البداية والنهاية، ط. دار الفكر
ثم دخلت سنة ثمان
وعشرين
فتح قبرص
فَفِيهَا ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ فَتْحَ قُبْرُسَ تَبَعًا
لِلْوَاقِدِيِّ، وَهِيَ جَزِيرَةٌ غَرْبِيُّ بِلَادِ الشَّامِ فِي
الْبَحْرِ، مُخْلَصَةٌ وَحْدَهَا، وَلَهَا ذَنَبٌ مُسْتَطِيلٌ إِلَى
نَحْوِ السَّاحِلِ مِمَّا يَلِي دِمَشْقَ، وَغَرْبِيُّهَا أَعْرَضُهَا،
وَفِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ، وَمَعَادِنُ، وَهِيَ بَلَدٌ جَيِّدٌ،
وَكَانَ فَتْحُهَا عَلَى يَدَيْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ،
رَكِبَ إِلَيْهَا فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَمَعَهُ
عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ وَزَوْجَتُهُ أُمُّ حَرَامٍ بِنْتُ
مِلْحَانَ الَّتِي تَقَدَّمَ حَدِيثُهَا فِي ذَلِكَ حِينَ نَامَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِهَا
ثُمَّ اسْتَيْقَظَ يَضْحَكُ فَقَالَتْ: مَا أَضْحَكَكَ يَا رَسُولَ
اللَّهِ؟
فَقَالَ: «ناس مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ يَرْكَبُونَ ثَبَجَ
هَذَا الْبَحْرِ مِثْلَ الْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ» . فَقَالَتْ:
يَا رسول ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ. فَقَالَ «أَنْتِ
مِنْهُمْ» ثُمَّ نَامَ فَاسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ فَقَالَ مِثْلَ
ذَلِكَ فَقَالَتْ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ فَقَالَ:
«أَنْتِ مِنَ الْأَوَّلِينَ» فَكَانَتْ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ
وَمَاتَتْ بِهَا وَكَانَتِ الثَّانِيَةُ عِبَارَةً عَنْ غَزْوَةِ
قُسْطَنْطِينِيَّةَ بَعْدَ هَذَا كَمَا سَنَذْكُرُهُ. وَالْمَقْصُودُ
أَنَّ مُعَاوِيَةَ رَكِبَ الْبَحْرَ فِي مَرَاكِبَ فقصد الجزيرة
المعروفة بقبرص وَمَعَهُ جَيْشٌ عَظِيمٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ
بِأَمْرِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَهُ فِي
ذَلِكَ بَعْدَ سُؤَالِهِ إِيَّاهُ، وَقَدْ كَانَ سَأَلَ فِي ذَلِكَ
عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَأَبَى أَنْ يُمَكِّنَهُ مِنْ حَمْلِ
الْمُسْلِمِينَ عَلَى هَذَا الْخَلْقِ الْعَظِيمِ الَّذِي لَوِ
اضْطَرَبَ لَهَلَكُوا عَنْ آخرهم، فلما كان عثمان لحّ مُعَاوِيَةُ
عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ فَأَذِنَ لَهُ فَرَكِبَ فِي الْمَرَاكِبِ
فَانْتَهَى إِلَيْهَا، وَوَافَاهُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ
أَبِي سَرْحٍ إِلَيْهَا مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ، فَالْتَقَيَا عَلَى
أَهْلِهَا فَقَتَلُوا خَلْقًا كَثِيرًا وَسَبَوْا سَبَايَا كَثِيرَةً،
وَغَنِمُوا مَالًا جَزِيلًا جَيِّدًا، وَلَمَّا جِيءَ بِالْأُسَارَى
جَعَلَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَبْكِي، فَقَالَ لَهُ جُبَيْرُ بْنُ
نُفَيْرٍ: أَتَبْكِي وَهَذَا يَوْمٌ أَعَزَّ اللَّهُ فِيهِ
الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ؟ فَقَالَ: وَيْحَكَ إِنَّ هَذِهِ كَانَتْ
أُمَّةً قَاهِرَةً لَهُمْ مُلْكٌ، فَلَمَّا ضَيَّعُوا أَمْرَ اللَّهِ
صَيَّرَهُمْ إلى ما ترى، سلط الله عليهم السبي، وإذا سلط على قوم السبي
فَلَيْسَ للَّه فِيهِمْ حَاجَةٌ، وَقَالَ مَا أَهْوَنَ الْعِبَادَ
عَلَى اللَّهِ تَعَالَى إِذَا تَرَكُوا أَمْرَهُ؟! ثُمَّ صَالَحَهُمْ
مُعَاوِيَةُ عَلَى سَبْعَةِ آلَافِ دِينَارٍ فِي كُلِّ سَنَةٍ،
وَهَادَنَهُمْ، فَلَمَّا أَرَادُوا الْخُرُوجَ مِنْهَا قُدِّمَتْ
لِأُمِّ حَرَامٍ بَغْلَةٌ لِتَرْكَبَهَا فَسَقَطَتْ عَنْهَا
فَانْدَقَّتْ عُنُقُهَا فَمَاتَتْ هُنَاكَ فَقَبْرُهَا هُنَالِكَ
يُعَظِّمُونَهُ وَيَسْتَسْقُونَ بِهِ وَيَقُولُونَ قَبْرُ الْمَرْأَةِ
الصَّالِحَةِ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا حَبِيبُ بْنُ
مَسْلَمَةَ سُورِيَةَ مِنْ أَرْضِ الرُّومِ. وَتَزَوَّجَ عُثْمَانُ
نَائِلَةَ بِنْتَ الْفَرَافِصَةِ الْكَلْبِيَّةَ- وَكَانَتْ
نَصْرَانِيَّةً فأسلمت قبل أن يدخل بِهَا- وَفِيهَا بَنَى عُثْمَانُ
دَارَهُ بِالْمَدِينَةِ الزَّوْرَاءَ. وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ
أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تسع وعشرين
ففيها عَزَلَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ عن
البصرة، بعد عمله سِتِّ سِنِينَ وَقِيلَ ثَلَاثٍ،
(7/153)
وَأَمَّرَ عَلَيْهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عَامِرِ بْنِ كُرَيْزٍ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ حَبِيبِ بْنِ عَبْدِ
شَمْسٍ، وَهُوَ ابْنُ خَالِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَجَمَعَ لَهُ
بَيْنَ جُنْدِ أَبِي مُوسَى وَجُنْدِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ
وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، فَأَقَامَ بِهَا
سِتَّ سِنِينَ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ افْتَتَحَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عَامِرٍ فَارِسَ فِي قَوْلِ الْوَاقِدِيِّ وَأَبِي مَعْشَرٍ.
وزعم سَيْفٌ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ هَذِهِ السَّنَةِ فاللَّه أَعْلَمُ.
وَفِيهَا وَسَّعَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ مَسْجِدَ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَنَاهُ بِالْقَصَّةِ- وَهِيَ
الْكِلْسُ- كَانَ يُؤْتَى بِهِ مِنْ بَطْنِ نخل والحجارة المنقوشة،
وجعل عمده حجارة مرصعة، وَسُقُفَهُ بِالسَّاجِ، وَجَعَلَ طُولَهُ
سِتِّينَ وَمِائَةَ ذِرَاعٍ، وَعَرْضَهُ خَمْسِينَ وَمِائَةَ ذِرَاعٍ،
وَجَعَلَ أَبْوَابَهُ سِتَّةً، عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي زَمَانِ
عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، ابْتَدَأَ بِنَاءَهُ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ
منها.
وفيها حَجَّ بِالنَّاسِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَضُرِبَ لَهُ بمنى
فسطاطا فكان أول فسطاطا ضَرَبَهُ عُثْمَانُ بِمِنًى، وَأَتَمَّ
الصَّلَاةَ عَامَهُ هَذَا، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ
مِنَ الصَّحَابَةِ، كَعَلِيٍّ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، حَتَّى قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ لَيْتَ
حَظِّي مِنْ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ رَكْعَتَانِ مُتَقَبَّلَتَانِ، وَقَدْ
نَاظَرَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فِيمَا فَعَلَهُ، فَرَوَى
ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّهُ قَالَ: تَأَهَّلْتُ بِمَكَّةَ، فَقَالَ لَهُ:
وَلَكَ أَهْلٌ بِالْمَدِينَةِ وَإِنَّكَ تَقُومُ حَيْثُ أَهْلُكَ
بِالْمَدِينَةِ. قَالَ: وَإِنَّ لِي مَالًا بِالطَّائِفِ أُرِيدُ أَنْ
أَطَّلِعَهُ بَعْدَ الصَّدَرِ، قَالَ: إِنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَ
الطَّائِفِ مَسِيرَةَ ثَلَاثٍ، فَقَالَ: وَإِنَّ طَائِفَةً مِنْ أَهْلِ
الْيَمَنِ قَالُوا: إِنَّ الصَّلَاةَ بِالْحَضَرِ رَكْعَتَانِ
فَرُبَّمَا رَأَوْنِي أُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ فَيَحْتَجُّونَ بِي،
فَقَالَ لَهُ: قَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ وَالنَّاسُ يَوْمَئِذٍ
الْإِسْلَامُ فِيهِمْ قَلِيلٌ، وَكَانَ يُصَلِّي هَاهُنَا
رَكْعَتَيْنِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي هَاهُنَا رَكْعَتَيْنِ،
وَكَذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَصَلَّيْتَ أَنْتَ رَكْعَتَيْنِ
صَدْرًا مِنْ إِمَارَتِكَ، قَالَ فَسَكَتَ عُثْمَانُ ثُمَّ قَالَ:
إِنَّمَا هُوَ رَأْيٌ رَأَيْتُهُ.
سنة ثلاثين من الهجرة النبويّة
فِيهَا افْتَتَحَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ طَبَرِسْتَانَ فِي قَوْلِ
الْوَاقِدِيِّ وَأَبِي مَعْشَرٍ وَالْمَدَائِنِيِّ، وَقَالَ: هُوَ
أَوَّلُ مَنْ غَزَاهَا. وَزَعَمَ سَيْفٌ أَنَّهُمْ كَانُوا صَالَحُوا
سُوَيْدَ بْنَ مُقَرِّنٍ قَبْلَ ذَلِكَ عَلَى أَنْ لَا يَغْزُوَهَا،
عَلَى مَالٍ بَذَلَهُ لَهُ إِصْبَهْبَذُهَا فاللَّه أَعْلَمُ. فَذَكَرَ
الْمَدَائِنِيُّ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ رَكِبَ فِي جَيْشٍ فِيهِ
الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ، وَالْعَبَادِلَةُ الْأَرْبَعَةُ،
وَحُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ، فِي خَلْقٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فَسَارَ
بِهِمْ فَمَرَّ عَلَى بلدان شتى يصالحونه عَلَى أَمْوَالٍ جَزِيلَةٍ،
حَتَّى انْتَهَى إِلَى بَلَدٍ معاملة جرجان، فَقَاتَلُوهُ حَتَّى
احْتَاجُوا إِلَى صَلَاةِ الْخَوْفِ، فَسَأَلَ حُذَيْفَةَ: كَيْفَ
صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
فَأَخْبَرَهُ فَصَلَّى كَمَا أَخْبَرَهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ أَهْلُ ذَلِكَ
الْحِصْنِ الْأَمَانَ، فَأَعْطَاهُمْ عَلَى أَنْ لَا يَقْتُلَ مِنْهُمْ
رَجُلًا وَاحِدًا فَفَتَحُوا الحصن فقتلهم إلا رجلا واحدا، وحوى مَا
كَانَ فِي الْحِصْنِ، فَأَصَابَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي نَهْدٍ سَفَطًا
مَقْفُولًا فَاسْتَدْعَى بِهِ سَعِيدٌ؟ ففتحوه فإذا
(7/154)
فِيهِ خِرْقَةٌ سَوْدَاءُ مُدْرَجَةٌ
فَنَشَرُوهَا، فَإِذَا فِيهَا خِرْقَةٌ حَمْرَاءُ فَنَشَرُوهَا،
وَإِذَا دَاخَلَهَا خِرْقَةٌ صَفْرَاءُ، وَفِيهَا أَيْرَانِ كُمَيْتٍ
وَوَرْدٌ. فَقَالَ شَاعِرٌ يَهْجُو بِهِمَا بَنِي نَهْدٍ.
آبَ الْكِرَامُ بِالسَّبَايَا غَنِيمَةً ... وَفَازَ بَنُو نَهْدٍ
بِأَيْرَيْنِ فِي سَفَطْ
كُمَيْتٍ وَوَرْدٍ وَافِرَيْنِ كِلَاهُمَا ... فَظَنُّوهُمَا غُنْمًا
فَنَاهِيكَ مِنْ غَلَطْ
قَالُوا: ثُمَّ نَقَضَ أَهْلُ جُرْجَانَ مَا كَانَ صَالَحَهُمْ
عَلَيْهِ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ، وَامْتَنَعُوا عَنْ أَدَاءِ الْمَالِ
الَّذِي ضَرَبَهُ عَلَيْهِمْ- وَكَانَ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ وَقِيلَ
مِائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ وقيل ثلاثمائة ألف دينار- ثم وجه إليهم
يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا سَنَذْكُرُهُ إِنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ الْوَلِيدَ
بْنَ عُقْبَةَ عَنِ الْكُوفَةِ، وَوَلَّى عَلَيْهَا سَعِيدَ بْنَ
الْعَاصِ وَكَانَ سَبَبُ عَزْلِهِ أَنَّهُ صَلَّى بِأَهْلِ الْكُوفَةِ
الصُّبْحَ أَرْبَعًا ثُمَّ الْتَفَتَ فَقَالَ أَزِيدُكُمْ؟ فَقَالَ
قَائِلٌ: مَا زِلْنَا مِنْكَ مُنْذُ الْيَوْمِ فِي زيارة. ثُمَّ
إِنَّهُ تَصَدَّى لَهُ جَمَاعَةٌ يُقَالُ كَانَ بينهم وبينه شنئان،
فَشَكَوْهُ إِلَى عُثْمَانَ، وَشَهِدَ بَعْضُهُمْ عَلَيْهِ أَنَّهُ شرب
الخمر وشهد آخر أنه رآه يتقاياها، فَأَمَرَ عُثْمَانُ بِإِحْضَارِهِ
وَأَمَرَ بِجَلْدِهِ، فَيُقَالُ إِنَّ عَلِيًّا نَزَعَ عَنْهُ
حُلَّتَهُ، وَإِنَّ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصَ جَلَدَهُ بَيْنَ يَدَيْ
عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَعَزَلَهُ وَأَمَّرَ مَكَانَهُ عَلَى
الْكُوفَةِ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ سَقَطَ خَاتَمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ يَدِ عُثْمَانَ فِي بِئْرِ أَرِيسٍ، وَهِيَ
عَلَى مِيلَيْنِ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَهِيَ مِنْ أَقَلِّ الْآبَارِ
مَاءً، فَلَمْ يُدْرَكْ خَبَرُهُ بَعْدَ بَذْلِ مَالٍ جَزِيلٍ،
وَالِاجْتِهَادِ فِي طَلَبِهِ، حَتَّى السَّاعَةَ، فَاسْتَخْلَفَ
عُثْمَانُ بَعْدَهُ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ، وَنَقَشَ عَلَيْهِ
مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله، فلما قتل عثمان ذهب الخاتم فلم يدر مَنْ
أَخَذَهُ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ هَاهُنَا حَدِيثًا طَوِيلًا فِي
اتِّخَاذِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمًا مِنْ
ذَهَبٍ، ثُمَّ مِنْ فِضَّةٍ، وَبَعَثِهِ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ إِلَى
كِسْرَى، ثم دحية إلى قيصر، وأن الخاتم الّذي كَانَ فِي يَدِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ فِي يَدِ أَبِي
بَكْرٍ ثُمَّ فِي يَدِ عُمَرَ ثُمَّ فِي يَدِ عُثْمَانَ سِتَّ سِنِينَ،
ثُمَّ إِنَّهُ وَقَعَ فِي بِئْرِ أَرِيسٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ
هَذَا فِي الصَّحِيحِ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَعَ بَيْنَ
مُعَاوِيَةَ وَأَبِي ذَرٍّ بِالشَّامِ، وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا ذَرٍّ
أَنْكَرَ عَلَى مُعَاوِيَةَ بَعْضَ الْأُمُورِ، وَكَانَ يُنْكِرُ عَلَى
مَنْ يَقْتَنِي مَالًا مِنَ الْأَغْنِيَاءِ وَيَمْنَعُ أَنْ يَدَّخِرَ
فَوْقَ الْقُوتِ، وَيُوجِبُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالْفَضْلِ،
وَيَتَأَوَّلُ قَوْلَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَالَّذِينَ
يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ
اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ 9: 34 فَيَنْهَاهُ مُعَاوِيَةُ
عَنْ إِشَاعَةِ ذَلِكَ فَلَا يَمْتَنِعُ، فَبَعَثَ يَشْكُوهُ إِلَى
عُثْمَانَ، فَكَتَبَ عُثْمَانُ إِلَى أَبِي ذَرٍّ أَنْ يَقْدَمَ
عَلَيْهِ الْمَدِينَةَ، فَقَدِمَهَا فَلَامَهُ عُثْمَانُ عَلَى بَعْضِ
مَا صَدَرَ مِنْهُ، وَاسْتَرْجَعَهُ فَلَمْ يَرْجِعْ فَأَمَرَهُ
بِالْمَقَامِ بِالرَّبَذَةِ- وَهِيَ شَرْقِيُّ الْمَدِينَةِ- وَيُقَالُ
إِنَّهُ سَأَلَ عُثْمَانَ أَنْ يُقِيمَ بِهَا وَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِي «إِذَا بَلَغَ
الْبِنَاءُ سَلْعًا فَاخْرُجْ مِنْهَا» وَقَدْ بَلَغَ الْبِنَاءُ
سَلْعًا، فَأَذِنَ لَهُ عُثْمَانُ بِالْمَقَامِ بِالرَّبَذَةِ
وَأَمَرَهُ أَنْ يَتَعَاهَدَ الْمَدِينَةَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ،
حَتَّى لا يرتد
(7/155)
أَعْرَابِيًّا بَعْدَ هِجْرَتِهِ، فَفَعَلَ
فَلَمْ يَزَلْ مُقِيمًا بِهَا حَتَّى مَاتَ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ زَادَ عُثْمَانُ النداء الثالث يوم الجمعة على
الزوراء.
فصل
وَمِمَّنْ ذَكَرَ شَيْخُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الذَّهَبِيُّ أَنَّهُ
تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ- أَعْنِي سَنَةَ ثَلَاثِينَ-. أُبَيُّ
بْنُ كَعْبٍ فِيمَا صَحَّحَهُ الْوَاقِدِيُّ.
جبار بن صخر
ابن أمية بن خنساء، أبو عبد الرحمن الْأَنْصَارِيُّ، عَقَبِيٌّ
بَدْرِيٌّ، وَقَدْ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِلَى خَيْبَرَ خَارِصًا، وَقَدْ تُوُفِّيَ عَنْ سِتِّينَ
سَنَةً.
حَاطِبُ بْنُ أبى بلتعة
ابن عمرو بن عمير اللخمي حليف بن أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، شَهِدَ
بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا، وَهُوَ الَّذِي كَانَ كَتَبَ إِلَى
الْمُشْرِكِينَ يُعْلِمُهُمْ بِعَزْمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [عَلَى فَتْحِ مَكَّةَ، فَعَذَرَهُ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] [1] بِمَا اعْتَذَرَ بِهِ، ثُمَّ
بَعَثَهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِرِسَالَةٍ إِلَى الْمُقَوْقِسِ ملك
الاسكندرية.
الطفيل بن الحارث
ابن الْمُطِّلِبِ أَخُو عُبَيْدَةَ، وَحُصَيْنٍ، شَهِدَ بَدْرًا. قَالَ
سَعِيدُ بْنُ عُمَيْرٍ: تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
عبد الله بن كعب
ابن عمرو الْمَازِنِيُّ أَبُو الْحَارِثِ، وَقِيلَ أَبُو يَحْيَى
الْأَنْصَارِيُّ، شَهِدَ بَدْرًا وَكَانَ عَلَى الْخُمُسِ يَوْمَئِذٍ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَظْعُونٍ
أَخُو عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ هَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ وَشَهِدَ
بَدْرًا.
عِيَاضُ بْنُ زهير
ابن أَبِي شَدَّادِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ هِلَالٍ أَبُو سعيد
الْقُرَشِيُّ الْفِهْرِيُّ، شَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا.
مَسْعُودُ بْنُ رَبِيعَةَ
وَقِيلَ ابْنُ الرَّبِيعِ، أَبُو عَمْرٍو الْقَارِي [شَهِدَ بَدْرًا
وَمَا بَعْدَهَا. تُوُفِّيَ عَنْ نَيِّفٍ وَسِتِّينَ سَنَةً.
مَعْمَرُ بْنُ أَبِي سَرْحِ
ابن رَبِيعَةَ بْنِ هِلَالٍ الْقُرَشِيُّ أَبُو سَعْدٍ الْفِهْرِيُّ]
[1] ، وقيل اسمه عمرو، بدري قديم الصحبة.
__________
[1] زيادة من المصرية.
(7/156)
أَبُو أُسَيْدٍ
مَالِكُ بْنُ رَبِيعَةَ قَالَ الْفَلَّاسُ: مَاتَ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ مَاتَ سَنَةَ أَرْبَعِينَ، وَقِيلَ
سَنَةَ سِتِّينَ فاللَّه أَعْلَمُ.
ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين
فَفِيهَا كَانَتْ غَزْوَةُ الصَّوَارِي، وَغَزْوَةُ الْأَسَاوِدَةِ فِي
الْبَحْرِ فِيمَا ذَكَرَهُ الْوَاقِدِيُّ وَقَالَ أَبُو مَعْشَرٍ:
كَانَتْ غَزْوَةُ الصَّوَارِي سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ.
وَمُلَخَّصُ ذَلِكَ فِيمَا ذَكَرَهُ الْوَاقِدِيُّ وَسَيْفٌ
وَغَيْرُهُمَا أَنَّ الشام كان قد جمعها لِمُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي
سُفْيَانَ لِسَنَتَيْنِ مَضَتَا مِنْ خِلَافَةِ عُثْمَانَ بْنِ
عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَدْ أَحْرَزَهُ غَايَةَ الْحِفْظِ
وَحَمَى حَوْزَتَهُ، وَمَعَ هَذَا لَهُ فِي كُلِّ سَنَةٍ غَزْوَةٌ فِي
بِلَادِ الرُّومِ فِي زَمَنِ الصَّيْفِ، - وَلِهَذَا يُسَمُّونَ هَذِهِ
الْغَزْوَةَ الصَّائِفَةَ- فَيَقْتُلُونَ خَلْقًا، وَيَأْسِرُونَ
آخَرِينَ، وَيَفْتَحُونَ حُصُونًا وَيَغْنَمُونَ أَمْوَالًا
وَيُرْعِبُونَ الْأَعْدَاءَ، فَلَمَّا أَصَابَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ مَنْ أَصَابَ مِنَ الْفِرِنْجِ
وَالْبَرْبَرِ، بِبِلَادِ إِفْرِيقِيَّةَ وَالْأَنْدَلُسِ، حَمِيَتِ
الرُّومُ وَاجْتَمَعَتْ عَلَى قُسْطَنْطِينَ بْنِ هِرَقْلَ، وَسَارُوا
إِلَى الْمُسْلِمِينَ فِي جَمْعٍ لَمْ يُرَ مِثْلُهُ مُنْذُ كَانَ
الْإِسْلَامُ، خَرَجُوا فِي خَمْسِمِائَةِ مَرْكَبٍ، وَقَصَدُوا عَبْدَ
اللَّهِ بْنَ أَبِي سَرْحٍ فِي أَصْحَابِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ
الَّذِينَ بِبِلَادِ الْمَغْرِبِ، فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ
بَاتَ الرُّومُ يُقَسْقِسُونَ وَيُصَلِّبُونَ، وَبَاتَ الْمُسْلِمُونَ
يَقْرَءُونَ وَيُصَلُّونَ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا صَفَّ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ سَعْدٍ أَصْحَابَهُ صُفُوفًا فِي الْمَرَاكِبِ، وَأَمَرَهُمْ
بِذِكْرِ اللَّهِ وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، قَالَ بَعْضُ مَنْ حَضَرَ
ذَلِكَ: فَأَقْبَلُوا إِلَيْنَا فِي أَمْرٍ لَمْ يُرَ مِثْلُهُ مِنْ
كثرة المراكب، وعقدوا صَوَارِيهَا، وَكَانَتِ الرِّيحُ لَهُمْ
وَعَلَيْنَا، فَأَرْسَيْنَا ثُمَّ سَكَنَتِ الرِّيحُ عَنَّا، فَقُلْنَا
لَهُمْ: إِنْ شِئْتُمْ خَرَجْنَا نَحْنُ وَأَنْتُمْ إِلَى الْبَرِّ
فَمَاتَ الْأَعْجَلُ مِنَّا وَمِنْكُمْ، قَالَ فَنَخِرُوا نَخِرَةَ
رَجُلٍ وَاحِدٍ وَقَالُوا: الْمَاءَ الْمَاءَ، قَالَ فَدَنَوْنَا
مِنْهُمْ وَرَبَطْنَا سُفُنَنَا بِسُفُنِهِمْ، ثُمَّ اجْتَلَدْنَا
وَإِيَّاهُمْ بِالسُّيُوفِ، يَثِبُ الرِّجَالُ عَلَى الرِّجَالِ
بِالسُّيُوفِ وَالْخَنَاجِرِ، وَضَرَبَتِ الْأَمْوَاجُ فِي عُيُونِ
تِلْكَ السُّفُنِ حَتَّى أَلْجَأَتْهَا إِلَى السَّاحِلِ وَأَلْقَتِ
الْأَمْوَاجُ جُثَثَ الرِّجَالِ إِلَى السَّاحِلِ حَتَّى صَارَتْ
مِثْلَ الْجَبَلِ الْعَظِيمِ، وَغَلَبَ الدَّمُ عَلَى لَوْنِ الْمَاءِ،
وَصَبَرَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَئِذٍ صَبْرًا لَمْ يُعْهَدْ مِثْلُهُ
قَطُّ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ بَشَرٌ كَثِيرٌ، وَمِنَ الرُّومِ أَضْعَافُ
ذَلِكَ، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ نَصْرَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ
فَهَرَبَ قُسْطَنْطِينُ وَجَيْشُهُ- وقد قلوا جدا- وبه جراحات شديدة
مكينة مَكَثَ حِينًا يُدَاوَى مِنْهَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَأَقَامَ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ بِذَاتِ الصَّوَارِي أَيَّامًا، ثُمَّ رَجَعَ
مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا مُظَفَّرًا. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: فَحَدَّثَنِي
مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: كَانَ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ
مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حُذَيْفَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ،
فَأَظْهَرَا عَيْبَ عُثْمَانَ وَمَا غَيَّرَ وَمَا خَالَفَ أَبَا
بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَيَقُولَانِ دمه حلال لأنه استعمل عبد الله ابن
سَعْدٍ- وَكَانَ قَدِ ارْتَدَّ وَكَفَرَ بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ
وَأَبَاحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَمَهُ،
وَأَخْرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم أقواما
واستعملهم عثمان، ونزع أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَعْمَلَ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ وَعَبْدَ
اللَّهِ بْنَ
(7/157)
عَامِرٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عَبْدَ اللَّهِ
بْنَ سَعْدٍ فَقَالَ: لَا تَرْكَبَا مَعَنَا، فَرَكِبَا فِي مَرْكَبٍ
مَا فِيهِ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَقُوُا الْعَدُوَّ فَكَانَا
أَنْكَلَ الْمُسْلِمِينَ قِتَالًا، فَقِيلَ لَهُمَا فِي ذَلِكَ
فَقَالَا: كَيْفَ نُقَاتِلُ مَعَ رَجُلٍ لَا يَنْبَغِي لَنَا أَنْ
نُحَكِّمَهُ؟ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ
فَنَهَاهُمَا أَشَدَّ النَّهْيِ وقال: والله لولا لَا أَدْرِي مَا
يُوَافِقُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لِعَاقَبْتُكُمَا وَحَبَسْتُكُمَا.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ فُتِحَتْ أَرْمِينِيَةُ
عَلَى يَدَيْ حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ
كِسْرَى مَلِكُ الْفُرْسِ.
كَيْفِيَّةُ قَتْلِ كِسْرَى مِلِكِ الْفُرْسِ وَهُوَ يَزْدَجِرْدُ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: هَرَبَ يَزْدَجِرْدُ مِنْ كِرْمَانَ فِي
جَمَاعَةٍ يَسِيرَةٍ إِلَى مَرْوَ، فَسَأَلَ مِنْ بَعْضِ أَهْلِهَا
مَالًا فَمَنَعُوهُ وَخَافُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَبَعَثُوا إلى
الترك يستفزونهم عَلَيْهِ، فَأَتَوْهُ فَقَتَلُوا أَصْحَابَهُ وَهَرَبَ
هُوَ حَتَّى أَتَى مَنْزِلَ رَجُلٍ يَنْقُرُ الْأَرْحِيَةَ عَلَى
شَطٍّ، فَأَوَى إِلَيْهِ لَيْلًا، فَلَمَّا نَامَ قَتَلَهُ. وَقَالَ
الْمَدَائِنِيُّ: لَمَّا هَرَبَ بَعْدَ قَتْلِ أَصْحَابِهِ انْطَلَقَ
ماشيا عليه تَاجُهُ وَمِنْطَقَتُهُ وَسَيْفُهُ، فَانْتَهَى إِلَى
مَنْزِلِ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَنْقُرُ الْأَرْحِيَةَ فَجَلَسَ
عِنْدَهُ فَاسْتَغْفَلَهُ وَقَتَلَهُ وَأَخَذَ مَا كَانَ عَلَيْهِ،
وَجَاءَتِ التُّرْكُ فِي طَلَبِهِ فَوَجَدُوهُ قَدْ قَتَلَهُ وَأَخَذَ
حَاصِلَهُ، فَقَتَلُوا ذَلِكَ الرَّجُلَ وَأَهْلَ بَيْتِهِ وَأَخَذُوا
مَا كَانَ مَعَ كِسْرَى، وَوَضَعُوا كِسْرَى فِي تَابُوتٍ وَحَمَلُوهُ
إِلَى إِصْطَخْرَ، وَقَدْ كَانَ يَزْدَجِرْدُ وَطِئَ امْرَأَةً مِنْ
أَهْلِ مَرْوَ قَبْلَ أَنْ يُقْتَلَ فَحَمَلَتْ مِنْهُ وَوَضَعَتْ
بَعْدَ قَتْلِهِ غُلَامًا ذَاهِبَ الشِّقِّ وَسُمِّيَ ذَلِكَ
الْغُلَامُ الْمُخَدَّجُ، وَكَانَ لَهُ نَسْلٌ وَعَقِبٌ فِي
خُرَاسَانَ، وَقَدْ سَبَى قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ فِي بَعْضِ
غَزَوَاتِهِ بِتِلْكَ الْبِلَادِ جَارِيَتَيْنِ مَنْ نَسْلِهِ،
فَبَعَثَ بِإِحْدَاهُمَا إِلَى الْحَجَّاجِ، فَبَعَثَ بِهَا إِلَى
الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فَوَلَدَتْ لَهُ ابْنَهُ يَزِيدَ
بْنَ الْوَلِيدِ الْمُلَقَّبَ بِالنَّاقِصِ. وَقَالَ الْمَدَائِنِيُّ
فِي رِوَايَةٍ عَنْ بَعْضِ شُيُوخِهِ: إِنَّ يَزْدَجِرْدَ لَمَّا
انْهَزَمَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ عَقَرَ جَوَادَهُ وَذَهَبَ مَاشِيًا
حَتَّى دَخَلَ رَحًى على شط نهر يقال له المرعاب فَمَكَثَ فِيهِ
لَيْلَتَيْنِ وَالْعَدُوُّ فِي طَلَبِهِ فَلَمْ يُدْرَ أَيْنَ هُوَ،
ثُمَّ جَاءَ صَاحِبُ الرَّحَى فَرَأَى كِسْرَى وَعَلَيْهِ أُبَّهَتُهُ،
فَقَالَ لَهُ: مَا أَنْتَ؟ إِنْسِيٌّ أَمْ جِنِّيٌّ؟ قَالَ: إِنْسِيٌّ،
فَهَلْ عِنْدَكَ طَعَامٌ؟ قَالَ: نَعَمْ! فَأَتَاهُ بِطَعَامٍ فَقَالَ:
إِنِّي مُزَمْزِمٌ فَأْتِنِي بِمَا أُزَمْزِمُ بِهِ، قَالَ: فَذَهَبَ
الطَّحَّانُ إِلَى أُسْوَارٍ مِنَ الْأَسَاوِرَةِ فَطَلَبَ مِنْهُ مَا
يُزَمْزِمُ بِهِ، قَالَ: وَمَا تَصْنَعُ بِهِ؟ قَالَ: عِنْدِي رَجُلٌ
لَمْ أَرَ مَثَلَهُ قَطُّ وَقَدْ طَلَبَ مِنِّي هَذَا، فَذَهَبَ بِهِ
الْأُسْوَارُ إِلَى مَلِكِ الْبَلَدِ- مَرْوَ وَاسْمُهُ مَاهَوَيْهِ
بْنُ بَابَاهُ- فَأَخْبَرَهُ خَبَرَهُ، فَقَالَ هُوَ يَزْدَجِرْدُ،
اذْهَبُوا فَجِيئُونِي بِرَأْسِهِ، فَذَهَبُوا مَعَ الطَّحَّانِ
[فَلَمَّا دَنَوْا مِنْ دَارِ الرَّحَى هَابُوا أَنْ يَقْتُلُوهُ
وَتَدَافَعُوا وَقَالُوا لِلطَّحَّانِ] [1] ادْخُلْ أَنْتَ
فَاقْتُلْهُ، فَدَخَلَ فَوَجَدَهُ نَائِمًا فَأَخَذَ حَجَرًا فَشَدَخَ
بِهِ رَأْسَهُ ثُمَّ احْتَزَّهُ فَدَفَعَهُ إِلَيْهِمْ وَأَلْقَى
جَسَدَهُ فِي النَّهْرِ، فَخَرَجَتِ الْعَامَّةُ إِلَى الطَّحَّانِ
فَقَتَلُوهُ، وَخَرَجَ أُسْقُفٌ فَأَخَذَ جَسَدَهُ مِنَ النَّهْرِ
وَجَعَلَهُ فِي تَابُوتٍ وَحَمَلَهُ إِلَى إِصْطَخْرَ فَوَضَعَهُ فِي
نَاوُوسٍ، وَيُرْوَى أَنَّهُ مَكَثَ فِي مَنْزِلِ ذَلِكَ الطَّحَّانِ
ثلاثة أيام لا يأكل
__________
[1] زيادة من المصرية.
(7/158)
حَتَّى رَقَّ لَهُ وَقَالَ لَهُ: وَيْحَكَ
يَا مِسْكِينُ أَلَا تَأْكُلُ؟ وَأَتَاهُ بِطَعَامٍ فَقَالَ: إِنِّي
لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ آكُلَ إِلَّا بِزَمْزَمَةٍ، فَقَالَ لَهُ: كُلْ
وَأَنَا أُزَمْزِمُ لَكَ، فَسَأَلَ أَنْ يَأْتِيَهُ بِمُزَمْزِمٍ،
فَلَمَّا ذَهَبَ يَطْلُبُ لَهُ مِنْ بَعْضِ الْأَسَاوِرَةِ شَمُّوا
رَائِحَةَ الْمِسْكِ مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ، فَأَنْكَرُوا رَائِحَةَ
الْمِسْكِ مِنْهُ فَسَأَلُوهُ فَأَخْبَرَهُمْ فَقَالَ: إِنَّ عِنْدِي
رَجُلًا مِنْ صِفَتِهِ كَيْتَ وَكَيْتَ، فَعَرَفُوهُ وَقَصَدُوهُ مَعَ
الطَّحَّانِ وَتَقَدَّمَ الطَّحَّانُ فَدَخَلَ عَلَيْهِ وَهَمَّ
بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ فَعَرَفَ يَزْدَجِرْدُ ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ:
وَيْحَكَ خُذْ خَاتَمِي وَسِوَارِي وَمِنْطَقَتِي وَدَعْنِي أَذْهَبُ
مِنْ هَاهُنَا، فَقَالَ لَا، أَعْطِنِي أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ وَأَنَا
أُطْلِقُكَ، فَزَادَهُ إِحْدَى قرطيه من أذنه فلم يقبل حتى يعطيه أربعة
دراهم أخرى، فَهُمْ فِي ذَلِكَ إِذْ دَهَمَهُمُ الْجُنْدُ فَلَمَّا
أَحَاطُوا بِهِ وَأَرَادُوا قَتْلَهُ قَالَ: وَيْحَكُمْ لَا
تَقْتُلُونِي فَإِنَّا نَجِدُ فِي كُتُبِنَا أَنَّ مَنِ اجْتَرَأَ
عَلَى قَتْلِ الْمُلُوكِ عَاقَبَهُ اللَّهُ بِالْحَرِيقِ فِي
الدُّنْيَا مَعَ مَا هُوَ قَادِمٌ عَلَيْهِ، فَلَا تَقْتُلُونِي
وَاذْهَبُوا بِي إِلَى الْمَلِكِ أَوْ إِلَى الْعَرَبِ، فَإِنَّهُمْ
يَسْتَحْيُونَ مِنْ قَتْلِ الْمُلُوكِ، فَأَبَوْا عَلَيْهِ ذَلِكَ
فَسَلَبُوهُ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْحُلِيِّ فَجَعَلُوهُ فِي
جِرَابٍ وَخَنَقُوهُ بِوَتَرٍ وَأَلْقَوْهُ فِي النَّهْرِ فَتَعَلَّقَ
بِعُودٍ فَأَخَذَهُ أُسْقُفٌ- واسمه إيليا- فنحن عليه مما كَانَ مِنْ
أَسْلَافِهِ مِنَ الْإِحْسَانِ إِلَى النَّصَارَى الَّذِينَ كَانُوا
بِبِلَادِهِمْ، فَوَضَعَهُ فِي تَابُوتٍ وَدَفَنَهُ فِي نَاوُوسٍ،
ثُمَّ حَمَلَ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْحُلِيِّ إِلَى أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، فَفُقِدَ قُرْطٌ مِنْ
حُلِيِّهِ فَبَعَثَ إِلَى دهقان تلك البلاد فأغرم ذَلِكَ. وَكَانَ
مُلْكُ يَزْدَجِرْدَ عِشْرِينَ سَنَةً، مِنْهَا أَرْبَعُ سِنِينَ فِي
دَعَةٍ، وَبَاقِي ذَلِكَ هَارِبًا مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ، خَوْفًا
مِنَ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَهُوَ آخِرُ مُلُوكِ الْفُرْسِ فِي
الدُّنْيَا عَلَى الْإِطْلَاقِ، لِقَوْلِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلَا قَيْصَرَ
بَعْدَهُ، وَإِذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلَا كِسْرَى بَعْدَهُ وَالَّذِي
نَفْسِي بِيَدِهِ لتنفقن كنوزهما في سبيل اللَّهِ» رَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ. وَثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ لَمَّا
جَاءَ كِتَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم مزقه، فدعا عليه
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُمَزَّقَ كُلَّ
مُمَزَّقٍ، فَوَقَعَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ
فَتَحَ ابْنُ عَامِرٍ فُتُوحَاتٍ كَثِيرَةً كَانَ قَدْ نَقَضَ
أَهْلُهَا مَا كَانَ لَهُمْ مِنَ الصُّلْحِ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا فَتَحَ
عَنْوَةً، وَمِنْ ذَلِكَ مَا فَتَحَ صُلْحًا، فَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَا
صَالَحَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْمَدَائِنِ وَهِيَ مَرْوُ عَلَى أَلْفَيْ
أَلْفٍ وَمِائَتَيْ أَلْفٍ، وَقِيلَ عَلَى سِتَّةِ آلَافِ أَلْفٍ
وَمِائَتَيْ أَلْفٍ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ حَجَّ بِالنَّاسِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ
رَضِيَ اللَّهُ عنه.
ثم دخلت سنه ثنتين وثلاثين
وَفِيهَا غَزَا مُعَاوِيَةُ بِلَادَ الرُّومِ حَتَّى بَلَغَ
الْمَضِيقَ- مَضِيقَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ- وَمَعَهُ زَوْجَتُهُ
عَاتِكَةُ، وَيُقَالُ فاطمة بنت قرطة بْنِ عَبْدِ عَمْرِو بْنِ
نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ. قَالَهُ أَبُو مَعْشَرٍ
وَالْوَاقِدِيُّ: وَفِيهَا اسْتَعْمَلَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ
سَلْمَانَ بْنَ رَبِيعَةَ عَلَى جَيْشٍ وَأَمَرَهُ أَنْ يَغْزُوَ
الْبَابَ، وَكَتَبَ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ رَبِيعَةَ نَائِبِ
تِلْكَ النَّاحِيَةِ بِمُسَاعَدَتِهِ، فَسَارَ حَتَّى بَلَغَ
بَلَنْجَرَ فَحَصَرُوهَا وَنُصِبَتْ عَلَيْهَا الْمَجَانِيقُ
وَالْعَرَّادَاتُ. ثُمَّ إِنَّ أَهْلَ بَلَنْجَرَ خَرَجُوا إِلَيْهِمْ
وَعَاوَنَهُمُ التُّرْكُ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا- وَكَانَتِ
التُّرْكُ تَهَابُ
(7/159)
قِتَالَ الْمُسْلِمِينَ، وَيَظُنُّونَ
أَنَّهُمْ لَا يَمُوتُونَ- حَتَّى اجترأوا عَلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ،
فَلَمَّا كَانَ هَذَا الْيَوْمُ الْتَقَوْا مَعَهُمْ فَاقْتَتَلُوا،
فَقُتِلَ يَوْمَئِذٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن ربيعة- وكان يقال له ذو
النون- وانهزم المسلمون فافترقوا فرقتين، ففرقة ذهبت إلى بِلَادِ
الْخَزَرِ، وَفِرْقَةٌ سَلَكُوا نَاحِيَةَ جِيلَانَ وَجُرْجَانَ، وَفِي
هَؤُلَاءِ أَبُو هُرَيْرَةَ وَسَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ. وَأَخَذَتِ
التُّرْكُ جَسَدَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ رَبِيعَةَ- وَكَانَ مِنْ
سَادَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَشُجْعَانِهِمْ- فَدَفَنُوهُ فِي بِلَادِهِمْ
فَهُمْ يَسْتَسْقُونَ عِنْدَهُ إِلَى الْيَوْمِ، وَلَمَّا قُتِلَ
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ رَبِيعَةَ اسْتَعْمَلَ سَعِيدُ بْنُ العاص على
ذلك الفرع سَلْمَانَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَأَمَدَّهُمْ عُثْمَانُ بِأَهْلِ
الشَّامِ عَلَيْهِمْ حَبِيبُ بْنُ مَسْلَمَةَ، فَتَنَازَعَ حَبِيبُ
وَسَلْمَانُ فِي الْإِمْرَةِ حَتَّى اخْتَلَفَا، فَكَانَ أَوَّلَ
اخْتِلَافٍ وَقَعَ بَيْنَ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَأَهْلِ الشَّامِ، حَتَّى
قَالَ فِي ذَلِكَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَهُوَ أَوْسٌ:
فَإِنْ تَضْرِبُوا سَلْمَانَ نَضْرِبْ حَبِيبَكُمْ ... وَإِنْ
تَرْحَلُوا نَحْوَ ابْنِ عَفَّانَ نَرْحَلِ
وَإِنْ تُقْسِطُوا فَالثَّغْرُ ثَغْرُ أَمِيرِنَا ... وَهَذَا أَمِيرٌ
فِي الكتائب مقبل
ونحن ولاة الثغر كما حُمَاتَهُ ... لَيَالِيَ نَرْمِي كُلَّ ثَغْرِ
وَنُنْكِلِ
وَفِيهَا فتح ابن عامر مروالروذ والطالقان والفارياب والجوزجان
وطخارستان. فأما مروالروذ فبعث إليهم أبو عَامِرٍ الْأَحْنَفَ بْنَ
قَيْسٍ فَحَصَرَهَا فَخَرَجُوا إِلَيْهِ فَقَاتَلَهُمْ حَتَّى
كَسَرَهُمْ فَاضْطَرَّهُمْ إِلَى حِصْنِهِمْ، ثُمَّ صَالَحُوهُ عَلَى
مَالٍ جَزِيلٍ وَعَلَى أَنْ يَضْرِبَ عَلَى أَرَاضِي الرَّعِيَّةِ
الْخَرَاجَ، وَيَدَعَ الْأَرْضَ الَّتِي كان اقتطعها كِسْرَى لِوَالِدِ
الْمَرْزُبَانِ، صَاحِبِ مَرْوَ، حِينَ قَتَلَ الْحَيَّةَ الَّتِي
كَانَتْ تَقْطَعُ الطَّرِيقَ عَلَى النَّاسِ وَتَأْكُلُهُمْ،
فَصَالَحَهُمُ الْأَحْنَفُ عَلَى ذَلِكَ، وَكَتَبَ لَهُمْ كِتَابَ
صُلْحٍ بِذَلِكَ، ثُمَّ بَعَثَ الْأَحْنَفُ الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ
إِلَى الْجُوزَجَانِ فَفَتَحَهَا بَعْدَ قِتَالٍ وَقَعَ بَيْنَهُمْ،
قُتِلَ فِيهِ خَلْقٌ مِنْ شُجْعَانِ المسلمين، ثم نصروا فقال في ذلك
أبو كُثَيِّرٌ النَّهْشَلِيُّ قَصِيدَةً طَوِيلَةً فِيهَا:
سَقَى مُزْنَ السَّحَابِ إِذَا اسْتَهَلَّتْ ... مَصَارِعَ فِتْيَةٍ
بِالْجُوزَجَانِ
إِلَى القصرين من رستاق حوط ... أَبَادَهُمُ هُنَاكَ الْأَقْرَعَانِ
ثُمَّ سَارَ الْأَحْنَفُ مِنْ مروالروذ إِلَى بَلْخَ فَحَاصَرَهُمْ
حَتَّى صَالَحُوهُ عَلَى أَرْبَعِمِائَةِ ألف، واستناب ابن عمه أسيد بن
المشمس عَلَى قَبْضِ الْمَالِ، ثُمَّ ارْتَحَلَ يُرِيدُ الْجِهَادَ،
وداهمه الشِّتَاءُ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ:
مَا تَشَاءُونَ؟ فَقَالُوا: قَدْ قَالَ عَمْرُو بْنُ مَعْدِيكَرِبَ:
إِذَا لَمْ تَسْتَطِعْ شَيْئًا فَدَعْهُ ... وَجَاوِزْهُ إِلَى مَا
تَسْتَطِيعُ
فَأَمَرَ الْأَحْنَفُ بِالرَّحِيلِ إِلَى بَلْخَ فَأَقَامَ بِهَا
مُدَّةَ الشتاء، ثم عاد إلى عَامِرٍ فَقِيلَ لِابْنِ عَامِرٍ مَا
فُتِحَ عَلَى أَحَدٍ مَا فُتِحَ عَلَيْكَ، فَارِسُ وَكِرْمَانُ
وَسِجِسْتَانُ وعامر خُرَاسَانَ، فَقَالَ: لَا جَرَمَ، لَأَجْعَلَنَّ
شُكْرِي للَّه عَلَى ذَلِكَ أَنْ أُحْرِمَ بِعُمْرَةٍ مِنْ مَوْقِفِي
هَذَا مُشَمِّرًا فَأَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ مِنْ نَيْسَابُورَ، فَلَمَّا
قدم على
(7/160)
عُثْمَانَ لَامَهُ عَلَى إِحْرَامِهِ مِنْ
خُرَاسَانَ. وَفِيهَا أَقْبَلَ قَارِنُ فِي أَرْبَعِينَ أَلْفًا
فَالْتَقَاهُ عَبْدُ الله بن حازم فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ، وَجَعَلَ
لَهُمْ مُقَدِّمَةً سِتَّمِائَةِ رجل، وأمر كلا مِنْهُمْ أَنْ يَحْمِلَ
عَلَى رَأْسِ رُمْحِهِ نَارًا، وَأَقْبَلُوا إِلَيْهِمْ فِي وَسَطِ
اللَّيْلِ فَبَيَّتُوهُمْ فَثَارُوا إِلَيْهِمْ فَنَاوَشَتْهُمُ
الْمُقَدِّمَةُ فَاشْتَغَلُوا بِهِمْ، وَأَقْبَلَ عَبْدُ الله بن حازم
بمن معه من المسلمين فاتفقوا هُمْ وَإِيَّاهُمْ، فَوَلَّى
الْمُشْرِكُونَ مُدْبِرِينَ، وَأَتْبَعَهُمُ الْمُسْلِمُونَ
يَقْتُلُونَ مَنْ شَاءُوا كَيْفَ شَاءُوا. وَغَنِمُوا سَبْيًا كَثِيرًا
وَأَمْوَالًا جَزِيلَةً، ثُمَّ بَعَثَ عَبْدُ اللَّهِ بن حازم
[بِالْفَتْحِ إِلَى ابْنِ عَامِرٍ، فَرَضِيَ عَنْهُ وَأَقَرَّهُ عَلَى
خُرَاسَانَ- وَكَانَ قَدْ عَزَلَهُ عَنْهَا- فَاسْتَمَرَّ بها عبد الله
بن حازم] [1] إِلَى مَا بَعْدَ ذَلِكَ.
ذِكْرُ مَنْ تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ
ابْنُ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ الْقُرَشِيُّ الْهَاشِمِيُّ أَبُو
الْفَضْلِ الْمَكِّيُّ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَوَالِدُ الْخُلَفَاءِ الْعَبَّاسِيِّينَ، وَكَانَ أَسَنَّ
مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَنَتَيْنِ
أَوْ ثَلَاثٍ، أُسِرَ يَوْمَ بَدْرٍ فَافْتَدَى نَفْسَهُ بِمَالٍ،
وَافْتَدَى ابْنَيْ أَخَوَيْهِ عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَنَوْفَلِ
بْنِ الْحَارِثِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَمَّا أُسِرَ وَشُدَّ فِي
الْوَثَاقِ وأمسى الناس، أرق رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَالَكَ؟ فَقَالَ «إِنِّي
أَسْمَعُ أَنِينَ الْعَبَّاسِ فِي وَثَاقِهِ فَلَا أَنَامُ» فَقَامَ
رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَحَلَّ مِنْ وَثَاقِ الْعَبَّاسِ حَتَّى
سَكَنَ أَنِينُهُ فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، ثُمَّ أَسْلَمَ عَامَ الْفَتْحِ، وَتَلَقَّى رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْجُحْفَةِ فَرَجَعَ
مَعَهُ، وَشَهِدَ الْفَتْحَ، وَيُقَالُ إِنَّهُ أَسْلَمَ قَبْلَ ذَلِكَ
وَلَكِنَّهُ أَقَامَ بِمَكَّةَ بِإِذْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ فِي ذَلِكَ، كَمَا وَرَدَ بِهِ الْحَدِيثُ
فاللَّه أَعْلَمُ. وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُجِلُّهُ وَيُعَظِّمُهُ وَيُنْزِلُهُ مَنْزِلَةَ
الْوَالِدِ مِنَ الْوَلَدِ، وَيَقُولُ «هَذَا بَقِيَّةُ آبَائِي»
وَكَانَ مِنْ أَوْصَلِ النَّاسِ لِقُرَيْشٍ وَأَشْفَقِهِمْ عَلَيْهِمْ،
وَكَانَ ذَا رَأْيٍ وَعَقْلٍ تَامٍّ وَافٍ، وَكَانَ طَوِيلًا جميلا
أبيض بضا ذا طفرتين وَكَانَ لَهُ مِنَ الْوَلَدِ عَشَرَةُ ذُكُورٍ
سِوَى الْإِنَاثِ، وَهُمْ تَمَّامٌ- وَكَانَ أَصْغَرَهُمْ-
وَالْحَارِثُ، وَعَبْدُ اللَّهِ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ، وَعَبْدُ
الرَّحْمَنِ، وَعَوْنٌ، وَالْفَضْلُ، وَقُثَمُ، وَكَثِيرٌ، وَمَعْبَدٌ.
وَأَعْتَقَ سَبْعِينَ مَمْلُوكًا مِنْ غِلْمَانِهِ [وَقَالَ الْإِمَامُ
أَحْمَدُ: ثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي
مُحَمَّدُ بْنُ طَلْحَةَ التَّمِيمِيُّ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ
حَدَّثَنِي أَبُو سُهَيْلٍ نَافِعُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيَّبِ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْعَبَّاسِ «هَذَا
الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَجْوَدُ قُرَيْشٍ كَفًّا
وَأَوْصَلُهَا» تَفَرَّدَ بِهِ [2]] وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعُمَرَ
حِينَ بَعَثَهُ عَلَى الصَّدَقَةِ فَقِيلَ مَنَعَ ابْنُ جَمِيلٍ
وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَالْعَبَّاسُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَا يَنْقِمُ ابْنُ جَمِيلٍ إِلَّا أَنْ
كان فقيرا فأغناه
__________
[1] سقط من الحلبية.
[2] سقط من المصرية. الله وقوله تفرد به كذا في أصل الحلبية ولعله سقط
منه لفظ أحمد.
(7/161)
وَأَمَّا خَالِدٌ فَإِنَّكُمْ تَظْلِمُونَ
خَالِدًا وَقَدِ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْتَادَهُ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ، وَأَمَّا الْعَبَّاسُ فَهِيَ عَلَيَّ وَمِثْلُهَا» ثُمَّ
قَالَ: «يَا عُمَرُ أما شرعت أَنَّ عَمَّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ» ؟
وَثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ عُمَرَ خَرَجَ
يَسْتَسْقِي وَخَرَجَ بِالْعَبَّاسِ مَعَهُ يَسْتَسْقِي بِهِ، وَقَالَ
اللَّهمّ إِنَّا كُنَّا إِذَا قَحَطْنَا تَوَسَّلْنَا إِلَيْكَ
بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا، وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ
نَبِيِّنَا، قَالَ فَيُسْقَوْنَ، وَيُقَالُ إِنَّ عُمَرَ بْنَ
الْخَطَّابِ وعثمان بن عفان كانا إذا مر بِالْعَبَّاسِ وَهُمَا
رَاكِبَانِ تَرَجَّلَا إِكْرَامًا لَهُ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ وَغَيْرُ
وَاحِدٍ: تُوُفِّيَ الْعَبَّاسُ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ لِثِنْتَيْ
عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَجَبٍ، وَقِيلَ مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ
ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ، عَنْ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَصَلَّى
عَلَيْهِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ وَقِيلَ
تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ، وَقِيلَ سَنَةَ أَرْبَعٍ
وَثَلَاثِينَ، وَفَضَائِلُهُ وَمَنَاقِبُهُ كَثِيرَةٌ جِدًّا.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ
ابْنُ غافل بن حبيب بن سمح بْنِ فَارِ بْنِ مَخْزُومِ بْنِ صَاهِلَةَ
بْنِ كاهل بن الحارث بن تيم بْنِ سَعْدِ بْنِ هُذَيْلِ بْنِ مُدْرِكَةَ
بْنِ إلياس بن مضر الهذلي، أبو عبد الرحمن حَلِيفُ بَنِي زُهْرَةَ،
أَسْلَمَ قَدِيمًا قَبْلَ عُمَرَ، وَكَانَ سَبَبُ إِسْلَامِهِ حِينَ
مَرَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَأَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهُوَ يَرْعَى غَنَمًا
فَسَأَلَاهُ لَبَنًا فَقَالَ: إِنِّي مُؤْتَمَنٌ، قَالَ فَأَخَذَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنَاقًا لَمْ
يَنْزُ عَلَيْهَا الْفَحْلُ فَاعْتَقَلَهَا ثُمَّ حَلَبَ وَشَرِبَ
وَسَقَى أَبَا بَكْرٍ، ثُمَّ قَالَ لِلضَّرْعِ «اقْلِصْ» فَقَلَصَ،
فَقُلْتُ عَلِّمْنِي مِنْ هَذَا الدُّعَاءِ فَقَالَ: إنك غلام
مُعَلَّمٌ، الْحَدِيثَ. وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ يَحْيَى
بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ أَوَّلَ مَنْ
جَهَرَ بِالْقُرْآنِ بِمَكَّةَ، بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ الْبَيْتِ، وَقُرَيْشٌ فِي أَنْدِيَتِهَا
قَرَأَ سُورَةَ الرَّحْمَنُ علم القرآن، فَقَامُوا إِلَيْهِ
فَضَرَبُوهُ، وَلَزِمَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَكَانَ يَحْمِلُ نَعْلَيْهِ وَسِوَاكَهُ، وَقَالَ لَهُ
إِذْنُكَ عَلَيَّ أَنْ تَسْمَعَ سِوَادِي [1] وَلِهَذَا كَانَ يُقَالُ
له صاحب السواك والوساد، وَهَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ ثُمَّ عَادَ
إِلَى مَكَّةَ ثُمَّ هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَشَهِدَ بَدْرًا،
وَهُوَ الَّذِي قَتَلَ أَبَا جَهْلٍ بَعْدَ مَا أَثْبَتَهُ ابْنَا
عَفْرَاءَ، وَشَهِدَ بَقِيَّةَ الْمَشَاهِدِ، وَقَالَ لَهُ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا «اقْرَأْ عَلَيَّ»
فَقُلْتُ اقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ فَقَالَ «إِنِّي
أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي» فَقَرَأَ عَلَيْهِ مِنْ أَوَّلِ
سُورَةِ النِّسَاءِ إِلَى قَوْلِهِ (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ
أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وجئنا بك على هؤلاء شهيدا) فَبَكَى رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ «حَسْبُكَ» وَقَالَ أَبُو
مُوسَى: قَدِمْتُ أَنَا وَأَخِي مِنَ الْيَمَنِ وَمَا كُنَّا نَظُنُّ
إِلَّا أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ وَأُمَّهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِكَثْرَةِ دُخُولِهِمْ بَيْتَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ حُذَيْفَةُ مَا
رَأَيْتُ أَحَدًا أَشْبَهُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي هَدْيِهِ وَدَلِّهِ وَسَمْتِهِ مِنَ ابْنِ مَسْعُودٍ،
وَلَقَدْ عَلِمَ الْمَحْفُوظُونَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ ابْنَ أُمِّ عَبْدٍ أَقْرَبُهُمْ
إِلَى اللَّهِ زُلْفَى، وَفِي الْحَدِيثِ «وَتَمَسَّكُوا بِعَهْدِ
ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ» وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ الَّذِي رَوَاهُ
أَحْمَدُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ أم حرسى عن
على أن ابن
__________
[1] في النهاية اذنك على أن ترفع الحجاب وتستمع سوادي حتى أنهاك.
السواد بالكسر السرار
(7/162)
مَسْعُودٍ صَعِدَ شَجَرَةً يَجْتَنِي
الْكَبَاثَ فَجَعَلَ النَّاسُ يَعْجَبُونَ مِنْ دِقَّةِ سَاقَيْهِ،
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَالَّذِي
نَفْسِي بِيَدِهِ لَهُمَا فِي الْمِيزَانِ أَثْقَلُ مِنْ أُحُدٍ»
وَقَالَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَقَدْ نَظَرَ
إِلَى قِصَرِهِ وَكَانَ يُوَازِي بِقَامَتِهِ الْجُلُوسَ- فَجَعَلَ
يُتْبِعُهُ بَصَرَهُ ثُمَّ قَالَ هُوَ كُنَيْفٌ مليء عِلْمًا. وَقَدْ
شَهِدَ ابْنُ مَسْعُودٍ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مَوَاقِفَ كَثِيرَةً، مِنْهَا اليرموك وغيرها، وكان قَدِمَ
مِنَ الْعِرَاقِ حَاجًّا فَمَرَّ بِالرَّبَذَةِ فَشَهِدَ وَفَاةَ أَبِي
ذَرٍّ وَدَفَنَهُ، ثُمَّ قَدِمَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَمَرِضَ بِهَا
فَجَاءَهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ عَائِدًا، فَيُرْوَى أَنَّهُ قَالَ
لَهُ: مَا تَشْتَكِي؟ قَالَ ذُنُوبِي، قَالَ فَمَا تَشْتَهِي؟ قَالَ
رَحْمَةَ رَبِّي، قَالَ أَلَا آمُرُ لَكَ بِطَبِيبٍ؟ فَقَالَ:
الطَّبِيبُ أَمْرَضَنِي، قَالَ أَلَا آمُرُ لَكَ بِعَطَائِكَ؟ -
وَكَانَ قَدْ تَرَكَهُ سَنَتَيْنِ- فَقَالَ: لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ.
فَقَالَ: يَكُونُ لِبَنَاتِكَ مِنْ بَعْدِكَ، فَقَالَ أَتَخْشَى عَلَى
بَنَاتِي الْفَقْرَ؟ إِنِّي أَمَرْتُ بَنَاتِي أَنْ يَقْرَأْنَ كُلَّ
لَيْلَةٍ سُورَةَ الْوَاقِعَةِ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ «مَنْ قَرَأَ الْوَاقِعَةَ
كُلَّ لَيْلَةٍ لَمْ تُصِبْهُ فَاقَةٌ أَبَدًا» وَأَوْصَى عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ إِلَى الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، فَيُقَالُ
إِنَّهُ هُوَ الَّذِي صَلَّى عَلَيْهِ لَيْلًا، ثُمَّ عَاتَبَ
عُثْمَانُ الزُّبَيْرَ عَلَى ذَلِكَ، وَقِيلَ بَلْ صَلَّى عَلَيْهِ
عُثْمَانُ، وَقِيلَ عَمَّارٌ، فاللَّه أَعْلَمُ. وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ
عَنْ بِضْعٍ وَسِتِّينَ سَنَةً.
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفِ
ابْنُ عَبْدِ عَوْفِ بْنِ عَبْدِ الْحَارِثِ بْنِ زُهْرَةَ بْنِ
كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ، أَبُو مُحَمَّدٍ الْقُرَشِيُّ الزُّهْرِيُّ،
أَسْلَمَ قَدِيمًا عَلَى يَدَيْ أَبِي بَكْرٍ، وَهَاجَرَ إِلَى
الْحَبَشَةِ وَإِلَى الْمَدِينَةِ، وَآخَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُ وبين سعد ابن الرَّبِيعِ،
وَشَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا، وَأَمَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى بَنِي كَلْبٍ
وَأَرْخَى لَهُ عَذَبَةً بَيْنَ كَتِفَيْهِ، لِتَكُونَ أَمَارَةً
عَلَيْهِ لِلْإِمَارَةِ، وَهُوَ أَحَدُ الْعَشْرَةِ الْمَشْهُودِ
لَهُمْ بِالْجَنَّةِ، وَأَحَدُ الثَّمَانِيَةِ السَّابِقَيْنَ إِلَى
الْإِسْلَامِ، وَأَحَدُ السِّتَّةِ أَصْحَابِ الشُّورَى، ثُمَّ أَحَدُ
الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ انْتَهَتْ إِلَيْهِمْ مِنْهُمْ، كَمَا
ذَكَرْنَا.
ثُمَّ كَانَ هُوَ الَّذِي اجْتَهَدَ فِي تَقْدِيمِ عُثْمَانَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ، وَقَدْ تَقَاوَلَ هُوَ وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فِي
بَعْضِ الْغَزَوَاتِ فَأَغْلَظَ لَهُ خَالِدٌ فِي الْمَقَالِ، فَلَمَّا
بَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ «لا تسبوا أصحابى فو الّذي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنْفَقَ
أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا
نَصِيفَهُ» وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ. وَقَالَ مَعْمَرٌ عَنِ
الزُّهْرِيِّ: تَصَدَّقَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ عَلَى عَهْدِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَطْرِ مَالِهِ
أَرْبَعَةِ آلَافٍ، ثُمَّ تَصَدَّقَ بِأَرْبَعِينَ أَلْفًا ثُمَّ
تَصَدَّقَ بِأَرْبَعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، ثُمَّ حَمَلَ عَلَى
خَمْسِمِائَةِ فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ حَمَلَ عَلَى
خَمْسِمِائَةِ رَاحِلَةٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَكَانَ عَامَّةُ
مَالِهِ مِنَ التِّجَارَةِ، فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي قَالَ عَبْدُ
بْنُ حُمَيْدٍ فِي مُسْنَدِهِ ثَنَا يَحْيَى بْنُ إِسْحَاقَ ثَنَا
عُمَارَةُ بْنُ زَاذَانَ عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ
مَالِكٍ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ لَمَّا هَاجَرَ آخَى
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فَقَالَ لَهُ إِنَّ لِي حَائِطَيْنِ فَاخْتَرْ
أَيَّهُمَا شِئْتَ، فَقَالَ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي حَائِطَيْكَ،
مَا لِهَذَا أَسْلَمْتُ، دَلَّنِي عَلَى السُّوقِ، قَالَ فَدَلَّهُ
فَكَانَ يشترى السمنة وَالْأُقَيْطَةَ وَالْإِهَابَ، فَجَمَعَ
فَتَزَوَّجَ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَ «بَارَكَ اللَّهُ لَكَ
(7/163)
أو لم وَلَوْ بِشَاةٍ» قَالَ فَكَثُرَ
مَالُهُ حَتَّى قَدِمَتْ لَهُ سَبْعُمِائَةُ رَاحِلَةٍ تَحْمِلُ
الْبُرَّ وَتَحْمِلُ الدَّقِيقَ وَالطَّعَامَ، قَالَ:
فَلَمَّا دَخَلَتِ الْمَدِينَةَ سُمِعَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ رَجَّةٌ،
فَقَالَتْ عَائِشَةُ: مَا هَذِهِ الرَّجَّةُ؟ فَقِيلَ لَهَا عِيرٌ
قَدِمَتْ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ سَبْعُمِائَةٍ تَحْمِلُ
الْبُرَّ وَالدَّقِيقَ وَالطَّعَامَ. فَقَالَتْ عَائِشَةُ: سَمِعْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ «يَدْخُلُ
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ الجنة حبوا» فلما بلغ عبد الرحمن ذلك
قَالَ: أُشْهِدُكِ يَا أُمَّهْ أَنَّهَا بِأَحْمَالِهَا وَأَحْلَاسِهَا
وَأَقْتَابِهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
ثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ حَسَّانَ ثَنَا عُمَارَةُ- هُوَ ابْنَ
زَاذَانَ- عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: بَيْنَمَا عَائِشَةُ فِي
بَيْتِهَا إِذْ سَمِعَتْ صوتا في المدينة قالت:
مَا هَذَا؟ قَالُوا عِيرٌ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَدِمَتْ
مِنَ الشَّامِ تَحْمِلُ كُلَّ شَيْءٍ- قَالَ وَكَانَتْ سَبْعَمِائَةِ
بَعِيرٍ- قَالَ فَارْتَجَّتِ الْمَدِينَةُ مِنَ الصَّوْتِ، فَقَالَتْ
عَائِشَةُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقُولُ: «قَدْ رَأَيْتُ عبد الرحمن ابن عَوْفٍ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ
حَبْوًا» فَبَلَغَ ذَلِكَ عَبْدَ الرحمن بن عوف فقال: لئن استطعت
لأدخلها قَائِمًا، فَجَعَلَهَا بِأَقْتَابِهَا وَأَحْمَالِهَا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ. فَقَدْ تَفَرَّدَ بِهِ عُمَارَةُ بْنُ زَاذَانَ
الصَّيْدَلَانِيُّ وهو ضعيف. وأما قوله فِي سِيَاقِ عَبْدِ بْنِ
حُمَيْدٍ: إِنَّهُ آخَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ،
فَغَلَطٌ مَحْضٌ مُخَالِفٌ لِمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ أَنَّ
الَّذِي آخَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ إِنَّمَا هُوَ سَعْدُ بْنُ
الرَّبِيعِ الْأَنْصَارِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَثَبَتَ فِي
الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
صَلَّى وَرَاءَهُ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ مِنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ فِي
بَعْضِ الْأَسْفَارِ، وَهَذِهِ مَنْقَبَةٌ عَظِيمَةٌ لَا تُبَارَى.
وَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ أَوْصَى لِكُلِّ رَجُلٍ مِمَّنْ بَقِيَ
مِنْ أَهْلِ بِدْرٍ بِأَرْبَعِمِائَةِ دِينَارٍ- وَكَانُوا مِائَةً-
فَأَخَذُوهَا حَتَّى عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ، وَقَالَ عَلِيٌّ: اذْهَبْ
يَا ابْنَ عَوْفٍ فقد أدركت صفوها، وسبقت زيفها وَأَوْصَى لِكُلِّ
امْرَأَةٍ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِمَبْلَغٍ كَثِيرٍ حَتَّى
كَانَتْ عَائِشَةُ تَقُولُ سَقَاهُ اللَّهُ مِنَ السَّلْسَبِيلِ.
وَأَعْتَقَ خَلْقًا مِنْ مَمَالِيكِهِ ثُمَّ تَرَكَ بَعْدَ ذَلِكَ
كُلِّهِ مَالًا جَزِيلًا، مِنْ ذَلِكَ ذَهَبٌ قُطِعَ بِالْفُئُوسِ
حَتَّى مَجَلَتْ أَيْدِي الرِّجَالِ، وَتَرَكَ أَلْفَ بَعِيرٍ
وَمِائَةَ فَرَسٍ، وَثَلَاثَةَ آلَافِ شَاةٍ تَرْعَى بِالْبَقِيعِ،
وَكَانَ نِسَاؤُهُ أَرْبَعًا فَصُولِحَتْ إِحْدَاهُنَّ مِنْ رُبْعِ
الثَّمَنِ بِثَمَانِينَ أَلْفًا، وَلَمَّا مَاتَ صَلَّى عَلَيْهِ
عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَحَمَلَ فِي جِنَازَتِهِ سَعْدُ بْنُ أَبِي
وَقَّاصٍ، وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ عَنْ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً.
وَكَانَ أبيض مشربا حمرة حسن الوجه، دقيق الْبَشَرَةِ، أَعْيَنَ
أَهْدَبَ الْأَشْفَارِ، أَقْنَى، لَهُ جَمَّةٌ، ضَخْمَ الْكَفَّيْنِ،
غَلِيظَ الْأَصَابِعِ، لَا يُغَيِّرُ شَيْبَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
أَبُو ذَرٍّ الْغِفَارِيُّ
وَاسْمُهُ جُنْدُبُ بْنُ جُنَادَةَ عَلَى الْمَشْهُورِ، أَسْلَمَ
قَدِيمًا بِمَكَّةَ فَكَانَ رَابِعَ أَرْبَعَةٍ أَوْ خَامِسَ خَمْسَةٍ.
وَقِصَّةُ إِسْلَامِهِ تَقَدَّمَتْ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَهُوَ أَوَّلُ
مَنْ حَيَّا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِتَحِيَّةِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى بِلَادِهِ وَقَوْمِهِ،
فَكَانَ هُنَاكَ حَتَّى هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَهَاجَرَ بَعْدَ الْخَنْدَقِ
ثُمَّ لَزِمَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
حَضَرًا وَسَفَرًا، وَرَوَى عَنْهُ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً، وَجَاءَ فِي
فَضْلِهِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ، من
(7/164)
أَشْهَرِهَا مَا رَوَاهُ الْأَعْمَشُ عَنْ
أَبِي الْيَقْظَانِ عُثْمَانَ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ أَبِي حَرْبِ بْنِ
أَبِي الْأَسْوَدِ عَنْ عبد الله ابن عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «مَا أَظَلَّتِ الْخَضْرَاءُ،
وَلَا أَقَلَّتِ الْغَبْرَاءُ أَصْدَقَ لَهْجَةً مِنْ أَبِي ذَرٍّ»
وَفِيهِ ضَعْفٌ. ثُمَّ لَمَّا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَاتَ أَبُو بَكْرٍ خَرَجَ إِلَى الشَّامِ
فَكَانَ فِيهِ حَتَّى وَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُعَاوِيَةَ
فَاسْتَقْدَمَهُ عُثْمَانُ إِلَى الْمَدِينَةِ، ثُمَّ نزل الرَّبَذَة
فَأَقَامَ بِهَا حَتَّى مَاتَ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ، وَلَيْسَ عِنْدَهُ سِوَى امْرَأَتِهِ وَأَوْلَادِهِ،
فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى دَفْنِهِ إِذْ قَدِمَ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ مِنْ الْعِرَاقَ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ
أَصْحَابِهِ، فَحَضَرُوا مَوْتَهُ، وَأَوْصَاهُمْ كَيْفَ يَفْعَلُونَ
بِهِ، وَقِيلَ قَدِمُوا بعد وفاته فَوَلُوا غُسْلَهُ وَدَفْنَهُ،
وَكَانَ قَدْ أَمَرَ أَهْلَهُ أن يطبخوا لهم شاة من غنمه ليأكلوه بعد
الموت، وقد أَرْسَلَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ إِلَى أَهْلِهِ
فَضَمَّهُمْ مع أَهْلِهِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ
فِيهَا كان فتح قبرص فِي قَوْلِ أَبِي مَعْشَرٍ، وَخَالَفَهُ
الْجُمْهُورُ فَذَكَرُوهَا قَبْلَ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَفِيهَا
غَزَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ إِفْرِيقِيَّةَ
ثَانِيَةً، حِينَ نَقَضَ أَهْلُهَا الْعَهْدَ. وَفِيهَا سَيَّرَ
أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ جَمَاعَةً مِنْ قُرَّاءِ أَهْلِ الْكُوفَةِ
إِلَى الشَّامِ، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ تَكَلَّمُوا
بِكَلَامٍ قَبِيحٍ فِي مَجْلِسِ سَعِيدِ بْنِ عَامِرٍ، فَكَتَبَ إِلَى
عُثْمَانَ فِي أَمْرِهِمْ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُثْمَانُ أَنْ
يُجْلِيَهُمْ عَنْ بَلَدِهِ إِلَى الشَّامِ، وَكَتَبَ عُثْمَانُ إِلَى
مُعَاوِيَةَ أَمِيرِ الشَّامِ أَنَّهُ قد أخرج إِلَيْكَ قُرَّاءُ مِنْ
أَهْلِ الْكُوفَةِ فَأَنْزِلْهُمْ وَأَكْرِمْهُمْ وَتَأْلَفْهُمْ.
فَلَمَّا قَدِمُوا أَنْزَلَهُمْ مُعَاوِيَةُ وَأَكْرَمَهُمْ
وَاجْتَمَعَ بِهِمْ وَوَعَظَهُمْ وَنَصَحَهُمْ فِيمَا يَعْتَمِدُونَهُ
مِنِ اتِّبَاعِ الْجَمَاعَةِ وَتَرْكِ الِانْفِرَادِ وَالِابْتِعَادِ،
فَأَجَابَهُ مُتَكَلِّمُهُمْ وَالْمُتَرْجِمُ عَنْهُمْ بِكَلَامٍ فِيهِ
بَشَاعَةٌ وَشَنَاعَةٌ، فَاحْتَمَلَهُمْ مُعَاوِيَةُ لِحِلْمِهِ،
وَأَخَذَ فِي مَدْحِ قُرَيْشٍ- وَكَانُوا قَدْ نَالُوا مِنْهُمْ-
وَأَخَذَ فِي الْمَدْحِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، وَالصَّلَاةِ وَالتَّسْلِيمِ.
وَافْتَخَرَ مُعَاوِيَةُ بِوَالِدِهِ وَشَرَفِهِ فِي قَوْمِهِ، وَقَالَ
فِيمَا قَالَ: وَأَظُنُّ أَبَا سُفْيَانَ لَوْ وَلَدَ النَّاسَ
كُلَّهُمْ لَمْ يَلِدْ إِلَّا حَازِمًا، فَقَالَ لَهُ صَعْصَعَةُ بْنُ
صُوحَانَ: كَذَبْتَ، قَدْ وَلَدَ النَّاسُ كُلُّهُمْ لَمَنْ هُوَ
خَيْرٌ مِنْ أَبِي سُفْيَانَ مَنْ خَلَقَهُ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ
فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، وَأَمَرَ الْمَلَائِكَةَ فَسَجَدُوا لَهُ، فَكَانَ
فِيهِمُ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، وَالْأَحْمَقُ وَالْكَيِّسُ. ثُمَّ
بَذَلَ لَهُمُ النُّصْحَ مَرَّةً أُخْرَى فَإِذَا هُمْ يَتَمَادَوْنَ
فِي غَيِّهِمْ، وَيَسْتَمِرُّونَ عَلَى جَهَالَتِهِمْ وَحَمَاقَتِهِمْ،
فَعِنْدَ ذَلِكَ أَخْرَجَهُمْ مِنْ بَلَدِهِ وَنَفَاهُمْ عَنِ
الشَّامِ، لِئَلَّا يُشَوِّشُوا عُقُولَ الطَّغَامِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ
كَانَ يَشْتَمِلُ مَطَاوِي كَلَامِهِمْ عَلَى الْقَدْحِ فِي قُرَيْشٍ
كَوْنَهُمْ فَرَّطُوا وَضَيَّعُوا مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنَ
الْقِيَامِ فِيهِ، مِنْ نُصْرَةِ الدِّينِ وَقَمْعِ الْمُفْسِدِينَ.
وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ بِهَذَا التَّنْقِيصَ وَالْعَيْبَ وَرَجْمَ
الْغَيْبِ، وَكَانُوا يَشْتُمُونَ عُثْمَانَ وَسَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ،
وَكَانُوا عَشْرَةً، وَقِيلَ تِسْعَةً وَهُوَ الْأَشْبَهُ، مِنْهُمْ
كُمَيْلُ بْنُ زِيَادٍ، وَالْأَشْتَرُ النَّخَعِيُّ- وَاسْمُهُ مَالِكُ
بْنُ يَزِيدَ- وَعَلْقَمَةُ بْنُ قَيْسٍ النَّخَعِيَّانِ، وَثَابِتُ
بْنُ قَيْسٍ النَّخْعِيُّ، وَجُنْدُبُ بْنُ زُهَيْرٍ الْعَامِرِيُّ،
وَجُنْدُبُ بْنُ كَعْبٍ الْأَزْدِيُّ، وَعُرْوَةُ بْنُ الْجَعْدِ
(7/165)
وَعَمْرُو بْنُ الْحَمِقِ الْخُزَاعِيُّ
[1] . فَلَمَّا خَرَجُوا مِنْ دِمَشْقَ أَوَوْا إِلَى الْجَزِيرَةِ
فَاجْتَمَعَ بِهِمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ-
وَكَانَ نَائِبًا عَلَى الْجَزِيرَةِ. ثُمَّ وَلِيَ حِمْصَ بَعْدَ
ذَلِكَ- فَهَدَّدَهُمْ وَتَوَعَّدَهُمْ، فَاعْتَذَرُوا إِلَيْهِ
وَأَنَابُوا إِلَى الْإِقْلَاعِ عَمَّا كَانُوا عَلَيْهِ، فَدَعَا
لَهُمْ وَسَيَّرَ مَالِكًا الْأَشْتَرَ النَّخَعِيَّ إِلَى عُثْمَانَ
بْنِ عَفَّانَ لِيَعْتَذِرَ إِلَيْهِ عَنْ أَصْحَابِهِ بَيْنَ
يَدَيْهِ، فَقَبِلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَكَفَّ عَنْهُمْ وَخَيَّرَهُمْ
أَنْ يُقِيمُوا حَيْثُ أَحَبُّوا، فَاخْتَارُوا أَنْ يَكُونُوا فِي
مُعَامَلَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ،
فَقَدِمُوا عَلَيْهِ حِمْصَ، فَأَمَرَهُمْ بِالْمَقَامِ بِالسَّاحِلِ،
وَأَجْرَى عَلَيْهِمُ الرِّزْقَ. وَيُقَالُ بَلْ لَمَّا مَقَتَهُمْ
مُعَاوِيَةُ كَتَبَ فِيهِمْ إِلَى عُثْمَانَ فَجَاءَهُ كِتَابُ
عُثْمَانَ أَنْ يَرُدَّهُمْ إِلَى سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بِالْكُوفَةِ،
فَرَدَّهُمْ إِلَيْهِ، فَلَمَّا رَجَعُوا كَانُوا أَزَلَقَ أَلْسِنَةً،
وَأَكْثَرَ شَرًّا، فَضَجَّ مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ إِلَى
عُثْمَانَ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُسَيِّرَهُمْ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ بِحِمْصَ، وَأَنْ يَلْزَمُوا الدُّرُوبَ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ سَيَّرَ عُثْمَانُ بَعْضَ أَهْلِ الْبَصْرَةِ
مِنْهَا إِلَى الشَّامِ، وَإِلَى مِصْرَ بِأَسْبَابٍ مُسَوِّغَةٍ لِمَا
فَعَلَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَكَانَ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ يُؤَلِّبُ
عَلَيْهِ وَيُمَالِئُ الْأَعْدَاءَ فِي الْحَطِّ وَالْكَلَامِ فِيهِ،
وَهُمُ الظَّالِمُونَ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ الْبَارُّ الرَّاشِدُ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ حَجَّ بِالنَّاسِ أَمِيرُ
الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
وَتَقَبَّلَ اللَّهُ مِنْهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ
قَالَ أبو معشر: فيها كانت وقعة الصَّوَارِي، وَالصَّحِيحُ فِي قَوْلِ
غَيْرِهِ أَنَّهَا كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَفِي
هَذِهِ السَّنَةِ تكاتب المنحرفون عن طاعة عثمان- وَكَانَ
جُمْهُورُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ- وَهُمْ فِي مُعَامَلَةِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ بِحِمْصَ مَنْفِيُّونَ عَنِ
الْكُوفَةِ، وَثَارُوا عَلَى سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ أَمِيرِ
الْكُوفَةِ، وَتَأَلَّبُوا عَلَيْهِ، وَنَالُوا مِنْهُ وَمِنْ
عُثْمَانَ، وَبَعَثُوا إِلَى عُثْمَانَ مَنْ يُنَاظِرُهُ فِيمَا فَعَلَ
وَفِيمَا اعْتَمَدَ مَنْ عَزْلِ كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ
وَتَوْلِيَةِ جَمَاعَةٍ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ مِنْ أَقْرِبَائِهِ،
وَأَغْلَظُوا لَهُ فِي الْقَوْلِ، وطلبوا منه أن
__________
[1] كذا في الحلبية. والّذي في المصرية كُمَيْلُ بْنُ زِيَادٍ،
وَالْأَشْتَرُ النَّخَعِيُّ، - وَاسْمُهُ مَالِكُ بْنُ الْحَارِثِ-
وَصَعْصَعَةُ بْنُ صُوحَانَ وَأَخُوهُ زَيْدُ بن صوحان، وكعب بن مالك
الأوسي، والأسود بن زيد بن علقمة بْنُ قَيْسٍ النَّخَعِيَّانِ،
وَثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ النَّخْعِيُّ، وجندب بن زهير الغامدي،
وَجُنْدُبُ بْنُ كَعْبٍ الْأَزْدِيُّ، وَعُرْوَةُ بْنُ الْجَعْدِ،
وعمرو ابن الحمق الخزاعي.
والّذي في الطبري.
مالك بن الحارث الأشتر، وثابت بن قيس النخعي، وكميل بن زياد النخعي،
وزيد بن صوحان العبديّ، وجندب بن زهير الغامدي، وَجُنْدُبُ بْنُ كَعْبٍ
الْأَزْدِيُّ، وَعُرْوَةُ بْنُ الْجَعْدِ، وعمرو بن الحمق الخزاعي.
(7/166)
يعزل عماله ويستبدل أئمة غَيْرَهُمْ، مِنَ
السَّابِقَيْنَ وَمِنَ الصَّحَابَةِ حَتَّى شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ
جِدًّا، وَبَعَثَ إِلَى أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ فَأَحْضَرَهُمْ
عِنْدَهُ لِيَسْتَشِيرَهُمْ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ بْنُ
أَبِي سُفْيَانَ أَمِيرُ الشَّامِ، وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ أمير مصر،
وعبد الله ابن سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ أَمِيرُ الْمَغْرِبِ،
وَسَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ أَمِيرُ الْكُوفَةِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عَامِرٍ أَمِيرُ الْبَصْرَةِ فَاسْتَشَارَهُمْ فِيمَا حَدَثَ مِنَ
الأمر والافتراق الكلمة عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ أَنْ يَشْغَلَهُمْ
بِالْغَزْوِ عَمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الشَّرِّ، فَلَا يَكُونَ هَمُّ
أَحَدِهِمْ إِلَّا نَفْسَهُ، وَمَا هُوَ فِيهِ من دبر دابته وقمل
فروته، فان غوعاء النَّاسِ إِذَا تَفَرَّغُوا وَبَطِلُوا اشْتَغَلُوا
بِمَا لَا يعنى وتكلموا بما لَا يُرْضِي وَإِذَا تَفَرَّقُوا نَفَعُوا
أَنْفُسَهُمْ وَغَيْرَهُمْ أشار سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ بِأَنْ
يَسْتَأْصِلَ شَأْفَةَ الْمُفْسِدِينَ وَيَقْطَعَ دَابِرَهُمْ،
وَأَشَارَ مُعَاوِيَةُ بِأَنْ يَرُدَّ عُمَّالَهُ إِلَى أَقَالِيمِهِمْ
وَأَنْ لَا يَلْتَفِتَ إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَا تَأَلَّبُوا عَلَيْهِ
مِنَ الشَّرِّ، فَإِنَّهُمْ أَقَلُّ وَأَضْعَفُ جُنْدًا. وَأَشَارَ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ بِأَنْ يَتَأَلَّفَهُمْ
بِالْمَالِ فَيُعْطِيَهِمْ مِنْهُ مَا يَكُفُّ بِهِ شَرَّهُمْ،
وَيَأْمَنُ غَائِلَتَهُمْ، وَيَعْطِفُ بِهِ قُلُوبَهُمْ إِلَيْهِ.
وَأَمَّا عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ فَقَامَ فَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ يَا
عُثْمَانُ فَإِنَّكَ قَدْ رَكَّبْتَ النَّاسَ مَا يَكْرَهُونَ فَإِمَّا
أَنْ تَعْزِلَ عَنْهُمْ مَا يَكْرَهُونَ، وَإِمَّا أَنْ تقدم فتنزل
عمالك على ما هُمْ عَلَيْهِ، وَقَالَ لَهُ كَلَامًا فِيهِ غِلْظَةٌ،
ثُمَّ اعْتَذَرَ إِلَيْهِ فِي السِّرِّ بِأَنَّهُ إِنَّمَا قَالَ هَذَا
لِيُبَلِّغَ عَنْهُ مَنْ كَانَ حَاضِرًا مِنَ النَّاسِ إِلَيْهِمْ
لِيَرْضَوْا مِنْ عُثْمَانَ بِهَذَا، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَرَّرَ
عُثْمَانُ عُمَّالَهُ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ، وَتَأَلَّفَ قُلُوبَ
أُولَئِكَ بِالْمَالِ، وَأَمَرَ بأن يبعثوا إلى الْغَزْوِ إِلَى
الثُّغُورِ، فَجَمَعَ بَيْنَ الْمَصَالِحِ كُلِّهَا، وَلَمَّا رَجَعَتِ
الْعُمَّالُ إِلَى أَقَالِيمِهَا امْتَنَعَ أَهْلُ الْكُوفَةِ مِنْ
أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِمْ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ وَلَبِسُوا السِّلَاحَ
وَحَلَفُوا أَنْ لَا يُمَكِّنُوهُ من الدخول فيها حَتَّى يَعْزِلَهُ
عُثْمَانُ وَيُوَلِّيَ عَلَيْهِمْ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ،
وَكَانَ اجْتِمَاعُهُمْ بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ الْجَرَعَةُ [1] ،
-[وَقَدْ قَالَ يَوْمَئِذٍ الْأَشْتَرُ النَّخَعِيُّ:
وَاللَّهِ لَا يُدْخِلُهَا عَلَيْنَا مَا حَمَلْنَا سُيُوفَنَا،
وَتَوَاقَفَ النَّاسُ بِالْجَرَعَةِ] [2] . وَأَحْجَمَ سَعِيدٌ عَنْ
قِتَالِهِمْ وَصَمَّمُوا عَلَى مَنْعِهِ، وَقَدِ اجْتَمَعَ فِي
مَسْجِدِ الْكُوفَةِ فِي هَذَا الْيَوْمِ حُذَيْفَةُ وَأَبُو مَسْعُودٍ
عُقْبَةُ بْنُ عَمْرٍو، فَجَعَلَ أَبُو مَسْعُودٍ يَقُولُ: [وَاللَّهِ
لَا يَرْجِعُ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ حَتَّى يَكُونَ دِمَاءٌ. فَجَعَلَ
حُذَيْفَةُ يَقُولُ:] [3] وَاللَّهِ لَيَرْجِعَنَّ وَلَا يَكُونُ
فِيهَا مِحْجَمَةٌ مِنْ دَمٍ، وَمَا أَعْلَمُ الْيَوْمَ شَيْئًا إِلَّا
وَقَدْ عَلِمْتُهُ وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
حَيٌّ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ كَرَّ رَاجِعًا
إِلَى الْمَدِينَةِ وَكَسَرَ الْفِتْنَةَ، فَأَعْجَبَ ذَلِكَ أَهْلَ
الْكُوفَةِ، وَكَتَبُوا إِلَى عُثْمَانَ أَنْ يُوَلِّيَ عَلَيْهِمْ
أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ فَأَجَابَهُمْ عُثْمَانُ إِلَى مَا
سَأَلُوا إِزَاحَةً لِعُذْرِهِمْ، وَإِزَالَةً لِشُبَهِهِمْ، وَقَطْعًا
لِعِلَلِهِمْ.
وَذَكَرَ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ أَنَّ سَبَبَ تَأَلُّبِ الْأَحْزَابِ
عَلَى عُثْمَانَ أَنَّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
سَبَأٍ كَانَ يَهُودِيًّا فَأَظْهَرَ الْإِسْلَامَ وَصَارَ إِلَى
مِصْرَ، فَأَوْحَى إِلَى طَائِفَةٍ مِنَ النَّاسِ كَلَامًا اخْتَرَعَهُ
مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ، مَضْمُونُهُ أَنَّهُ يَقُولُ لِلرَّجُلِ: أليس
قد ثبت أن عيسى بن مَرْيَمَ سَيَعُودُ إِلَى هَذِهِ الدُّنْيَا؟
فَيَقُولُ الرَّجُلُ:
نعم! فَيَقُولُ لَهُ فَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَفْضَلُ مِنْهُ فَمَا تُنْكِرُ أَنْ يَعُودَ إِلَى هَذِهِ
الدُّنْيَا، وَهُوَ أَشْرَفُ مِنْ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ؟ ثُمَّ يَقُولُ: وَقَدْ كَانَ أَوْصَى إِلَى عَلِيِّ بْنِ
أَبِي طَالِبٍ، فمحمد خاتم الأنبياء،
__________
[1] الجرعة مكان مشرف قرب القادسية.
[2]- (3) سقط من الحلبية.
(7/167)
وَعَلِيٌّ خَاتَمُ الْأَوْصِيَاءِ، ثُمَّ
يَقُولُ: فَهُوَ أَحَقُّ بِالْإِمْرَةِ مِنْ عُثْمَانَ، وَعُثْمَانُ
مُعْتَدٍ فِي وِلَايَتِهِ مَا لَيْسَ لَهُ.
فَأَنْكَرُوا عَلَيْهِ وَأَظْهَرُوا الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ
وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ. فَافْتُتِنَ بِهِ بَشَرٌ كَثِيرٌ مِنْ
أَهْلِ مِصْرَ، وَكَتَبُوا إِلَى جَمَاعَاتٍ مِنْ عَوَامِّ أَهْلِ
الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ، فَتَمَالَئُوا عَلَى ذَلِكَ، وَتَكَاتَبُوا
فِيهِ، وَتَوَاعَدُوا أَنْ يَجْتَمِعُوا فِي الْإِنْكَارِ عَلَى
عُثْمَانَ، وَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ مَنْ يُنَاظِرُهُ وَيَذْكُرُ لَهُ
مَا يَنْقِمُونَ عَلَيْهِ مِنْ تَوْلِيَتِهِ أَقْرِبَاءَهُ وَذَوِي
رَحِمِهِ وَعَزْلِهِ كِبَارَ الصَّحَابَةِ. فَدَخَلَ هَذَا فِي قُلُوبِ
كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، فَجَمَعَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ نُوَّابَهُ
مِنَ الْأَمْصَارِ فَاسْتَشَارَهُمْ فأشاروا عليه بما تقدم ذكرنا له
فاللَّه أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ فِيمَا رَوَاهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا كانت سنة أربع وثلاثين أكثر
الناس في المقالة على عثمان بن عفان وَنَالُوا مِنْهُ أَقْبَحَ مَا
نِيلَ مِنْ أَحَدٍ، فَكَلَّمَ النَّاسُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ
أَنْ يَدْخُلَ عَلَى عُثْمَانَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ: إن
الناس ورائي وقد كلموني فيك، وو الله مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لَكَ،
وَمَا أَعْرِفُ شَيْئًا تَجْهَلُهُ، وَلَا أَدُلُّكَ عَلَى أَمْرٍ لَا
تَعْرِفُهُ، إِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نَعْلَمُ، مَا سَبَقْنَاكَ إِلَى
شَيْءٍ فَنُخْبِرُكَ عَنْهُ، وَلَا خَلَوْنَا بِشَيْءٍ فنبلغكه، وما
خصصنا بأمور خفي عنك، إدراكها وَقَدْ رَأَيْتَ وَسَمِعْتَ وَصَحِبْتَ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنِلْتَ صِهْرَهُ،
وَمَا ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ بِأَوْلَى بِعَمَلِ أَلْحَقِّ مِنْكَ،
وَلَا ابْنُ الْخَطَّابِ بِأَوْلَى بِشَيْءٍ مِنَ الْخَيْرِ مِنْكَ،
وَإِنَّكَ أَقْرَبُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ رَحِمًا، وَلَقَدْ نِلْتَ مِنْ صِهْرِ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَمْ يَنَالَا، وَلَا سَبَقَاكَ
إِلَى شَيْءٍ، فاللَّه اللَّهَ فِي نَفْسِكَ، فَإِنَّكَ وَاللَّهِ مَا
تُبْصِرُ مِنْ عَمَى، وَلَا تَعْلَمُ مِنْ جَهْلٍ.
وَإِنَّ الطَّرِيقَ لِوَاضِحٌ بَيِّنٌ، وَإِنَّ أَعْلَامَ الدِّينِ
لِقَائِمَةٌ، تَعْلَمُ يَا عُثْمَانُ أَنَّ أَفْضَلَ عِبَادِ اللَّهِ
عِنْدَ اللَّهِ إِمَامٌ عَادِلٌ، هُدِيَ وَهَدَى، فَأَقَامَ سنة
معلومة، وأمات بدعة معلومة، فو الله إِنَّ كُلًّا لَبَيِّنٌ، وَإِنَّ
السُّنَنَ لَقَائِمَةٌ لَهَا أَعْلَامٌ، وَإِنَّ الْبِدَعَ لَقَائِمَةٌ
لَهَا أَعْلَامٌ، وَإِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ إِمَامٌ
جَائِرٌ ضَلَّ وأضل بِهِ فَأَمَاتَ سُنَّةً مَعْلُومَةً وَأَحْيَا
بِدْعَةً مَتْرُوكَةً، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يُؤْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ
بِالْإِمَامِ الْجَائِرِ وَلَيْسَ مَعَهُ نَصِيرٌ وَلَا عَاذِرٌ،
فَيُلْقَى فِي جَهَنَّمَ فَيَدُورُ فِيهَا كَمَا تَدُورُ الرَّحَا
ثُمَّ يَرْتَطِمُ فِي غَمْرَةِ جَهَنَّمَ، وَإِنِّي أُحَذِّرُكَ
اللَّهَ وأحذرك سطوته ونقمته، فإن عذابه أليم شديد، وَاحْذَرْ أَنْ
تَكُونَ إِمَامَ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْمَقْتُولَ، فَإِنَّهُ كَانَ
يُقَالُ يُقْتَلُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ إِمَامٌ فَيُفْتَحُ عَلَيْهَا
الْقَتْلُ وَالْقِتَالُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَتُلَبَّسُ
أُمُورُهَا عَلَيْهَا، وَيُتْرَكُونَ شِيَعًا لَا يُبْصِرُونَ الْحَقَّ
مِنَ الْبَاطِلِ، يَمُوجُونَ فِيهَا مَوْجًا، ويمرحون فيها مرحا.
فَقَالَ عُثْمَانُ: قَدْ وَاللَّهِ عَلِمْتُ لَتَقُولَنَّ الَّذِي
قُلْتَ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْ كُنْتَ مَكَانِي مَا عَنَّفْتُكَ وَلَا
أَسْلَمْتُكَ، وَلَا عِبْتُ عَلَيْكَ، وَلَا جئت منكرا، إني وَصَلْتُ
رَحِمًا، وَسَدَدْتُ خَلَّةً، وَأَوَيْتُ ضَائِعًا، وَوَلَّيْتُ
شَبِيهًا بِمَنْ كَانَ عُمَرُ يُوَلِّي، أَنْشُدُكَ اللَّهَ يَا
عَلِيُّ هَلْ تَعْلَمُ أَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ لَيْسَ
هُنَاكَ؟ قَالَ:
نَعَمْ! قَالَ: فَتَعْلَمُ أَنَّ عُمَرَ وَلَّاهُ؟ قَالَ: نَعَمْ!
قَالَ: فَلِمَ تلوموني أَنْ وَلَّيْتُ ابْنَ عَامِرٍ فِي رَحِمِهِ
وَقَرَابَتِهِ؟ فقال على: سأخبرك أن عمر كان كلما ولى أميرا فإنما يطأ
على صماخيه، وأنه إن بلغه حَرْفٌ جَاءَ بِهِ، ثُمَّ بَلَغَ
(7/168)
به أقصى الغاية في العقوبة لَا تَفْعَلُ
ضَعُفْتَ وَرَفُقْتَ عَلَى أَقْرِبَائِكَ. فَقَالَ عُثْمَانُ: هُمْ
أَقْرِبَاؤُكَ أَيْضًا، فَقَالَ عَلِيٌّ لَعَمْرِي إِنَّ رَحِمَهُمْ
مِنِّي لِقَرِيبَةٌ، وَلَكِنَّ الْفَضْلَ فِي غَيْرِهِمْ. قَالَ
عُثْمَانُ: هَلْ تَعْلَمُ أَنَّ عُمَرَ وَلَّى مُعَاوِيَةَ خِلَافَتَهُ
كُلَّهَا، فَقَدَ وَلَّيْتُهُ، فَقَالَ عَلِيٌّ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ
هَلْ تَعْلَمُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَانَ أَخْوَفَ مِنْ عُمَرَ مِنْ
يَرْفَأَ غُلَامِ عُمَرَ مِنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ! قَالَ عَلِيٌّ:
فَإِنَّ مُعَاوِيَةَ يَقْطَعُ الْأُمُورَ دُونَكَ وَأَنْتَ تَعْلَمُهَا
وَيَقُولُ للناس: هذا أمر عثمان، فيبلغك فلا تنكر وَلَا تُغَيِّرُ
عَلَى مُعَاوِيَةَ. ثُمَّ خَرَجَ عَلِيٌّ مِنْ عِنْدِهِ وَخَرَجَ
عُثْمَانُ عَلَى إِثْرِهِ فَصَعِدَ المنبر فَوَعَظَ وَحَذَّرَ
وَأَنْذَرَ، وَتَهَدَّدَ وَتَوَعَّدَ، وَأَبْرَقَ وَأَرْعَدَ، فَكَانَ
فِيمَا قَالَ: أَلَا فَقَدَ وَاللَّهِ عِبْتُمْ عَلَيَّ بِمَا
أَقْرَرْتُمْ بِهِ لِابْنِ الْخَطَّابِ، وَلَكِنَّهُ وَطِئَكُمْ
بِرِجْلِهِ، وَضَرَبَكُمْ بِيَدِهِ، وَقَمَعَكُمْ بِلِسَانِهِ،
فَدِنْتُمْ لَهُ عَلَى مَا أَحْبَبْتُمْ أَوْ كَرِهْتُمْ، وَلِنْتُ
لَكُمْ وَأَوْطَأْتُ لَكُمْ كَتِفِي، وَكَفَفْتُ يَدِي وَلِسَانِي
عَنْكُمْ، فَاجْتَرَأْتُمْ عَلَيَّ، أَمَا وَاللَّهِ لَأَنَا أَعَزُّ
نَفَرًا وَأَقْرَبُ نَاصِرًا وَأَكْثَرُ عَدَدًا وَأَقْمَنُ، إِنْ قلت:
هلمّ إليّ إِلَيَّ، وَلَقَدْ أَعْدَدْتُ لَكُمْ أَقْرَانَكُمْ،
وَأَفْضَلْتُ عَلَيْكُمْ فُضُولًا، وَكَشَرْتُ لَكُمْ عَنْ نَابِي،
فَأَخْرَجْتُمْ مِنِّي خُلُقًا لَمْ أَكُنْ أُحْسِنُهُ، وَمَنْطِقًا
لَمْ أَنْطِقْ بِهِ، فَكُفُّوا أَلْسِنَتَكُمْ وَطَعْنَكُمْ
وَعَيْبَكُمْ عَلَى وُلَاتِكُمْ فَإِنِّي قَدْ كَفَفْتُ عَنْكُمْ مِنْ
لَوْ كَانَ هُوَ الَّذِي يَلِيكُمْ لَرَضِيتُمْ مِنْهُ بِدُونِ
مَنْطِقِي هذا، ألا فما تفقدون من حقكم؟ فو الله مَا قَصَّرْتُ فِي
بُلُوغِ مَا كَانَ يَبْلُغُ مَنْ كَانَ قَبْلِي. ثُمَّ اعْتَذَرَ
عَمَّا كَانَ يعطى أقرباءه بِأَنَّهُ مِنْ فَضْلِ مَالِهِ. فَقَامَ
مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ فَقَالَ: إِنْ شِئْتُمْ وَاللَّهِ حَكَّمْنَا
بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ السَّيْفَ، نَحْنُ وَاللَّهَ وَأَنْتُمْ كَمَا
قَالَ الشاعر:
فرشنا لكم أعراضنا فنبت بكم ... مغارسكم تَبْنُونَ فِي دِمَنِ الثَّرَى
فَقَالَ عُثْمَانُ: اسْكُتْ لَا سَكَتَّ، دَعْنِي وَأَصْحَابِي، مَا
مَنْطِقُكَ فِي هَذَا، أَلَمْ أَتَقَدَّمْ إِلَيْكَ أَنْ لَا تَنْطِقَ.
فَسَكَتَ مَرْوَانُ وَنَزَلَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَذَكَرَ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ لما ودعه
عُثْمَانَ حِينَ عَزَمَ عَلَى الْخُرُوجِ إِلَى الشَّامِ عَرَضَ
عَلَيْهِ أَنْ يَرْحَلَ مَعَهُ إِلَى الشَّامِ فَإِنَّهُمْ قَوْمٌ
كَثِيرَةٌ طَاعَتُهُمْ لِلْأُمَرَاءِ. فَقَالَ: لَا أَخْتَارُ
بِجِوَارِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِوَاهُ.
فَقَالَ: أُجَهِّزُ لَكَ جَيْشًا مِنَ الشَّامِ يَكُونُونَ عِنْدَكَ
يَنْصُرُونَكَ؟ فَقَالَ: إِنِّي أَخْشَى أَنْ أُضَيِّقَ بِهِمْ بَلَدَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَصْحَابِهِ
مِنَ الْمُهَاجِرِينَ والأنصار. قال معاوية: فو الله يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ لَتُغْتَالَنَّ- أَوْ قَالَ: لَتُغْزَيَنَّ- فَقَالَ
عُثْمَانُ: حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. ثُمَّ خَرَجَ
مُعَاوِيَةُ مِنْ عِنْدِهِ وَهُوَ مُتَقَلِّدٌ السَّيْفَ وَقَوْسُهُ
فِي يَدِهِ، فَمَرَّ عَلَى مَلَأٍ مِنَ المهاجرين والأنصار، فِيهِمْ
عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَطَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ، فَوَقَفَ
عَلَيْهِمْ وَاتَّكَأَ عَلَى قَوْسِهِ وَتَكَلَّمَ بِكَلَامٍ بَلِيغٍ
يَشْتَمِلُ عَلَى الْوَصَاةِ بِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رضى الله تعالى
عنه، والتحذير ممن إِسْلَامِهِ إِلَى أَعْدَائِهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ
ذَاهِبًا. فَقَالَ الزُّبَيْرُ: مَا رَأَيْتُهُ أَهْيَبَ فِي عَيْنِي
مِنْ يَوْمِهِ هَذَا. وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ مُعَاوِيَةَ
اسْتَشْعَرَ الْأَمْرَ لِنَفْسِهِ مَنْ قَدْمَتِهِ هَذِهِ إِلَى
الْمَدِينَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ سَمِعَ حَادِيًا يَرْتَجِزُ فِي
أَيَّامِ الْمَوْسِمِ فِي هَذَا الْعَامِ وَهُوَ يَقُولُ:
(7/169)
قَدْ عَلِمَتْ ضَوَامِرُ الْمَطِيِّ ... وَضُمَّرَاتُ عُوَّجِ
الْقِسِيِّ
أَنَّ الْأَمِيرَ بَعْدَهُ عَلِيُّ ... وَفِي الزُّبَيْرِ خَلَفٌ رضىّ
وطلحة الحامى لها ولى.
فَلَمَّا سَمِعَهَا مُعَاوِيَةُ لَمْ يَزَلْ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ
حَتَّى كَانَ مَا كَانَ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ
شَاءَ اللَّهُ وَبِهِ الثِّقَةُ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ
السَّنَةِ مات أبو عبس بن جبير بِالْمَدِينَةِ وَهُوَ بَدْرِيٌّ.
وَمَاتَ أَيْضًا مِسْطَحُ بْنُ أثاثة. وغافل بْنُ الْبُكَيْرِ. وَحَجَّ
بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ
اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ. |