البداية والنهاية، ط. دار الفكر
ثم دخلت سنة سبع
وثلاثين
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ
أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مُتَوَاقِفٌ هُوَ وَمُعَاوِيَةُ
بْنُ أَبِي سُفْيَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، كُلٌّ مِنْهُمَا فِي
جُنُودِهِ بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ صِفِّينَ بِالْقُرْبِ مِنَ
الْفُرَاتِ شَرْقِيِّ بِلَادِ الشَّامِ، وَقَدِ اقْتَتَلُوا فِي
مُدَّةِ شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ كُلَّ يَوْمٍ، وَفِي بَعْضِ الْأَيَّامِ
رُبَّمَا اقْتَتَلُوا مَرَّتَيْنِ، وَجَرَتْ بَيْنَهُمْ حُرُوبٌ
يَطُولُ ذِكْرُهَا، وَالْمَقْصُودُ أنه لما دخل شهر المحرم تحاجز القوم
رجاء أن يقع بينهم مهادنة وموادعة يؤول أَمْرُهَا إِلَى الصُّلْحِ
بَيْنَ النَّاسِ وَحَقْنِ دِمَائِهِمْ، فَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ
طَرِيقِ هِشَامٍ عَنْ أبى مخنف مالك حدثني سعيد بن الْمُجَاهِدِ
الطَّائِيُّ عَنْ مُحِلِّ بْنِ خَلِيفَةَ أَنَّ عليا بعث عدي بن حاتم
ويزيد ابن قيس الأرحبي، وشبيث بن ربعي وزياد بن حفصة إِلَى
مُعَاوِيَةَ، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ- وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ
إِلَى جَانِبِهِ- قَالَ عَدِيٌّ بَعْدَ حَمْدِ اللَّهِ وَالثَّنَاءِ
عَلَيْهِ: أَمَّا بَعْدُ يَا مُعَاوِيَةُ فَإِنَّا جِئْنَاكَ نَدْعُوكَ
إِلَى أَمْرٍ يَجْمَعُ اللَّهُ به كلمتنا وأمرنا، وتحقن به الدماء،
ويأمن به السبل، ويصلح ذَاتُ الْبَيْنِ، إِنَّ ابْنَ عَمِّكَ سَيِّدُ
الْمُسْلِمِينَ أَفْضَلُهَا سَابِقَةً، وَأَحْسَنُهَا فِي الْإِسْلَامِ
أَثَرًا وَقَدِ اسْتَجْمَعَ لَهُ النَّاسُ وَقَدْ أَرْشَدَهُمُ اللَّهُ
بِالَّذِي رَأَوْا فَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ غَيْرُكُ وَغَيْرُ مَنْ معك من
شيعتك، فَانْتَهِ يَا مُعَاوِيَةُ لَا يُصِبْكَ اللَّهُ وَأَصْحَابَكَ
مثل يَوْمَ الْجَمَلِ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: كَأَنَّكَ إِنَّمَا
جئت مهددا ولم تأت مصلحا، هيهات والله يا عدي، كلام وَاللَّهِ إِنِّي
لِابْنُ حَرْبٍ، لَا يُقَعْقَعُ لِي بِالشِّنَانِ، أَمَا وَاللَّهِ
إِنَّكَ لِمِنَ الْمُجْلِبَيْنِ عَلَى ابْنِ عَفَّانَ، وَإِنَّكَ
لَمِنْ قَتَلَتِهِ، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ
يَقْتُلُهُ اللَّهُ بِهِ، وَتَكَلَّمَ شبيث بن ربعي وزياد بن حفصة
فَذَكَرَا مِنْ فَضْلِ عَلِيٍّ وَقَالَا: اتَّقِ اللَّهَ يَا
مُعَاوِيَةُ وَلَا تُخَالِفْهُ فَإِنَّا وَاللَّهِ مَا رأينا رجالا
قَطُّ أَعْمَلَ بِالتَّقْوَى، وَلَا أَزْهَدَ فِي الدُّنْيَا، وَلَا
أَجْمَعَ لِخِصَالِ الْخَيْرِ كُلِّهَا مِنْهُ. فَتَكَلَّمَ
مُعَاوِيَةُ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا
بَعْدُ فَإِنَّكُمْ دَعَوْتُمُونِي إِلَى الْجَمَاعَةِ وَالطَّاعَةِ،
فأما الجماعة فمعنا هِيَ، وَأَمَّا الطَّاعَةُ فَكَيْفَ أُطِيعُ
رَجُلًا أَعَانَ عَلَى قَتْلِ عُثْمَانَ وَهُوَ يَزْعُمُ أَنَّهُ لَمْ
يَقْتُلْهُ؟ وَنَحْنُ لَا نَرُدُّ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَلَا نَتَّهِمُهُ
بِهِ، وَلَكِنَّهُ أَوَى قَتَلَتَهُ، فَيَدْفَعَهُمْ إِلَيْنَا حَتَّى
نَقْتُلَهُمْ ثُمَّ نَحْنُ نُجِيبُكُمْ إِلَى الطَّاعَةِ والجماعة.
فقال له شبيث بْنُ رِبْعِيٍّ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ يَا مُعَاوِيَةَ،
لَوْ تمكنت من عمار أكنت قاتله بعثمان؟ قال معاوية: لَوْ تَمَكَّنْتُ
مِنَ ابْنِ سُمَيَّةَ مَا قَتَلْتُهُ بعثمان، ولكنى كنت قتلته بغلام
عثمان. فقال له شبيث بْنُ رِبْعِيٍّ: وَإِلَهِ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ
لَا تَصِلُ إِلَى قَتْلِ عَمَّارٍ حَتَّى تَنْدُرَ الرُّءُوسُ
(7/257)
عَنْ كَوَاهِلِهَا، وَيَضِيقُ فَضَاءُ
الْأَرْضِ وَرَحْبُهَا عَلَيْكَ. فقال مُعَاوِيَةُ: لَوْ قَدْ كَانَ
ذَلِكَ كَانَتْ عَلَيْكَ أَضْيَقَ. وَخَرَجَ الْقَوْمُ مِنْ بَيْنِ
يَدَيْهِ فَذَهَبُوا إلى على فأخبروه بما قال. وبعث معاوية حبيب بن
مسلمة الهفرى، وَشُرَحْبِيلَ بْنَ السِّمْطِ، وَمَعْنَ بْنَ يَزِيدَ
بْنِ الْأَخْنَسِ إِلَى عَلِيٍّ، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَبَدَأَ حَبِيبٌ
فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ
فَإِنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ كَانَ خَلِيفَةً مَهْدِيًّا عَمِلَ
بِكِتَابِ اللَّهِ وَثَبَتَ لِأَمْرِ اللَّهِ، فَاسْتَثْقَلْتُمْ
حَيَاتَهُ، وَاسْتَبْطَأْتُمْ وَفَاتَهُ، فَعَدَوْتُمْ عَلَيْهِ
فَقَتَلْتُمُوهُ فادفع إلينا قتلته إِنْ زَعَمْتَ أَنَّكَ لَمْ
تَقْتُلْهُ، ثُمَّ اعْتَزِلْ أَمْرَ النَّاسِ فَيَكُونَ أَمْرُهُمْ
شُورَى بَيْنَهُمْ، فَيُوَلِّي الناس أمرهم من جمع عَلَيْهِ
رَأْيَهُمْ. فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: وَمَا أَنْتَ لَا أُمَّ لَكَ،
وَهَذَا الْأَمْرَ وَهَذَا الْعَزْلَ، فَاسْكُتْ فَإِنَّكَ لَسْتَ
هُنَاكَ وَلَا بِأَهْلٍ لِذَاكَ. فَقَالَ لَهُ حَبِيبٌ: أَمَا
وَاللَّهِ لَتَرَيَنِّي حَيْثُ تَكْرَهُ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: وَمَا
أَنْتَ وَلَوْ أَجَلَبْتَ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ لَا أَبْقَى اللَّهُ
عَلَيْكَ إِنْ أَبْقَيْتَ، اذْهَبْ فَصَعِّدْ وَصَوِّبْ مَا بَدَا
لَكَ. ثُمَّ ذَكَرَ أَهْلُ السِّيَرِ كَلَامًا طَوِيلًا جَرَى
بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَلِيٍّ، وَفِي صِحَّةٍ ذَلِكَ عَنْهُمْ وَعَنْهُ
نَظَرٌ فَإِنَّ فِي مَطَاوِي ذَلِكَ الكلام من عَلِيٍّ مَا يَنْتَقِصُ
فِيهِ مُعَاوِيَةَ وَأَبَاهُ، وَإِنَّهُمْ انما دخلوا في الإسلام
وَلَمْ يَزَالَا فِي تَرَدُّدٍ فِيهِ وَغَيْرَ ذَلِكَ وَأَنَّهُ قَالَ
فِي غُبُونِ ذَلِكَ: لَا أَقُولُ إِنَّ عُثْمَانَ قُتِلَ مَظْلُومًا
وَلَا ظَالِمًا. فَقَالُوا: نَحْنُ نَبْرَأُ مِمَّنْ لَمْ يَقُلْ إِنَّ
عُثْمَانَ قُتِلَ مَظْلُومًا، وَخَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ، فَقَالَ
عَلِيٌّ: (إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ
الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ وَمَا أَنْتَ بِهَادِي العمى عن
ضلالتهم إن تسمع إلى من يؤمن بئايتنا فهم مسلمون) ثُمَّ قَالَ
لِأَصْحَابِهِ: لَا يَكُنْ هَؤُلَاءِ أَوْلَى بِالْجِدِّ فِي
ضَلَالَتِهِمْ مِنْكُمْ بِالْجِدِّ فِي حَقِّكُمْ وَطَاعَةِ
نَبِيِّكُمْ، وَهَذَا عِنْدِي لَا يَصِحُّ عَنْ على رضى الله عنه. وروى
ابن ديزيل من طريق عمرو بْنِ سَعْدٍ بِإِسْنَادِهِ أَنَّ قُرَّاءَ
أَهْلِ الْعِرَاقِ وَقُرَّاءَ أَهْلِ الشَّامِ عَسْكَرُوا نَاحِيَةً
وَكَانُوا قَرِيبًا مِنْ ثَلَاثِينَ أَلْفًا، وَأَنَّ جَمَاعَةً مِنْ
قُرَّاءِ الْعِرَاقِ مِنْهُمْ عَبِيدَةُ السُّلْمَانِيُّ، وَعَلْقَمَةُ
بْنُ قَيْسٍ، وَعَامِرُ بْنُ عَبْدِ قَيْسٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عتبة بن مسعود، وغيرهم جاءوا مُعَاوِيَةَ فَقَالُوا لَهُ: مَا
تَطْلُبُ؟ قَالَ: أَطْلُبُ بدم عثمان قالوا: فمن تَطْلُبُ بِهِ؟ قَالَ:
عَلِيًّا، قَالُوا: أَهْوَ قَتَلَهُ؟ قَالَ:
نَعَمْ! وَأَوَى قَتَلَتَهُ. فَانْصَرَفُوا إِلَى عَلِيٍّ فَذَكَرُوا
لَهُ مَا قَالَ فَقَالَ: كَذَبَ! لَمْ أَقْتُلْهُ وَأَنْتُمْ
تَعْلَمُونَ أَنِّي لَمْ أَقْتُلْهُ. فَرَجَعُوا إلى معاوية فَقَالَ:
إِنْ لَمْ يَكُنْ قَتَلَهُ بِيَدِهِ فَقَدْ أمر رجالا. فرجعوا إلى على
فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا قَتَلْتُ وَلَا أَمَرْتُ وَلَا ماليت. فرجعوا
فقال معاوية فان كَانَ صَادِقًا فَلْيُقِدْنَا مِنْ قَتَلَةِ
عُثْمَانَ، فَإِنَّهُمْ في عسكره وجنده فرجعوا فَقَالَ عَلِيٌّ:
تَأَوَّلَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ فِي فِتْنَةٍ وَوَقَعَتِ
الْفُرْقَةُ لِأَجْلِهَا وَقَتَلُوهُ فِي سُلْطَانِهِ وليس لي عليهم
وسبيل. فَرَجَعُوا إِلَى مُعَاوِيَةَ فَأَخْبَرُوهُ فَقَالَ: إِنْ
كَانَ الأمر على ما يقول فما له أنفذ الْأَمْرَ دُونَنَا مِنْ غَيْرِ
مَشُورَةٍ مِنَّا وَلَا ممن هاهنا؟ فرجعوا إلى على فقال على: إنما
الناس مع الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَهُمْ شُهُودُ النَّاسِ
عَلَى وِلَايَتِهِمْ وأمر دينهم، ورضوا وَبَايَعُونِي، وَلَسْتُ
أَسْتَحِلُّ
(7/258)
أَنْ أَدَعَ مِثْلَ مُعَاوِيَةَ يَحْكُمُ
عَلَى الْأُمَّةِ وَيَشُقُّ عَصَاهَا، فَرَجَعُوا إِلَى مُعَاوِيَةَ
فَقَالَ: مَا بَالُ مَنْ هَاهُنَا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ
لَمْ يدخلوا في هذا الأمر؟ فرجعوا فقال على: إنما هذا للبدرين دُونَ
غَيْرِهِمْ، وَلَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ بَدْرِيٌّ إلا وهو معى،
وقد بايعنى وقد رضى، فَلَا يَغُرَّنَّكُمْ مِنْ دِينِكُمْ
وَأَنْفُسِكُمْ، قَالَ: فَأَقَامُوا يتراسلون في ذلك شهر ربيع الآخر
وجماديين ويقرعون في غبون ذلك القرعة بعد القرعة ويزحف بعضهم على بعض،
ويحجر بينهم القراء، فلا يكون قتال قال: فقرعوا في ثلاثة أشهر خمسة
وثمانين قرعة. قَالَ: وَخَرَجَ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَأَبُو أُمَامَةَ
فَدَخَلَا على معاوية فقالا له: يا معاوية على م تقاتل هذا الرجل؟ فو
الله إنه أقدم منك ومن أبيك إسلاما، وَأَقْرَبُ مِنْكَ إِلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَحَقُّ بِهَذَا
الْأَمْرِ مِنْكَ. فَقَالَ: أُقَاتِلُهُ عَلَى دَمِ عُثْمَانَ
وَأَنَّهُ أَوَى قَتَلَتَهُ، فَاذْهَبَا إِلَيْهِ فَقُولَا لَهُ
فَلْيُقِدْنَا مِنْ قَتَلَةِ عثمان ثم أنا أول من بايعه مَنْ أَهْلِ
الشَّامِ، فَذَهَبَا إِلَى عَلِيٍّ فَقَالَا له ذلك فقال: هؤلاء الذين
تريان فَخَرَجَ خَلْقٌ كَثِيرٌ فَقَالُوا: كُلُّنَا قَتَلَةُ عُثْمَانَ
فمن شاء فليرمنا. قَالَ: فَرَجَعَ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَأَبُو
أُمَامَةَ فَلَمْ يشهدا لهم حربا. قال عمرو بْنُ سَعْدٍ بِإِسْنَادِهِ
حَتَّى إِذَا كَانَ رَجَبٌ وَخَشِيَ مُعَاوِيَةُ أَنْ تُبَايِعَ
الْقُرَّاءُ كُلُّهُمْ عَلِيًّا كَتَبَ فِي سَهْمٍ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ
النَّاصِحِ: يَا مَعْشَرَ أَهْلِ الْعِرَاقِ! إِنَّ مُعَاوِيَةَ
يُرِيدُ أَنْ يَفْجُرَ عَلَيْكُمُ الْفُرَاتَ لِيُغْرِقَكُمْ فَخُذُوا
حِذْرَكُمْ، وَرَمَى بِهِ فِي جَيْشِ أَهْلِ الْعِرَاقِ. فَأَخَذَهُ
الناس فقرءوه وَتَحَدَّثُوا بِهِ، وَذَكَرُوهُ لِعَلِيٍّ فَقَالَ:
إِنَّ هَذَا مَا لَا يَكُونُ وَلَا يَقَعُ. وَشَاعَ ذَلِكَ، وَبَعَثَ
مُعَاوِيَةُ مِائَتَيْ فَاعِلٍ يَحْفِرُونَ فِي جَنْبِ الفرات وبلغ
الناس ذلك فتشوش أَهْلُ الْعِرَاقِ مِنْ ذَلِكَ وَفَزِعُوا إِلَى
عَلِيٍّ فقال: ويحكم! إنه يريد خديعتكم لِيُزِيلَكُمْ عَنْ مَكَانِكُمْ
هَذَا وَيَنْزِلَ فِيهِ لِأَنَّهُ خير من مكانه. فقالوا: لا بد من أن
نخلي عن هذا الموضع فارتحلوا منه، وجاء معاوية فنزل بِجَيْشِهِ-
وَكَانَ عَلِيٌّ آخَرَ مَنِ ارْتَحَلَ- فَنَزَلَ بِهِمْ وَهُوَ
يَقُولُ:
فَلَوْ أَنِّي أَطَعْتُ عَصَمْتُ قومي ... إلى ركن اليمامة أو شآم
وَلَكِنِّي إِذَا أَبْرَمْتُ أَمْرًا ... يُخَالِفُهُ الطَّغَامُ بَنُو
الطَّغَامِ
قَالَ: فَأَقَامُوا إِلَى شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ ثم شرعوا في المقاتلة
فَجَعَلَ عَلِيٌّ يُؤَمِّرُ عَلَى الْحَرْبِ كُلَّ يَوْمٍ رَجُلًا
وَأَكْثَرُ مَنْ كَانَ يُؤَمِّرُ الْأَشْتَرُ. وَكَذَلِكَ معاوية
يُؤَمِّرُ كُلَّ يَوْمٍ أَمِيرًا فَاقْتَتَلُوا شَهْرَ ذِي الْحِجَّةِ
بِكَمَالِهِ، وَرُبَّمَا اقْتَتَلُوا فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ
مَرَّتَيْنِ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: ثُمَّ لَمْ تَزَلِ
الرُّسُلُ تَتَرَدَّدُ بَيْنَ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ وَالنَّاسُ
كَافُّونَ عَنِ الْقِتَالِ حَتَّى انْسَلَخَ الْمُحَرَّمُ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ وَلَمْ يَقَعْ بَيْنَهُمْ صُلْحٌ، فأمر على ابن أبى طالب
يزيد بْنَ الْحَارِثِ الْجُشَمِيَّ فَنَادَى أَهْلَ الشَّامِ عِنْدَ
غُرُوبِ الشَّمْسِ أَلَا إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَقُولُ لكم:
إني قد استأنيتكم لِتُرَاجِعُوا الْحَقَّ، وَأَقَمْتُ عَلَيْكُمُ
الْحُجَّةَ فَلَمْ تُجِيبُوا، وإني قد نبذت إِلَيْكُمْ عَلَى سَوَاءٍ
إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ. فَفَزِعَ أَهْلُ الشَّامِ
إِلَى أُمَرَائِهِمْ فَأَعْلَمُوهُمْ بما سمعوا المنادي
(7/259)
ينادى فَنَهَضَ عِنْدَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةُ
وَعَمْرٌو فَعَبَّيَا الْجَيْشَ مَيْمَنَةً وَمَيْسَرَةً، وَبَاتَ
عَلِيٌّ يُعَبِّي جَيْشَهُ مِنْ لَيْلَتِهِ، فَجَعَلَ عَلَى خَيْلِ
أَهْلِ الْكُوفَةِ الْأَشْتَرَ النَّخَعِيَّ، وَعَلَى رَجَّالَتِهِمْ
عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ، وَعَلَى خَيْلِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ سَهْلَ بْنَ
حُنَيْفٍ، وَعَلَى رَجَّالَتِهِمْ قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ وَهَاشِمَ بْنَ
عُتْبَةَ، وعلى قرائهم سعد بْنَ فَدَكِيٍّ التَّمِيمِيَّ، وَتَقَدَّمَ
عَلِيٌّ إِلَى النَّاسِ أن لا يبدءوا واحدا بالقتال حتى يبدأ أهل
الشام، وَأَنَّهُ لَا يُذَفَّفُ عَلَى جَرِيحٍ وَلَا يُتْبَعُ مُدْبِرٌ
وَلَا يُكْشَفُ سِتْرَ امْرَأَةٍ وَلَا تُهَانُ، وَإِنْ شَتَمَتْ
أُمَرَاءَ النَّاسِ وَصُلَحَاءَهُمْ وَبَرَزَ مُعَاوِيَةُ صُبْحَ
تِلْكَ اللَّيْلَةِ وَقَدْ جَعَلَ عَلَى الْمَيْمَنَةِ ابْنَ ذِي
الْكَلَاعِ الْحِمْيَرِيَّ، وَعَلَى الْمَيْسَرَةِ حَبِيبَ بْنَ
مَسْلَمَةَ الْفِهْرِيَّ، وَعَلَى الْمُقَدِّمَةِ أَبَا الْأَعْوَرِ
السُّلَمِيَّ، وَعَلَى خَيْلِ دِمَشْقَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، وَعَلَى
رَجَّالَتِهِمُ الضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ. ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
وَرَوَى ابْنُ دِيزِيلَ مِنْ طَرِيقِ جَابِرٍ الجعفي عن أبى جعفر
الباقر ويزيد بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ وَغَيْرِهِمَا.
قَالُوا: لَمَّا بلغ معاوية سير على سَارَ مُعَاوِيَةُ نَحْوَ عَلِيٍّ
وَاسْتَعْمَلَ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ سُفْيَانَ بْنَ عَمْرٍو أَبَا
الْأَعْوَرِ السُّلَمِيَّ وَعَلَى الساقة بسر بن أبى أرطاة حتى توافقوا
جميعا سائرين إِلَى جَانِبِ صِفِّينَ. وَزَادَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ
فَقَالَ: جَعَلَ عَلَى الْمُقَدِّمَةِ أَبَا الْأَعْوَرِ السُّلَمِيَّ،
وَعَلَى السَّاقَةِ بُسْرًا، وَعَلَى الْخَيْلِ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ
عُمَرَ وَدَفَعَ اللِّوَاءَ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَالِدِ
بْنِ الْوَلِيدِ وَجَعَلَ عَلَى الْمَيْمَنَةِ حَبِيبَ بْنَ
مَسْلَمَةَ، وَعَلَى رَجَّالَتِهَا يَزِيدَ بْنَ زَحْرٍ الْعَنْسِيَّ،
وَعَلَى الْمَيْسَرَةِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ،
وَعَلَى رَجَّالَتِهَا حَابِسَ بْنَ سَعْدٍ الطَّائِيَّ، وَعَلَى
خَيْلِ دِمَشْقَ الضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ وَعَلَى رَجَّالَتِهِمْ
يَزِيدَ بْنَ لَبِيدِ بْنِ كُرْزٍ الْبَجَلِيَّ، وَجَعَلَ عَلَى أَهْلِ
حِمْصَ ذَا الْكَلَاعِ وَعَلَى أَهْلِ فِلَسْطِينَ مَسْلَمَةَ بْنَ
مُخَلَّدٍ وَقَامَ مُعَاوِيَةُ فِي النَّاسِ خَطِيبًا فَحَمِدَ اللَّهَ
وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ! وَاللَّهِ مَا
أَصَبْتُ الشَّامَ إِلَّا بِالطَّاعَةِ وَلَا أَضْبِطُ حَرْبَ أَهْلِ
الْعِرَاقِ إِلَّا بِالصَّبْرِ وَلَا أُكَابِدُ أَهْلَ الْحِجَازِ
إِلَّا بِاللُّطْفِ، وَقَدْ تَهَيَّأْتُمْ وَسِرْتُمْ لِتَمْنَعُوا
الشَّامَ وَتَأْخُذُوا الْعِرَاقَ، وَسَارَ الْقَوْمُ لِيَمْنَعُوا
الْعِرَاقَ ويأخذوا الشام ولعمري اما للشام رجال الْعِرَاقِ وَلَا
أَمْوَالِهَا، وَلَا لِلْعِرَاقِ خِبْرَةُ أَهْلِ الشام ولا بصائرها،
مع أن القوم وبعدهم أعدادهم، وليس بعدكم غيركم فان غلبتموهم لم تغلبوا
إلا من أناتكم وَإِنْ غَلَبُوكُمْ غَلَبُوا مَنْ بَعْدَكُمْ
وَالْقَوْمُ لَاقُوكُمْ بِكَيْدِ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَرِقَّةِ أَهْلِ
الْيَمَنِ وَبَصَائِرِ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَقَسْوَةِ أَهْلِ مِصْرَ،
وَإِنَّمَا يُنْصَرُ غدا من ينصر اليوم واسْتَعِينُوا بِاللَّهِ
وَاصْبِرُوا 7: 128 إِنَّ الله مَعَ الصَّابِرِينَ 8: 46 وقد بلغ عليا
خطبة معاوية فقام في أصحابه فحرضهم عَلَى الْجِهَادِ وَمَدَحَهُمْ
بِالصَّبْرِ وَشَجَّعَهُمْ بِكَثْرَتِهِمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَهْلِ
الشَّامِ، قَالَ جَابِرٌ الْجُعْفِيُّ عَنْ أبى جعفر الباقر وزيد بن
أنس وغيرهما قالوا:
سار على فِي مِائَةٍ وَخَمْسِينَ أَلْفًا مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ
وَأَقْبَلَ مُعَاوِيَةُ فِي نَحْوٍ مِنْهُمْ مَنْ أَهْلِ الشَّامِ.
وَقَالَ غَيْرُهُمْ:
أَقْبَلَ عَلِيٌّ فِي مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ، وَأَقْبَلَ
مُعَاوِيَةُ فِي مِائَةِ ألف وثلاثين ألفا- رواها ابْنُ دِيزِيلَ فِي
كِتَابِهِ- وَقَدْ تَعَاقَدَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ عَلَى
أَنْ لَا يَفِرُّوا فَعَقَلُوا أَنْفُسَهُمْ بِالْعَمَائِمِ، وَكَانَ
هَؤُلَاءِ خَمْسَةَ
(7/260)
صُفُوفٍ وَمَعَهُمْ سِتَّةُ صُفُوفٍ
آخَرِينَ وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْعِرَاقِ كَانُوا أَحَدَ عَشَرَ صَفًّا
أَيْضًا فَتَوَاقَفُوا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ أَوَّلَ يَوْمٍ مِنْ
صَفَرٍ وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ، وَكَانَ أَمِيرَ
الْحَرْبِ يَوْمَئِذٍ لِلْعِرَاقِيِّينَ الْأَشْتَرُ النَّخَعِيُّ،
وَأَمِيرَ الْحَرْبِ يَوْمَئِذٍ لِلشَّامِيِّينَ حَبِيبُ بْنُ
مَسْلَمَةَ، فَاقْتَتَلُوا ذَلِكَ الْيَوْمَ قِتَالًا شَدِيدًا ثُمَّ
تَرَاجَعُوا مِنْ آخِرِ يَوْمِهِمْ وَقَدِ انْتَصَفَ بَعْضُهُمْ مِنْ
بَعْضٍ وَتَكَافَئُوا فِي الْقِتَالِ ثُمَّ أَصْبَحُوا مِنَ الْغَدِ
يَوْمَ الْخَمِيسِ وَأَمِيرُ حَرْبِ أَهْلِ الْعِرَاقِ هَاشِمُ بْنُ
عُتْبَةَ، وأمير الشاميين يومئذ أبا الْأَعْوَرِ السُّلَمِيُّ
فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا تَحْمِلُ الْخَيْلُ عَلَى الْخَيْلِ
وَالرِّجَالُ عَلَى الرِّجَالُ ثُمَّ تَرَاجَعُوا مِنْ آخِرِ
يَوْمِهِمْ وَقَدْ صَبَرَ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ لِلْآخَرِ
وَتَكَافَئُوا ثُمَّ خَرَجَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ- وَهُوَ يَوْمُ
الْجُمُعَةِ- عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ مِنْ نَاحِيَةِ أَهْلِ الْعِرَاقِ
وَخَرَجَ إِلَيْهِ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ فِي الشَّامِيِّينَ
فَاقْتَتَلَ النَّاسُ قِتَالًا شَدِيدًا وَحَمَلَ عَمَّارٌ عَلَى
عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَأَزَالَهُ عَنْ مَوْقِفِهِ وَبَارَزَ زِيَادُ
بْنُ النَّضْرِ الحارثي وكان على الخيالة رَجُلًا فَلَمَّا تَوَاقَفَا
تَعَارَفَا فَإِذَا هُمَا أَخَوَانِ مِنْ أُمٍّ، فَانْصَرَفَ كُلُّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى قَوْمِهِ وَتَرَكَ صَاحِبَهُ، وَتَرَاجَعَ
النَّاسُ مِنَ الْعَشِيِّ وَقَدْ صَبَرَ كُلُّ فَرِيقٍ لِصَاحِبِهِ،
وَخَرَجَ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ- وَهُوَ يَوْمُ السَّبْتِ-
مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ- وَهُوَ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ- وَمَعَهُ جَمْعٌ
عَظِيمٌ فخرج إليه في كَثِيرٍ مِنْ جِهَةِ الشَّامِيِّينَ عُبَيْدُ
اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، فَاقْتَتَلَ النَّاسُ قِتَالًا شَدِيدًا،
وَبَرَزَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فَطَلَبَ مِنَ ابْنِ
الْحَنَفِيَّةِ أَنْ يَبْرُزَ إِلَيْهِ فَبَرَزَ إِلَيْهِ؟ فَلَمَّا
كَادَا أَنْ يَقْتَرِبَا قَالَ عَلِيٌّ: مَنِ الْمُبَارِزُ؟ قَالُوا
محمد ابنك وعبيد الله، فَيُقَالُ إِنَّ عَلِيًّا حَرَّكَ دَابَّتَهُ
وَأَمَرَ ابْنَهُ أن يتوقف وتقدم إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ فَقَالَ لَهُ:
تَقَدَّمْ إِلَيَّ قال له: لَا حَاجَةَ لِي فِي مُبَارَزَتِكَ،
فَقَالَ: بَلَى، فَقَالَ: لَا! فَرَجَعَ عَنْهُ عَلِيٌّ وَتَحَاجَزَ
النَّاسُ يَوْمَهُمْ ذَلِكَ ثُمَّ خَرَجَ فِي الْيَوْمِ الْخَامِسِ-
وَهُوَ يَوْمُ الْأَحَدِ- فِي الْعِرَاقِيِّينَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عَبَّاسٍ وَفِي الشَّامِيِّينَ الْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ، واقتتل
النَّاسُ قِتَالًا شَدِيدًا، وَجَعَلَ الْوَلِيدُ يَنَالُ مِنَ ابْنِ
عَبَّاسٍ، فِيمَا ذَكَرَهُ أَبُو مِخْنَفٍ وَيَقُولُ: قتلتم خليفتكم
ولم تنالوا ما طلبتم، وو الله إِنَّ اللَّهَ نَاصِرُنَا عَلَيْكُمْ.
فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَابْرُزْ إِلَيَّ فَأَبَى عَلَيْهِ
وَيُقَالُ إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَاتَلَ يَوْمَئِذٍ قِتَالًا شَدِيدًا
بِنَفْسِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، ثُمَّ خَرَجَ فِي الْيَوْمِ السادس-
وهو يوم الاثنين- وعلى الناس من جهة العراقيين قيس بن سعد، ومن جهة أهل
الشام بن ذِي الْكَلَاعِ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا أَيْضًا
وَتَصَابَرُوا ثُمَّ تَرَاجَعُوا، ثُمَّ خَرَجَ الْأَشْتَرُ
النَّخَعِيُّ فِي اليوم السابع- وهو يوم الثلاثاء وخرج إليه قرنه
حَبِيبُ بْنُ مَسْلَمَةَ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا أَيْضًا
وَلَمْ يَغْلِبْ أَحَدٌ أَحَدًا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ كُلِّهَا.
قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: حَدَّثَنِي مَالِكُ بْنُ أَعْيَنَ الْجُهَنِيُّ
عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ أَنَّ عَلِيًّا قَالَ: حَتَّى مَتَى لَا
نُنَاهِضُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ بِأَجْمَعِنَا؟ ثُمَّ قَامَ فِي
النَّاسِ عَشِيَّةَ الْأَرْبِعَاءِ بَعْدَ الْعَصْرِ فَقَالَ:
الْحَمْدُ للَّه الَّذِي لَا يُبْرَمُ مَا نَقَضَ وَمَا أَبْرَمَ لَمْ
يَنْقُضْهُ النَّاقِضُونَ، لَوْ شَاءَ مَا اخْتَلَفَ اثْنَانِ مِنْ
خَلْقِهِ، وَلَا تَنَازَعَتِ الْأُمَّةُ فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِهِ،
وَلَا جَحَدَ الْمَفْضُولُ ذَا الْفَضْلِ فضله، وقد ساقتنا وهؤلاء
القوم الأقدار وألقت بَيْنَنَا فِي هَذَا الْمَكَانِ، فَنَحْنُ مِنْ
رَبِّنَا بمرأى ومسمع
(7/261)
فلو شاء لعجل النقمة وكان منه التعسير
حَتَّى يُكَذِّبَ اللَّهُ الظَّالِمَ، وَيُعْلَمَ الْحَقُّ أَيْنَ
مَصِيرُهُ، وَلَكِنَّهُ جَعَلَ الدُّنْيَا دَارَ الْأَعْمَالِ،
وَجَعَلَ الْآخِرَةَ عِنْدَهُ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ لِيَجْزِيَ
الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا
بِالْحُسْنَى 53: 31 أَلَا وَإِنَّكُمْ لَاقُوا الْقَوْمِ غَدًا
فَأَطِيلُوا اللَّيْلَةَ الْقِيَامَ، وَأَكْثِرُوا تِلَاوَةَ
الْقُرْآنِ، وَأَسْأَلُوا اللَّهَ النَّصْرَ والصبر والقوة بِالْجِدِّ
وَالْحَزْمِ وَكُونُوا صَادِقِينَ. قَالَ: فَوَثَبَ النَّاسُ إِلَى
سُيُوفِهِمْ وَرِمَاحِهِمْ وَنِبَالِهِمْ يُصْلِحُونَهَا قَالَ:
وَمَرَّ بالناس وهم كذلك كعب بن جعل التغلبي فرأى ما يصفون فَجَعَلَ
يَقُولُ:
أَصْبَحَتِ الْأَمَّةُ فِي أَمْرِ عَجَبْ ... وَالْمُلْكُ مَجْمُوعٌ
غَدًا لِمَنْ غَلَبْ
فَقُلْتُ قَوْلًا صَادِقًا غَيْرَ كَذِبْ ... إِنَّ غَدًا تَهْلِكُ
أَعْلَامُ الْعَرَبْ
قَالَ: ثُمَّ أَصْبَحَ عَلِيٌّ فِي جُنُودِهِ قَدْ عَبَّأَهُمْ كَمَا
أَرَادَ، وَرَكِبَ مُعَاوِيَةُ فِي جَيْشِهِ قَدْ عَبَّأَهُمْ كَمَا
أَرَادَ، وَقَدْ أَمَرَ عَلِيٌّ كُلَّ قَبِيلَةِ مَنْ أَهْلِ
الْعِرَاقِ أَنْ تكفيه أختها من أهل الشام فتقاتل الناس قِتَالًا
عَظِيمًا لَا يَفِرُّ أَحَدٌ مِنْ أَحَدٍ وَلَا يَغْلِبُ أَحَدٌ
أَحَدًا، ثُمَّ تَحَاجَزُوا عِنْدَ الْعَشِيِّ، وَأَصْبَحَ عَلِيٌّ
فَصَلَّى الْفَجْرَ بِغَلَسٍ وَبَاكَرَ الْقِتَالَ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَ
أَهْلَ الشَّامِ فَاسْتَقْبَلُوهُ بِوُجُوهِهِمْ، فقال على فيما رواه
ابن مِخْنَفٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَعْيَنَ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ:
اللَّهمّ رَبَّ السَّقْفِ الْمَحْفُوظِ الْمَكْفُوفِ الّذي جعلته سقفا
لِلَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَجَعَلْتَ فِيهِ مَجْرَى الشَّمْسِ
وَالْقَمَرِ وَمَنَازِلَ النُّجُومِ، وَجَعَلْتَ فِيهِ سِبْطًا مِنَ
الْمَلَائِكَةِ لا يسأمون العبادة، ورب الْأَرْضِ الَّتِي جَعَلْتَهَا
قَرَارًا لِلْأَنَامِ وَالْهَوَامِّ وَالْأَنْعَامِ، وما لا يحصى مما
نرى وما لا نرى مِنْ خَلْقِكَ الْعَظِيمِ، وَرَبَّ الْفُلْكِ الَّتِي
تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ، وَرَبَّ السَّحَابِ
الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَرَبَّ الْبَحْرِ
الْمَسْجُورِ الْمُحِيطِ بِالْعَالَمِ، وَرَبَّ الْجِبَالِ الرَّوَاسِي
الَّتِي جَعَلْتَهَا لِلْأَرْضِ أَوْتَادًا وَلِلْخَلْقِ مَتَاعًا،
إِنْ أَظَهَرْتَنَا عَلَى عَدُوِّنَا فَجَنِّبْنَا الْبَغْيَ
وَالْفَسَادَ وَسَدِّدْنَا لِلْحَقِّ، وَإِنْ أَظَهَرْتَهُمْ عَلَيْنَا
فَارْزُقْنِي الشَّهَادَةَ وَجَنِّبْ بَقِيَّةَ أَصْحَابِي مِنَ
الْفِتْنَةِ. ثُمَّ تَقَدَّمَ عَلِيٌّ وَهُوَ فِي الْقَلْبِ فِي أَهْلِ
الْمَدِينَةِ وَعَلَى مَيْمَنَتِهِ يَوْمَئِذٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
بُدَيْلٍ، وَعَلَى الْمَيْسَرَةِ، عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ،
وَعَلَى الْقُرَّاءِ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ وَقَيْسُ بْنُ سَعْدٍ،
وَالنَّاسُ عَلَى رَايَاتِهِمْ فَزَحَفَ بِهِمْ إِلَى الْقَوْمِ،
وَأَقْبَلَ مُعَاوِيَةُ- وَقَدْ بَايَعَهُ أَهْلُ الشَّامِ عَلَى
الْمَوْتِ- فَتَوَاقَفَ النَّاسُ فِي مَوْطِنٍ مَهُولٍ وَأَمْرٍ
عَظِيمٍ، وَحَمَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُدَيْلٍ أَمِيرُ مَيْمَنَةِ
عَلِيٍّ عَلَى ميسرة أهل الشام وعليها حبيب ابن مَسْلَمَةَ،
فَاضْطَرَّهُ حَتَّى أَلْجَأَهُ إِلَى الْقَلْبِ، وَفِيهِ معاوية، وقام
عبد الله بن بديل خطيبا في الناس يحرّضهم على القتال ويحثهم على الصبر
والجهاد، وحرض أمير المؤمنين على الناس على الصبر والثبات والجهاد،
وحثهم على قتال أهل الشام، وقام كل أمير في أصحابه يحرضهم، وَتَلَا
عَلَيْهِمْ آيَاتِ الْقِتَالِ مِنْ أَمَاكِنَ مُتَفَرِّقَةٍ مِنَ
الْقُرْآنِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ
مَرْصُوصٌ 61: 4 ثُمَّ قَالَ: قَدِّمُوا الْمُدَارِعَ وَأَخِّرُوا
الْحَاسِرَ وَعَضُّوا على الأضراس، فإنه أنكى للسيوف
(7/262)
عن الهام، وألبوا إلى أطراف الرماح فإنه
أفوق لِلْأَسِنَّةِ، وَغُضُّوا الْأَبْصَارَ فَإِنَّهُ أَرْبُطُ
لِلْجَأْشِ وَأَسْكُنُ لِلْقَلْبِ، وَأَمِيتُوا الْأَصْوَاتَ فَإِنَّهُ
أَطْرَدُ لِلْفَشَلِ وَأَوْلَى بالوقار، راياتكم لا تميلوها ولا
نزيلوها وَلَا تَجْعَلُوهَا إِلَّا بِأَيْدِي شُجْعَانِكُمْ. وَقَدْ
ذَكَرَ عُلَمَاءُ التَّارِيخِ وَغَيْرُهُمْ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ
اللَّهُ عنه بارز في أيام صِفِّينَ وَقَاتَلَ وَقَتَلَ خَلْقَا حَتَّى
ذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ قَتَلَ خَمْسَمِائَةٍ، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ
كُرَيْبَ بْنَ الصَّبَّاحِ قَتَلَ أَرْبَعَةً مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ
تم وضعهم تحت قدميه ثم نادى: هَلْ مِنْ مُبَارِزٍ؟ فَبَرَزَ إِلَيْهِ
عَلِيٌّ فَتَجَاوَلَا سَاعَةً ثُمَّ ضَرَبَهُ عَلِيٌّ فَقَتَلَهُ ثُمَّ
قَالَ عَلِيٌّ: هَلْ مِنْ مُبَارِزٍ؟ فَبَرَزَ إِلَيْهِ الْحَارِثُ
بْنُ وَدَاعَةَ الْحِمْيَرِيُّ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ بَرَزَ إِلَيْهِ رواد
ابن الْحَارِثِ الْكَلَاعِيُّ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ بَرَزَ إِلَيْهِ
الْمُطَاعُ بن المطلب القيسي فقتله. فتلا على قوله تعالى وَالْحُرُماتُ
قِصاصٌ 2: 194 ثُمَّ نَادَى وَيْحَكَ يَا مُعَاوِيَةُ! ابْرُزْ إِلَيَّ
ولا تفنى العرب بيني وبينك، فقال له عمرو بن العاص: اغْتَنِمْهُ
فَإِنَّهُ قَدْ أَثْخَنَ بِقَتْلِ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ، فَقَالَ
لَهُ مُعَاوِيَةُ: وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ عَلِيًّا لَمْ
يُقْهَرْ قَطُّ، وَإِنَّمَا أَرَدْتَ قَتْلِي لِتُصِيبَ الْخِلَافَةَ
مِنْ بَعْدِي، اذْهَبْ إِلَيْكَ! فَلَيْسَ مِثْلِي يُخْدَعُ وَذَكَرُوا
أَنَّ عَلِيًّا حَمَلَ عَلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ يَوْمًا فَضَرَبَهُ
بِالرُّمْحِ فَأَلْقَاهُ إلى الأرض فبدت سوأته فرجع عَنْهُ، فَقَالَ
لَهُ أَصْحَابُهُ: مَالَكَ يَا أَمِيرَ المؤمنين رجعت عنه؟ فقال:
أتدرون ما هو؟
قالوا: لا! قال: هذا عمرو بن العاص تَلَقَّانِي بِسَوْءَتِهِ
فَذَكَّرَنِي بِالرَّحِمِ فَرَجَعْتُ عَنْهُ، فَلَمَّا رَجَعَ عَمْرٌو
إِلَى مُعَاوِيَةَ قَالَ لَهُ: احْمَدِ اللَّهَ وَاحْمَدِ اسْتَكَ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ دِيزِيلَ: ثَنَا يَحْيَى
ثَنَا نَصْرٌ ثَنَا عمرو بن شمر عن جابر الجعفي عن نُمَيْرٍ
الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: وَاللَّهِ لَكَأَنِّي أَسْمَعُ عَلِيًّا وَهُوَ
يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ يَوْمَ صِفِّينَ أَمَا تَخَافُونَ مَقْتَ
اللَّهِ حَتَّى مَتَى، ثُمَّ انْفَتَلَ إِلَى الْقِبْلَةِ يَدْعُو
ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ مَا سَمِعْنَا برئيس أصاب بيده مَا أَصَابَ
عَلِيٌّ يَوْمَئِذٍ إِنَّهُ قَتَلَ فِيمَا ذَكَرَ الْعَادُّونَ
زِيَادَةً عَلَى خَمْسِمِائَةِ رَجُلٍ، يَخْرُجُ فَيَضْرِبُ
بِالسَّيْفِ حَتَّى يَنْحَنِيَ ثُمَّ يَجِيءُ فَيَقُولُ مَعْذِرَةً
إِلَى اللَّهِ وَإِلَيْكُمْ وَاللَّهِ لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَقْلَعَهُ
وَلَكِنْ يَحْجِزُنِي عَنْهُ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ «لَا سَيْفَ إِلَّا ذُو الْفَقَارِ
وَلَا فَتَى إِلَّا عَلِيٌّ» قَالَ: فَيَأْخُذُهُ فَيُصْلِحُهُ ثُمَّ
يَرْجِعُ بِهِ. وَهَذَا إِسْنَادٌ ضَعِيفٌ وَحَدِيثٌ مُنْكَرٌ
وَحَدَّثَنَا يَحْيَى ثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي اللَّيْثُ عَنْ
يَزِيدَ بْنِ حَبِيبٍ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ مَنْ حَضَرَ صِفِّينَ مَعَ
عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: وَأَخْبَرَنِي ابْنُ
لَهِيعَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ
لَقِيطٍ قَالَ: شَهِدْنَا صِفِّينَ مَعَ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ قَالَ
فَمَطَرَتِ السَّمَاءُ عَلَيْنَا دَمًا عَبِيطًا قَالَ اللَّيْثُ فِي
حَدِيثِهِ حَتَّى أَنْ كَانُوا لَيَأْخُذُونَهُ بِالصِّحَافِ
وَالْآنِيَةِ قَالَ ابن لهيعة: فتمتلى وَنُهْرِيقُهَا وَقَدْ ذَكَرْنَا
أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ بُدَيْلٍ كَسَرَ الْمَيْسَرَةَ الَّتِي
فِيهَا حَبِيبُ بْنُ مسلمة حتى أضافها إلى الْقَلْبِ فَأَمَرَ
مُعَاوِيَةُ الشُّجْعَانَ أَنْ يُعَاوِنُوا حَبِيبًا عَلَى الْكَرَّةِ
وَبَعَثَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ يَأْمُرُهُ بِالْحَمْلَةِ وَالْكَرَّةِ
عَلَى ابْنِ بُدَيْلٍ، فَحَمَلَ حَبِيبٌ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ
الشُّجْعَانِ عَلَى مَيْمَنَةِ أَهْلِ الْعِرَاقِ فَأَزَالُوهُمْ عَنْ
أَمَاكِنِهِمْ وَانْكَشَفُوا عَنْ أَمِيرِهِمْ حَتَّى لَمْ يَبْقَ
مَعَهُ إِلَّا زُهَاءُ ثَلَاثِمِائَةٍ وَانْجَفَلَ بَقِيَّةُ أَهْلِ
الْعِرَاقِ، وَلَمْ يَبْقَ مَعَ عَلِيٍّ من تلك القبائل إلا أهل
(7/263)
مكة وَعَلَيْهِمْ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ،
وَثَبَتَ رَبِيعَةُ مَعَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَاقْتَرَبَ
أَهْلُ الشَّامِ مِنْهُ حَتَّى جَعَلَتْ نِبَالُهُمْ تَصِلُ إِلَيْهِ،
وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ مَوْلًى لِبَنِي أُمَيَّةَ فَاعْتَرَضَهُ مَوْلًى
لِعَلِيٍّ فَقَتَلَهُ الْأُمَوِيُّ وَأَقْبَلَ يُرِيدُ عَلِيًّا
وَحَوْلَهُ بَنُوهُ الحسن الحسين ومحمد بن حنفية، فَلَمَّا وَصَلَ
إِلَى عَلِيٍّ أَخَذَهُ عَلِيٌّ بِيَدِهِ فَرَفَعَهُ ثُمَّ أَلْقَاهُ
عَلَى الْأَرْضِ فَكَسَرَ عَضُدَهُ وَمَنْكِبَهِ وَابْتَدَرَهُ
الْحُسَيْنُ وَمُحَمَّدٌ بِأَسْيَافِهِمَا فَقَتَلَاهُ فَقَالَ عَلِيٌّ
لِلْحَسَنِ ابْنِهِ وَهُوَ وَاقِفٌ مَعَهُ: مَا منعك أن تصنع كما صنعا
فقال: كفيان أَمْرَهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَسْرَعَ إِلَى
عَلِيٍّ أَهْلُ الشَّامِ فَجَعَلَ عَلِيٌّ لَا يَزِيدُهُ قُرْبُهُمْ
مِنْهُ سُرْعَةً فِي مِشْيَتِهِ، بَلْ هُوَ سَائِرٌ عَلَى هِينَتِهِ،
فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ الْحَسَنُ: يَا أبة لو سعيت أكثر من مشيتك هذه
فَقَالَ. يَا بُنَيَّ إِنَّ لِأَبِيكَ يَوْمًا لَنْ يَعْدُوَهُ وَلَا
يُبْطِئُ بِهِ عَنْهُ السَّعْيُ وَلَا يُعَجِّلُ بِهِ إِلَيْهِ
الْمَشْيُ إِنَّ أَبَاكَ وَاللَّهِ ما يبالي وقع على الموت أو وقع عليه
ثُمَّ إِنَّ عَلِيًّا أَمَرَ الْأَشْتَرَ النَّخَعِيَّ أَنْ يلحق
المنهزمين فيردهم فسار فأسرع حتى استقبل المنهزمين من العراق فَجَعَلَ
يُؤَنِّبُهُمْ وَيُوَبِّخُهُمْ وَيُحَرِّضُ الْقَبَائِلَ
وَالشُّجْعَانَ مِنْهُمْ على الكرة فجعل طائفة تتابعه وآخرون يستمرون
فِي هَزِيمَتِهِمْ فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبُهُ حَتَّى اجتمع عليه
خلق عظيم من الناس فجعل لا يلقى قبيلة إِلَّا كَشَفَهَا وَلَا
طَائِفَةَ إِلَّا رَدَّهَا حَتَّى انْتَهَى إِلَى أَمِيرِ
الْمَيْمَنَةِ وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بن بديل ومعه نحو في ثلاثمائة قد
ثبتوا في مكانهم فسألوا عن أمير المؤمنين فقالوا حي صالح فالتفوا إليه،
فَتَقَدَّمَ بِهِمْ حَتَّى تَرَاجَعَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَذَلِكَ
مَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى الْغُرُوبِ، وَأَرَادَ ابْنُ
بُدَيْلٍ أَنْ يَتَقَدَّمَ إِلَى أَهْلِ الشَّامِ فَأَمَرَهُ
الْأَشْتَرُ أَنْ يَثْبُتَ مَكَانَهُ فَإِنَّهُ خَيْرٌ لَهُ فَأَبَى
عَلَيْهِ ابْنُ بُدَيْلٍ، وَحَمَلَ نَحْوَ مُعَاوِيَةَ، فَلَمَّا
انْتَهَى إِلَيْهِ وَجَدَهُ وَاقِفًا أَمَامَ أَصْحَابِهِ وَفِي يَدِهِ
سَيْفَانِ وَحَوْلَهُ كَتَائِبُ أمثال الجبال، فلما اقترب ابن بديل
تقدم إليه جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ فَقَتَلُوهُ وَأَلْقَوْهُ إِلَى
الْأَرْضِ قَتِيلًا، وفر أصحابه منهزمين وأكثرهم مجروح فلما انهزم
أصحابه قَالَ مُعَاوِيَةُ لِأَصْحَابِهِ انْظُرُوا إِلَى أَمِيرِهِمْ،
فَجَاءُوا إِلَيْهِ فَلَمْ يَعْرِفُوهُ فَتَقَدَّمَ مُعَاوِيَةُ
إِلَيْهِ فَإِذَا هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُدَيْلٍ، فَقَالَ
مُعَاوِيَةُ:
هَذَا وَاللَّهِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ، وَهُوَ حَاتِمٌ الطَّائِيُّ:
أَخُو الْحَرْبِ إِنْ عَضَّتْ بِهِ الْحَرْبُ عَضَّهَا ... وَإِنْ
شَمَّرَتْ يَوْمًا بِهِ الْحَرْبُ شَمَّرَا
ويحمى إذا ما الموت كان لقاؤه ... كذلك ذو الأشبال يحمى إذا ما تأمرا
كَلَيْثً هِزَبْرٍ كَانَ يَحْمِي ذِمَارَهُ ... رَمَتْهُ الْمَنَايَا
سهمها فَتَقَطَّرَا
ثُمَّ حَمَلَ الْأَشْتَرُ النَّخَعِيَّ بِمَنْ رَجَعَ مَعَهُ مِنَ
الْمُنْهَزِمِينَ فَصَدَقَ الْحَمْلَةَ حَتَّى خَالَطَ الصفوف الخمسة
الذين تعاقدوا أَنْ لَا يَفِرُّوا وَهُمْ حَوْلَ مُعَاوِيَةَ، فَخَرَقَ
مِنْهُمْ أَرْبَعَةً وَبَقِيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُعَاوِيَةَ صَفٌّ،
قَالَ الْأَشْتَرُ فَرَأَيْتُ هَوْلًا عَظِيمًا، وَكِدْتُ أَنْ أَفِرَّ
فَمَا ثَبَّتَنِي إِلَّا قَوْلُ ابْنُ الْإِطْنَابَةِ وَهِيَ أُمُّهُ
مِنْ بَلْقَيْنَ وَكَانَ هُوَ مِنَ الْأَنْصَارِ وَهُوَ جَاهِلِيٌّ:
أَبَتْ لِي عِفَّتِي وَأَبَى بَلَائِي ... وِإِقْدَامِي عَلَى
الْبَطَلِ الْمُشِيحِ
(7/264)
وَإِعْطَائِى عَلَى الْمَكْرُوهِ مَالِي
... وَضَرْبِي هَامَةَ الرَّجُلِ السَّمِيحِ
وَقَوْلِي كُلَّمَا جَشَأَتْ وَجَاشَتْ ... مَكَانَكِ تُحْمَدِي أو
تسريحى
قال: فهذا الَّذِي ثَبَّتَنِي فِي ذَلِكَ الْمَوْقِفِ. وَالْعَجَبُ
أَنَّ ابْنَ دِيزِيلَ رَوَى فِي كِتَابِهِ أَنَّ أَهْلَ الْعِرَاقِ
حَمَلُوا حَمْلَةً وَاحِدَةً، فَلَمْ يَبْقَ لِأَهْلِ الشَّامِ صَفٌّ
إِلَّا أَزَالُوهُ حَتَّى أَفْضَوْا إِلَى مُعَاوِيَةَ فَدَعَا
بِفَرَسِهِ لِيَنْجُوَ عَلَيْهِ، قَالَ مُعَاوِيَةُ: فلما وضعت رجلي في
الرِّكَابِ تَمَثَّلْتُ بِأَبْيَاتِ عَمْرِو بْنِ الْإِطْنَابَةِ:
أَبَتْ لي عفتي وأبى بلائي ... وأخذى الحمل بِالثَّمَنِ الرَّبِيحِ
وَإِعْطَائِي عَلَى الْمَكْرُوهِ مَالِي ... وَضَرْبِي هَامَةَ
الْبَطَلِ الْمُشِيحِ
وَقَوْلِي كُلَّمَا جَشَأَتْ وَجَاشَتْ ... مَكَانَكِ تُحْمَدِي أَوْ
تَسْتَرِيحِي
قَالَ: فَثَبَتُّ وَنَظَرَ معاوية إلى عمرو بن العاص فَقَالَ:
الْيَوْمَ صَبْرٌ وَغَدًا فَخْرٌ، فَقَالَ لَهُ عمرو: صدقت قال معاوية
فأصبت خير الدنيا وأنا أرجو أن أصيب خير الْآخِرَةِ، وَرَوَاهُ
مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ، وَبَعَثَ
مُعَاوِيَةُ إِلَى خَالِدِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ وَهُوَ أَمِيرُ
الْخَيَّالَةِ لِعَلِيٍّ فَقَالَ لَهُ: اتْبَعْنِي عَلَى مَا أَنْتَ
عَلَيْهِ ولك إمرة العراق، فطمع فيه، فلما ولى معاوية ولاه العراق فلم
يصل إليها خالد رحمه الله، ثُمَّ إِنَّ عَلِيًّا لَمَّا رَأَى
الْمَيْمَنَةَ قَدِ اجْتَمَعَتْ رَجَعَ إِلَى النَّاسِ فَأَنَّبَ
بَعْضَهُمْ وَعَذَّرَ بَعْضَهُمْ وَحَرَّضَ النَّاسَ وَثَبَّتَهُمْ
ثُمَّ تَرَاجَعَ أَهْلُ العراق فاجتمع شملهم ودارت رحى الحرب بينهم
وَجَالُوا فِي الشَّامِيِّينَ وَصَالُوا، وَتَبَارَزَ الشُّجْعَانُ
فَقُتِلَ خلق كثير من الأعيان من الفريقين ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا
إِلَيْهِ راجِعُونَ. 2: 156 وقيل ممن قتل في هذا اليوم عُبَيْدُ
اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مِنَ الشاميين، واختلفوا فيمن
قتله من العراقيين، وَقَدْ ذَكَرَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ
دِيزِيلَ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ لَمَّا خَرَجَ يَوْمَئِذٍ أَمِيرًا
على الحرب أَحْضَرَ امْرَأَتَيْهِ أَسْمَاءَ بِنْتَ عُطَارِدِ بْنِ
حَاجِبٍ التَّمِيمِيِّ وَبَحْرِيَّةَ بِنْتَ هَانِئِ بْنِ قَبِيصَةَ
الشَيْبَانَيِّ- فوقفتا وراءه في راحلتين لينظرا إِلَى قِتَالِهِ
وَشَجَاعَتِهِ وَقُوَّتِهِ، فَوَاجَهَتْهُ مِنْ جَيْشِ العراقيين ربيعة
الكوفة وعليهم زياد بن حفصة التميمي، فشدوا عليه شدة رجل واحد
فَقَتَلُوهُ بَعْدَ مَا انْهَزَمَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ، وَنَزَلَتْ
ربيعة فضربوا لأميرهم خيمة فبقي طنب منها لَمْ يَجِدُوا لَهُ وَتَدًا
فَشَدُّوهُ بِرِجْلِ عُبَيْدِ الله، وجاءت امرأتاه يولولان حَتَّى
وَقَفَتَا عَلَيْهِ وَبَكَتَا عِنْدَهُ، وَشَفَعَتِ امْرَأَتُهُ بحرية
إلى الأمير فأطلقه لهما فاحتملتاه معهما فِي هَوْدَجِهِمَا وَقُتِلَ
مَعَهُ أَيْضًا ذُو الْكَلَاعِ، قَالَ الشَّعْبِيُّ: فَفِي مَقْتَلِ
عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عمر يقول كعب بن جعل التَّغْلَبِيُّ
أَلَا إِنَّمَا تَبْكِي الْعُيُونُ لِفَارِسٍ ... بِصِفِّينَ وَلَّتْ
خَيْلُهُ وَهْوَ وَاقِفُ
تَبَدَّلَ مِنْ أَسْمَاءَ أَسْيَافَ وَائِلٍ ... وَكَانَ فَتًى لَوْ
أَخْطَأَتْهُ الْمَتَالِفُ
تَرَكْنَ عُبَيْدَ اللَّهِ بِالْقَاعِ ثَاوِيًا ... تَسِيلُ دَمَاهُ
والعروق نوازف
(7/265)
يَنُوءُ وَيَغْشَاهُ شَآبِيبُ مِنْ دَمٍ
... كَمَا لَاحَ مِنْ جَيْبِ الْقَمِيصِ الْكَفَائِفُ
وَقَدْ صَبَرَتْ حَوْلَ ابْنِ عَمِّ مُحَمَّدٍ ... لَدَى الْمَوْتِ
أَرْبَابُ الْمَنَاقِبِ شَارِفُ
فَمَا بَرَحُوا حَتَّى رَأَى اللَّهُ صَبْرَهُمْ ... وحتى رقت فوق
الأكف الْمَصَاحِفُ
وَزَادَ غَيْرُهُ فِيهَا
مُعَاوِيَ لَا تَنْهَضْ بِغَيْرِ وَثِيقَةٍ ... فَإِنَّكَ بَعْدَ
الْيَوْمِ بِالذُّلِّ عَارِفُ
وقد أجابه أبو جهم الْأَسْدِيُّ بِقَصِيدَةٍ فِيهَا أَنْوَاعٌ مِنَ
الْهِجَاءِ تَرَكْنَاهَا قَصْدًا.
وَهَذَا مَقْتَلُ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَعَ
أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أبى طالب قتله أهل الشام
[وبان وظهر بذلك سِرُّ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَنَّهُ تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ
وَبَانَ بِذَلِكَ أَنَّ عَلِيًّا مُحِقٌّ وَأَنَّ مُعَاوِيَةَ بَاغٍ،
وَمَا فِي ذَلِكَ مِنْ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ] [1] ، ذَكَرَ ابْنُ
جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مِخْنَفٍ حَدَّثَنِي مَالِكُ بْنُ أَعْيَنَ
الْجُهَنِيُّ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّ عَمَّارًا
قَالَ يَوْمَئِذٍ: من يبتغى رضوان ربه وَلَا يَلْوِي إِلَى مَالٍ وَلَا
وَلَدٍ، قَالَ: فَأَتَتْهُ عِصَابَةٌ مِنَ النَّاسِ فَقَالَ: أَيُّهَا
النَّاسُ اقْصِدُوا بِنَا نَحْوَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ
يَبْتَغُونَ دَمَ عُثْمَانَ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ قُتِلَ مَظْلُومًا
وَاللَّهِ ما قصدهم الأخذ بدمه ولا الأخذ بثأره، ولكن القوم ذاقوا
الدنيا واستحلوها واستمروا الآخرة فقلوها، وَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ
إِذَا لَزِمَهُمْ حَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَتَمَرَّغُونَ فِيهِ
مِنْ دُنْيَاهُمْ وَشَهَوَاتِهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْقَوْمِ سَابِقَةٌ
فِي الْإِسْلَامِ يَسْتَحِقُّونَ بها [طاعة الناس لهم ولا الولاية
عَلَيْهِمْ وَلَا تَمَكَّنَتْ مِنْ قُلُوبِهِمْ خَشْيَةُ اللَّهِ
الَّتِي تَمْنَعُ مَنْ تَمَكَّنَتْ مِنْ قَلْبِهِ عَنْ نَيْلِ
الشَّهَوَاتِ، وَتَعْقِلُهُ عَنْ إِرَادَةِ الدُّنْيَا وَطَلَبِ
الْعُلُوِّ فِيهَا، وَتَحْمِلُهُ عَلَى اتِّبَاعِ الْحَقِّ وَالْمَيْلِ
إِلَى أَهْلِهِ] [2] فَخَدَعُوا أَتْبَاعَهُمْ بِقَوْلِهِمْ إِمَامُنَا
قُتِلَ مَظْلُومًا، لِيَكُونُوا بِذَلِكَ جَبَابِرَةً مُلُوكًا،
وَتِلْكَ مَكِيدَةٌ بلغوا بها ما ترون، ولولا ذلك مَا تَبِعَهُمْ مِنَ
النَّاسِ رَجُلَانِ وَلَكَانُوا أَذَلَّ وَأَخَسَّ وَأَقَلَّ،
وَلَكِنَّ قَوْلَ الْبَاطِلِ لَهُ حَلَاوَةٌ فِي أَسْمَاعِ
الْغَافِلِينَ، فَسِيرُوا إِلَى اللَّهِ سَيْرًا جميلا، واذكروا
ذِكْرًا كَثِيرًا ثُمَّ تَقَدَّمَ فَلَقِيَهُ عَمْرُو بْنُ العاص وعبيد
الله بن عمر فلامهما وأنبهما ووعظهما، وذكروه مِنْ كَلَامِهِ لَهُمَا
مَا فِيهِ غِلْظَةٌ فاللَّه أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ
ثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ
بْنَ سَلَمَةَ يَقُولُ:
رَأَيْتُ عَمَّارًا يَوْمَ صِفِّينَ شَيْخًا كَبِيرًا آدَمَ طُوَالًا
آخِذٌ الْحَرْبَةَ بِيَدِهِ وَيَدُهُ تَرْعَدُ، فَقَالَ: وَالَّذِي
نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ قَاتَلْتُ بِهَذِهِ الرَّايَةِ مَعَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَهَذِهِ
الرَّابِعَةُ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ ضربونا حتى يبلغوا بنا
سعفات هَجَرَ لَعَرَفْتُ أَنَّ مُصْلِحِينَا عَلَى الْحَقِّ،
وَأَنَّهُمْ عَلَى الضَّلَالَةِ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ ثَنَا شُعْبَةُ وَحَجَّاجٌ
حَدَّثَنِي شُعْبَةُ سَمِعْتُ قَتَادَةَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ
قَالَ حَجَّاجٌ سَمِعْتُ أَبَا نَضْرَةَ عَنْ قَيْسِ بْنِ عَبَّادٍ
قَالَ: قُلْتُ لعمار بن ياسر أرأيت قتالكم مع على رأيا
__________
[1- 2] سقط من النسخة المصرية.
(7/266)
رأيتموه، فان الرأى يخطئ ويصيب، أو عهد
عَهِدَهُ إِلَيْكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: مَا عَهِدَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا لَمْ يَعْهَدْهُ إِلَى النَّاسِ
كَافَّةً. وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ وَلَهُ
تَمَامٌ عَنْ عَمَّارٍ عَنْ حُذَيْفَةَ [فِي الْمُنَافِقِينَ.
وَهَذَا كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ جَمَاعَةٍ
مِنَ التَّابِعِينَ، مِنْهُمُ الحارث بن سويد، وقيس ابن عبادة، وَأَبُو
جُحَيْفَةَ وَهْبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ السُّوَائِيُّ، وَيَزِيدُ بْنُ
شَرِيكٍ، وَأَبُو حَسَّانَ الْأَجْرَدُ وَغَيْرُهُمْ أَنَّ كُلًّا
مِنْهُمْ قَالَ: قُلْتُ لِعَلِيٍّ: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ عَهِدَهُ
إِلَيْكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ
يَعْهَدْهُ إِلَى النَّاسِ؟ فَقَالَ:
لَا وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، إِلَّا فَهْمًا
يُؤْتِيهِ اللَّهُ عَبْدًا فِي الْقُرْآنِ، وَمَا فِي هَذِهِ
الصَّحِيفَةِ، قُلْتُ:
وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ؟ فَإِذَا فِيهَا الْعَقْلُ وَفَكَاكُ
الْأَسِيرِ، وَأَنْ لَا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ، وَأَنَّ
الْمَدِينَةَ حرم ما بين ثبير إِلَى ثَوْرٍ.
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ عَنْ
أَبِي وَائِلٍ عَنْ سفيان بن مسلم عَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ أَنَّهُ
قَالَ يَوْمَ صِفِّينَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ! اتَّهِمُوا الرَّأْيَ
عَلَى الدِّينِ، فَلَقَدْ رَأَيْتُنِي يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ وَلَوْ
أَقْدِرُ لَرَدَدْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أمره، وو الله مَا حَمَلْنَا سُيُوفَنَا عَلَى عَوَاتِقِنَا
مُنْذُ أَسْلَمْنَا لأمر يقطعنا إلا أسهل بِنَا إِلَى أَمْرٍ
نَعْرِفُهُ، غَيْرِ أَمْرِنَا هَذَا، فَإِنَّا لَا نَسُدُّ مِنْهُ
خَصْمًا إِلَّا انْفَتَحَ لَنَا غَيْرُهُ لَا نَدْرِي كَيْفَ نُبَالِي
لَهُ] [1] وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ ثَنَا سُفْيَانُ عَنْ
حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ. قال قام عمار
يوم صفين فقال: ايتوني بِشَرْبَةِ لَبَنٍ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «آخَرُ شَرْبَةٍ تَشْرَبُهَا
مِنَ الدنيا تشربها يوم تقتل» وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا
عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ حَبِيبٍ عَنْ أَبِي
الْبَخْتَرِيِّ أَنَّ عَمَّارًا أُتِيَ بِشَرْبَةِ لَبَنٍ فَضَحِكَ
وَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ الله قَالَ لِي: «آخَرُ شَرَابٍ أَشْرَبُهُ
لَبَنٌ حِينَ أَمُوتُ» وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ
دِيزِيلَ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ نَصْرٍ ثَنَا عَمْرُو بْنُ شَمِرٍ عَنْ
جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ قَالَ:
سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ عَنِ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ: قَالَ ثُمَّ
حَمَلَ عَمَّارُ بْنُ ياسر عليهم فحمل عليه ابن جوى السكسكي وَأَبُو
الْغَادِيَةِ الْفَزَارِيُّ، فَأَمَّا أَبُو الْغَادِيَةِ فَطَعَنَهُ،
وأما ابن جوى فَاحْتَزَّ رَأْسَهُ. وَقَدْ كَانَ ذُو الْكَلَاعِ سَمِعَ
قول عمرو بن العاص يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ «تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ
الْبَاغِيَةُ، وَآخَرُ شَرْبَةٍ تَشْرَبُهَا صَاعُ لَبَنٍ» فَكَانَ ذُو
الْكَلَاعِ يَقُولُ لِعَمْرٍو: وَيْحَكَ! مَا هَذَا يَا عَمْرُو؟!
فَيَقُولُ لَهُ عَمْرٌو: إِنَّهُ سَيَرْجِعُ إِلَيْنَا. قال: فلما أصيب
عمار بعد ذو الْكَلَاعِ قَالَ عَمْرٌو لِمُعَاوِيَةَ: مَا أَدْرِي
بِقَتْلِ أَيِّهِمَا أَنَا أَشَدُّ فَرَحًا، بِقَتْلِ عَمَّارٍ أَوْ
ذِي الْكَلَاعِ وَاللَّهِ لَوْ بَقِيَ ذُو الْكَلَاعِ بعد قتل عمار
لمال بعامة أهل الشام وَلَأَفْسَدَ عَلَيْنَا جُنْدَنَا. قَالَ:
وَكَانَ لَا يَزَالُ يَجِيءُ رَجُلٌ فَيَقُولُ لِمُعَاوِيَةَ
وَعَمْرٍو: أَنَا قَتَلْتُ
__________
[1] سقط من المصرية.
(7/267)
عَمَّارًا فَيَقُولُ لَهُ عَمْرٌو فَمَا
سَمِعْتَهُ يَقُولُ فيخلطون حتى جاء جوى فَقَالَ أَنَا سَمِعْتُهُ
يَقُولُ:
الْيَوْمَ أَلْقَى الْأَحِبَّةْ ... مُحَمَّدًا وَحِزْبَهْ
فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: صَدَقْتَ أَنْتَ إنك لصاحبه، ثُمَّ قَالَ لَهُ:
رُوَيْدًا، أَمَا وَاللَّهِ مَا ظفرت يداك وَلَقَدْ أَسَخَطْتَ رَبَّكَ
[وَقَدْ رَوَى ابْنُ دِيزِيلَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي يُوسُفَ عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْكِنْدِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ
الْعَاصِ. أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ لِعَمَّارٍ: «تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ» وَرَوَاهُ
أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعَيْنِ أَرْسَلُوهُ
مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الْهُذَيْلِ وَمُجَاهِدٌ وَحَبِيبُ
بْنُ أَبِي ثَابِتٍ وَحَبَّةُ الْعُرَنِيُّ، وَسَاقَهَ مِنْ طَرِيقِ
أَبَانَ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا، وَمِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شَمِرٍ
عَنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ حُذَيْفَةَ
مَرْفُوعًا: «مَا خُيِّرَ عَمَّارٌ بَيْنَ شَيْئَيْنِ إِلَّا اخْتَارَ
أَرْشَدَهُمَا» ] [1] وَبِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شَمِرٍ عن السري عن
يعقوب بن راقط قَالَ: اخْتَصَمَ رَجُلَانِ فِي سَلَبِ عَمَّارٍ وَفِي
قَتْلِهِ فَأَتَيَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ
لِيَتَحَاكَمَا إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُمَا: وَيْحَكُمَا! اخْرُجَا
عَنِّي، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ- ولعبت قُرَيْشٌ بِعَمَّارٍ-: «مَا لَهُمْ وَلِعَمَّارٍ؟
عَمَّارٌ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ،
قَاتِلُهُ وَسَالِبُهُ فِي النَّارِ» قَالَ: فَبَلَغَنِي أَنَّ
مُعَاوِيَةَ قَالَ إِنَّمَا قَتَلَهُ مَنْ أَخْرَجَهُ يَخْدَعُ
بِذَلِكَ أَهْلَ الشَّامِ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحُسَيْنِ:
حَدَّثَنَا يَحْيَى ثنا عدي بْنُ عُمَرَ ثَنَا هُشَيْمٌ ثَنَا
الْعَوَّامُ بْنُ حوشب بن الْأَسْوَدِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ حَنْظَلَةَ
بْنِ خُوَيْلِدٍ- وكان ناس عِنْدِ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ- قَالَ:
بَيْنَا هُوَ عِنْدَ مُعَاوِيَةَ إِذْ جَاءَهُ رَجُلَانِ يَخْتَصِمَانِ
فِي قَتْلِ عَمَّارٍ، فَقَالَ لَهُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو:
لِيَطِبْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا نَفْسًا لِصَاحِبِهِ بِقَتْلِ
عَمَّارٍ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ: «تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ» فَقَالَ
مُعَاوِيَةُ لِعَمْرٍو: «أَلَا تَنْهَى عَنَّا مَجْنُونَكَ هَذَا؟!
ثُمَّ أَقْبَلَ مُعَاوِيَةُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ لَهُ: فَلِمَ
تُقَاتِلُ مَعَنَا؟ فَقَالَ لَهُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَنِي بِطَاعَةِ وَالِدِي مَا كَانَ حَيًّا
وَأَنَا مَعَكُمْ ولست أقاتل. وحدثنا يحيى بن نصر ثنا حفص بن عمران
البرجمي حَدَّثَنِي نَافِعُ بْنُ عُمَرَ الْجُمَحِيُّ عَنِ ابْنِ أَبِي
مُلَيْكَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ ابن عَمْرٍو قَالَ لِأَبِيهِ: لَوْلَا
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَنِي
بِطَاعَتِكَ مَا سِرْتُ مَعَكَ هَذَا الْمَسِيرَ، أَمَا سَمِعْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول لعمار بْنِ
يَاسِرٍ «تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ» وَحَدَّثَنَا يَحْيَى
ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زِيَادٍ؟
ثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ مُجَالِدٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: جَاءَ قَاتِلُ
عمار يستأذن على معاوية وعنده عمرو فَقَالَ: ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ
بِالنَّارِ. فَقَالَ الرَّجُلُ: أو ما تسمع ما يقول عمرو. قال: صدق؟
إنما قتله الذين جاءوا به! وَهَذَا كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ
وَغَيْرِهِمَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ مِنْهُمُ الْحَارِثُ
بْنُ سُوَيْدٍ وقيس بن عبادة وَأَبُو جُحَيْفَةَ وَهْبُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ السُّوَائِيُّ وَيَزِيدُ بْنُ شَرِيكٍ وَأَبُو حَسَّانَ
الْأَجْرَدُ وَغَيْرُهُمْ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ قَالَ:
قُلْتُ لِعَلِيٍّ هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ عَهِدَهُ إِلَيْكُمْ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَعْهَدْهُ إِلَى
النَّاسِ، فقال: لا! والّذي فلق
__________
[1] سقطا من النسخة المصرية.
(7/268)
الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ إِلَّا
فَهْمًا يُؤْتِيهِ اللَّهُ عَبْدًا فِي الْقُرْآنِ وَمَا فِي هَذِهِ
الصَّحِيفَةِ، قُلْتُ: وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ؟
فَإِذَا فِيهَا الْعَقْلُ وَفَكَاكُ الْأَسِيرِ وَأَنْ لَا يُقْتَلَ
مُسْلِمٌ بكافر، وأن المدينة حرام ما بين ثبير إِلَى ثَوْرٍ، وَثَبَتَ
فِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا مِنْ حديث الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ
شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ أَنَّهُ قَالَ يَوْمَ
صفين: أَيُّهَا النَّاسُ اتَّهِمُوا الرَّأْيَ عَلَى الدِّينِ فَلَقَدْ
رأيتني يوم أبى جندل ولو أقدر أَنْ أَرُدَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمره لرددته، والله مَا حَمَلْنَا
سُيُوفَنَا عَلَى عَوَاتِقِنَا مُنْذُ أَسْلَمْنَا لأمر يقطعنا إلا
أسهل بِنَا إِلَى أَمْرٍ نَعْرِفُهُ غَيْرِ أَمْرِنَا هَذَا. وقال ابن
جرير: وحدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ ثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ صَالِحٍ
ثَنَا عَطَاءُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنِ الْأَعْمَشِ قَالَ قال أبو عبد
الرحمن السلمي: قال كُنَّا مَعَ عَلِيٍّ بِصِفِّينَ وَكُنَّا قَدْ
وَكَّلْنَا بفرسه نفسين يحفظانه يمنعانه أَنْ يَحْمِلَ، فَكَانَ إِذَا
حَانَتْ مِنْهُمَا غَفْلَةٌ حَمَلَ فَلَا يَرْجِعُ حَتَّى يَخْضِبَ
سَيْفَهُ، وَإِنَّهُ حَمَلَ ذَاتَ يَوْمٍ فَلَمْ يَرْجِعْ حَتَّى
انْثَنَى سَيْفُهُ، فَأَلْقَاهُ إِلَيْهِمْ وَقَالَ: لَوْلَا أَنَّهُ
انْثَنَى مَا رَجَعْتُ، قَالَ: وَرَأَيْتُ عَمَّارًا لَا يَأْخُذُ
وَادِيًا مِنْ أَوْدِيَةِ صِفِّينَ إِلَّا اتَّبَعَهُ مَنْ كَانَ
هُنَاكَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم،
ورأيته جاء إلى هَاشِمِ بْنِ عُتْبَةَ وَهُوَ صَاحِبُ رَايَةِ عَلِيٍّ
فَقَالَ: يَا هَاشِمُ تَقَدَّمَ! الْجَنَّةُ تَحْتَ ظِلَالِ السيوف،
والموت في أطراف الأسنة، وقد فتحت أبواب الجنة وَتَزَيَّنَتِ الْحَوَرُ
الْعَيْنُ.
الْيَوْمَ أَلْقَى الْأَحِبَّةْ ... مَحُمَّدًا وَحِزْبَهْ
ثُمَّ حَمَلَا هُوَ وَهَاشِمٌ فَقُتِلَا رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى،
قَالَ: وَحَمَلَ حِينَئِذٍ عَلِيٌّ وَأَصْحَابُهُ عَلَى أَهْلِ
الشَّامِ حَمْلَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ كَأَنَّهُمَا: كان- يعنى عمارا
وهاشما- عاما لَهُمْ قَالَ: فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ قُلْتُ
لَأَدْخُلَنَّ الليلة إلى العسكر الشَّامِيِّينَ حَتَّى أَعْلَمَ هَلْ
بَلَغَ مِنْهُمْ قَتْلُ عَمَّارٍ مَا بَلَغَ مِنَّا؟ - وَكُنَّا إِذَا
تَوَادَعْنَا مِنَ الْقِتَالِ تَحَدَّثُوا إِلَيْنَا وَتَحَدَّثْنَا
إِلَيْهِمْ- فَرَكِبْتُ فَرَسِي وَقَدْ هَدَأَتِ الرِّجْلُ، ثُمَّ
دَخَلْتُ عَسْكَرَهُمْ فَإِذَا أَنَا بِأَرْبَعَةٍ يَتَسَامَرُونَ،
مُعَاوِيَةُ، وَأَبُو الْأَعْوَرِ السُّلَمِيُّ، وَعَمْرُو بْنُ
الْعَاصِ، وَابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ بن عمرو وهو خير الأربعة. قال:
فَأَدْخَلْتُ فَرَسِي بَيْنَهُمْ مَخَافَةَ أَنْ يَفُوتَنِي مَا
يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ لِأَبِيهِ:
يا أبة قَتَلْتُمْ هَذَا الرَّجُلَ فِي يَوْمِكُمْ هَذَا وَقَدْ قال
فيه رسول الله مَا قَالَ، قَالَ: وَمَا قَالَ؟ قَالَ: أَلَمْ يكن
مَعَنَا وَنَحْنُ نَبْنِي الْمَسْجِدَ وَالنَّاسُ يَنْقُلُونَ حَجَرًا
حَجَرًا، وَلَبِنَةً لَبِنَةً، وَعَمَّارٌ يَنْقُلُ حَجَرَيْنِ
حَجَرَيْنِ وَلَبِنَتَيْنِ لِبِنْتَيْنِ؟ فَأَتَاهُ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ يَمْسَحُ التُّرَابَ عَنْ
وَجْهِهِ وَيَقُولُ: «وَيْحَكَ يَا ابْنَ سُمَيَّةَ النَّاسُ
يَنْقُلُونَ حَجَرًا حَجَرًا وَلَبِنَةً لَبِنَةً وَأَنْتَ تَنْقُلُ
حَجَرَيْنِ حَجَرَيْنِ وَلَبِنَتَيْنِ لِبِنْتَيْنِ رَغْبَةً مِنْكَ
فِي الْأَجْرِ وكنت مع ذلك ويحك تقتلك الفئة الباغية» قال فرجع عمر
وصدر فَرَسِهِ ثُمَّ جَذَبَ مُعَاوِيَةَ إِلَيْهِ فَقَالَ:
يَا مُعَاوِيَةُ أَمَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ عَبْدُ اللَّهِ؟ قال: وما
يقول؟ قال: يقول وأخبره الْخَبَرَ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ إِنَّكَ شَيْخٌ
أَخْرَقُ وَلَا تَزَالُ تُحَدِّثُ بِالْحَدِيثِ وَأَنْتَ تَدْحَضُ فِي
بَوْلِكَ، أو نحن قَتَلْنَا عَمَّارًا؟ إِنَّمَا قَتَلَ عَمَّارًا مَنْ
جَاءَ بِهِ؟ قَالَ: فَخَرَجَ النَّاسُ مِنْ عِنْدِ فَسَاطِيطِهِمْ
وَأَخْبِيَتِهِمْ وَهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّمَا قَتَلَ عَمَّارًا مَنْ
جاء
(7/269)
بِهِ، فَلَا أَدْرَى مَنْ كَانَ أَعْجَبُ
هُوَ أوهم. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ
ثَنَا الْأَعْمَشُ عن عبد الرحمن بن أبى زياد قَالَ: إِنِّي لَأَسِيرُ
مَعَ مُعَاوِيَةَ مُنْصَرَفَهُ مِنْ صِفِّينَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقَالَ عبد الله بن عمرو: يا أبة أَمَا
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ
لِعَمَّارٍ: «وَيْحَكَ يَا ابْنَ سُمَيَّةَ تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ
الْبَاغِيَةُ قَالَ فَقَالَ عَمْرٌو لِمُعَاوِيَةَ: أَلَا تَسْمَعُ مَا
يَقُولُ عبد الله هَذَا فَقَالَ مُعَاوِيَةُ لَا يَزَالُ يَأْتِينَا
بِهِنَةٍ بعد هنة، أَنْحَنُ قَتَلْنَاهُ؟ إِنَّمَا قَتَلَهُ الَّذِينَ
جَاءُوا بِهِ. ثُمَّ رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ عَنِ سفيان
الثَّوْرِيِّ عَنِ الْأَعْمَشِ بِهِ نَحْوَهُ، تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ
بِهَذَا السِّيَاقِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَهَذَا التأويل الّذي سلكه
معاوية رضى الله عنه بَعِيدٌ، ثُمَّ لَمْ يَنْفَرِدْ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ عَمْرٍو بِهَذَا الْحَدِيثِ بَلْ قَدْ رُوِيَ مِنْ وجوه أخر،
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ ثَنَا
شُعْبَةُ عَنْ خَالِدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ لِعَمَّارٍ: «تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ» . وَقَدْ رَوَى
الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ
الْمُخْتَارِ وَعَبْدِ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيِّ عَنْ خَالِدٍ
الْحَذَّاءِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ فِي قِصَّةِ بِنَاءِ
الْمَسْجِدِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ لِعَمَّارٍ: «يَا وَيْحَ عَمَّارٍ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ
وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ» قَالَ يَقُولُ عَمَّارٌ: أَعُوذُ
باللَّه مِنَ الفتن وفي بعض نسخ البخاري يَا وَيْحَ عَمَّارٍ
تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ يَدْعُوهُمْ إِلَى الجنة ويدعونه
إلى النار، وقال أحمد: حدثنا سليمان بن داود ثنا شعبة ثنا عمرو بن
دينار عن أبى هشام عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ قَالَ لِعَمَّارٍ: «تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ،
وَرَوَى مُسْلِمٌ من حديث شعبة عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
قَالَ: حَدَّثَنِي مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي- يَعْنِي أَبَا قَتَادَةَ-
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
لِعَمَّارٍ: «تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ» وَرَوَى مسلم أيضا
مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ الحسن وسعيد ابني
أبى الحسن عن أمهما حرة عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَمَّارٍ: تَقْتُلُكَ
الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ، ورواه عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ
عَنْ ابْنِ عُلَيَّةَ عَنِ ابْنِ عَوْنٍ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِيهِ
عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ بِهِ وَفِي رِوَايَةٍ وَقَاتِلُهُ فِي النَّارِ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَاكِمِ وَغَيْرِهِ عَنِ الْأَصَمِّ
عَنْ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الصَّنْعَانِيِّ عَنْ
أَبِي الْجَوَّابِ عن عمار بن زريق عن عمار الذهبي عَنْ سَالِمِ بْنِ
أَبِي الْجَعْدِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول لعمار: «إِذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ
كَانَ ابْنُ سُمَيَّةَ مَعَ الْحَقِّ» وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ
الْحُسَيْنِ بْنِ دِيزِيلَ- فِي سِيرَةِ عَلِيٍّ- ثَنَا يَحْيَى بْنُ
عُبَيْدِ اللَّهِ الْكَرَابِيسِيُّ ثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ ثَنَا أَبُو
مُعَاوِيَةَ عَنْ عَمَّارِ بْنِ زُرَيْقٍ عَنْ عَمَّارٍ الذهبي عَنْ
سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَمَّنَنَا أَنْ
يظلمنا ولو يُؤَمِّنَّا أَنْ يَفْتِنَنَا، أَرَأَيْتَ إِذَا نَزَلَتْ
فِتْنَةٌ كَيْفَ أَصْنَعُ؟ قَالَ:
عَلَيْكَ بِكِتَابِ اللَّهِ، قُلْتُ: أَرَأَيْتَ إِنْ جَاءَ قَوْمٌ
كُلُّهُمْ يَدْعُونَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ؟ فَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِذَا اخْتَلَفَ
النَّاسُ كَانَ ابْنُ سُمَيَّةَ مَعَ الْحَقِّ» . وَرَوَى ابْنُ
دِيزِيلَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ نَفْسِهِ حَدِيثًا فِي ذِكْرِ
عَمَّارٍ وَأَنَّهُ مَعَ فِرْقَةِ الْحَقِّ، وَإِسْنَادُهُ غَرِيبٌ،
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَنَا عَلِيُّ بْنُ
(7/270)
أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَانَ أَنَا أَحْمَدُ
بْنُ عُبَيْدٍ الله الصفار ثنا الأسقاطي ثنا أبو مصعب ثنا يوسف بن
الْمَاجِشُونُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ عَنْ مَوْلَاةٍ لِعَمَّارٍ قَالَتْ: «اشْتَكَى
عَمَّارٌ شَكْوَى أَرِقَ مِنْهَا فَغُشِيَ عَلَيْهِ، فَأَفَاقَ
وَنَحْنُ نَبْكِي حَوْلَهُ، فَقَالَ: مَا تَبْكُونَ؟ أَتَخْشَوْنَ أَنْ
أَمُوتَ عَلَى فِرَاشِي؟ أَخْبَرَنِي حَبِيبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ تَقْتُلُنِي الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ، وَأَنَّ آخِرَ
زَادِي مِنَ الدُّنْيَا مَذْقَةٌ مِنْ لَبَنٍ» وَقَالَ أَحْمَدُ: ثَنَا
ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ دَاوُدَ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي
سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ فَجَعَلْنَا
نَنْقُلُ لَبِنَةً لَبِنَةً وَكَانَ عَمَّارٌ يَنْقُلُ لَبِنَتَيْنِ
لَبِنَتَيْنِ، فَتَتَرَّبَ رَأْسُهُ قَالَ: فَحَدَّثَنِي أصحابى ولم
أسمعه من رسول الله أَنَّهُ جَعَلَ يَنْفُضُ رَأْسَهُ وَيَقُولُ:
وَيْحَكَ يَا ابْنَ سُمَيَّةَ تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ»
تَفَرَّدَ بِهِ أحمد وما زاده الروافض في هذا الحديث بعد قوله الباغية
«لا أنا لها والله شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَهُوَ كَذِبٌ
وَبَهْتٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَتِ الْأَحَادِيثُ عَنْهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ
عَلَيْهِ وسلامه بتسمية الفريقين مسلمين، كما سنورده قريبا إن شاء
الله. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ عَمَّارًا لَمَّا
قُتِلَ قَالَ عَلِيٌّ لِرَبِيعَةَ وَهَمْدَانَ: أَنْتُمْ دِرْعِي
وَرُمْحِي، فَانْتُدِبَ لَهُ نَحْوٌ مِنَ اثْنَيْ عشر ألفا، وتقدمهم
على ببلغته فَحَمَلَ وَحَمَلُوا مَعَهُ حَمْلَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ،
فَلَمْ يَبْقَ لِأَهْلِ الشَّامِ صَفٌّ إِلَّا انْتَقَضَ وَقَتَلُوا
كُلَّ مَنِ انْتَهَوْا إِلَيْهِ حَتَّى بَلَغُوا مُعَاوِيَةَ وَعَلِيٌّ
يُقَاتِلُ وَيَقُولُ:
أَضْرِبُهُمْ وَلَا أَرَى مُعَاوِيَةْ ... الجاحظ العين عظيم الحاوية
قال: ثم دعي عَلِىٌّ مُعَاوِيَةَ إِلَى أَنْ يُبَارِزَهُ فَأَشَارَ
عَلَيْهِ بالخروج إليه عمرو بن العاص فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ:
إِنَّكَ لَتَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يُبَارِزْهُ رَجُلٌ قَطُّ إِلَّا
قَتَلَهُ، وَلَكِنَّكَ طَمِعْتَ فيها بعدي، ثم قدم على ابنه محمد فِي
عِصَابَةٍ كَثِيرَةٍ مِنَ النَّاسِ، فَقَاتَلُوهُ قِتَالًا شديدا ثم
تبعه عَلِيٌّ فِي عِصَابَةٍ أُخْرَى، فَحَمَلَ بِهِمْ فَقَتَلَ في هذا
الموطن خلق كثير من الفريقين لا يعلمهم إلا الله وَقُتِلَ مِنَ
الْعِرَاقِيِّينَ خَلْقٌ كَثِيرٌ أَيْضًا، وَطَارَتْ أَكُفٌّ
وَمَعَاصِمُ وَرُءُوسٌ عَنْ كَوَاهِلِهَا، رَحِمَهُمُ اللَّهُ. ثُمَّ
حَانَتْ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ فَمَا صَلَّى بِالنَّاسِ إِلَّا إِيمَاءً
صَلَاتَيِ الْعِشَاءِ وَاسْتَمَرَّ الْقِتَالُ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ
كُلِّهَا وَهِيَ مِنْ أَعْظَمِ اللَّيَالِي شَرًّا بَيْنَ
الْمُسْلِمِينَ، وَتُسَمَّى هَذِهِ اللَّيْلَةُ لَيْلَةَ الهرير، وكانت
ليلة الجمعة تقصفت الرماح ونفذت النِّبَالُ، وَصَارَ النَّاسُ إِلَى
السُّيُوفِ، وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُحَرِّضُ الْقَبَائِلَ،
وَيَتَقَدَّمُ إِلَيْهِمْ يَأْمُرُ بِالصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ وَهُوَ
أَمَامَ النَّاسِ فِي قَلْبِ الجيش، وعلى الميمنة الأشتر، تَوَلَّاهَا
بَعْدَ قَتْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُدَيْلٍ عَشِيَّةَ الْخَمِيسِ
لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ- وَعَلَى الْمَيْسَرَةِ ابْنُ عباس، والناس
يقتتلون من كل جانب فذكر غير واحد من علمائنا عُلَمَاءِ السِّيَرِ-
أَنَّهُمُ اقْتَتَلُوا بِالرِّمَاحِ حَتَّى تَقَصَّفَتْ،
وَبِالنِّبَالِ حَتَّى فَنِيَتْ، وَبِالسُّيُوفِ حَتَّى تَحَطَّمَتْ
ثُمَّ صَارُوا إِلَى أَنْ تَقَاتَلُوا بِالْأَيْدِي وَالرَّمْيِ
بِالْحِجَارَةِ والتراب في الوجوه، وتعاضوا بالأسنان يَقْتَتِلُ
الرَّجُلَانِ حَتَّى يُثْخِنَا ثُمَّ يَجْلِسَانِ يَسْتَرِيحَانِ، وكل
واحد منهما يهمر على الآخر ويهمر عليه ثم يقومان فيقتتلان كما كانا، ف
إِنَّا لِلَّهِ
(7/271)
وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ. 2: 156
وَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبُهُمْ حَتَّى أَصْبَحَ النَّاسُ مِنْ يَوْمِ
الْجُمُعَةِ وَهُمْ كَذَلِكَ وَصَلَّى النَّاسُ الصُّبْحَ إِيمَاءً
وَهُمْ فِي القتال حتى تضاحى النهار وَتُوَجَّهَ النَّصْرُ لِأَهْلِ
الْعِرَاقِ عَلَى أَهْلِ الشَّامِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَشْتَرَ
النَّخَعِيَّ صَارَتْ إِلَيْهِ إِمْرَةُ الميمنة، فَحَمَلَ بِمَنْ
فِيهَا عَلَى أَهْلِ الشَّامِ وَتَبِعَهُ عليّ فتنقضت غالب صفوفهم
وكادوا ينهزمون، فَعِنْدَ ذَلِكَ رَفَعَ أَهْلُ الشَّامِ الْمَصَاحِفَ
فَوْقَ الرِّمَاحِ: وَقَالُوا، هَذَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ قَدْ
فَنِيَ النَّاسُ فَمَنْ لِلثِّغُورِ؟ وَمَنْ لِجِهَادِ الْمُشْرِكِينَ
وَالْكُفَّارِ.
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ التَّارِيخِ أن الّذي
أشار بهذا هُوَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، وَذَلِكَ لَمَّا رَأَى، أن أهل
العراق قد استظهروا في ذلك الموقف، أَحَبَّ أَنْ يَنْفَصِلَ الْحَالُ
وَأَنْ يَتَأَخَّرَ الْأَمْرُ فَإِنَّ كُلًّا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ
صَابِرٌ لِلْآخَرِ، وَالنَّاسُ يتفانون. فقال إلى معاوية: إني قد رأيت
أمرا لا يزيدنا هذه الساعة إلا اجتماعا ولا يزيدهم إلا فرقة، أَرَى
أَنْ نَرْفَعَ الْمَصَاحِفَ وَنَدْعُوَهُمْ إِلَيْهَا، فَإِنْ أجابوا
كلهم إلى ذلك برد القتال، وإن اختلفوا فيما بينهم فمن قائل نجيبهم،
وقائل لا نجيبهم، فشلوا وذهب رِيحُهُمْ، وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ،
حَدَّثَنَا يَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ سِيَاهٍ
عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ. قَالَ أَتَيْتُ أَبَا وَائِلٍ فِي
مَسْجِدِ أَهْلِهِ أَسْأَلُهُ عَنْ هَؤُلَاءِ القوم الذين قتلهم على
بالنهروان فيما استجابوا له وفيما فارقوه، وفيما اسْتَحَلَّ
قِتَالَهُمْ فَقَالَ: كُنَّا بِصِفِّينَ فَلَمَّا اسْتَحَرَّ القتال
بِأَهْلِ الشَّامِ اعْتَصَمُوا بِتَلٍّ فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ
لِمُعَاوِيَةَ: أَرْسَلَ إِلَى عَلِيٍّ بِمُصْحَفٍ فَادْعُهُ إِلَى
كِتَابِ اللَّهِ فَإِنَّهُ لَنْ يَأْبَى عَلَيْكَ فَجَاءَ بِهِ رَجُلٌ
فَقَالَ: بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ الله أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ 3: 23 ... يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ
بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ 3: 23 بعد ذلك وَهُمْ
مُعْرِضُونَ 3: 23 فَقَالَ عَلِيٌّ: نَعَمْ! أَنَا أَوْلَى بِذَلِكَ
بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ قَالَ فَجَاءَتْهُ
الْخَوَارِجُ وَنَحْنُ نَدْعُوهُمْ يَوْمَئِذٍ الْقُرَّاءَ
وَسُيُوفُهُمْ عَلَى عَوَاتِقِهِمْ، فَقَالُوا: يا أمير المؤمنين ما
ينتظر هؤلاء الْقَوْمِ الَّذِينَ عَلَى التَّلِّ أَلَا نَمْشِيَ
إِلَيْهِمْ سيوفنا حتى بحكم اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ؟
فَتَكَلَّمَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ
اتَّهَمُوا أَنْفُسَكُمْ فَلَقَدْ رأيتنا يوم الحديبيّة- يعنى الصلح
الّذي كان بين رسول الله وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ- وَلَوْ نَرَى
قِتَالًا لَقَاتَلْنَا فَجَاءَ عمر إلى رسول الله فقال: يا رسول الله
ألسنا على حق وَهُمْ عَلَى بَاطِلٍ؟ وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ كَمَا
تقدم في موضعه.
رفع أهل الشام المصاحف
فَلَمَّا رُفِعَتِ الْمَصَاحِفُ قَالَ أَهْلُ الْعِرَاقِ: نُجِيبُ
إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَنُنِيبُ إِلَيْهِ. قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ:
حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جُنْدُبٍ الْأَزْدِيُّ عَنْ
أَبِيهِ أَنَّ عَلِيًّا قَالَ: عِبَادَ اللَّهِ امْضُوا إِلَى
حَقِّكُمْ وَصِدْقِكُمْ وَقِتَالِ عَدُوِّكُمْ، فَإِنَّ مُعَاوِيَةَ
وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَابْنَ أَبِي مُعَيْطٍ وَحَبِيبَ بْنَ
مَسْلَمَةَ وَابْنَ أَبِي سَرْحٍ وَالضَّحَّاكَ ابن قَيْسٍ لَيْسُوا
بِأَصْحَابِ دِينٍ وَلَا قُرْآنٍ، أَنَا أعرف بهم منكم، صَحِبْتُهُمْ
أَطْفَالًا، وَصَحِبْتُهُمْ رِجَالًا، فَكَانُوا شَرَّ أَطْفَالٍ
وَشَرَّ رِجَالٍ، وَيْحَكُمُ وَاللَّهِ إِنَّهُمْ مَا رَفَعُوهَا إنهم
يقرءونها ولا يعملون بما فيها وما
(7/272)
رفعوها إلا خديعة ودهاء ومكيدة. فَقَالُوا
لَهُ: مَا يَسَعُنَا أَنْ نُدْعَى إِلَى كتاب الله فنأبى أن نقبله.
فَقَالَ لَهُمْ: إِنِّي إِنَّمَا أُقَاتِلُهُمْ لِيَدِينُوا بِحُكْمِ
الْكِتَابِ فَإِنَّهُمْ قَدْ عَصَوُا اللَّهَ فِيمَا أَمَرَهُمْ بِهِ،
وَتَرَكُوا عَهْدَهُ، وَنَبَذُوا كِتَابَهُ. فَقَالَ لَهُ مسعر بن فدكي
التميمي وزيد بن حصين الطائي ثم السبائى فِي عِصَابَةٍ مَعَهُمَا مِنَ
الْقُرَّاءِ الَّذِينَ صَارُوا بَعْدَ ذَلِكَ خَوَارِجَ، يَا عَلِيُّ
أَجِبْ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ إِذْ دُعِيتَ إِلَيْهِ وَإِلَّا
دَفَعْنَاكَ بَرُمَّتِكَ إِلَى الْقَوْمِ أَوْ نَفْعَلُ بِكَ مَا فعلنا
بابن عفان، إنه غلبنا أن يعمل بكتاب الله فقتلناه، وَاللَّهِ
لَتَفْعَلَنَّهَا أَوْ لَنَفْعَلَنَّهَا بِكَ. قَالَ: فَاحْفَظُوا
عَنِّي نَهْيِي إِيَّاكُمْ وَاحْفَظُوا مَقَالَتَكُمْ لِي، أَمَّا
أَنَا فَإِنْ تُطِيعُونِي فَقَاتِلُوا، وَإِنْ تَعْصُونِي فَاصْنَعُوا
مَا بَدَا لَكُمْ، قَالُوا: فَابْعَثْ إِلَى الْأَشْتَرِ فَلْيَأْتِكَ
وَيَكُفَّ عَنِ الْقِتَالِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ عَلِيٌّ لِيَكُفَّ عَنِ
الْقِتَالِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ فِي كِتَابِهِ
الَّذِي صَنَّفَهُ فِي الْخَوَارِجِ فَقَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْتَشِرِ الْهَمْدَانِيُّ عَنْ مَنْ
شَهِدَ صِفِّينَ وَعَنْ نَاسٍ مِنْ رُءُوسِ الْخَوَارِجِ مِمَّنْ لَا
يُتَّهَمُ عَلَى كَذِبٍ أَنَّ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ كَرِهَ ذَلِكَ
وَأَبَى وَقَالَ فِي عَلِيٍّ بَعْضَ مَا أكره ذكره، ثم قال: مَنْ
رَائِحٌ إِلَى اللَّهِ قَبْلَ أَنْ يَبْتَغِيَ غَيْرَ اللَّهِ حَكَمًا؟
فَحَمَلَ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ رحمة الله عليه. وكان ممن دعا إلى
ذلك سَادَاتِ الشَّامِيِّينَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ
الْعَاصِ قَامَ فِي أَهْلِ الْعِرَاقِ فَدَعَاهُمْ إِلَى
الْمُوَادَعَةِ وَالْكَفِّ وَتَرْكِ الْقِتَالَ وَالِائْتِمَارِ بِمَا
فِي القرآن، وذلك عن أمر معاوية له بذلك رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا،
وَكَانَ مِمَّنْ أَشَارَ عَلَى عَلِيٍّ بِالْقَبُولِ وَالدُّخُولِ فِي
ذَلِكَ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ الْكِنْدِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،
فَرَوَى أَبُو مِخْنَفٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَنَّ عَلِيًّا لَمَّا بعث
إلى الأشتر قال: قل له إنه ليس هذه ساعة ينبغي أن لا تُزِيلَنِي عَنْ
مَوْقِفِي فِيهَا، إِنِّي قَدْ رَجَوْتُ أَنْ يَفْتَحَ اللَّهُ
عَلَيَّ، فَلَا تُعْجِلْنِي، فَرَجَعَ الرَّسُولُ- وَهُوَ يَزِيدُ بْنُ
هَانِئٍ- إِلَى عَلِيٍّ فأخبره عن الأشتر بما قال، وَصَمَّمَ
الْأَشْتَرُ عَلَى الْقِتَالِ لِيَنْتَهِزَ الْفُرْصَةَ، فَارْتَفَعَ
الْهَرْجُ وَعَلَتِ الْأَصْوَاتُ فَقَالَ أُولَئِكَ الْقَوْمُ
لِعَلِيٍّ: وَاللَّهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا أَمَرْتَهُ أَنْ يُقَاتِلَ،
فقال: أرأيتموني ساررته؟ أَلَمْ أَبْعَثْ إِلَيْهِ جَهْرَةً وَأَنْتُمْ
تَسْمَعُونَ؟ فَقَالُوا: فَابْعَثْ إِلَيْهِ فَلْيَأْتِكَ وَإِلَّا
وَاللَّهِ اعْتَزَلْنَاكَ، فَقَالَ على لزيد بْنِ هَانِئٍ:
وَيْحَكَ! قُلْ لَهُ أَقْبِلْ إِلَيَّ فَإِنَّ الْفِتْنَةَ قَدْ
وَقَعَتْ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَيْهِ يزيد بن هانئ فأبلغه عن أمير
المؤمنين أنه ينصرف عن القتال ويقبل إليه، جعل يتململ ويقول: ويحك ألا
ترى إلى مَا نَحْنُ فِيهِ مِنَ النَّصْرِ وَلَمْ يَبْقَ إلا القليل؟
فقلت: أيهما أحب إليك أن تقبل أَوْ يَقْتَلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ
كَمَا قُتِلَ عُثْمَانُ؟
ثم ماذا يغنى عَنْكَ نَصْرَتُكُ هَاهُنَا؟ قَالَ: فَأَقْبَلَ
الْأَشْتَرُ إِلَى على وترك القتال فقال: يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ! يَا
أَهْلَ الذُّلِّ وَالْوَهْنِ أحين علوتم القوم وَظَنُّوا أَنَّكُمْ
لَهُمْ قَاهِرُونَ رَفَعُوا الْمَصَاحِفَ يَدْعُونَكُمْ إِلَى مَا
فِيهَا، وَقَدْ وَاللَّهِ تَرَكُوا مَا أمر الله به فيها، وسنة من
أنزلت عليه، فَلَا تُجِيبُوهُمْ، أَمْهِلُونِي فَإِنِّي قَدْ
أَحْسَسْتُ بِالْفَتْحِ، قَالُوا: لَا! قَالَ: أَمْهِلُونِي عَدْوَ
الْفَرَسِ فَإِنِّي قَدْ طَمِعْتُ فِي النَّصْرِ، قَالُوا إِذًا
نَدْخُلُ مَعَكَ فِي خَطِيئَتِكَ، ثُمَّ أَخَذَ الْأَشْتَرُ يُنَاظِرُ
أُولَئِكَ الْقُرَّاءَ الدَّاعِينَ إِلَى إِجَابَةِ أَهْلِ الشَّامِ
(7/273)
بما حاصله: إن كان أول قتالكم هؤلاء حَقًّا
فَاسْتَمِرُّوا عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا فَاشْهَدُوا
لِقَتْلَاكُمْ بِالنَّارِ، فَقَالُوا: دَعْنَا مِنْكَ فَإِنَّا لَا
نُطِيعُكَ وَلَا صَاحِبَكَ أَبَدًا، وَنَحْنُ قَاتَلْنَا هَؤُلَاءِ فِي
اللَّهِ، وَتَرَكْنَا قِتَالَهُمْ للَّه، فَقَالَ لَهُمُ الْأَشْتَرُ:
خُدِعْتُمْ وَاللَّهِ فَانْخَدَعْتُمْ، وَدُعِيتُمْ إِلَى وَضْعِ
الْحَرْبِ فَأَجَبْتُمْ، يَا أَصْحَابَ السُّوءِ كُنَّا نَظُنُّ
صَلَاتَكُمْ زَهَادَةً فِي الدُّنْيَا وَشَوْقًا إِلَى لِقَاءِ
اللَّهِ، فَلَا أَرَى فِرَارَكُمْ إِلَّا إِلَى الدُّنْيَا مِنَ
الْمَوْتِ، يَا أَشْبَاهَ النِّيبِ الْجَلَّالَةِ مَا أَنْتُمْ
بِرَبَّانِيِّينَ بَعْدَهَا. فَابْعُدُوا كَمَا بَعِدَ الْقَوْمُ
الظَّالِمُونَ. فَسَبُّوهُ وَسَبَّهُمْ فَضَرَبُوا وَجْهَ دَابَّتِهِ
بِسِيَاطِهِمْ، وَجَرَتْ بَيْنَهُمْ أُمُورٌ طَوِيلَةٌ، وَرَغِبَ
أَكْثَرُ النَّاسِ من العراقيين وأهل الشام بكمالهم إلى المصالحة
والمسالمة مدة لعله يتفق أمر يكون فيه حقن لدماء المسلمين، فان الناس
تَفَانَوْا فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ، وَلَا سِيَّمَا فِي هذه الثلاثة
الأيام المتأخرة التي آخر أمرها ليلة الجمعة وهي ليلة الهرير. كل من
الجيشين فيه من الشجاعة والصبر ما ليس يوجد في الدنيا مثله، وَلِهَذَا
لَمْ يَفِرَّ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، بَلْ صَبَرُوا حَتَّى قُتِلَ مِنَ
الْفَرِيقَيْنِ فِيمَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ سَبْعُونَ أَلْفًا.
خَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ أَلْفًا مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، وَخَمْسَةٌ
وَعِشْرُونَ أَلْفًا مِنْ أهل العراق. قاله غير واحد منهم ابن سيرين
وسيف وغيره. وزاد أبو الحسن ابن الْبَرَاءِ- وَكَانَ فِي أَهْلِ
الْعِرَاقِ- خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ بَدْرِيًّا، قَالَ: وَكَانَ
بَيْنَهُمْ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ تِسْعُونَ زَحْفًا وَاخْتَلَفَا فِي
مُدَّةِ الْمُقَامِ بِصِفِّينَ فَقَالَ سَيْفٌ: سَبْعَةُ أَشْهُرٍ أَوْ
تِسْعَةُ أَشْهُرٍ. وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْبَرَاءِ مِائَةٌ
وَعَشَرَةُ أَيَّامٍ. قُلْتُ: وَمُقْتَضَى كَلَامِ أَبِي مِخْنَفٍ
أَنَّهُ كَانَ مِنْ مُسْتَهَلِّ ذِي الْحِجَّةِ فِي يَوْمِ الجمعة
لثلاث عشرة خلت من صفر وذلك سبعة وَسَبْعُونَ يَوْمًا فاللَّه
أَعْلَمُ، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: بَلَغَنِي أَنَّهُ كَانَ يُدْفَنُ فِي
الْقَبْرِ الْوَاحِدِ خَمْسُونَ نَفْسًا. هَذَا كُلُّهُ مُلَخَّصٌ مِنْ
كَلَامِ ابْنِ جرير وابن الجوزي في الْمُنْتَظَمِ وَقَدْ رَوَى
الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ يَعْقُوبَ بْنِ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي
الْيَمَانِ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَمْرٍو كَانَ أَهْلُ الشَّامِ
سِتِّينَ أَلْفًا فَقُتِلَ مِنْهُمْ عِشْرُونَ أَلْفًا، وَكَانَ أَهْلُ
الْعِرَاقِ مِائَةً وَعِشْرِينَ أَلْفًا فَقُتِلَ مِنْهُمْ أَرْبَعُونَ
أَلْفًا. وَحَمَلَ الْبَيْهَقِيُّ هَذِهِ الْوَقْعَةَ عَلَى الْحَدِيثِ
الَّذِي أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ
الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ ورواه البخاري من حديث شُعَيْبٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ
أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هريرة، ومن حديث شُعَيْبٌ عَنْ أَبِي
الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا
تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَقْتَتِلَ فِئَتَانِ عَظِيمَتَانِ يُقْتَلُ
بَيْنَهُمَا مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ وَدَعْوَاهُمَا وَاحِدَةٌ» .
وَرَوَاهُ مُجَالِدٌ عَنْ أَبِي الْحَوَارِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
مَرْفُوعًا مِثْلَهُ وَرَوَاهُ الثَّوْرِيُّ عَنِ ابْنِ جُدْعَانَ عَنْ
أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ. قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى
تَقْتَتِلَ فِئَتَانِ عَظِيمَتَانِ دعوتهما واحدة فبينما هم كذلك مرق
مِنْهُمَا مَارِقَةٌ تَقْتُلُهُمْ أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ
بِالْحَقِّ» وَقَدْ تقدم ما رواه الامام أحمد عن مهدي وإسحاق عن سفيان
عن منصور عن ربعي بن خراش عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ نَاجِيَةَ
الْكَاهِلِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ رَحَى الْإِسْلَامِ
سَتَزُولُ لِخَمْسٍ وَثَلَاثِينَ أَوْ سِتٍّ
(7/274)
وَثَلَاثِينَ، فَإِنْ يَهْلَكُوا فَسَبِيلُ
مَنْ هَلَكَ، وَإِنْ يَقُمْ لَهُمْ دِينُهُمْ يَقُمْ لَهُمْ سَبْعِينَ
عَامًا، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمِمَّا مَضَى أَمْ
مِمَّا بَقِيَ؟ قَالَ: بَلْ مِمَّا بَقِيَ» . وَقَدْ رَوَاهُ
إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ دِيزِيلَ في كتاب جمعه في سيرة على
عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ الْفَضْلِ بْنِ دُكَيْنٍ عَنْ شَرِيكٍ عَنْ
مَنْصُورٍ بِهِ مِثْلَهُ. وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ
ثَنَا شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّخَعِيُّ عَنْ مجالد عن عامر
الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ. قَالَ قَالَ لَنَا
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنْ رَحَى
الْإِسْلَامِ سَتَزُولُ بَعْدَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً فَإِنْ
يَصْطَلِحُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ يَأْكُلُوا الدُّنْيَا سَبْعِينَ
عَامًا رَغَدًا، وَإِنْ يَقْتَتِلُوا يَرْكَبُوا سَنَنَ مَنْ كَانَ
قَبْلَهُمْ» وَقَالَ ابْنُ دِيزِيلَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عُمَرَ ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خِرَاشٍ الشَيْبَانَيُّ عَنِ
الْعَوَّامِ بْنِ حوشب عن إبراهيم التميمي. قَالَ قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَدُورُ رَحَى
الْإِسْلَامِ عِنْدَ قَتْلِ رَجُلٍ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ» - يَعْنِي
عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عنه- وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا الْحَكَمُ
عَنْ نَافِعٍ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَمْرٍو عَنِ الْأَشْيَاخِ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُعِيَ إِلَى
جِنَازَةِ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ- وَهُوَ قَاعِدٌ ينتظرها-
«كيف أنتم إذا راعيتم حملين [كذا] في الإسلام؟
قال أبو بكر: أَوَ يَكُونُ ذَلِكَ فِي أُمَّةٍ إِلَهُهَا وَاحِدٌ
ونبيها واحد؟ قال: نعم! قال: أَفَأُدْرِكُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟
قَالَ: لَا! قَالَ عُمَرُ: أَفَأُدْرِكُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟
قَالَ: لَا! قَالَ عُثْمَانُ: أَفَأُدْرِكُ ذَلِكَ يَا رسول الله؟
قال: نعم! بك يفتنون» وقال أيضا عمر لابن عباس: كيف يختلفون وإلههم
واحد وكتابهم واحد وملتهم واحدة؟ فقال: إنه سيجيء قوم لا يفهمون القرآن
كما نفهمه، فيختلفون فيه فإذا اختلفوا فيه اقتتلوا. فأقر عمر بن الخطاب
بِذَلِكَ. وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ ثَنَا سَعِيدُ
بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ- أَخُو أَبِي حَمْزَةَ- ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
سِيرِينَ قَالَ: لَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ قَالَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ:
لَا يَنْتَطِحُ فِي قَتْلِهِ عَنْزَانِ. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ
صِفِّينَ فُقِئَتْ عَيْنُهُ فَقِيلَ: لَا يَنْتَطِحُ فِي قَتْلِهِ
عَنْزَانِ، فَقَالَ: بَلَى وَتُفْقَأُ عُيُونٌ كَثِيرَةٌ. وَرُوِيَ
عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ أَنَّهُ مَرَّ بِصِفِّينَ فَرَأَى
حِجَارَتَهَا فَقَالَ: لَقَدِ اقْتَتَلَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بَنُو
إِسْرَائِيلَ تِسْعَ مَرَّاتٍ، وَإِنَّ الْعَرَبَ سَتَقْتَتِلُ فِيهَا
الْعَاشِرَةَ، حَتَّى يَتَقَاذَفُوا بِالْحِجَارَةِ الَّتِي تَقَاذَفَ
فيها بَنُو إِسْرَائِيلَ وَيَتَفَانَوْا كَمَا تَفَانَوْا. وَقَدْ
ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: «سَأَلْتُ رَبِّي أَنْ لَا يُهْلِكَ أُمَّتِي
بِسِنَةٍ عَامَّةٍ فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لا يسلط عليهم
عدوا من سواهم فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ فَأَعْطَانِيهَا،
وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يُسَلِّطُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ
فَمَنَعَنِيهَا» ذَكَرْنَا ذَلِكَ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلُهُ تَعَالَى
أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ 6: 65
قال رسول الله: هَذَا أَهْوَنُ.
قِصَّةُ التَّحْكِيمِ
ثُمَّ تَرَاوَضَ الْفَرِيقَانِ بَعْدَ مُكَاتَبَاتٍ وَمُرَاجَعَاتٍ
يَطُولُ ذِكْرُهَا عَلَى التَّحْكِيمِ، وَهُوَ أَنْ يُحَكِّمَ كُلُّ
وَاحِدٍ مِنَ الْأَمِيرَيْنِ- عَلِيٌّ وَمُعَاوِيَةُ- رَجُلًا مِنْ
جِهَتِهِ. ثُمَّ يَتَّفِقَ الحكمان على ما فيه مصلحة لِلْمُسْلِمِينَ.
فَوَكَّلَ مُعَاوِيَةُ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، وَأَرَادَ عَلِيٌّ أَنْ
يُوَكِّلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ- وليته فعل-
(7/275)
ولكنه منعه القراء مِمَّنْ ذَكَرْنَا
وَقَالُوا: لَا نَرْضَى إِلَّا بِأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ.
وَذَكَرَ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ فِي كِتَابِ الْخَوَارِجِ لَهُ
أَنَّ أَوَّلَ مَنْ أَشَارَ بِأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ الْأَشْعَثُ
بْنُ قَيْسٍ، وَتَابَعَهُ أهل اليمن، ووصفوه أنه كَانَ يَنْهَى
النَّاسَ عَنِ الْفِتْنَةِ وَالْقِتَالِ، وَكَانَ أَبُو مُوسَى قَدِ
اعْتَزَلَ فِي بَعْضِ أَرْضِ الْحِجَازِ.
قَالَ عَلِيٌّ: فَإِنِّي أَجْعَلُ الْأَشْتَرَ حَكَمًا، فقالوا: وهل
سعر الحرب وشعر الْأَرْضَ إِلَّا الْأَشْتَرُ؟ قَالَ:
فَاصْنَعُوا مَا شِئْتُمْ، فَقَالَ الْأَحْنَفُ لِعَلِيٍّ: وَاللَّهِ
لَقَدْ رَمَيْتَ بِحَجَرٍ إنه لا يصلح هؤلاء الْقَوْمِ إِلَّا رَجُلٌ
مِنْهُمْ، يَدْنُو مِنْهُمْ حَتَّى يصير في أكفهم، ويبتعد حَتَّى
يَصِيرَ بِمَنْزِلَةِ النَّجْمِ، فَإِنْ أَبَيْتَ أَنْ تجعلني حكما
فاجعلني ثانيا وثالثا، فإنه لن يعقد عقدة إلا أحلها، وَلَا يَحُلَّ
عُقْدَةً عَقَدْتُهَا إِلَّا عَقَدْتُ لَكَ أُخْرَى مِثْلَهَا أَوْ
أَحْكَمَ مِنْهَا. قَالَ: فَأَبَوْا إِلَّا أَبَا مُوسَى
الْأَشْعَرِيَّ فَذَهَبَتِ الرُّسُلُ إِلَى أَبِي مُوسَى
الْأَشْعَرِيِّ- وَكَانَ قَدِ اعْتَزَلَ- فَلَمَّا قِيلَ لَهُ إِنَّ
النَّاسَ قَدِ اصْطَلَحُوا قَالَ: الْحَمْدُ للَّه، قِيلَ لَهُ: وَقَدْ
جُعِلْتَ حَكَمًا، فَقَالَ: إِنَّا للَّه وَإِنَّا إِلَيْهِ
رَاجِعُونَ، ثُمَّ أَخَذُوهُ حَتَّى أَحْضَرُوهُ إِلَى عَلِيٍّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ وَكَتَبُوا بَيْنَهُمْ كِتَابًا هَذِهِ صُورَتُهُ.
بِسْمِ الله الرحمن الرحيم هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ عَلِيُّ بْنُ
أَبِي طَالِبٍ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ:
اكْتُبِ اسْمَهُ وَاسْمَ أَبِيهِ، هُوَ أَمِيرُكُمْ وَلَيْسَ
بِأَمِيرِنَا، فَقَالَ الْأَحْنَفُ: لَا تَكْتُبْ إِلَّا أَمِيرَ
المؤمنين، فقال على: امح أمير المؤمنين وَاكْتُبْ هَذَا مَا قَاضَى
عَلَيْهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ثُمَّ اسْتَشْهَدَ عَلِيٌّ
بِقِصَّةِ الْحُدَيْبِيَةِ حين امتنع أهل مكة هَذَا مَا قَاضَى
عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، فَامْتَنَعَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ
ذَلِكَ وَقَالُوا: اكْتُبْ هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ، فكتب الكاتب: هَذَا مَا تَقَاضَى عَلَيْهِ عَلِيُّ
بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَمُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، قَاضَى
عَلِيٌّ عَلَى أَهْلِ الْعِرَاقِ وَمَنْ مَعَهُمْ مِنْ شِيعَتِهِمْ
وَالْمُسْلِمِينَ، وَقَاضَى مُعَاوِيَةُ عَلَى أَهْلِ الشَّامِ وَمَنْ
كَانَ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ إِنَّا نَنْزِلُ
عند حكم الله وكتابه ونحيى ما أحيى الله، وَنُمِيتُ مَا أَمَاتَ
اللَّهُ فَمَا وَجَدَ الْحَكَمَانِ فِي كِتَابِ اللَّهِ- وَهُمَا أَبُو
مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ- عَمِلَا بِهِ وَمَا
لَمْ يَجِدَا فِي كِتَابِ اللَّهِ فَالسُّنَّةُ الْعَادِلَةُ
الْجَامِعَةُ غَيْرُ الْمُتَفَرِّقَةِ ثُمَّ أَخَذَ الْحَكَمَانِ مِنْ
عَلِيٍّ ومعاوية ومن الجندين العهود والمواثيق أَنَّهُمَا آمِنَانِ
عَلَى أَنْفُسِهِمَا وَأَهْلِهِمَا، وَالْأُمَّةُ لَهُمَا أنصار على
الذين يتقاضيان عليه، وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ مِنَ
الطَّائِفَتَيْنِ كِلَيْهِمَا عَهْدُ الله وميثاقه أنهما عَلَى مَا فِي
هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، وَأَجَّلَا الْقَضَاءَ إِلَى رَمَضَانَ وَإِنْ
أَحَبَّا أَنْ يُؤَخِّرَا ذَلِكَ عَلَى تَرَاضٍ مِنْهُمَا، وَكُتِبَ
فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ صَفَرٍ
سَنَةَ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ، عَلَى أَنْ يُوَافِيَ عَلِيٌّ
وَمُعَاوِيَةُ مَوْضِعَ الْحَكَمَيْنِ بِدُومَةِ الْجَنْدَلِ فِي
رَمَضَانَ، وَمَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْحَكَمَيْنِ أَرْبَعُمِائَةٍ
مِنْ أَصْحَابِهِ، فَإِنْ لَمْ يَجْتَمِعَا لِذَلِكَ اجْتَمَعَا مِنَ
الْعَامِ الْمُقْبِلِ بأذرح، وقد ذكر الهيثم في كتابه في الْخَوَارِجِ
أَنَّ الْأَشْعَثَ بْنَ قَيْسٍ لَمَّا ذَهَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ
بِالْكِتَابِ وَفِيهِ: «هَذَا مَا قَاضَى عبد الله على
(7/276)
أمير المؤمنين مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي
سُفْيَانَ» قَالَ مُعَاوِيَةُ: لَوْ كَانَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ
أُقَاتِلْهُ، وَلَكِنْ لِيَكْتُبِ اسْمَهُ وَلِيَبْدَأْ بِهِ قَبْلَ
اسْمِي لِفَضْلِهِ وَسَابِقَتِهِ، فَرَجَعَ إِلَى عَلِيٍّ فَكَتَبَ
كَمَا قَالَ مُعَاوِيَةُ. وَذَكَرَ الْهَيْثَمُ أَنَّ أَهْلَ الشَّامِ
أَبَوْا أَنْ يبدأ بِاسْمِ عَلِيٍّ قَبْلَ مُعَاوِيَةَ، وَبِاسْمِ
أَهْلِ الْعِرَاقِ قبلهم، حتى كتب كتابان كتاب لهؤلاء فيه تقديم معاوية
على على وكتاب آخر لأهل العراق بتقديم اسم على وأهل العراق على معاوية
وأهل الشام وهذه تسمية من شهد على هذا التحكيم مَنْ جَيْشِ عَلِيٍّ:
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، والأشعث ابن قَيْسٍ الْكِنْدِيُّ،
وَسَعِيدُ بْنُ قَيْسٍ الْهَمْدَانِيُّ، وَعَبْدُ الله بن الطفيل
المعافري، وحجر بن يزيد الكندي، وورقاء بن سمى العجليّ، وعبد الله بن
بلال العجليّ، وعقبة بن زياد الأنصاري، ويزيد ابن جحفة التَّمِيمِيُّ،
وَمَالِكُ بْنُ كَعْبٍ الْهَمْدَانِيُّ. فَهَؤُلَاءِ عَشَرَةٌ.
وَأَمَّا مِنَ الشَّامِيِّينَ فَعَشَرَةٌ آخَرُونَ، وَهُمْ أَبُو
الْأَعْوَرِ السُّلَمِيُّ، وَحَبِيبُ بْنُ مَسْلَمَةَ، وَعَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَمُخَارِقُ بْنُ
الْحَارِثِ الزبيدي، ووائل بن علقمة العدوي، وَعَلْقَمَةُ بْنُ يَزِيدَ
الْحَضْرَمِيُّ، وَحَمْزَةُ بْنُ مَالِكٍ الْهَمْدَانِيُّ، وَسُبَيْعُ
بْنُ يَزِيدَ الْحَضْرَمِيُّ، وَعُتْبَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ أَخُو
مُعَاوِيَةَ، وَيَزِيدُ بْنُ الْحُرِّ الْعَبْسِيُّ. وَخَرَجَ
الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ بِذَلِكَ الْكِتَابِ يقرؤه على الناس ويعرضه
على الطَّائِفَتَيْنِ. ثُمَّ شَرَعَ النَّاسُ فِي دَفْنِ قَتْلَاهُمْ
قال الزهري: بلغني أنه دفن فِي كُلِّ قَبْرٍ خَمْسُونَ نَفْسًا،
وَكَانَ عَلِيٌّ قَدْ أَسَرَ جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، فَلَمَّا
أراد الانصراف أطلقهم، وكان مثلهم أو قريب منهم في يد معاوية وكان قد
عزم على قتلهم لظنه أنه قد قتل أسراهم، فلما جاءه أُولَئِكَ الَّذِينَ
أَطْلَقَهُمْ أَطْلَقَ مُعَاوِيَةُ الَّذِينَ فِي يَدِهِ، وَيُقَالُ
إِنَّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ عَمْرُو بن أوس- من الأزد- كَانَ مِنَ
الْأُسَارَى فَأَرَادَ مُعَاوِيَةُ قَتْلَهَ فَقَالَ: امْنُنْ عَلَيَّ
فَإِنَّكَ خَالِي، فَقَالَ: وَيْحَكَ! مِنْ أَيْنَ أَنَا خَالُكَ؟
فَقَالَ: إِنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ زَوْجَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنَا
ابْنُهَا وَأَنْتَ أَخُوهَا وأنت خَالِي، فَأَعْجَبَ ذَلِكَ
مُعَاوِيَةَ وَأَطْلَقَهُ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زِيَادِ
بْنِ أَنْعُمَ- وَذَكَرَ أَهْلَ صِفِّينَ- فَقَالَ: كَانُوا عَرَبًا
يَعْرِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا في الجاهلية فالتقوا في الإسلام معهم على
الحمية وسنة الْإِسْلَامِ، فَتَصَابَرُوا وَاسْتَحْيَوْا مِنَ
الْفِرَارِ، وَكَانُوا إِذَا تَحَاجَزُوا دَخَلَ هَؤُلَاءِ فِي
عَسْكَرِ هَؤُلَاءِ، وَهَؤُلَاءِ في عسكر هؤلاء، فيستخرجون قتلاهم
فيدفنونهم. قَالَ الشَّعْبِيُّ: هُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ، لَقِيَ
بَعْضُهُمْ بعضا فلم يفر أحد من أحد.
خُرُوجِ الْخَوَارِجِ
وَذَلِكَ أَنَّ الْأَشْعَثَ بْنَ قَيْسٍ مَرَّ عَلَى مَلَأٍ مَنْ بَنِي
تَمِيمٍ فَقَرَأَ عليهم الكتاب فقام إليه عروة بن أذينة وهي أمه وهو
عروة بن جرير مِنْ بَنِي رَبِيعَةَ بْنِ حَنْظَلَةَ وَهُوَ أَخُو أبى
بلال بن مرداس بن جرير فَقَالَ: أَتُحَكِّمُونَ فِي دِينِ اللَّهِ
الرِّجَالَ؟ ثُمَّ ضرب بسيفه عجز دابة الأشعث بن قيس، فَغَضِبِ
الْأَشْعَثُ وَقَوْمُهُ، وَجَاءَ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ وجماعة من
رؤسائهم يعتذرون إلى الأشعث بن قيس من ذلك،
(7/277)
قَالَ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ:
وَالْخَوَارِجُ يَزْعُمُونَ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ حَكَّمَ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ وَهْبٍ الراسبي. قلت: وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ وَقَدْ أَخَذَ
هَذِهِ الْكَلِمَةَ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ طَوَائِفُ مِنْ أَصْحَابِ
عَلِيٍّ مِنَ القراء وقالوا: لا حكم إلا للَّه، فسموا المحكية. وتفرق
الناس إلى بلادهم من صفين، وخرج معاوية إلى دمشق بأصحابه، ورجع على إلى
الكوفة على طريق هيت فلما دخل الْكُوفَةَ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ:
ذَهَبَ عَلِيٌّ وَرَجَعَ فِي غَيْرِ شَيْءٍ.
فَقَالَ عَلِيٌّ: لَلَّذِينَ فَارَقْنَاهُمْ خير من هؤلاء وأنشأ يقول:
أخوك الّذي إن أحرجتك ملمة ... من الدهر لم يبرح لبثك راحما
وليس أخوك بالذي إن تشعبت ... عليك أمور ظَلَّ يَلْحَاكَ لَائِمَا
ثُمَّ مَضَى فَجَعَلَ يَذْكُرُ اللَّهَ حَتَّى دَخَلَ قَصْرَ
الْإِمَارَةِ مِنَ الْكُوفَةِ، ولما كان قد قارب دخول الكوفة اعتزل
مَنْ جَيْشِهِ قَرِيبٌ مِنِ- اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا- وَهُمُ
الْخَوَارِجُ، وَأَبَوْا أَنْ يُسَاكِنُوهُ فِي بَلَدِهِ، وَنَزَلُوا
بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ حَرُورَاءُ وَأَنْكَرُوا عَلَيْهِ أَشْيَاءَ
فِيمَا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ ارْتَكَبَهَا، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ عَلِيٌّ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ فَنَاظَرَهُمْ
فَرَجَعَ أَكْثَرُهُمْ وَبَقِيَ بَقِيَّتُهُمْ، فَقَاتَلَهُمْ على بن
أبى طالب وَأَصْحَابُهُ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ وَتَفْصِيلُهُ
قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَؤُلَاءِ
الْخَوَارِجَ هم المشار إليهم في الحديث المتفق على صحته أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَالَ تَمْرُقُ مَارِقَةٌ
عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنَ النَّاسِ- وَفِي رِوَايَةٍ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ، وَفِي رِوَايَةٍ من أمتى- فيقتلها أولى الطائفتين» .
وَهَذَا الْحَدِيثُ لَهُ طُرُقٌ مُتَعَدِّدَةٌ وَأَلْفَاظٌ كَثِيرَةٌ
قال الامام أحمد: حدثنا وكيع وعفان بن الْقَاسِمِ بْنِ الْفَضْلِ عَنْ
أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ.
قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عِنْدَ فُرْقَةٍ من المسلمين تقتلهم أولى
الطائفتين بالحق» رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ شَيْبَانَ بْنِ فَرُّوخٍ عَنْ
الْقَاسِمِ بن محمد بِهِ. وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو
عَوَانَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
«تكون أمتى فرقتين تخرج بينهما مارقة تلى قتلها أولاهما» وَرَوَاهُ
مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ وَدَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ عَنْ
أَبِي نَضْرَةَ بِهِ. وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي
عَدِيٍّ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «ذَكَرَ قوما
يكونون في أمته يخرجون في فرقة مِنَ النَّاسِ، سِيمَاهُمُ التَّحْلِيقُ
هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ- أَوْ مِنْ شَرِّ الْخَلْقِ- يَقْتُلُهُمْ
أَدْنَى الطَّائِفَتَيْنِ من الحق» قال أبو سعيد: فأنتم
قَتَلْتُمُوهُمْ يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ. وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ ثَنَا عَوْفٌ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي
سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ. قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَفْتَرِقُ أُمَّتِي فِرْقَتَيْنِ فَتَمْرُقُ
بَيْنَهُمَا مَارِقَةٌ فَيَقْتُلُهَا أَوْلَى الطائفتين بالحق» ورواه
عَنْ يَحْيَى الْقَطَّانِ عَنْ عَوْفٍ وَهُوَ الْأَعْرَابِيُّ بِهِ
مِثْلَهُ فَهَذِهِ طُرُقٌ مُتَعَدِّدَةٌ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ
الْمُنْذِرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ قِطْعَةَ الْعَبْدِيِّ، وَهُوَ أَحَدُ
الثِّقَاتِ الرُّفَعَاءِ وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ
سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنِ الضحاك
المشرقي عن أبي سعيد بنحوه.
(7/278)
فهذا الحديث من دلائل النبوة إذ قد وقع
الأمر طبق ما أخبر به عليه الصلاة والسلام، وَفِيهِ الْحُكْمُ
بِإِسْلَامِ الطَّائِفَتَيْنِ أَهْلِ الشَّامِ وَأَهْلِ العراق، لا كما
يزعمه فرقة الرافضة والجهلة الطغام، مِنْ تَكْفِيرِهِمْ أَهْلَ
الشَّامِ، وَفِيهِ أَنَّ أَصْحَابَ عَلِيٍّ أَدْنَى الطَّائِفَتَيْنِ
إِلَى الْحَقِّ، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ
وَالْجَمَاعَةِ أَنَّ عَلِيًّا هُوَ المصيب وإن كان معاوية مجتهدا، وهو
مأجور إن شاء الله، ولكن على هو الإمام فَلَهُ أَجْرَانِ كَمَا ثَبَتَ
فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا
اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا اجْتَهَدَ
فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ» وَسَيَأْتِي بَيَانُ كَيْفِيَّةِ قِتَالِ
عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِلْخَوَارِجِ، وَصِفَةُ الْمُخْدَجِ
الّذي أخبر عنه عليه السلام فَوُجِدَ كَمَا أَخْبَرَ فَفَرِحَ بِذَلِكَ
عَلِيٌّ رَضِيَ الله عنه وسجد للشكر.
فصل
قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا رَجَعَ
مِنَ الشَّامِ بَعْدَ وَقْعَةِ صِفِّينَ، ذهب إلى الكوفة، فلما دخلها
انعزل عنه طَائِفَةٌ مِنْ جَيْشِهِ، قِيلَ سِتَّةَ عَشَرَ أَلْفًا وقيل
اثنى عَشَرَ أَلْفًا، وَقِيلَ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ، فَبَايَنُوهُ
وخرجوا عليه وأنكروا أَشْيَاءَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ
بْنَ عَبَّاسٍ فناظرهم فيها ورد عليهم ما توهموه شبهة، وَلَمْ يَكُنْ
لَهُ حَقِيقَةٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فرجع بعضهم واستمر بعضهم على
ضلالهم حتى كان منهم ما سنورده قريبا، وَيُقَالُ إِنَّ عَلِيًّا رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ ذَهَبَ إِلَيْهِمْ فَنَاظَرَهُمْ فِيمَا نَقَمُوا
عَلَيْهِ حَتَّى اسَتَرْجَعَهُمْ عَمَّا كَانُوا عَلَيْهِ، وَدَخَلُوا
مَعَهُ الْكُوفَةَ، ثُمَّ إنهم عاهدوا فنكثوا ما عاهدوا عليه
وَتَعَاهَدُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ عَلَى الْقِيَامِ بِالْأَمْرِ
بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالْقِيَامِ عَلَى
النَّاسِ فِي ذلك ثم تحيزوا إلى موضع يقال له النهروان، وهناك
قَاتَلَهُمْ عَلِيٌّ كَمَا سَيَأْتِي. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عِيسَى الطَّبَّاعُ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ
سُلَيْمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ عن عبد
الله بن عياض بن عمرو القارئ قَالَ:
جَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ فَدَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ وَنَحْنُ
عِنْدَهَا مَرْجِعَهُ مِنَ الْعِرَاقَ ليالي قبل عَلِيٍّ، فَقَالَتْ
لَهُ:
يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ شَدَّادٍ هَلْ أَنْتَ صَادِقِي عَمَّا
أَسْأَلُكَ عَنْهُ؟ فحدثني عن هؤلاء القوم الذين قتلهم على، فقال:
وَمَا لِي لَا أَصْدُقُكِ؟ قَالَتْ: فَحَدِّثْنِي عَنْ قِصَّتِهِمْ،
قَالَ: فَإِنَّ عَلِيًّا لَمَّا كَاتَبَ مُعَاوِيَةَ وحكم الحكمين
خَرَجَ عَلَيْهِ ثَمَانِيَةُ آلَافٍ مِنْ قُرَّاءِ النَّاسِ فَنَزَلُوا
بِأَرْضٍ يُقَالُ لَهَا حَرُورَاءُ مِنْ جَانِبِ الْكُوفَةِ،
وَأَنَّهُمْ عَتَبُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا: انْسَلَخْتَ مِنْ قَمِيصٍ
أَلْبَسَكَهُ اللَّهُ، وَاسْمٍ سَمَّاكَ بِهِ اللَّهُ ثُمَّ
انْطَلَقْتَ فَحَكَّمْتَ فِي دِينِ اللَّهِ وَلَا حُكْمَ إِلَّا للَّه،
فَلَمَّا أَنْ بَلَغَ عَلِيًّا ما عتبوا عليه وفارقوه عليه، أمر
فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَى أَمِيرِ المؤمنين رجل إلا
رجلا قَدْ حَمَلَ الْقُرْآنَ، فَلَمَّا أَنِ امْتَلَأَتِ الدَّارُ مِنْ
قُرَّاءِ النَّاسِ دَعَا بِمُصْحَفِ إِمَامٍ عَظِيمٍ فَوَضَعَهُ بَيْنَ
يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَصُكُّهُ بِيَدِهِ وَيَقُولُ: أَيُّهَا
الْمُصْحَفُ! حَدِّثِ النَّاسِ فَنَادَاهُ النَّاسُ فَقَالُوا:
(7/279)
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا تَسْأَلُ
عَنْهُ إِنَّمَا هُوَ مِدَادٌ فِي وَرَقٍ، وَنَحْنُ نَتَكَلَّمُ بِمَا
رُوِّينَا مِنْهُ، فَمَاذَا تُرِيدُ؟ قَالَ:
أَصْحَابُكُمْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ خَرَجُوا بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ
كِتَابُ اللَّهِ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ فِي امْرَأَةٍ
وَرَجُلٍ:
وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ
وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ الله
بَيْنَهُما 4: 35 فَأُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَعْظَمُ دَمًا وَحُرْمَةً مِنَ امْرَأَةٍ وَرَجُلٍ،
وَنَقِمُوا عَلَيَّ أن كاتب معاوية كتبت عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ،
وَقَدْ جَاءَنَا سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحُدَيْبِيَةَ حِينَ صَالَحَ
قَوْمَهُ قُرَيْشًا فَكَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَقَالَ سُهَيْلُ:
لا أكتب بسم الله الرحمن الرحيم، قال: كيف تكتب؟ «قال اكْتُبْ
بِاسْمِكَ اللَّهمّ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ اكتب فكتب، فقال:
اكْتُبْ هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله، فقال: لو
أعلم أنك رسول الله لم أخالفك، فَكَتَبَ هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قُرَيْشًا، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى
فِي كِتَابِهِ لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ
حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا الله وَالْيَوْمَ الْآخِرَ 33: 21
فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ فَخَرَجْتُ معه حتى
إذا توسطت عسكرهم فقام ابن الكواء فخطب النَّاسَ فَقَالَ يَا حَمَلَةَ
الْقُرْآنِ هَذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ فَمَنْ لَمْ يَكُنْ
يَعْرِفُهُ فأنا أعرفه مِمَّنْ يُخَاصِمُ فِي كِتَابِ اللَّهِ بِمَا
لَا يَعْرِفُهُ، هَذَا مِمَّنْ نَزَلَ فِيهِ وَفِي قَوْمِهِ (بل هم قوم
خصمون) فَرُدُّوهُ إِلَى صَاحِبِهِ وَلَا تُوَاضِعُوهُ كِتَابَ
اللَّهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَاللَّهِ لَنُوَاضِعَنَّهُ فَإِنْ جَاءَ
بِحَقٍّ نعرفه لنتبعنه وإن جاء بباطل لنكبتنه بِبَاطِلِهِ، فَوَاضَعُوا
عَبْدَ اللَّهِ الْكِتَابَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَرَجَعَ مِنْهُمْ
أَرْبَعَةُ آلَافٍ كُلُّهُمْ تَائِبٌ، فِيهِمُ ابْنُ الْكَوَّاءِ،
حَتَّى أَدْخَلَهُمْ عَلَى عَلِيٍّ الْكُوفَةَ، فَبَعَثَ عَلِيٌّ إِلَى
بَقِيَّتِهِمْ فَقَالَ: قَدْ كَانَ مِنْ أَمْرِنَا وَأَمْرِ النَّاسِ
مَا قَدْ رَأَيْتُمْ، فَقِفُوا حَيْثُ شِئْتُمْ حَتَّى تَجْتَمِعَ
أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَنَا
وَبَيْنَكُمْ أَنْ لَا تَسْفِكُوا دَمًا حَرَامًا أَوْ تَقْطَعُوا
سَبِيلًا أَوْ تَظْلِمُوا ذِمَّةً فَإِنَّكُمْ إِنْ فَعَلْتُمْ فَقَدْ
نَبَذْنَا إِلَيْكُمُ الْحَرْبَ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا
يُحِبُّ الْخائِنِينَ 8: 58 فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: يَا ابْنَ
شَدَّادٍ فَقَتَلَهُمْ فقالوا والله ما بعثت إِلَيْهِمْ حَتَّى
قَطَعُوا السَّبِيلَ وَسَفَكُوا الدِّمَاءَ وَاسْتَحَلُّوا أهل الذمة،
فقالت الله، قال: الله لا إله إلا هو قد كَانَ ذَلِكَ! قَالَتْ: فَمَا
شَيْءٌ بَلَغَنِي عَنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ يَقُولُونَ ذُو الثُّدَيِّ
وَذُو الثُّدَيَّةِ؟ قال: قد رأيته وكنت مع على فِي الْقَتْلَى فَدَعَا
النَّاسَ فَقَالَ: أَتَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَمَا أَكْثَرَ مَنْ جَاءَ
يَقُولُ: قَدْ رَأَيْتُهُ في مسجد بنى فلان، وَرَأَيْتُهُ فِي مَسْجِدِ
بَنِي فُلَانٍ يُصَلِّي وَلَمْ يَأْتُوا فِيهِ بِثَبَتٍ يُعْرَفُ
إِلَّا ذَلِكَ. قَالَتْ:
فما قول على حيث قَامَ عَلَيْهِ كَمَا يَزْعُمُ أَهْلُ الْعِرَاقِ؟
قَالَ سَمِعْتُهُ يَقُولُ صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ قَالَتْ: هَلْ
سَمِعْتَ مِنْهُ أَنَّهُ قَالَ غَيْرَ ذَلِكَ؟ قَالَ: اللَّهمّ لَا!
قَالَتْ أَجَلْ! صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، يَرْحَمُ اللَّهُ
عَلِيًّا إِنَّهُ كَانَ لَا يَرَى شَيْئًا يُعْجِبُهُ إِلَّا قَالَ
صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، فَيَذْهَبُ أَهْلُ الْعِرَاقِ يَكْذِبُونَ
عَلَيْهِ وَيَزِيدُونَ عَلَيْهِ فِي الْحَدِيثِ تَفَرَّدَ بِهِ
أَحْمَدُ وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ وَاخْتَارَهُ الضِّيَاءُ فَفِي هَذَا
السِّيَاقِ مَا يَقْتَضِي أن عدتهم كانوا ثَمَانِيَةَ آلَافٍ، لَكِنْ
مِنَ الْقُرَّاءِ، وَقَدْ يَكُونُ وَاطَأَهُمْ عَلَى مَذْهَبِهِمْ
آخَرُونَ مِنْ غَيْرِهِمْ حَتَّى بلغوا
(7/280)
اثْنِي عَشَرَ أَلْفًا، أَوْ سِتَّةَ
عَشَرَ أَلْفًا. وَلَمَّا نَاظَرَهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَجَعَ مِنْهُمْ
أَرْبَعَةُ آلَافٍ وَبَقِيَ بَقِيَّتُهُمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ،
وَقَدْ رَوَاهُ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ عَنْ مُوسَى بْنِ مَسْعُودٍ
عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ عَنْ سِمَاكٍ أَبِي زُمَيْلٍ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ فَذَكَرَ الْقِصَّةَ وَأَنَّهُمْ عَتَبُوا عَلَيْهِ فِي
كَوْنِهِ حَكَّمَ الرجال، وأنه محى اسْمَهُ مِنَ الْإِمْرَةِ،
وَأَنَّهُ غَزَا يَوْمَ الْجَمَلِ فَقَتَلَ الْأَنْفُسَ الْحَرَامَ
وَلَمْ يَقْسِمِ الْأَمْوَالَ وَالسَّبْيَ، فأجاب عن الأولين بما تقدم،
وعن الثالث بما قَالَ: قَدْ كَانَ فِي السَّبْيِ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ
فَإِنْ قُلْتُمْ لَيْسَتْ لَكُمْ بِأُمٍّ فَقَدْ كَفَرْتُمْ، وإن
استحللتم سبى أمهاتكم فَقَدْ كَفَرْتُمْ. قَالَ: فَرَجَعَ مِنْهُمْ
أَلْفَانِ وَخَرَجَ سَائِرُهُمْ فَتَقَاتَلُوا. وَذَكَرَ غَيْرُهُ
أَنَّ ابْنَ عَبَّاسِ لبس حلة لما دخل عليهم، فناظروه في لبسه إياها،
فاحتج بِقَوْلِهِ تَعَالَى قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي
أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ من الرِّزْقِ 7: 32 الآية.
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ عَلِيًّا خَرَجَ بِنَفْسِهِ إِلَى
بَقِيَّتِهِمْ فَلَمْ يَزَلْ يُنَاظِرُهُمْ حَتَّى رَجَعُوا مَعَهُ
إِلَى الْكُوفَةِ وَذَلِكَ يَوْمَ عِيدِ الْفِطْرِ أَوِ الْأَضْحَى
شَكَّ الرَّاوِي فِي ذَلِكَ، ثُمَّ جعلوا يُعَرِّضُونَ لَهُ فِي
الْكَلَامِ وَيُسْمِعُونَهُ شَتْمًا وَيَتَأَوَّلُونَ بتأويل في قوله.
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْخَوَارِجِ
لِعَلِيٍّ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ
عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ من الْخاسِرِينَ 39: 65 فَقَرَأَ عَلِيٌّ
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ
لا يُوقِنُونَ 30: 60. وقد ذكر ابن جرير أن هذا كان وعلى في الخطبة.
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا أَنَّ عَلِيًّا بَيْنَمَا هُوَ
يَخْطُبُ يَوْمًا إِذْ قَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ الْخَوَارِجِ
فَقَالَ: يَا عَلِيُّ أَشْرَكْتَ فِي دِينِ اللَّهِ الرِّجَالَ وَلَا
حُكْمَ إِلَّا للَّه، فَتُنَادُوا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ لَا حُكْمَ
إِلَّا للَّه، لَا حُكْمَ إِلَّا للَّه، فَجَعَلَ عَلِيٌّ يقول: هذه
كلمة حق يراد بِهَا بَاطِلٌ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ لَكُمْ عَلَيْنَا أَنْ
لَا نَمْنَعَكُمْ فَيْئًا مَا دَامَتْ أَيْدِيكُمْ مَعَنَا، وَأَنْ لَا
نَمْنَعَكُمْ مَسَاجِدَ اللَّهِ، وَأَنْ لا نبدأكم بالقتال حتى
تبدءونا. ثُمَّ إِنَّهُمْ خَرَجُوا بِالْكُلِّيَّةِ عَنِ الْكُوفَةِ
وَتَحَيَّزُوا إِلَى النَّهْرَوَانِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ بَعْدَ
حُكْمِ الحكمين.
صفة اجتماع الحكمين أبى موسى وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا بِدُومَةِ الجندل
وذلك فِي شَهْرِ رَمَضَانَ كَمَا تَشَارَطُوا عَلَيْهِ وَقْتَ
التَّحْكِيمِ بِصِفِّينَ، وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ اجْتَمَعُوا فِي
شَعْبَانَ، وَذَلِكَ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا
كَانَ مَجِيءُ رَمَضَانَ بَعَثَ أَرْبَعَمِائَةِ فَارِسٍ مَعَ شُرَيْحِ
بْنِ هَانِئٍ، وَمَعَهُمْ أَبُو مُوسَى، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عَبَّاسٍ، وَإِلَيْهِ الصَّلَاةُ وَبَعَثَ مُعَاوِيَةُ عمرو بن العاص
في أربعمائة فارس من أهل الشام ومنهم عبد الله بن عمر، فتوافوا بدومة
الجندل بأذرح- وهي نصف [المسافة] بين الكوفة والشام، بَيْنَهَا
وَبَيْنَ كُلٍّ مِنَ الْبَلَدَيْنِ تِسْعُ مَرَاحِلَ- وشهد مَعَهُمْ
جَمَاعَةٌ مِنْ رُءُوسِ النَّاسِ، كَعَبْدِ اللَّهِ ابن عمر، وَعَبْدِ
اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، وَعَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ الْمَخْزُومِيِّ.
(7/281)
وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ
الزُّهْرِيِّ وَأَبِي جَهْمِ بْنِ حُذَيْفَةَ. وَزَعَمَ بَعْضُ
النَّاسِ أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ شَهِدَهُمْ أَيْضًا،
وَأَنْكَرَ حُضُورَهُ آخَرُونَ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ عمر
بن سعد خرج إلى أبيه وهو على ماء لبني سليم بالبادية معتزل: فَقَالَ
يَا أَبَهْ: قَدْ بَلَغَكَ مَا كَانَ مِنَ النَّاسِ بِصِفِّينَ، وَقَدْ
حَكَّمَ النَّاسُ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ وَعَمْرَو بْنَ
الْعَاصِ، وَقَدْ شَهِدَهُمْ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فَاشْهَدْهُمْ
فَإِنَّكَ صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَحَدُ أَصْحَابِ الشُّورَى وَلَمْ تَدْخُلْ فِي شَيْءٍ كَرِهَتْهُ
هَذِهِ الْأُمَّةُ فَاحْضُرْ إِنَّكَ أَحَقُّ النَّاسِ بِالْخِلَافَةِ.
فَقَالَ: لَا أَفْعَلُ! إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّهُ سَتَكُونُ فِتْنَةٌ
خَيْرُ النَّاسِ فِيهَا الْخَفِيُّ التَّقِيُّ» وَاللَّهِ لَا أَشْهَدُ
شَيْئًا مِنْ هَذَا الْأَمْرِ أَبَدًا. وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ
أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ عبد الكبير بن عبد
المجيد ثنا بكر بن سمار عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ أَخَاهُ عُمَرَ
انْطَلَقَ إِلَى سَعْدٍ فِي غَنَمٍ لَهُ خَارِجًا مِنَ الْمَدِينَةِ
فَلَمَّا رَآهُ سَعْدٌ قَالَ: أَعُوذُ باللَّه مِنْ شَرِّ هَذَا
الرَّاكِبِ، فَلَمَّا أَتَاهُ قَالَ: يَا أَبَهْ أَرَضِيتَ أَنْ
تَكُونَ أَعْرَابِيًّا فِي غَنَمِكَ وَالنَّاسُ يَتَنَازَعُونَ فِي
الْمُلْكِ بِالْمَدِينَةِ؟ فضرب سعد صدر عمرو قال: اسْكُتْ فَإِنِّي
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
«إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ الْغَنِيَّ الْخَفِيَّ»
وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ. وَقَالَ أَحْمَدُ أَيْضًا:
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَمْرٍو ثَنَا كَثِيرُ بْنُ زَيْدٍ
الْأَسْلَمِيُّ عَنِ الْمُطَّلِبِ عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ عَنْ
أَبِيهِ أَنَّهُ جَاءَهُ ابْنُهُ عَامِرٌ فَقَالَ: يَا أبة: الناس
يقاتلون على الدنيا وأنت هاهنا؟
فَقَالَ: يَا بُنَيَّ أَفِي الْفِتْنَةِ تَأْمُرُنِي أَنْ أَكُونَ
رَأْسًا؟ لَا وَاللَّهِ حَتَّى أُعْطَى سَيْفًا إِنْ ضَرَبْتُ بِهِ
مُؤْمِنًا نَبَا عَنْهُ وَإِنْ ضَرَبْتُ بِهِ كَافِرًا قَتَلْتُهُ،
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
«إِنَّ اللَّهَ يحب الغنى الخفى التقى» وهذا السياق كان عَكْسُ
الْأَوَّلِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ سَعْدٍ اسْتَعَانَ
بِأَخِيهِ عَامِرٍ عَلَى أَبِيهِ لِيُشِيرَ عَلَيْهِ أَنْ يَحْضُرَ
أَمْرَ التَّحْكِيمِ لَعَلَّهُمْ يَعْدِلُونَ عَنْ معاوية وعلى
وَيُوَلُّونَهُ فَامْتَنَعَ سَعْدٌ مِنْ ذَلِكَ وَأَبَاهُ أَشَدَّ
الْإِبَاءِ وَقَنِعَ بِمَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْكِفَايَةِ وَالْخَفَاءِ
كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: قَدْ «أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ
وَرُزِقَ كَفَافًا وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ» وَكَانَ عُمَرُ
بْنُ سَعْدٍ هذا يحب الامارة، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبَهُ حَتَّى
كَانَ هُوَ أمير السَّرِيَّةِ الَّتِي قَتَلَتِ الْحُسَيْنَ بْنَ
عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي
مَوْضِعِهِ، ولو قنع بما كان أبوه عليه لم يكن شيء من ذلك. وللمقصود
أَنَّ سَعْدًا لَمْ يَحْضُرْ أَمْرَ التَّحْكِيمِ وَلَا أَرَادَ ذَلِكَ
وَلَا هَمَّ بِهِ، وَإِنَّمَا حَضَرَهُ مَنْ ذَكَرْنَا. فَلَمَّا
اجْتَمَعَ الْحَكَمَانِ تَرَاوَضَا عَلَى المصلحة للمسلمين، ونظرا فِي
تَقْدِيرِ أُمُورٍ ثُمَّ اتَّفَقَا عَلَى أَنْ يَعْزِلَا عَلِيًّا
وَمُعَاوِيَةَ ثُمَّ يَجْعَلَا الْأَمْرَ شُورَى بَيْنَ النَّاسِ
لِيَتَّفِقُوا عَلَى الْأَصْلَحِ لَهُمْ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ
غَيْرِهِمَا، وَقَدْ أَشَارَ أَبُو مُوسَى بِتَوْلِيَةِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فقال له عمرو: فَوَلِّ ابْنِي عَبْدَ
اللَّهِ فَإِنَّهُ يُقَارِبُهُ فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ وَالزُّهْدِ.
فَقَالَ لَهُ أَبُو مُوسَى: إنك قد غمست ابنك في الفتن مَعَكَ، وَهُوَ
مَعَ ذَلِكَ رَجُلُ صِدْقٍ.
قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ
نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: إِنَّ
هَذَا
(7/282)
الْأَمْرَ لَا يُصْلِحُهُ إِلَّا رَجُلٌ
لَهُ ضِرْسٌ يَأْكُلُ وَيُطْعِمُ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ فِيهِ
غَفْلَةٌ، فقال له ابن الزبير: افْطَنْ وَانْتَبِهْ، فَقَالَ ابْنُ
عُمَرَ: لَا وَاللَّهِ لَا أَرْشُو عَلَيْهَا شَيْئًا أَبَدًا، ثُمَّ
قَالَ: يَا ابْنَ الْعَاصِ إِنَّ الْعَرَبَ قَدْ أَسْنَدَتْ إِلَيْكَ
أَمْرَهَا بَعْدَ مَا تَقَارَعَتْ بِالسُّيُوفِ وَتَشَاكَّتْ
بِالرِّمَاحِ، فَلَا تَرُدَّنَّهُمْ فِي فِتْنَةٍ مِثْلِهَا أَوْ
أَشَدَّ مِنْهَا.
ثُمَّ إِنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ حَاوَلَ أَبَا مُوسَى عَلَى أَنْ
يُقِرَّ مُعَاوِيَةَ وَحْدَهُ عَلَى النَّاسِ فَأَبَى عَلَيْهِ، ثُمَّ
حَاوَلَهُ لِيَكُونَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو هُوَ
الْخَلِيفَةُ، فَأَبَى أَيْضًا، وَطَلَبَ أَبُو مُوسَى مِنْ عَمْرٍو
أَنْ يُوَلِّيَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ فامتنع عَمْرٌو أَيْضًا،
ثُمَّ اصْطَلَحَا عَلَى أَنْ يَخْلَعَا مُعَاوِيَةَ وَعَلِيًّا
وَيَتْرُكَا الْأَمْرَ شُورَى بَيْنَ النَّاسِ لِيَتَّفِقُوا عَلَى
مَنْ يَخْتَارُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ جَاءَا إِلَى الْمَجْمَعِ
الَّذِي فِيهِ النَّاسُ- وَكَانَ عَمْرٌو لَا يَتَقَدَّمُ بَيْنَ
يَدَيْ أَبِي مُوسَى بَلْ يُقَدِّمُهُ فِي كُلِّ الْأُمُورِ أَدَبًا
وَإِجْلَالًا-، فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا مُوسَى قُمْ فَأَعْلِمِ
النَّاسَ بِمَا اتَّفَقْنَا عَلَيْهِ، فَخَطَبَ أَبُو مُوسَى النَّاسَ
فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ صَلَّى عَلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا
النَّاسُ إِنَّا قَدْ نَظَرْنَا فِي أَمْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَلَمْ
نَرَ أَمْرًا أَصْلَحَ لها ولا ألم لشعثها من رأى اتَّفَقْتُ أَنَا
وَعَمْرٌو عَلَيْهِ، وَهُوَ أَنَّا نَخْلَعُ عَلِيًّا وَمُعَاوِيَةَ
وَنَتْرُكُ الْأَمْرَ شُورَى، وَتَسْتَقْبِلُ الْأُمَّةُ هذا الأمر
فيولوا عليهم من أحبوه، وَإِنِّي قَدْ خَلَعْتُ عَلِيًّا
وَمُعَاوِيَةَ. ثُمَّ تَنَحَّى وَجَاءَ عَمْرٌو فَقَامَ مَقَامَهُ
فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ هذا قد قال ما
سَمِعْتُمْ، وَإِنَّهُ قَدْ خَلَعَ صَاحِبَهُ، وَإِنِّي قَدْ خلعته
كَمَا خَلَعَهُ وَأَثْبَتُّ صَاحِبِي مُعَاوِيَةَ فَإِنَّهُ وَلِيُّ
عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَالطَّالِبُ بِدَمِهِ، وَهُوَ أَحَقُّ الناس
بمقامه- وكان عمرو بن العاص رأى أَنَّ تَرْكَ النَّاسِ بِلَا إِمَامٍ
وَالْحَالَةُ هَذِهِ يؤدى إلى مفسدة طويلة عريضة أربى مِمَّا النَّاسُ
فِيهِ مِنَ الِاخْتِلَافِ، فَأَقَرَّ مُعَاوِيَةَ لما رأى ذلك من
المصلحة، وَالِاجْتِهَادُ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ. وَيُقَالُ إِنَّ أَبَا
مُوسَى تكلم معه بِكَلَامِ فِيهِ غِلْظَةٌ وَرَدَّ عَلَيْهِ عَمْرُو
بْنُ الْعَاصِ مِثْلَهُ.
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ شُرَيْحَ بْنَ هَانِئٍ- مُقَدَّمَ جَيْشِ
عَلِيٍّ- وَثَبَ عَلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَضَرَبَهُ بِالسَّوْطِ
وَقَامَ إِلَيْهِ ابْنٌ لِعَمْرٍو فَضَرَبَهُ بِالسَّوْطِ، وَتَفَرَّقَ
النَّاسُ فِي كُلِّ وَجْهٍ إِلَى بِلَادِهِمْ، فَأَمَّا عَمْرٌو
وَأَصْحَابُهُ فَدَخَلُوا عَلَى مُعَاوِيَةَ فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ
بِتَحِيَّةِ الْخِلَافَةِ، وَأَمَّا أَبُو مُوسَى فَاسْتَحْيَى مِنْ
عَلِيٍّ فَذَهَبَ إِلَى مَكَّةَ، وَرَجَعَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَشُرَيْحُ
بْنُ هَانِئٍ إِلَى عَلِيٍّ فَأَخْبَرَاهُ بِمَا فَعَلَ أَبُو مُوسَى
وَعَمْرٌو، فَاسْتَضْعَفُوا رَأْيَ أَبِي مُوسَى وَعَرَفُوا أنه لا
يوازن عمرو بن العاص. فذكر أبو مخنف عن أبى حباب الْكَلْبِيِّ أَنَّ
عَلِيًّا لَمَّا بَلَغَهُ مَا فَعَلَ عَمْرٌو كَانَ يَلْعَنُ فِي
قُنُوتِهِ مُعَاوِيَةَ، وَعَمْرَو بن العاص، وأبا الأعور السلمي، وحبيب
ابن مَسْلَمَةَ، وَالضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ
خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَالْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ، فَلَمَّا بلغ
ذلك معاوية كَانَ يَلْعَنُ فِي قُنُوتِهِ عَلِيًّا وَحَسَنًا
وَحُسَيْنًا وَابْنَ عَبَّاسٍ وَالْأَشْتَرَ النَّخَعِيَّ، وَلَا
يَصِحُّ هَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي قَالَ
الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ: أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ
بْنِ عَبْدَانَ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ الصَّفَّارُ ثَنَا
إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْفَضْلِ ثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ
جَرِيرٍ عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ يَحْيَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
(7/283)
ابن يَزِيدَ وَحَبِيبِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ
سُوِيدِ بْنِ غَفَلَةَ قَالَ: إِنِّي لَأَمْشِي مَعَ عَلَيٍّ بِشَطِّ
الْفُرَاتِ فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ اخْتَلَفُوا فَلَمْ يَزَلِ
اخْتِلَافُهُمْ بَيْنَهُمْ حَتَّى بَعَثُوا حَكَمَيْنِ فَضَلَّا
وَأَضَلَّا، وَإِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ سَتَخْتَلِفُ فَلَا يَزَالُ
اخْتِلَافُهُمْ بَيْنَهُمْ حَتَّى يَبْعَثُوا حَكَمَيْنِ فَيَضِلَّانِ
وَيُضِلَّانِ مَنِ اتَّبَعَهُمَا» فَإِنَّهُ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ
وَرَفْعُهُ مَوْضُوعٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. إِذْ لَوْ كَانَ هَذَا
مَعْلُومًا عِنْدَ عَلِيٍّ لَمْ يُوَافِقْ عَلَى تحكيم الحكمين حتى لا
يكون سببا لا ضلال الناس، كما نطق به هَذَا الْحَدِيثِ. وَآفَةُ هَذَا
الْحَدِيثِ هُوَ زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى وَهُوَ الْكِنْدِيُّ
الْحِمْيَرِيُّ الْأَعْمَى قَالَ ابْنُ مَعِينٍ لَيْسَ بِشَيْءٍ.
ذِكْرُ خُرُوجِ الْخَوَارِجِ مِنَ الْكُوفَةِ وَمُبَارَزَتِهِمْ
عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بالعداوة والمخالفة وقتال على إياهم
وما ورد فيهم مِنَ الْأَحَادِيثِ
لَمَّا بَعَثَ عَلِيٌّ أَبَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْجَيْشِ
إِلَى دُومَةِ الْجَنْدَلِ اشْتَدَّ أَمْرُ الْخَوَارِجِ وَبَالَغُوا
فِي النَّكِيرِ عَلَى عَلِيٍّ وَصَرَّحُوا بِكُفْرِهِ، فَجَاءَ
إِلَيْهِ رَجُلَانِ مِنْهُمْ، وَهَمَا زُرْعَةُ بْنُ الْبُرْجِ
الطَّائِيُّ، وَحُرْقُوصُ بْنُ زُهَيْرٍ السَّعْدِيُّ فَقَالَا: لَا
حُكْمَ إِلَّا للَّه، فَقَالَ عَلِيٌّ: لَا حُكْمَ إِلَّا للَّه،
فَقَالَ له حرقوص: تب من خطيئتك واذهب بِنَا إِلَى عَدُوِّنَا حَتَّى
نُقَاتِلَهُمْ حَتَّى نَلْقَى رَبَّنَا. فَقَالَ عَلِيٌّ: قَدْ
أَرَدْتُكُمْ عَلَى ذَلِكَ فأبيتم، وقد كتبنا بيننا وبين القوم عهودا
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا
عاهَدْتُمْ 16: 91 الآية فَقَالَ لَهُ حُرْقُوصُ:
ذَلِكَ ذَنْبٌ يَنْبَغِي أَنْ تَتُوبَ مِنْهُ، فَقَالَ عَلِيٌّ: مَا
هُوَ بِذَنْبٍ وَلَكِنَّهُ عَجْزٌ مِنَ الرَّأْيِ، وَقَدْ تَقَدَّمْتُ
إِلَيْكُمْ فِيمَا كَانَ مِنْهُ، وَنَهَيْتُكُمْ عَنْهُ، فَقَالَ لَهُ
زُرْعَةُ بْنُ الْبُرْجِ: أَمَا وَاللَّهِ يَا عَلِيُّ لَئِنْ لَمْ
تَدَعْ تَحْكِيمَ الرِّجَالِ فِي كِتَابِ الله لأقاتلنك أطلب بذلك رحمة
الله ورضوانه، فقال على: تَبًّا لَكَ مَا أَشْقَاكَ! كَأَنِّي بِكَ
قَتِيلًا تَسْفِي عَلَيْكَ الرِّيحُ، فَقَالَ: وَدِدْتُ أَنْ قَدْ
كَانَ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: إِنَّكَ لَوْ كُنْتَ مُحِقًّا
كَانَ فِي الْمَوْتِ تَعْزِيَةٌ عَنِ الدُّنْيَا، وَلَكِنَّ
الشَّيْطَانَ قَدِ اسْتَهْوَاكُمْ. فَخَرَجَا مِنْ عنده يحكمان وفشا
فِيهِمْ ذَلِكَ، وَجَاهَرُوا بِهِ النَّاسَ، وَتَعَرَّضُوا لِعَلِيٍّ
فِي خُطَبِهِ وَأَسْمَعُوهُ السَّبَّ وَالشَّتْمَ وَالتَّعْرِيضَ
بِآيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ، وَذَلِكَ أَنَّ عَلِيًّا قَامَ خَطِيبًا فِي
بَعْضِ الْجُمَعِ فَذَكَرَ أَمْرَ الْخَوَارِجِ فَذَمَّهُ وعابه. فقام
جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ كُلٌّ يَقُولُ لَا حُكْمَ إِلَّا للَّه، وَقَامَ
رَجُلٌ مِنْهُمْ وَهُوَ وَاضِعٌ أُصْبُعَهُ فِي أُذُنَيْهِ يَقُولُ:
وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ
أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ من الْخاسِرِينَ 39:
65 فَجَعَلَ عَلِيٌّ يُقَلِّبُ يَدَيْهِ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهُوَ على
المنبر ويقول: حُكْمَ اللَّهِ نَنْتَظِرُ فِيكُمْ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ
لَكُمْ عَلَيْنَا أَنْ لَا نَمْنَعَكُمْ مَسَاجِدَنَا مَا لَمْ
تَخْرُجُوا عَلَيْنَا وَلَا نَمْنَعَكُمْ نَصِيبَكُمْ مِنْ هَذَا
الْفَيْءِ مَا دَامَتْ أَيْدِيكُمْ مَعَ أَيْدِينَا، ولا تقاتلكم
حَتَّى تُقَاتِلُونَا. وَقَالَ أَبُو مِخْنَفٍ عَنْ عَبْدِ الملك عن
أَبِي حُرَّةَ أَنَّ عَلِيًّا لَمَّا بَعَثَ أَبَا مُوسَى لِإِنْفَاذِ
الْحُكُومَةِ اجْتَمَعَ الْخَوَارِجُ فِي مَنْزِلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
وَهْبٍ الرَّاسِبِيِّ فَخَطَبَهُمْ خُطْبَةً بَلِيغَةً زَهَّدَهُمْ فِي
هَذِهِ الدُّنْيَا وَرَغَّبَهُمْ فِي الآخرة والجنة،
(7/284)
وَحَثَّهُمْ عَلَى الْأَمْرِ
بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، ثُمَّ قَالَ:
فَاخْرُجُوا بِنَا إِخْوَانَنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ
أَهْلُهَا، إِلَى جَانِبِ هَذَا السَّوَادِ إِلَى بَعْضِ كُوَرِ
الْجِبَالِ، أَوْ بَعْضِ هَذِهِ الْمَدَائِنِ، مُنْكِرِينَ لِهَذِهِ
الْأَحْكَامِ الْجَائِرَةِ. ثُمَّ قَامَ حُرْقُوصُ بْنُ زُهَيْرٍ
فَقَالَ بَعْدَ حَمْدِ اللَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ: إِنَّ
الْمَتَاعَ بِهَذِهِ الدُّنْيَا قَلِيلٌ، وإن الفراق لها وشيك، فلا
يدعونكم زينتها أو بهجتها إلى المقام بها، ولا تلتفت بكم عن طلب الحق
وإنكار الظلم ف إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ
هُمْ مُحْسِنُونَ 16: 128 فَقَالَ سِنَانُ بْنُ حَمْزَةَ الْأَسَدِيُّ:
يَا قَوْمُ إِنَّ الرَّأْيَ مَا رَأَيْتُمْ، وَإِنَّ الْحَقَّ مَا
ذَكَرْتُمْ، فَوَلُّوا أَمْرَكُمْ رَجُلًا مِنْكُمْ، فَإِنَّهُ لَا
بُدَّ لَكُمْ مِنْ عِمَادٍ وَسِنَادٍ، وَمِنْ رَايَةٍ تَحُفُّونَ بِهَا
وَتَرْجِعُونَ إِلَيْهَا، فَبَعَثُوا إِلَى زَيْدِ بن حصن الطَّائِيِّ-
وَكَانَ مِنْ رُءُوسِهِمْ- فَعَرَضُوا عَلَيْهِ الْإِمَارَةَ فَأَبَى،
ثُمَّ عَرَضُوهَا عَلَى حُرْقُوصَ بْنَ زُهَيْرٍ فأبى، وعرضوها على
حمزة بن سنان فأبى، وعرضوها على شريح بن أبى أوفى العبسيّ فأبى وعرضوها
عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ الرَّاسِبِيِّ فَقَبِلَهَا وَقَالَ:
أَمَا وَاللَّهِ لَا أَقْبَلُهَا رَغْبَةً فِي الدُّنْيَا وَلَا
أَدَعُهَا فَرَقًا مِنَ الْمَوْتِ. وَاجْتَمَعُوا أيضا في بيت زيد بن
حصن الطَّائِيِّ السِّنْبِسِيِّ فَخَطَبَهُمْ وَحَثَّهُمْ عَلَى
الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَتَلَا
عَلَيْهِمْ آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى يَا
داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ
النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ
الله 38: 26 الآية، وقوله تعالى: وَمن لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ
اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ 5: 44 وكذا التي بعدها وبعدها
الظالمون الفاسقون ثُمَّ قَالَ: فَأَشْهَدُ عَلَى أَهْلِ دَعْوَتِنَا
مِنْ أَهْلِ قِبْلَتِنَا أَنَّهُمْ قَدِ اتَّبَعُوا الْهَوَى،
وَنَبَذُوا حُكْمَ الْكِتَابِ، وَجَارُوا فِي الْقَوْلِ
وَالْأَعْمَالِ، وَأَنَّ جهادهم حق على المؤمنين، فَبَكَى رَجُلٌ
مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سخبرة السُّلَمِيُّ، ثُمَّ
حَرَّضَ أُولَئِكَ عَلَى الْخُرُوجِ عَلَى النَّاسِ، وَقَالَ فِي
كَلَامِهِ:
اضْرِبُوا وُجُوهَهُمْ وَجِبَاهَهُمْ بِالسُّيُوفِ حَتَّى يُطَاعَ
الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، فَإِنْ أَنْتُمْ ظفرتم وأطيع الله كما أردتم
أثابكم ثَوَابَ الْمُطِيعِينَ لَهُ الْعَامِلِينَ بِأَمْرِهِ- وَإِنْ
قُتِلْتُمْ فأى شيء أفضل من المصير إلى رضوان الله وَجَنَّتِهِ؟
قُلْتُ: وَهَذَا الضَّرْبُ مِنَ النَّاسِ مَنْ أَغْرَبَ أَشْكَالِ
بَنِي آدَمَ، فَسُبْحَانَ مَنْ نَوَّعَ خلقه كما أراد، وسبق في قدره
العظيم. وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ فِي الْخَوَارِجِ
إِنَّهُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ هَلْ
نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ
فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ
صُنْعاً.
أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ
أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً 18: 103-
105 وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْجَهَلَةَ الضُّلَّالَ،
وَالْأَشْقِيَاءَ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، اجْتَمَعَ
رَأْيُهُمْ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ،
وَتَوَاطَئُوا عَلَى الْمَسِيرِ إِلَى المدائن ليملكوها على الناس
ويتحصنوا بها ويبعثوا إلى إخوانهم وأضرابهم- ممن هو على رأيهم ومذهبهم،
مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَغَيْرِهَا- فَيُوَافُوهُمْ إِلَيْهَا.
وَيَكُونُ اجتماعهم عليها. فقال لهم زيد بن حصن الطَّائِيُّ: إِنَّ
الْمَدَائِنَ لَا تَقْدِرُونَ عَلَيْهَا، فَإِنَّ بها جيشا لا تطيقونه
وسيمنعونها مِنْكُمْ، وَلَكِنْ وَاعِدُوا إِخْوَانَكُمْ إِلَى جِسْرِ
نَهْرِ جوخى، وَلَا تَخْرُجُوا مِنَ الْكُوفَةِ جَمَاعَاتٍ،
(7/285)
ولكن أخرجوا وحدانا لئلا يفطن بِكُمْ،
فَكَتَبُوا كِتَابًا عَامًّا إِلَى مَنْ هُوَ عَلَى مَذْهَبِهِمْ
وَمَسْلَكِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَغَيْرِهَا وَبَعَثُوا بِهِ
إِلَيْهِمْ لِيُوَافُوهُمْ إِلَى النَّهْرِ لِيَكُونُوا يَدًا
وَاحِدَةً عَلَى النَّاسِ، ثُمَّ خَرَجُوا يَتَسَلَّلُونَ وجدانا
لِئَلَّا يَعْلَمَ أَحَدٌ بِهِمْ فَيَمْنَعُوهُمْ مِنَ الْخُرُوجِ
فخرجوا من بين الآباء والأمهات والأخوال والخالات وَفَارَقُوا سَائِرَ
الْقِرَابَاتِ، يَعْتَقِدُونَ بِجَهْلِهِمْ وَقِلَّةِ عِلْمِهِمْ
وَعَقْلِهِمْ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ يُرْضِي رَبَّ الْأَرْضِ والسموات،
ولم يعلموا أنه من أكبر الكبائر الموبقات، والعظائم والخطيئات، وأنه
مما زينه لهم إبليس الشيطان الرجيم المطرود عن السموات الّذي نصب
العداوة لأبينا آدم ثم لذريته ما دامت أرواحهم في أجسادهم مترددات،
والله المسئول أن يعصمنا منه بحوله وقوته إنه مجيب الدعوات، وقد تدارك
جماعة من الناس بعض أولادهم وإخوانهم فردوهم وأنبوهم وَوَبَّخُوهُمْ
فَمِنْهُمْ مَنِ اسْتَمَرَّ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ
فَرَّ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَحِقَ بِالْخَوَارِجِ فَخَسِرَ إِلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ، وَذَهَبَ الْبَاقُونَ إِلَى ذَلِكَ الموضع ووافى إليهم
من كانوا كتبوا إليه مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَغَيْرِهَا، وَاجْتَمَعَ
الْجَمِيعُ بِالنَّهْرَوَانِ وَصَارَتْ لَهُمْ شَوْكَةٌ وَمَنَعَةٌ،
وَهُمْ جُنْدٌ مُسْتَقِلُّونَ وفيهم شجاعة وعندهم أنهم متقربون بذلك.
فهم لا يصطلى لهم بنار، ولا يطمع في أن يؤخذ مِنْهُمْ بِثَأْرٍ،
وباللَّه الْمُسْتَعَانُ. وَقَالَ أَبُو مِخْنَفٍ عَنْ أَبِي رَوْقٍ
عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ عَلِيًّا لَمَّا خَرَجَتِ الْخَوَارِجُ إِلَى
النَّهْرَوَانِ وَهَرَبَ أَبُو موسى إِلَى مَكَّةَ، وَرَدَّ ابْنَ
عَبَّاسٍ إِلَى الْبَصْرَةِ، قَامَ فِي النَّاسِ بِالْكُوفَةِ خَطِيبًا
فَقَالَ: الْحَمْدُ للَّه وَإِنْ أَتَى الدَّهْرُ بِالْخَطْبِ
الْفَادِحِ، وَالْحَدَثَانِ الجليل الكادح، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ
غَيْرُهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رسول الله، أما بعد فان المعصية تشين
وتسوء وتورث الْحَسْرَةَ، وَتُعْقِبُ النَّدَمَ، وَقَدْ كُنْتُ
أَمَرْتُكُمْ فِي هَذَيْنَ الرَّجُلَيْنِ وَفِي هَذِهِ الْحُكُومَةِ
بِأَمْرِي، وَنَحَلْتُكُمْ رَأْيِي، فَأَبَيْتُمْ إِلَّا مَا
أَرَدْتُمْ، فَكُنْتُ أَنَا وأنتم كما قال أخو هوازن:
بَذَلْتُ لَهُمْ نُصْحِي بِمُنْعَرَجِ اللِّوَى ... فَلَمْ
يَسْتَبِينُوا الرُّشْدَ إِلَّا ضُحَى الْغَدِ
ثُمَّ تَكَلَّمَ فِيمَا فعله الحكمان فرد عليهما ما حكما به وأنبهما،
وقال ما فيه حط عَلَيْهِمَا، ثُمَّ نَدَبَ النَّاسَ إِلَى الْخُرُوجِ
إِلَى الجهاد في أهل الشام، وَعَيَّنَ لَهُمْ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ
يَخْرُجُونَ فِيهِ، وَكَتَبَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَالِى الْبَصْرَةِ
يَسْتَنْفِرُ لَهُ النَّاسَ إِلَى الْخُرُوجِ إِلَى أَهْلِ الشَّامِ،
وَكَتَبَ إِلَى الْخَوَارِجِ يُعْلِمُهُمْ أَنَّ الَّذِي حَكَمَ بِهِ
الْحَكَمَانِ مَرْدُودٌ عَلَيْهِمَا، وَأَنَّهُ قَدْ عَزَمَ عَلَى
الذهاب إلى الشَّامِ، فَهَلُمُّوا حَتَّى نَجْتَمِعَ عَلَى
قِتَالِهِمْ. فَكَتَبُوا إِلَيْهِ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّكَ لَمْ
تَغْضَبْ لِرَبِّكَ، وَإِنَّمَا غَضِبْتَ لِنَفْسِكَ وَإِنْ شَهِدَتْ
عَلَى نَفْسِكَ بِالْكُفْرِ وَاسْتَقْبَلْتَ التَّوْبَةَ نَظَرْنَا
فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ، وَإِلَّا فَقَدَ نَابَذْنَاكَ عَلَى
سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ 8: 58، فَلَمَّا قَرَأَ
عَلِيٌّ كَتَابَهُمْ يَئِسَ مِنْهُمْ وَعَزَمَ عَلَى الذَّهَابِ إِلَى
أَهْلِ الشَّامِ لِيُنَاجِزَهُمْ، وَخَرَجَ مِنَ الْكُوفَةِ إِلَى
النُّخَيْلَةِ فِي عَسْكَرٍ كَثِيفٍ- خَمْسَةٍ وَسِتِّينَ أَلْفًا-
وَبَعَثَ إِلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ وَمِائَتَيْ
فَارِسٍ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ مَعَ جَارِيَةَ بْنِ قُدَامَةَ أَلْفٌ
وَخَمْسُمِائَةٍ، وَمَعَ أبى الأسود
(7/286)
الدؤلي ألف وسبعمائة، فكمل جيش على فِي
ثَمَانِيَةٍ وَسِتِّينَ أَلْفَ فَارِسٍ وَمِائَتَيْ فَارِسٍ وقام على
أمير المؤمنين خطيبا فحثهم على الجهاد والصبر عند لقاء العدو، وهو عازم
على الشام، فبينما هو كذلك إِذْ بَلَغَهُ أَنَّ الْخَوَارِجَ قَدْ
عَاثُوا فِي الأرض فسادا وسفكوا الدماء وقطعوا السبل وَاسْتَحَلُّوا
الْمَحَارِمَ، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ قَتَلُوهُ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ خَبَّابٍ صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، أَسَرُوهُ وَامْرَأَتَهُ مَعَهُ وهي حامل فقالوا: من أنت؟
قال: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَبَّابٍ صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وانكم قَدْ رَوَّعْتُمُونِي
فَقَالُوا: لَا بَأْسَ عَلَيْكَ، حَدِّثْنَا مَا سَمِعْتَ مِنْ أَبِيكَ
فَقَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «سَتَكُونُ فِتْنَةٌ الْقَاعِدُ
فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي،
وَالْمَاشِي خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي» فاقتادوه بِيَدِهِ فَبَيْنَمَا
هُوَ يَسِيرُ مَعَهُمْ إِذْ لَقِيَ بَعْضُهُمْ خِنْزِيرًا لِبَعْضِ
أَهْلِ الذِّمَّةِ فَضَرَبَهُ بَعْضُهُمْ فَشَقَّ جِلْدَهُ فَقَالَ
لَهُ آخَرُ: لِمَ فَعَلْتَ هَذَا وَهُوَ لِذِمِّيٍّ؟ فَذَهَبَ إِلَى
ذَلِكَ الذِّمِّيِّ فاستحله وأرضاه وبينا هُوَ مَعَهُمْ إِذْ سَقَطَتْ
تَمْرَةٌ مِنْ نَخْلَةٍ فَأَخَذَهَا أَحَدُهُمْ فَأَلْقَاهَا فِي
فَمِهِ، فَقَالَ لَهُ آخَرُ: بِغَيْرِ إِذْنٍ وَلَا ثَمَنٍ؟
فَأَلْقَاهَا ذَاكَ مِنْ فَمِهِ، وَمَعَ هَذَا قَدَّمُوا عَبْدَ
اللَّهِ بْنَ خَبَّابٍ فَذَبَحُوهُ، وَجَاءُوا إِلَى امْرَأَتِهِ
فَقَالَتْ: إني امرأة حبلى، ألا تتقون الله، فَذَبَحُوهَا وَبَقَرُوا
بَطْنَهَا عَنْ وَلَدِهَا، فَلَمَّا بَلَغَ النَّاسَ هَذَا مِنْ
صَنِيعِهِمْ خَافُوا إِنْ هُمْ ذهبوا إلى الشام واشتغلوا بقتال أهله أن
يخلفهم هؤلاء في ذراريهم وديارهم بهذا الصنع، فَخَافُوا غَائِلَتَهُمْ،
وَأَشَارُوا عَلَى عَلِيٍّ بِأَنْ يَبْدَأَ بهؤلاء، ثم إذا فرغ منهم
ذهب إلى أهل الشام بعد ذلك والناس آمنون من شر هؤلاء فَاجْتَمَعَ
الرَّأْيُ عَلَى هَذَا وَفِيهِ خِيَرَةٌ عَظِيمَةٌ لهم ولأهل الشام
أيضا فأرسل على إلى الخوارج رسولا من جهته وهو الحرب بن مرة العبديّ،
فقال: اخْبُرْ لِي خَبَرَهُمْ، وَاعْلَمْ لِي أَمْرَهُمْ وَاكْتُبْ
إِلَيَّ بِهِ عَلَى الْجَلِيَّةِ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِمُ
قَتَلُوهُ وَلَمْ يُنْظِرُوهُ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ عَلِيًّا عزم
على الذهاب إليهم أولا قبل أَهْلَ الشَّامِ.
ذِكْرُ مَسِيرِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
إِلَى الْخَوَارِجِ
لَمَّا عَزَمَ عَلِيٌّ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْجَيْشِ عَلَى
الْبَدَاءَةِ بِالْخَوَارِجِ، نَادَى مُنَادِيهِ فِي النَّاسِ
بِالرَّحِيلِ فَعَبَرَ الْجِسْرَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ عِنْدِهِ ثُمَّ
سَلَكَ عَلَى دَيْرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، ثُمَّ دَيْرِ أَبِي مُوسَى،
ثُمَّ عَلَى شَاطِئِ الْفُرَاتِ، فَلَقِيَهُ هُنَالِكَ مُنَجِّمٌ
فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِوَقْتٍ مِنَ النَّهَارِ يَسِيرُ فِيهِ ولا يسير
في غيره، فإنه يخشى عليه فخالفه على فسار على خلاف ما قال فأظفره الله،
وَقَالَ عَلِيٌّ: إِنَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أُبَيِّنَ لِلنَّاسِ خطأه
وخشيت أن يقول جاهل، إنما ظفر لكونه وافقه، وَسَلَكَ عَلِيٌّ نَاحِيَةَ
الْأَنْبَارِ وَبَعَثَ بَيْنَ يَدَيْهِ قيس ابن سعد، وأمره أن يأتى
المدائن وأن يتلقاه بِنَائِبِهَا سَعْدِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَهُوَ أَخُو
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيِّ- فِي جَيْشِ الْمَدَائِنِ
فَاجْتَمَعَ النَّاسُ هُنَالِكَ عَلَى عَلِيٍّ، وَبَعَثَ إِلَى
الْخَوَارِجِ: أَنِ ادْفَعُوا إِلَيْنَا قَتَلَةَ إِخْوَانِنَا
مِنْكُمْ حتى أقتلهم ثم أنا تارككم وذاهب إلى العرب- يعنى أهل
الشَّامِ- ثُمَّ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُقْبِلَ بِقُلُوبِكُمْ
وَيَرُدَّكُمْ إِلَى خَيْرٍ مِمَّا أَنْتُمْ عَلَيْهِ. فَبَعَثُوا إلى
على يَقُولُونَ: كُلُّنَا قَتَلَ إِخْوَانَكُمْ وَنَحْنُ
(7/287)
مُسْتَحِلُّونَ دِمَاءَهُمْ وَدِمَاءَكُمْ.
فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ قَيْسُ بْنُ سعد بن عبادة فوعظهم فيما ارتكبوه
مِنَ الْأَمْرِ الْعَظِيمِ، وَالْخَطْبِ الْجَسِيمِ، فَلَمْ يَنْفَعْ
وكذلك أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ أَنَّبَهُمْ وَوَبَّخَهُمْ
فَلَمْ يَنْجَعْ، وَتَقَدَّمَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ
أَبِي طَالِبٍ إليهم فوعظهم وخوفهم وحذرهم وأنذرهم وَتَوَعَّدَهُمْ
وَقَالَ: إِنَّكُمْ أَنْكَرْتُمْ عَلَيَّ أَمْرًا أَنْتُمْ دعوتموني
إليه فَنَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَلَمْ تَقْبَلُوا وَهَا أَنَا وَأَنْتُمْ
فارجعوا إلى ما خرجتم منه ولا ترتكبوا مَحَارِمَ اللَّهِ فَإِنَّكُمْ
قَدْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا تَقْتُلُونَ عَلَيْهِ
الْمُسْلِمِينَ، وَاللَّهِ لَوْ قَتَلْتُمْ عَلَيْهِ دَجَاجَةً لَكَانَ
عَظِيمًا عِنْدَ اللَّهِ، فَكَيْفَ بِدِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ؟ فَلَمْ
يَكُنْ لَهُمْ جَوَابٌ إِلَّا أن تنادوا فِيمَا بَيْنَهُمْ أَنْ لَا
تُخَاطِبُوهُمْ وَلَا تُكَلِّمُوهُمْ وَتَهَيَّئُوا لِلِقَاءِ الرَّبِّ
عَزَّ وَجَلَّ، الرَّوَاحَ الرَّوَاحَ إِلَى الْجَنَّةِ. وَتَقَدَّمُوا
فَاصْطَفُّوا لِلْقِتَالِ وَتَأَهَّبُوا لِلنِّزَالِ فجعلوا على
ميمنتهم زيد بن حصن الطَّائِيَّ السِّنْبِسِيَّ، وَعَلَى الْمَيْسَرَةِ
شُرَيْحَ بْنَ أَوْفَى، وَعَلَى خَيَّالَتِهِمْ حَمْزَةَ بْنَ سِنَانٍ،
وَعَلَى الرَّجَّالَةِ حُرْقُوصَ بْنَ زُهَيْرٍ السَّعْدِيَّ.
وَوَقَفُوا مُقَاتِلِينَ لِعَلِيٍّ وَأَصْحَابِهِ. وَجَعَلَ عَلِيٌّ
عَلَى مَيْمَنَتِهِ حُجْرَ بْنَ عدي، وعلى الميسرة شبيث بن ربعي ومعقل
بن قيس الرياحي، وعلى الخيل أَبَا أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيَّ، وَعَلَى
الرَّجَّالَةِ أَبَا قَتَادَةَ الأنصاري، وعلى أهل المدينة- وكانوا في
سَبْعَمِائَةٍ- قَيْسَ بْنَ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، وَأَمَرَ عَلِيٌّ
أَبَا أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيَّ أَنْ يَرْفَعَ رَايَةَ أَمَانٍ
لِلْخَوَارِجِ وَيَقُولَ لَهُمْ: مَنْ جَاءَ إِلَى هَذِهِ الرَّايَةِ
فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنِ انْصَرَفَ إِلَى الْكُوفَةِ وَالْمَدَائِنِ
فَهُوَ آمِنٌ، إِنَّهُ لَا حَاجَةَ لنا فيكم إلا فيمن قَتَلَ
إِخْوَانَنَا، فَانْصَرَفَ مِنْهُمْ طَوَائِفُ كَثِيرُونَ- وَكَانُوا
فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ- فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا أَلْفٌ أَوْ
أَقَلُّ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ الرَّاسِبِيِّ، فَزَحَفُوا
إِلَى عَلِيٍّ فَقَدَّمَ عَلِيٌّ بَيَنَ يَدَيْهِ الْخَيْلَ وَقَدَّمَ
مِنْهُمُ الرُّمَاةَ وَصَفَّ الرَّجَّالَةَ وَرَاءَ الْخَيَّالَةِ،
وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: كُفُّوا عَنْهُمْ حتى يبدؤكم، وأقبلت الخوارج
يَقُولُونَ: لَا حُكْمَ إِلَّا للَّه، الرَّوَاحَ الرَّوَاحَ إِلَى
الْجَنَّةِ، فَحَمَلُوا عَلَى الْخَيَّالَةِ الَّذِينَ قَدَّمَهُمْ
عَلِيٌّ، فَفَرَّقُوهُمْ حَتَّى أَخَذَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْخَيَّالَةِ
إِلَى الْمَيْمَنَةِ، وَأُخْرَى إِلَى الْمَيْسَرَةِ،
فَاسْتَقْبَلَتْهُمُ الرُّمَاةُ بِالنَّبْلِ، فَرَمَوْا وُجُوهَهُمْ،
وَعَطَفَتْ عَلَيْهِمُ الْخَيَّالَةُ مِنَ الْمَيْمَنَةِ،
وَالْمَيْسَرَةِ وَنَهَضَ إِلَيْهِمُ الرِّجَالُ بِالرِّمَاحِ
وَالسُّيُوفِ فَأَنَامُوا الْخَوَارِجَ فَصَارُوا صَرْعَى تَحْتَ
سَنَابِكِ الْخُيُولِ، وَقُتِلَ أُمَرَاؤُهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
وَهْبٍ، وَحُرْقُوصُ بْنُ زُهَيْرٍ، وَشُرَيْحُ بْنُ أَوْفَى، وَعَبْدُ
اللَّهِ بن سخبرة السُّلَمِيُّ، قَبَّحَهُمُ اللَّهُ. قَالَ أَبُو
أَيُّوبَ: وَطَعَنْتُ رَجُلًا مِنَ الْخَوَارِجِ بِالرُّمْحِ
فَأَنْفَذْتُهُ مِنْ ظَهْرِهِ وَقُلْتُ لَهُ: أَبْشِرْ يَا عَدُوَّ
اللَّهِ بِالنَّارِ، فقال:
ستعلم أينا أَيُّنَا أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا. قَالُوا: وَلَمْ يُقْتَلْ
مِنْ أَصْحَابِ عَلِيٍّ إِلَّا سَبْعَةُ نَفَرٍ وَجَعَلَ عَلِيٌّ
يَمْشِي بَيْنَ الْقَتْلَى مِنْهُمْ وَيَقُولُ: بُؤْسًا لَكُمْ! لَقَدْ
ضَرَّكُمْ مَنْ غَرَّكُمْ، فَقَالُوا: يَا أمير المؤمنين ومن غيرهم؟
قَالَ: الشَّيْطَانُ وَأَنْفُسٌ بِالسُّوءِ أَمَّارَةٌ، غَرَّتْهُمْ
بِالْأَمَانِيِّ وَزَيَّنَتْ لَهُمُ الْمَعَاصِيَ، وَنَبَّأَتْهُمْ
أَنَّهُمْ ظَاهِرُونَ ثُمَّ أَمَرَ بِالْجَرْحَى مِنْ بَيْنِهِمْ
فَإِذَا هُمْ أَرْبَعُمِائَةٍ، فَسَلَّمَهُمْ إِلَى قَبَائِلِهِمْ
لِيُدَاوُوهُمْ، وَقَسَمَ مَا وَجَدَ مِنْ سِلَاحٍ وَمَتَاعٍ لَهُمْ.
وَقَالَ الْهَيْثَمُ بْنُ عدي في كتاب الخوارج: وحدثنا مُحَمَّدُ بْنُ
قَيْسٍ الْأَسَدِيُّ وَمَنْصُورُ بْنُ دِينَارٍ عن عبد الملك
(7/288)
ابن مَيْسَرَةَ عَنِ النَّزَّالِ بْنِ
سَبْرَةَ أَنَّ عَلِيًّا لَمْ يُخَمِّسْ مَا أَصَابَ مِنَ الْخَوَارِجِ
يَوْمَ النهروان ولكن رده إلى أهله كُلَّهُ حَتَّى كَانَ آخِرَ ذَلِكَ
مِرْجَلٌ أُتِيَ بِهِ فَرَدَّهُ. وَقَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: حَدَّثَنِي
عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي حُرَّةَ أَنَّ عَلِيًّا خَرَجَ فِي طَلَبِ
ذِى الثُّدَيَّةِ وَمَعَهُ سُلَيْمَانُ بْنُ ثمامة الحنفي أبو حرة
والريان بن صبرة بن هوذة فوجده الرياني فِي حُفْرَةٍ عَلَى جَانِبِ
النَّهْرِ فِي أَرْبَعِينَ أو خمسين قتيلا، قال: فلما استخرج نَظَرَ
إِلَى عَضُدِهِ فَإِذَا لَحْمٌ مُجْتَمِعٌ عَلَى منكبه كثدي المرأة له
حلمة عَلَيْهَا شَعَرَاتٌ سُودٌ، فَإِذَا مُدَّتِ امْتَدَّتْ حَتَّى
تحاذي يده الأخرى ثم تنزل فَتَعُودُ إِلَى مَنْكِبِهِ كَثَدْيِ
الْمَرْأَةِ، فَلَمَّا رَآهُ على قال: أما والله ما كذبت لولا أن
تتكلوا على العمل لأخبرتكم بما قضى الله فِي قِتَالِهِمْ عَارِفًا
لِلْحَقِّ. وَقَالَ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ فِي كِتَابِهِ فِي
الْخَوَارِجِ: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بن ربيعة الأخنسي عن نافع بن
مسلمة الأخنسي قال كان ذو الثدية رجلا من عرنة مِنْ بَجِيلَةَ، وَكَانَ
أَسْوَدَ شَدِيدَ السَّوَادِ، لَهُ ريح منتنة معروف في العسكر، وكان
يرافقنا قبل ذَلِكَ وَيُنَازِلُنَا وَنُنَازِلُهُ. وَحَدَّثَنِي أَبُو
إِسْمَاعِيلَ الْحَنَفِيُّ عَنِ الرَّيَّانِ بْنِ صِبْرَةَ
الْحَنَفِيِّ. قَالَ: شَهِدْنَا النَّهْرَوَانَ مَعَ عَلِيٍّ، فَلَمَّا
وَجَدَ الْمُخْدَجَ سَجَدَ سجدة طويلة. وَحَدَّثَنِي سُفْيَانُ
الثَّوْرِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ الْهَمْدَانِيِّ عَنْ رَجُلٍ
مِنْ قَوْمِهِ يُكَنَّى أَبَا مُوسَى أَنَّ عَلِيًّا لَمَّا وَجَدَ
الْمُخَدَجَ سَجَدَ سجدة طويلة. وَحَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ أَبِي
إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ عن حبة العرني. قال: لما أقبل أهل
النهروان جهل النَّاسُ يَقُولُونَ: الْحَمْدُ للَّه يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ الَّذِي قَطَعَ دَابِرَهُمْ. فَقَالَ عَلِيٌّ: كَلَّا
وَاللَّهِ إِنَّهُمْ لَفِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ وَأَرْحَامِ
النِّسَاءِ، فَإِذَا خرجوا من بين الشرايين فقل ما يلقون أحدا إلا
ألبوا أَنْ يَظْهَرُوا عَلَيْهِ، قَالَ:
وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ الرَّاسِبِيُّ قَدْ قَحِلَتْ
مَوَاضِعُ السُّجُودِ منه من شدة اجتهاده وكثرة السجود، وكان يقال له:
ذو البينات. وَرَوَى الْهَيْثَمُ عَنْ بَعْضِ الْخَوَارِجِ أَنَّهُ
قَالَ: مَا كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ مِنْ بغضه عليا
يُسَمِّيهِ إِلَّا الْجَاحِدَ. وَقَالَ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ: ثنا
إسماعيل عن خالد عن علقمة بن عامر قَالَ: سُئِلَ عَلِيٌّ عَنْ أَهْلِ
النَّهْرَوَانِ أَمُشْرِكُونَ هُمْ؟ فَقَالَ: مِنَ الشِّرْكِ فَرُّوا،
قِيلَ أَفَمُنَافِقُونَ؟ قَالَ:
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قليلا: فقيل
فماهم يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: إِخْوَانُنَا بَغَوْا
عَلَيْنَا فقاتلناهم ببغيهم علينا. فهذا مَا أَوْرَدَهُ ابْنُ جَرِيرٍ
وَغَيْرُهُ فِي هَذَا المقام.
وَلِنَذْكُرِ الْآنَ مَا وَرَدَ فِيهِمْ مِنَ الْأَحَادِيثِ
الْمَرْفُوعَةِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ
الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ:
عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عنه، ورواه عَنْهُ زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ،
وَسُوَيْدُ بْنُ غَفَلَةَ، وطارق ابن زِيَادٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ
شَدَّادٍ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي رَافِعٍ، وَعَبِيدَةُ بْنُ
عَمْرٍو السُّلْمَانِيُّ، وَكُلَيْبٌ أَبُو عَاصِمٍ، وَأَبُو كَثِيرٍ
وَأَبُو مَرْيَمَ، وأبو موسى، وأبو وائل الوضى فهذه اثنتا عَشْرَةَ
طَرِيقًا إِلَيْهِ سَتَرَاهَا بِأَسَانِيدِهَا وَأَلْفَاظِهَا وَمِثْلُ
هَذَا يَبْلُغُ حَدَّ التَّوَاتُرِ.
(7/289)
الطريق الأولى
قَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا عبد بن
حميد ثنا عبد الرزاق عن همام ثنا عبد الملك ابن أَبِي سُلَيْمَانَ
ثَنَا سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ حَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ
الْجُهَنِيُّ أَنَّهُ كَانَ فِي الجيش الذين كانوا مع الذين ساروا إلى
الخوارج فقال على: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يَخْرُجُ قَوْمٌ
من أمتى يقرءون الْقُرْآنَ لَيْسَ قِرَاءَتُكُمْ إِلَى قِرَاءَتِهِمْ
بِشَيْءٍ، وَلَا صَلَاتُكُمْ إِلَى صَلَاتِهِمْ بِشَيْءٍ، وَلَا
صِيَامُكُمْ إِلَى صيامهم بشيء، يقرءون القرآن يحسبون أنه لهم وهو
عليهم، لَوْ يَعْلَمُ الْجَيْشُ الَّذِينَ يُصِيبُونَهُمْ مَا قُضِيَ
لَهُمْ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم لا
تكلوا عَلَى الْعَمَلِ، وَآيَةُ ذَلِكَ أَنَّ فِيهِمْ رَجُلًا له عضد
ليس لها ذِرَاعٌ، عَلَى رَأْسِ عَضُدِهِ مِثْلُ حَلَمَةِ الثَّدْيِ،
عليه شعرات بيض، فيذهبون إلى معاوية وأهل الشام ويتركون هؤلاء يخلفونكم
في ذراريكم وأموالكم، وإني لَأَرْجُو أَنْ يَكُونُوا هَؤُلَاءِ
الْقَوْمَ، فَإِنَّهُمْ قَدْ سَفَكُوا الدَّمَ الْحَرَامَ وَأَغَارُوا
فِي سَرْحِ النَّاسِ، فسيروا على اسم الله. قال سلمة: فذكر زيد بن وهب
منزلا منزلا حتى مروا عَلَى قَنْطَرَةٍ فَلَمَّا الْتَقَيْنَا- وَعَلَى
الْخَوَارِجِ يَوْمَئِذٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ الرَّاسِبِيُّ-
فَقَالَ لَهُمْ: ألقوا الرماح وسلوا سيوفكم وكسروا جُفُونِهَا فَإِنِّي
أَخَافُ أَنْ يُنَاشِدُوكُمْ كَمَا نَاشَدُوكُمْ يَوْمَ حَرُورَاءَ،
فَرَجَعُوا فَوَحَّشُوا بِرِمَاحِهِمْ وَسَلَّوُا السُّيُوفَ
فَشَجَرَهُمُ النَّاسُ بِرِمَاحِهِمْ. قَالَ: وَقُتِلَ بَعْضُهُمْ
عَلَى بَعْضٍ وَمَا أُصِيبَ مِنَ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ إِلَّا رجلان،
قال على: الْتَمِسُوا فِيهِمُ الْمُخْدَجَ، فَالْتَمَسُوهُ فَلَمْ
يَجِدُوهُ، فَقَامَ على بنفسه حتى أتى ناسا بعضهم إلى بعض، فقال: أخروه
فوجدوه مما يلي الأرض فقال: أخروهم فوجدوهم مما يلي الأرض فكبر ثم
قَالَ: صَدَقَ اللَّهُ وَبَلَّغَ رَسُولُهُ قَالَ: فَقَامَ إِلَيْهِ
عَبِيدَةُ السُّلْمَانِيُّ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ والله
الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَسَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إني وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ
إِلَّا هُوَ، فَاسْتَحْلَفَهُ ثلاثا وهو يحلف له أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» ، هَذَا لَفْظُ
مُسْلِمٍ، وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ
الْخَلَّالِ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِنَحْوِهِ.
طَرِيقٌ أُخْرَى عَنْ عَلِيٍّ
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ ثَنَا الْأَعْمَشُ
وَعَبْدُ الرحمن عن سفيان عن الأعمش بن خَيْثَمَةَ عَنْ سُوَيْدِ بْنِ
غَفَلَةَ قَالَ قَالَ على: إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَأَنْ أَخِرَّ مِنَ السَّمَاءِ
أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَكْذِبَ عَلَيْهِ وَإِذَا حَدَّثْتُكُمْ
فِيمَا بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ فَإِنَّ الْحَرْبَ خَدْعَةٌ، سَمِعْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «يخرج قوم من
أمتى فِي آخِرِ الزَّمَانِ أَحْدَاثُ الْأَسْنَانِ، سُفَهَاءُ
الْأَحْلَامِ، يقولون من قول خير البرية يقرءون الْقُرْآنَ لَا
يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ- قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ لَا يُجَاوِزُ
إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ- يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ
السَّهْمُ مِنَ الرَّمْيَةِ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ
فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا لِمَنْ قاتلهم عند الله يَوْمَ
الْقِيَامَةِ» وَأَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ طُرُقٍ عَنِ
الْأَعْمَشِ بِهِ.
(7/290)
طَرِيقٌ أُخْرَى
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو نعيم ثنا الْوَلِيدُ بْنُ
الْقَاسِمِ الْهَمْدَانِيُّ ثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ
عَبْدِ الْأَعْلَى عَنْ طَارِقِ بْنِ زِيَادٍ قَالَ: سَارَ عَلِيٌّ
إِلَى النَّهْرَوَانِ قَالَ الْوَلِيدُ فِي رِوَايَتِهِ: وَخَرَجْنَا
مَعَهُ فَقَتَلَ الْخَوَارِجَ فَقَالَ اطْلُبُوا الْمُخْدَجَ فَإِنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «سَيَجِيءُ
قَوْمٌ يَتَكَلَّمُونَ بِكَلِمَةِ الْحَقِّ لَا تُجَاوِزُ حُلُوقَهُمْ
يَمْرُقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ
الرَّمْيَةِ سِيمَاهُمْ أَوْ فِيهِمْ رَجُلٌ أَسْوَدُ مُخْدَجُ الْيَدِ
فِي يَدِهِ شَعَرَاتٌ سُودٌ، إِنْ كَانَ فِيهِمْ فَقَدْ قَتَلْتُمْ
شَرَّ النَّاسِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ فَقَدْ قَتَلْتُمْ خَيْرَ
النَّاسِ. قَالَ الْوَلِيدُ، فِي روايته: فبكينا قال: إنا وجدنا المخدج
فَخَرَرْنَا سُجُودًا وَخَرَّ عَلِيٌّ سَاجِدًا مَعَنَا» تَفَرَّدَ
بِهِ أَحْمَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
طَرِيقٌ أُخْرَى
رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ عَنْ عَلِيٍّ كَمَا تَقَدَّمَ
قَرِيبًا إِيرَادُهُ بِطُولِهِ.
طَرِيقٌ أُخْرَى عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ مُسْلِمٌ: حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ وَيُونُسُ بْنُ عَبْدِ
الْأَعْلَى ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ
الْحَارِثِ عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الْأَشَجِّ عَنْ بِشْرِ بْنِ سَعِيدٍ
عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رافع مولى رسول الله أَنَّ
الْحَرُورِيَّةَ لَمَّا خَرَجَتْ- وَهُوَ مَعَ عَلِيِّ بن أبى طالب-
قَالُوا: لَا حَكْمَ إِلَّا للَّه، قَالَ عَلِيٌّ: كَلِمَةُ حَقٍّ
أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَصَفَ نَاسًا إِنِّي لَأَعْرِفُ صِفَتَهُمْ فِي هؤلاء،
يقولون: الحق بألسنتهم لا يجاوز هذا منهم- وأشار إلى خلقة- من أبغض خلق
الله مِنْهُمْ أَسْوَدُ إِحْدَى يَدَيْهِ طُبْيُ شَاةٍ أَوْ حَلَمَةُ
ثَدْيٍّ» فَلَمَّا قَتَلَهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طالب قَالَ:
انْظُرُوا فَنَظَرُوا فَلَمْ يَجِدُوا شَيْئًا فَقَالَ: ارجعوا
فانظروا، فو الله مَا كَذَبْتُ وَلَا كُذِبْتُ- مَرَّتَيْنِ أَوْ
ثَلَاثًا- فوجدوه في خربة فأتوا به عليا حَتَّى وَضَعُوهُ بَيْنَ
يَدَيْهِ، قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: وَأَنَا حَاضِرُ ذَلِكَ مِنْ
أَمْرِهِمْ، وَقَوْلِ عَلِيٍّ فِيهِمْ، زَادَ يُونُسُ فِي رِوَايَتِهِ
قَالَ بُكَيْرٌ:
وَحَدَّثَنِي رَجُلٌ عَنِ ابْنِ حُنَيْنٍ أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ
ذَلِكَ الْأَسْوَدَ. تَفَرَّدَ بِهِ مُسْلِمٌ.
طَرِيقٌ أُخْرَى
قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ ثَنَا أَيُّوبَ عَنْ
مُحَمَّدٍ عَنْ عَبِيدَةَ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: ذكرت الخوارج عند على
فَقَالَ: فِيهِمْ مُخْدَجُ الْيَدِ أَوْ مَثْدُونُ الْيَدِ؟ - أو قال
مودن اليد- ولولا أَنْ تَبْطَرُوا لَحَدَّثْتُكُمْ بِمَا وَعَدَ
اللَّهُ الَّذِينَ يَقْتُلُونَهُمْ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال قلت: أنت سمعته من محمد؟ قَالَ: إِي
وَرَبِّ الْكَعْبَةِ إِي وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، إِي وَرَبِّ
الْكَعْبَةِ، وَقَالَ أَحْمَدُ: ثَنَا وَكِيعٌ ثَنَا جَرِيرُ بْنُ
حَازِمٍ وَأَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ
سَمِعَاهُ عَنْ عُبَيْدَةَ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَخْرُجُ قَوْمٌ فِيهِمْ رَجُلٌ
مُودَنُ الْيَدِ أَوْ مَثْدُونُ الْيَدِ أَوْ مُخْدَجُ الْيَدِ
وَلَوْلَا أَنْ تَبْطَرُوا لَأَنْبَأْتُكُمْ بِمَا وَعَدَ اللَّهُ
الَّذِينَ يَقْتُلُونَهُمْ عَلَى لِسَانِ
(7/291)
نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، قَالَ عَبِيدَةُ قُلْتُ لِعَلِيٍّ: أَنْتَ سَمِعْتُهُ مِنْ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: إِي
وَرَبِّ الْكَعْبَةِ إِي وَرَبِّ الْكَعْبَةِ وَقَالَ أَحْمَدُ: ثَنَا
يَزِيدُ ثَنَا هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ عَبِيدَةَ قَالَ قَالَ
عَلِيٌّ لِأَهْلِ النَّهْرَوَانِ: فِيهِمْ رَجُلٌ مثدون اليد أو مخدوج
اليد، ولولا أن تبطروا لَأَخْبَرْتُكُمْ بِمَا قَضَى اللَّهُ عَلَى
لِسَانِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ
قَتَلُهُمْ، قَالَ عَبِيدَةُ: فَقُلْتُ لِعَلِيٍّ: أَنْتَ سَمِعْتَهُ؟
قَالَ: إِي وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، يَحْلِفُ عَلَيْهَا ثَلَاثًا. وَقَالَ
أَحْمَدُ: ثنا ابن أبى عدي عن أبى بن عَوْنٍ عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ
قَالَ عَبِيدَةُ: لَا أُحَدِّثُكَ إِلَّا مَا سَمِعْتُ مِنْهُ، قَالَ
مُحَمَّدٌ، فَحَلَفَ لَنَا عَبِيدَةُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَحَلَفَ لَهُ
عَلِيٌّ قَالَ قَالَ: لَوْلَا أَنْ تَبْطَرُوا لَأَنْبَأْتُكُمْ مَا
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ يَقْتُلُونَهُمْ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قُلْتُ أَنْتَ سَمِعْتَهُ؟
قَالَ: إِي وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، إِي وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، إِي وَرَبِّ
الْكَعْبَةِ، فِيهِمْ رَجُلٌ مُخْدَجُ الْيَدِ أَوْ مَثْدُونُ الْيَدِ
أَحْسَبُهُ قَالَ: أَوْ مُودَنُ الْيَدِ. وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ
حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُلَيَّةَ وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ
كِلَاهُمَا عَنْ أَيُّوبَ وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى عَنِ
ابْنِ أَبِي عَدِيٍّ عَنِ ابْنِ عَوْنٍ كِلَاهُمَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
سِيرِينَ عَنْ عَبِيدَةَ عَنْ عَلِيٍّ. وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ مِنْ طُرُقٍ
مُتَعَدِّدَةٍ تُفِيدُ الْقَطْعَ عِنْدَ كَثِيرِينَ عَنْ مُحَمَّدِ
بْنِ سيرين. وقد حلف على أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ عَبِيدَةَ وَحَلَفَ
عَبِيدَةُ أَنَّهُ سمعه من عَلِيٌّ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ قَالَ عَلِيٌّ:
لَأَنْ أَخِرَّ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ
أَنْ أَكْذِبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ.
طَرِيقٌ أُخْرَى
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ:
حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ أَبُو مَعْمَرٍ ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
إِدْرِيسَ ثَنَا عَاصِمُ بْنُ كُلَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْتُ
جَالِسًا عِنْدَ عَلِيٍّ إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ عَلَيْهِ ثِيَابُ
السَّفَرِ فَاسْتَأْذَنَ عَلَى عَلِيٍّ وَهُوَ يُكَلِّمُ النَّاسَ
فَشُغِلَ عَنْهُ فَقَالَ عَلِيٌّ: إِنِّي دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعنده عائشة فقال:
«كيف أنت ويوم كَذَا وَكَذَا؟ فَقُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.
قَالَ: فقال قوم يخرجون مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ يَقْرَءُونَ
الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ
كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، فِيهِمْ رَجُلٌ مخدج اليد
كأن يديه يدي حَبَشِيَّةٍ، أَنْشُدُكُمْ باللَّه هَلْ أَخْبَرْتُكُمْ
أَنَّهُ فِيهِمْ» فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ، ثُمَّ رَوَاهُ عَبْدُ
اللَّهِ ابن أَحْمَدَ عَنْ أَبِي خَيْثَمَةَ زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ عَنِ
الْقَاسِمِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ
عَلِيٍّ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ إسناده جيد.
طَرِيقٌ أُخْرَى
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ:
أَخْبَرْنَا أَبُو الْقَاسِمِ الْأَزْهَرِيُّ أَنَا عَلِيُّ بن عبد
الرحمن الكناني أنا محمد بن عبد الله بن عطاء عن سُلَيْمَانَ
الْحَضْرَمِيُّ أَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ الحماني أنا خالد
ابن عبيد اللَّهِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ مَيْسَرَةَ قَالَ
قَالَ أَبُو جُحَيْفَةَ: قَالَ عَلِيٌّ حِينَ فرغنا من الحرورية إن
فيهم رجلا لَيْسَ فِي عَضُدِهِ عَظْمٌ ثُمَّ عَضُدُهُ كَحَلَمَةِ
الثَّدْيِ عَلَيْهَا شَعَرَاتٌ طِوَالٌ عُقْفٌ، فَالْتَمَسُوهُ فَلَمْ
(7/292)
يَجِدُوهُ قَالَ: فَمَا رَأَيْتُ عَلِيًّا
جَزِعَ جَزَعًا أَشَدَّ مِنْ جَزَعِهِ يَوْمَئِذٍ، فَقَالُوا: مَا
نَجِدُهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: وَيْلَكُمُ مَا اسْمُ
هَذَا الْمَكَانِ؟ قَالُوا: النَهْرَوَانُ، قَالَ: كَذَبْتُمْ إِنَّهُ
لَفِيهِمْ، فَثَوَّرْنَا الْقَتْلَى فَلَمْ نَجِدْهُ فَعُدْنَا
إِلَيْهِ فقلنا: يا أمير المؤمنين ما نجده، قَالَ: مَا اسْمُ هَذَا
الْمَكَانِ؟ قُلْنَا: النَّهْرَوَانُ، قَالَ: صَدَقَ اللَّهُ
وَرَسُولُهُ وَكَذَبْتُمْ، إِنَّهُ لَفِيهِمْ فَالْتَمِسُوهُ،
فَالْتَمَسْنَاهُ فَوَجَدْنَاهُ فِي سَاقِيَةٍ فَجِئْنَا بِهِ
فَنَظَرْتُ إِلَى عَضُدِهِ لَيْسَ فِيهَا عَظْمٌ وَعَلَيْهَا
كَحَلَمَةِ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ عَلَيْهَا شَعَرَاتٌ طِوَالٌ عُقْفٌ.
طَرِيقٌ أُخْرَى
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ مَوْلَى بَنِي
هَاشِمٍ ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ الْعَبْدِيُّ ثَنَا أَبُو
كَثِيرٍ مَوْلَى الْأَنْصَارِ قَالَ: كُنْتُ مَعَ سَيِّدِي مَعَ
عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ حَيْثُ قُتِلَ أَهْلُ النَّهْرَوَانِ،
فَكَأَنَّ النَّاسَ وَجَدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ قَتْلِهِمْ،
فَقَالَ عَلِيٌّ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «قَدْ حَدَّثَنَا بِأَقْوَامٍ يَمْرُقُونَ
مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ ثُمَّ لَا
يَرْجِعُونَ فِيهِ أَبَدًا حَتَّى يَرْجِعَ السَّهْمُ عَلَى فُوقِهِ،
وَإِنَّ آيَةَ ذَلِكَ أَنَّ فِيهِمْ رَجُلًا أَسْوَدَ مُخْدَجَ الْيَدِ
إِحْدَى يَدَيْهِ كَثَدْيِ الْمَرْأَةِ، لَهَا حَلَمَةٌ كَحَلَمَةِ
ثَدْيِ الْمَرْأَةِ، حَوْلَهُ سَبْعُ هَلَبَاتٍ فَالْتَمِسُوهُ
فَإِنِّي أُرَاهُ فِيهِمْ، فَالْتَمَسُوهُ فَوَجَدُوهُ إِلَى شَفِيرِ
النَّهْرِ تَحْتَ الْقَتْلَى فَأَخْرَجُوهُ فَكَبَّرَ عَلِيٌّ،
فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ! صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَإِنَّهُ
لَمُتَقَلِّدٌ قَوْسًا لَهُ عَرَبِيَّةً فَأَخَذَهَا بِيَدِهِ فَجَعَلَ
يَطْعَنُ بِهَا فِي مُخْدَجَتِهِ وَيَقُولُ: صَدَقَ اللَّهُ
وَرَسُولُهُ. وَكَبَّرَ النَّاسُ حِينَ رَأَوْهُ وَاسْتَبْشَرُوا
وَذَهَبَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَجِدُونَ» تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.
طَرِيقٌ أُخْرَى
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ: حَدَّثَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ
ثَنَا شَبَابَةُ بْنُ سَوَّارٍ حَدَّثَنِي نُعَيْمُ بْنُ حَكِيمٍ
حَدَّثَنِي أَبُو مَرْيَمَ ثَنَا عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ
قَوْمًا يَمْرُقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ
الرمية يقرءون الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، طُوبَى لِمَنْ
قَتَلَهُمْ وقتلوه، علامتهم رجل مخدج» وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي
سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ ثَنَا شَبَابَةُ بْنُ
سَوَّارٍ عَنْ نُعَيْمِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ: إِنْ
كَانَ ذَاكَ الْمُخْدَجُ لَمَعَنَا يَوْمَئِذٍ فِي المسجد نجالسه الليل
وَالنَّهَارِ، وَكَانَ فَقِيرًا، وَرَأَيْتُهُ مَعَ الْمَسَاكِينِ
يَشْهَدُ طَعَامَ عَلِيٍّ مَعَ النَّاسِ، وَقَدْ كَسَوْتُهُ بُرْنُسًا
لِي، قَالَ أَبُو مَرْيَمَ: وَكَانَ الْمُخْدَجُ يُسَمَّى نافعا ذا
الثدية، ودان فِي يَدِهِ مِثْلُ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ، عَلَى رَأْسِهِ
حَلَمَةٌ مِثْلُ حَلَمَةِ الثَّدْيِ عَلَيْهِ شَعَرَاتٌ مِثْلُ
سَبَالَةِ السِّنَّوْرِ.
طَرِيقٌ أُخْرَى
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ:
أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ الرُّوذْبَارِيُّ أَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عمرو ابن شوذب المقري الْوَاسِطِيُّ بِهَا ثَنَا
شُعَيْبُ بْنُ أَيُّوبَ ثَنَا أبو الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ عَنْ
سُفْيَانَ- هُوَ الثَّوْرِيُّ- عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ أَبِي
مُوسَى رَجُلٍ مِنْ قَوْمِهِ قَالَ: كُنْتُ مَعَ عَلِيٍّ فَجَعَلَ
يَقُولُ: الْتَمِسُوا الْمُخْدَجَ فَالْتَمَسُوهُ فَلَمْ يَجِدُوهُ،
قَالَ: فَأَخَذَ يَعْرَقُ وَيَقُولُ: وَاللَّهِ مَا كَذَبْتُ ولا كذبت،
فوجدوه في نهر
(7/293)
أود إليه فَسَجَدَ.
طَرِيقٌ أُخْرَى
قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُثَنَّى
وَمُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ ثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ ثَنَا سُوَيْدُ بْنُ
عُبَيْدٍ الْعِجْلِيُّ ثَنَا أَبُو مُؤْمِنٍ. قَالَ: شَهِدْتُ عَلِيَّ
بْنَ أَبِي طَالِبٍ يَوْمَ قُتِلَ الْحَرُورِيَّةُ وَأَنَا مَعَ
مَوْلَايَ فَقَالَ: انْظُرُوا فَإِنَّ فِيهِمْ رَجُلًا إِحْدَى
يَدَيْهِ مِثْلُ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ، وَأَخْبَرَنِي النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِّي صَاحِبُهُ، فَقَلَّبُوا الْقَتْلَى
فَلَمْ يَجِدُوهُ، وَقَالُوا: سَبْعَةُ نَفَرٍ تَحْتَ النخلة لم نقلبهم
بعد، قال: وَيَلْكُمُ انْظُرُوا، قَالَ أَبُو مُؤْمِنٍ: فَرَأَيْتُ فِي
رِجْلَيْهِ حَبْلَيْنِ يَجُرُّونَهُ بِهِمَا حَتَّى أَلْقَوْهُ بَيْنَ
يَدَيْهِ فَخَرَّ عَلِيٌّ سَاجِدًا وَقَالَ: أَبْشِرُوا قَتْلَاكُمْ
فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلَاهُمْ فِي النَّارِ، ثُمَّ قَالَ الْبَزَّارُ:
لَا نَعْلَمُ رَوَى أَبُو موسى عَنْ عَلِيٍّ غَيْرَ هَذَا الْحَدِيثِ.
طَرِيقٌ أُخْرَى
قَالَ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى ثَنَا إسحاق بن
سليمان الرازيّ سمعت أبا سفيان عن حبيب ابن أَبِي ثَابِتٍ قَالَ:
قُلْتُ لِشَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ- يَعْنِي أَبَا وَائِلٍ- حَدِّثْنِي
عَنْ ذِي الثُّدَيَّةِ، قَالَ: لَمَّا قَاتَلْنَاهُمْ قَالَ عَلِيٌّ:
اطْلُبُوا رَجُلًا عَلَامَتُهُ كَذَا وَكَذَا، فَطَلَبْنَاهُ فَلَمْ
نَجِدْهُ، فَبَكَى وقال: اطلبوه، فو الله مَا كَذَبْتُ وَلَا كُذِبْتُ،
قَالَ: فَطَلَبْنَاهُ فَلَمْ نجده فبكى وقال: اطلبوه فو الله مَا
كَذَبْتُ وَلَا كُذِبْتُ، قَالَ: فَطَلَبْنَاهُ فَلَمْ نَجِدْهُ قَالَ:
وَرَكِبَ بَغْلَتَهُ الشَّهْبَاءَ فَطَلَبْنَاهُ فَوَجَدْنَاهُ تَحْتَ
بَرْدِيٍّ فَلَمَّا رَآهُ سَجَدَ. ثُمَّ قَالَ الْبَزَّارُ: لَا
نَعْلَمُ رَوَى حَبِيبٌ عَنْ شَقِيقٍ عَنْ عَلِيٍّ إِلَّا هَذَا
الْحَدِيثَ.
طَرِيقٌ أُخْرَى
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ: حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بن
عمرو الْقَوَارِيرِيُّ ثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ ثَنَا جَمِيلُ بن
مرة عن أبى الوضى قال: شهدت عليا حين قُتِلَ أَهْلُ النَّهْرَوَانِ
قَالَ: الْتَمِسُوا الْمُخْدَجَ: فَطَلَبُوهُ فِي الْقَتْلَى فَقَالُوا
لَيْسَ نَجِدُهُ فَقَالَ: ارْجِعُوا فالتمسوه فو الله مَا كَذَبْتُ
وَلَا كُذِبْتُ، فَرَجَعُوا فَطَلَبُوهُ فَرَدَّدَ ذَلِكَ مِرَارًا،
كُلُّ ذَلِكَ يَحْلِفُ باللَّه مَا كَذَبْتُ وَلَا كُذِبْتُ،
فَانْطَلَقُوا فَوَجَدُوهُ تَحْتَ الْقَتْلَى في طين فاستخرجوه فجيء
به، قال أبو الوضى: فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ حَبَشِيٌّ عَلَيْهِ
ثَدْيٌ قَدْ طَبَّقَ، إِحْدَى يَدَيْهِ مِثْلُ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ،
عَلَيْهَا شَعَرَاتٌ مِثْلُ شَعَرَاتٍ تَكُونُ عَلَى ذَنَبِ
الْيَرْبُوعِ» وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
عُبَيْدِ بْنِ حِسَابٍ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ ثنا جميل بن مرة ثنا
أبو الوضى- وَاسْمُهُ عَبَّادُ بْنُ نُسَيْبٍ- وَلَكِنَّهُ اخْتَصَرَهُ
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ
بْنُ يُوسُفَ الشَّاعِرُ حَدَّثَنِي عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ
الْوَارِثِ ثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ أن أبا الوضى عبادا حدثه
أنه قال: كنا عائدين إِلَى الْكُوفَةِ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي
طَالِبٍ.
فلما بلغنا مسيرة ليلتين أو ثلاثا من حروراء شذ منا ناس كثيرون
فَذَكْرَنَا ذَلِكَ لِعَلِيٍّ فَقَالَ: لَا يَهُولَنَّكُمْ أَمْرُهُمْ
فَإِنَّهُمْ سَيَرْجِعُونَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ قَالَ:
فَحَمِدَ اللَّهَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَقَالَ: إِنَّ خَلِيلِي
أَخْبَرَنِي أَنَّ قَائِدَ هَؤُلَاءِ رَجُلٌ مُخْدَجُ الْيَدِ عَلَى
حَلَمَةِ ثَدْيِهِ شَعَرَاتٌ كَأَنَّهُنَّ ذَنَبُ الْيَرْبُوعِ،
فَالْتَمَسُوهُ فَلَمْ يَجِدُوهُ فَأَتَيْنَاهُ
(7/294)
فقلنا: إنا لم نجده، فَجَعَلَ يَقُولُ:
اقْلِبُوا ذَا، اقْلِبُوا ذَا؟ حَتَّى جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ
الْكُوفَةِ فَقَالَ: هُوَ هذا؟
فَقَالَ عَلِيٌّ: اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا يَأْتِيكُمْ أَحَدٌ
يُخْبِرُكُمْ مَنْ أَبُوهُ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَقُولُونَ: هَذَا مالك،
هذا مالك، فقال على: ابن من؟ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ
أَيْضًا: حَدَّثَنِي حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ حَدَّثَنِي عَبْدُ
الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ ثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ أن
أبا الوضى عبادا حدثه قال: كنا عائدين إِلَى الْكُوفَةِ مَعَ عَلِيٍّ
فَذَكَرَ حَدِيثَ الْمُخْدَجِ قال على: «فو الله مَا كَذَبْتُ وَلَا
كُذِبْتُ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ عَلِيٌّ: أَمَا إِنَّ خَلِيلِي
أَخْبَرَنِي بِثَلَاثَةِ إِخْوَةٍ مِنَ الْجِنِّ هَذَا أَكْبُرُهُمْ
وَالثَّانِي لَهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ، وَالثَّالِثُ فِيهِ ضَعْفٌ» وَهَذَا
السِّيَاقُ فِيهِ غرابة جِدًّا. وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ذُو
الثُّدَيَّةِ مِنَ الْجِنِّ؟ بَلْ هُوَ مِنَ الشَّيَاطِينِ إِمَّا
شَيَاطِينِ الْإِنْسِ أَوْ شَيَاطِينِ الْجِنِّ، إِنْ صَحَّ هَذَا
السِّيَاقُ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذِهِ
طُرُقٌ مُتَوَاتِرَةٌ عَنْ عَلِيٍّ إِذْ قَدْ رُوِيَ مِنْ طُرُقٍ
مُتَعَدِّدَةٍ عَنْ جَمَاعَةٍ مُتَبَايِنَةٍ لَا يُمْكِنُ
تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ، فَأَصْلُ الْقِصَّةِ مَحْفُوظٌ وَإِنْ
كَانَ بَعْضُ الْأَلْفَاظِ وَقَعَ فِيهَا اخْتِلَافٌ بَيْنَ الرُّوَاةِ
وَلَكِنَّ مَعْنَاهَا وَأَصْلَهَا الَّذِي تَوَاطَأَتِ الرِّوَايَاتُ
عَلَيْهِ صَحِيحٌ لَا يُشَكُّ فِيهِ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ رَوَاهُ عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه أخبر عن صفة
الخوارج وذي الثُّدَيَّةِ الَّذِي هُوَ عَلَامَةٌ عَلَيْهِمْ. وَقَدْ
رُوِيَ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ غَيْرِ على
كما تراها بأسانيدها وألفاظها وباللَّه المستعان. وقد رَوَاهُ
جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَجَابِرُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَرَافِعُ بْنُ عَمْرٍو الْغِفَارِيُّ، وَسَعْدُ
بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَأَبُو سَعِيدٍ سَعْدُ بْنُ مَالِكِ بْنِ
سِنَانٍ الأنصاري، وَسَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَبَّاسٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عَمْرِو، وعبد الله ابن مسعود، وعلى، وَأَبُو ذَرٍّ، وَعَائِشَةَ أُمِّ
الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا حَدِيثَ عَلِيٍّ بِطُرُقِهِ لأنه أحد الخلفاء
الأربعة وأحد العشرة وَصَاحِبُ الْقِصَّةِ. وَلْنَذْكُرْ بَعْدَهُ
حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ لِتَقَدُّمِ وَفَاتِهِ عَلَى وَقْعَةِ
الْخَوَارِجِ.
الْحَدِيثُ الثَّانِي عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ
ثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ عَاصِمٍ عن ذر عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «يَخْرُجُ قَوْمٌ فِي آخر الزمان سفهاء الأحلام، أحداث- أو
حُدَثَاءُ- الْأَسْنَانِ، يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ النَّاسِ
يقرءون الْقُرْآنَ بِأَلْسِنَتِهِمْ لَا يَعْدُو تَرَاقِيَهُمْ،
يَمْرُقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ
الرَّمِيَّةِ، فَمَنْ أَدْرَكَهُمْ فَلْيَقْتُلْهُمْ فَإِنَّ فِي
قَتْلِهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا عِنْدَ اللَّهِ لِمَنْ قَتَلَهُمْ» وَقَدْ
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ وَأَخْرَجَهُ ابْنُ
مَاجَهْ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بن
عامر بن ذرارة ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ بِهِ،
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، ابْنُ
مَسْعُودٍ مَاتَ قَبْلَ ظُهُورِ الْخَوَارِجِ بِنَحْوٍ مَنْ خمس سنين
فخبره في ذلك من أقوى الأسانيد.
(7/295)
الحديث الثالث عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إسماعيل ثنا سليمان التميمي
ثَنَا أَنَسٌ قَالَ: ذُكِرَ لِي إِنْ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ- وَلَمْ أسمعه منه-: «إن فيكم فرقة يتعبدون
ويدينون حَتَّى يُعْجِبُوا النَّاسَ وَتُعْجِبُهُمْ أَنْفُسُهُمْ،
يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ
الرَّمِيَّةِ» .
طَرِيقٌ أُخْرَى
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ ثَنَا
الْأَوْزَاعِيُّ حَدَّثَنِي قَتَادَةُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مالك وأبى سعيد
قال أحمد وقد حدثنا أَبُو الْمُغِيرَةِ فَقَالَ عَنْ أَنَسٍ عَنْ أَبِي
سَعِيدٍ، ثُمَّ رَجَعَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ:
«سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي اخْتِلَافٌ وفرقة قوم يحسنون القيل ويسيئون
الفعل، يقرءون الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَحْقِرُ
أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مع صلاتهم، صيامه مع، وصيامهم يَمْرُقُونَ مِنَ
الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرمية، ثم لَا يَرْجِعُونَ
حَتَّى يَرْتَدَّ السَّهْمُ عَلَى فُوقِهِ، هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ
وَالْخَلِيقَةِ، طُوبَى لِمَنْ قَتَلَهُمْ أو قتلوه، يَدْعُونَ إِلَى
كِتَابِ اللَّهِ وَلَيْسُوا مِنْهُ فِي شَيْءٍ، مَنْ قَاتَلَهُمْ كَانَ
أَوْلَى باللَّه مِنْهُمْ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا
سِيمَاهُمْ؟ قَالَ:
التَّحْلِيقُ» . وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ عَنْ
نَصْرِ بْنِ عَاصِمٍ الْأَنْطَاكِيِّ عَنِ الْوَلِيدِ بن مسلم وقيس
بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْحَلَبِيِّ كِلَاهُمَا عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ
قتادة وأبى سعيد عن أنس بِهِ. وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ
مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ
عَنْ أَنَسٍ وَحْدَهُ. وَقَدْ رَوَى الْبَزَّارُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي
سُفْيَانَ وَأَبُو يَعْلَى مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ
كِلَاهُمَا عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ حَدِيثًا فِي الْخَوَارِجِ
قَرِيبًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي سعيد كما سيأتي إِنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى.
الْحَدِيثُ الرَّابِعُ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ مُوسَى ثَنَا ابن
شِهَابٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ
جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْجِعْرَانَةِ وَهُوَ
يَقْسِمُ فِضَّةً فِي ثَوْبِ بِلَالٍ لِلنَّاسِ فَقَالَ رَجُلٌ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ اعْدِلْ، فَقَالَ: «وَيْلَكَ وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا
لَمْ أَعْدِلْ؟ لَقَدْ خِبْتُ إِنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ، فَقَالَ
عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِي أَقْتُلْ هَذَا الْمُنَافِقَ،
فَقَالَ: مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنِّي أَقْتُلُ
أَصْحَابِي، إِنَّ هَذَا وَأَصْحَابَهُ يقرءون الْقُرْآنَ لَا
يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، أَوْ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ
الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ» وَقَالَ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَيَّاشٍ ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ
حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ قَالَ:
سَمِعْتُ جَابِرًا يَقُولُ: بَصُرَ عَيْنِي وَسَمِعَ أُذُنِي رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجِعْرَانَةِ وَفِي
ثَوْبِ بِلَالٍ فِضَّةٌ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقْبِضُهَا لِلنَّاسِ يُعْطِيهِمْ، فَقَالَ رَجُلٌ: اعْدِلْ
فَقَالَ: «وَيْلَكَ من يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ؟ فَقَالَ
عُمَرُ بْنُ الخطاب: دَعْنِي أَقْتُلْ هَذَا الْمُنَافِقَ الْخَبِيثَ،
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَعَاذَ
اللَّهِ أَنْ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنِّي أَقْتُلُ أصحابى، هذا
وأصحابه يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ،
(7/296)
يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ
السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ» . ثُمَّ رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي
الْمُغِيرَةِ عن معاذ بْنِ رَفَاعَةَ ثَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ
جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَمَّا قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَنَائِمَ هَوَازِنَ
بِالْجِعْرَانَةِ قَامَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ فَقَالَ: اعْدِلْ
يَا مُحَمَّدُ فَقَالَ: «وَيْلَكَ وَمَنْ يَعْدِلُ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ؟
لَقَدْ خِبْتَ وَخَسِرْتَ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا أَقُومُ فَأَقْتُلُ هَذَا الْمُنَافِقَ؟
قَالَ: مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَتَسَامَعَ الْأُمَمُ أَنَّ مُحَمَّدًا
يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ هَذَا وَأَصْحَابًا لَهُ يَقْرَءُونَ
الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ
كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرمية» قال معاذ: فَقَالَ لِي أَبُو
الزُّبَيْرِ: فَعَرَضْتُ هَذَا الْحَدِيثَ على الزهري فما خالفني فيه
إلا أنه قال النضو وقلت القدح قال: أَلَسْتَ رَجُلًا عَرَبِيًّا؟.
وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رُمْحٍ عَنِ اللَّيْثِ
وَعَنْ مُحَمَّدِ بن مثنى عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيِّ
وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ اللَّيْثِ وَمَالِكِ بْنِ
أَنَسٍ كُلُّهُمْ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ بِهِ
بِنَحْوِهِ حَدِيثُ رافع بن عمرو الأنصاري مع حديث أبى ذر رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا.
الْحَدِيثُ الْخَامِسُ عَنْ سَعْدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ أُهَيْبٍ
الزُّهْرِيِّ وَهُوَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ ثَنَا
سُفْيَانُ- هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ- حَدَّثَنِي الْعَلَاءُ بْنُ أَبِي
عَيَّاشٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا الطُّفَيْلِ يُحَدِّثُ عَنْ بَكْرِ بْنِ
قِرْوَاشٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَاصٍّ قَالَ: «ذَكَرَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَا الثُّدَيَّةِ فَقَالَ:
شَيْطَانُ الرَّدْهَةِ كَرَاعِي الخيل يحتذره رَجُلٌ مِنْ بَجِيلَةَ
يُقَالُ لَهُ الْأَشْهَبُ أَوِ ابن الأشهب علابة فِي قَوْمٍ ظَلَمَةٍ»
قَالَ سُفْيَانُ: فَأَخْبَرَنِي عَمَّارٌ الذهبي أنه جاء رجل يقال له:
الْأَشْهَبِ وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ
سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ بِهِ مُخْتَصَرًا وَلَفْظُهُ «شيطان الردهة
يحتذره رجل من بجيلة» تفرد بِهِ أَحْمَدُ وَحَكَى الْبُخَارِيُّ عَنْ
عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ قَالَ: لَمْ أَسْمَعْ بِذِكْرِ بَكْرِ بْنِ
قِرْوَاشٍ إِلَّا فِي هَذَا الْحَدِيثِ. وَرَوَى يَعْقُوبُ بن سفيان عن
عبد اللَّهِ بْنِ مُعَاذٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي
إِسْحَاقَ عَنْ حَامِدٍ الْهَمْدَانِيِّ قَالَ: سمعت سعيد بْنَ أَبِي
وَقَّاصٍ يَقُولُ: «قَتَلَ عَلِيٌّ شَيْطَانَ الرَّدْهَةِ» قَالَ
الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ: يُرِيدُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
قَتَلَهُ أَصْحَابُ عَلِيٍّ بِأَمْرِهِ. وَقَالَ الْهَيْثَمُ بْنُ
عَدِيٍّ: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ بْنُ يُونُسَ عَنْ جَدِّهِ أَبِي
إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ عَنْ رَجُلٍ قَالَ: بَلَغَ سَعْدَ بْنَ أَبِي
وَقَّاصٍ أَنَّ عليا بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَتَلَ الْخَوَارِجَ فَقَالَ:
قَتَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ شَيْطَانَ الرَّدْهَةِ.
الْحَدِيثُ السَّادِسُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ سَعْدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ
سِنَانٍ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
وَلَهُ طَرُقٌ عَنْهُ الْأُولَى مِنْهَا
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ عِيسَى ثَنَا
جَامِعُ بْنُ قطر الحبطى ثنا أبو روية شداد بن عمر
(7/297)
العنسيّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ
أَنَّ أَبَا بَكْرٍ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي مَرَرْتُ
بِوَادِي كَذَا وَكَذَا فَإِذَا رَجُلٌ مُتَخَشِّعٌ حَسَنُ الْهَيْئَةِ
يُصَلِّي، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «اذْهَبْ إِلَيْهِ فَاقْتُلْهُ» قَالَ فَذَهَبَ إِلَيْهِ
أَبُو بَكْرٍ فَلَمَّا رَآهُ عَلَى تلك الحالة كره أن يقتله. فَجَاءَ
إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ: «اذهب إليه
فأقتله» قال: فَذَهَبَ عُمَرُ فَرَآهُ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ الَّتِي
رَآهُ أَبُو بَكْرٍ فَكَرِهَ أَنْ يَقْتُلَهُ فَرَجَعَ فقال: يا رسول
الله إني رأيته مُتَخَشِّعًا فَكَرِهْتُ أَنْ أَقْتُلَهُ. قَالَ: «يَا
عَلِيُّ اذْهَبْ فَاقْتُلْهُ» فَذَهَبَ عَلِيٌّ فَلَمْ يَرَهُ
فَرَجَعَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَمْ أَرَهُ فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «هذا وأصحابه
يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنَ
الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرمية لَا يَعُودُونَ فِيهِ
حَتَّى يَعُودَ السَّهْمُ فِي فُوقِهِ فَاقْتُلُوهُمْ هُمْ شَرُّ
الْبَرِيَّةِ» تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ. وَقَدْ رَوَى الْبَزَّارُ فِي
مُسْنَدِهِ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ أَنَسِ
بْنِ مَالِكٍ وَأَبُو يَعْلَى عَنْ أَبِي خَيْثَمَةَ عَنْ عُمَرَ بْنِ
يُونُسَ عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عمار وعن يزيد الرقاشيّ عن أنس مِنْ
هَذِهِ الْقِصَّةِ وَأَطْوَلَ مِنْهَا وَفِيهَا زِيَادَاتٌ اخرى.
الطَّرِيقُ الثَّانِي
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ ثَنَا سُفْيَانُ
عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عن الضحاك المشرقي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
حديث «ذكر قوما يَخْرُجُونَ عَلَى فِرْقَةٍ مِنَ النَّاسِ مُخْتَلِفَةٍ
يَقْتُلُهُمْ أَقْرَبُ الطَّائِفَتَيْنِ إِلَى الْحَقِّ» أَخْرَجَاهُ
فِي الصَّحِيحَيْنِ كَمَا سَيَأْتِي فِي تَرْجَمَةِ أَبِي سَلَمَةَ
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ.
الطَّرِيقُ الثَّالِثُ
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا وَكِيعٌ ثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ
عَمَّارٍ ثَنَا عَاصِمُ بْنُ شُمَيْخٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ
قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا
حَلَفَ فَاجْتَهَدَ فِي الْيَمِينِ قَالَ «وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي
الْقَاسِمِ بِيَدِهِ لَيَخْرُجَنَّ قَوْمٌ من أمتى تحقرون أعمالكم عند
أعمالهم يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ
يَمْرُقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ
الرَّمِيَّةِ. قَالُوا: فَهَلْ مِنْ عَلَامَةٍ يُعْرَفُونَ بِهَا؟
قَالَ: فِيهِمْ رَجُلٌ ذُو يُدَيَّةٍ أَوْ ثُدَيَّةٍ مُحَلِّقِي
رُءُوسِهِمْ» قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَحَدَّثَنِي عِشْرُونَ أَوْ بِضْعٌ
وَعِشْرُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ان عليا ولى قتلهم قال فرأيت أبا سعيد بعد ما كبر ويديه
ترتعش ويقول: قتالهم عندي أحل مِنْ قِتَالِ عِدَّتِهِمْ مِنَ
التُّرْكِ. وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ
بِهِ.
الطَّرِيقُ الرَّابِعُ
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنَا
سُفْيَانُ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ أبى نعيم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ قَالَ: «بَعَثَ عَلِيٌّ وَهُوَ بِالْيَمَنِ إِلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذهبية فِي تُرْبَتِهَا
فَقَسَمَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ
الأقرع ابن حَابِسٍ الْحَنْظَلِيِّ ثُمَّ أَحَدِ بَنِي مُجَاشِعٍ،
وَبَيْنَ عُيَيْنَةَ بْنِ بَدْرٍ الْفَزَارِيِّ وَبَيْنَ عَلْقَمَةَ
بْنِ علاثة أو عامر ابن الطفيل أحد بنى كلاب، وبين زيد الخيل
الطَّائِيِّ، ثُمَّ أَحَدِ بَنِي نَبْهَانَ. قَالَ: فَغَضِبَتْ قريش
(7/298)
والأنصار قالوا تعطى صناديد أهل نجد
وتدعنا؟ قَالَ: إِنَّمَا أَتَأَلَّفُهُمْ. قَالَ: فَأَقْبَلَ رَجُلٌ
غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ نَاتِئُ الْجَبِينِ كَثُّ اللِّحْيَةِ مُشْرِفُ
الْوَجْنَتَيْنِ مَحْلُوقُ الرَّأْسِ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ اتَّقِ
اللَّهَ فَقَالَ: مَنْ يُطِيعُ اللَّهَ إِذَا عَصَيْتُهُ؟ يَأْمَنُنِي
عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ وَلَا تَأْمَنُونِي، قَالَ: فَسَأَلَ رَجُلٌ
مِنَ الْقَوْمِ قَتْلَهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- أُرَاهُ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ- فَمَنَعَهُ، فَلَمَّا
وَلَّى قَالَ: إِنَّ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قوم يقرءون الْقُرْآنَ لَا
يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ مُرُوقَ
السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ
وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ، لَئِنْ أَنَا أَدْرَكْتُهُمْ
لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ
عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِهِ، ثُمَّ رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ مُحَمَّدِ ابن
فُضَيْلٍ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ أَبِي نُعْمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَفِيهِ الْجَزْمُ بِأَنَّ
خَالِدًا سَأَلَ أَنْ يَقْتُلَ ذَلِكَ الرَّجُلَ، وَلَا يُنَافِي
سُؤَالَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ
حَدِيثِ عُمَارَةَ بن القعقاع من سيرته: وقال فيه إنه سيخرج مِنْ
صُلْبِهِ وَنَسْلِهِ، لِأَنَّ الْخَوَارِجَ الَّذِينَ ذَكَرْنَا لَمْ
يَكُونُوا مِنْ سُلَالَةٍ هَذَا، بَلْ وَلَا أعلم أحدا منهم من نسله
وإنما أراد مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا أَيْ مِنْ شَكْلِهِ وَعَلَى صفته
فاللَّه أعلم. وهذا لرجل هُوَ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ التَّمِيمِيُّ
وَسَمَّاهُ بَعْضُهُمْ حُرْقُوصًا فاللَّه أَعْلَمُ.
الطَّرِيقُ الْخَامِسُ
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا عَفَّانُ ثَنَا مَهْدِيُّ بْنُ
مَيْمُونٍ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ عَنْ مَعْبَدِ بْنِ سِيرِينَ
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ: «يُخْرَجُ أُنَاسٌ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ يَقْرَءُونَ
الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ
كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ ثُمَّ لَا يَعُودُونَ
فِيهِ حَتَّى يَعُودَ السَّهْمُ عَلَى فُوقِهِ، قيل: ما سيماهم؟
قال: سيماهم التحليق أو التسبيد» وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي
النُّعْمَانِ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ عَنْ مَهْدِيِّ بْنِ مَيْمُونٍ
بِهِ.
الطَّرِيقُ السَّادِسُ
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ ثَنَا
سُوَيْدُ بْنُ نَجِيحٍ عَنْ يَزِيدَ الْفَقِيرِ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي
سَعِيدٍ: إِنَّ مِنَّا رِجَالًا هُمْ أَقْرَؤُنَا لِلْقُرْآنِ،
وَأَكْثَرُنَا صَلَاةً وَأَوْصَلُنَا لِلرَّحِمِ، وَأَكْثَرُنَا
صَوْمًا، خَرَجُوا عَلَيْنَا بِأَسْيَافِهِمْ. فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ:
سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يخرج
قوم يقرءون الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنَ
الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ» تَفَرَّدَ بِهِ
أَحْمَدُ وَلَمْ يُخَرِّجُوهُ فِي الْكُتُبِ السِّتَّةِ وَلَا وَاحِدٌ
مِنْهُمْ، وَإِسْنَادُهُ لَا بَأْسَ بِهِ رِجَالُهُ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ
وَسُوَيْدُ بْنُ نَجِيحٍ هَذَا مَسْتُورٌ.
الطَّرِيقُ السَّابِعُ
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ ثَنَا
مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقسم قسما إذ جاءه ابن ذي الْخُوَيْصِرَةِ
التَّمِيمِيُّ فَقَالَ: اعْدِلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فقال: «ويلك ومن
يعدل إذا لَمْ أَعْدِلْ؟ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخِطَابِ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ أَتَأْذَنُ لِي فِيهِ فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ؟ فَقَالَ: دَعْهُ
فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ
صَلَاتِهِمْ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ يَمْرُقُونَ
(7/299)
مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ
مِنَ الرَّمِيَّةِ فَيَنْظُرُ فِي قُذَذِهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ
شَيْءٌ، ثُمَّ يَنْظُرُ فِي نَضِيِّهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شيء، ثم
ينظر في رضافه فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يَنْظُرُ فِي
نَصْلِهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، قَدْ سَبَقَ الْفَرْثَ
وَالدَّمَ، آيَتُهُمْ رَجُلٌ أَسْوَدُ إِحْدَى يَدَيْهِ مِثْلُ ثَدْيِ
الْمَرْأَةِ، أَوْ مِثْلُ الْبِضْعَةِ تَدَرْدُرُ، يَخْرُجُونَ عَلَى
حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ النَّاسِ، فَنَزَلَتْ فيه (ومنهم من يلمزك في
الصدقات) الآية» قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَأَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتَ
هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَشْهَدُ أَنَّ عَلِيًّا حِينَ قَتَلَهُمْ وَأَنَا مَعَهُ جِيءَ
بِالرَّجُلِ عَلَى النَّعْتِ الَّذِي نَعْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي
بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ هشام بن يوسف عن معمر، ورواه
الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ يُونُسَ
بْنِ يَزِيدَ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهِ، لَكِنْ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ
عَنْ حَرْمَلَةَ وَأَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ كِلَاهُمَا عَنِ
ابْنِ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عن أَبِي سَلَمَةَ،
وَالضَّحَّاكِ الْهَمْدَانِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ به. ثم رواه أحمد بن
مُحَمَّدِ بْنِ مُصْعَبٍ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ
أَبِي سَلَمَةَ وَالضَّحَّاكِ الْمَشْرِقِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
فَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ هَذَا السياق، وفيه أن عمر هو
استأذن في قتله، وفيه «يخرجون على حين فرقة مِنَ النَّاسِ يَقْتُلُهُمْ
أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ باللَّه» قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَأَشْهَدُ
أَنِّي سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وأني شَهِدْتُ عَلِيًّا حِينَ قَتَلَهُمْ، فَالْتُمِسَ فِي
الْقَتْلَى فَوُجِدَ عَلَى النَّعْتِ الَّذِي نَعَتَهُ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ
دُحَيْمٍ عَنِ الْوَلِيدِ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ كَذَلِكَ. وَقَالَ
أَحْمَدُ: قَرَأْتُ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ
يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ
الْحَارِثِ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
«يَخْرُجُ فِيكُمْ قَوْمٌ تَحْقِرُونَ صَلَاتَكُمْ مَعَ صَلَاتِهِمْ،
وَصِيَامَكُمْ مَعَ صِيَامِهِمْ، وَأَعْمَالَكُمْ مَعَ أعمالهم، يقرءون
الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ
كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، يُنْظَرُ فِي النَّصْلِ
فَلَا يَرَى شَيْئًا، ثُمَّ يَنْظُرُ فِي الْقِدْحِ فَلَا يَرَى
شَيْئًا، ثُمَّ يَنْظُرُ فِي الرِّيشِ فَلَا يَرَى شَيْئًا
وَيَتَمَارَى فِي الْفُوقِ» قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: حَدَّثَنَا بِهِ
مَالِكٌ- يَعْنِي هَذَا الْحَدِيثَ- وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ عَنْ مَالِكٍ بِهِ. وَرَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى عَنْ عَبْدِ
الْوَهَّابِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَعَطَاءِ بْنِ يسار عن أبى سعيد به
وقال أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ
أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى أَبِي سَعِيدٍ فَقَالَ: هَلْ
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ
فِي الْحَرُورِيَّةِ شيئا؟ فقال: سَمِعْتُهُ يَذْكُرُ قَوْمًا
يَتَعَمَّقُونَ فِي الدِّينِ يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ عِنْدَ
صَلَاتِهِمْ، وَصَوْمَهُ عِنْدَ صَوْمِهِمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ
كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرمية، أخذ سهمه فينظر في نصله فلم ير
شيئا ثم ينظر في رضافه فلم ير شيئا، ثم ينظر في القذذ فيمارى هَلْ
يَرَى شَيْئًا أَمْ لَا» وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي بَكْرِ
بْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ بِهِ.
(7/300)
الطَّرِيقُ الثَّامِنُ
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ
سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «ذَكَرَ قَوْمًا يَكُونُونَ
فِي أمته يخرجون في فرقة من الناس سيماهم التحليق، ثم هم شر الخلق، ومن
شر الخلق، تقتلهم أولى الطائفتين بالحق، قَالَ: فَضَرَبَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ مَثَلًا- أَوْ قَالَ
قَوْلًا- الرَّجُلُ يَرْمِي الرَّمِيَّةَ- أَوْ قَالَ الْغَرَضَ-
فَيَنْظُرُ فِي النَّصْلِ فَلَا يَرَى بَصِيرَةً، وَيَنْظُرُ فِي
النَّضِيِّ فَلَا يَرَى بَصِيرَةً، وَيَنْظُرُ فِي الْفُوقِ فَلَا
يَرَى بَصِيرَةً» فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: وَأَنْتُمْ قَتَلْتُمُوهُمْ
يَا أهل العراق. وقد رواه عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ سُلَيْمَانَ- وَهُوَ ابْنُ
طَرْخَانَ التَّيْمِيُّ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ وَاسْمُهُ الْمُنْذِرِ
بْنِ مَالِكِ بْنِ قِطْعَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ بنحوه.
الحديث الثامن عن سلمان الفارسي رضى الله
عنه
قَالَ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ ثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ
عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى قَوْمٍ فَقَالَ:
لِمَنْ هَذِهِ الْخِبَاءُ؟ قَالُوا: لِسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، قَالَ
أَفَلَا تَنْطَلِقُونَ مَعِي فَيُحَدِّثَنَا وَنَسْمَعَ مِنْهُ،
فَانْطَلَقَ مَعَهُ بَعْضُ الْقَوْمِ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ
اللَّهِ لَوْ أَدْنَيْتَ خباك وَكُنْتَ مِنَّا قَرِيبًا فَحَدَّثْتَنَا
وَسَمِعْنَا مِنْكَ؟ فَقَالَ: وَمَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: فُلَانُ بْنُ
فُلَانٍ. قَالَ سَلْمَانُ: قَدْ بَلَغَنِي عَنْكَ مَعْرُوفٌ. بَلَغَنِي
أَنَّكَ تَخِفُّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَتُقَاتِلُ الْعَدُوَّ،
وَتَخْدِمُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَإِنْ أَخْطَأَتْكَ وَاحِدَةٌ أَنْ تَكُونَ مِنْ هَؤُلَاءِ
الْقَوْمِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالُوا: فَوُجِدَ ذَلِكَ الرَّجُلُ قَتِيلًا فِي
أَصْحَابِ النَّهْرَوَانِ.
الْحَدِيثُ التَّاسِعُ عَنْ سهل بن حنيف الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ! حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ ثَنَا حِزَامُ
بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْعَامِرِيُّ عن أبى إسحاق الشيباني عن بسر بْنِ
عَمْرٍو قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ فَقُلْتُ
حَدِّثْنِي مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ فِي الْحَرُورِيَّةِ، قَالَ: أُحَدِّثُكَ مَا سَمِعْتُ
مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا أَزِيدُكَ
عَلَيْهِ شَيْئًا، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ «يَذْكُرُ قَوْمًا يَخْرُجُونَ مِنْ هَاهُنَا- وَأَشَارَ
بيده نحو العراق- يقرءون الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ
يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ
الرَّمِيَّةِ» قَالَ: قُلْتُ هَلْ ذَكَرَ لَهُمْ عَلَامَةً؟ قَالَ:
هَذَا مَا سَمِعْتُ لَا أَزِيدُكَ عَلَيْهِ. وَقَدْ أَخْرَجَاهُ فِي
الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ زِيَادٍ ومسلم من
حديث على ابن مُسْهِرٍ وَالْعَوَّامِ بْنِ حَوْشَبٍ وَالنَّسَائِيُّ
مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ كُلُّهُمْ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ
الشَيْبَانِيِّ بِهِ وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ ثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ
أَبِي شَيْبَةَ ثَنَا عَلِيُّ بْنُ مسهر عن الشيباني عن بسر بْنِ
عَمْرٍو قَالَ: سَأَلْتُ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ سَمِعْتُ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ الْخَوَارِجَ؟
فَقَالَ: سَمِعْتُهُ- وَأَشَارَ بِيَدِهِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ-
(7/301)
قوم يقرءون الْقُرْآنَ بِأَلْسِنَتِهِمْ
لَا يَعْدُو تَرَاقِيَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ
السَّهْمُ مِنَ الرمية حدثناه أَبُو كَامِلٍ ثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ
ثَنَا سُلَيْمَانُ الشَيْبَانِيُّ بِهَذَا الْإِسْنَادِ وَقَالَ:
«يَخْرُجُ مِنْهُ أَقْوَامٌ» حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي
شَيْبَةَ وَإِسْحَاقُ جَمِيعًا عَنْ يَزِيدَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ:
حَدَّثَنَا يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ عَنِ الْعَوَّامِ بْنِ حَوْشَبٍ ثنا
أبو إسحاق الشيباني عن بسر بْنِ عَمْرٍو عَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فتنة قَوْمٌ
قَبِلَ الْمَشْرِقِ مُحَلَّقَةٌ رُءُوسُهُمْ.
الْحَدِيثُ الْعَاشِرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: ثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى
ثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ ثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ عَنْ سِمَاكٍ
عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَقْرَأُ الْقُرْآنَ أَقْوَامٌ
مِنْ أُمَّتِي يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ
مِنَ الرَّمِيَّةِ» . وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ
أَبِي شَيْبَةَ وَسُوَيْدِ بْنِ سَعِيدٍ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي
الْأَحْوَصِ بِإِسْنَادِهِ مِثْلَهُ.
الْحَدِيثُ الْحَادِي عَشَرَ عَنِ ابْنِ عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يزيد ثنا أبو حساب يحيى بن أبى
حبة عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
عُمَرَ يَقُولُ: لَقَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يَخْرُجُ من أمتى قوم يسيئون الأعمال
يقرءون الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ» قَالَ يَزِيدُ: لَا
أَعْلَمُهُ إِلَّا قَالَ: «يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ عَمَلَهُ مَعَ
عَمَلِهِمْ يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ فَإِذَا خَرَجُوا
فَاقْتُلُوهُمْ فَطُوبَى لِمَنْ قَتَلَهُمْ وَطُوبَى لِمَنْ قَتَلُوهُ،
كُلَّمَا طلع منهم قرن قطعه الله كلما طلع منهم قرن قطعه الله،
كُلَّمَا طَلَعَ مِنْهُمْ قَرَنٌ قَطَعَهُ اللَّهُ» فَرَدَّدَ ذَلِكَ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِشْرِينَ مَرَّةً
أَوْ أَكْثَرَ وَأَنَا أَسْمَعُ. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ مِنْ هَذَا
الْوَجْهِ. وَقَدْ ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ سَالِمٍ وَنَافِعٍ عَنِ ابْنِ
عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ: «الْفِتْنَةُ مِنْ هَاهُنَا مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنُ
الشَّيْطَانِ- وَأَشَارَ بِيَدِهِ نَحْوُ الْمَشْرِقِ-» .
الْحَدِيثُ الثاني عشر عن عبد الله بن عمرو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنَا
مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ قَالَ: لَمَّا
جَاءَتْنَا بَيْعَةُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، قَدِمْتُ الشَّامَ
فَأُخْبِرْتُ بِمَقَامٍ يَقُومُهُ نَوْفٌ الْبِكَالِيُّ، فَجِئْتُهُ
فَجَاءَ رَجُلٌ فَانْتَبَذَ النَّاسِ عَلَيْهِ خَمِيصَةٌ فَإِذَا هُوَ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَلَمَّا رَآهُ نَوْفٌ
أَمْسَكَ عَنِ الْحَدِيثِ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
«إِنَّهَا سَتَكُونُ هِجْرَةٌ بَعْدَ هِجْرَةٍ، يَنْحَازُ النَّاسُ
إِلَى مُهَاجَرِ إِبْرَاهِيمَ، لَا يَبْقَى فِي الْأَرْضِ إِلَّا
شِرَارُ أَهْلِهَا، تَلْفِظُهُمْ أَرْضُهُمْ، تَقْذَرُهُمْ نَفْسُ
الرَّحْمَنِ، تَحْشُرُهُمُ النَّارُ مَعَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ،
تَبِيتُ مَعَهُمْ إِذَا بَاتُوا، وَتَقِيلُ مَعَهُمْ إِذَا قَالُوا،
وَتَأْكُلُ مَنْ تَخَلَّفَ-» قَالَ: وَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «سَيَخْرُجُ نَاسٌ من أمتى قِبَلِ
الْمَشْرِقِ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ
كُلَّمَا خَرَجَ مِنْهُمْ قَرْنٌ قُطِعَ حَتَّى عَدَّهَا زِيَادَةً
عَلَى عَشْرِ مَرَّاتٍ، كُلَّمَا خَرَجَ مِنْهُمْ قَرْنٌ قُطِعَ حَتَّى
يَخْرُجَ الدَّجَّالُ فِي
(7/302)
بَقِيَّتِهِمْ» وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ
أَوَّلَهُ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ مَنْ سُنَنِهِ عَنِ الْقَوَارِيرِيِّ
عَنْ مُعَاذِ بْنِ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ قَتَادَةَ. وَقَدْ
تَقَدَّمَ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وحديث أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
الْحَدِيثُ الثَّالِثَ عَشَرَ عَنْ أَبِي ذر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ: حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فروخ ثنا
سليمان بن المغيرة ثنا حبيب بْنُ هِلَالٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الصَّامِتِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ. قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ بَعْدِي مِنْ أُمَّتِي- أَوْ
سَيَكُونُ بَعْدِي مِنْ أُمَّتِي- قَوْمٌ يقرءون الْقُرْآنَ لَا
يُجَاوِزُ حَلَاقِيمَهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَخْرُجُ
السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ لَا يَعُودُونَ فيه شَرُّ الْخَلْقِ
وَالْخَلِيقَةِ قَالَ ابْنُ الصَّامِتِ: فَلَقِيتُ زلفع بن عمرو
الغفاريّ أخا الحاكم الغفاريّ قال: ما حدث سمعت مِنْ أَبِي ذَرٍّ كَذَا
كَذَا؟ فَقَالَ: وَأَنَا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. لَمْ يَرْوِهِ الْبُخَارِيُّ.
الْحَدِيثُ الرَّابِعَ عَشَرَ عن أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
قَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: أَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
الْحَافِظُ وَأَبُو سَعِيدِ بْنُ أَبِي عَمْرٍو ثَنَا أَبُو
الْعَبَّاسِ الأصم ثنا السري عن يَحْيَى ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ
ثَنَا عَلِيُّ بن عباس عن حبيب بن مسلمة. قَالَ قَالَ عَلِيٌّ: «لَقَدْ
عَلِمَتْ عَائِشَةُ أَنَّ جيش المردة وَأَهْلَ النَّهْرَوَانِ
مَلْعُونُونَ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ» قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
جيش المشرق قَتَلَةُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَ
الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ: حَدَّثَنِي إِسْرَائِيلُ عَنْ يُونُسَ عَنْ
جَدِّهِ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ عَنْ رَجُلٍ عَنْ عائشة قال:
بلغها قَتْلُ عَلِيٍّ الْخَوَارِجَ فَقَالَتْ: قَتَلَ عَلِيُّ بْنُ
أَبِي طَالِبٍ شَيْطَانَ الرَّدْهَةِ- تَعْنِي الْمُخْدَجَ- وَقَالَ
الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
عُمَارَةَ بْنِ صُبَيْحٍ ثَنَا سَهْلُ بْنُ عَامِرٍ الْبَجَلِيُّ ثَنَا
أَبُو خَالِدٍ عَنْ مُجَالِدٌ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ
عَائِشَةَ قَالَتْ: ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الْخَوَارِجَ فَقَالَ: «شِرَارُ أُمَّتِي يَقْتُلُهُمْ
خِيَارُ أُمَّتِي» قَالَ: وَحَدَّثَنَاهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ
ثَنَا حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ ثَنَا سُلَيْمَانُ بن قرم ثنا عطاء ابن
السَّائِبِ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ نَحْوَهُ
قَالَ: فَرَأَيْتُ عَلِيًّا قَتَلَهُمْ وَهُمْ أَصْحَابُ
النَّهْرَوَانِ. ثُمَّ قَالَ الْبَزَّارُ:
لَا نَعْلَمُ روى عن عَطَاءٌ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ
إِلَّا هَذَا الْحَدِيثَ، وَلَا نَعْلَمُ رَوَاهُ عَنْ عَطَاءٍ إلا
سليمان بن قرم وسليمان بن قرم قد تكلموا فيه لكن الاسناد الأول يشهد
لهذا كما أن هذا يشهد للأول فهما متعاضدان، وهو غريب من حديث أم
المؤمنين، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ
عَنْ عَلِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَائِشَةَ اسْتَغْرَبَتْ حَدِيثَ
الْخَوَارِجِ وَلَا سِيَّمَا خَبَرَ ذِي الثُّدَيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ،
وَإِنَّمَا أَوْرَدْنَا هَذِهِ الطُّرُقَ كُلَّهَا لِيَعْلَمَ
الْوَاقِفُ عَلَيْهَا أَنْ ذَلِكَ حَقٌّ وَصِدْقٌ وَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ
دَلَالَاتِ النُّبُوَّةِ، كما ذكره غير واحد من الأئمة فيها والله
تعالى أعلم. وقال: سَأَلَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بَعْدَ
ذَلِكَ عَنْ خَبَرِ ذِي الثُّدَيَّةِ فَتَيَقَّنَتْهُ مِنْ طُرُقٍ
مُتَعَدِّدَةٍ. وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ فِي
الدَّلَائِلِ: أنا أبو عبد الله أَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ
عَامِرٍ الْكِنْدِيُّ بالكوفة من أصل سماعه ثنا محمد بن صدقة الكاتب
حدثني
(7/303)
أحمد بْنِ أَبَانَ فَقَرَأْتُ فِيهِ
حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ عيينة، وعبد الله بن أبى السفر بن عامر
الشعبي عن مسروق قالت عائشة: عندك علم عن ذِي الثُّدِيَّةِ الَّذِي
أَصَابَهُ عَلِيٌّ فِي الْحَرُورِيَّةِ: قُلْتُ! لَا قَالَتْ:
فَاكْتُبْ لِي بِشَهَادَةِ مَنْ شَهِدَهُمْ، فَرَجَعْتُ إِلَى
الْكُوفَةِ وَبِهَا يَوْمَئِذٍ أَسْبَاعٌ فَكَتَبْتُ شَهَادَةَ
عَشَرَةٍ مِنْ كُلِّ سَبْعٍ ثُمَّ أَتَيْتُهَا بِشَهَادَتِهِمْ
فَقَرَأْتُهَا عَلَيْهَا، قَالَتْ: أَكُلُّ هَؤُلَاءِ عَايَنُوهُ؟
قُلْتُ: لَقَدْ سَأَلْتُهُمْ فَأَخْبَرُونِي بِأَنَّ كُلَّهُمْ قد
عاينوه، فَقَالَتْ: لَعَنَ اللَّهُ فُلَانًا فَإِنَّهُ كَتَبَ إِلَيَّ
أَنَّهُ أَصَابَهُمْ بِنِيلِ مِصْرَ ثُمَّ أَرْخَتْ عَيْنَيْهَا
فَبَكَتْ فَلَمَّا سَكَنَتْ عَبْرَتُهَا قَالَتْ: رَحِمَ اللَّهُ
عَلِيًّا لَقَدْ كَانَ عَلَى الْحَقِّ، وَمَا كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ
إِلَّا كَمَا يَكُونُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَأَحْمَائِهَا.
حَدِيثٌ آخَرُ عَنْ رَجُلَيْنِ مُبْهَمَيْنِ مِنَ الصحابة في ذلك
قَالَ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ فِي كِتَابِ الْخَوَارِجِ: حدثني
سليمان بن المغيرة عن حبيب بْنِ هِلَالٍ قَالَ:
أَقْبَلَ رَجُلَانِ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ حَتَّى قَدِمَا الْعِرَاقَ
فَقِيلَ لَهُمَا: مَا أَقْدَمَكُمَا الْعِرَاقَ؟ قَالَا: رَجَوْنَا
أَنْ نُدْرِكَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ لَنَا رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَجَدْنَا عَلِيَّ بْنَ
أَبِي طَالِبٍ قَدْ سَبَقَنَا إِلَيْهِمْ- يَعْنِيَانِ أَهْلَ
النَّهْرَوَانِ-.
حديث فِي مَدْحِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى قتال الخوارج
قبحهم الله
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ ثَنَا
مطر عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ رَجَاءِ بْنِ رَبِيعَةَ الزُّبَيْدِيِّ
عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ يَقُولُ: «كُنَّا جُلُوسًا
نَنْتَظِرُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَخَرَجَ عَلَيْنَا مِنْ بُيُوتِ بَعْضِ نِسَائِهِ قَالَ فَقُمْنَا
مَعَهُ، فَانْقَطَعَتْ نَعْلُهُ فَتَخَلَّفَ عَلَيْهَا عَلِيٌّ
يَخْصِفُهَا فَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَمَضَيْنَا مَعَهُ ثُمَّ قَامَ يَنْتَظِرُهُ وَقُمْنَا
مَعَهُ، فَقَالَ إِنَّ مِنْكُمْ مَنْ يُقَاتِلُ عَلَى تَأْوِيلِ
الْقُرْآنِ كَمَا قَاتَلْتُ عَلَى تنزيل فاستشرف لها وفيهم أَبُو
بَكْرٍ، وَعُمَرُ فَقَالَ: لَا وَلَكِنَّهُ خَاصِفُ النَّعْلِ، قَالَ:
فَجِئْنَا نُبَشِّرُهُ قَالَ: فَكَأَنَّهُ قَدْ سَمِعَهُ» وَرَوَاهُ
أَحْمَدُ عَنْ وَكِيعٍ وَأَبِي أُسَامَةَ عن قطر بن خليفة فَأَمَّا
الْحَدِيثُ الَّذِي قَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى:
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُوسَى ثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سَهْلٍ
عَنْ سَعِيدِ بْنِ عُبَيْدٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ:
سَمِعْتُ عَلِيًّا عَلَى مِنْبَرِكُمْ هَذَا يَقُولُ: «عَهِدَ إِلَيَّ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أُقَاتِلَ
النَّاكِثِينَ وَالْقَاسِطِينَ وَالْمَارِقِينَ» وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو
بَكْرِ بْنُ الْمُقْرِئِ عَنْ الجد بن عبادة البصري عن يعقوب بن عباد
عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ سَهْلٍ الْفَزَارِيِّ بِهِ، فَإِنَّهُ حَدِيثٌ
غَرِيبٌ وَمُنْكَرٌ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ مِنْ طُرُقٍ عَنْ
عَلِيٍّ وَعَنْ غَيْرِهِ وَلَا تَخْلُو وَاحِدَةٌ مِنْهَا عَنْ ضَعْفٍ
وَالْمُرَادُ بِالنَّاكِثِينَ يعنى أهل الجمل وبالقاسطين أهل الشام
وأما المارقون فالخوارج لأنهم مرقوا من الدين وقد رواه الْحَافِظُ
أَبُو أَحْمَدَ بْنُ عَدِيٍّ فِي كَامِلِهِ عن أحمد بن حفص البغدادي عن
سليمان بن يوسف عن عبيد الله بن موسى عن قطر عَنْ حَكِيمِ بْنِ
جُبَيْرٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ:
أُمَرْتُ بِقِتَالِ النَّاكِثِينَ وَالْقَاسِطِينَ وَالْمَارِقِينَ.
وَقَالَ الْحَافِظُ: أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ
(7/304)
الْبَغْدَادِيُّ: أَخْبَرَنِي
الْأَزْهَرِيُّ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُظَفَّرِ ثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ أَحْمَدَ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: وَجَدْتُ فِي كِتَابِ جَدِّي
مُحَمَّدِ بْنِ ثَابِتٍ ثنا شعيب بْنُ الْحَسَنِ السُّلَمِيُّ عَنْ
جَعْفَرٍ الْأَحْمَرِ عَنْ يُونُسَ بْنِ الْأَرْقَمِ عَنْ أَبَانَ عَنْ
خُلَيْدٍ المصري قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ
يَقُولُ يَوْمَ النَّهْرَوَانِ: «أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِتَالِ النَّاكِثِينَ وَالْمَارِقِينَ
وَالْقَاسِطِينَ» وَقَدْ رَوَاهُ الحافظ أبو القاسم بن عَسَاكِرَ مِنْ
حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ فَرَجٍ الْجُنْدَيْسَابُورِيِّ أَنَا هَارُونُ
بْنُ إِسْحَاقَ ثَنَا أَبُو غَسَّانَ عَنْ جَعْفَرٍ- أَحْسَبُهُ
الْأَحْمَرَ- عَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ الْهَمْدَانِيِّ عَنْ أَنَسِ
بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيٍّ. قَالَ: «أُمِرْتُ بِقِتَالِ
ثَلَاثَةٍ الْمَارِقِينَ وَالْقَاسِطِينَ وَالنَّاكِثِينَ» وَقَالَ
الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ مُحَمَّدُ
بْنُ أَحْمَدَ بْنِ غنم الْحَنْظَلِيُّ بِقَنْطَرَةِ بَرَدَانَ ثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَطِيَّةَ بْنِ سَعْدٍ الْعَوْفِيُّ
حَدَّثَنِي أَبِي حدثني عمى عن عَمْرُو بْنُ عَطِيَّةَ بْنِ سَعْدٍ
عَنْ أَخِيهِ الْحَسَنِ بْنِ عَطِيَّةَ حَدَّثَنِي جَدِّي سَعْدُ بْنُ
جُنَادَةَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أُمِرْتُ
بِقِتَالِ ثَلَاثَةٍ، الْقَاسِطِينَ، وَالنَّاكِثِينَ،
وَالْمَارِقِينَ. فَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَأَهْلُ الشَّامِ، وَأَمَّا
النَّاكِثُونَ فَذَكَرَهُمْ، وَأَمَّا الْمَارِقُونَ فَأَهْلُ
النَّهْرَوَانِ- يَعْنِي الْحَرُورِيَّةَ- وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ
عَسَاكِرَ:
أَنَا أَبُو الْقِسْمِ زَاهِرُ بْنُ طَاهِرٍ أَنَا أَبُو سَعْدٍ
الْأَدِيبُ أَنَا السَّيِّدُ أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ
بْنِ الْحُسَيْنِ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الصُّوفِيُّ ثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو الْبَاهِلِيُّ ثَنَا كَثِيرُ بْنُ يَحْيَى
ثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي الْجَارُودِ عَنْ زَيْدُ بْنُ
عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ
عَلِيٍّ قَالَ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِقِتَالِ النَّاكِثِينَ وَالْمَارِقِينَ وَالْقَاسِطِينَ.
حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ في ذلك
قال الحافظ: حدثنا الامام أبو بكر أحمد بن الحسن الْفَقِيهُ أَنَا
الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ ثَنَا زَكَرِيَّا بن يحيى الخراز الْمُقْرِئُ
ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبَّادٍ الْمُقْرِئُ ثَنَا شَرِيكٌ عَنْ
مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَأَتَى مَنْزِلَ أُمِّ سَلَمَةَ فَجَاءَ عَلَيَّ فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا أُمَّ سَلَمَةَ هَذَا
وَاللَّهِ قَاتِلُ النَّاكِثِينَ وَالْقَاسِطِينَ وَالْمَارِقِينَ مِنْ
بَعْدِي» .
حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ فِي ذَلِكَ
قَالَ الْحَاكِمُ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ
بْنِ دُحَيْمٍ الشيباني ثنا الحسين بن الحكم الحيريّ ثَنَا
إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبَانَ ثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ
الْأَزْدِيُّ عَنْ أَبِي هَارُونَ الْعَبْدِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ قَالَ: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِتَالِ النَّاكِثِينَ وَالْقَاسِطِينَ
وَالْمَارِقِينَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَمَرْتَنَا بِقِتَالِ
هَؤُلَاءِ فَمَعَ مَنْ؟ فَقَالَ: مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ
مَعَهُ يُقْتَلُ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ» .
حَدِيثُ أَبِي أَيُّوبَ فِي ذَلِكَ
قَالَ الْحَاكِمُ: أنا أبو الحسين على بن حماد المعدل ثَنَا
إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ دِيزِيلَ ثَنَا عبد العزيز
(7/305)
ابن الخطاب ثنا محمد بن كثير عن الحرث بن
خضيرة عن أبى صادق عن مخنف بن سليمان. قَالَ:
أَتَيْنَا أَبَا أَيُّوبَ فَقُلْنَا: قَاتَلْتَ بِسَيْفِكَ
الْمُشْرِكِينَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ثُمَّ جِئْتَ تُقَاتِلُ الْمُسْلِمِينَ؟ فَقَالَ:
«أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِقِتَالِ النَّاكِثِينَ وَالْمَارِقِينَ وَالْقَاسِطِينَ» قَالَ
الْحَاكِمُ: وَحَدَّثَنَا أَبُو بكر محمد ابن أَحْمَدَ بْنِ
بَالَوَيْهِ ثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بن شبيب العمرى ثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ ثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الفضل حدثني أبو زيد
الأموي عن عتاب بن ثعلبة فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ:
«أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِقِتَالِ النَّاكِثِينَ وَالْقَاسِطِينَ وَالْمَارِقِينَ مَعَ عَلِيِّ
بْنِ أَبِي طالب وقال الخطيب البغدادي: حدثنا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُقْرِئُ ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
يُوسُفَ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْمَطِيرِيُّ ثَنَا أَحْمَدُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُؤَدِّبِ بِسُرَّ مَنْ رَأَى ثَنَا
الْمُعَلَّى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بِبَغْدَادَ ثَنَا شَرِيكٌ عن
سليمان بن مهران عن الأعمش عَنْ عَلْقَمَةَ وَالْأَسْوَدِ قَالَا:
أَتَيْنَا أَبَا أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيَّ عِنْدَ مُنْصَرَفِهِ مِنْ
صِفِّينَ فَقُلْنَا لَهُ: يَا أَبَا أَيُّوبَ! إِنَّ اللَّهَ
أَكْرَمَكَ بِنُزُولِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَبِمَجِيءِ نَاقَتِهِ تَفَضُّلًا مِنَ اللَّهِ وَإِكْرَامًا لَكَ
حِينَ أَنَاخَتْ بِبَابِكَ دُونَ النَّاسِ ثُمَّ جِئْتَ بِسَيْفِكَ
عَلَى عَاتِقِكَ تَضْرِبُ بِهِ أَهْلَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟
فَقَالَ:
يَا هَذَا إِنَّ الرَّائِدَ لَا يَكْذِبُ أَهْلَهُ، وَإِنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَنَا بِقِتَالِ
ثَلَاثَةٍ مَعَ عَلِيٍّ، بِقِتَالِ النَّاكِثِينَ وَالْقَاسِطِينَ
وَالْمَارِقِينَ. فَأَمَّا النَّاكِثُونَ فَقَدْ قَاتَلْنَاهُمْ وَهُمْ
أَهْلُ الْجَمَلِ، طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ، وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ
فَهَذَا مُنْصَرَفُنَا مِنْ عِنْدِهِمْ- يَعْنِي مُعَاوِيَةَ وعمرا-
وأما المارقون فهم أهل الطرفات وأهل السعيفات وأهل النخيلات وأهل
النهروان، وَاللَّهِ مَا أَدْرِي أَيْنَ هُمْ وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ
قِتَالِهِمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. قَالَ:
وَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ
لِعَمَّارٍ: «يَا عَمَّارُ تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ وأنت مذ
ذَاكَ مَعَ الْحَقِّ وَالْحَقُّ مَعَكَ، يَا عَمَّارُ بْنَ يَاسِرٍ
إِنْ رَأَيْتَ عَلِيًّا قَدْ سَلَكَ واديا وسلك الناس غَيْرَهُ
فَاسْلُكْ مَعَ عَلِيٍّ فَإِنَّهُ لَنْ يُدْلِيَكَ فِي رَدًى وَلَنْ
يُخْرِجَكَ مَنْ هُدًى، يَا عَمَّارُ مَنْ تَقَلَّدَ سَيْفًا أَعَانَ
بِهِ عَلِيًّا عَلَى عَدُوِّهِ قَلَّدَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
وِشَاحَيْنِ مِنْ دُرٍّ، وَمَنْ تَقَلَّدَ سَيْفًا أَعَانَ بِهِ
عَدُوَّ عَلِيٍّ عَلَيْهِ قَلَّدَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
وِشَاحَيْنِ مِنْ نَارٍ فَقُلْنَا: يَا هَذَا! حَسْبُكَ رَحِمَكَ
اللَّهُ حَسْبُكَ رَحِمَكَ اللَّهُ» ، هَذَا السِّيَاقُ الظَّاهِرُ
أَنَّهُ مَوْضُوعٌ وَآفَتُهُ مِنْ جِهَةِ الْمُعَلَّى بن عبد الرحمن
فإنه متروك الحديث.
فصل
قَالَ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ فِي كِتَابِهِ الَّذِي جَمَعَهُ: فِي
الْخَوَارِجِ وَهُوَ مِنْ أَحْسَنِ مَا صُنِّفَ فِي ذَلِكَ قَالَ:
وَذَكَرَ عِيسَى بْنُ دَابٍّ قَالَ: لَمَّا انْصَرَفَ عَلِيٌّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ مِنَ النَّهْرَوَانِ قَامَ فِي النَّاسِ خَطِيبًا
فَقَالَ:
بَعْدَ حَمْدِ اللَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَالصَّلَاةِ عَلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَّا بَعْدُ
فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعَزَّ نَصْرَكُمْ فَتَوَجَّهُوا مِنْ
فَوْرِكُمْ هَذَا إِلَى عَدُوِّكُمْ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ فَقَامُوا
إِلَيْهِ فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ المؤمنين نفذت نبالنا وكلت سيوفنا
(7/306)
وَنَصَلَتْ أَسِنَّتُنَا، فَانْصَرِفْ
بِنَا إِلَى مِصْرِنَا حَتَّى نَسْتَعِدَّ بِأَحْسَنِ عُدَّتِنَا،
وَلَعَلَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَزِيدُ فِي عُدَّتِنَا عُدَّةَ مَنْ
فَارَقَنَا وَهَلَكَ مِنَّا فَإِنَّهُ أَقْوَى لَنَا عَلَى عَدُوِّنَا-
وَكَانَ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهَذَا الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ
الْكِنْدِيُّ فَبَايَعَهُمْ وَأَقْبَلَ بِالنَّاسِ حَتَّى نَزَلَ
بِالنُّخَيْلَةِ وَأَمْرَهُمْ أَنْ يَلْزَمُوا مُعَسْكَرَهُمْ
وَيُوَطِّنُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى جِهَادِ عَدُوِّهِمْ وَيُقِلُّوا
زِيَارَةَ نِسَائِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ، فَأَقَامُوا مَعَهُ أَيَّامًا
متمسكين بِرَأْيِهِ وَقَوْلِهِ، ثُمَّ تَسَلَّلُوا حَتَّى لَمْ يَبْقَ
مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا رُءُوسُ أَصْحَابِهِ، فَقَامَ عَلِيٌّ فِيهِمْ
خَطِيبًا فَقَالَ: الْحَمْدُ للَّه فَاطِرِ الْخَلْقِ وَفَالِقِ
الْإِصْبَاحِ وَنَاشِرِ الْمَوْتَى وَبَاعِثِ مَنْ فِي الْقُبُورِ،
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ
مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ
فَإِنَّ أَفْضَلَ مَا تَوَسَّلَ بِهِ الْعَبْدُ الْإِيمَانُ
وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ وَكَلِمَةُ الْإِخْلَاصِ فَإِنَّهَا
الْفِطْرَةُ، وَإِقَامُ الصَّلَاةِ، فَإِنَّهَا الْمِلَّةُ، وَإِيتَاءُ
الزَّكَاةِ فَإِنَّهَا مِنْ فريضته، وَصَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ
فَإِنَّهُ جُنَّةٌ مِنْ عَذَابِهِ، وَحَجُّ الْبَيْتِ فَإِنَّهُ
مَنْفَاةٌ لِلْفَقْرِ مَدْحَضَةٌ لِلذَّنْبِ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ
فَإِنَّهَا مَثْرَاةٌ فِي الْمَالِ، مَنْسَأَةٌ فِي الْأَجَلِ،
مَحَبَّةٌ فِي الْأَهْلِ، وَصَدَقَةُ السِّرِّ فإنها تكفر الخطيئة
وَتُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ، وَصُنْعُ الْمَعْرُوفِ فَإِنَّهُ يَدْفَعُ
مِيتَةَ السُّوءِ وَيَقِي مَصَارِعَ الْهَوْلِ، أَفِيضُوا فِي ذِكْرِ
اللَّهِ فَإِنَّهُ أَحْسَنُ الذِّكْرِ، وَارْغَبُوا فِيمَا وعد المتقون
فَإِنَّ وَعْدَ اللَّهِ أَصْدُقُ الْوَعْدِ، وَاقْتَدُوا بِهَدْيِ
نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ أَفْضَلُ
الهدى، واستسنوا بِسُنَّتِهِ فَإِنَّهَا أَفْضَلُ السُّنَنِ،
وَتَعَلَّمُوا كِتَابَ اللَّهِ فَإِنَّهُ أَفْضَلُ الْحَدِيثِ،
وَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ فَإِنَّهُ رَبِيعُ الْقُلُوبِ،
وَاسْتَشْفُوا بِنُورِهِ فَإِنَّهُ شِفَاءٌ لَمَّا فِي الصُّدُورِ،
وَأَحْسِنُوا تِلَاوَتَهُ فَإِنَّهُ أَحْسَنُ الْقَصَصِ، وَإِذَا
قُرِئَ عَلَيْكُمْ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ، وَإِذَا هُدِيتُمْ لِعِلْمِهِ فَاعْمَلُوا بِمَا
عَلِمْتُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ، فَإِنَّ الْعَالِمَ
الْعَامِلَ بِغَيْرِ علمه كالجاهل الجائر الّذي لا يستقيم عن جَهْلِهِ،
بَلْ قَدْ رَأَيْتُ أَنَّ الْحُجَّةَ أَعْظَمُ، وَالْحَسْرَةَ أَدُومُ
عَلَى هَذَا الْعَالِمِ الْمُنْسَلِخِ مَنْ علمه عَلَى هَذَا
الْجَاهِلِ الْمُتَحَيِّرِ فِي جَهْلِهِ، وَكِلَاهُمَا مُضَلِّلٌ
مَثْبُورٌ، لَا تَرْتَابُوا فَتَشُكُّوا، وَلَا تَشُكُّوا
فَتَكْفُرُوا، وَلَا تُرَخِّصُوا لِأَنْفُسِكُمْ فَتَذْهَلُوا، وَلَا
تُذْهَلُوا فِي الْحَقِّ فَتَخْسَرُوا، أَلَا وَإِنَّ مِنَ الْحَزْمِ
أَنْ تَثِقُوا، وَمِنَ الثِّقَةِ أَنْ لَا تَغْتَرُّوا، وَإِنَّ
أَنْصَحَكُمْ لِنَفْسِهِ أَطْوَعُكُمْ لِرَبِّهِ وَإِنَّ أَغَشَّكُمْ
لِنَفْسِهِ أَعَصَاكُمْ لِرَبِّهِ، مَنْ يُطِعِ اللَّهَ يَأْمَنْ
ويستبشر، ومن يعص الله يخف ويندم، ثم سَلُوا اللَّهَ الْيَقِينَ
وَارْغَبُوا إِلَيْهِ فِي الْعَافِيَةِ، وَخَيْرُ مَا دَامَ فِي
الْقَلْبِ الْيَقِينُ، إِنَّ عوازم الأمور أفضلها، وإن محدثاتها شرارها
وكل محدث بِدَعَةٌ وَكُلُّ مُحْدِثٍ مُبْتَدِعٌ، وَمَنِ ابْتَدَعَ
فَقَدْ ضَيَّعَ، وَمَا أَحْدَثَ مُحْدِثٌ بِدْعَةً إِلَّا تَرَكَ بها
سنة، المغبون من غبن دينه، والمغبون مَنْ خَسِرَ نَفْسَهُ، وَإِنَّ
الرِّيَاءَ مِنَ الشِّرْكِ، وَإِنَّ الْإِخْلَاصَ مِنَ الْعَمَلِ
وَالْإِيمَانِ، وَمَجَالِسُ اللَّهْوِ تُنْسِي الْقُرْآنَ
وَيَحْضُرُهَا الشَّيْطَانُ، وَتَدْعُو إِلَى كُلِّ غى، ومجالسة النساء
تزيغ القلوب وتطمح إليه الأبصار، وهي مَصَائِدُ الشَّيْطَانِ،
فَاصْدُقُوا اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ مَعَ مَنْ صَدَقَ وَجَانِبُوا
الْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ مُجَانِبٌ للايمان ألا إن الصدق على شرف
منجاة وكرامة، وإن الكذب على شرف ردى وهلكة، أَلَا وَقُولُوا الْحَقَّ
تُعْرَفُوا بِهِ
(7/307)
وَاعْمَلُوا بِهِ تَكُونُوا مَنْ أَهْلِهِ،
وَأَدُّوا الْأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكُمْ، وَصِلُوا أَرْحَامَ
مَنْ قَطَعَكُمْ وعودوا بالفضل على من حرمكم، وإذ عَاهَدْتُمْ
فَأَوْفُوا، وَإِذَا حَكَمْتُمْ فَاعْدِلُوا، وَلَا تَفَاخَرُوا
بالآباء، ولا تنابزوا بالألقاب، ولا نمازحوا، ولا يغضب بَعْضُكُمْ
بَعْضًا، وَأَعِينُوا الضَّعِيفَ وَالْمَظْلُومَ وَالْغَارِمِينَ وَفِي
سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلَيْنِ وَفِي
الرِّقَابِ، وَارْحَمُوا الْأَرْمَلَةَ وَالْيَتِيمَ، وَأَفْشُوا
السَّلَامَ وَرُدُّوا التَّحِيَّةَ على أهلها بمثلها أَوْ بِأَحْسَنَ
مِنْهَا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا
عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ الله شَدِيدُ
الْعِقابِ 5: 2 وَأَكْرِمُوا الضَّيْفَ، وَأَحْسِنُوا إِلَى الْجَارِ،
وَعُودُوا الْمَرْضَى، وَشَيِّعُوا الْجَنَائِزَ، وَكُونُوا عِبَادَ
اللَّهِ إِخْوَانًا، أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ أَدْبَرَتْ
وَآذَنَتْ بِوَدَاعٍ، وإن الآخرة قد أظلت وَأَشْرَفَتْ بِاطِّلَاعٍ،
وَإِنَّ الْمِضْمَارَ الْيَوْمَ وَغَدًا السِّبَاقُ وإن السبقة الجنة
والغاية النار، أَلَا وَإِنَّكُمْ فِي أَيَّامِ مَهْلٍ مِنْ وَرَائِهَا
أجل يحثه عَجِلٌ، فَمَنْ أَخْلَصَ للَّه عَمَلَهُ فِي أَيَّامِ
مَهْلِهِ قَبْلَ حُضُورِ أَجَلِهِ فَقَدْ أَحْسَنَ عَمَلَهُ وَنَالَ
أَمَلَهُ، وَمَنْ قَصَرَ عَنْ ذَلِكَ فَقَدْ خسر عمله وخاب أمله، وضره
أمله، فَاعْمَلُوا فِي الرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ فَإِنْ نَزَلَتْ
بِكُمْ رَغْبَةٌ فَاشْكُرُوا اللَّهَ وَاجْمَعُوا مَعَهَا رَهْبَةً،
وَإِنْ نَزَلَتْ بِكُمْ رَهْبَةٌ فَاذْكُرُوا اللَّهَ وَاجْمَعُوا
مَعَهَا رَغْبَةً، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ تَأَذَّنَ الْمُسْلِمِينَ
بِالْحُسْنَى، وَلِمَنْ شَكَرَ بِالزِّيَادَةِ، وَإِنِّي لَمْ أَرَ
مِثْلَ الْجَنَّةِ نَامَ طَالِبُهَا، وَلَا كَالنَّارِ نَامَ
هَارِبُهَا، ولا أكثر مكتسبا من شيء كسبه ليوم تدخر فيه الذخائر، وتبلى
فيه السرائر، وتجتمع فيه الكبائر، وَإِنَّهُ مَنْ لَا يَنْفَعْهُ
الْحَقُّ يَضُرَّهُ الْبَاطِلُ، ومن لا يستقيم به الْهُدَى يَجُرْ بِهِ
الضَّلَالُ، وَمَنْ لَا يَنْفَعْهُ الْيَقِينُ يَضُرَّهُ الشَّكُّ،
وَمَنْ لَا يَنْفَعْهُ حَاضِرُهُ فعازبه عنه أعور، وغائبة عنه أعجز:
وإنكم قد أمرتم بالظعن ودللتم على الزاد، ألا وإن أخوف ما أخاف عليكم
اثنان طول الأمل واتباع الهوى، فأما طول الأمل فينسى الآخرة، وأما
اتباع الهوى فيبعد عَنِ الْحَقِّ، أَلَا وَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ
تَرَحَّلَتْ مُدْبِرَةً، وَإِنَّ الْآخِرَةَ قَدْ تَرَحَّلَتْ
مُقْبِلَةً، وَلَهُمَا بَنُونَ فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ
إِنِ اسْتَطَعْتُمْ، ولا تكونوا من بنى الدُّنْيَا فَإِنَّ الْيَوْمَ
عَمَلٌ وَلَا حِسَابَ وَغَدًا حساب ولا عمل، وهذه خطبة بَلِيغَةٌ
نَافِعَةٌ جَامِعَةٌ لِلْخَيْرِ نَاهِيَةٌ عَنِ الشَّرِّ.
وقد روى لها شواهد من وجوه أخر مُتَّصِلَةٍ وللَّه الْحَمْدُ
وَالْمِنَّةُ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ: أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا نكل أهل العراق عن الذهاب إلى الشام خطبهم
فوبخهم وأنبهم وتوعدهم وهددهم وتلا عليهم آيات في الجهاد من سور
متفرقة، وحث على المسير إلى عدوهم فأبوا من ذَلِكَ وَخَالَفُوهُ وَلَمْ
يُوَافِقُوهُ، وَاسْتَمَرُّوا فِي بِلَادِهِمْ، وتفرقوا عنه هاهنا
وهاهنا، فدخل على الكوفة
فصل
وَقَدْ ذَكَرَ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ أَنَّهُ خَرَجَ على على بعد
النَّهْرَوَانِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: الْحَارِثُ بْنُ رَاشِدٍ
النَّاجِيُّ، قَدِمَ مَعَ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، فَقَالَ لِعَلِيٍّ:
إِنَّكَ قَدْ قَاتَلْتَ أَهْلَ النَّهْرَوَانِ فِي كَوْنِهِمْ أنكروا
عليك
(7/308)
قصة التَّحْكِيمِ وَتَزْعُمُ أَنَّكَ قَدْ
أَعْطَيْتَ أَهْلَ الشَّامِ عُهُودَكَ وَمَوَاثِيقَكَ، وَأَنَّكَ
لَسْتَ بِنَاقِضِهَا، وَهَذَانَ الْحَكَمَانِ قَدِ اتَّفَقَا عَلَى
خَلْعِكَ ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي ولاية معاوية فولاه عمرو وامتنع أبو
موسى من ذلك، فَأَنْتَ مَخْلُوعٌ بِاتِّفَاقِهِمَا، وَأَنَا قَدْ
خَلَعْتُكُ وَخَلَعْتُ معاوية معك، وتبع الحارث هذا بَشَرٌ كَثِيرٌ
مِنْ قَوْمِهِ- بَنِي نَاجِيَةَ وَغَيْرِهِمْ- وَتَحَيَّزُوا
نَاحِيَةً، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ عَلِيٌّ مَعْقِلَ بْنَ قيس الرماحى فِي
جَيْشٍ كَثِيفٍ فَقَتَلَهُمْ مَعْقِلٌ قَتْلًا ذَرِيعًا وَسَبَى مِنْ
بَنِي نَاجِيَةَ خَمْسَمِائَةِ أَهْلِ بَيْتٍ فقدم بهم ليقدم بِهِمْ
عَلَى عَلِيٍّ فَتَلَقَّاهُ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: مَصْقَلَةُ بْنُ
هُبَيْرَةَ أَبُو الْمُغَلِّسِ- وَكَانَ عَامِلًا لعلى على بعض
الأقاليم- فتضرروا إليه وشكوا ما هم فيه من السبي، فاشتراهم مصقلة من
معقل بخمسمائة ألف درهم وَأَعْتَقَهُمْ، فَطَالَبَهُ بِالثَّمَنِ
فَهَرَبَ مِنْهُ إِلَى ابْنِ عباس بالبصرة، فكتب معقل إلى ابن عباس
فَقَالَ لَهُ مَصْقَلَةُ: إِنِّي إِنَّمَا جِئْتُ لِأَدْفَعَ ثمنهم
إليك ثم هرب منه إلى على فكتب ابن عباس ومعقل إلى على فطالبه على فدفع
من الثمن مائتي ألف ثم انشمر هاربا فَلَحِقَ بِمُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي
سُفْيَانَ بِالشَّامِ، فَأَمْضَى عَلِيٌّ عِتْقَهُمْ وَقَالَ: مَا
بَقِيَ مِنَ الْمَالِ فِي ذِمَّةِ مَصْقَلَةَ؟ وَأَمَرَ بِدَارِهِ فِي
الْكُوفَةِ فَهُدِمَتْ. وَقَدْ رَوَى الْهَيْثَمُ عَنْ سُفْيَانَ
الثَّوْرِيِّ وإسرائيل عن عمار الذهبي عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ أَنَّ
بَنِي نَاجِيَةَ ارْتَدُّوا فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ: مَعْقِلَ بْنَ قَيْسٍ
فَسَبَاهُمْ فَاشْتَرَاهُمْ مَصْقَلَةُ مِنْ عَلِيٍّ بِثَلَاثِمِائَةِ
أَلْفٍ فَأَعْتَقَهُمْ ثُمَّ هَرَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ. قَالَ
الْهَيْثَمُ وَهَذَا قَوْلُ الشيعة ولم يسمع بحيي من العرب ارتد وأبعد
الرِّدَّةِ الَّتِي كَانَتْ فِي أَيَّامِ الصِّدِّيقِ. وَقَالَ الهيثم:
حدثني عبد اللَّهِ [1] بْنُ تَمِيمِ بْنِ طَرَفَةَ الطَّائِيُّ
حَدَّثَنِي أَبِي أَنَّ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ قَالَ مَرَّةً لِعَلِيِّ
بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَهُوَ يَخْطُبُ: قَتَلْتَ أهل النهروان على انكار
الحكومة، وقتلت الحريث بن راشد على مسألتهم إياك أيضا الْحُكُومَةَ،
وَاللَّهِ مَا بَيْنَهُمَا مَوْضِعُ قَدَمٍ. فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ:
اسْكُتْ إِنَّمَا كُنْتَ أَعْرَابِيًّا تَأْكُلُ الضبع بجبل طيِّئ
بِالْأَمْسِ. فَقَالَ لَهُ عَدِيٌّ: وَأَنْتَ وَاللَّهِ قَدْ
رَأَيْنَاكَ بِالْأَمْسِ تَأْكُلُ الْبَلَحَ بِالْمَدِينَةِ. قَالَ
الْهَيْثَمُ: ثم خرج على على رجل مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ فَقُتِلَ
فَأَمَّرَ أَصْحَابُهُ عَلَيْهِمُ الْأَشْرَسَ بْنَ عَوْفٍ
الشَيْبَانِيَّ، فَقُتِلَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، قال: ثم.
خرج على على الأشهب بن بشر البجلي ثم أحد عُرَيْنَةَ مِنْ أَهْلِ
الْكُوفَةِ فَقُتِلَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ. قَالَ: ثُمَّ خَرَجَ عَلَى
عَلِيٍّ سَعِيدُ بْنُ نغد التميمي ثم من بنى ثَعْلَبَةَ مِنْ أَهْلِ
الْكُوفَةِ فَقُتِلَ بِقَنْطَرَةِ دَرْزِيجَانَ فَوْقَ الْمَدَائِنِ.
قَالَ الْهَيْثَمُ: أَخْبَرَنِي بِذَلِكَ عَبْدُ الله بن عياش عن
مشيخته.
فصل
ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي مِخْنَفٍ لُوطِ بْنِ يَحْيَى- وَهُوَ
أَحَدُ أَئِمَّةِ هَذَا الشَّأْنِ- أن قتال على للخوارج يَوْمَ
النَّهْرَوَانِ، كَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ- أَعْنِي سَنَةَ سَبْعٍ
وَثَلَاثِينَ- قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَأَكْثَرُ أهل السير
__________
[1] كذا في الأصل وفي نسخة: عبيد بن تميم.
(7/309)
عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي سَنَةِ
ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ وَصَحَّحَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، قُلْتُ: وَهُوَ
الْأَشْبَهُ كَمَا سَنُنَبِّهُ عَلَيْهِ فِي السَّنَةِ الْآتِيَةِ إِنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي
هَذِهِ السنة- يعنى سَنَةَ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ- عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ
عَبَّاسٍ نَائِبُ عَلِيٍّ عَلَى الْيَمَنِ وَمَخَالِفِيهَا. وَكَانَ
نَائِبَ مَكَّةَ قُثَمُ بْنُ الْعَبَّاسِ، وَعَلَى الْمَدِينَةِ
تَمَّامُ بْنُ عَبَّاسٍ، وَقِيلَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ، وَعَلَى
الْبَصْرَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَعَلَى قَضَائِهَا أبو
الأسود الدؤلي، وعلى مصر محمد بن أبى بكر، وعلى بن أبى طالب أمير
المؤمنين مقيم بالكوفة، ومعاوية بن أبى سفيان مستحوذ على الشام. قلت:
ومن نيته أن يأخذ مصر من محمد بن أبى بكر.
ذكر من توفى فيها مِنَ الْأَعْيَانِ
خَبَّابُ بْنُ الْأَرَتِّ بْنِ جَنْدَلَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ خُزَيْمَةَ
كَانَ قَدْ أَصَابَهُ سبى في الجاهلية فاشترته أَنْمَارٍ
الْخُزَاعِيَّةُ الَّتِي كَانَتْ تَخْتِنُ النِّسَاءَ، وَهِيَ أُمُّ
سِبَاعِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى الَّذِي قَتَلَهُ حمزة يوم أحد وحالف
بَنِي زُهْرَةَ، أَسْلَمَ خَبَّابٌ قَدِيمًا قَبْلَ دَارِ الأرقم، وكان
ممن يؤذى في الله فَيَصْبِرُ وَيَحْتَسِبُ، وَهَاجَرَ وَشَهِدَ بَدْرًا
وَمَا بَعْدَهَا من المشاهد. قال الشعبي: دخل يَوْمًا عَلَى عُمَرَ
فَأَكْرَمَ مَجْلِسَهُ وَقَالَ: مَا أَحَدٌ أَحَقُّ بِهَذَا
الْمَجْلِسِ مِنْكَ إِلَّا بِلَالٌ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ بِلَالًا كَانَ يُؤْذَى وَكَانَ لَهُ مَنْ
يَمْنَعُهُ، وَإِنِّي كُنْتُ لَا نَاصِرَ لِي وَاللَّهِ لَقَدْ
سَلَقُونِي يَوْمًا في نار أججوها ووضع رجل رِجْلَهُ عَلَى صَدْرِي
فَمَا اتَّقَيْتُ الْأَرْضَ إِلَّا بِظَهْرِي، ثُمَّ كَشَفَ عَنْ
ظَهْرِهِ فَإِذَا هُوَ بَرِصَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَلَمَّا مَرِضَ
دَخَلَ عليه أناس مِنَ الصَّحَابَةِ يَعُودُونَهُ فَقَالُوا: أَبْشِرْ
غَدًا تَلْقَى الأحبة محمدا وحزبه فقال: والله إن إخواني مضوا ولم
يأكلوا من دنياهم شَيْئًا، وَإِنَّا قَدْ أَيْنَعَتْ لَنَا ثَمَرَتُهَا
فَنَحْنُ نهد بها، فهذا الّذي يهمني. قال: وَتُوُفِّيَ بِالْكُوفَةِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً وَهُوَ أَوَّلُ
مَنْ دُفِنَ بِظَاهِرِ الكوفة.
خزيمة بن ثابت
ابن الْفَاكِهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ سَاعِدَةَ الْأَنْصَارِيُّ ذُو
الشهادتين وكانت راية بنى حطمة مَعَهُ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَشَهِدَ
صِفِّينَ مَعَ عَلِيٍّ، وَقُتِلَ يَوْمَئِذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
سَفِينَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَدْ قدمنا ترجمته في الموالي المنسوبين إليه صَلَوَاتُ اللَّهِ
وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْأَرْقَمِ بْنِ أَبِي الْأَرْقَمِ
أَسْلَمَ عَامَ الْفَتْحِ وَكَتَبَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعَ كُتَّابِ
الْوَحْيِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُدَيْلِ بْنِ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيِّ،
قتل يوم صفين وكان أمير الميمنة لعلى فصارت أمرتها للأشتر النخعي
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ. وُلِدَ فِي حَيَاةِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ مَوْصُوفًا
بِالْخَيْرِ، قَتَلَهُ الْخَوَارِجُ كَمَا قَدَّمْنَا بِالنَّهْرَوَانِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فَلَمَّا جَاءَ عَلِيٌّ قَالَ لَهُمْ:
أَعْطُونَا قَتَلَتَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ آمِنُونَ فقالوا: كلنا قتله
فقاتلهم عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ: أحد كتاب الوحي
أيضا، أسلم قديما وكتب الوحي
(7/310)
ثم ارتد ثُمَّ عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ
عَامَ الْفَتْحِ وَاسْتَأْمَنَ له عثمان- وَكَانَ أَخَاهُ لِأُمِّهِ-
وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ وَقَدْ وَلَّاهُ عثمان نيابة مصر بعد موت عَمْرِو
بْنِ الْعَاصِ، فَغَزَا إِفْرِيقِيَّةَ وَبِلَادَ النُّوبَةِ، وَفَتَحَ
الْأَنْدَلُسَ وَغَزَا ذَاتَ الصَّوَارِي مَعَ الرُّومِ فِي الْبَحْرِ
فَقَتَلَ مِنْهُمْ مَا صَبَغَ وَجْهَ الْمَاءِ مِنَ الدِّمَاءِ، ثُمَّ
لَمَّا حُصِرَ عُثْمَانُ تَغَلَّبَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي
حُذَيْفَةَ وَأَخْرَجَهُ مِنْ مِصْرَ فَمَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
وَهُوَ مُعْتَزِلٌ عَلِيًّا وَمُعَاوِيَةَ، فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ
بَيْنَ التَّسْلِيمَتَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ أَبُو الْيَقْظَانِ الْعَبْسِيُّ
مِنْ عَبْسِ الْيَمَنِ، وَهُوَ حَلِيفُ بَنِي مَخْزُومٍ، أَسْلَمَ
قَدِيمًا وَكَانَ مِمَّنْ يُعَذَّبُ فِي اللَّهِ هُوَ وَأَبُوهُ
وَأُمُّهُ سُمَيَّةُ، وَيُقَالُ إِنَّهُ أَوَّلُ مَنِ اتَّخَذَ
مَسْجِدًا فِي بَيْتِهِ يَتَعَبَّدُ فِيهِ، وَقَدْ شَهِدَ بَدْرًا
وَمَا بَعْدَهَا وَقَدْ قَدَّمْنَا كَيْفِيَّةَ مَقْتَلِهِ يَوْمَ
صِفِّينَ وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ: «تقتلك الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ» وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ
حَدِيثِ الْحَسَنِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الْجَنَّةَ تَشْتَاقُ إِلَى ثلاثة،
على وعمار وسلمان» وفي الحديث الآخر الّذي رواه الثوري وقيس بن الربيع
وشريك القاضي وغيرهم عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ هَانِئِ بْنِ هَانِئٍ
عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ عَمَّارًا اسْتَأْذَنَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «مَرْحَبًا بالطيب المطيب»
وقال إبراهيم ابن الْحُسَيْنِ: حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنِي نَصْرٌ
ثَنَا سُفْيَانُ الثوري عن أبى الأعمش عن أبى عمار عن عمرو ابن
شُرَحْبِيلَ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لقد ملئ عمار إيمانا
من قدمه إِلَى مُشَاشِهِ» وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُعَلَّى عَنِ
الْأَعْمَشُ عَنْ مُسْلِمٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا
قَالَتْ: «مَا مِنْ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَاءُ أَنْ أَقُولَ فِيهِ إِلَّا
عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: إن عمار بن ياسر حُشِيَ مَا بَيْنِ
أَخْمَصِ قَدَمَيْهِ إِلَى شَحْمَةِ أذنه إِيمَانًا» وَحَدَّثَنَا
يَحْيَى ثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ أَنَا هُشَيْمٌ عَنِ الْعَوَّامِ
بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ:
أَتَيْتُ أَهْلَ الشَّامِ فَلَقِيتُ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ
فَحَدَّثَنِي قَالَ: كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ
كَلَامٌ فِي شَيْءٍ فَشَكَانِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «يَا خَالِدُ! لَا تُؤْذِ عَمَّارًا
فَإِنَّهُ مَنْ يَبْغَضْ عَمَّارًا يَبْغَضْهُ اللَّهُ، وَمَنْ يُعَادِ
عَمَّارًا يُعَادِهِ اللَّهُ «قَالَ:
فَعَرَضْتُ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَسَلَلْتُ مَا فِي نَفْسِهِ. وَلَهُ
أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي فَضَائِلِهِ رضى الله عنه قتل بصفين عَنْ
إِحْدَى وَقِيلَ ثَلَاثٍ وَقِيلَ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً طَعَنَهُ
أَبُو الْغَادِيَةِ فَسَقَطَ ثُمَّ أَكَبَّ عَلَيْهِ رَجُلٌ فَاحْتَزَّ
رَأْسَهُ، ثُمَّ اخْتَصَمَا إِلَى مُعَاوِيَةَ أَيُّهُمَا قَتَلَهُ
فَقَالَ لَهُمَا عَمْرُو بْنُ العاص: اندرا فو الله إِنَّكُمَا
لَتَخْتَصِمَانِ فِي النَّارِ، فَسَمِعَهَا مِنْهُ مُعَاوِيَةُ
فَلَامَهُ عَلَى تَسْمِيعِهِ إِيَّاهُمَا ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ
عَمْرٌو: وَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَعْلَمُ ذَلِكَ، وَلَوَدِدْتُ أَنِّي
مِتُّ قَبْلَ هَذَا الْيَوْمِ بِعِشْرِينَ سَنَةً. قَالَ
الْوَاقِدِيُّ، حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عُمَارَةَ
عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَاصِمٍ أَنَّ عَلِيًّا صَلَّى عَلَيْهِ
وَلَمْ يُغَسِّلْهُ وَصَلَّى مَعَهُ عَلَى هَاشِمِ بْنِ عُتْبَةَ،
فَكَانَ عَمَّارٌ مِمَّا يَلِي عَلِيًّا، وَهَاشِمٌ إِلَى نَحْوِ
الْقِبْلَةِ. قَالُوا، وَقُبِرَ هنالك، وكان آدم اللون، طويلا بعيدا ما
بين
(7/311)
الْمَنْكِبَيْنِ: أَشْهَلَ الْعَيْنَيْنِ، رَجُلًا لَا يُغَيِّرُ
شَيْبَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
الرُّبَيِّعُ بِنْتُ مُعَوِّذِ بْنِ عَفْرَاءَ
أَسْلَمَتْ قَدِيمًا وَكَانَتْ تَخْرُجُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْغَزَوَاتِ فتداوى الجرحى، وتسقى
الماء للكلمى، وَرَوَتْ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً وَقَدْ قُتِلَ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ فِي أَيَّامِ صِفِّينَ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَجَمٌ غَفِيرٌ،
فَقِيلَ قُتِلَ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ خَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ أَلْفًا
وَمِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا. وَقِيلَ
قُتِلَ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ أَرْبَعُونَ أَلْفًا- مِنْ مِائَةٍ
وَعِشْرِينَ أَلْفًا- وَقُتِلَ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ عِشْرُونَ أَلْفًا
مِنْ سِتِّينَ أَلْفًا وبالجملة فقد كان فيهم أَعْيَانٌ وَمَشَاهِيرُ
يَطُولُ اسْتِقْصَاؤُهُمْ وَفِيمَا ذَكَرْنَا كِفَايَةٌ وَاللَّهُ
تَعَالَى أَعْلَمُ. |