثُ قَالَ بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْحُرَقَةِ مِنْ جُهَيْنَةَ، قَالَ فَصَبَّحْنَاهُمْ وَكَانَ مِنْهُمْ رَجُلٌ إِذَا أَقْبَلَ الْقَوْمُ كَانَ مِنْ أَشَدِّهِمْ عَلَيْنَا، وَإِذَا أَدْبَرُوا كَانَ حَامِيَتَهُمْ، قَالَ فَغَشَيْتُهُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَلَمَّا تُغَشَّيْنَاهُ قَالَ لَا إِلَهَ إلا الله فكيف عَنْهُ الْأَنْصَارِيُّ وَقَتَلْتُهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ «يَا أُسَامَةُ أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟» قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا كَانَ مُتَعَوِّذًا مِنَ الْقَتْلِ، قَالَ فَكَرَّرَهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ إِلَّا يَوْمَئِذٍ. وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ هُشَيْمٍ بِهِ نَحْوَهُ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عُتْبَةَ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْجُهَنِيِّ عَنْ جُنْدُبِ بْنِ مَكِيثٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ: بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَالِبَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْكَلْبِيَّ كَلْبَ لَيْثٍ إِلَى بَنِي الْمُلَوِّحِ بِالْكَدِيدِ وَأَمَرَهُ أَنْ يُغِيرَ عَلَيْهِمْ وَكُنْتُ فِي سَرِيَّتِهِ، فَمَضَيْنَا حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْقَدِيدِ [1] لَقِينَا الْحَارِثَ بْنَ مَالِكِ بْنِ الْبَرْصَاءِ اللَّيْثِيَّ فَأَخَذْنَاهُ فَقَالَ: إِنِّي إِنَّمَا جِئْتُ لِأُسْلِمَ، فَقَالَ لَهُ غَالِبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ إن كنت إنما جئت لتسلم فلا يضيرك رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَإِنْ كُنْتَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ اسْتَوْثَقْنَا مِنْكَ، قَالَ فَأَوْثَقَهُ رِبَاطًا وَخَلَّفَ عَلَيْهِ رُوَيْجِلًا أَسْوَدَ كَانَ مَعَنَا وَقَالَ: امْكُثْ مَعَهُ حَتَّى نَمُرَّ عَلَيْكَ فَإِنْ نَازَعَكَ فَاحْتَزَّ رأسه. ومضينا حتى
__________
[1] كذا في الأصل والحلبية وهو اسم مكان قريب من مكة.

(4/222)


أَتَيْنَا بَطْنَ الْكَدِيدِ فَنَزَلْنَا عَشِيَّةً بَعْدِ الْعَصْرِ، فَبَعَثَنِي أَصْحَابِي إِلَيْهِ فَعَمَدْتُ إِلَى تَلٍّ يُطْلِعُنِي عَلَى الْحَاضِرِ فَانْبَطَحْتُ عَلَيْهِ وَذَلِكَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَخَرَجَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَنَظَرَ فَرَآنِي مُنْبَطِحًا عَلَى التَّلِّ فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: إِنِّي لَأَرَى سَوَادًا عَلَى هَذَا التَّلِّ مَا رَأَيْتُهُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ فَانْظُرِي لَا تَكُونُ الْكِلَابُ اجْتَرَّتْ بَعْضَ أَوْعِيَتِكِ؟ فَنَظَرَتْ فَقَالَتْ وَاللَّهِ مَا أَفْقِدُ مِنْهَا شَيْئًا، قَالَ فَنَاوِلِينِي قَوْسِي وَسَهْمَيْنِ مِنْ نَبْلِي فناولته فرماني بسهم في جنبي أو قال في جبيني فَنَزَعْتُهُ فَوَضَعْتُهُ وَلَمْ أَتَحَرَّكْ، ثُمَّ رَمَانِي بِالْآخَرِ فَوَضَعَهُ فِي رَأْسِ مَنْكِبِي فَنَزَعْتُهُ فَوَضَعْتُهُ وَلَمْ أَتَحَرَّكْ، فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ خَالَطَهُ سهماي ولو كان ريبة لَتَحَرَّكَ، فَإِذَا أَصْبَحْتِ فَابْتَغِي سَهْمَيَّ فَخُذِيهِمَا لَا تَمْضُغُهُمَا عَلَيَّ الْكِلَابُ، قَالَ فَأَمْهَلْنَا حَتَّى إِذَا راحت روائحهم وَحَتَّى احْتَلَبُوا وَعَطَّنُوا وَسَكَنُوا وَذَهَبَتْ عَتَمَةٌ مِنَ اللَّيْلِ، شَنَنَّا عَلَيْهِمُ الْغَارَةَ فَقَتَلْنَا وَاسْتَقْنَا النَّعَمَ وَوَجَّهْنَا قَافِلِينَ بِهِ وَخَرَجَ صَرِيخُ الْقَوْمِ إِلَى قَوْمِهِمْ بِقُرْبِنَا، قَالَ وَخَرَجْنَا سِرَاعًا حَتَّى نَمُرَّ بِالْحَارِثِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْبَرْصَاءِ وَصَاحِبِهِ، فَانْطَلَقْنَا بِهِ مَعَنَا وَأَتَانَا صَرِيخُ النَّاسِ فَجَاءَنَا مَا لَا قِبَلَ لَنَا بِهِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ إِلَّا بَطْنُ الْوَادِي مِنْ قُدَيْدٍ بَعَثَ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ شَاءَ مَاءً مَا رَأَيْنَا قَبْلَ ذَلِكَ مَطَرًا وَلَا حَالًا، وَجَاءَ بِمَا لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يُقْدِمَ عَلَيْهِ، فَلَقَدْ رَأَيْتُهُمْ وُقُوفًا يَنْظُرُونَ إِلَيْنَا مَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنْ يُقْدِمَ عَلَيْهِ، وَنَحْنُ نجدبها أَوْ نَحْدُوهَا- شَكَّ النُّفَيْلِيُّ- فَذَهَبْنَا سِرَاعًا حَتَّى أسندنا بها في المسلك، ثم حذرنا عَنْهُ حَتَّى أَعْجَزْنَا الْقَوْمَ بِمَا فِي أَيْدِينَا. وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بن إسحاق فِي رِوَايَتِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ غَالِبٍ، وَالصَّوَابُ غَالِبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ هَذِهِ الْقِصَّةَ بِإِسْنَادٍ آخَرَ وَقَالَ فِيهِ: وَكَانَ مَعَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ مِائَةٌ وَثَلَاثُونَ رَجُلًا. ثُمَّ ذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْوَاقِدِيِّ سَرِيَّةَ بشير ابن سَعْدٍ أَيْضًا إِلَى نَاحِيَةِ خَيْبَرَ فَلَقُوا جَمْعًا مِنَ الْعَرَبِ وَغَنِمُوا نَعَمًا كَثِيرًا، وَكَانَ بَعْثُهُ فِي هَذِهِ السَّرِيَّةِ بِإِشَارَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَكَانَ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثُمِائَةِ رَجُلٍ وَدَلِيلُهُ حُسَيْلُ بْنُ نُوَيْرَةَ وَهُوَ الَّذِي كَانَ دَلِيلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى خَيْبَرَ قَالَهُ الْوَاقِدِيُّ.
سَرِيَّةُ أَبِي حَدْرَدٍ إِلَى الْغَابَةِ
قَالَ يُونُسُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ: كَانَ مِنْ حَدِيثِ قِصَّةِ أَبِي حَدْرَدٍ وَغَزْوَتِهِ إِلَى الْغَابَةِ مَا حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِي حَدْرَدٍ قَالَ: تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً مِنْ قَوْمِي فَأَصْدَقْتُهَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، قَالَ فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْتَعِينُهُ عَلَى نِكَاحِي فَقَالَ «كَمْ أَصْدَقْتَ؟» فَقُلْتُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، فَقَالَ «سُبْحَانَ اللَّهِ وَاللَّهِ لَوْ كُنْتُمْ تَأْخُذُونَهَا مِنْ وَادٍ ما زدتم، وَاللَّهِ مَا عِنْدِي مَا أُعِينُكَ بِهِ» فَلَبِثْتُ أَيَّامًا ثُمَّ أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْ جُشَمَ بْنِ مُعَاوِيَةَ يُقَالُ لَهُ رِفَاعَةُ بْنُ قَيْسٍ- أَوْ قَيْسُ بْنُ رِفَاعَةَ- فِي بَطْنٍ عَظِيمٍ مِنْ جُشَمَ حَتَّى نَزَلَ بِقَوْمِهِ وَمَنْ مَعَهُ بِالْغَابَةِ يُرِيدُ أَنْ يَجْمَعَ قَيْسًا عَلَى مُحَارَبَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ ذَا اسْمٍ وَشَرَفٍ فِي جُشَمَ، قَالَ فَدَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجُلَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ «اخْرُجُوا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ

(4/223)


حَتَّى تَأْتُوا مِنْهُ بِخَبَرٍ وَعِلْمٍ» . وَقَدَّمَ لَنَا شارفا عجفاء فحمل عليه أحدنا فو الله مَا قَامَتْ بِهِ ضَعْفًا حَتَّى دَعَمَهَا الرِّجَالُ مِنْ خَلْفِهَا بِأَيْدِيهِمْ حَتَّى اسْتَقَلَّتْ وَمَا كَادَتْ، وَقَالَ «تَبَلَّغُوا عَلَى هَذِهِ» فَخَرَجْنَا وَمَعَنَا سِلَاحُنَا مِنَ النَّبْلِ وَالسُّيُوفِ حَتَّى إِذَا جِئْنَا قَرِيبًا مِنَ الْحَاضِرِ مَعَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَكَمَنْتُ فِي نَاحِيَةٍ وَأَمَرْتُ صَاحِبَيَّ فَكَمَنَا فِي نَاحِيَةٍ أُخْرَى مِنْ حَاضِرِ الْقَوْمِ وَقُلْتُ لَهُمَا: إِذَا سَمِعْتُمَانِي قَدْ كَبَّرْتُ وَشَدَدْتُ فِي الْعَسْكَرِ فَكَبِّرَا وَشُدَّا معى، فو الله إنا كذلك نَنْتَظِرُ أَنْ نَرَى غِرَّةً أَوْ نَرَى شَيْئًا وَقَدْ غَشِيَنَا اللَّيْلُ حَتَّى ذَهَبَتَ فَحْمَةُ الْعِشَاءِ، وَقَدْ كَانَ لَهُمْ رَاعٍ قَدْ سَرَّحَ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ فَأَبْطَأَ عَلَيْهِمْ وَتَخَوَّفُوا عَلَيْهِ، فَقَامَ صَاحِبُهُمْ رِفَاعَةُ بْنُ قَيْسٍ فَأَخَذَ سَيْفَهُ فَجَعَلَهُ فِي عُنُقِهِ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَأَتَيَقَّنَنَّ أَمْرَ رَاعِينَا وَلَقَدْ أَصَابَهُ شَرٌّ، فَقَالَ نَفَرٌ مِمَّنْ مَعَهُ وَاللَّهِ لَا تَذْهَبُ نَحْنُ نَكْفِيكَ، فَقَالَ لَا إلا أنا، قالوا نحن مَعَكَ، فَقَالَ وَاللَّهِ لَا يَتْبَعُنِي مِنْكُمْ أَحَدٌ، وخرج حتى مر بِي فَلَمَّا أَمْكَنَنِي نَفَحْتُهُ بِسَهْمٍ فَوَضَعْتُهُ فِي فؤاده، فو الله مَا تَكَلَّمَ فَوَثَبْتُ إِلَيْهِ فَاحْتَزَزْتُ رَأْسَهُ ثُمَّ شَدَدَتُ نَاحِيَةَ الْعَسْكَرِ وَكَبَّرْتُ وَشَدَّ صَاحِبَايَ وَكَبَّرَا، فو الله ما كان إلا النجا ممن كان فيه عِنْدَكَ [1] بِكُلِّ مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ مِنْ نِسَائِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ وَمَا خَفَّ مَعَهُمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَاسْتَقْنَا إِبِلًا عَظِيمَةً وَغَنَمًا كَثِيرَةً فَجِئْنَا بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجِئْتُ بِرَأْسِهِ أَحْمِلُهُ مَعِي، فَأَعْطَانِي مِنْ تِلْكَ الْإِبِلِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ بَعِيرًا فِي صَدَاقِي فَجَمَعْتُ إِلَيَّ أَهْلِي.
السَرِيَّةُ الَّتِي قَتَلَ فِيهَا مُحَلِّمُ بْنُ جثامة عامر بن الأضبط
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُسَيْطٍ عَنْ ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي حَدْرَدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى إِضَمٍ فِي نَفَرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ، أَبُو قتادة الحارث بن ربعي ومحلم ابن جَثَّامَةَ بْنِ قَيْسٍ فَخَرَجْنَا حَتَّى إِذَا كُنَّا بِبَطْنِ إِضَمٍ مَرَّ بِنَا عَامِرُ بْنُ الْأَضْبَطِ الْأَشْجَعِيُّ عَلَى قَعُودٍ لَهُ مَعَهُ مُتَيِّعٌ لَهُ وَوَطْبٌ مِنْ لَبَنٍ فَسَلَّمَ عَلَيْنَا بِتَحِيَّةِ الْإِسْلَامِ فَأَمْسَكْنَا عَنْهُ، وَحَمَلَ عَلَيْهِ مُحَلِّمُ بْنُ جَثَّامَةَ فَقَتَلَهُ لِشَيْءٍ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ وَأَخَذَ بِعِيرَهُ وَمُتَيِّعَهُ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبرناه الخير فَنَزَلَ فِينَا الْقُرْآنُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً 4: 94 هكذا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ يَعْقُوبَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُسَيْطٍ عَنِ الْقَعْقَاعِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي حَدْرَدٍ عَنْ أَبِيهِ فَذَكَرَهُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ سَمِعْتُ زِيَادَ بْنَ ضُمَيْرَةَ بْنِ سَعْدٍ الضمريّ يحدث عن عروة بن الزبير عن أبيه وعن جده قالا- وكانا شهدا حنينا- قالا: فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الظُّهْرِ فَقَامَ إِلَى ظِلِّ شَجَرَةٍ فَقَعَدَ فيه فقام اليه عيينة بن بدر فطلب بِدَمِ عَامِرِ بْنِ الْأَضْبَطِ الْأَشْجَعِيِّ وَهُوَ سَيِّدُ
__________
[1] كذا في الأصول والّذي في ابن هشام: فو الله ما كان الا النجاء ممن فيه عندك عندك إلخ.

(4/224)


عَامِرٍ هَلْ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِنَّا الْآنَ خَمْسِينَ بَعِيرًا وَخَمْسِينَ إِذَا رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ؟» فَقَالَ عُيَيْنَةُ بْنُ بَدْرٍ: وَاللَّهِ لَا أَدَعُهُ حَتَّى أُذِيقَ نِسَاءَهُ مِنَ الْحُزْنِ مِثْلَ مَا أذاق نسائي، فقال رَجُلٌ مِنْ بَنِي لَيْثٍ يُقَالُ لَهُ ابْنُ مكيتل وهو قصير مِنَ الرِّجَالِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أجد لهذا القتيل شبها في غرة الإسلام إلا كغنم وردت فشربت [1] أولاها فنفرت أخراها استن الْيَوْمَ وَغَيِّرْ غَدًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «هَلْ لَكَمَ أَنْ تَأْخُذُوا خَمْسِينَ بَعِيرًا الْآنَ وَخَمْسِينَ إِذَا رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ؟» فَلَمْ يَزَلْ بِهِمْ حَتَّى رَضُوا بِالدِّيَةِ، فقال قوم محلم بن جثامة ايتوا بِهِ حَتَّى يَسْتَغْفِرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فَجَاءَ رَجُلٌ طُوَالٌ ضَرْبَ اللَّحْمِ فِي حُلَّةٍ قَدْ تَهَيَّأَ فِيهَا لِلْقَتْلِ فَقَامَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اللَّهمّ لَا تَغْفِرْ لِمُحَلِّمٍ» قَالَهَا ثَلَاثًا، فَقَامَ وَإِنَّهُ لَيَتَلَقَّى دُمُوعَهُ بِطَرَفٍ ثَوْبِهِ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: زَعَمَ قَوْمُهُ أَنَّهُ اسْتَغْفَرَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ. وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ من طريق حماد ابن سَلَمَةَ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ أَبِي خَالِدٍ الْأَحْمَرِ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ضُمَيْرَةَ عَنْ أَبِيهِ وَعَمِّهِ فَذَكَرَ بَعْضَهُ، وَالصَّوَابُ كَمَا رَوَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ زِيَادِ بْنِ سَعْدِ بْنِ ضُمَيْرَةَ [2] عَنْ أبيه وعن جده وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ وعن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ زِيَادِ بْنِ سَعْدِ بْنِ ضُمَيْرَةَ عَنْ أَبِيهِ وَجَدَهُ بِنَحْوِهِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي سَالِمٌ أَبُو النَّضْرِ أَنَّهُ قَالَ لَمْ يَقْبَلُوا الدِّيَةَ حَتَّى قَامَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ فَخَلَا بِهِمْ وَقَالَ يَا مَعْشَرَ قَيْسٍ سَأَلَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتِيلًا تَتْرُكُونَهُ لِيُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ النَّاسِ فَمَنَعْتُمُوهُ إِيَّاهُ أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَغْضَبَ عَلَيْكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَغْضَبَ اللَّهُ لغضبه ويلعنكم رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَلْعَنَكُمُ الله بلعنته لكم، لَتُسْلِمُنَّهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ لَآتِيَنَّ بِخَمْسِينَ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ كُلُّهُمْ يَشْهَدُونَ أَنَّ الْقَتِيلَ كَافِرٌ مَا صَلَّى قط فلا يطلبن دَمَهُ، فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ لَهُمْ أَخَذُوا الدِّيَةَ. وَهَذَا مُنْقَطِعٌ مُعْضَلٌ وَقَدْ رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ عَمَّنْ لَا يَتَّهِمُ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّ محلما لما مجلس بَيْنَ يَدَيْهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ لَهُ «أمنته ثُمَّ قَتَلْتَهُ؟» ثُمَّ دَعَا عَلَيْهِ، قَالَ الْحَسَنُ فو الله مَا مَكَثَ مُحَلِّمٌ إِلَّا سَبْعًا حَتَّى مَاتَ فَلَفَظَتْهُ الْأَرْضُ ثُمَّ دَفَنُوهُ فَلَفَظَتْهُ الْأَرْضُ ثُمَّ دَفَنُوهُ فَلَفَظَتْهُ الْأَرْضُ، فَرَضَمُوا عَلَيْهِ مِنَ الْحِجَارَةِ حَتَّى وَارَوْهُ فَبَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إِنَّ الْأَرْضَ لَتَطَّابَقُ عَلَى مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنْهُ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَرَادَ أن يعظكم في حرم ما بينكم لما أَرَاكُمْ مِنْهُ» وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ ثَنَا وَكِيعٌ ثَنَا جَرِيرٌ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَلِّمَ بْنَ جَثَّامَةَ مَبْعَثًا فَلَقِيَهُمْ عَامِرُ بْنُ الْأَضْبَطِ فَحَيَّاهُمْ بِتَحِيَّةِ الإسلام- وكانت بينهم هنة فِي الْجَاهِلِيَّةِ- فَرَمَاهُ مُحَلِّمٌ بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ فَجَاءَ الْخَبَرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَكَلَّمَ فِيهِ عُيَيْنَةُ وَالْأَقْرَعُ فَقَالَ الْأَقْرَعُ: يا رسول
__________
[1] في ابن هشام: فرميت
[2] كذا في الأصل والخلاصة وفي ابن هشام: زياد بن ضميرة بن سعد.

(4/225)


اللَّهِ سُنَّ الْيَوْمَ وَغَيِّرْ غَدًا، فَقَالَ عُيَيْنَةُ: لَا وَاللَّهِ حَتَّى تَذُوقَ نِسَاؤُهُ مِنَ الثُّكْلِ مَا ذَاقَ نِسَائِي فَجَاءَ مُحَلِّمٌ فِي بُرْدَيْنِ فَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَسْتَغْفِرَ لَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا غَفَرَ اللَّهُ لَكَ» فَقَامَ وَهُوَ يَتَلَقَّى دُمُوعَهُ بِبُرْدَيْهِ، فَمَا مَضَتْ لَهُ سَابِعَةٌ حَتَّى مَاتَ فَدَفَنُوهُ فَلَفَظَتْهُ الْأَرْضُ فَجَاءُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكروا ذلك له فقال «إن الأرض لتقبل مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنْ صَاحِبِكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَرَادَ أَنْ يَعِظَكُمْ مِنْ حُرْمَتِكُمْ» ثُمَّ طَرَحُوهُ في جَبَلٍ فَأَلْقَوْا عَلَيْهِ مِنَ الْحِجَارَةِ وَنَزَلَتْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ الله فَتَبَيَّنُوا 4: 94 الْآيَةَ. وَقَدْ ذَكَرَهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَرَوَاهُ شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبْدِ الله ابن وهب عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ نَحْوَ هَذِهِ الْقِصَّةِ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُسَمِّ مُحَلِّمَ بْنَ جَثَّامَةَ وَلَا عَامِرَ بْنَ الْأَضْبَطِ وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ بِنَحْوِ هَذِهِ الْقِصَّةِ وَقَالَ وَفِيهِ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا 4: 94 الْآيَةَ.
قُلْتُ: وَقَدْ تَكَلَّمْنَا فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَعْنَاهَا فِي التَّفْسِيرِ بِمَا فِيهِ الْكِفَايَةُ وللَّه الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ
سَرِيَّةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ السَّهْمِيِّ
ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ أبى عبد الرحمن الحبلى عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: اسْتَعْمَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ عَلَى سَرِيَّةٍ بَعَثَهُمْ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْمَعُوا لَهُ وَيُطِيعُوا، قَالَ فَأَغْضَبُوهُ فِي شَيْءٍ فَقَالَ اجْمَعُوا لِي حَطَبًا فَجَمَعُوا فَقَالَ أَوْقِدُوا نَارًا فَأَوْقَدُوا ثُمَّ قَالَ أَلَمْ يَأْمُرْكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَسْمَعُوا لِي وَتُطِيعُوا؟ قَالُوا بَلَى قَالَ فَادْخُلُوهَا قَالَ فَنَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ وَقَالُوا إِنَّمَا فَرَرْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ النَّارِ، قَالَ فَسَكَنَ غَضَبُهُ وَطُفِئَتِ النَّارُ، فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ «لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ» وَهَذِهِ الْقِصَّةُ ثَابِتَةٌ أَيْضًا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ طَرِيقِ يَعْلَى بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذِهِ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ فِي التَّفْسِيرِ وللَّه الْحَمْدُ والمنة
بسم الله الرحمن الرحيم
عمرة القضاء
وَيُقَالُ الْقِصَاصِ وَرَجَّحَهُ السُّهَيْلِيُّ وَيُقَالُ عُمْرَةُ الْقَضِيَّةِ فالأولى قَضَاءٌ عَمَّا كَانَ أُحْصِرَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ وَالثَّانِي من قوله تعالى وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ 2: 194 وَالثَّالِثُ مِنَ الْمُقَاضَاةِ الَّتِي كَانَ قَاضَاهُمْ عَلَيْهَا عَلَى أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُمْ عَامَهُ هَذَا ثُمَّ يَأْتِي فِي الْعَامِ الْقَابِلِ وَلَا يَدْخُلَ مَكَّةَ إِلَّا فِي جُلْبَانِ [1] السِّلَاحِ وَأَنْ لَا يُقِيمَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَهَذِهِ الْعُمْرَةُ هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْفَتْحِ المباركة
__________
[1] الجلبان بضم الجيم وسكون اللام شبه الجراب من الأدم يوضع فيه السيف وقيل القوس والسيف ونحوه.

(4/226)


لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ 48: 27 الآية وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهَا مُسْتَقْصًى فِي كِتَابِنَا التَّفْسِيرِ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ وَهِيَ الْمَوْعُودُ بِهَا فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ حِينَ قَالَ لَهُ أَلَمْ تَكُنْ تُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي الْبَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ؟ قَالَ «بَلَى أَفَأَخْبَرْتُكَ أَنَّكَ تَأْتِيهِ عَامَكَ هَذَا؟» قَالَ لَا قَالَ «فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَوِّفٌ بِهِ» وَهِيَ الْمُشَارُ إِلَيْهَا فِي قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ حِينَ دَخَلَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَكَّةَ يَوْمَ عُمْرَةِ الْقَضَاءِ وَهُوَ يَقُولُ:
خَلُّوا بَنِي الْكُفَّارِ عَنْ سَبِيلِهِ ... اليوم نضربكم على تأويله
كما ضربنا كم عَلَى تَنْزِيلِهِ
أَيْ هَذَا تَأْوِيلُ الرُّؤْيَا الَّتِي كَانَ رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خَيْبَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ أَقَامَ بِهَا شَهْرَيْ رَبِيعٍ وَجُمَادَيَيْنَ وَرَجَبًا وَشَعْبَانَ وَشَهْرَ رَمَضَانَ وَشَوَّالًا يَبْعَثُ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ سَرَايَاهُ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ فِي الشَّهْرِ الَّذِي صَدَّهُ فِيهِ الْمُشْرِكُونَ مُعْتَمِرًا عُمْرَةَ الْقَضَاءِ مَكَانَ عُمْرَتِهِ الَّتِي صَدُّوهُ عَنْهَا. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ عُوَيْفَ بْنَ الْأَضْبَطِ الدُّئِلِيَّ وَيُقَالُ لَهَا عُمْرَةُ الْقِصَاصِ لِأَنَّهُمْ صَدُّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذِي الْقَعْدَةِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ مِنْ سَنَةِ سِتٍّ فَاقْتَصَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمُ فَدَخَلَ مَكَّةَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ الَّذِي صَدُّوهُ فِيهِ مِنْ سَنَةِ سَبْعٍ، بَلَغَنَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ 2: 194 وَقَالَ مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِيهِ فِي مَغَازِيهِ لَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خَيْبَرَ أَقَامَ بِالْمَدِينَةِ وَبَعَثَ سَرَايَاهُ حَتَّى اسْتَهَلَّ ذِي الْقِعْدَةِ فَنَادَى فِي الناس أن تجهزوا لِلْعُمْرَةِ فَتَجَهَّزُوا وَخَرَجُوا إِلَى مَكَّةَ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَخَرَجَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ مِمَّنْ كَانَ صُدَّ مَعَهُ فِي عُمْرَتِهِ تِلْكَ وَهِيَ سَنَةُ سَبْعٍ فَلَمَّا سَمِعَ بِهِ أَهْلُ مَكَّةَ خَرَجُوا عَنْهُ وتحدثت قريش بينها أن محمدا فِي عُسْرَةٍ وَجَهْدٍ وَشِدَّةٍ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ:
فَحَدَّثَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: صَفُّوا لَهُ عِنْدَ دَارِ النَّدْوَةِ لِيَنْظُرُوا إِلَيْهِ وَإِلَى أَصْحَابِهِ فَلَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْجِدَ اضْطَبَعَ بِرِدَائِهِ وَأَخْرَجَ عَضُدَهُ الْيُمْنَى ثُمَّ قَالَ «رَحِمَ اللَّهُ امَرَأً أَرَاهُمُ الْيَوْمَ مِنْ نَفْسِهِ قوة» ثم استلم الركن ثم خرج يُهَرْوِلُ وَيُهَرْوِلُ أَصْحَابُهُ مَعَهُ حَتَّى إِذَا وَارَاهُ الْبَيْتُ مِنْهُمْ وَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ مَشَى حَتَّى يَسْتَلِمَ الرُّكْنَ الْأَسْوَدَ ثُمَّ هَرْوَلَ كَذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ وَمَشَى سَائِرَهَا فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: كَانَ النَّاسُ يَظُنُّونَ أَنَّهَا لَيْسَتْ عَلَيْهِمْ وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا صَنَعَهَا لِهَذَا الْحَيِّ مِنْ قُرَيْشٍ لِلَّذِي بَلَغَهُ عَنْهُمْ حَتَّى حَجَّ حِجَّةَ الْوَدَاعِ فَلَزِمَهَا فَمَضَتِ السُّنَّةُ بِهَا. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ ثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ ثَنَا حَمَّادٌ- هُوَ ابْنُ زَيْدٍ- عَنْ أَيُّوبَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ إِنَّهُ يقدم عليكم وقد وَهَنَهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ فَأَمْرَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

(4/227)


أن يرملوا الأشواط الثلاث وَأَنْ يَمْشُوا مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ أَنْ يَرْمُلُوا الْأَشْوَاطَ كُلَّهَا إِلَّا الْإِبْقَاءُ عَلَيْهِمْ. قال أبو عبد الله ورواه أبو سَلَمَةَ- يَعْنِي حَمَّادَ بْنَ سَلَمَةَ- عَنْ أَيُّوبَ عَنْ سَعِيدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَامِهِمُ الّذي استأمن قال «ارملوا ليرى [المشركون قوتكم» و] المشركين مِنْ قِبَلِ قُعَيْقِعَانَ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيِّ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَأَسْنَدَ الْبَيْهَقِيُّ طَرِيقَ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ ثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ثَنَا سُفْيَانُ ثنا إسماعيل بن أبى خالد سمع بن أبى أو في يَقُولُ: لَمَّا اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَتَرْنَاهُ مِنْ غِلْمَانِ الْمُشْرِكِينَ وَمِنْهُمْ أَنْ يُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْمَقَامِ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ دَخَلَ مَكَّةَ فِي تِلْكَ الْعُمْرَةِ دَخَلَهَا وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ آخِذٌ بِخِطَامِ نَاقَتِهِ يَقُولُ:
خَلُّوا بَنِي الْكُفَّارِ عَنْ سَبِيلِهِ ... خَلُّوا فَكُلُّ الْخَيْرِ فِي رَسُولِهِ
يَا رَبِّ إِنِّي مُؤْمِنٌ بِقِيلِهِ ... أَعْرِفُ حَقَّ اللَّهِ في قبوله
نحن قتلنا كم عَلَى تَأْوِيلِهِ ... كَمَا قَتَلْنَاكُمْ عَلَى تَنْزِيلِهِ
ضَرْبًا يُزِيلُ الْهَامَ عَنْ مَقِيلِهِ ... وَيُذْهِلُ الْخَلِيلَ عَنْ خليله
قال ابن هشام: نحن قتلنا كم عَلَى تَأْوِيلِهِ إِلَى آخَرِ الْأَبْيَاتِ لِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ فِي غَيْرِ هَذَا الْيَوْمِ- يَعْنِي يَوْمَ صِفِّينَ- قَالَهُ السُّهَيْلِيُّ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ ابْنَ رَوَاحَةَ إِنَّمَا أَرَادَ المشركين والمشركون لم يقروا بالتنزيل وإنما يقاتل عَلَى التَّأْوِيلِ مَنْ أَقَرَّ بِالتَّنْزِيلِ، وَفِيمَا قَالَهُ ابْنُ هِشَامٍ نَظَرٌ فَإِنَّ الْحَافِظَ الْبَيْهَقِيَّ رَوَى مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ مَشَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَفِي رِوَايَةٍ وَهُوَ آخِذٌ بِغَرْزِهِ وَهُوَ يَقُولُ:
خَلُّوا بَنِي الْكُفَّارِ عَنْ سَبِيلِهِ ... قَدْ نَزَّلَ الْرَحْمَنُ فِي تَنْزِيلِهِ
بِأَنَّ خَيْرَ الْقَتْلِ فِي سَبِيلِهِ ... نَحْنُ قَتَلْنَاكُمْ عَلَى تَأْوِيلِهِ
وَفِي رِوَايَةٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ بِعَيْنِهِ:
خَلُّوا بَنِي الْكُفَّارِ عَنْ سَبِيلِهِ ... الْيَوْمَ نَضْرِبُكُمْ عَلَى تَنْزِيلِهِ
ضَرْبًا يُزِيلُ الْهَامَ عَنْ مَقِيلِهِ ... وَيُذْهِلُ الْخَلِيلَ عَنْ خَلِيلِهِ
يَا رَبِّ إِنِّي مُؤْمِنٌ بِقِيلِهِ
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنْ هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دخل عَامَ الْقَضِيَّةِ مَكَّةَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ عَلَى نَاقَتِهِ واستلم الركن بمحجنه. قال ابن هشام من غير علة، والمسلمون

(4/228)


تشتدون حَوْلَهُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ يَقُولُ:
بِسْمِ الَّذِي لَا دِينَ إِلَّا دِينُهُ ... بِسْمِ الَّذِي مُحَمَّدٌ رَسُولُهُ
خَلُّوا بَنِي الْكُفَّارِ عَنْ سَبِيلِهِ
قَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ: ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ العام القابل مِنْ عَامِ الْحُدَيْبِيَةِ مُعْتَمِرًا فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ سَبْعٍ وَهُوَ الشَّهْرُ الَّذِي صَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى إِذَا بَلَغَ يَأْجَجَ وَضَعَ الْأَدَاةَ كُلَّهَا الْحَجَفَ وَالْمَجَانَّ وَالرِّمَاحَ وَالنَّبْلَ وَدَخَلُوا بِسِلَاحِ الرَّاكِبِ السُّيُوفِ وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ إِلَى مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ العامرية فحطبها عَلَيْهِ فَجَعَلَتْ أَمْرَهَا إِلَى الْعَبَّاسِ وَكَانَ تَحْتَهُ أُخْتُهَا أُمُّ الْفَضْلِ بِنْتُ الْحَارِثِ فَزَوَّجَهَا الْعَبَّاسُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر أصحابه قال «اكْشِفُوا عَنِ الْمَنَاكِبِ وَاسْعَوْا فِي الطَّوَافِ» لِيَرَى الْمُشْرِكُونَ جَلَدَهُمْ وَقُوَّتَهُمْ وَكَانَ يُكَايِدُهُمْ بِكُلِّ مَا اسْتَطَاعَ فَاسْتَكَفَّ أَهْلُ مَكَّةَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ يَنْظُرُونَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ وَهُمْ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ يَرْتَجِزُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَشِّحًا بِالسَّيْفِ وَهُوَ يَقُولُ:
خَلُّوا بَنِي الْكُفَّارِ عَنْ سَبِيلِهِ ... أَنَا الشَّهِيدُ أَنَّهُ رَسُولُهُ
قَدْ أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ فِي تَنْزِيلِهِ ... فِي صُحُفٍ تُتْلَى عَلَى رَسُولِهِ
فَالْيَوْمَ نضربكم على تأويله ... كما ضربنا كم عَلَى تَنْزِيلِهِ
ضَرْبًا يُزِيلُ الْهَامَ عَنْ مَقِيلِهِ ... وَيُذْهِلُ الْخَلِيلَ عَنْ خَلِيلِهِ
قَالَ: وَتَغَيَّبَ رِجَالٌ مِنْ أَشْرَافِ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْظًا وَحَنَقًا، وَنَفَاسَةً وَحَسَدًا، وَخَرَجُوا إِلَى الْخَنْدَمَةِ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ وَأَقَامَ ثَلَاثَ لَيَالٍ، وَكَانَ ذَلِكَ آخِرَ الْقَضِيَّةِ يَوْمَ الحديبيّة، فلما أتى الصبح مِنَ الْيَوْمِ الرَّابِعِ أَتَاهُ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو وَحُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَجْلِسِ الْأَنْصَارِ يَتَحَدَّثُ مَعَ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فَصَاحَ حُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى: نُنَاشِدُكَ اللَّهَ وَالْعَقْدَ لَمَا خَرَجْتَ مِنْ أَرْضِنَا فَقَدْ مَضَتِ الثَّلَاثُ، فَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ:
كَذَبْتَ لَا أُمَّ لَكَ لَيْسَ بِأَرْضِكَ وَلَا بِأَرْضِ آبَائِكَ وَاللَّهِ لَا يَخْرُجُ، ثُمَّ نَادَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُهَيْلًا وَحُوَيْطِبًا فَقَالَ: «إِنِّي قَدْ نَكَحْتُ فِيكُمُ امْرَأَةً فَمَا يَضُرُّكُمْ أَنْ أَمْكُثَ حَتَّى أَدْخُلَ بِهَا وَنَصْنَعَ الطَّعَامَ فَنَأْكُلُ وَتَأْكُلُونَ مَعَنَا» فَقَالُوا نُنَاشِدُكَ اللَّهَ وَالْعَقْدَ إِلَّا خَرَجْتَ عَنَّا، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا رَافِعٍ فَأَذَّنَ بِالرَّحِيلِ، وَرَكِبَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى نزل ببطن سَرِفٍ وَأَقَامَ الْمُسْلِمُونَ وَخَلَّفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا رَافِعٍ لِيَحْمِلَ مَيْمُونَةَ، وَأَقَامَ بِسَرِفٍ حَتَّى قَدِمَتْ عَلَيْهِ مَيْمُونَةُ وَقَدْ لَقِيَتْ مَيْمُونَةُ وَمَنْ مَعَهَا عَنَاءً

(4/229)


وَأَذًى مِنْ سُفَهَاءِ الْمُشْرِكِينَ وَمِنْ صِبْيَانِهِمْ، فَقَدِمَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَرِفٍ فَبَنَى بِهَا ثُمَّ أَدْلَجَ فَسَارَ حَتَّى أتى الْمَدِينَةَ، وَقَدَّرَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ مَوْتُ مَيْمُونَةَ بِسَرَفٍ بَعْدَ ذَلِكَ بِحِينٍ، فَمَاتَتْ حَيْثُ بَنَى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةَ ابْنَةِ حَمْزَةَ إِلَى أَنْ قَالَ: وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي تِلْكَ الْعُمْرَةِ الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ 2: 194 فَاعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ الَّذِي صُدَّ فِيهِ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ نَحْوًا مِنْ هَذَا السِّيَاقِ، وَلِهَذَا السِّيَاقِ شَوَاهِدُ كَثِيرَةٌ مِنْ أَحَادِيثَ مُتَعَدِّدَةٍ فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ فُلَيْحِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مُعْتَمِرًا، فَحَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ، فَنَحَرَ هَدْيَهُ وَحَلَقَ رَأَسَهُ بِالْحُدَيْبِيَةِ وَقَاضَاهُمْ عَلَى أَنْ يَعْتَمِرَ الْعَامَ الْمُقْبِلَ وَلَا يَحْمِلَ سِلَاحًا إِلَّا سُيُوفًا، وَلَا يُقِيمَ بِهَا إِلَّا مَا أَحَبُّوا، فَاعْتَمَرَ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ فَدَخَلَهَا كَمَا كَانَ صَالَحَهُمْ، فَلَمَّا أَنْ أَقَامَ بِهَا ثَلَاثًا أَمَرُوهُ أَنْ يَخْرُجَ فَخَرَجَ. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَمْ تَكُنْ هَذِهِ عُمْرَةَ قَضَاءٍ وَإِنَّمَا كَانَتْ شَرْطًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَعْتَمِرُوا مِنْ قَابِلٍ فِي الشَّهْرِ الَّذِي صَدَّهُمْ فِيهِ الْمُشْرِكُونَ وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ ثَنَا النُّفَيْلِيُّ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ سَمِعْتُ أَبَا حاضر الحميري يحدث أن مَيْمُونَ بْنَ مِهْرَانَ قَالَ: خَرَجْتُ مُعْتَمِرًا عَامَ حَاصَرَ أَهْلُ الشَّامِ ابْنَ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ وَبَعَثَ مَعِي رِجَالٌ مِنْ قَوْمِي بِهَدْيٍ، قَالَ فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَى أَهْلِ الشَّامِ مَنَعُونَا أَنْ نَدْخُلَ الْحَرَمَ، قَالَ فَنَحَرْتُ الْهَدْيَ مَكَانِي ثُمَّ أَحْلَلْتُ ثُمَّ رَجَعْتُ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ خرجت لا قضى عُمْرَتِي فَأَتَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ:
أَبْدِلِ الْهَدْيَ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يُبْدِلُوا الْهَدْيَ الَّذِي نَحَرُوا عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ. تَفَرَّدَ بِهِ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي حَاضِرٍ عُثْمَانَ بْنِ حَاضِرٍ الْحِمْيَرِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَذَكَرَهُ.
وَقَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ أَنْبَأَنَا الْحَاكِمُ أَنْبَأَنَا الْأَصَمُّ ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ ثَنَا يُونُسُ بْنُ بكير عن ابن إسحاق حدثني عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ قَالَ: كَانَ أَبِي يَسْأَلُ كثيرا أهل كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبْدَلَ هَدْيَهُ الَّذِي نَحَرَ حِينَ صَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ عَنِ الْبَيْتِ؟ وَلَا يَجِدُ فِي ذَلِكَ شَيْئًا، حَتَّى سَمِعْتُهُ يَسْأَلُ أَبَا حَاضِرٍ الْحِمْيَرِيَّ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ: عَلَى الْخَبِيرِ سَقَطْتَ، حَجَجْتُ عَامَ ابْنِ الزُّبَيْرِ فِي الْحَصْرِ الْأَوَّلِ فَأَهْدَيْتُ هَدْيًا فَحَالُوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْبَيْتِ، فَنَحَرْتُ فِي الْحَرَمِ وَرَجَعْتُ إِلَى الْيَمَنِ وَقُلْتُ لِي بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسْوَةٌ، فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ حَجَجْتُ فَلَقِيتُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَسَأَلْتُهُ عَمَّا نَحَرْتُ عَلَيَّ بَدَلَهُ أَمْ لَا؟ قَالَ نَعَمْ فَأَبْدِلْ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ قَدْ أَبْدَلُوا الْهَدْيَ الَّذِي نَحَرُوا عَامَ صَدَّهُمُ الْمُشْرِكُونَ فَأَبْدَلُوا ذَلِكَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ، فَعَزَّتِ الْإِبِلُ عَلَيْهِمْ فَرَخَّصَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْبَقَرِ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي غَانِمُ بْنُ أَبِي غَانِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ناجية بن جندب الْأَسْلَمِيَّ عَلَى هَدْيِهِ يَسِيرُ بِالْهَدْيِ أَمَامَهُ يَطْلُبُ الرَّعْيَ فِي الشَّجَرِ مَعَهُ أَرْبَعَةُ

(4/230)


فِتْيَانٍ مِنْ أَسْلَمَ، وَقَدْ سَاقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ سِتِّينَ بَدَنَةً. فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ نُعَيْمٍ الْمُجْمِرُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كُنْتُ مَعَ صَاحِبِ الْبُدْنِ أَسُوقُهَا. قَالَ الْوَاقِدِيُّ وَسَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُلَبِّي وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ يُلَبُّونَ، وَمَضَى مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ بِالْخَيْلِ إِلَى مَرِّ الظَّهْرَانِ فَيَجِدُ بِهَا نَفَرًا مِنْ قُرَيْشٍ، فَسَأَلُوا مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ؟ فَقَالَ هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَبِّحُ هَذَا الْمَنْزِلَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَرَأَوْا سِلَاحًا كَثِيرًا مَعَ بَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ، فَخَرَجُوا سِرَاعًا حَتَّى أَتَوْا قُرَيْشًا فَأَخْبَرُوهُمْ بِالَّذِي رَأَوْا مِنَ السِّلَاحِ وَالْخَيْلِ، فَفَزِعَتْ قُرَيْشٌ وَقَالُوا وَاللَّهِ مَا أَحْدَثْنَا حَدَثًا وَإِنَّا عَلَى كِتَابِنَا وَهُدْنَتِنَا فَفِيمَ يَغْزُونَا مُحَمَّدٌ فِي أَصْحَابِهِ؟ وَنَزَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ الظَّهْرَانِ، وَقَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السِّلَاحَ إِلَى بَطْنِ يَأْجَجَ حَيْثُ يَنْظُرُ إِلَى أَنْصَابِ الْحَرَمِ، وَبَعَثَتْ قُرَيْشٌ مِكْرَزَ بْنَ حَفْصِ بْنِ الْأَحْنَفِ فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ حَتَّى لَقُوهُ بِبَطْنِ يَأْجَجَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَصْحَابِهِ وَالْهَدْيِ وَالسِّلَاحِ قَدْ تَلَاحَقُوا، فَقَالُوا يَا مُحَمَّدُ مَا عُرِفْتَ صَغِيرًا وَلَا كَبِيرًا بِالْغَدْرِ، تَدْخُلُ بِالسِّلَاحِ فِي الْحَرَمِ عَلَى قَوْمِكَ وَقَدْ شَرَطْتَ لَهُمْ أَنْ لَا تَدْخُلَ إِلَّا بِسِلَاحِ الْمُسَافِرِ السُّيُوفِ فِي الْقُرُبِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنِّي لَا أُدْخِلُ عَلَيْهِمُ السِّلَاحَ» فَقَالَ مِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ: هَذَا الَّذِي تُعْرَفُ بِهِ الْبِرُّ وَالْوَفَاءُ، ثُمَّ رَجَعَ سَرِيعًا بِأَصْحَابِهِ إِلَى مَكَّةَ. فلما أن جاء مكرز بن حفص بخبر النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَتْ قُرَيْشٌ مِنْ مَكَّةَ إِلَى رُءُوسِ الْجِبَالِ وَخَلَّوْا مَكَّةَ وَقَالُوا لَا نَنْظُرُ إِلَيْهِ وَلَا إِلَى أَصْحَابِهِ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْهَدْيِ أَمَامَهُ حَتَّى حُبِسَ بِذِي طُوًى، وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ وَهُمْ مُحْدِقُونَ بِهِ يُلَبُّونَ وَهُمْ مُتَوَشِّحُونَ السُّيُوفَ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى ذي طوى وقف على ناقته الْقَصْوَاءِ وَابْنُ رَوَاحَةَ آخِذٌ بِزِمَامِهَا وَهُوَ يَرْتَجِزُ بِشِعْرِهِ وَيَقُولُ:
خَلُّوا بَنِي الْكُفَّارِ عَنْ سَبِيلِهِ
إِلَى آخِرِهِ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ صَبِيحَةَ رَابِعَةٍ- يَعْنِي مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ سَبْعٍ- فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّهُ يَقْدَمُ عَلَيْكُمْ وَفْدٌ قَدْ وَهَنَتْهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ يرملوا الأشواط الثلاثة، وأن يمشوا بين الركنتين، وَلَمْ يَمْنَعْهُ أَنْ يَرْمُلُوا الْأَشْوَاطَ كُلَّهَا إِلَّا الْإِبْقَاءُ عَلَيْهِمْ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بن الصباح ثنا إسماعيل بن زكريا عن عبد الله ابن عُثْمَانَ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما نزل مر الظهران من عُمْرَتِهِ بَلَغَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ قُرَيْشًا تَقُولُ: مَا يَتَبَاعَثُونَ مِنَ الْعَجَفِ، فَقَالَ أَصْحَابُهُ: لَوِ انْتَحَرْنَا مِنْ ظهرنا فأكلنا من لحومه وَحَسَوْنَا مِنْ مَرَقِهِ أَصْبَحْنَا غَدًا حِينَ نَدْخُلُ عَلَى الْقَوْمِ وَبِنَا جَمَامَةٌ، فَقَالَ «لَا تَفْعَلُوا وَلَكِنِ اجْمَعُوا لِي مِنْ أَزْوَادِكُمْ فَجَمَعُوا لَهُ وبسطوا الأنطاع فأكلوا حتى تركوا، وحشى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي جِرَابِهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَقَعَدَتْ قُرَيْشٌ نَحْوَ الْحِجْرِ، فَاضْطَبَعَ بِرِدَائِهِ ثُمَّ قَالَ «لَا يَرَى الْقَوْمُ فِيكُمْ غَمِيزَةً» فَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ ثُمَّ رَمَلَ حَتَّى إِذَا تَغَيَّبَ بِالرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ مَشَى إِلَى الرُّكْنِ

(4/231)


الْأَسْوَدِ، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: مَا يَرْضَوْنَ بِالْمَشْيِ أَمَا أنهم لينفرون نفر الظِّبَاءِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ فَكَانَتْ سُنَّةً. قَالَ أَبُو الطُّفَيْلِ: وَأَخْبَرَنِي ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ ذَلِكَ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ ثَنَا أَبُو سَلَمَةَ مُوسَى ثَنَا حَمَّادٌ- يَعْنِي ابْنَ سَلَمَةَ- أَنْبَأَنَا أَبُو عَاصِمٍ الْغَنَوِيُّ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ قَالَ قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ يَزْعُمُ قَوْمُكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ رَمَلَ بِالْبَيْتِ وَأَنَّ ذَلِكَ سُنَّةٌ؟
فَقَالَ: صَدَقُوا وَكَذَبُوا، قُلْتُ مَا صَدَقُوا وَمَا كَذَبُوا؟ قَالَ صَدَقُوا رَمَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَذَبُوا لَيْسَ بِسُنَّةٍ، إِنَّ قُرَيْشًا زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ قَالَتْ دَعُوا مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ حَتَّى يَمُوتُوا مَوْتَ النَّغَفِ، فَلَمَّا صَالَحُوهُ عَلَى أَنْ يَجِيئُوا مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ فَيُقِيمُوا بِمَكَّةَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَقَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُشْرِكُونَ مِنْ قِبَلِ قُعَيْقِعَانَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ «ارْمُلُوا بِالْبَيْتِ ثَلَاثًا» قَالَ وَلَيْسَ بِسُنَّةٍ. وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدٍ الْجُرَيْرِيِّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ وَعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ أَبْجَرَ ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَامِرِ بْنِ وائلة عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِهِ نَحْوَهُ. وَكَوْنُ الرَّمَلِ فِي الطَّوَافِ سُنَّةً مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَلَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ وَفِي عُمْرَةِ الْجِعْرَانَةِ أَيْضًا كَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَذَكَرَهُ. وَثَبَتَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ عليه السلام رَمَلَ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ فِي الطَّوَافِ، وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِيمَ الرَّمَلَانُ وَقَدْ أطال اللَّهُ الْإِسْلَامَ؟ وَمَعَ هَذَا لَا نَتْرُكُ شَيْئًا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَوْضِعُ تَقْرِيرِ هَذَا كِتَابُ الْأَحْكَامِ. وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ لَا يَرَى ذَلِكَ سُنَّةً كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّمَا سَعَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَيْتِ وبالصفا وَالْمَرْوَةِ لِيُرِيَ الْمُشْرِكِينَ قُوَّتَهُ. لَفْظُ الْبُخَارِيِّ. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: لَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُسُكَهُ فِي الْقَضَاءِ دَخَلَ الْبَيْتَ فَلَمْ يَزَلْ فِيهِ حَتَّى أَذَّنَ بِلَالٌ الظُّهْرَ فَوْقَ ظَهْرِ الْكَعْبَةِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ: لَقَدْ أَكْرَمَ اللَّهُ أَبَا الحكم حين لَمْ يَسْمَعْ هَذَا الْعَبْدَ يَقُولُ مَا يَقُولُ!! وَقَالَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ: الْحَمْدُ للَّه الَّذِي أَذْهَبَ أَبِي قَبْلَ أَنْ يَرَى هَذَا. وَقَالَ خَالِدُ بْنُ أَسِيدٍ: الْحَمْدُ للَّه الَّذِي أَمَاتَ أبى ولم يشهد هذا اليوم حتى يقوم بلال ينهق فوق البيت. وَأَمَّا سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو وَرِجَالٌ مَعَهُ لَمَّا سَمِعُوا بِذَلِكَ غَطَّوْا وُجُوهَهُمْ. قَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: قَدْ أَكْرَمَ اللَّهُ أَكْثَرَهُمْ بِالْإِسْلَامِ.
قُلْتُ: كَذَا ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْوَاقِدِيِّ أَنَّ هَذَا كَانَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّ ذَلِكَ كان في عام الفتح والله أعلم.

(4/232)


وأما قصة تزويجه عليه السلام بِمَيْمُونَةَ
فَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي أَبَانُ بْنُ صَالِحٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ فِي سَفَرِهِ ذَلِكَ وَهُوَ حَرَامٌ، وَكَانَ الَّذِي زَوَّجَهُ إِيَّاهَا الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: كَانَتْ جَعَلَتْ أَمْرَهَا إِلَى أُخْتِهَا أُمِّ الْفَضْلِ، فَجَعَلَتْ أُمُّ الْفَضْلِ أَمْرَهَا إِلَى زَوْجِهَا الْعَبَّاسِ، فَزَوَّجَهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْدَقَهَا عَنْهُ أَرْبَعَمِائَةِ دِرْهَمٍ.
وَذَكَرَ السُّهَيْلِيُّ أَنَّهُ لَمَّا انْتَهَتْ إِلَيْهَا خُطْبَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا وَهِيَ رَاكِبَةٌ بَعِيرًا قَالَتِ: الْجَمَلُ وَمَا عَلَيْهِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ وَفِيهَا نَزَلَتِ الْآيَةُ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ من دُونِ الْمُؤْمِنِينَ 33: 50. وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَبَنَى بِهَا وَهُوَ حَلَالٌ، وَمَاتَتْ بِسَرَفٍ. قال البيهقي [1] : وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْأَسْوَدِ يَتِيمِ عُرْوَةَ وَمِنْ طَرِيقِ مَطَرٍ الْوَرَّاقِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ حَلَالٌ. قَالَ وَتَأَوَّلُوا رِوَايَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ الْأُولَى أَنَّهُ كَانَ مُحْرِمًا أَيْ فِي شَهْرٍ حَرَامٍ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
قَتَلُوا ابْنَ عَفَّانَ الْخَلِيفَةَ مُحْرِمًا ... فَدَعَا فَلَمْ أَرَ مِثْلَهُ مَخْذُولَا
أَيْ فِي شَهْرٍ حَرَامٍ.
قُلْتُ: وَفِي هَذَا التَّأْوِيلِ نَظَرٌ، لأن الرواية مُتَظَافِرَةٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِخِلَافِ ذَلِكَ وَلَا سِيَّمَا قَوْلُهُ تَزَوَّجَهَا وَهُوَ مُحْرِمٌ وَبَنَى بِهَا وَهُوَ حَلَالٌ، وَقَدْ كَانَ فِي شَهْرِ ذِي الْقَعْدَةِ أَيْضًا وَهُوَ شَهْرٌ حَرَامٌ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ: ثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ قال لي الثوري: لا يلتفت إِلَى قَوْلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. أَخْبَرَنِي عَمْرٌو عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ قُلْتُ لِعَبْدِ الرَّزَّاقِ رَوَى سُفْيَانُ الْحَدِيثَيْنِ جَمِيعًا عَنْ عَمْرِو عن أَبِي الشَّعْثَاءِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ خُثَيْمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؟ قَالَ نَعَمْ أَمَّا حَدِيثُ ابْنِ خُثَيْمٍ فَحَدَّثَنَا هَاهُنَا- يَعْنِي بِالْيَمَنِ- وَأَمَّا حَدِيثُ عَمْرٍو فَحَدَّثَنَا ثَمَّ- يَعْنِي بِمَكَّةَ- وَأَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ بِهِ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْزَاعِيِّ أَنْبَأَنَا عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ. فَقَالَ سعيد بن المسيب: وهم ابْنُ عَبَّاسٍ وَإِنْ كَانَتْ خَالَتَهُ، مَا تَزَوَّجَهَا إِلَّا بَعْدَ مَا أَحَلَّ.
وَقَالَ يُونُسُ عَنِ ابن إسحاق حدثني بقية عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ قَالَ: هَذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ يَزْعُمُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَكَحَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَذَكَرَ كَلِمَتَهُ، إِنَّمَا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ فَكَانَ الحل والنكاح جميعا فشبه ذلك على ابن عباس. وَرَوَى مُسْلِمٌ وَأَهْلُ السُّنَنِ مِنْ طُرُقٍ عَنْ
__________
[1] كذا في المصرية والتيمورية وفي الحلبية السهيليّ

(4/233)


يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ الْعَامِرِيِّ عَنْ خَالَتِهِ مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ قَالَتْ: تَزَوَّجَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ حلال بِسَرِفٍ. لَكِنْ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: رَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ مُرْسَلًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تزوج ميمونة. وَقَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَصْفَهَانِيُّ الزَّاهِدُ ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْقَاضِي ثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ ثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ ثَنَا مَطَرٌ الْوَرَّاقُ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ حَلَالٌ وَبَنَى بِهَا وَهُوَ حَلَالٌ وَكُنْتُ الرَّسُولَ بَيْنَهُمَا. وَهَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ جَمِيعًا عَنْ قُتَيْبَةَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ بِهِ، ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا أسنده عن حَمَّادٍ عَنْ مَطَرٍ وَرَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ رَبِيعَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ مُرْسَلًا، وَرَوَاهُ سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ عَنْ رَبِيعَةَ مُرْسَلًا قُلْتُ: وَكَانَتْ وَفَاتُهَا بِسَرِفٍ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ وَيُقَالُ سَنَةَ سِتِّينَ رَضِيَ الله عنها
ذكر خروجه عليه السلام مِنْ مَكَّةَ بَعْدَ قَضَاءِ عُمْرَتِهِ
قَدْ تَقَدَّمَ مَا ذَكَرَهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ أَنَّ قُرَيْشًا بَعَثُوا إِلَيْهِ حُوَيْطِبَ بْنَ عَبْدِ الْعُزَّى بَعْدَ مُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ [1] لِيَرْحَلَ عَنْهُمْ كَمَا وَقَعَ بِهِ الشَّرْطُ، فَعَرَضَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَعْمَلَ وَلِيمَةَ عُرْسِهِ بِمَيْمُونَةَ عِنْدَهُمْ وَإِنَّمَا أَرَادَ تَأْلِيفَهُمْ بِذَلِكَ فَأَبَوْا عَلَيْهِ وَقَالُوا بَلِ اخْرُجْ عَنَّا، فَخَرَجَ وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ [1] وَقَالَ الْبُخَارِيُّ حَدَّثَنَا عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى عَنْ إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: اعْتَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ فَأَبَى أَهْلُ مَكَّةَ أَنْ يَدَعُوهُ يَدْخُلُ مَكَّةَ حَتَّى قَاضَاهُمْ عَلَى أَنْ يُقِيمُوا بِهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَلَمَّا كَتَبُوا الْكِتَابَ كَتَبُوا هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، قَالُوا لَا نُقِرُّ بِهَذَا لَوْ نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا مَنَعْنَاكَ شَيْئًا وَلَكِنْ أَنْتَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ «أَنَا رَسُولُ اللَّهِ وَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ» ثُمَّ قَالَ لِعَلِيِّ ابن أَبِي طَالِبٍ «امْحُ رَسُولَ اللَّهِ» قَالَ لَا وَاللَّهِ لَا أَمْحُوكَ أَبَدًا، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكِتَابَ وَلَيْسَ يُحْسِنُ يَكْتُبُ فَكَتَبَ هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ لَا يُدْخِلُ مَكَّةَ إِلَّا السَّيْفَ فِي الْقِرَابِ وَأَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْ أَهْلِهَا بِأَحَدٍ أَرَادَ أَنْ يَتْبَعَهُ، وَأَنْ لَا يَمْنَعَ مِنْ أَصْحَابِهِ أَحَدًا أَرَادَ أَنْ يُقِيمَ بها، فلما دخل وَمَضَى الْأَجَلُ أَتَوْا عَلِيًّا فَقَالُوا قُلْ لِصَاحِبِكَ اخْرُجْ عَنَّا فَقَدْ مَضَى الْأَجَلُ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَبِعَتْهُ ابْنَةُ حَمْزَةَ تُنَادِي يَا عَمُّ يَا عَمُّ فَتَنَاوَلَهَا عَلِيٌّ فَأَخَذَ بِيَدِهَا وَقَالَ لِفَاطِمَةَ دُونَكِ ابْنَةَ عَمِّكِ، فَحَمَلَتْهَا فَاخْتَصَمَ فِيهَا عَلِيٌّ وَزَيْدٌ وَجَعْفَرٌ فَقَالَ عَلِيٌّ: أَنَا أَخَذْتُهَا وَهِيَ ابْنَةُ عَمِّي وَقَالَ جَعْفَرٌ: ابْنَةُ عَمِّي وَخَالَتُهَا تَحْتِي، وَقَالَ زَيْدٌ: ابْنَةُ أَخِي فَقَضَى بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِخَالَتِهَا وَقَالَ «الْخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ» وَقَالَ لِعَلِيٍّ «أَنْتَ مِنِّي وَأَنَا مِنْكَ» وَقَالَ لِجَعْفَرٍ «أَشْبَهْتَ خَلْقِي وَخُلُقِي» وَقَالَ لِزَيْدٍ «أَنْتَ أَخُونَا وَمَوْلَانَا» قَالَ عَلِيٌّ أَلَا تَتَزَوَّجُ ابْنَةَ حَمْزَةَ، قَالَ «إِنَّهَا ابْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ» .
__________
[1] كذا في الأصل وفي سيرة ابن هشام: ثلاثة أيام وأتاه حويطب في اليوم الثالث.

(4/234)


تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَقَدْ رَوَى الْوَاقِدِيُّ قِصَّةَ ابْنَةِ حَمْزَةَ فَقَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي حَبِيبَةَ عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عُمَارَةَ ابْنَةَ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَأُمَّهَا سَلْمَى بِنْتُ عُمَيْسٍ كَانَتْ بِمَكَّةَ، فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلَّمَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: عَلَامَ نَتْرُكُ ابْنَةَ عَمِّنَا يَتِيمَةً بَيْنَ ظَهَرَانَيِ الْمُشْرِكِينَ؟ فَلَمْ يَنْهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ إِخْرَاجِهَا، فَخَرَجَ بِهَا فَتَكَلَّمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ وَكَانَ وَصِيَّ حَمْزَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ آخَى بَيْنَهُمَا حِينَ آخَى بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ، فَقَالَ أَنَا أَحَقُّ بِهَا ابْنَةُ أَخِي، فَلَمَّا سَمِعَ بِذَلِكَ جَعْفَرٌ قَالَ الْخَالَةُ وَالِدَةٌ وَأَنَا أَحَقُّ بِهَا لِمَكَانِ خَالَتِهَا عِنْدِي أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ وَقَالَ عَلِيٌّ: أَلَا أَرَاكُمْ تَخْتَصِمُونَ هِيَ ابْنَةُ عَمِّي وَأَنَا أَخْرَجْتُهَا مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ. وَلَيْسَ لَكُمْ إِلَيْهَا سَبَبٌ دُونِي وَأَنَا أَحَقُّ بِهَا مِنْكُمْ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَا أَحْكُمُ بَيْنَكُمْ، أَمَّا أَنْتَ يَا زَيْدُ فَمَوْلَى اللَّهِ وَمَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ، وَأَمَّا أَنْتَ يَا جَعْفَرُ فَتُشْبِهُ خَلْقِي وَخُلُقِي، وَأَنْتَ يَا جَعْفَرُ أَوْلَى بِهَا تَحْتَكَ خَالَتُهَا وَلَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى خَالَتِهَا وَلَا عَلَى عَمَّتِهَا» فَقَضَى بِهَا لِجَعْفَرٍ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: فَلَمَّا قَضَى بِهَا لِجَعْفَرٍ قَامَ جَعْفَرٌ فَحَجَلَ حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ «مَا هَذَا يَا جَعْفَرُ؟» فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَانَ النَّجَاشِيُّ إِذَا أَرْضَى أَحَدًا قَامَ فَحَجَلَ حَوْلَهُ، فَقَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجْهَا فَقَالَ «ابْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ» فزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم سَلَمَةَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ، فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وسلّم يقول «هل جزيت أبا سَلَمَةَ» . قُلْتُ: لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي زَوْجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأُمِّهِ أُمِّ سَلَمَةَ، لِأَنَّهُ كَانَ أَكْبَرَ مِنْ أَخِيهِ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَرَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ فِي ذِي الْحِجَّةِ، وَتَوَلَّى الْمُشْرِكُونَ تِلْكَ الْحِجَّةَ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْعُمْرَةِ فِيمَا حَدَّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ قَوْلُهُ تَعَالَى لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ من دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً 48: 27 [يعنى خيبر] .
فصل
ذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ هَاهُنَا سَرِيَّةَ ابْنِ أَبِي الْعَوْجَاءِ السُّلَمِيِّ إِلَى بَنِي سُلَيْمٍ، ثُمَّ سَاقَ بِسَنَدِهِ عَنِ الْوَاقِدِيِّ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: لَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ رَجَعَ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ سَنَةِ سَبْعٍ، فَبَعَثَ ابْنَ أَبِي الْعَوْجَاءِ السُّلَمِيَّ في خمسين فارسا فخرج الْعَيْنُ إِلَى قَوْمِهِ فَحَذَّرَهُمْ وَأَخْبَرَهُمْ فَجَمَعُوا جَمْعًا كَثِيرًا وَجَاءَهُمُ ابْنُ أَبِي الْعَوْجَاءِ وَالْقَوْمُ مُعِدُّونَ، فلما أن رأوهم أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَأَوْا جَمْعَهُمْ دَعَوْهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَرَشَقُوهُمْ بِالنَّبْلِ وَلَمْ يَسْمَعُوا قَوْلَهُمْ وَقَالُوا لَا حَاجَةَ لَنَا إِلَى مَا دَعَوْتُمْ إِلَيْهِ فَرَمَوْهُمْ سَاعَةً وَجَعَلَتِ الْأَمْدَادُ تَأْتِي حَتَّى أَحْدَقُوا بِهِمْ مِنْ كُلِّ جانب، فقاتل

(4/235)


الْقَوْمُ قِتَالًا شَدِيدًا حَتَّى قُتِلَ عَامَّتُهُمْ، وَأُصِيبَ ابْنُ أَبِي الْعَوْجَاءِ بِجِرَاحَاتٍ كَثِيرَةٍ فَتَحَامَلَ حَتَّى رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ بِمَنْ بَقِيَ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ شَهْرِ صَفَرٍ سنة ثمان.
فصل: قال الواقدي في الحجة مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ- يَعْنِي سَنَةَ سَبْعٍ- رَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنَتَهُ زَيْنَبَ عَلَى زَوْجِهَا أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ، وَفِيهَا قَدِمَ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ مِنْ عِنْدِ الْمُقَوْقِسِ وَمَعَهُ مَارِيَةُ وَسِيرِينُ وَقَدْ أَسْلَمَتَا فِي الطَّرِيقِ، وَغُلَامٌ خَصِيٌّ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ:
وَفِيهَا اتَّخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْبَرَهُ دَرَجَتَيْنِ وَمَقْعَدَهُ، قَالَ وَالثَّبَتُ عِنْدَنَا أَنَّهُ عُمِلَ فِي سنة ثمان.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ رَبِّ يَسِّرْ وَأَعِنْ بِحَوْلِكَ وَقُوَّتِكَ