البداية والنهاية، ط. دار الفكر

ثُمَّ دَخَلَتْ سُنَّةُ إِحْدَى وَخَمْسِينَ
فِيهَا كَانَ مقتل حجر بن عدي بن جبل بن عدي بن ربيعة بن معاوية الأكبر بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ ثَوْرِ بْنِ بزيغ بْنِ كِنْدِيٍّ الْكُوفِيُّ، وَيُقَالُ لَهُ حُجْرُ الْخَيْرِ، وَيُقَالُ لَهُ حُجْرُ بْنُ الْأَدْبَرِ، لِأَنَّ

(8/49)


أباه عديا طعن موليا فسمى الأدبر، وَهُوَ مِنْ كِنْدَةَ مِنْ رُؤَسَاءِ أَهْلِ الْكُوفَةِ، قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: وَفَدَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَمِعَ عَلِيًّا وَعَمَّارًا وَشَرَاحِيلَ بْنَ مُرَّةَ، وَيُقَالُ شُرَحْبِيلُ بْنُ مُرَّةَ. وَرَوَى عَنْهُ أَبُو لَيْلَى مَوْلَاهُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عباس، وَأَبُو الْبَخْتَرِيِّ الطَّائِيُّ. وَغَزَا الشَّامَ فِي الْجَيْشِ الَّذِينَ افْتَتَحُوا عَذْرَاءَ، وَشَهِدَ صِفِّينَ مَعَ عَلِيٍّ أميرا، وقيل بعذراء من قرا دِمَشْقَ، وَمَسْجِدُ قَبْرِهِ بِهَا مَعْرُوفٌ. ثُمَّ سَاقَ ابن عساكر بأسانيده إلى حجر يذكر طَرَفًا صَالِحًا مِنْ رِوَايَتِهِ عَنْ عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَةِ الرَّابِعَةِ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَذَكَرَ لَهُ وِفَادَةً، ثُمَّ ذكره في الأول مِنْ تَابِعِي أَهْلِ الْكُوفَةِ. قَالَ: وَكَانَ ثِقَةً مَعْرُوفًا، وَلَمْ يَرْوِ عَنْ غَيْرِ عَلِيٍّ شَيْئًا قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: بَلْ قَدْ رَوَى عَنْ عَمَّارٍ وَشُرَاحِيلَ بْنِ مُرَّةَ، وَقَالَ أَبُو أَحْمَدَ الْعَسْكَرِيُّ: أَكْثَرُ الْمُحَدِّثِينَ لَا يُصَحِّحُونَ لَهُ صُحْبَةً، شهد القادسية وافتتح برج عَذْرَاءَ، وَشَهِدَ الْجَمَلَ وَصِفِّينِ، وَكَانَ مَعَ عَلِيٍّ حُجْرُ الْخَيْرِ- وَهُوَ حُجْرُ بْنُ عَدِيٍّ هَذَا- وحجر الشرف- وهو حجر ابن يَزِيدَ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ مُرَّةَ- وَقَالَ الْمَرْزُبَانِيُّ: قَدْ رَوَى أَنَّ حُجْرَ بْنَ عَدِيٍّ وَفْدٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَخِيهِ هَانِئِ بْنِ عَدِيٍّ، وَكَانَ هَذَا الرَّجُلُ مِنْ عُبَّادِ النَّاسِ وَزُهَّادِهِمْ، وَكَانَ بَارًّا بِأُمِّهِ، وَكَانَ كَثِيرَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ، قَالَ أَبُو مَعْشَرٍ: مَا أَحْدَثَ قَطُّ إِلَّا تَوَضَّأَ، وَلَا تَوَضَّأَ إِلَّا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ. هَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ النَّاسِ. وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ حَدَّثَنِي الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ. قَالَ قَالَ سَلْمَانُ لِحُجْرٍ: يَا ابن أم حجر لو تقطعت أعضاؤك مَا بَلَغْتَ الْإِيمَانَ، وَكَانَ إِذْ كَانَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ عَلَى الْكُوفَةِ إِذَا ذَكَرَ عَلِيًّا فِي خُطْبَتِهِ يَتَنَقَّصُهُ بَعْدَ مَدْحِ عُثْمَانَ وَشِيعَتِهِ فَيَغْضَبُ حُجْرٌ هَذَا وَيُظْهِرُ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ كَانَ الْمُغِيرَةُ فِيهِ حِلْمٌ وَأَنَاةٌ فَكَانَ يَصْفَحُ عَنْهُ وَيَعِظُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، وَيُحَذِّرُهُ غَبَّ هَذَا الصَّنِيعِ، فَإِنَّ مُعَارَضَةَ السُّلْطَانِ شَدِيدٌ وَبَالُهَا، فَلَمْ يَرْجِعْ حُجْرٌ عَنْ ذَلِكَ. فَلَمَّا كَانَ فِي آخِرِ أَيَّامِ الْمُغِيرَةِ قَامَ حُجْرٌ يَوْمًا، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ فِي الْخُطْبَةِ وَصَاحَ بِهِ وَذَمَّهُ بِتَأْخِيرِهِ الْعَطَاءِ عَنِ النَّاسِ، وَقَامَ مَعَهُ فِئَامٌ النَّاسِ لِقِيَامِهِ، يُصَدِّقُونَهُ وَيُشَنِّعُونَ عَلَى الْمُغِيرَةِ، وَدَخَلَ الْمُغِيرَةُ بَعْدَ الصَّلَاةِ قَصْرَ الْإِمَارَةِ وَدَخَلَ مَعَهُ جمهور الأمراء، فأشاروا عليه بردع حجر هذا عما تعاطاه من شق العصي وَالْقِيَامِ عَلَى الْأَمِيرِ، وَذَمَرَوهُ وَحَثُّوهُ عَلَى التَّنْكِيلِ فصفح عنه وحلم به. وَذَكَرَ يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَتَبَ إِلَى الْمُغِيرَةِ يَسْتَمِدُّهُ بِمَالٍ يَبْعَثُهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، فَبَعَثَ عِيرًا تَحْمِلُ مَالًا فَاعْتَرَضَ لَهَا حُجْرٌ، فَأَمَسَكَ بِزِمَامِ أَوَّلِهَا وَقَالَ: لَا وَاللَّهِ حَتَّى يُوَفِّيَ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ. فَقَالَ شَبَابُ ثَقِيفٍ لِلْمُغِيرَةِ: أَلَّا نَأْتِيكَ بِرَأْسِهِ؟ فَقَالَ:
ما كنت لأفعلن ذَلِكَ بِحُجْرٍ، فَتَرَكَهُ، فَلَمَّا بَلَغَ مُعَاوِيَةَ ذَلِكَ عَزَلَ الْمُغِيرَةَ وَوَلَّى زِيَادًا، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَمْ يَعْزِلِ الْمُغِيرَةَ حَتَّى مَاتَ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَجُمِعَتِ الْكُوفَةُ مَعَ الْبَصْرَةِ لِزِيَادٍ دَخَلَهَا وَقَدِ الْتَفَّ عَلَى حجر جماعات من شيعة على يقولون أمره ويشدون عَلَى يَدِهِ، وَيَسُبُّونَ مُعَاوِيَةَ وَيَتَبَرَّءُونَ مِنْهُ، فَلَمَّا كَانَ أَوَّلُ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا زِيَادٌ بِالْكُوفَةِ، ذَكَرَ فِي آخِرِهَا فَضْلَ عُثْمَانَ وَذَمَّ مَنْ قَتَلَهُ

(8/50)


أَوْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِهِ. فَقَامَ حُجْرٌ كَمَا كَانَ يَقُومُ فِي أَيَّامِ الْمُغِيرَةِ، وَتَكَلَّمَ بِنَحْوٍ مِمَّا قَالَ لِلْمُغِيرَةِ، فَلَمْ يَعْرِضْ لَهُ زِيَادٌ، ثُمَّ رَكِبَ زِيَادٌ إِلَى الْبَصْرَةِ، وَأَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ حُجْرًا مَعَهُ إِلَى الْبَصْرَةِ لِئَلَّا يُحْدِثُ حَدَثًا، فَقَالَ:
إِنِّي مَرِيضٌ، فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنَّكَ لَمَرِيضُ الدِّينِ وَالْقَلْبِ وَالْعَقْلِ، وَاللَّهِ لَئِنْ أَحْدَثْتَ شَيْئًا لَأَسْعَيَنَّ فِي قَتْلِكَ، ثُمَّ سَارَ زِيَادٌ إِلَى الْبَصْرَةِ فَبَلَغَهُ أَنَّ حُجْرًا وَأَصْحَابَهُ أَنْكَرُوا عَلَى نَائِبِهِ بِالْكُوفَةِ- وَهُوَ عَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ- وَحَصَبُوهُ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَرَكِبَ زياد إلى الكوفة فنزل في الْقَصْرَ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْمِنْبَرِ وَعَلَيْهِ قَبَاءُ سُنْدُسٍ، وَمِطْرَفُ خَزٍّ أَحْمَرُ، قَدْ فَرَقَ شَعْرَهُ، وَحُجْرٌ جَالِسٌ وَحَوْلَهُ أَصْحَابُهُ أَكْثَرَ مَا كَانُوا يَوْمَئِذٍ، وَكَانَ مَنْ لَبِسَ مِنْ أَصْحَابِهِ يَوْمَئِذٍ نحو مِنْ ثَلَاثَةِ آلَافٍ، وَجَلَسُوا حَوْلَهُ فِي الْمَسْجِدِ فِي الْحَدِيدِ وَالسِّلَاحِ، فَخَطَبَ زِيَادٌ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ غب البغي والغي وخيم، وإن هؤلاء أمنونى فَاجْتَرَءُوا عَلَيَّ، وَايْمُ اللَّهِ لَئِنْ لَمَّ تَسْتَقِيمُوا لِأُدَاوِيَنَّكُمْ بِدَوَائِكُمْ، ثُمَّ قَالَ: مَا أَنَا بِشَيْءٍ إِنْ لَمْ أَمْنَعْ سَاحَةَ الْكُوفَةِ مِنْ حُجْرٍ وأصحابه وَأَدَعْهُ نَكَالًا لِمَنْ بَعْدَهُ، وَيْلُ أُمِّكُ يَا حُجْرُ، سَقَطَ بِكَ الْعَشَاءُ عَلَى سِرْحَانٍ. ثُمَّ قَالَ:
أَبْلِغْ نُصَيْحَةَ أَنَّ رَاعِيَ إِبْلِهَا ... سَقَطَ الْعَشَاءُ بِهِ عَلَى سِرْحَانِ
وَجَعَلَ زِيَادٌ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ: إِنَّ مِنْ حَقِّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ- يعنى كذا وكذا- فأخذ حجر كفا حصباء فَحَصَبَهُ وَقَالَ: كَذَبْتَ! عَلَيْكَ لَعْنَةُ اللَّهِ. فَانْحَدَرَ زِيَادٌ فَصَلَّى، ثُمَّ دَخَلَ الْقَصْرَ وَاسْتَحْضَرَ حُجْرًا، وَيُقَالُ إِنْ زِيَادًا لَمَّا خَطَبَ طَوَّلَ الْخُطْبَةَ وَأَخَّرَ الصَّلَاةَ فَقَالَ لَهُ حُجْرٌ: الصَّلَاةَ، فَمَضَى في خطبته، فلما خشي فوت الصلاة عمد إلى كف من حصباء ونادى الصَّلَاةِ، وَثَارَ النَّاسُ مَعَهُ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ زِيَادٌ نَزَلَ فَصَلَّى بِالنَّاسِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ مِنْ صِلَاتِهِ كَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ فِي أَمْرِهِ وَكَثَّرَ عَلَيْهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ: أَنْ شُدَّهُ فِي الْحَدِيدِ وَاحْمِلْهُ إِلَيَّ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ زِيَادٌ وَالِيَ الشُّرْطَةِ- وَهُوَ شَدَّادُ بْنُ الْهَيْثَمِ- وَمَعَهُ أَعْوَانُهُ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ الْأَمِيرَ يَطْلُبُكَ، فَامْتَنَعَ مِنَ الْحُضُورِ إِلَى زِيَادٍ، وَقَامَ دُونَهُ أَصْحَابُهُ، فَرَجَعَ الْوَالِي إِلَى زِيَادٍ فَأَعْلَمَهُ، فَاسْتَنْهَضَ زِيَادٌ جَمَاعَاتٌ مِنَ الْقَبَائِلِ فَرَكِبُوا مَعَ الْوَالِي إِلَى حُجْرٍ وَأَصْحَابِهِ فَكَانَ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ بِالْحِجَارَةِ وَالْعِصِيِّ، فَعَجَزُوا عنه، فندب مُحَمَّدُ بْنُ الْأَشْعَثِ وَأَمْهَلَهُ ثَلَاثًا وَجَهَّزَ مَعَهُ جَيْشًا، فَرَكِبُوا فِي طَلَبِهِ وَلَمْ يَزَالُوا حَتَّى أَحْضَرُوهُ إِلَى زِيَادٍ، وَمَا أَغْنَى عَنْهُ قَوْمُهُ ولا من كان يظن أن يَنْصُرُهُ فَعِنْدَ ذَلِكَ قَيَّدَهُ زِيَادٌ وَسَجَنَهُ عَشَرَةَ أيام وبعث بِهِ إِلَى مُعَاوِيَةَ، وَبَعَثَ مَعَهُ جَمَاعَةً يَشْهَدُونَ عَلَيْهِ أَنَّهُ سَبَّ الْخَلِيفَةَ، وَأَنَّهُ حَارَبَ الْأَمِيرَ، وَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَا يَصْلُحُ إِلَّا فِي آلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ.
وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ الشُّهُودِ عَلَيْهِ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ أَبِي مُوسَى، وَوَائِلُ بْنُ حُجْرٍ، وَعُمَرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَإِسْحَاقُ، وَإِسْمَاعِيلُ، وَمُوسَى بَنُو طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَالْمُنْذِرُ بن الزبير، وكثير بن شهاب، وثابت بن ربعي، في سبعين وَيُقَالُ: إِنَّهُ كُتِبَتْ شَهَادَةُ شُرَيْحٍ الْقَاضِي فِيهِمْ، وَإِنَّهُ أَنْكَرَ ذَلِكَ وَقَالَ:

(8/51)


إِنَّمَا قُلْتُ لِزِيَادٍ: إِنَّهُ كَانَ صَوَّامًا قَوَّامًا، ثُمَّ بَعَثَ زِيَادٌ حُجْرًا وَأَصْحَابَهُ مَعَ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ، وَكَثِيرِ بْنِ شِهَابٍ إِلَى الشَّامِ. وَكَانَ مَعَ حُجْرِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ جَبَلَةَ الكندي، من أصحابه جماعة، قيل عشرون وَقِيلَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، مِنْهُمُ الْأَرْقَمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْكِنْدِيُّ وَشَرِيكُ بْنُ شَدَّادٍ الْحَضْرَمِيُّ، وَصَيْفِيُّ بْنُ فَسِيلٍ، وَقَبِيصَةُ بْنُ ضُبَيْعَةَ بْنِ حَرْمَلَةَ الْعَبْسِيُّ، وَكَرِيمُ بْنُ عَفِيفٍ الْخَثْعَمِيُّ، وَعَاصِمُ بْنُ عَوْفٍ الْبَجَلِيُّ وَوَرْقَاءُ بْنُ سُمَيٍّ الْبَجَلِيُّ، وكدام بن حبان، وعبد الرحمن بن حسان العريان- من بنى تميم- ومحرز ابن شهاب التميمي، وعبيد اللَّهِ بْنُ حَوِيَّةَ السَّعْدِيُّ التَّمِيمِيُّ أَيْضًا. فَهَؤُلَاءِ أَصْحَابُهُ الَّذِينَ وَصَلُوا مَعَهُ، فَسَارُوا بِهِمْ إِلَى الشَّامِ. ثُمَّ إِنَّ زِيَادًا أَتْبَعَهُمْ بِرَجُلَيْنِ آخَرَيْنِ، عُتْبَةَ بْنِ الْأَخْنَسِ مِنْ بَنِي سَعْدٍ، وَسَعْدِ ابن عمران الْهَمْدَانِيِّ، فَكَمَلُوا أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَيُقَالُ: إِنَّ حُجْرًا لَمَّا دَخَلَ عَلَى مُعَاوِيَةَ قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَغَضِبَ مُعَاوِيَةُ غَضَبًا شَدِيدًا وَأَمَرَ بِضَرْبِ عُنُقِهِ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ، ويقال إن معاوية ركب فتلقاهم في برج عَذْرَاءَ، وَيُقَالُ: بَلْ بَعَثَ إِلَيْهِمْ مَنْ تَلَقَّاهُمْ إِلَى عَذْرَاءَ تَحْتَ الثَّنِيَّةِ- ثَنِيَّةِ الْعُقَابِ- فَقُتِلُوا هناك. وكان الذين بعث إليهم ثلاثة وهم هدبة بن فياض القضاعي، وحضير بن عبد الله الكلابي، وأبو شريف البدوي، فجاءوا إليهم فَبَاتَ حُجْرٌ وَأَصْحَابُهُ يَصِلُونَ طُولَ اللَّيْلِ، فَلَمَّا صَلَّوُا الصُّبْحَ قَتَلُوهُمْ، وَهَذَا هُوَ الْأَشْهَرُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ أَنَّهُمْ دَخَلُوا عَلَيْهِ ثُمَّ رَدَّهُمْ فَقُتِلُوا بِعَذْرَاءَ، وَكَانَ مُعَاوِيَةُ قد استشار الناس فيهم حتى وصل بهم إلى برج عذراء فَمِنْ مُشِيرٍ بِقَتْلِهِمْ، وَمِنْ مُشِيرٍ بِتَفْرِيقِهِمْ فِي الْبِلَادِ، فَكَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى زِيَادٍ كِتَابًا آخَرَ فِي أَمْرِهِمْ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِقَتْلِهِمْ إِنْ كَانَ لَهُ حَاجَةٌ فِي مُلْكِ الْعِرَاقِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَ بِقَتْلِهِمْ، فَاسْتَوْهَبَ مِنْهُ الْأُمَرَاءُ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ حَتَّى اسْتَوْهَبُوا مِنْهُ سِتَّةً، وَقَتَلَ مِنْهُمْ سِتَّةً أَوَّلُهُمْ حُجْرُ بْنُ عَدِيٍّ، وَرَجَعَ آخَرُ فَعَفَا عَنْهُ مُعَاوِيَةُ، وَبَعَثَ بِآخَرَ نَالَ مِنْ عُثْمَانَ وَزَعَمَ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ جَارَ فِي الكلم وَمَدَحَ عَلِيًّا، فَبَعَثَ بِهِ مُعَاوِيَةُ إِلَى زِيَادٍ وَقَالَ لَهُ: لَمْ تَبْعَثْ إِلَيَّ فِيهِمْ أَرْدَى من هذا. فلما وصل إلى زياد ألقاه في النَّاطِفِ حَيًّا- وَهُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَسَّانَ الفري. وَهَذِهِ تَسْمِيَةُ الَّذِينَ قُتِلُوا بِعَذْرَاءَ: حُجْرُ بْنُ عَدِيٍّ، وَشَرِيكُ بْنُ شَدَّادٍ، وَصَيْفِيُّ بْنُ فَسِيلٍ، وقبيصة بن ضبيعة، ومحرز بن شهاب المنقري، وكدام بن حبان. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُمْ مَدْفُونُونَ بِمَسْجِدِ القصب في عرفة، والصحيح بعذراء، وَيُذْكَرُ أَنَّ حُجْرًا لَمَّا أَرَادُوا قَتْلَهُ قَالَ: دَعُونِي حَتَّى أَتَوَضَّأَ، فَقَالُوا: تَوَضَّأْ، فَقَالَ: دَعَونِي حَتَّى أُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ فَصَلَّاهُمَا وَخَفَّفَ فِيهِمَا، ثُمَّ قال: لولا أن يقولوا مَا بِي جَزَعٌ مِنَ الْمَوْتِ لَطَوَّلْتُهُمَا. ثُمَّ قَالَ: قَدْ تَقَدَّمَ لَهُمَا صَلَوَاتٌ كَثِيرَةٌ. ثُمَّ قَدَّمُوهُ لِلْقَتْلِ وَقَدْ حُفِرَتْ قُبُورُهُمْ وَنُشِرَتْ أَكْفَانُهُمْ، فَلَمَّا تَقَدَّمَ إِلَيْهِ السَّيَّافُ ارْتَعَدَتْ فَرَائِصُهُ فَقِيلَ له: إنك قلت لست بجازع، فَقَالَ: وَمَا لِي لَا أَجْزَعُ وَأَنَا أَرَى قَبْرًا مَحْفُورًا وَكَفَنًا مَنْشُورًا وَسَيْفًا مَشْهُورًا. فَأَرْسَلَهَا مثلا.
ثم تقدم إليه السياف. وهو أبو شريف البدوي، وقيل تقدم إليه رجل أعور فَقَالَ لَهُ: امْدُدْ عُنُقَكَ،

(8/52)


فَقَالَ: لَا أُعِينُ عَلَى قَتْلِ نَفْسِي، فَضَرَبَهُ فَقَتَلَهُ. وَكَانَ قَدْ أَوْصَى أَنْ يُدْفَنَ فِي قيوده، ففعل به ذلك، وقيل: بل صلوا عليه وغسلوه. وَرَوَى أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ. قَالَ: أَصَلَّوْا عَلَيْهِ وَدَفَنُوهُ فِي قُيُودِهِ؟
قَالُوا: نَعَمْ! قَالَ: حجهم والله. والظاهر أن الحسين قائل هذا، فان حجرا قُتِلَ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَخَمْسِينَ، وَقِيلَ سَنَةَ ثلاث وخمسين، وعلى كل تقدير فالحسن قد مات قبله والله أعلم. فقتلوه رحمه الله وسامحه.
وَرُوِّينَا أَنَّ مُعَاوِيَةَ لَمَّا دَخَلَ عَلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ فَسَلَّمَ عَلَيْهَا مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ- وذلك بعد مقتله حجرا وَأَصْحَابِهِ- قَالَتْ لَهُ: أَيْنَ ذَهَبَ عَنْكَ حِلْمُكَ يَا مُعَاوِيَةَ حِينَ قَتَلْتَ حُجْرًا وَأَصْحَابَهُ؟ فَقَالَ لَهَا:
فَقَدْتُهُ حِينَ غَابَ عَنِّي مِنْ قَوْمِي مِثْلُكِ يَا أُمَّاهُ. ثُمَّ قَالَ لَهَا: فَكَيْفَ بِرِّي بِكِ يَا أُمَّهْ؟ فَقَالَتْ: إِنَّكَ بِي لَبَارٌّ، فَقَالَ: يَكْفِينِي هَذَا عِنْدَ اللَّهِ، وَغَدًا لِي وَلِحُجْرٍ مَوْقِفٌ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عَزَّ وجل. وفي رواية أنه قال: إِنَّمَا قَتَلَهُ الَّذِينَ شَهِدُوا عَلَيْهِ. وَرَوَى ابْنُ جرير أن معاوية جعل يغرغر بالموت وَهُوَ يَقُولُ: إِنَّ يَوْمِي بِكَ يَا حُجْرُ بْنَ عَدِيٍّ لَطَوِيلٌ، قَالَهَا ثَلَاثًا فاللَّه أَعْلَمُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ: ذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ حُجْرًا وَفْدٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع أَخِيهِ هَانِئِ بْنِ عَدِيٍّ، - وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ عَلِيٍّ- فَلَمَّا قَدِمَ زِيَادُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ وَالِيًا عَلَى الْكُوفَةِ دَعَا بِحُجْرِ بْنِ عَدِيٍّ فَقَالَ: تَعْلَمُ أَنِّي أَعْرِفُكَ وَقَدْ كُنْتُ أَنَا وأباك على أمر قَدْ عَلِمْتَ- يَعْنِي مِنْ حُبِّ عَلِيٍّ- وَأَنَّهُ قَدْ جَاءَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَإِنِّي أَنْشُدُكَ اللَّهَ أَنْ تُقْطِرَ لِي مِنْ دَمِكَ قَطْرَةً فَأَسْتَفْرِغَهُ كُلَّهُ، امْلِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَلْيَسَعْكَ مَنْزِلُكَ، وَهَذَا سَرِيرِي فَهُوَ مَجْلِسُكَ، وَحَوَائِجُكَ مَقْضِيَّةٌ لَدَيَّ، فَاكْفِنِي نَفْسَكَ فَإِنِّي أَعْرِفُ عِجْلَتَكَ، فَأَنْشُدُكَ اللَّهَ فِي نفسك، وإياك وهذه السقطة وَهَؤُلَاءِ السُّفَهَاءَ أَنْ يَسْتَنَزِلُّوكَ عَنْ رَأْيِكَ. فَقَالَ حُجْرٌ: قَدْ فَهِمْتُ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى مَنْزِلِهِ فَأَتَاهُ الشِّيعَةُ فَقَالُوا: مَا قَالُ لَكَ؟ قَالَ قال لي كذا وكذا. وَسَارَ زِيَادٌ إِلَى الْبَصْرَةِ ثُمَّ جَعَلُوا يَتَرَدَّدُونَ إِلَيْهِ يَقُولُونَ لَهُ: أَنْتَ شَيْخُنَا، وَإِذَا جَاءَ الْمَسْجِدِ مَشَوْا مَعَهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ عَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ- نَائِبُ زِيَادٍ عَلَى الْكُوفَةِ- يَقُولُ: مَا هَذِهِ الْجَمَاعَةُ وَقَدْ أَعْطَيْتَ الْأَمِيرَ مَا قَدْ عَلِمْتَ؟ فَقَالَ لِلرَّسُولِ: إِنَّهُمْ يُنْكِرُونَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ، إِلَيْكَ وَرَاءَكَ أَوْسَعَ لَكَ. فَكَتَبَ عَمْرُو بن حريث إلى زياد: إن كان لك حاجة بالكوفة فالعجل العجل، فَأَعْجَلَ زِيَادٌ السَّيْرَ إِلَى الْكُوفَةِ، فَلَمَّا وَصَلَ بَعَثَ إِلَيْهِ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ، وَجَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيَّ، وَخَالِدَ بْنَ عُرْفُطَةَ فِي جماعة من أشراف الْكُوفَةِ لِيَنْهَوْهُ عَنْ هَذِهِ الْجَمَاعَةِ، فَأَتَوْهُ فَجَعَلُوا يُحَدِّثُونَهُ وَلَا يَرُدُّ عَلَيْهِمْ شَيْئًا، بَلْ جَعَلَ يقول: يا غلام أعلفت الْبَكْرَ؟ لِبَكْرٍ مَرْبُوطٍ فِي الدَّارِ- فَقَالَ لَهُ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ: أَمْجَنُونٌ أَنْتَ؟
نُكَلِّمُكَ وَأَنْتَ تقول: أعلفت الْبَكْرَ، ثُمَّ قَالَ عَدِيٌّ لِأَصْحَابِهِ: مَا كُنْتُ أَظُنُّ هَذَا الْبَائِسَ بَلَغَ بِهِ الضَّعْفُ كُلَّ مَا أَرَى. ثُمَّ نَهَضُوا فَأَخْبَرُوا زِيَادًا بِبَعْضِ الْخَبَرِ وَكَتَمُوهُ بَعْضًا، وَحَسَّنُوا أَمْرَهُ وَسَأَلُوهُ الرِّفْقَ بِهِ فَلَمْ يَقْبَلْ، بَلْ بَعَثَ إِلَيْهِ الشُّرَطَ والمحاربة فأتى به وبأصحابه، فقال له: مالك ويلك؟ قال:

(8/53)


إِنِّي عَلَى بَيْعَتِي لِمُعَاوِيَةَ، فَجَمَعَ زِيَادٌ سَبْعِينَ من أَهْلِ الْكُوفَةِ فَقَالَ: اكْتُبُوا شَهَادَتَكُمْ عَلَى حُجْرٍ وَأَصْحَابِهِ، فَفَعَلُوا، ثُمَّ أَوْفَدَهُمْ إِلَى مُعَاوِيَةَ، وَبَلَغَ الْخَبَرُ عَائِشَةَ فَأَرْسَلَتْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ إِلَى مُعَاوِيَةَ تَسْأَلُهُ أَنْ يُخَلِّيَ سَبِيلَهُمْ، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى مُعَاوِيَةَ قَرَأَ كِتَابَ زياد فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: اخْرُجُوا بِهِمْ إِلَى عَذْرَاءَ فَاقْتُلُوهُمْ هُنَاكَ، فَذَهَبُوا بِهِمْ ثُمَّ قَتَلُوا مِنْهُمْ سَبْعَةً، ثُمَّ جَاءَ رَسُولُ مُعَاوِيَةَ بِالتَّخْلِيَةِ عَنْهُمْ، وَأَنْ يطلقوهم كلهم، فوجدوا قد قتلوا منهم سبعة وأطلقوا السَّبْعَةَ الْبَاقِينَ، وَلَكِنْ كَانَ حُجْرٌ فِيمَنْ قُتِلَ في السبعة الأول، وَكَانَ قَدْ سَأَلَهُمْ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَقْتُلُوهُ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَطَوَّلَ فِيهِمَا، وَقَالَ إِنَّهُمَا لَأَخَفُّ صَلَاةٍ صَلَّيْتُهَا. وَجَاءَ رَسُولُ عَائِشَةَ بَعْدَ مَا فُرِغَ مِنْ شَأْنِهِمْ. فَلَمَّا حَجَّ مُعَاوِيَةُ قَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: أَيْنَ عَزَبَ عَنْكَ حِلْمُكَ حِينَ قَتَلْتَ حُجْرًا؟ فَقَالَ: حِينَ غَابَ عَنِّي مِثْلُكِ مِنْ قَوْمِي. وَيُرْوَى أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْحَارِثِ قَالَ لِمُعَاوِيَةَ: أَقَتَلْتَ حُجْرَ بْنَ الْأَدْبَرِ؟ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: قَتْلُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقْتُلَ مَعَهُ مِائَةَ أَلْفٍ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ عَنْ حُجْرِ بْنِ عَدِيٍّ وَأَصْحَابِهِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَنَالُونَ مِنْ عُثْمَانَ ويطلقون فِيهِ مَقَالَةَ الْجَوْرِ، وَيَنْتَقِدُونَ عَلَى الْأُمَرَاءِ، وَيُسَارِعُونَ فِي الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ، وَيُبَالِغُونَ فِي ذَلِكَ، وَيَتَوَلَّوْنَ شِيعَةَ عَلِيٍّ، وَيَتَشَدَّدُونَ فِي الدِّينِ. وَيُرْوَى أَنَّهُ لَمَّا أُخِذَ فِي قُيُودِهِ سَائِرًا مِنَ الْكُوفَةِ إِلَى الشَّامِ تَلَقَّتْهُ بَنَاتُهُ فِي الطَّرِيقِ وَهُنَّ يبكين، فمال نحوهن: فقال إن الّذي يطعمكم ويكسوكم هُوَ اللَّهُ وَهُوَ بَاقٍ لَكُنَّ بَعْدِي، فَعَلَيْكُنَّ بتقوى الله وعبادته، وإني إما أن أقتل في وجهي وهي شهادة، أو أن أرجع إليكن مكرما، والله خليفتي عليكم. ثم انصرف مع أصحابه في قيوده، ويقال إنه أوصى أن يدفن في قيوده ففعل ذلك به، ولكن صلوا عليهم ودفنوهم مستقبل القبلة رحمهم الله وسامحهم. وَقَدْ قَالَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْمُتَشَيِّعَاتِ تَرْثِي حُجْرًا- وَهِيَ هِنْدُ بِنْتُ زَيْدِ بْنِ مَخْرَمَةَ الْأَنْصَارِيَّةُ- وَيُقَالُ إِنَّهَا لِهِنْدٍ أُخْتِ حُجْرٍ فاللَّه أَعْلَمُ.
تَرَفَّعْ أَيُّهَا الْقَمَرُ الْمُنِيرُ ... تَبَصَّرْ هَلْ تَرَى حُجْرًا يَسِيرُ
يَسِيرُ إِلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ حَرْبٍ ... لِيَقْتُلَهُ كَمَا زَعَمَ الْأَمِيرُ
يَرَى قَتْلَ الْخِيَارِ عَلَيْهِ حَقًّا ... لَهُ مِنْ شَرِّ أُمَّتِهِ وَزِيرُ
ألا يا ليت حجرا مات يوما ... وَلَمْ يُنْحَرْ كَمَا نُحِرَ الْبَعِيرُ
تَجَبَّرَتِ الْجَبَابِرُ بَعْدَ حُجْرٍ ... وَطَابَ لَهَا الْخَوَرْنَقُ وَالسَّدِيرُ
وَأَصْبَحَتِ الْبِلَادُ لَهُ مُحُولًا ... كَأَنْ لَمْ يُحْيِهَا مُزْنٌ مطير
ألا يا حجر حجر بن عَدِيٍّ ... تَلَقَّتْكَ السَّلَامَةُ وَالسُّرُورُ
أَخَافُ عَلَيْكَ مَا أردى عديا ... وشيخا في دمشق له زبير
فَإِنْ تَهْلِكْ فَكُلُّ زَعِيمِ قَوْمٍ ... مِنَ الدُّنْيَا إلى هلك يصير

(8/54)


فرضوا أن الآله عليك ميتا ... وجنات بها نعم وحور
وذكر ابْنُ عَسَاكِرَ لَهُ مَرَاثِيَ كَثِيرَةً. وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ أَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ قَالَ: دَخَلَ مُعَاوِيَةُ عَلَى عَائِشَةَ فَقَالَتْ: مَا حَمَلَكَ على قتل أهل عذراء، حجرا وَأَصْحَابِهِ؟ فَقَالَ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ إِنِّي رَأَيْتُ في قتلهم صلاحا للأمة، وفي مقامهم فسادا للأمة، فقالت: سمعت رسول الله يَقُولُ: «سَيُقْتَلُ بِعَذْرَاءَ أُنَاسٌ يَغْضَبُ اللَّهُ لَهُمْ وَأَهْلُ السَّمَاءِ» . وَهَذَا إِسْنَادٌ ضَعِيفٌ مُنْقَطِعٌ. وَقَدْ رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ:
بَلَغَنِي أَنَّهُ سَيُقْتَلُ بِعَذْرَاءَ أُنَاسٌ يَغْضَبُ اللَّهُ لَهُمْ وَأَهْلُ السَّمَاءِ. وَقَالَ يَعْقُوبُ: حَدَّثَنِي ابْنُ لَهِيعَةَ حَدَّثَنِي الْحَارِثُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ عبد الله بن رزين الْغَافِقِيِّ. قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ: يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ سَيُقْتَلُ مِنْكُمْ سَبْعَةُ نَفَرٍ بِعَذْرَاءَ، مَثَلُهُمْ كمثل أصحاب الأخدود، قال: يقتل حُجْرٌ وَأَصْحَابُهُ- ابْنُ لَهِيعَةَ ضَعِيفٌ-. وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ عَنِ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ نَافِعٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ فِي السُّوقِ فَنُعِيَ لَهُ حُجْرٌ فَأَطْلَقَ حُبْوَتَهُ وَقَامَ وغلب عليه النحيب. وروى أحمد عَنْ عَفَّانَ عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ- أَوْ غَيْرِهِ- قَالَ لَمَّا قَدِمَ مُعَاوِيَةُ الْمَدِينَةَ دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ فَقَالَتْ:
أَقَتَلْتَ حُجْرًا؟ فَقَالَ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ إِنِّي وَجَدْتُ قَتْلَ رَجُلٍ فِي صلاح الناس خير مِنِ اسْتِحْيَائِهِ فِي فَسَادِهِمْ. وَقَالَ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ المسيب عن مروان. قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ مُعَاوِيَةَ عَلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ فَقَالَتْ: يَا مُعَاوِيَةُ قَتَلْتَ حُجْرًا وَأَصْحَابَهُ وَفَعَلْتَ الّذي فعلت، أما خشيت أن أخبأ لَكَ رَجُلًا يَقْتُلُكَ؟ فَقَالَ: لَا! إِنِّي فِي بيت الأمان، سمعت رسول الله يقول: «الايمان ضد الْفَتْكَ لَا يَفْتِكُ مُؤْمِنٌ» . يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ كَيْفَ أَنَا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ حَاجَاتِكَ وَأَمْرِكَ؟ قَالَتْ:
صَالِحٌ. قَالَ: فَدَعِينِي وَحُجْرًا حَتَّى نَلْتَقِيَ عِنْدَ رَبِّنَا عَزَّ وَجَلَّ. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهَا حَجَبَتْهُ وَقَالَتْ: لَا يَدْخُلُ عَلَيَّ أَبَدًا، فَلَمْ يَزَلْ يَتَلَطَّفُ حَتَّى دَخَلَ فَلَامَتْهُ فِي قَتْلِهِ حُجْرًا، فَلَمْ يَزَلْ يَعْتَذِرُ حَتَّى عَذَرَتْهُ. وَفِي رِوَايَةٍ:
أَنَّهَا كَانَتْ تَتَوَعَّدُهُ وَتَقُولُ: لَوْلَا يَغْلِبُنَا سُفَهَاؤُنَا لَكَانَ لِي وَلِمُعَاوِيَةَ فِي قَتْلِهِ حجرا شأن، فلما اعتذر إليها عذرته. وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمُنْتَظِمِ أَنَّهُ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَكَابِرِ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ، وَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ، وَحَارِثَةُ بْنُ النُّعْمَانِ، وَحُجْرُ بْنُ عَدِيٍّ، وَسَعِيدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَنِيسٍ، وَأَبُو بَكْرَةَ نُفَيْعُ بْنُ الْحَارِثِ الثَّقَفِيُّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
[وفيها توفى]
فَأَمَّا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ
فَأَسْلَمَ بَعْدَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ، وَكَانَ إِسْلَامُهُ فِي رَمَضَانَ سنة عشر، وكان قدومه ورسول الله يَخْطُبُ، وَكَانَ قَدْ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ: «إِنَّهُ يَقْدَمُ عَلَيْكُمْ مِنْ هَذَا الْفَجِّ مِنْ خَيْرِ ذِي يَمَنٍ، وَإِنَّ عَلَى وَجْهِهِ مَسْحَةَ مَلَكٍ» ، فلما دخل نظر الناس إليه فكان كما وصف رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَخْبَرُوهُ بذلك فحمد الله

(8/55)


تَعَالَى. وَيُرْوَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا جَالَسَهُ بَسَطَ لَهُ رِدَاءَهُ وقال: «إذا جاءكم كريم قوم فأكرموه» قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَلَّى زِيَادٌ عَلَى خُرَاسَانَ بَعْدَ مَوْتِ الْحَكَمِ بْنِ عَمْرٍو الرَّبِيعَ بْنَ زِيَادٍ الْحَارِثِيَّ فَفَتَحَ بَلْخَ صلحا، وكانوا قد غلقوها بعد ما صالحهم الأحنف، وَفَتَحَ قُوهِسْتَانَ عَنْوَةً، وَكَانَ عِنْدَهَا أَتْرَاكٌ فَقَتَلَهُمْ ولم يبق منهم إلا ترك طَرْخَانَ، فَقَتَلَهُ قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ بَعْدَ ذَلِكَ كما سيأتي. وفي هذه السنة غَزَا الرَّبِيعُ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ فَغَنِمَ وَسَلِمَ، وَكَانَ قَدْ قَطَعَ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ قَبْلَهُ الْحَكَمُ بْنُ عَمْرٍو، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ شَرِبَ مِنَ النَّهْرِ غُلَامٌ لِلْحَكَمِ، فَسَقَى سَيِّدَهُ وَتَوَضَّأَ الْحَكَمُ وَصَلَّى وَرَاءَ النَّهْرِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَجَعَ، فَلَمَّا كَانَ الرَّبِيعُ هَذَا غَزَا مَا وَرَاءَ النهر فغنم وسلم. وفي هذه السنة حَجَّ بِالنَّاسِ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ فِيمَا قَالَهُ أبو معشر والواقدي، وبعثه رسول الله إلى ذي الخلصة- وكان بيتا تعظمه دوس في الجاهلية- فذكر أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ عَلَى الْخَيْلِ، فَضَرَبَ فِي صَدْرِهِ وَقَالَ: «اللَّهمّ ثَبِّتْهُ وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا» فذهب فهدمه. وفي الصحيحين أنه قال: ما حجبنى رسول الله مُنْذُ أَسْلَمْتُ وَلَا رَآنِي إِلَّا تَبَسَّمَ. وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ: جَرِيرٌ يُوسُفُ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ: رَأَيْتُ جَرِيرًا كَأَنَّ وَجْهَهُ شَقَّةُ قَمَرٍ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: كَانَ جَرِيرٌ هُوَ وَجَمَاعَةٌ مَعَ عُمَرَ فِي بَيْتٍ. فَاشْتَمَّ عُمَرُ مِنْ بَعْضِهِمْ رِيحًا، فَقَالَ: عَزَمْتُ عَلَى صَاحِبِ هَذِهِ الرِّيحِ لَمَا قَامَ فتوضأ، فقال جرير: أو نقوم كلما فَنَتَوَضَّأَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ عُمَرُ:
نِعْمَ السَّيِّدُ كَنْتَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَنِعْمَ السَّيِّدُ أَنْتَ فِي الْإِسْلَامِ. وَقَدْ كَانَ عَامِلًا لِعُثْمَانَ عَلَى همدان، يقال إِنَّهُ أُصِيبَتْ عَيْنُهُ هُنَاكَ، فَلَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ اعْتَزَلَ عَلِيًّا وَمُعَاوِيَةَ، وَلَمْ يَزَلْ مُقِيمًا بِالْجَزِيرَةِ حَتَّى تُوُفِّيَ بِالسَّرَاةِ، سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ، قَالَهُ الْوَاقِدِيُّ، وَقِيلَ سَنَةَ أَرْبَعٍ، وَقِيلَ سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ.
وَأَمَّا جَعْفَرُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ
فَأَسْلَمَ مَعَ أَبِيهِ حِينَ تَلَقَّيَاهُ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ عَامَ الْفَتْحِ، فَلَمَّا رَدَّهُمَا قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: وَاللَّهِ لَئِنْ لم يأذن لي عليه لآخذن بيد هَذَا فَأَذْهَبَنَّ فِي الْأَرْضِ فَلَا يُدْرَى أَيْنَ أذهب، فلما بلغ ذلك رسول الله رَقَّ لَهُ وَأَذِنَ لَهُ وَقَبِلَ إِسْلَامَهُمَا فَأَسْلَمَا إِسْلَامًا حَسَنًا، بَعْدَ مَا كَانَ أَبُو سُفْيَانَ يؤذى رسول الله أَذًى كَثِيرًا، وَشَهِدَ حُنَينًا، وَكَانَ مِمَّنْ ثَبَتَ يَوْمَئِذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
وَأَمَّا حَارِثَةُ بْنُ النُّعْمَانِ الْأَنْصَارِيُّ النَّجَّارِيُّ
فَشَهِدَ بَدْرًا وَأُحُدًا وَالْخَنْدَقَ والمشاهد، وَكَانَ مِنْ فُضَلَاءِ الصَّحَابَةِ، وَرُوِيَ أَنَّهُ رَأَى جبريل مع رسول الله بِالْمَقَاعِدِ يَتَحَدَّثَانِ بَعْدَ خَيْبَرَ، وَأَنَّهُ رَآهُ يَوْمَ بنى قريظة في صورة دحية. وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ قِرَاءَتَهُ فِي الْجَنَّةِ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يُونُسَ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي فُدَيْكٍ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ حَارِثَةَ بْنَ النُّعْمَانِ كَانَ قَدْ كُفَّ بَصَرُهُ فَجَعَلَ خَيْطًا مِنْ مُصَلَّاهِ إِلَى بَابِ حُجْرَتِهِ، فَإِذَا جَاءَهُ الْمِسْكِينُ أَخَذَ مِنْ ذَلِكَ التَّمْرِ ثُمَّ أَخَذَ يُمْسِكُ بِذَلِكَ الْخَيْطِ حَتَّى

(8/56)


يَضَعَ ذَلِكَ فِي يَدِ الْمِسْكِينِ، وَكَانَ أَهْلُهُ يَقُولُونَ لَهُ: نَحْنُ نَكْفِيكَ ذَلِكَ، فَيَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «مُنَاوَلَةَ الْمِسْكِينِ تَقِي مَيْتَةَ السُّوءِ» . وَأَمَّا حُجْرُ بْنُ عَدِيٍّ فَقَدْ تَقَدَّمَتْ قِصَّتُهُ مَبْسُوطَةً.
وَأَمَّا سَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ الْقُرَشِيُّ أَبُو الْأَعْوَرِ الْعَدَوِيُّ
فَهُوَ أَحَدُ الْعَشَرَةِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَأُخْتُهُ عَاتِكَةُ زَوْجَةُ عُمَرَ، وَأُخْتُ عُمَرَ فَاطِمَةُ زَوْجَةُ سَعِيدٍ، أَسْلَمَ قَبْلَ عُمَرَ هُوَ وَزَوْجَتُهُ فَاطِمَةُ، وَهَاجَرَا، وَكَانَ مِنْ سَادَاتِ الصَّحَابَةِ قَالَ عُرْوَةُ وَالزُّهْرِيُّ وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَالْوَاقِدِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: لَمْ يشهد بدرا لأنه قد كان بعثه رسول الله هُوَ وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بَيْنَ يَدَيْهِ يَتَجَسَّسَانِ أَخْبَارَ قُرَيْشٍ فَلَمْ يَرْجِعَا حَتَّى فَرَغَ من بدر، فضرب لهما رسول الله بِسَهْمِهِمَا وَأَجْرِهِمَا، وَلَمْ يَذْكُرْهُ عُمَرُ فِي أَهْلِ الشُّورَى لِئَلَّا يُحَابَى بِسَبَبِ قَرَابَتِهِ مِنْ عُمَرَ فَيُوَلَّى فَتَرَكَهُ لِذَلِكَ، وَإِلَّا فَهُوَ مِمَّنْ شَهِدَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجَنَّةِ فِي جُمْلَةِ الْعَشَرَةِ، كَمَا صَحَّتْ بِذَلِكَ الأحاديث المتعددة الصحيحة، ولم يتول بعده وِلَايَةً، وَمَا زَالَ كَذَلِكَ حَتَّى مَاتَ بِالْكُوفَةِ، وَقِيلَ بِالْمَدِينَةِ وَهُوَ الْأَصَحُّ، قَالَ الْفَلَّاسُ وَغَيْرُهُ: سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ وَقِيلَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَخَمْسِينَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَكَانَ رَجُلًا طُوَالًا أَشْعَرَ، وَقَدْ غسله سعد، وَحُمِلَ مِنَ الْعَقِيقِ عَلَى رِقَابِ الرِّجَالِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَكَانَ عُمْرُهُ يَوْمَئِذٍ بِضْعًا وَسَبْعِينَ سَنَةً.
وأما عبد الله أنيس بن الْجُهَنِيُّ أَبُو يَحْيَى الْمُدْنِيُّ
فَصَحَابِيٌّ جَلِيلٌ شَهِدَ الْعَقَبَةَ وَلَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا. وَشَهِدَ مَا بَعْدَهَا، وَكَانَ هُوَ وَمُعَاذٌ يَكْسِرَانِ أَصْنَامَ الْأَنْصَارِ، لَهُ فِي الصَّحِيحِ حَدِيثٌ أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ لَيْلَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ، وَهُوَ الَّذِي بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ إِلَى خَالِدِ بْنِ سُفْيَانَ الْهُذَلِيِّ فَقَتَلَهُ بَعُرَنَةَ وأعطاه رسول الله مِخْصَرَةً وَقَالَ: «هَذِهِ آيَةُ مَا بَيْنِي وَبَيْنَكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» فَأَمْرَ بِهَا فَدُفِنَتْ مَعَهُ فِي أَكْفَانِهِ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَنَّهُ تُوُفِّيَ سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ، وَقَالَ غَيْرُهُ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وَقِيلَ سَنَةَ ثَمَانِينَ.
وَأَمَّا أَبُو بَكْرَةَ نفيع بن الحارث
ابن كَلَدَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عِلَاجِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ الثَّقَفِيُّ فَصَحَابِيٌّ جَلِيلٌ كَبِيرُ الْقَدْرِ، وَيُقَالُ كَانَ اسْمَهُ مَسْرُوحٌ وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ أَبُو بَكْرَةَ لِأَنَّهُ تَدَلَّى فِي بَكْرَةَ يَوْمَ الطَّائِفِ فأعتقه رسول الله وكل مولى فر إليهم يومئذ. وأمه سمية هي أم زياد، وكانا ممن شهد على المغيرة بالزنا هو وأخوه زياد ومعهما سهل بْنُ مَعْبَدٍ، وَنَافِعُ بْنُ الْحَارِثِ فَلَمَّا تَلَكَّأَ زِيَادٌ فِي الشَّهَادَةِ جَلَدَ عُمَرُ الثَّلَاثَةَ الْبَاقِينَ ثُمَّ اسْتَتَابَهُمْ فَتَابُوا إِلَّا أَبَا بَكْرَةَ فَإِنَّهُ صَمَّمَ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَقَالَ الْمُغِيرَةُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ اشْفِنِي مِنْ هَذَا الْعَبْدِ، فَنَهَرَهُ عُمَرُ وَقَالَ لَهُ:
اسْكُتْ! لَوْ كَمَلَتِ الشَّهَادَةُ لَرَجَمْتُكَ بِأَحْجَارِكَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرَةَ خَيْرَ هَؤُلَاءِ الشُّهُودِ وكان ممن اعتزل الفتن فلم يكن في خيرهما، وَمَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ قَبْلَهَا بِسَنَةٍ، وَقِيلَ بَعْدَهَا بِسَنَةٍ وَصَلَّى عَلَيْهِ أَبُو

(8/57)


بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيُّ، وَكَانَ قَدْ آخَى بَيْنَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ مَيْمُونَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْهِلَالِيَّةُ، تَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في عُمْرَةِ الْقَضَاءِ سَنَةَ سَبْعٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ- وَكَانَ ابْنَ أُخْتِهَا أُمِّ الْفَضْلِ لُبَابَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ: تَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ محرم، وَثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْهَا أَنَّهُمَا كَانَا حلالين، وقولها مقدم عند الأكثرين على قوله. وروى الترمذي عن أبى رافع- وكان السَّفِيرَ بَيْنَهُمَا- أَنَّهُمَا كَانَا حَلَالَيْنِ. وَيُقَالُ كَانَ اسمها برة فسماها رسول الله مَيْمُونَةَ، وَتُوُفِّيتُ بِسَرَفٍ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ حَيْثُ بَنَى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ، وَقِيلَ سَنَةَ سِتٍّ وَسِتِّينَ، وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ، وَصَلَّى عَلَيْهَا ابْنُ أُخْتِهَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
ثُمَّ دَخَلَتْ سنة ثنتين وخمسين
ففيها غَزَا بِلَادَ الرُّومِ وَشَتَّى بِهَا سُفْيَانُ بْنُ عَوْفٍ الْأَزْدِيُّ فَمَاتَ هُنَالِكَ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْجُنْدِ بَعْدَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنِ مَسْعَدَةَ الْفَزَارِيَّ، وَقِيلَ إِنَّ الَّذِي كَانَ أَمِيرَ الْغَزْوِ بِبِلَادِ الرُّومِ هَذِهِ السَّنَةِ بُسْرُ بْنُ أَبِي أَرْطَاةَ وَمَعَهُ سُفْيَانُ بْنُ عَوْفٍ، وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ نَائِبُ الْمَدِينَةِ، قَالَهُ أَبُو مَعْشَرٍ وَالْوَاقِدِيُّ وَغَيْرُهُمَا. وَغَزَا الصَّائِفَةَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيُّ. وَعُمَّالُ الْأَمْصَارِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عُمَّالُهَا فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ.
ذِكْرُ مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
خَالِدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ كُلَيْبٍ
أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ الْخَزْرَجِيُّ شَهِدَ بَدْرًا وَالْعَقَبَةَ وَالْمَشَاهِدَ كُلَّهَا، وَشَهِدَ مَعَ عَلِيٍّ قِتَالَ الْحَرَورِيَّةِ، وَفِي دَارِهِ كَانَ نُزُولِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قدم المدينة فَأَقَامَ عِنْدَهُ شَهْرًا حَتَّى بَنَى الْمَسْجِدَ وَمَسَاكِنَهُ حَوْلَهُ، ثُمَّ تَحَوَّلَ إِلَيْهَا، وَقَدْ كَانَ أَبُو أيوب أنزل رسول الله في أسفل داره ثُمَّ تَحَرَّجَ مِنْ أَنْ يَعْلُوَ فَوْقَهُ، فَسَأَلَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَصْعَدَ إِلَى الْعُلْوِ وَيَكُونُ هُوَ وَأُمُّ أيوب في السفل فأجابه. وَقَدْ رُوِّينَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَدِمَ عليه أبو أيوب البصرة وهو نَائِبَهَا فَخَرَجَ لَهُ عَنْ دَارِهِ وَأَنْزَلَهُ بِهَا، فَلَمَّا أَرَادَ الِانْصِرَافَ خَرَجَ لَهُ عَنْ كُلِّ شيء بها، وزاده تحفا وخدما كثيرا أَرْبَعِينَ أَلْفًا، وَأَرْبَعِينَ عَبْدًا إِكْرَامًا لَهُ لِمَا كَانَ أَنْزَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دَارِهِ، وَقَدْ كَانَ مِنْ أَكْبَرِ الشَّرَفِ لَهُ. وَهُوَ الْقَائِلُ لِزَوْجَتِهِ أُمِّ أَيُّوبَ- حِينَ قَالَتْ لَهُ: أَمَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ الناس في عائشة-؟ فقال: أَكُنْتِ فَاعِلَةً ذَلِكَ يَا أُمَّ أَيُّوبَ؟
فَقَالَتْ: لَا وَاللَّهِ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَهِيَ خَيْرٌ مِنْكِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً 24: 12 الآية. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِبِلَادِ الرُّومِ قَرِيبًا مِنْ سُورِ قُسْطَنْطِينِيَّةَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ فِي الَّتِي قَبِلَهَا، وَقِيلَ فِي الَّتِي بَعْدَهَا. وَكَانَ فِي جَيْشِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَإِلَيْهِ أَوْصَى، وَهُوَ الَّذِي صَلَّى عَلَيْهِ. وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حدثنا عثمان ثنا همام ثنا أبو عَاصِمٌ عَنْ رَجُلٍ مِنَ أَهْلِ مَكَّةَ أَنَّ يزيد بن

(8/58)


مُعَاوِيَةَ كَانَ أَمِيرًا عَلَى الْجَيْشِ الَّذِي غَزَا فِيهِ أَبُو أَيُّوبَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُ: إِذَا أَنَا مُتُّ فَاقْرَءُوا عَلَى النَّاسِ مِنِّي السَّلَامَ وَأَخْبِرُوهُمْ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ باللَّه شَيْئًا جَعَلَهُ اللَّهُ في الجنة» . ولينطلقوا فَيَبْعُدُوا بِي فِي أَرْضِ الرُّومِ مَا اسْتَطَاعُوا. قَالَ: فَحَدَّثَ النَّاسَ لَمَّا مَاتَ أَبُو أَيُّوبَ فأسلم الناس وانطلقوا بجنازته. وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ ثَنَا أَبُو بَكْرٍ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ قَالَ: غَزَا أَبُو أَيُّوبَ مَعَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ قَالَ: فَقَالَ إِذَا مُتُّ فَأَدْخَلُونِي فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ فَادْفِنُونِي تَحْتَ أَقْدَامِكُمْ حَيْثُ تَلْقَونَ الْعَدُوَّ، قَالَ: ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ باللَّه شَيْئًا دَخْلَ الْجَنَّةَ» . وَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ نُمَيْرٍ وَيَعْلَى بْنِ عُبَيْدٍ عَنِ الْأَعْمَشِ سَمِعْتُ أَبَا ظَبْيَانَ فَذَكَرَهُ، وَقَالَ فِيهِ: سأحدثكم حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْلَا حَالِي هَذَا مَا حَدَّثْتُكُمُوهُ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ باللَّه شَيْئًا دخل الجنة» : وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عِيسَى حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بن قيس- قاضى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ- عَنْ أَبِي صِرْمَةَ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ حِينَ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ: قَدْ كُنْتُ كَتَمْتُ عَنْكُمْ شَيْئًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سمعته يَقُولُ: «لَوْلَا أَنَّكُمْ تُذْنِبُونَ لَخَلَقَ اللَّهُ قَوْمًا يُذْنِبُونَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ» . وَعِنْدِي أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ وَالَّذِي قَبِلَهُ هُوَ الَّذِي حَمَلَ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ عَلَى طَرَفٍ مِنَ الْأَرْجَاءِ، وَرَكِبَ بِسَبَبِهِ أَفْعَالًا كَثِيرَةً أُنْكِرَتْ عَلَيْهِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ فِي تَرْجَمَتِهِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: مَاتَ أَبُو أَيُّوبَ بِأَرْضِ الرُّومِ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَخَمْسِينَ وَدُفِنَ عِنْدَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ وَقَبْرُهُ هُنَالِكَ يَسْتَسْقِي بِهِ الرُّومُ إِذَا قَحَطُوا، وَقِيلَ: إِنَّهُ مَدْفُونٌ فِي حَائِطِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ وَعَلَى قَبْرِهِ مَزَارٌ وَمَسْجِدٌ وَهُمْ يُعَظِّمُونَهُ، وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيُّ: تُوُفِّيَ سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ، وَالْأَوَّلُ أَثْبَتُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ خَلَّادٍ: حَدَّثَنَا الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ ثَنَا دَاوُدُ بْنُ الْمُحَبَّرِ ثَنَا مَيْسَرَةُ بْنُ عَبْدِ رَبِّهِ عَنْ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: «إِنَّ الرَّجُلَيْنِ لَيَتَوَجَّهَانِ إِلَى الْمَسْجِدِ فَيُصَلِّيَانِ فَيَنْصَرِفُ أَحَدُهُمَا وَصَلَاتُهُ أَوزَنُ من صلاة الآخر، وَيَنْصَرِفُ الْآخَرُ وَمَا تَعْدِلُ صَلَاتُهُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، إِذَا كَانَ أَوْرَعَهُمَا عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ وَأَحْرَصَهُمَا على المسارعة إلى الخير» . وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرَجُلٍ سَأَلَهُ أَنْ يُعَلِّمَهُ وَيُوجِزَ فَقَالَ لَهُ: «إِذَا صَلَّيْتَ صَلَاةً فَصَلِّ صَلَاةَ مُودِّعٍ، وَلَا تَكَلَّمَنَّ بِكَلَامٍ تَعْتَذِرُ مِنْهُ، وَأَجْمِعِ الْيَأْسَ مِمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ» وَفِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ أَبِي مُوسَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسِ بْنِ سُلَيْمِ بْنِ حِضَارِ بْنِ حرب بن عامر بن غز بْنِ بَكْرِ بْنِ عَامِرِ بْنِ عُذْرِ بْنِ وَائِلِ بْنِ نَاجِيَةِ بْنِ جُمَاهِرِ بْنِ الْأَشْعَرِ الأشعري، أَسْلَمَ بِبِلَادِهِ وَقَدِمَ مَعَ جَعْفَرٍ وَأَصْحَابِهِ عَامَ خَيْبَرَ، وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ أَنَّهُ هَاجَرَ أولا إلى مكة ثم هاجر إلى اليمن، وَلَيْسَ هَذَا بِالْمَشْهُورِ، وَقَدِ اسْتَعْمَلَهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ مُعَاذٍ عَلَى الْيَمَنَ، وَاسْتَنَابَهُ عُمَرُ عَلَى الْبَصْرَةِ، وَفَتَحَ تُسْتَرَ،

(8/59)


وَشَهِدَ خُطْبَةَ عُمَرَ بِالْجَابِيَةِ، وَوَلَّاهُ عُثْمَانُ الْكُوفَةَ، وَكَانَ أَحَدَ الْحَكَمَيْنِ بَيْنَ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ، فَلَمَّا اجْتَمَعَا خَدَعَ عَمْرٌو أَبَا مُوسَى، وَكَانَ مِنْ قُرَّاءِ الصَّحَابَةِ وَفُقَهَائِهِمْ، وَكَانَ أَحْسَنَ الصَّحَابَةِ صَوْتًا فِي زَمَانِهِ، قَالَ أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ: مَا سَمِعْتُ صَوْتَ صَنْجٍ وَلَا بِرَبْطٍ وَلَا مِزْمَارٍ أَطْيَبَ مِنْ صَوْتِ أَبِي مُوسَى وَثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَقَدْ أُوتِيَ هَذَا مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ» . وَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ لَهُ: ذَكِّرْنَا رَبَّنَا يَا أَبَا مُوسَى، فَيَقْرَأُ وَهُمْ يَسْمَعُونَ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: كَتَبَ عُمَرُ فِي وَصِيَّتِهِ أَنْ لَا يُقَرَّ لِي عَامِلٌ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ إِلَّا أَبَا مُوسَى فَلْيُقَرَّ أَرْبَعَ سِنِينَ. وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمُنْتَظِمِ أَنَّهُ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ، وَقِيلَ إِنَّهُ تُوُفِّيَ قَبْلَهَا بِسَنَةٍ، وَقِيلَ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِمَكَّةَ لَمَّا اعْتَزَلَ النَّاسَ بَعْدَ التحكيم، وقيل بمكان يقال له: الثوبة عَلَى مِيلَيْنِ مِنِ الْكُوفَةِ. وَكَانَ قَصِيرًا نَحِيفَ الجسم أسبط، أَيْ لَا لِحْيَةَ لَهُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَنَّهُ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَيْضًا مِنَ الصَّحَابَةِ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ المغفل المزني
وكان أحد البكاءين، وَأَحَدَ الْعَشَرَةِ الَّذِينَ بَعَثَهُمْ عُمَرُ إِلَى الْبَصْرَةِ لِيُفَقِّهُوا النَّاسَ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ دَخَلَ تُسْتَرَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ حِينَ فَتْحِهَا. لَكِنِ الصَّحِيحَ مَا حَكَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ مُسَدَّدٍ أَنَّهُ تُوُفِّيَ سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: تُوُفِّيَ سَنَةَ سِتِّينَ، وَقَالَ غَيْرُهُ: سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ فاللَّه أَعْلَمُ.
وَيُرْوَى عَنْهُ أَنَّهُ رَأَى فِي مَنَامِهِ كَأَنَّ الْقِيَامَةَ قَدْ قَامَتْ وَكَانَ هُنَاكَ مَكَانٌ مِنْ وَصَلَ إِلَيْهِ نَجَا، فَجَعَلَ يُحَاوِلُ الْوُصُولَ إِلَيْهِ فَقِيلَ لَهُ: أَتُرِيدُ أَنْ تَصِلَ إليه وعندك ما عندك من الدنيا؟ فَاسْتَيْقَظَ فَعَمَدَ إِلَى عَيْبَةٍ عِنْدَهُ فِيهَا ذَهَبٌ كَثِيرٌ فَلَمْ يُصْبِحْ عَلَيْهِ الصَّبَاحُ إِلَّا وَقَدْ فَرَّقَهَا فِي الْمَسَاكِينِ وَالْمَحَاوِيجِ وَالْأَقَارِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنِ بْنِ عبيد
ابن خَلَفٍ أَبُو نُجَيدٍ الْخُزَاعِيُّ، أَسْلَمَ هُوَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ عَامَ خَيْبَرَ وَشَهِدَ غَزَوَاتٍ، وَكَانَ مِنْ سَادَاتِ الصَّحَابَةِ، اسْتَقْضَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ على البصرة فحكم له بِهَا، ثُمَّ اسْتَعْفَاهُ فَأَعْفَاهُ، وَلَمْ يَزَلْ بِهَا حَتَّى مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، قَالَ الْحَسَنُ: وابن سيرين البصري: مَا قَدِمَ الْبَصْرَةَ رَاكِبٌ خَيْرٌ مِنْهُ، وَقَدْ كَانَتِ الْمَلَائِكَةُ تُسَلِّمُ عَلَيْهِ فَلَمَّا اكْتَوَى انْقَطَعَ عنه سلامهم ثم عادوا قبل موته بقليل فكانوا يسلمون عليه رضى الله عنه وعن أبيه.
كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ الْأَنْصَارِيُّ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَدَنِيُّ
صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ وَهُوَ الَّذِي نَزَلَتَ فِيهِ آيَةُ الْفِدْيَةِ فِي الْحَجِّ. مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ قَبْلَهَا بِسَنَةٍ عَنْ خَمْسٍ أَوْ سَبْعٍ وسبعين سنة.
معاوية بن خديج
ابن جَفْنَةَ بْنِ قَتِيرَةَ الْكِنْدِيُّ الْخَوْلَانِيُّ الْمِصْرِيُّ، صَحَابِيٌّ عَلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ، وَذَكَرَهُ ابْنُ

(8/60)


حِبَّانَ فِي التَّابِعَيْنِ مِنَ الثِّقَاتِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، شَهِدَ فَتَحَ مِصْرَ، وَهُوَ الَّذِي وَفَدَ إِلَى عُمَرَ بِفَتْحِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، وَشَهِدَ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ قِتَالَ الْبَرْبَرِ، وَذَهَبَتْ عَيْنُهُ يَوْمَئِذٍ، وَوَلِيَ حُرُوبًا كَثِيرَةً فِي بِلَادِ الْمَغْرِبِ، وَكَانَ عُثْمَانِيًّا فِي أَيَّامِ عَلِيٍّ بِبِلَادِ مِصْرَ، وَلَمْ يُبَايِعْ عَلِيًّا بِالْكُلِّيَّةِ، فَلَمَّا أَخَذَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ مِصْرَ أَكْرَمَهُ ثُمَّ اسْتَنَابَهُ بِهَا بَعْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، فَإِنَّهُ نَابَ بِهَا بَعْدَ أَبِيهِ سَنَتَيْنِ ثُمَّ عَزَلَهُ مُعَاوِيَةُ وَوَلَّى مُعَاوِيَةَ بن خديج هَذَا، فَلَمْ يَزَلْ بِمِصْرَ حَتَّى مَاتَ بِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
هَانِئُ بْنُ نِيَارٍ أَبُو بُرْدَةَ الْبَلَوِيُّ خَالُ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ
الْمَخْصُوصُ بِذَبْحِ الْعَنَاقِ وَإِجْزَائِهَا عَنْ غَيْرِهَا مِنَ الْأَضَاحِيِّ، وَشَهِدَ الْعَقَبَةَ وَبَدْرًا وَالْمَشَاهِدَ كُلَّهَا وَكَانَتْ رَايَةُ بَنِي حَارِثَةَ مَعَهُ يَوْمَ الْفَتْحِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ
فَفِيهَا غَزَا عَبْدُ الرحمن بن أم الحكم بِلَادَ الرُّومِ وَشَتَّى بِهَا، وَفِيهَا افْتَتَحَ الْمُسْلِمُونَ وعليهم جنادة ابن أَبِي أُمَيَّةَ جَزِيرَةَ رُودِسَ فَأَقَامَ بِهَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا أَشَدَّ شَيْءٍ عَلَى الْكُفَّارِ، يَعْتَرِضُونَ لَهُمْ فِي الْبَحْرِ وَيَقْطَعُونَ سَبِيلَهُمْ، وَكَانَ مُعَاوِيَةُ يُدِرُّ عَلَيْهِمُ الْأَرْزَاقَ وَالْأُعْطِيَاتِ الْجَزِيلَةَ، وَكَانُوا عَلَى حَذَرٍ شَدِيدٍ مِنَ الْفِرِنْجِ، يَبِيتُونَ فِي حصن عظيم عنده فِيهِ حَوَائِجُهُمْ وَدَوَابُّهُمْ وَحَوَاصِلُهُمْ، وَلَهُمْ نَوَاطِيرُ عَلَى الْبَحْرِ يُنْذِرُونَهُمْ إِنْ قَدِمَ عَدُوٌّ أَوْ كَادَهُمْ أحد، وما زالوا كذلك حتى كانت إمرة يزيد بن معاوية بعد أبيه، فحولهم مِنْ تِلْكَ الْجَزِيرَةِ، وَقَدْ كَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ بِهَا أَمْوَالٌ كَثِيرَةٌ وَزِرَاعَاتٌ غَزِيرَةٌ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ وَالِي الْمَدِينَةِ أيضا، قَالَهُ أَبُو مَعْشَرٍ وَالْوَاقِدِيُّ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ توفى جبلة ابن الْأَيْهَمِ الْغَسَّانِيُّ كَمَا سَتَأْتِي تَرْجَمَتُهُ فِي آخِرِ هَذِهِ التَّرَاجِمِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ
الرَّبِيعُ بْنُ زِيَادٍ الْحَارِثِيُّ، اخْتُلِفَ فِي صُحْبَتِهِ وَكَانَ نَائِبَ زِيَادٍ عَلَى خُرَاسَانَ، وَكَانَ قَدْ ذَكَرَ حُجْرَ بْنَ عدي فأسف عَلَيْهِ، وَقَالَ: وَاللَّهِ لَوْ ثَارَتِ الْعَرَبُ لَهُ لَمَا قُتِلَ صَبْرًا وَلَكِنْ أَقَرَّتِ الْعَرَبُ فَذَلَّتْ، ثُمَّ لَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ دَعَا اللَّهَ عَلَى الْمِنْبَرِ أَنْ يَقْبِضَهُ إِلَيْهِ فَمَا عَاشَ إِلَى الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى عَمَلِهِ ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الرَّبِيعِ فَأَقَرَّهُ زِيَادٌ عَلَى ذَلِكَ، فَمَاتَ بَعْدَ ذَلِكَ بِشَهْرَيْنِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى عملهم بِخُرَاسَانَ خُلَيْدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْحَنَفِيَّ فَأَقَرَّهُ زياد.
رويفع بْنُ ثَابِتٍ
صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ شَهِدَ فَتْحَ مِصْرَ، وَلَهُ آثَارٌ جَيِّدَةٌ فِي فَتْحِ بِلَادِ الْمَغْرِبِ، وَمَاتَ بِبَرْقَةَ وَالِيًا مِنْ جِهَةِ مَسْلَمَةَ بْنِ مخلد نائب مصر.
وفي هذه السنة أيضا تُوُفِّيَ زِيَادُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ وَيُقَالُ لَهُ: زياد بن أبيه وزياد بن سُمَيَّةَ- وَهِيَ أُمُّهُ-

(8/61)


فِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ مَطْعُونًا، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ يَقُولُ لَهُ: إِنِّي قَدْ ضَبَطْتُ لَكَ الْعِرَاقَ بِشِمَالِي ويميني فارغة، فارع لي ذلك، وَهُوَ يُعَرِّضُ لَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَهُ عَلَى بِلَادِ الحجاز أيضا، فلما بلغ أهل الحجاز جاءوا إلى عبد الله بن عمر فَشَكَوْا إِلَيْهِ ذَلِكَ، وَخَافُوا أَنْ يَلِيَ عَلَيْهِمْ زِيَادٌ، فَيَعْسِفَهُمْ كَمَا عَسَفَ أَهْلَ الْعِرَاقِ، فَقَامَ ابْنُ عُمَرَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَدَعَا عَلَى زِيَادٍ وَالنَّاسُ يُؤَمِّنُونَ، فَطُعِنَ زِيَادٌ بِالْعِرَاقِ فِي يَدِهِ فَضَاقَ ذَرْعًا بِذَلِكَ، وَاسْتَشَارَ شُرَيْحًا الْقَاضِيَ فِي قَطْعِ يَدِهِ، فَقَالَ لَهُ شُرَيْحٌ: إِنِّي لَا أرى ذلك، فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْأَجَلِّ فُسْحَةٌ لقيت الله أجذم قد قطعت يدك خوفا مِنْ لِقَائِهِ، وَإِنْ كَانَ لَكَ أَجْلٌ بَقِيتَ فِي النَّاسِ أَجْذَمَ فَيُعَيَّرُ وَلَدُكَ بِذَلِكَ. فَصَرَفَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَلَمَّا خَرَجَ شُرَيْحٌ مِنْ عِنْدِهِ عَاتَبَهُ بَعْضُ النَّاسِ: وَقَالُوا: هَلَّا تَرَكَتْهُ فَقَطَعَ يَدَهُ؟! فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ» . وَيُقَالُ إِنَّ زِيَادًا جَعَلَ يَقُولُ: أَأَنَامَ أَنَا وَالطَّاعُونُ فِي فِرَاشٍ وَاحِدٍ؟ فَعَزَمَ عَلَى قَطْعِ يَدِهِ، فَلَمَّا جِيءَ بِالْمَكَاوِي وَالْحَدِيدِ خَافَ مِنْ ذَلِكَ فَتَرَكَ ذَلِكَ، وَذُكِرَ أَنَّهُ جَمَعَ مِائَةً وَخَمْسِينَ طَبِيبًا لِيُدَاوُوهُ مِمَّا يَجِدُ مِنَ الْحَرِّ فِي بَاطِنِهِ، مِنْهُمْ ثلاثة مِمَّنْ كَانَ يَطِبُّ كِسْرَى بْنَ هُرْمُزَ، فَعَجَزُوا عَنْ رَدِّ الْقَدَرِ الْمَحْتُومِ وَالْأَمْرِ الْمَحْمُومِ، فَمَاتَ فِي ثَالِثِ شَهْرِ رَمَضَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ قَامَ فِي إِمْرَةِ الْعِرَاقِ خَمْسَ سِنِينَ. ودفن بالثوبة خَارِجَ الْكُوفَةِ، وَقَدْ كَانَ بَرَزَ مِنْهَا قَاصِدًا إلى الْحِجَازَ أَمِيرًا عَلَيْهَا، فَلَمَّا بَلَغَ خَبَرُ مَوْتِهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ:
اذْهَبْ إِلَيْكَ يَا ابْنَ سُمَيَّةَ، فَلَا الدُّنْيَا بَقِيَتْ لَكَ، ولا الآخرة أدركت. قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا:
حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ هِشَامِ بْنِ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ ثعلبة أبو المقدم الْأَنْصَارِيُّ عَنْ أُمِّهِ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ أَبِيهَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ السَّائِبِ الْأَنْصَارِيِّ. قَالَ: جَمَعَ زِيَادٌ أَهْلَ الْكُوفَةِ فَمَلَأَ مِنْهُمُ الْمَسْجِدَ وَالرَّحْبَةَ والقصر ليعرض عليهم الْبَرَاءَةِ مِنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: فَإِنِّي لَمَعَ نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِي مِنَ الْأَنْصَارِ، وَالنَّاسُ فِي أَمْرٍ عَظِيمٍ مِنْ ذَلِكَ وَفِي حَصْرٍ، قَالَ: فَهَوَّمْتُ تَهْوِيمَةً- أَيْ نَعَسْتُ نَعْسَةً- فَرَأَيْتُ شَيْئًا أَقْبَلَ طَوِيلَ الْعُنُقِ، لَهُ عُنُقٌ مِثْلَ عُنُقِ الْبَعِيرِ، أَهْدَبَ أَهْدَلَ فَقُلْتُ: مَا أَنْتَ؟ فَقَالَ: أَنَا النَّقَّادُ ذُو الرَّقَبَةِ، بُعِثْتُ إِلَى صَاحِبِ هَذَا الْقَصْرِ، فَاسْتَيْقَظْتُ فَزِعًا فَقُلْتُ لِأَصْحَابِي: هَلْ رَأَيْتُمْ مَا رَأَيْتُ؟
قَالُوا: لَا! فَأَخْبَرْتُهُمْ، وَخَرَجَ عَلَيْنَا خَارِجٌ مِنَ الْقَصْرِ فَقَالَ: إِنَّ الْأَمِيرَ يَقُولُ لَكُمْ: انْصَرِفُوا عَنِّي:
فَإِنِّي عَنْكُمْ مَشْغُولٌ. وَإِذَا الطَّاعُونُ قَدْ أَصَابَهُ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا أَنَّ زِيَادًا لما ولى الكوفة سأل عن أعبدها فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ أَبُو الْمُغِيرَةِ الْحِمْيَرِيُّ، فَجَاءَ بِهِ فَقَالَ لَهُ: الْزَمْ بَيْتَكَ وَلَا تَخْرُجْ مِنْهُ وَأَنَا أُعْطِيكَ مِنَ الْمَالِ مَا شِئْتَ، فَقَالَ: لَوْ أَعْطَيْتَنِي مُلْكَ الْأَرْضِ مَا تَرَكْتُ خُرُوجِي لِصَلَاةِ الْجَمَاعَةِ.
فَقَالَ الْزَمِ الْجَمَاعَةَ وَلَا تَتَكَلَّمْ بِشَيْءٍ. فَقَالَ: لَا أَسْتَطِيعُ تَرْكَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَأَمَرَ به فضربت عنقه. وَلَمَّا احْتَضَرَ قَالَ لَهُ ابْنُهُ: يَا أَبَةِ قَدْ هَيَّأْتُ لَكَ سِتِّينَ ثَوْبًا أُكَفِّنُكَ فِيهَا، فَقَالَ يَا بُنَيَّ قَدْ دَنَا مِنْ أَبِيكَ أَمْرٌ إِمَّا لِبَاسٌ خَيْرٌ مِنْ لِبَاسِهِ وَإِمَّا سلب سريع. وهذا غريب جدا

(8/62)


صعصعة بن ناجية
ابن عفان بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ بْنِ مُجَاشِعِ بْنِ دارم، كَانَ سَيِّدًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَفِي الْإِسْلَامِ، يُقَالُ إنه أحيى فِي الْجَاهِلِيَّةِ ثَلَاثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ مَوْءُودَةً، وَقِيلَ أَرْبَعَمِائَةٍ، وَقِيلَ سِتًّا وَتِسْعِينَ مَوْءُودَةً، فَلَمَّا أَسْلَمَ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَكَ أَجْرُ ذَلِكَ إِذْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْكَ بِالْإِسْلَامِ» . وَيُرْوَى عَنْهُ أَنَّهُ أَوَّلُ مَا أَحْيَى الْمَوْءُودَةَ أَنَّهُ ذَهَبَ فِي طَلَبِ نَاقَتَيْنِ شَرَدَتَا لَهُ، قَالَ فَبَيْنَمَا أَنَا فِي اللَّيْلِ أَسِيرُ إذ أَنَا بِنَارٍ تُضِيءُ مَرَّةً وَتَخْبُو أُخْرَى.
فَجَعَلْتُ لَا أَهْتَدِي إِلَيْهَا، فَقُلْتُ: اللَّهمّ لَكَ عَلَيَّ إِنْ أَوْصَلْتَنِي إِلَيْهَا أَنْ أَدْفَعَ عَنْ أَهْلِهَا ضَيْمًا إِنْ وَجَدْتُهُ بِهِمْ، قَالَ فَوَصَلْتُ إِلَيْهَا وَإِذَا شَيْخٌ كَبِيرٌ يُوقِدُ نَارًا وَعِنْدَهُ نِسْوَةٌ مُجْتَمِعَاتٌ، فَقُلْتُ: مَا أَنْتُنَّ؟ فَقُلْنَ إِنَّ هَذِهِ امْرَأَةٌ قَدْ حَبَسَتْنَا مُنْذُ ثَلَاثٍ، تَطْلَقُ وَلَمْ تَخْلُصْ، فَقَالَ الشَّيْخُ صَاحِبُ الْمَنْزِلِ: وَمَا خَبَرُكَ؟
فقلت: إني في طلب ناقتين ندّتا لِي، فَقَالَ: قَدْ وَجَدْتُهُمَا، إِنَّهُمَا لَفِي إِبِلِنَا، قَالَ فَنَزَلْتُ عِنْدَهُ؟
قَالَ فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ نَزَلْتُ إِذْ قُلْنَ وَضَعَتْ، فَقَالَ الشَّيْخُ: إِنْ كَانَ ذَكَرًا فَارْتَحِلُوا، وَإِنْ كَانَ أُنْثَى فَلَا تُسْمِعْنَنِي صَوْتَهَا، فَقُلْتُ: عَلَامَ تَقْتُلُ وَلَدَكَ وَرِزْقُهُ عَلَى اللَّهِ؟ فَقَالَ: لَا حَاجَةَ لِي بِهَا، فَقُلْتُ: أَنَا أَفْتَدِيهَا مِنْكَ وَأَتْرُكُهَا عِنْدَكَ حتى تبين عندك أَوْ تَمُوتَ. قَالَ: بِكَمْ؟ قُلْتُ. بِإِحْدَى نَاقَتَيَّ، قَالَ: لَا! قُلْتُ فَبِهِمَا، قَالَ لَا إِلَّا أَنَّ تَزِيدَنِي بَعِيرَكَ هَذَا فَإِنِّي أَرَاهُ شَابًّا حَسَنَ اللَّوْنِ، قُلْتُ نَعَمْ عَلَى أَنْ تَرُدَّنِي إِلَى أَهْلِي، قَالَ نَعَمْ، فَلَمَّا خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِهِمْ رَأَيْتُ أَنَّ الَّذِي صَنَعْتُهُ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ مَنَّ بِهَا عَلَيَّ هَدَانِي إِلَيْهَا، فَجَعَلْتُ للَّه عَلَيَّ أَنْ لَا أَجِدَ مَوْءُودَةً إِلَّا افْتَدَيْتُهَا كَمَا افْتَدَيْتُ هَذِهِ، قَالَ فَمَا جَاءَ الإسلام حتى أحييت مائة موءودة إلا أربعة، وَنَزَلَ الْقُرْآنُ بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْمَشَاهِيرِ الْمَذْكُورِينَ
جَبَلَةُ بْنُ الْأَيْهَمِ الْغَسَّانِيُّ
مَلِكُ نَصَارَى الْعَرَبِ وَهُوَ جَبَلَةُ بْنُ الْأَيْهَمِ بْنِ جَبَلَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي شِمْرٍ، وَاسْمُهُ الْمُنْذِرُ بْنُ الْحَارِثِ، وَهُوَ ابْنُ مَارِيَةَ ذَاتِ الْقُرْطَيْنِ، وَهُوَ ابْنُ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ جَفْنَةَ، وَاسْمُهُ كعب أبو عَامِرِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ، وَمَارِيَةُ بِنْتُ أَرْقَمَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ جفنة، ويقال غير ذلك في نسبه، وكنيته جَبَلَةَ أَبُو الْمُنْذِرِ الْغَسَّانِيُّ الْجَفْنِيُّ، وَكَانَ مَلِكُ غَسَّانَ، وَهُمْ نَصَارَى الْعَرَبِ أَيَّامَ هِرَقْلَ، وَغَسَّانُ أَوْلَادُ عَمِّ الْأَنْصَارِ أَوْسِهَا وَخَزْرَجِهَا، وَكَانَ جَبَلَةُ آخِرَ مُلُوكِ غَسَّانَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِتَابًا مَعَ شُجَاعِ بْنِ وَهْبٍ يَدْعُوهُ إِلَى الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمَ وَكَتَبَ بِإِسْلَامِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال ابن عساكر: إِنَّهُ لَمْ يُسْلِمْ قَطُّ، وَهَكَذَا صَرَّحَ بِهِ الواحدي وَسَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ:
شَهِدَ الْيَرْمُوكَ مَعَ الرُّومِ أَيَّامَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ثُمَّ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي أَيَّامِ عُمَرَ، فاتفق أنه وطئ رداء رجل من مزينة بدمشق فلطمه ذلك المزني، فدفعه أَصْحَابُ جَبَلَةَ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ فَقَالُوا: هَذَا لطم جبلة، قال أبو عبيدة: فيلطمه جبلة: فقالوا: أو ما يُقْتَلُ؟ قَالَ لَا! قَالُوا: فَمَا تُقْطَعُ يَدُهُ؟ قَالَ لَا، إِنَّمَا أَمَرَ اللَّهُ

(8/63)


بِالْقَوَدِ، فَقَالَ جَبَلَةُ: أَتَرَوْنَ أَنِّي جَاعِلٌ وَجْهِي بدلا لوجه مازني جَاءَ مِنْ نَاحِيَةِ الْمَدِينَةِ؟ بِئْسَ الدِّينُ هَذَا، ثُمَّ ارْتَدَّ نَصْرَانِيًّا وَتَرَحَّلَ بِأَهْلِهِ حَتَّى دَخَلَ أَرْضَ الرُّومِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ فَشَقَّ عَلَيْهِ وَقَالَ لِحَسَّانَ:
إِنَّ صَدِيقَكَ جَبَلَةَ ارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ، 2: 156 ثُمَّ قَالَ: وَلِمَ؟ قَالَ لَطَمَهُ رَجُلٌ مِنْ مُزَيْنَةَ فَقَالَ: وَحُقَّ لَهُ، فَقَامَ إِلَيْهِ عُمَرُ بالدرة فضربه. وَرَوَاهُ الْوَاقِدِيُّ عَنْ مَعْمَرٍ وَغَيْرِهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَاقَ ذَلِكَ بِأَسَانِيدِهِ إِلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ أَشْهَرُ الْأَقْوَالِ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ الْكَلْبِيِّ وَغَيْرُهُ أَنَّ عُمَرَ لَمَّا بَلَغَهُ إِسْلَامُ جَبَلَةَ فَرِحَ بِإِسْلَامِهِ، ثُمَّ بَعَثَ يَسْتَدْعِيهِ لِيَرَاهُ بِالْمَدِينَةِ، وَقِيلَ بَلِ اسْتَأْذَنَهُ جَبَلَةُ فِي الْقُدُومِ عَلَيْهِ فَأَذِنَ لَهُ فَرَكِبَ فِي خَلْقٍ كَثِيرٍ مِنْ قَوْمِهِ، قِيلَ مِائَةٌ وخمسين رَاكِبًا، وَقِيلَ خَمْسُمِائَةٍ، وَتَلَقَّتْهُ هَدَايَا عُمَرَ وَنُزُلُهُ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى الْمَدِينَةِ بِمَرَاحِلَ، وَكَانَ يَوْمُ دُخُولِهِ يَوْمًا مَشْهُودًا دَخَلَهَا وَقَدْ أَلْبَسَ خيوله قلائد الذهب والفضة، ولبس تَاجًا عَلَى رَأْسِهِ مُرَصَّعًا بِاللَّآلِئِ وَالْجَوَاهِرِ، وَفِيهِ قُرْطَا مَارِيَةَ جَدَّتِهِ، وَخَرَجَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ رِجَالُهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا سَلَّمَ عَلَى عُمَرَ رَحَّبَ بِهِ عُمَرُ وَأَدْنَى مَجْلِسَهُ، وَشَهِدَ الْحَجَّ مَعَ عُمَرَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ إِذْ وَطِئَ إِزَارَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي فَزَارَةَ فَانْحَلَّ، فَرَفَعَ جَبَلَةُ يَدَهُ فَهَشَّمَ أَنْفَ ذَلِكَ الرَّجُلِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: إنه قلع عينه، فاستعدى عليه الفزاري إلى عمرو معه خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ بَنِي فَزَارَةَ، فَاسْتَحْضَرَهُ عُمَرُ فاعترف جبلة، فقال له عمر: أقدته منك. فقال: كَيْفَ وَأَنَا مَلِكٌ وَهُوَ سُوقَةٌ؟ فَقَالَ:
إِنَّ الْإِسْلَامَ جَمَعَكَ وَإِيَّاهُ فَلَسْتَ تَفْضُلُهُ إِلَّا بِالتَّقْوَى، فَقَالَ جَبَلَةُ: قَدْ كُنْتُ أَظُنُّ أَنْ أَكُونَ فِي الْإِسْلَامِ أَعَزَّ مِنِّي فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ عُمَرُ: دَعْ ذَا عَنْكَ، فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ ترض الرجل أقدته منك، فقال إذا أَتَنَصَّرَ، فَقَالَ إِنْ تَنَصَّرْتَ ضَرَبْتُ عُنُقَكَ، فَلَمَّا رأى الحد: قَالَ سَأَنْظُرُ فِي أَمْرِي هَذِهِ اللَّيْلَةَ، فَانْصَرَفَ مِنْ عِنْدِ عُمَرَ، فَلَمَّا ادْلَهَمَّ اللَّيْلُ رَكِبَ فِي قَوْمِهِ وَمَنْ أَطَاعَهُ فَسَارَ إِلَى الشَّامِ ثُمَّ دَخَلَ بِلَادَ الرُّومِ وَدَخَلَ عَلَى هِرَقْلَ فِي مَدِينَةِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ فَرَحَّبَ بِهِ هِرَقْلُ وَأَقْطَعَهُ بِلَادًا كَثِيرَةً، وَأَجْرَى عَلَيْهِ أَرْزَاقًا جَزِيلَةً، وَأَهْدَى إِلَيْهِ هَدَايَا جَمِيلَةً، وَجَعَلَهُ مِنْ سُمَّارِهِ، فَمَكَثَ عِنْدَهُ دَهْرًا. ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ كَتَبَ كِتَابًا إِلَى هِرَقْلَ مَعَ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ جَثَّامَةُ بْنُ مُسَاحِقٍ الْكِنَانِيُّ، فَلَمَّا بَلَغَ هِرَقْلَ كِتَابُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ لَهُ هِرَقْلُ: هَلْ لَقِيتَ ابْنَ عَمِّكَ جَبَلَةَ؟ قَالَ: لَا! قَالَ فَالْقَهُ، فَذَكَرَ اجْتِمَاعَهُ بِهِ وَمَا هُوَ فِيهِ مِنَ النِّعْمَةِ وَالسُّرُورِ وَالْحُبُورِ الدُّنْيَوِيِّ، فِي لِبَاسِهِ وَفَرْشِهِ وَمَجْلِسِهِ وَطِيبِهِ وَجَوَارِيهِ، حَوَالَيْهِ الْحِسَانِ مِنَ الخدم والقيان، ومطعمه وشرابه وسروره وَدَارِهِ الَّتِي تَعَوَّضَ بِهَا عَنْ دَارِ الْإِسْلَامِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ دَعَاهُ إِلَى الْإِسْلَامِ وَالْعَوْدِ إِلَى الشَّامِ فَقَالَ: أَبْعَدَ مَا كَانَ مِنِّي مِنَ الِارْتِدَادِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ! إِنَّ الْأَشْعَثَ بْنَ قَيْسٍ ارتد وقاتلهم بالسيوف، ثم لما رجع إلى الحق قبله مِنْهُ وَزَوَّجَهُ الصِّدِّيقُ بِأُخْتِهِ أُمِّ فَرْوَةَ، قَالَ: فَالْتَهَى عَنْهُ بِالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَعَرَضَ عَلَيْهِ الْخَمْرَ فَأَبَى عَلَيْهِ، وَشَرِبَ جَبَلَةُ مِنَ الْخَمْرِ شَيْئًا كثيرا حتى سكر

(8/64)


ثم أمر جواريه المغنيات فغنينه بالعيد أن مِنْ قَوْلِ حَسَّانَ يَمْدَحُ بَنِي عَمِّهِ مِنْ غَسَّانَ وَالشِّعْرُ فِي وَالِدِ جَبَلَةَ هَذَا الْحَيَوَانِ.
للَّه دَرُّ عِصَابَةٍ نَادَمْتُهُمْ ... يَوْمًا بِجِلَّقَ فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ
أَوْلَادِ جَفْنَةَ حَوْلَ قَبْرِ أَبِيهُمُ ... قَبْرِ ابْنِ مَارِيَةَ الْكَرِيمِ الْمُفْضِلِ
يَسْقُونَ مَنْ ورد البريص عليهم ... بردي يصفّق بِالرَّحِيقِ السَّلْسَلِ
بِيضِ الْوُجُوهِ كَرَيْمَةٍ أَحْسَابُهُمْ ... شُمِّ الْأُنُوفِ مِنَ الطِّرَازِ الْأَوَّلِ
يُغْشَوْنَ حَتَّى مَا تَهِرُّ كِلَابُهُمْ ... لَا يَسْأَلُونَ عَنِ السَّوَادِ الْمُقْبِلِ
قَالَ: فَأَعْجَبَهُ قَوْلُهُنَّ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: هَذَا شِعْرُ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيِّ فِينَا وَفِي ملكنا، ثم قال لي: كيف حاله؟ قلت: تَرَكْتُهُ ضَرِيرًا شَيْخًا كَبِيرًا، ثُمَّ قَالَ لَهُنَّ: أطربننى فاندفعن يغنين لحسان أيضا
لمن الديار أوحشت بمغان ... بين أعلا اليرموك فالصّمّان
فالقريات من بلامس فداريا ... فسكاء لقصور الدواني
فقفا جاسم فأودية الصُّفَّرِ ... مَغْنَى قَبَائِلٍ وَهِجَانِ
تِلْكَ دَارُ الْعَزِيزِ بعد أنيس ... وحلوك عظيمة الأركان
صلوات المسيح في ذلك الدير ... دُعَاءُ الْقِسِّيسِ وَالرُّهْبَانِ
ذَاكَ مَغْنًى لِآلِ جَفْنَةَ في الدهر ... محاه تعاقب الأزمان
قد أرانى هُنَاكَ حَقَّ مَكِينٍ ... عِنْدَ ذِي التَّاجِ مَجْلِسِي وَمَكَانِي
ثَكِلَتْ أُمُّهُمْ وَقَدْ ثَكِلَتْهُمْ ... يَوْمَ حَلُّوًا بحارث الحولاني
وقد دنا الفصح فالولائد ينظمن ... سراعا أكلّة المرجان
ثم قَالَ: هَذَا لِابْنِ الْفُرَيْعَةِ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ فِينَا وَفِي مُلْكِنَا وَفِي مَنَازِلِنَا بِأَكْنَافِ غُوطَةِ دِمَشْقَ، قَالَ: ثُمَّ سَكَتَ طَوِيلًا، ثُمَّ قَالَ لَهُنَّ: بَكِّينَنِي، فَوَضَعْنَ عِيدَانَهُنَّ وَنَكَّسْنَ رُءُوسَهُنَّ وَقُلْنَ:
تَنَصَّرَتِ الْأَشْرَافُ مِنْ عَارِ لَطْمَةٍ ... وَمَا كَانَ فِيهَا لَوْ صَبَرْتُ لَهَا ضَرَرْ
تَكَنَّفَنِي فِيهَا اللجاج وَنَخْوَةٌ ... وَبِعْتُ بِهَا الْعَيْنَ الصَّحِيحَةَ بِالْعَوَرْ
فَيَا لَيْتَ أُمِّي لَمْ تَلِدْنِي وَلَيْتَنِي ... رَجَعْتُ إِلَى الْقَوْلِ الَّذِي قَالَهُ عُمَرْ
وَيَا لَيْتَنِي أَرْعَى الْمَخَاضَ بِقَفْرَةٍ ... وَكُنْتُ أَسِيرًا فِي رَبِيعَةَ أَوْ مُضَرْ
وَيَا لَيْتَ لِي بِالشَّامِ أَدْنَى مَعِيشَةٍ ... أُجَالِسُ قَوْمِي ذَاهِبَ السَّمْعِ وَالْبَصَرْ
أَدِينُ بِمَا دَانُوا بِهِ مِنْ شَرِيعَةٍ ... وَقَدْ يَصْبِرُ الْعَوْدُ الْكَبِيرُ عَلَى الدَّبَرْ
قَالَ: فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى وَجْهِهِ فَبَكَى حَتَّى بَلَّ لِحْيَتَهُ بِدُمُوعِهِ وَبَكَيْتُ مَعَهُ، ثُمَّ اسْتَدْعَى بِخَمْسِمِائَةِ دِينَارٍ

(8/65)


هِرَقْلِيَّةٍ فَقَالَ: خُذْ هَذِهِ فَأَوْصِلْهَا إِلَى حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ، وَجَاءَ بِأُخْرَى فَقَالَ: خُذْ هَذِهِ لَكَ، فَقُلْتُ:
لَا حَاجَةَ لِي فِيهَا وَلَا أَقْبَلُ مِنْكَ شَيْئًا وَقَدِ ارْتَدَدْتَ عَنِ الْإِسْلَامِ، فَيُقَالُ: إِنَّهُ أَضَافَهَا إِلَى الَّتِي لِحَسَّانَ، فَبَعَثَ بألف دينار هرقلية، ثم قال له: أَبْلِغْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ مِنِّي السَّلَامَ وَسَائِرَ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا قَدِمْتُ عَلَى عُمَرَ أَخْبَرْتُهُ خَبَرَهُ فَقَالَ: وَرَأَيْتَهُ يَشْرَبُ الْخَمْرَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ! قَالَ: أَبْعَدَهُ اللَّهُ، تَعَجَّلَ فَانِيَةً بِبَاقِيَةٍ فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُ. ثُمَّ قَالَ: وَمَا الَّذِي وَجَّهَ بِهِ لِحَسَّانَ؟ قُلْتُ: خَمْسُمِائَةِ دِينَارٍ هِرَقْلِيَّةٍ، فَدَعَا حِسَانًا فدفعها إليه، فأخذها وَهُوَ يَقُولُ:
إِنَّ ابْنَ جَفْنَةَ مِنْ بَقِيَّةِ معشر ... لم يغرهم آبَاؤُهُمْ بِاللُّومِ
لَمْ يَنْسَنِي بِالشَّامِ إِذْ هُوَ رَبُّهَا ... كَلًّا وَلَا مُتَنَصِّرًا بِالرُّومِ
يُعْطِي الْجَزِيلَ وَلَا يَرَاهُ عِنْدَهُ ... إِلَّا كَبَعْضِ عَطِيَّةِ الْمَحْرُومِ
وَأَتَيْتُهُ يَوْمًا فَقَرَّبَ مَجْلِسِي ... وَسَقَى فَرَوَّانِي مِنَ المذموم
ثُمَّ لَمَّا كَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنْ أَيَّامِ مُعَاوِيَةَ بَعَثَ مُعَاوِيَةُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعَدَةَ الْفَزَارِيَّ رَسُولًا إِلَى مَلِكِ الرُّومِ، فَاجْتَمَعَ بِجَبَلَةَ بْنِ الْأَيْهَمِ فَرَأَى مَا هُوَ فِيهِ مِنَ السَّعَادَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأَمْوَالِ مِنَ الْخَدَمِ وَالْحَشَمِ وَالذَّهَبِ وَالْخُيُولِ، فَقَالَ لَهُ جَبَلَةُ: لَوْ أَعْلَمُ أن معاوية يقطعنى أرض البثينة فَإِنَّهَا مَنَازِلُنَا، وَعِشْرِينَ قَرْيَةً مِنْ غُوطَةِ دِمَشْقَ وَيَفْرِضُ لِجَمَاعَتِنَا، وَيُحْسِنُ جَوَائِزَنَا، لَرَجَعْتُ إِلَى الشَّامِ. فَأَخْبَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعَدَةَ مُعَاوِيَةَ بِقَوْلِهِ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: أَنَا أُعْطِيهُ ذَلِكَ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ كِتَابًا مَعَ الْبَرِيدِ بِذَلِكَ، فَمَا أَدْرَكَهُ الْبَرِيدُ إِلَّا وَقَدْ مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَبَّحَهُ اللَّهُ. وَذَكَرَ أَكْثَرَ هَذِهِ الْأَخْبَارِ الشَّيْخُ أَبُو الفرج ابن الْجَوْزِيِّ فِي الْمُنْتَظِمِ، وَأَرَّخَ وَفَاتَهُ هَذِهِ السَّنَةَ، - أَعْنِي سَنَةَ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ- وَقَدْ تَرْجَمَهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ فَأَطَالَ التَّرْجَمَةَ وَأَفَادَ، ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِهَا: بَلَغَنِي أَنَّ جَبَلَةَ تُوُفِّيَ فِي خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ بِأَرْضِ الرُّومِ بَعْدَ سنة أربعين من الهجرة.
سنة أربع وخمسين
ففيها كان شَتَّى مُحَمَّدُ بْنُ مَالِكٍ بِأَرْضِ الرُّومِ، وَغَزَا الصَّائِفَةَ مَعْنُ بْنُ يَزِيدَ السُّلَمِيُّ، وَفِيهَا عَزَلَ مُعَاوِيَةُ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ عَنْ إِمْرَةِ الْمَدِينَةِ وَرَدَّ إِلَيْهَا مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنْ يَهْدِمَ دَارَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَيَصْطَفِي أَمْوَالَهُ الَّتِي بِأَرْضِ الْحِجَازِ، فَجَاءَ مَرْوَانُ إِلَى دَارِ سَعِيدٍ لِيَهْدِمَهَا فَقَالَ سَعِيدٌ: مَا كُنْتَ لِتَفْعَلَ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ كَتَبَ إلى بذلك، ولو كتب إليك في دار لَفَعَلْتَهُ. فَقَامَ سَعِيدٌ فَأَخْرَجَ إِلَيْهِ كِتَابَ مُعَاوِيَةَ إِلَيْهِ حِينَ وَلَّاهُ الْمَدِينَةَ أَنْ يَهْدِمَ دَارَ مروان ويصطفى ماله، وذكر أنه لم يزل يحاجف دُونَهُ حَتَّى صَرَفَ ذَلِكَ عَنْهُ، فَلَمَّا رَأَى مروان الكتاب إلى سعيد بذلك، ثناه ذلك عن سعيد، وَلَمْ يَزَلْ يُدَافِعُ عَنْهُ حَتَّى تَرَكَهُ مُعَاوِيَةُ فِي دَارِهِ وَأَقَرَّ عَلَيْهِ أَمْوَالَهُ. وَفِيهَا

(8/66)


عَزَلَ مُعَاوِيَةُ سَمُرَةَ بْنَ جُنْدَبٍ عَنِ الْبَصْرَةِ، وكان زياد استخلفه عليها فأقره معاوية ستة أشهر، وَوَلَّى عَلَيْهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ غَيْلَانَ. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ عَنْ سُمْرَةَ أنه قال لما عزله معاوية: لعن الله معاوية لو أطعت الله كما أطعت معاوية ما عَذَّبَنِي أَبَدًا. وَهَذَا لَا يَصِحُّ عَنْهُ. وَأَقَرَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ خَالِدِ بْنِ أَسِيدٍ عَلَى نِيَابَةِ الْكُوفَةِ، وَكَانَ زِيَادٌ قَدِ اسْتَخْلَفَهُ عَلَيْهَا فأبقاه معاوية. وَقَدَّمَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ عَلَى مُعَاوِيَةَ فَأَكْرَمَهُ وَسَأَلَهُ عَنْ نُوَّابِ أَبِيهِ عَلَى الْبِلَادِ فَأَخْبَرَهُ عَنْهُمْ، ثُمَّ وَلَّاهُ إِمْرَةَ خُرَاسَانَ وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، فَسَارَ إِلَى مُقَاطَعَتِهِ وَتَجَهَّزَ مِنْ فَوْرِهِ غَادِيًا إليها، فقطع النهر إلى جبال بخارا، ففتح رامس ونصف بيكند- وهما من معاملة بخارا- وَلَقِيَ التُّرْكَ هُنَاكَ فَقَاتَلَهُمْ قِتَالًا شَدِيدًا وَهَزَمَهُمْ هَزِيمَةً فَظِيعَةً بِحَيْثُ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ أَعْجَلُوا امْرَأَةَ الْمَلِكِ أَنَّ تَلْبِسَ خُفَّيْهَا، فَلَبِسَتْ وَاحِدَةً وَتَرَكَتِ أخرى، فأخذها المسلمون فقوموا جواهرها بِمِائَتَيْ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَغَنِمُوا مَعَ ذَلِكَ غَنَائِمَ كثيرة، وأقام عبيد الله بِخُرَاسَانَ سَنَتَيْنِ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ حَجَّ بِالنَّاسِ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ نَائِبُ الْمَدِينَةِ. وَكَانَ عَلَى الْكُوفَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَالِدِ بْنِ أَسِيدٍ، وَقِيلَ: بَلْ كَانَ عَلَيْهَا الضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ، وكان على البصرة عبد الله بْنِ غَيْلَانَ.
ذِكْرُ مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
أُسَامَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ الْكَلْبِيُّ
أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَدَنِيُّ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَابْنُ مَوْلَاهُ، وَحِبُّهُ وَابْنُ حِبِّهِ، وَأُمُّهُ بَرَكَةُ أُمَّ أَيْمَنَ مُوَلَّاةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَاضِنَتُهُ، وَلَّاهُ رسول الله الْإِمْرَةَ بَعْدَ مَقْتَلِ أَبِيهِ فَطَعَنَ بَعْضُ النَّاسِ فِي إِمْرَتِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنْ تَطْعَنُوا فِي إِمَارَتِهِ فَقَدْ طَعَنْتُمْ فِي إِمْرَةِ أَبِيهِ مِنْ قَبْلِهِ، وَايْمُ اللَّهِ إِنَّ كَانَ لَخَلِيقًا بِالْإِمَارَةِ، وَإِنْ كَانَ لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ بَعْدَهُ» . وَثَبَتَ فِي صحيح البخاري عنه: «أن رسول الله كَانَ يُجْلِسُ الْحَسَنَ عَلَى فَخِذِهِ وَيُجْلِسُ أُسَامَةَ عَلَى فَخْذِهِ الْأُخْرَى وَيَقُولُ: اللَّهمّ إِنِّي أُحِبُّهُمَا فأحبهما» . وفضائله كثيرة. توفى رسول الله وَعُمْرُهُ تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانَ عُمَرُ إِذَا لَقِيَهُ يَقُولُ:
السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا الْأَمِيرُ. وَصَحَّحَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّهُ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَالَ غَيْرُهُ سَنَةَ ثَمَانٍ أَوْ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ، وَقِيلَ تُوُفِّيَ بَعْدَ مَقْتَلِ عثمان فاللَّه أعلم.
ثوبان بن مجدد
مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تقدمت ترجمته في مواليه ومن كان يخدمه عليه السلام، أصله من العرب فأصابه سبى فَاشْتَرَاهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْتَقَهُ، فلزم رسول الله سَفَرًا وَحَضَرًا، فَلَمَّا مَاتَ أَقَامَ بِالرَّمْلَةِ ثُمَّ انتقل إِلَى حِمْصٍ فَابْتَنَى بِهَا دَارَا وَلَمْ يَزَلْ بِهَا حَتَّى مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقِيلَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ وَهُوَ غَلَطٌ، وَيُقَالُ إِنَّهُ تُوُفِّيَ بِمِصْرَ، وَالصَّحِيحُ بِحِمْصَ
جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ
تَقَدَّمَ أَنَّهُ تُوُفِّيَ سَنَةَ خَمْسِينَ.

(8/67)


الْحَارِثُ بْنُ رِبْعِيٍّ
أَبُو قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيُّ، وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: اسْمُهُ النُّعْمَانُ بْنُ رِبْعِيٍّ، وَقَالَ غَيْرُهُ: عَمْرُو بْنُ رِبْعِيٍّ.
وَهُوَ أَبُو قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيُّ السُّلَمِيُّ الْمَدَنِيُّ فَارِسُ الْإِسْلَامِ، شَهِدَ أُحُدًا وَمَا بَعْدَهَا، وَكَانَ لَهُ يَوْمَ ذِي قَرَدٍ سَعْيٌ مشكور كما قدمنا هناك. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَيْرُ فُرْسَانِنَا الْيَوْمَ أَبُو قَتَادَةَ، وَخَيْرُ رَجَّالَتِنَا سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ» . وَزَعَمَ أَبُو أَحْمَدَ الْحَاكِمُ أنه شهد بدرا وليس بِمَعْرُوفٍ، وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: أَخْبَرَنِي مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي أَبُو قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيُّ أَنَّ رسول الله قَالَ لِعَمَّارٍ: «تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ» . قَالَ الْوَاقِدِيُّ وغير واحد: تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ- يَعْنِي سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ- بِالْمَدِينَةِ عَنْ سَبْعِينَ سَنَةً، وَزَعَمَ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ تُوُفِّيَ بِالْكُوفَةِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ، وَصَلَّى عَلَيْهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ. وَهَذَا غَرِيبٌ
حَكِيمَ بْنَ حِزَامِ
بْنِ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدٍ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيِّ بْنِ كِلَابٍ الْقُرَشِيُّ الْأَسَدِيُّ أَبُو خَالِدٍ المكيّ، أمه فَاخِتَةُ بِنْتُ زُهَيْرِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، وَعَمَّتُهُ خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ، زَوْجَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأُمُّ أَوْلَادِهِ سِوَى إِبْرَاهِيمَ. وَلَدَتْهُ أُمُّهُ فِي جوف الكعبة قبل الفيل بثلاث عشر سنة، وذلك أنها دخلت تزور فضربها الطلق وهي في الكعبة فَوَضَعَتْهُ عَلَى نِطْعٍ، وَكَانَ شَدِيدَ الْمَحَبَّةِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمَّا كَانَ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ فِي الشِّعْبِ لَا يبايعوا ولا يناكحوا، كان حكيم يقبل بالعير يقدم من الشام فيشتريها بكمالها، ثم يذهب بها فيضرب أدبارها حتى يلج الشعب يحمل الطَّعَامَ وَالْكِسْوَةَ تَكْرِمَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِعَمَّتِهِ خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ. وَهُوَ الّذي اشترى زيد بن حارثة فَابْتَاعَتْهُ مِنْهُ عَمَّتُهُ خَدِيجَةُ فَوَهَبَتْهُ لِرَسُولِ اللَّهِ فأعتقه، وكان اشْتَرَى حُلَّةَ ذِي يَزَنَ فَأَهْدَاهَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَبِسَهَا، قَالَ: فَمَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَحْسَنَ مِنْهُ فِيهَا.
وَمَعَ هَذَا مَا أَسْلَمَ إِلَّا يَوْمَ الْفَتْحِ هُوَ وَأَوْلَادُهُ كُلُّهُمْ، قَالَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ: عَاشَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ سِتِّينَ سَنَةً، وَفِي الْإِسْلَامِ سِتِّينَ سَنَةً، وَكَانَ مِنْ سَادَاتِ قُرَيْشٍ وَكُرَمَائِهِمْ وَأَعْلَمِهِمْ بِالنَّسَبِ، وَكَانَ كَثِيرَ الصَّدَقَةِ وَالْبِرِّ وَالْعَتَاقَةِ، فَلَمَّا أَسْلَمَ سَأَلَ عن ذلك رسول الله فقال: «أسلمت على ما أسلمت مِنْ خَيْرٍ» . وَقَدْ كَانَ حَكِيمٌ شَهِدَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ بَدْرًا وَتَقَدَّمَ إِلَى الْحَوْضِ فَكَادَ حَمْزَةُ أن يقتله، فما سحب إلا سحبا بَيْنِ يَدَيْهِ، فَلِهَذَا كَانَ إِذَا اجْتَهَدَ فِي الْيَمِينِ يَقُولُ: لَا وَالَّذِي نَجَّانِي يَوْمَ بَدْرٍ. ولما ركب رسول الله إلى فتح مكة ومعه الجنود بمر الظهران خَرَجَ حَكِيمٌ وَأَبُو سُفْيَانَ يَتَجَسَّسَانِ الْأَخْبَارَ، فَلَقِيَهُمَا الْعَبَّاسُ، فَأَخَذَ أَبَا سُفْيَانَ فَأَجَارَهُ وَأَخَذَ لَهُ أَمَانًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَسْلَمَ أَبُو سُفْيَانَ لَيْلَتَئِذٍ كُرْهًا، وَمِنْ صَبِيحَةِ ذَلِكَ الْيَوْمَ أَسْلَمَ حَكِيمٌ وَشَهِدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُنَينًا، وأعطاه مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ ثُمَّ سَأَلَهُ فَأَعْطَاهُ، ثُمَّ سأله فأعطاه، ثم قال: «يا حكيم إن هذه الْمَالُ حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّهُ مَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ بورك له فيه، ومن أخذه بإسراف نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ وَكَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ» . فَقَالَ

(8/68)


حكيم: والّذي بعثك بالحق لا أرزأ بعدك أبدا، فلم يرزأ أحدا بعده، وكان أبو بكر يعرض عليه العطاء فيأبى، وكان عمر يعرض عليه العطاء فيأبى فيشهد عَلَيْهِ الْمُسْلِمِينَ، وَمَعَ هَذَا كَانَ مِنْ أَغْنَى النَّاسِ، مَاتَ الزُّبَيْرُ يَوْمَ مَاتَ وَلِحَكِيمٍ عَلَيْهِ مِائَةُ أَلْفٍ، وَقَدْ كَانَ بِيَدِهِ حِينَ أَسْلَمَ الرِّفَادَةُ وَدَارُ النَّدْوَةِ فَبَاعَهَا بَعْدُ مِنْ مُعَاوِيَةَ بِمِائَةِ أَلْفٍ، وَفِي رِوَايَةٍ بِأَرْبَعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ: بِعْتَ مَكْرُمَةَ قُرَيْشٍ؟ فقال له حكيم: ابن أخى ذهبت المكارم فلا كرم إِلَّا التَّقْوَى، يَا ابْنَ أَخِي إِنِّي اشْتَرَيْتُهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِزِقِّ خَمْرٍ، وَلَأَشْتَرِيَنَّ بِهَا دَارًا فِي الْجَنَّةِ، أُشْهِدُكَ أَنِّي قَدْ جَعَلْتُهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَهَذِهِ الدَّارُ كَانَتْ لِقُرَيْشٍ بِمَنْزِلَةِ دَارِ الْعَدْلِ، وَكَانَ لَا يَدْخُلُهَا أَحَدٌ إِلَّا وَقَدْ صَارَ سِنُّهُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، إِلَّا حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ فَإِنَّهُ دَخَلَهَا وَهُوَ ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، ذَكَرَهُ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ، وَذَكَرَ الزُّبَيْرُ أَنَّ حَكِيمًا حَجَّ عَامًا فَأَهْدَى مِائَةَ بَدَنَةٍ مُجَلِّلَةٍ، وَأَلْفَ شَاةٍ، وَأَوْقَفَ مَعَهُ بِعَرَفَاتٍ مِائَةَ وَصَيْفٍ فِي أَعْنَاقِهِمْ أَطَوِقَةُ الْفِضَّةِ، وَقَدْ نُقِشَ فِيهَا: هَؤُلَاءِ عُتَقَاءُ اللَّهِ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، فَأَعْتَقَهُمْ وَأَهْدَى جَمِيعَ تِلْكَ الْأَنْعَامِ رِضَى اللَّهِ عَنْهُ.
تُوُفِّيِّ حَكِيمٌ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ وَلَهُ مائة وعشرون سنة.
حُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى الْعَامِرِيُّ
صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، أَسْلَمَ عَامَ الْفَتْحِ، وَكَانَ قَدْ عُمِّرَ دَهْرًا طَوِيلًا، وَلِهَذَا جَعَلَهُ عُمَرُ فِي النَّفَرِ الَّذِينَ جَدَّدُوا أَنْصَابَ الْحَرَمِ، وَقَدْ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ الْمُشْرِكِينَ، وَرَأَى الْمَلَائِكَةَ يَوْمَئِذٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَشَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ وَسَعَى فِي الصُّلْحِ، فَلَمَّا كَانَ عُمْرَةُ الْقَضَاءِ كَانَ هُوَ وَسُهَيْلٌ هُمَا اللَّذَانِ أَمَرَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْخُرُوجِ مِنْ مَكَّةَ، فَأَمَرَ بِلَالًا أَنْ لَا تَغْرُبَ الشَّمْسُ وَبِمَكَّةَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، قَالَ: وَفِي كُلِّ هَذِهِ الْمَوَاطِنِ أَهُمُّ بِالْإِسْلَامِ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا مَا يُرِيدُ، فَلَمَّا كَانَ زَمَنُ الْفَتْحِ خِفْتُ خَوْفًا شَدِيدًا وَهَرَبْتُ فَلَحِقَنِي أَبُو ذَرٍّ- وَكَانَ لِي خَلِيلًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ-. فَقَالَ: يا حويطب مالك؟ فقلت: خائف، فقال: لا تخلف فإنه أبر الناس: وأوصل الناس، وأنا لك جار فَاقْدَمْ مَعِي، فَرَجَعْتُ مَعَهُ فَوَقَفَ بِي عَلَى رسول الله وَهُوَ بِالْبَطْحَاءِ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَقَدْ عَلَّمَنِي أَبُو ذَرٍّ أَنْ أَقُولَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، فَلَمَّا قُلْتُ ذَلِكَ قَالَ: «حُوَيْطِبٌ» ؟ قُلْتُ: نَعَمْ! أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ:
«الْحَمْدُ للَّه الَّذِي هَدَاكَ» وَسُرَّ بِذَلِكَ وَاسْتَقْرَضَنِي مَالًا فَأَقْرَضْتُهُ أَرْبَعِينَ أَلْفًا، وَشَهِدْتُ مَعَهُ حُنَيْنًا وَالطَّائِفَ، وَأَعْطَانِي مِنْ غَنَائِمِ حُنَيْنٍ مِائَةَ بَعِيرٍ. ثُمَّ قَدِمَ حُوَيْطِبٌ بَعْدَ ذَلِكَ الْمَدِينَةَ فَنَزَلَهَا وَلَهُ بِهَا دَارٌ، وَلَمَّا وَلِيَ عَلَيْهَا مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ جَاءَهُ حُوَيْطِبٌ وَحَكِيمُ بْنُ حزام، ومخرمة بن نوفل، فسلموا عليه وجعلوا يَتَحَدَّثُونَ عِنْدَهُ ثُمَّ تَفَرَّقُوا، ثُمَّ اجْتَمَعَ حُوَيْطِبٌ بِمَرْوَانَ يَوْمًا آخَرَ فَسَأَلَهُ مَرْوَانُ عَنْ عُمْرِهِ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ لَهُ: تَأَخَّرَ إِسْلَامُكَ أَيُّهَا الشَّيْخُ حَتَّى سَبَقَكَ الْأَحْدَاثُ. فَقَالَ حُوَيْطِبٌ: اللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، وَاللَّهِ لَقَدْ هَمَمْتُ بِالْإِسْلَامِ غَيْرَ مَرَّةٍ كُلُّ ذَلِكَ يَعُوقُنِي أَبُوكَ يَقُولُ تَضَعُ شَرَفَكَ وَتَدَعُ دِينَ آبَائِكَ لِدِينٍ

(8/69)


مُحْدَثٍ؟ وَتَصِيرُ تَابِعًا؟ قَالَ: فَأَسْكَتَ مَرْوَانُ وَنَدِمَ عَلَى مَا كَانَ قَالَ لَهُ، ثُمَّ قَالَ حُوَيْطِبٌ: أَمَا كَانَ أَخْبَرَكَ عُثْمَانُ مَا كَانَ لَقِيَ مِنْ أَبِيكَ حِينَ أَسْلَمَ؟ قَالَ: فَازْدَادَ مَرْوَانُ غَمًّا. وَكَانَ حُوَيْطِبٌ مِمَّنْ شَهِدَ دَفْنَ عُثْمَانَ، وَاشْتَرَى مِنْهُ مُعَاوِيَةُ دَارَهُ بِمَكَّةَ بِأَرْبَعِينَ ألف دينار فاستكثرها الناس، فقال: وَمَا هِيَ فِي رَجُلٍ لَهُ خَمْسَةٌ مِنَ العيال؟ قال الشافعيّ: كان حويطب جيد الإسلام، وكان أكثر قريش ريعا جَاهِلِيًّا. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: عَاشَ حُوَيْطِبٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ سِتِّينَ سَنَةً، وَفِي الْإِسْلَامِ سِتِّينَ سَنَةً، وَمَاتَ حويطب فِي هَذِهِ السَّنَةِ بِالْمَدِينَةِ وَلَهُ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً. وَقَالَ غَيْرُهُ: تُوُفِّيَ بِالشَّامِ. لَهُ حَدِيثٌ وَاحِدٌ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ عَنْهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّعْدِيِّ عَنْ عُمَرَ فِي الْعُمَالَةِ، وَهُوَ مِنْ عَزِيزِ الْحَدِيثِ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ فِيهِ أَرْبَعَةٌ من الصحابة رضى الله عنهم.
معبد بن يربوع بن عنكثة
ابن عَامِرِ بْنِ مَخْزُومٍ، أَسْلَمَ عَامَ الْفَتْحِ، وَشَهِدَ حنينا، وأعطاه رسول الله خَمْسِينَ مِنَ الْإِبِلِ، وَكَانَ اسْمُهُ صُرْمًا، وَفِي رواية أصرم، فسماه معبدا، وَكَانَ فِي جُمْلَةِ النَّفَرِ الَّذِينَ أَمَرَهُمْ عُمَرُ بِتَجْدِيدِ أَنْصَابِ الْحَرَمِ، وَقَدْ أُصِيبَ بَصَرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَأَتَاهُ عُمَرُ يُعَزِّيهِ فِيهِ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. قال الْوَاقِدِيُّ وَخَلِيفَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بِالْمَدِينَةِ، وَقِيلَ بِمَكَّةَ وَهُوَ ابْنُ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَقِيلَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ.
مُرَّةُ بن شراحيل الهمدانيّ
يقال لَهُ مُرَّةُ الطَّيِّبُ، وَمُرَّةُ الْخَيْرِ، رَوَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمْ، كَانَ يُصَلِّي كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أَلْفَ رَكْعَةٍ، فَلَمَّا كَبُرَ صَلَّى أَرْبَعَمِائَةِ رَكْعَةٍ، وَيُقَالُ إِنَّهُ سَجَدَ حَتَّى أَكَلَ التُّرَابُ جَبْهَتَهُ، فَلَمَّا مَاتَ رُئِيَ فِي الْمَنَامِ- وَقَدْ صَارَ ذَلِكَ الْمَكَانُ نُورًا- فَقِيلَ لَهُ: أَيْنَ مَنْزِلُكَ؟ فَقَالَ: بِدَارٍ لَا يَظْعَنُ أَهْلُهَا وَلَا يَمُوتُونَ
النُّعَيْمَانُ بْنُ عمرو
ابن رفاعة بن الحر، شهد بدرا وما بعدها، ويقال إنه الّذي كان يؤتى به في الشراب، فَقَالَ رَجُلٌ: لَعَنَهُ اللَّهُ مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَلْعَنْهُ فَإِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» .
سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ
الْقُرَشِيَّةُ الْعَامِرِيَّةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ، تزوجها رسول الله بَعْدَ خَدِيجَةَ، وَكَانَتْ قَبْلَهُ عِنْدَ السَّكْرَانِ بْنِ عَمْرٍو أَخِي سُهَيْلِ بْنِ عَمْرِو، فَلَمَّا كَبِرَتْ هم رسول الله بِطَلَاقِهَا، وَيُقَالُ إِنَّهُ طَلَّقَهَا، فَسَأَلَتْهُ أَنْ يُبْقِيَهَا فِي نِسَائِهِ وَتَهَبَ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ، فَقَبِلَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أنزل اللَّهُ: وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً 4: 128 الآية، وَكَانَتْ ذَاتَ عِبَادَةٍ وَوَرَعٍ وَزَهَادَةٍ، قَالَتْ عَائِشَةُ:
ما من امرأة أحب إلى أن أكون في مسلاحها غير أَنَّ فِيهَا حِدَّةً تُسْرِعُ مِنْهَا الْفَيْئَةَ. ذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَفَاتُهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ: تُوُفِّيَتْ فِي آخِرِ خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فاللَّه أَعْلَمُ.

(8/70)


ثم دخلت سنة خمس وخمسين
فيها عزل معاوية عبد الله بْنِ غَيْلَانَ عَنِ الْبَصْرَةِ وَوَلَّى عَلَيْهَا عُبَيْدَ الله بن زياد، وكان سبب عزل معاوية بن غيلان عن البصرة أَنَّهُ كَانَ يَخْطُبُ النَّاسَ فَحَصَبَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي ضَبَّةَ فَأَمَرَ بِقَطْعِ يَدِهِ، فَجَاءَ قَوْمُهُ إِلَيْهِ فَقَالُوا لَهُ: إِنَّهُ مَتَى بَلَغَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّكَ قَطَعْتَ يَدَهُ فِي هَذَا الصُّنْعِ فَعَلَ بِهِ وَبِقَوْمِهِ نَظِيرَ مَا فَعَلَ بِحُجْرِ بْنِ عَدِيٍّ، فَاكْتُبْ لَنَا كِتَابًا أَنَّكَ قَطَعْتَ يَدَهُ فِي شُبْهَةٍ، فَكَتَبَ لَهُمْ فَتَرَكُوهُ عِنْدَهُمْ حِينًا ثُمَّ جَاءُوا مُعَاوِيَةَ فَقَالُوا لَهُ: إِنْ نَائِبَكَ قَطَعَ يَدَ صَاحِبِنَا فِي شُبْهَةٍ فَأَقِدْنَا منه، قال: لَا سَبِيلَ إِلَى الْقَوْدِ مِنْ نُوَّابِي وَلَكِنِ الدية، فأعطاهم الدية وَعَزَلَ ابْنَ غَيْلَانَ، وَقَالَ لَهُمُ: اخْتَارُوا مَنْ تريدون، فَذَكَرُوا رِجَالًا فَقَالَ: لَا! وَلَكِنْ أُوَلِّي عَلَيْكُمُ ابْنَ أَخِي عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ، فَوَلَّاهُ فَاسْتَخْلَفَ ابْنُ زِيَادٍ عَلَى خُرَاسَانَ أَسْلَمَ بْنَ زُرْعَةَ، فَلَمْ يَغْزُ وَلَمْ يَفْتَحْ شَيْئًا، وَوَلَّى قَضَاءَ الْبَصْرَةِ لِزُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى ثُمَّ عَزَلَهُ وولى ابن أذينة، وولى شرطتها عبد الله بن الحصين. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ نَائِبُ الْمَدِينَةِ.
وَفِيهَا عَزَلَ مُعَاوِيَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدِ بْنِ أَسِيدٍ عَنْ الْكُوفَةِ وولى عليها الضحاك بن قيس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
ذِكْرِ مَنْ تُوُفِّيَ مِنَ الأعيان في هذه السنة
أرقم بْنُ أَبِي الْأَرْقَمِ
عَبْدُ مَنَافِ بْنُ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ، أَسْلَمَ قَدِيمًا، يُقَالُ سَابِعُ سَبْعَةٍ، وَكَانَتْ دَارُهُ كهفا للمسلمين يأوى إليها رسول الله وَمَنْ أَسْلَمَ مِنْ قُرَيْشٍ، وَكَانَتْ عِنْدَ الصَّفَا وَقَدْ صَارَتْ فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ لِلْمَهْدِيِّ فَوَهَبَهَا لِامْرَأَتِهِ الْخَيْزُرَانِ أُمِّ مُوسَى الْهَادِي وَهَارُونَ الرَّشِيدِ، فَبَنَتْهَا وَجَدَّدَتْهَا فَعُرِفَتْ بِهَا، ثُمَّ صَارَتْ لِغَيْرِهَا، وَقَدْ شَهِدَ الْأَرْقَمُ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْمَشَاهِدِ، وَمَاتَ بِالْمَدِينَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَصَلَّى عَلَيْهِ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ أَوْصَى بِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَلَهُ بِضْعٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً.
سحبان بن زفر بن إياس
ابن عبد شمس بن الأجب الْبَاهِلِيُّ الْوَائِلِيُّ، الَّذِي يُضْرَبُ بِفَصَاحَتِهِ الْمَثَلُ، فَيُقَالُ: أَفْصَحُ مِنْ سَحْبَانِ وَائِلٍ، وَوَائِلٌ هُوَ ابْنُ معد بْنِ مَالِكِ بْنِ أَعْصُرَ بْنِ سَعْدِ بْنِ قَيْسِ بْنِ غيلان بْنِ مُضَرَ بْنِ نِزَارٍ، وَبَاهِلَةُ امْرَأَةُ مَالِكِ بْنِ أَعْصُرَ، يُنْسَبُ إِلَيْهَا وَلَدُهَا، وَهِيَ بَاهِلَةُ بَنْتُ صَعْبِ بْنِ سَعْدِ الْعَشِيرَةِ.
قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: سَحْبَانُ الْمَعْرُوفُ بِسَحْبَانِ وَائِلٍ، بَلَغَنِي أَنَّهُ وَفَدَ إِلَى مُعَاوِيَةَ فَتَكَلَّمَ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ:
أَنْتَ الشَّيْخُ؟ فَقَالَ: إِي وَاللَّهِ وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَلَمْ يَزِدِ ابْنُ عَسَاكِرَ عَلَى هَذَا، وَقَدْ نَسَبَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِهِ الْمُنْتَظَمِ كَمَا ذَكَرْنَا، ثُمَّ قَالَ: وَكَانَ بَلِيغًا يُضْرَبُ الْمَثَلُ بِفَصَاحَتِهِ، دَخَلَ يَوْمًا عَلَى مُعَاوِيَةَ وَعِنْدَهُ خُطَبَاءُ الْقَبَائِلِ، فَلَمَّا رَأَوْهُ خَرَجُوا لِعِلْمِهِمْ بِقُصُورِهِمْ عَنْهُ، فَقَالَ سحبان
لقد علم الحيى الْيَمَانُونَ أَنَّنِي ... إِذَا قُلْتُ أَمَّا بَعْدُ أَنِّي خَطِيبُهَا
فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: اخْطُبْ! فَقَالَ: انْظُرُوا لي عصى تُقِيمُ مِنْ أَوَدِي، فَقَالُوا: وَمَاذَا تَصْنَعُ بِهَا

(8/71)


وَأَنْتَ بِحَضْرَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ: مَا كَانَ يَصْنَعُ بِهَا مُوسَى وَهُوَ يُخَاطِبُ رَبَّهُ، فَأَخَذَهَا وَتَكَلَّمَ مِنَ الظُّهْرِ إِلَى أَنْ قَارَبَتِ الْعَصْرُ، مَا تَنَحْنَحَ وَلَا سَعَلَ وَلَا تَوَقَّفَ وَلَا ابْتَدَأَ فِي مَعْنَى فَخَرَجَ عَنْهُ وَقَدْ بَقِيَتْ عَلَيْهِ بَقِيَّةٌ فِيهِ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: الصَّلَاةُ! فَقَالَ: الصَّلَاةُ أَمَامَكَ، أَلَسْنَا فِي تَحْمَيْدٍ وَتَمْجِيدٍ وَعِظَةٍ وَتَنْبِيهٍ، وَتَذْكِيرٍ وَوَعْدٍ وَوَعِيدٍ؟ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: أَنْتَ أَخْطَبُ الْعَرَبِ، قَالَ: الْعَرَبُ وَحْدَهَا؟ بَلْ أَخْطَبُ الْجِنِّ وَالْإِنَسِ. قَالَ: كَذَلِكَ أَنْتَ.
سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ
وَاسْمُهُ مَالِكُ بْنُ أُهَيْبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ بْنِ كِلَابٍ، أَبُو إِسْحَاقَ الْقُرَشِيُّ الزُّهْرِيُّ، أَحَدُ الْعَشَرَةِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ، وَأَحَدُ السِّتَّةِ أَصْحَابِ الشُّورَى الَّذِينَ تُوُفِّيَ رَسُولُ الله وَهُوَ عَنْهُمْ رَاضٍ، أَسْلَمَ قَدِيمًا، قَالُوا: وَكَانَ يَوْمَ أَسْلَمَ عُمْرُهُ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: مَا أَسْلَمَ أَحَدٌ فِي الْيَوْمِ الَّذِي أَسْلَمْتُ فِيهِ، وَلَقَدْ مَكَثْتُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ وَإِنِّي لَثُلُثُ الإسلام سابع سبعة، وَهُوَ الَّذِي كَوَّفَ الْكُوفَةَ وَنَفَى عَنْهَا الْأَعَاجِمَ، وَكَانَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ، وَهَاجَرَ وَشَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَكَانَ فَارِسًا شُجَاعًا مِنْ أُمَرَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ فِي أَيَّامِ الصِّدِّيقِ مُعَظِّمًا جَلِيلَ الْمِقْدَارِ، وَكَذَلِكَ فِي أَيَّامِ عُمَرَ، وَقَدِ اسْتَنَابَهُ عَلَى الْكُوفَةِ، وَهُوَ الَّذِي فَتَحَ الْمَدَائِنَ، وَكَانَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ وقعة جلولاء. وكان سيدا مطاعا، وعزله عَنِ الْكُوفَةِ عَنْ غَيْرِ عَجْزٍ وَلَا خِيَانَةٍ، وَلَكِنْ لِمَصْلَحَةٍ ظَهَرَتْ لِعُمَرَ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ ذَكَرَهُ فِي السِّتَّةِ أَصْحَابِ الشُّورَى، ثُمَّ وَلَّاهُ عثمان بَعْدَهَا ثُمَّ عَزَلَهُ عَنْهَا. وَقَالَ الْحُمَيْدِيُّ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: شَهِدَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَابْنُ عُمَرَ دَوْمَةَ الْجَنْدَلِ يَوْمَ الْحَكَمَيْنِ. وَثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ ابْنَهُ عُمَرَ جَاءَ إِلَيْهِ وَهُوَ مُعْتَزِلٌ فِي إِبِلِهِ فَقَالَ: النَّاسُ يَتَنَازَعُونَ الْإِمَارَةَ وَأَنْتَ هَاهُنَا؟ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ الْغَنِيَّ الْخَفِيَّ الْتَقِيَّ» . قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: ذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ ابْنَ أَخِيهِ هَاشِمَ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ جَاءَهُ فَقَالَ لَهُ: يَا عَمُّ هَاهُنَا مِائَةُ أَلْفِ سَيْفٍ يَرَوْنَكَ أَحَقَّ النَّاسِ بِهَذَا الْأَمْرِ، فَقَالَ: أُرِيدُ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ سَيْفًا وَاحِدًا إِذَا ضَرَبْتُ بِهِ الْمُؤْمِنَ لَمْ يَصْنَعْ شَيْئًا، وَإِذَا ضَرَبْتُ بِهِ الْكَافِرَ قَطَعَ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ حَدَّثَنِي زَكَرِيَّا بْنُ عَمْرٍو أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ وَفَدَ عَلَى مُعَاوِيَةَ فَأَقَامَ عِنْدَهُ شَهْرَ رَمَضَانَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ وَيُفْطِرُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: فَبَايَعَهُ وَمَا سَأَلَهُ سَعْدٌ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ. قَالَ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُلَيَّةَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ. قَالَ قَالَ سَعْدٌ: إِنِّي لَأَوَّلُ رَجُلٍ رَمَى بِسَهْمٍ في المشركين، وما جمع رسول الله أَبَوَيْهِ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَقَدْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «ارْمِ فداك أبى وأمى» . وقال أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ ثَنَا إِسْمَاعِيلُ عَنْ قَيْسٍ سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: وَاللَّهُ إِنِّي لَأَوَّلُ الْعَرَبِ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سبيل الله،

(8/72)


ولقد كنا نغزو مع رسول الله وَمَا لَنَا طَعَامٌ نَأْكُلُهُ إِلَّا وَرَقَ الْحُبْلَةِ وَهَذَا السَّمُرُ، حَتَّى إِنَّ أَحَدَنَا لَيَضَعُ كَمَا تَضَعُ الشَّاةَ مَا لَهُ خِلْطٌ، ثُمَّ أَصْبَحَتْ بَنُو أَسَدٍ تُعَزِّرُنِي عَلَى الدِّينِ، لَقَدْ خِبْتُ إِذًا وَضَلَّ عَمَلِي. وَقَدْ رَوَاهُ شُعْبَةُ وَوَكِيعٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ بِهِ. وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعِيدٍ عَنْ يحيى ابن سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ سَعْدٍ. قَالَ: «جَمَعَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَوَيْهِ يَوْمَ أُحِدٍ» . وَرَوَاهُ أَحْمَدُ أَيْضًا عَنْ غُنْدَرٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ. وَقَدْ رَوَاهُ اللَّيْثُ وغير واحد عن يحيى الْأَنْصَارِيِّ. وَرَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ سَعْدٍ. وَرَوَاهُ النَّاسُ مِنْ حَدِيثِ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ. وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي» وَفِي رِوَايَةٍ: «فَقَالَ ارْمِ وَأَنْتَ الْغُلَامُ الْحَزَوَّرُ» قَالَ سَعِيدٌ: وَكَانَ سَعْدٌ جَيِّدَ الرَّمْيِ. وَقَالَ الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي خَالِدٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ. قَالَ: أَوَّلُ النَّاسِ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ سَعْدٌ رضى الله عنه. وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ ثَنَا سُفْيَانُ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ: «مَا سَمِعْتُ رَسُولَ الله يُفَدِّي أَحَدًا بِأَبَوَيْهِ إِلَّا سَعْدَ بْنَ مَالِكٍ، وَإِنِّي سَمِعْتُهُ يَقُولُ لَهُ يَوْمَ أُحُدٍ: ارْمِ سعد فداك أمى وأبى» . وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ عَنْ مِسْعَرٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بِهِ. وَرَوَاهُ شُعْبَةُ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَرَوَاهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَغَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَذَكَرَهُ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنَا مَعْمَرٌ عَنْ أَيُّوبَ أَنَّهُ سَمِعَ عَائِشَةَ بنت سعد تقول: أنا بنت الْمُهَاجِرِ الَّذِي فَدَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم بالأبوين. وقال الواقدي: حدثني عبيدة بن نَابِلٍ عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهَا. قَالَ: «لَقَدْ رَأَيْتُنِي أَرْمِي بِالسَّهْمِ يَوْمَ أُحُدٍ فَيَرُدُّهُ عَلَيَّ رَجُلٌ أَبْيَضُ حَسَنُ الْوَجْهِ لَا أعرفه، حتى كان بعد ذلك فظننت أنه ملك» . وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ الْهَاشِمِيُّ ثَنَا إِبْرَاهِيمُ عَنْ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ. قَالَ: «لَقَدْ رَأَيْتُ عَنْ يَمِينِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ يَسَارِهِ يَوْمَ أُحُدٍ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ يُقَاتِلَانِ عَنْهُ كَأَشَدِّ الْقِتَالِ، مَا رَأَيْتُهُمَا قبل ولا بعد» .
ورواه الواقدي: حدثني إِسْحَاقَ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ العزيز- جد ابن أَبِي عَوْنٍ- عَنْ زِيَادٍ مَوْلَى سَعْدٍ عَنْ سَعْدٍ. قَالَ: «رَأَيْتُ رَجُلَيْنِ يَوْمَ بَدْرٍ يُقَاتِلَانِ عن رسول الله أَحَدُهُمَا عَنْ يَمِينِهِ وَالْآخَرُ عَنْ يَسَارِهِ، وَإِنَّى لِأَرَاهُ يَنْظُرُ إِلَى ذَا مَرَّةً وَإِلَى ذَا مرة مسرورا بِمَا ظَفَّرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ» .
وَقَالَ سُفْيَانُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِيهِ. قَالَ اشْتَرَكْتُ أَنَا وَسَعْدٌ وَعَمَّارٌ يَوْمَ بَدْرٍ فِيمَا أَصَبْنَا مِنَ الْغَنِيمَةِ، فَجَاءَ سَعْدٌ بِأَسِيرَيْنِ ولم أجيء أَنَا وَعَمَّارٌ بِشَيْءٍ. وَقَالَ الْأَعْمَشُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بن عَلْقَمَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ يَوْمَ بَدْرٍ يُقَاتِلُ قِتَالَ الْفَارِسِ لِلرَّاجِلِ. وَقَالَ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عامر يقول قالت عائشة:
بات رسول الله أَرِقًا ذَاتَ لَيْلَةٍ ثُمَّ قَالَ: «لَيْتَ رَجُلًا صَالِحًا يَحْرُسُنِي اللَّيْلَةَ؟ قَالَتْ: إِذْ سَمِعْنَا صَوْتَ

(8/73)


السِّلَاحِ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: أَنَا سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، أَنَا أَحْرُسُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَتْ: فَنَامَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى سَمِعْتُ غَطِيطَهُ» . أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ. وَفِي رِوَايَةٍ «فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ نام» وقال أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ ثَنَا رِشْدِينُ بْنُ سَعْدٍ عن يحيى بن الحجاج بن شداد عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أن رسول الله قَالَ: «أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ مِنْ هَذَا الْبَابِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَدَخْلَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ» . وَقَالَ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قَيْسٍ الرَّقَاشِيُّ الْخَرَّازُ، بَصْرِيٌّ، ثَنَا أَيُّوبُ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ. قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «يَدْخُلُ عَلَيْكُمْ مِنْ ذَا الْبَابِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، قَالَ فَلَيْسَ مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا وَهُوَ يَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، فَإِذَا سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ قَدْ طَلَعَ» . وَقَالَ حَرْمَلَةُ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي حَيْوَةُ أَخْبَرَنِي عُقَيْلٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ حَدَّثَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ. قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «يطلع الآن عليكم رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَاطَّلَعَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، حَتَّى إِذَا كَانَ الْغَدُ قَالَ رسول الله مِثْلَ ذَلِكَ، قَالَ فَاطَّلَعَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ عَلَى تَرْتِيبِهِ الْأَوَّلِ، حَتَّى إِذَا كَانَ الغد قال رسول الله مثل ذلك، قال فَطَلَعَ عَلَى تَرْتِيبِهِ، فَلَمَّا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَارَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقَالَ: إِنِّي غَاضَبْتُ أَبِي فَأَقْسَمْتُ أَنْ لَا أَدْخُلَ عَلَيْهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُؤْوِيَنِي إِلَيْكَ حَتَّى تَنْحَلَّ يَمِينِي فَعَلْتَ، قَالَ أَنَسٌ: فَزَعَمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو أَنَّهُ بَاتَ مَعَهُ لَيْلَةً حتى إذا كان الْفَجْرِ فَلَمْ يَقُمْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ شَيْئًا، غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا انْقَلَبَ عَلَى فِرَاشِهِ ذَكَرَ اللَّهَ وَكَبَّرَهُ حَتَّى يَقُومَ مَعَ الْفَجْرِ، فَإِذَا صَلَّى الْمَكْتُوبَةَ أَسْبَغَ الْوُضُوءَ وَأَتَمَّهُ ثُمَّ يُصْبِحُ مُفْطِرًا، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: فَرَمَقَتْهُ ثَلَاثَ لَيَالٍ وَأَيَّامَهُنَّ لَا يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ، غَيْرَ أَنِّي لَا أَسْمَعُهُ يَقُولُ إِلَّا خَيْرًا، فَلَمَّا مَضَتِ اللَّيَالِي الثَّلَاثُ وَكِدْتُ أَحْتَقِرُ عَمَلَهُ، قُلْتُ: إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي غضب ولا هجر، ولكنى سمعت رسول الله قال ذلك ثلاث مرات في ثلاث مَجَالِسَ: «يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ» فَاطَّلَعْتَ أَنْتَ أُولَئِكَ الْمَرَّاتِ الثَّلَاثَ، فَأَرَدْتُ أَنْ آوِيَ إِلَيْكَ حَتَّى أَنْظُرَ مَا عَمَلُكَ فَأَقْتَدِيَ بك لأنال ما نلت، فلم أرك تعمل كثير عمل، ما الَّذِي بَلَغَ بِكَ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ؟ فَقَالَ: مَا هُوَ إِلَّا الَّذِي رَأَيْتَ. قَالَ: فلما رأيت ذلك انصرفت فدعا بى حِينَ وَلَّيْتُ، فَقَالَ: مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ غَيْرَ أَنِّي لَا أَجِدُ فِي نَفْسِي سُوءًا لِأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا أَنْوِي لَهُ شرا ولا أقوله. قال قلت: هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِكَ وَهِيَ الَّتِي لَا أطيق.
وهكذا رواه صالح المزي عن عمرو بن دينار- مولى الزُّبَيْرِ- عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ فَذَكَرَ مِثْلَ رواية أنس ابن مَالِكٍ. وَثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ شُرَيْحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَعْدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ 6: 52 نَزَلَتْ فِي سِتَّةٍ، أَنَا وَابْنُ مَسْعُودٍ مِنْهُمْ وَفِي رِوَايَةٍ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيَّ وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ 29: 8 وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا أَسْلَمَ

(8/74)


امْتَنَعَتْ أُمُّهُ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ أَيَّامًا، فَقَالَ لَهَا: تَعْلَمِينَ وَاللَّهِ لَوْ كَانَتْ لَكِ مِائَةُ نَفْسٍ فَخَرَجَتْ نَفْسًا نَفْسًا مَا تَرَكْتُ دِينِي هَذَا لِشَيْءٍ، إِنْ شِئْتِ فَكُلِي وَإِنْ شِئْتِ فَلَا تَأْكُلِي. فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَأَمَّا حَدِيثُ الشهادة للعشرة بالجنة فثبت في الصحيح عن سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ. وَجَاءَ مِنْ حَدِيثِ سُهَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قِصَّةِ حِرَاءَ ذَكَرَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ مِنْهُمْ. وَقَالَ هُشَيْمٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ مُجَالِدٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ جَابِرٍ. قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ فَأَقْبَلَ سَعْدٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَذَا خَالِيَ فَلْيُرَنِي امْرُؤٌ خَالَهُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ إسحاق التستري ثنا عبد الوهاب ابن الضَّحَّاكِ ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَمْرٍو عَنْ مَاعِزٍ التَّمِيمِيِّ عَنْ جَابِرٍ. قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أَقْبَلَ سَعْدٌ فَقَالَ: «هَذَا خَالِي» . وَثَبَتَ فِي الصحيح مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ رَسُولَ الله جَاءَهُ يَعُودُهُ عَامَ حِجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ وَجَعٍ اشْتَدَّ بِهِ. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي ذُو مَالٍ وَلَا يَرِثُنِي إِلَّا ابْنَةٌ، أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ: لَا! قُلْتُ:
فَالشَّطْرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لَا! قُلْتُ: فَالثُّلُثُ؟ قَالَ: الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ، وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وجه الله إلا أجرت بها، حَتَّى اللُّقْمَةَ تَضَعُهَا فِي فَمِ امْرَأَتِكَ. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُخَلَّفُ بَعْدَ أَصْحَابِي؟ فَقَالَ إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ فَتَعْمَلَ عَمَلًا تَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا ازْدَدْتَ بِهِ دَرَجَةً وَرِفْعَةً، وَلَعَلَّكَ أَنْ تُخَلِّفَ حَتَّى يَنْتَفِعَ بِكَ أَقْوَامٌ ويضربك آخَرُونَ. ثُمَّ قَالَ: اللَّهمّ أَمْضِ لِأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ وَلَا تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ، لَكِنِ الْبَائِسُ سَعْدُ ابن خولة يرثى له رسول الله أَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ» . وَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنِ الْجَعْدِ بْنِ أَوْسٍ عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهَا فَذَكَرَ نَحْوَهُ، وَفِيهِ قَالَ: «فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى جَبْهَتِهِ فَمَسَحَ وَجْهَهُ وَصَدْرَهُ وَبَطْنَهُ وَقَالَ: اللَّهمّ اشْفِ سَعْدًا وَأَتِمَّ لَهُ هِجْرَتَهُ» . قَالَ سَعْدٌ: فَمَا زِلْتُ يخيل إلى أنى أجد برده عَلَى كَبِدِي حَتَّى السَّاعَةِ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَادَ سَعْدًا فَقَالَ:
«اللَّهمّ أَذْهِبْ عَنْهُ الْبَاسَ، إِلَهَ النَّاسِ، مَلِكَ النَّاسِ، أَنْتَ الشَّافِي لَا شَافِيَ لَهُ إِلَّا أَنْتَ، بِسْمِ اللَّهِ أَرْقِيكَ مَنْ كُلِّ شَيْءٍ يُؤْذِيكَ، مِنْ حَسَدٍ وَعَيْنٍ، اللَّهُمَّ أَصِحَّ قَلْبَهُ وَجِسْمَهُ، وَاكْشِفْ سَقَمَهُ وَأَجِبْ دَعْوَتَهُ» . وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي عَمْرٌو عن بكر بْنِ الْأَشَجِّ قَالَ: سَأَلْتُ عَامِرَ بْنَ سَعْدٍ عن قول رسول الله لِسَعْدٍ: «وَعَسَى أَنْ تَبْقَى يَنْتَفِعُ بِكَ أَقْوَامٌ ويضربك آخَرُونَ» . فَقَالَ: أُمِّرَ سَعْدٌ عَلَى الْعِرَاقِ فَقَتَلَ قَوْمًا عَلَى الرِّدَّةِ فَضَرَّهُمْ، وَاسْتَتَابَ قَوْمًا كَانُوا سَجَعُوا سَجْعَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ فَتَابُوا فَانْتَفَعُوا بِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ ثَنَا معاذ بن رفاعة حدثني على بن زيد عَنِ الْقَاسِمِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي أمامة. قال: جلسنا إلى رسول الله فذكّرنا ورققنا، فبكى سعد بن أبى قاص فَأَكْثَرَ الْبُكَاءَ وَقَالَ: يَا لَيْتَنِي مِتُّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا سَعْدُ إِنْ كُنْتَ لِلْجَنَّةِ خُلِقْتَ فَمَا طَالَ عُمْرُكَ أَوْ حَسُنَ

(8/75)


مِنْ عَمَلِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ» . وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَغَيْرُهُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ قَيْسِ عَنْ سَعْدٍ.
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اللَّهمّ سدد رميته وأجب دعوته» . ورواه سيار بن بشير عَنْ قَيْسٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ. قَالَ: سمعت رسول الله يَقُولُ لِسَعْدٍ: «اللَّهمّ سَدِّدْ سَهْمَهُ وَأَجِبْ دَعْوَتَهُ، وَحَبِّبْهُ إِلَى عِبَادِكَ» . وَرَوَى مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَفِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَائِذٍ الدِّمَشْقِيِّ عن الهيثم بن حميد عن مطعم عن الْمِقْدَامِ وَغَيْرِهِ أَنَّ سَعْدًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُجِيبَ دَعْوَتِي فَقَالَ: «إنه لا يستجيب الله دَعْوَةَ عَبْدٍ حَتَّى يُطَيِّبَ مَطْعَمَهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يطيب مطعمي فَدَعَا لَهُ» . قَالُوا: فَكَانَ سَعْدٌ يَتَوَرَّعُ مِنَ السُّنْبُلَةِ يَجِدُهَا فِي زَرْعِهِ فَيَرُدُّهَا مِنْ حَيْثُ أُخِذَتْ.
وَقَدْ كَانَ كَذَلِكَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ لَا يَكَادُ يَدْعُو بِدُعَاءٍ إِلَّا اسْتُجِيبَ لَهُ، فَمِنْ أشهر ذلك ما روى فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ سلمة أَنْ أَهْلَ الْكُوفَةِ شَكَوَا سَعْدًا إِلَى عُمَرَ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى قَالُوا: لَا يُحْسِنُ يُصَلِّي، فَقَالَ سَعْدٌ: أَمَّا إِنِّي لَا آلُو أن أصلى بهم صلاة رسول الله، أطيل الأوليين وأحذف الآخرتين، فقال: الظَّنُّ بِكَ يَا أَبَا إِسْحَاقَ، وَكَانَ قَدْ بَعَثَ مِنْ يَسْأَلُ عَنْهُ بِمَحَالِّ الْكُوفَةِ، فَجَعَلُوا لَا يَسْأَلُونَ أَهْلَ مَسْجِدٍ إِلَّا أَثْنَوْا خَيْرًا، حَتَّى مَرُّوا بِمَسْجِدٍ لِبَنِي عَبْسٍ فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ أَبُو سَعْدَةَ أُسَامَةُ بْنُ قَتَادَةَ فَقَالَ: إِنَّ سَعْدًا كَانَ لَا يَسِيرُ فِي السَّرِيَّةِ، وَلَا يِقْسِمُ بِالسَّوِيَّةِ، وَلَا يَعْدِلُ في الرعية القضية، فبلغ سعدا فَقَالَ: اللَّهمّ إِنْ كَانَ عَبْدُكَ هَذَا قَامَ مَقَامَ رِيَاءٍ وَسُمْعَةٍ فَأَطِلْ عُمْرَهُ وَأَدِمْ فَقْرَهُ، وأعم بصره وَعَرِّضْهُ لِلْفِتَنِ، قَالَ: فَأَنَا رَأَيْتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ شيخا كبيرا قد سقطت حَاجِبَاهُ عَلَى عَيْنَيْهِ يَقِفُ فِي الطَّرِيقِ فَيَغْمِزُ الجواري فيقال له، فَيَقُولُ: شَيْخٌ مَفْتُونٌ أَصَابَتْهُ دَعْوَةُ سَعْدٍ. وَفِي رِوَايَةٍ غَرِيبَةٍ أَنَّهُ أَدْرَكَ فِتْنَةَ الْمُخْتَارِ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ فَقُتِلَ فِيهَا. وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: ثَنَا يُوسُفُ الْقَاضِي ثَنَا عَمْرُو بْنُ مَرْزُوقٍ ثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ. قَالَ: خَرَجَتْ جَارِيَةٌ لِسَعْدٍ يُقَالُ لَهَا زَبْرَاءُ، وَعَلَيْهَا قَمِيصٌ جَدِيدٌ فَكَشَفَتْهَا الرِّيحُ فَشَدَّ عَلَيْهَا عُمَرُ بِالدِّرَّةِ، وَجَاءَ سَعْدٌ لِيَمْنَعَهُ فَتَنَاوَلَهُ عُمَرُ بِالدِّرَّةِ فَذَهَبَ سَعْدٌ يَدْعُو عَلَى عمر، فناوله الدرة وقال: اقتص منى فعفى عَنْ عُمَرَ. وَرَوَى أَيْضًا أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ سَعْدٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ كَلَامٌ فَهَمَّ سَعْدٌ أَنْ يَدْعُوَ عَلَيْهِ فَخَافَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَجَعَلَ يَشْتَدُّ فِي الْهَرَبِ.
وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ الْقَادِسِيَّةِ كَانَ سَعْدٌ عَلَى النَّاسِ وَقَدْ أَصَابَتْهُ جِرَاحٌ فَلَمْ يَشْهَدْ يَوْمَ الْفَتْحِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَجِيلَةَ:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَظْهَرَ دِينَهُ ... وَسَعْدٌ بِبَابِ الْقَادِسِيَّةِ مُعْصَمُ
فأبنا وقد أيمت نِسَاءٌ كَثِيرَةٌ ... وَنِسْوَةُ سَعْدٍ لَيْسَ فِيهِنَّ أَيِّمُ
فَقَالَ سَعْدٌ: اللَّهمّ اكْفِنَا يَدَهُ وَلِسَانَهُ. فَجَاءَهُ سَهْمٌ غَرْبٌ فَأَصَابَهُ فَخَرِسَ وَيَبِسَتْ يَدَاهُ جَمِيعًا. وَقَدْ أَسْنَدَ زِيَادٌ الْبَكَّائِيُّ وَسَيْفُ بْنُ عُمَرَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ جَابِرٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فَذَكَرَ

(8/76)


مِثْلَهُ، وَفِيهِ: ثُمَّ خَرَجَ سَعْدٌ فَأَرَى النَّاسَ مَا بِهِ مِنَ الْقُرُوحِ فِي ظَهْرِهِ لِيَعْتَذِرَ إليهم. وقال هشيم عن أبى بلح عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ رَجُلًا نَالَ مِنْ عَلِيٍّ فَنَهَاهُ سَعْدٌ فَلَمْ يَنْتَهِ، فَقَالَ سَعْدٌ: أَدْعُو عَلَيْكَ، فَلَمْ يَنْتَهِ، فَدَعَا اللَّهَ عليه حَتَّى جَاءَ بَعِيرٌ نَادٌّ فَتَخَبَّطَهُ. وَجَاءَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ سَعْدًا رَأَى جَمَاعَةً عُكُوفًا عَلَى رَجُلٍ فَأَدْخَلَ رَأْسَهُ مِنْ بَيْنِ اثْنَيْنِ فَإِذَا هُوَ يَسُبُّ عَلِيًّا وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ، فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ فَلَمْ يَنْتَهِ، فَقَالَ: أَدْعُو عَلَيْكَ، فَقَالَ الرَّجُلُ: تَتَهَدَّدُنِي كَأَنَّكَ نَبِيٌّ؟ فَانْصَرَفَ سَعْدٌ فَدَخَلَ دَارَ آلِ فُلَانٍ فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: اللَّهمّ إِنَّ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ قَدْ سَبَّ أَقْوَامًا قَدْ سَبَقَ لَهُمْ مِنْكَ سَابِقَةُ الْحَسَنَى، وَأَنَّهُ قَدْ أَسْخَطَكَ سَبُّهُ إِيَّاهُمْ، فَاجْعَلْهُ الْيَوْمَ آيَةً وَعِبْرَةً. قَالَ: فَخَرَجَتْ بُخْتِيَّةٌ نَادَّةٌ مِنْ دَارِ آلِ فُلَانٍ لَا يَرُدُّهَا شَيْءٌ حَتَّى دَخَلَتْ بَيْنَ أَضْعَافِ النَّاسِ، فافترق الناس فأخذته بين قوائمها، فلم يزل تَتَخَبَّطُهُ حَتَّى مَاتَ. قَالَ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ النَّاسَ يَشْتَدُّونَ وَرَاءَ سَعْدٍ يَقُولُونَ: اسْتَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَكَ يَا أَبَا إِسْحَاقَ. وَرَوَاهُ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ فَذَكَرَ نَحْوَهُ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ دَاوُدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ الْقُرَشِيُّ ثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ مِينا مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تَطَّلِعُ عَلَى سَعْدٍ فَنَهَاهَا فَلَمْ تَنْتَهِ، فَاطَّلَعَتْ يَوْمًا وَهُوَ يَتَوَضَّأُ فَقَالَ: شَاهَ وَجْهُكِ، فَعَادَ وَجْهُهَا فِي قفاها. وقال كثير النوري: عن عبد الله بن بديل قَالَ: دَخَلَ سَعْدٌ عَلَى مُعَاوِيَةَ فَقَالَ لَهُ: مالك لَمْ تُقَاتِلْ مَعَنَا؟ فَقَالَ: إِنِّي مَرَّتْ بِي رِيحٌ مُظْلِمَةٌ فَقُلْتُ: أَخْ أَخْ.
فَأَنَخْتُ رَاحِلَتِي حَتَّى انْجَلَتْ عَنِّي ثُمَّ عَرَفَتِ الطَّرِيقَ فَسِرْتُ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ:
أَخْ أَخْ. وَلَكِنْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ الله 49: 9 فو الله مَا كُنْتُ مَعَ الْبَاغِيَةِ عَلَى الْعَادِلَةِ، وَلَا مَعَ الْعَادِلَةِ عَلَى الْبَاغِيَةِ. فَقَالَ سَعْدٌ: مَا كُنْتُ لِأُقَاتِلَ رَجُلًا قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى غَيْرَ أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي» . فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: مَنْ سَمِعَ هَذَا مَعَكَ؟ فَقَالَ: فُلَانٌ وَفُلَانٌ وَأُمُّ سَلَمَةَ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: أَمَا إِنِّي لَوْ سَمِعْتُهُ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَا قَاتَلْتُ عَلِيًّا. وَفِي رِوَايَةٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ كَانَ بَيْنَهُمَا وَهُمَا بِالْمَدِينَةِ فِي حَجَّةٍ حَجَّهَا مُعَاوِيَةُ، وَأَنَّهُمَا قَامَا إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَسَأَلَاهَا فَحَدَّثَتْهُمَا بِمَا حَدَّثَ بِهِ سَعْدٌ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: لَوْ سَمِعْتُ هَذَا قَبْلَ هَذَا الْيَوْمِ لَكَنْتُ خَادِمًا لِعَلِيٍّ حَتَّى يَمُوتَ أَوْ أَمُوتَ.
وَفِي إِسْنَادِ هَذَا ضَعْفٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَعْدٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يَتَكَلَّمُ فِي عَلِيٍّ وَفِي خَالِدٍ فَقَالَ:
إِنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ مَا بيننا إلى دِينَنَا. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: طَافَ سَعْدٌ عَلَى تِسْعِ جَوَارٍ فِي لَيْلَةٍ فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى الْعَاشِرَةِ أَخَذَهُ النَّوْمُ فَاسْتَحْيَتْ أَنْ تُوقِظَهُ.
وَمِنْ كَلَامِهِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ لِابْنِهِ مُصْعَبٍ: يَا بُنَيَّ إِذَا طَلَبْتَ شَيْئًا فَاطْلُبْهُ بِالْقَنَاعَةِ، فَإِنَّهُ مَنْ لَا قَنَاعَةَ لَهُ لَمْ يُغْنِهِ الْمَالُ. وَقَالَ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ عن معصب بْنِ سَعْدٍ. قَالَ: كَانَ رَأْسُ أَبِي

(8/77)


فِي حِجْرِي وَهُوَ يَقْضِي فَبَكَيْتُ، فَقَالَ: مَا يُبْكِيكَ يَا بُنَيَّ؟ وَاللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُنِي أَبَدًا، وَإِنِّي مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ. إِنَّ اللَّهَ يَدِينُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِحَسَنَاتِهِمْ فَاعْمَلُوا للَّه، وَأَمَّا الْكُفَّارُ فَيُخَفَّفُ عَنْهُمْ بِحَسَنَاتِهِمْ، فَإِذَا نَفِدَتْ قَالَ: لِيَطْلُبْ كُلُّ عَامِلٍ ثَوَابَ عَمَلِهِ مِمَّنْ عَمِلَ لَهُ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: لَمَّا حَضَرَتْ سَعْدًا الْوَفَاةُ دعا بخلق جبة فقال: كفنوني في هذه فَإِنِّي لَقِيتُ فِيهَا الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَإِنَّمَا خبأتها لِهَذَا الْيَوْمِ.
وَكَانَتْ وَفَاةُ سَعْدٍ بِالْعَقِيقِ خَارِجَ الْمَدِينَةِ، فَحُمِلَ إِلَى الْمَدِينَةِ عَلَى أَعْنَاقِ الرِّجَالِ فَصَلَّى عَلَيْهِ مَرْوَانُ، وَصَلَّى بِصَلَاتِهِ أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ، وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ. وَكَانَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ- سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ- عَلَى الْمَشْهُورِ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ، وَقَدْ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ عَلَى الصَّحِيحِ. قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ: وَهُوَ آخِرُ الْعَشَرَةِ وَفَاةً. وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ آخِرَ الْمُهَاجِرِينَ وَفَاةً، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَنْهُمْ أَجْمَعِينَ. وَقَالَ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ: سَنَةَ خَمْسِينَ، وَقَالَ أَبُو معشر وأبو نعيم مغيث بْنُ الْمُحَرِّرِ: تُوُفِّيَ سَعْدٌ سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ، زاد مغيث: وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ وَعَائِشَةُ وَأُمُّ سَلَمَةَ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ- خَمْسٌ وَخَمْسِينَ- قَالُوا وَكَانَ قصيرا غليظا شثن الكفين أَفْطَسَ أَشْعَرَ الْجَسَدِ، يُخَضِّبُ بِالسَّوَادِ، وَكَانَ مِيرَاثُهُ مِائَتَيْ أَلْفٍ وَخَمْسِينَ أَلْفًا.
فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ الْأَوْسِيُّ
أَوَّلُ مَشَاهِدِهِ أُحُدٌ، وَشَهِدَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ، وَدَخَلَ الشَّامَ، وَتَوَلَّى الْقَضَاءَ بِدِمَشْقَ فِي أَيَّامِ مُعَاوِيَةَ بَعْدَ أَبِي الدَّرْدَاءِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: مَاتَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: سَنَةَ سَبْعٍ وَسِتِّينَ، وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمُنْتَظَمِ: تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قُثَمُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ
كَانَ أَشْبَهَ النَّاسُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تَوَلَّى نِيَابَةَ الْمَدِينَةِ فِي أَيَّامِ عَلِيٍّ، وشهد فتح سمرقند فاستشهد بها.
كَعْبُ بْنُ عَمْرٍو أَبُو الْيَسَرِ
الْأَنْصَارِيُّ السُّلَمِيُّ، شَهِدَ الْعَقَبَةَ وَبَدْرًا، وَأَسَرَ يَوْمئِذٍ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَشَهِدَ مَا بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْمَشَاهِدَ كُلَّهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ: مَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ، زَادَ غَيْرُهُ:
وَهُوَ آخِرُ مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَخَمْسِينَ
وَذَلِكَ فِي أَيَّامِ مُعَاوِيَةَ، فَفِيهَا شَتَّى جُنَادَةُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ بِأَرْضِ الروم، وقيل عبد الرحمن بن مسعود، ويقال فيها غزا في البحر يزيد بن سمرة، وَفِي الْبَرِّ عِيَاضُ بْنُ الْحَارِثِ. وَفِيهَا اعْتَمَرَ مُعَاوِيَةُ فِي رَجَبٍ، وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا الْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَفِيهَا وَلَّى مُعَاوِيَةُ سَعِيدَ بْنَ عُثْمَانَ بِلَادَ خُرَاسَانَ، وَعَزَلَ عَنْهَا عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ، فَسَارَ سَعِيدٌ إِلَى خُرَاسَانَ وَالْتَقَى مَعَ التُّرْكِ عِنْدَ صُغْدِ سمرقند، فقتل

(8/78)


مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَاسْتُشْهِدَ مَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ فِيمَا قِيلَ قُثَمُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ:
سَأَلَ سَعِيدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ مُعَاوِيَةَ أَنْ يُوَلِّيَهُ خُرَاسَانَ فَقَالَ: إِنَّ بِهَا عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ، فقال:
أما لَقَدِ اصْطَنَعَكَ أَبِي وَرَقَّاكَ حَتَّى بَلَغْتَ بِاصْطِنَاعِهِ الْمَدَى الَّذِي لَا يُجَارَى إِلَيْهِ وَلَا يُسَامَى، فَمَا شَكَرْتَ بَلَاءَهُ وَلَا جَازَيْتَهُ بِآلَائِهِ، وَقَدَّمْتَ على هذا- بعنى يزيد بن معاوية- وبايعت له، وو الله لَأَنَا خَيْرٌ مِنْهُ أَبًا وَأُمًّا وَنَفْسًا. فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: أَمَّا بَلَاءُ أَبِيكَ عِنْدِي فَقَدْ يَحِقُّ عَلَيَّ الْجَزَاءُ بِهِ، وَقَدْ كَانَ مِنْ شُكْرِي لِذَلِكَ أَنِّي طَلَبْتُ بِدَمِهِ حَتَّى تَكَشَّفَتِ الْأُمُورُ، وَلَسْتُ بِلَائِمٍ لِنَفْسِي فِي التَّشْمِيرِ، وَأَمَّا فَضْلُ أَبِيكَ عَلَى أَبِيهِ، فَأَبُوكَ وَاللَّهِ خَيْرٌ مِنِّي وَأَقْرَبُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا فَضْلُ أُمِّكَ عَلَى أُمِّهِ فَمَا لَا يُنْكَرُ، فَإِنَّ امْرَأَةً مِنْ قُرَيْشٍ خَيْرٌ مِنِ امْرَأَةٍ مِنْ كَلْبٍ، وَأَمَّا فَضْلُكَ عَلَيْهِ فو الله مَا أُحِبُّ أَنَّ الْغُوطَةَ دُحِسَتْ لِيَزِيدَ رِجَالًا مِثْلَكَ- يَعْنِي أَنَّ الْغُوطَةَ لَوْ مُلِئَتْ رِجَالًا مِثْلَ سَعِيدِ بْنِ عُثْمَانَ كَانَ يَزِيدُ خَيْرًا وَأَحَبَّ إِلَيَّ مِنْهُمْ. فَقَالَ لَهُ يَزِيدُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ابْنُ عَمِّكَ وَأَنْتَ أَحَقُّ مَنْ نَظَرَ فِي أَمْرِهِ، وَقَدْ عَتَبَ عَلَيْكَ فِيَّ فأعتبه. فَوَلَّاهُ حَرْبَ خُرَاسَانَ، فَأَتَى سَمَرْقَنْدَ فَخَرَجَ إِلَيْهِ أَهْلُ الصُّغْدِ مِنَ التَّرْكِ فَقَاتَلَهُمْ وَهَزَمَهُمْ وَحَصَرَهُمْ فِي مَدِينَتِهِمْ، فَصَالَحُوهُ وَأَعْطَوْهُ رَهْنًا خَمْسِينَ غُلَامًا يَكُونُونَ فِي يَدِهِ مِنْ أَبْنَاءِ عُظَمَائِهِمْ، فَأَقَامَ بِالتِّرْمِذِ وَلَمْ يَفِ لَهُمْ، وَجَاءَ بِالْغِلْمَانِ الرَّهْنِ مَعَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَفِيهَا دَعَا مُعَاوِيَةُ النَّاسَ إِلَى الْبَيْعَةِ لِيَزِيدَ وَلَدِهِ أَنْ يَكُونَ وَلِيَّ عَهْدِهِ مِنْ بَعْدِهِ، - وَكَانَ قَدْ عَزَمَ قَبْلَ ذَلِكَ عَلَى هَذَا فِي حَيَاةِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ- فَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ الْمُغِيرَةَ كَانَ قَدْ قَدِمَ عَلَى مُعَاوِيَةَ وأعفاه مِنْ إِمْرَةِ الْكُوفَةِ فَأَعْفَاهُ لِكِبَرِهِ وَضَعْفِهِ، وَعَزَمَ عَلَى تَوْلِيَتِهَا سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ الْمُغِيرَةَ كَأَنَّهُ نَدِمَ، فَجَاءَ إِلَى يَزِيدَ ابن مُعَاوِيَةَ فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِأَنْ يَسْأَلَ مِنْ أَبِيهِ أن يكون ولى العهد، فسأل ذلك مِنْ أَبِيهِ فَقَالَ: مَنْ أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: الْمُغِيرَةُ، فَأَعْجَبَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةَ مِنَ الْمُغِيرَةِ وَرَدَّهُ إِلَى عَمَلِ الْكُوفَةِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَسْعَى فِي ذَلِكَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ سَعَى الْمُغِيرَةُ فِي تَوْطِيدِ ذَلِكَ، وَكَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى زِيَادٍ يَسْتَشِيرُهُ فِي ذَلِكَ، فَكَرِهَ زِيَادٌ ذَلِكَ لِمَا يَعْلَمُ مِنْ لَعِبِ يَزِيدَ وَإِقْبَالِهِ عَلَى اللَّعِبِ وَالصَّيْدِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ مَنْ يَثْنِي رَأْيَهُ عَنْ ذَلِكَ، وَهُوَ عبيد ابن كعب بن النُّمَيْرِيُّ- وَكَانَ صَاحِبًا أَكِيدًا لِزِيَادٍ- فَسَارَ إِلَى دِمَشْقَ فَاجْتَمَعَ بِيَزِيدَ أَوَّلًا، فَكَلَّمَهُ عَنْ زِيَادٍ وَأَشَارَ عَلَيْهِ بِأَنْ لَا يَطْلُبَ ذَلِكَ، فَإِنَّ تَرْكَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنَ السَّعْيِ فِيهِ، فَانْزَجَرَ يَزِيدُ عَمَّا يُرِيدُ مِنْ ذَلِكَ، وَاجْتَمَعَ بِأَبِيهِ وَاتَّفَقَا عَلَى تَرْكِ ذَلِكَ فِي هَذَا الْوَقْتِ، فَلَمَّا مَاتَ زِيَادٌ وَكَانَتْ هَذِهِ السَّنَةُ، شَرَعَ معاوية في نظم ذلك والدعاء إليه، وَعَقَدَ الْبَيْعَةَ لِوَلَدِهِ يَزِيدَ، وَكَتَبَ إِلَى الْآفَاقِ بِذَلِكَ، فَبَايَعَ لَهُ النَّاسُ فِي سَائِرِ الْأَقَالِيمِ، إِلَّا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعَبْدَ الله بن عمرو الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَابْنَ عَبَّاسٍ، فَرَكِبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى مَكَّةَ مُعْتَمِرًا، فَلَمَّا اجْتَازَ بِالْمَدِينَةِ- مَرْجِعَهُ مِنْ مَكَّةَ- اسْتَدْعَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْخَمْسَةِ فَأَوْعَدَهُ وَتَهَدَّدَهُ بِانْفِرَادِهِ، فَكَانَ مِنْ أَشَدِّهِمْ عَلَيْهِ رَدًّا وَأَجْلَدِهِمْ في الكلام،

(8/79)


عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَكَانَ أَلْيَنَهُمْ كَلَامًا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، ثُمَّ خَطَبَ مُعَاوِيَةُ وَهَؤُلَاءِ حُضُورٌ تَحْتَ مِنْبَرِهِ، وَبَايَعَ النَّاسُ لِيَزِيدَ وَهُمْ قُعُودٌ وَلَمْ يُوَافِقُوا وَلَمْ يُظْهِرُوا خِلَافًا، لِمَا تَهَدَّدَهُمْ وَتَوَعَّدَهُمْ، فَاتَّسَقَتِ الْبَيْعَةُ لِيَزِيدَ فِي سَائِرِ الْبِلَادِ، وَوَفَدَتِ الْوُفُودُ مِنْ سَائِرِ الْأَقَالِيمِ إِلَى يَزِيدَ، فَكَانَ فِيمَنْ قَدِمَ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ، فَأَمَرَهُ مُعَاوِيَةُ أَنْ يُحَادِثَ يَزِيدَ، فَجَلَسَا ثُمَّ خَرَجَ الْأَحْنَفُ فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: مَاذَا رَأَيْتَ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ؟ فَقَالَ: إِنَّا نَخَافُ اللَّهَ إِنْ كَذَبْنَا وَنَخَافُكُمْ إِنْ صَدَقْنَا، وَأَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ فِي لَيْلِهِ وَنَهَارِهِ، وَسِرِّهِ وَعَلَانِيَتِهِ، وَمَدْخَلِهِ وَمَخْرَجِهِ، وَأَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ بِمَا أَرَدْتَ، وَإِنَّمَا عَلَيْنَا أَنْ نَسْمَعَ وَنُطِيعَ، وَعَلَيْكَ أَنْ تَنْصَحَ لِلْأُمَّةِ. وَقَدْ كان معاوية لما صالح الحسن عَهِدَ لِلْحَسَنِ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ، فَلَمَّا مَاتَ الْحَسَنُ قَوِيَ أَمْرُ يَزِيدَ عِنْدَ مُعَاوِيَةَ، وَرَأَى أَنَّهُ لِذَلِكَ أَهْلًا، وَذَاكَ مِنْ شِدَّةِ مَحَبَّةِ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ، وَلِمَا كَانَ يَتَوَسَّمُ فِيهِ مِنَ النَّجَابَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَسِيَّمَا أَوْلَادِ الْمُلُوكِ وَمَعْرِفَتِهِمْ بِالْحُرُوبِ وترتيب الملك والقيام بأبهته، وكان ظن أن لَا يَقُومُ أَحَدٌ مِنْ أَبْنَاءِ الصَّحَابَةِ فِي هذا المعنى، ولهذا قال لعبد الله ابن عُمَرَ فِيمَا خَاطَبَهُ بِهِ: إِنِّي خِفْتُ أَنْ أَذَرَ الرَّعِيَّةَ مِنْ بَعْدِي كَالْغَنَمِ الْمَطِيرَةِ لَيْسَ لَهَا رَاعٍ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ: إِذَا بَايَعَهُ النَّاسُ كُلُّهُمْ بَايَعْتُهُ وَلَوْ كَانَ عَبْدًا مُجَدَّعَ الْأَطْرَافِ. وَقَدْ عَاتَبَ مُعَاوِيَةَ فِي وِلَايَتِهِ يَزِيدَ، سَعِيدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَطَلَبَ منه أن يوليه مكانه، وقال له سعيد فيما قال: إن أبى لم يزل معتنيا بك حتى بلغت ذروة المجد والشرف، وقد قدمت ولدك على وأنا خَيْرٌ مِنْهُ أَبًا وَأُمًّا وَنَفْسًا. فَقَالَ لَهُ:
أما ما ذكرت من إحسان أبيك إلى فإنه أمر لا ينكر، وأما كون أبيك خير من أبيه فحق وأمك قرشية وأمه كلبية فهي خير منها، وأما كونك خيرا منه فو الله لو ملئت إلى الغوطة رجالا مثلك لكان يزيد أحب إلى مِنْكُمْ كُلِّكُمْ. وَرُوِّينَا عَنْ مُعَاوِيَةَ أَنَّهُ قَالَ يَوْمًا فِي خُطْبَتِهِ: اللَّهمّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي وَلَّيْتُهُ لِأَنَّهُ فِيمَا أَرَاهُ أَهْلٌ لِذَلِكَ فأتمم له ما وليته، وإن كنت وَلَّيْتُهُ لِأَنِّي أُحِبُّهُ فَلَا تُتْمِمْ لَهُ مَا وَلَّيْتُهُ.
وَذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَانَ قَدْ سَمَرَ لَيْلَةً فَتَكَلَّمَ أَصْحَابُهُ فِي الْمَرْأَةِ الَّتِي يَكُونُ وَلَدُهَا نَجِيبًا، فَذَكَرُوا صِفَةَ الْمَرْأَةِ الَّتِي يَكُونُ وَلَدُهَا نَجِيبًا: فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: وَدِدْتُ لَوْ عُرِّفْتُ بِامْرَأَةٍ تَكُونُ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ؟
فَقَالَ أَحَدُ جُلَسَائِهِ: قَدْ وَجَدْتُ ذَلِكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: وَمَنْ؟ قَالَ: ابْنَتِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ.
فَتَزَوَّجَهَا مُعَاوِيَةُ فَوَلَدَتْ لَهُ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ فَجَاءَ نَجِيبًا ذَكِيًّا حَاذِقًا. ثُمَّ خَطَبَ امْرَأَةً أُخْرَى فَحَظِيَتْ عِنْدَهُ وَوَلَدَتْ لَهُ غُلَامًا آخَرَ، وَهَجَرَ أُمَّ يَزِيدَ فَكَانَتْ عِنْدَهُ في جنب داره، فبينما هو فِي النَّظَّارَةِ وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ الْأُخْرَى، إِذْ نَظَرَ إِلَى أُمِّ يَزِيدَ وَهِيَ تُسَرِّحُهُ، فَقَالَتِ امْرَأَتُهُ: قَبَّحَهَا اللَّهُ وَقَبَّحَ مَا تُسَرِّحُ. فَقَالَ:
وَلِمَ؟ فو الله إن ولدها أنجب مِنْ وَلَدِكِ، وَإِنْ أَحْبَبْتِ بَيَّنْتُ لَكِ ذَلِكَ، ثُمَّ اسْتَدْعَى وَلَدَهَا فَقَالَ لَهُ:
إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَنَّ لَهُ أَنْ يُطْلِقَ لَكَ مَا تَتَمَنَّاهُ عَلَيْهِ فَاطْلُبْ مِنِّي مَا شِئْتَ. فَقَالَ: أَسْأَلُ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُطْلِقَ لِي كِلَابًا لِلصَّيْدِ وَخَيْلًا وَرِجَالًا يَكُونُونَ مَعِي في الصيد. فقال: قَدْ أَمَرْنَا لَكَ

(8/80)


بِذَلِكَ، ثُمَّ اسْتَدْعَى يَزِيدَ فَقَالَ لَهُ كَمَا قال لأخيه، فقال يزيد: أو يعفيني أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي هَذَا الْوَقْتِ عَنْ هَذَا؟ فقال: لا بدّ لك أَنْ تَسْأَلَ حَاجَتَكَ، فَقَالَ: أَسْأَلُ- وَأَطَالَ اللَّهُ عُمُرَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ- أَنْ أَكُونَ وَلِيَّ عَهْدِهِ مِنْ بَعْدِهِ، فَإِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ عَدْلَ يَوْمٍ فِي الرَّعِيَّةِ كَعِبَادَةِ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ. فَقَالَ: قَدْ أَجَبْتُكَ إِلَى ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: كَيْفَ رَأَيْتِ؟ فَعَلِمَتْ وَتَحَقَّقَتْ فَضْلَ يَزِيدَ عَلَى وَلَدِهَا.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَفَاةَ أُمِّ حَرَامٍ بِنْتِ مِلْحَانَ الْأَنْصَارِيَّةِ امْرَأَةِ عبادة بن عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، وَالصَّحِيحُ الَّذِي لَمْ يَذْكُرِ الْعُلَمَاءُ غَيْرَهُ أَنَّهَا تُوُفِّيَتْ سَنَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ، وَكَانَتْ هِيَ وَزَوْجُهَا مَعَ معاوية حين دخل قبرص، وقصتها بغلتها فماتت هناك وقبرها بقبرص، وَالْعَجَبُ أَنَّ ابْنَ الْجَوْزِيِّ أَوْرَدَ فِي تَرْجَمَتِهَا حَدِيثَهَا الْمُخَرَّجَ فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي قَيْلُولَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِهَا، وَرُؤْيَاهُ فِي مَنَامِهِ قَوْمًا مِنْ أُمَّتِهِ يَرْكَبُونَ ثَبَجَ الْبَحْرِ مِثْلَ الْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَنَّهَا سَأَلَتْهُ أَنْ يَدْعُوَ لَهَا أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ فَدَعَا لَهَا، ثُمَّ نَامَ فرأى كذلك، فقالت: أدعو الله أن يجعلني منهم، فقال «لا! أنت من الأولين» وهم الذين فتحوا قبرص فَكَانَتْ مَعَهُمْ، وَذَلِكَ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، وَلَمْ تَكُنْ مِنَ الْآخِرِينَ الَّذِينَ غَزَوْا بِلَادَ الرُّومِ سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ مَعَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَمَعَهُمْ أَبُو أَيُّوبَ، وَقَدْ تُوُفِّيَ هُنَاكَ فَقَبْرُهُ قَرِيبٌ مِنْ سُورِ قُسْطَنْطِينِيَّةَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا هذا مقرارا فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ
فِيهَا كَانَ مَشْتَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ بِأَرْضِ الرُّومِ، قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَفِي شَوَّالِهَا عزل معاوية مروان ابن الْحَكَمِ عَنِ الْمَدِينَةِ، وَوَلَّى عَلَيْهَا الْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَهُوَ الَّذِي حَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، لِأَنَّهُ صَارَتْ إِلَيْهِ إِمْرَةُ الْمَدِينَةِ، وَكَانَ عَلَى الْكُوفَةِ الضَّحَّاكُ بْنُ قيس، وعلى البصرة عبيد الله ابن زِيَادٍ، وَعَلَى خُرَاسَانَ سَعِيدُ بْنُ عُثْمَانَ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِيهَا تُوُفِّيَ عُثْمَانُ بْنُ حُنَيْفٍ الْأَنْصَارِيُّ الْأَوْسِيُّ، وَهُوَ أَخُو عُبَادَةَ وَسَهْلٍ ابْنَيْ حُنَيْفٍ، بَعَثَهُ عُمَرُ لِمِسَاحَةِ خَرَاجِ السَّوَادِ بِالْعِرَاقِ، وَاسْتَنَابَهُ عُمَرُ عَلَى الْكُوفَةِ، فَلَمَّا قَدِمَ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ صُحْبَةَ عَائِشَةَ وَامْتَنَعَ مِنْ تَسْلِيمِ دَارِ الْإِمَارَةِ، نُتِفَتْ لِحْيَتُهُ وَحَوَاجِبُهُ وَأَشْفَارُ عَيْنَيْهِ وَمُثِّلَ بِهِ، فَلَمَّا جَاءَ عَلِيٌّ وَسَلَّمَهُ الْبَلَدَ قَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَارَقَتُكَ ذَا لِحْيَةٍ وَاجْتَمَعْتُ بِكَ أَمَرَدَ، فَتَبَسَّمَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَ: لَكَ أَجْرُ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ، وله في المسند والسنن حَدِيثُ الْأَعْمَى الَّذِي سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدْعُوَ لَهُ لِيَرُدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ ضَوْءَ بَصَرِهِ فَرَدَّهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَلَهُ حَدِيثٌ آخَرُ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَلَمْ أَرَ أَحَدًا أَرَّخَ وَفَاتَهُ بِهَذِهِ السَّنَةِ سِوَى ابْنِ الْجَوْزِيِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وخمسين
فِيهَا غَزَا مَالِكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخَثْعَمِيُّ أرض الروم، قال الواقدي: وفيها قيل شتى يَزِيدُ بْنُ شَجَرَةَ فِي الْبَحْرِ، وَقِيلَ: بَلْ غَزَا الْبَحْرَ وَبِلَادَ الرُّومِ جُنَادَةُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ، وَقِيلَ: إِنَّمَا شَتَّى بِأَرْضِ الرُّومِ عَمْرُو

(8/81)


ابن يَزِيدَ الْجُهَنِيُّ. قَالَ أَبُو مَعْشَرٍ وَالْوَاقِدِيُّ: وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا الْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَفِيهَا وَلَّى مُعَاوِيَةُ الْكُوفَةَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ الثقفي، ابْنُ أُمِّ الْحَكَمِ، وَأُمُّ الْحَكَمِ هِيَ أُخْتُ مُعَاوِيَةَ، وَعَزَلَ عَنْهَا الضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ، فَوَلَّى ابْنَ أُمِّ الْحَكَمِ عَلَى شُرْطَتِهِ زَائِدَةَ بْنَ قُدَامَةَ، وَخَرَجَتِ الْخَوَارِجُ فِي أَيَّامِ ابْنِ أُمِّ الْحَكَمِ، وَكَانَ رَئِيسَهُمْ فِي هَذِهِ الْوَقْعَةِ حَيَّانُ بن ضبيان السُّلَمِيُّ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ جَيْشًا فَقَتَلُوا الْخَوَارِجَ جَمِيعًا، ثُمَّ إِنَّ ابْنَ أُمِّ الْحَكَمِ أَسَاءَ السِّيرَةَ فِي أَهْلِ الْكُوفَةِ فَأَخْرَجُوهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ طَرِيدًا، فَرَجَعَ إِلَى خَالِهِ مُعَاوِيَةَ فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: لَأُوَلِّيَنَّكَ مِصْرًا هُوَ خَيْرٌ لَكَ، فَوَلَّاهُ مِصْرَ، فَلَمَّا سَارَ إِلَيْهَا تَلَقَّاهُ مُعَاوِيَةُ بن خديج عَلَى مَرْحَلَتَيْنِ مِنْ مِصْرَ، فَقَالَ لَهُ: ارْجِعْ إلى خالك معاوية، فلعمري لا ندعك تدخلها فتسير فيها وفينا سيرتك في إخواننا أَهْلِ الْكُوفَةِ، فَرَجَعَ ابْنُ أُمِّ الْحَكَمِ إِلَى معاوية ولحقه معاوية بن خديج وَافِدًا عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ وَجَدَ عِنْدَهُ أُخْتَهُ أُمَّ الْحَكَمِ، وَهِيَ أُمُّ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الَّذِي طَرَدَهُ أَهْلُ الْكُوفَةِ وَأَهْلُ مِصْرَ، فَلَمَّا رَآهُ مُعَاوِيَةُ قَالَ: بَخٍ بَخٍ، هَذَا معاوية بن خديج، فقالت أم الحكم: لأمر حبابة، تَسْمَعُ بِالْمُعَيْدِيِّ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَرَاهُ، فَقَالَ معاوية بن خديج: عَلَى رِسْلِكِ يَا أُمَّ الْحَكَمِ، أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ تَزَوَّجْتِ فَمَا أَكْرَمْتِ، وَوَلَدْتِ فَمَا أَنْجَبْتِ، أَرَدْتِ أَنْ يَلِيَ ابْنُكِ الْفَاسِقُ عَلَيْنَا فَيَسِيرَ فينا كما سار في إخواننا أَهْلِ الْكُوفَةِ، فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُرِيَهُ ذَلِكَ، ولو فعل ذلك لضربنا ضربا يطأطئ منه رأسه، - أو قال لضربنا ما صاصا منه- وإن كره ذلك الجالس- يعنى معاوية- فَالْتَفَتَ إِلَيْهَا مُعَاوِيَةُ فَقَالَ: كُفِّي.
قِصَّةٌ غَرِيبَةٌ
ذَكَرَهَا ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِهِ الْمُنْتَظَمِ بِسَنَدِهِ، وهو أن شابا من بنى عذرة جرت له قصة مع ابن أم الحكم، وَمُلَخَّصُهَا أَنَّ مُعَاوِيَةَ بَيْنَمَا هُوَ يَوْمًا عَلَى السِّمَاطِ إِذَا شَابٌّ مِنْ بَنِي عُذْرَةَ قَدْ تمثل بَيْنَ يَدَيْهِ فَأَنْشَدَهُ شِعْرًا مَضْمُونُهُ التَّشَوُّقُ إِلَى زَوْجَتِهِ سُعَادَ، فَاسْتَدْنَاهُ مُعَاوِيَةُ وَاسْتَحْكَاهُ عَنْ أَمْرِهِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنِّي كُنْتُ مُزَوَّجًا بِابْنَةِ عَمٍّ لِي، وَكَانَ لِي إِبِلٌ وَغَنَمٌ، وأنفقت ذَلِكَ عَلَيْهَا، فَلَمَّا قَلَّ مَا بِيَدِي رَغِبَ عَنِّي أَبُوهَا وَشَكَانِي إِلَى عَامِلِكَ بِالْكُوفَةِ، ابْنِ أُمِّ الْحَكَمِ، وَبَلَغَهُ جَمَالُهَا فَحَبَسَنِي فِي الْحَدِيدِ وَحَمَلَنِي عَلَى أَنْ أُطَلِّقَهَا، فَلَمَّا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا أعطاها عَامِلُكَ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ فَزَوَّجَهُ إِيَّاهَا، وَقَدْ أتيتك يا أمير المؤمنين وأنت غياث المحزون الملهوف المكروب، وَسَنَدُ الْمَسْلُوبِ، فَهَلْ مَنْ فَرَجٍ؟ ثُمَّ بَكَى وَأَنْشَأَ يَقُولُ:
فِي الْقَلْبِ مِنِّي نَارُ ... وَالنَّارُ فِيهَا شَرَارُ
وَالْجِسْمُ مِنِّي نَحِيلُ ... وَاللَّوْنُ فِيهِ اصْفِرَارُ
وَالْعَيْنُ تَبْكِي بِشَجْوٍ ... فَدَمْعُهَا مِدْرَارُ
وَالْحُبُّ ذا عبر ... فِيهِ الطَّبِيبُ يَحَارُ

(8/82)


حَمَلْتُ فِيهِ عَظِيمًا ... فَمَا عَلَيْهِ اصْطِبَارُ
فَلَيْسَ لَيْلِي بِلَيْلٍ ... وَلَا نَهَارِي نَهَارُ
قَالَ: فَرَقَّ لَهُ مُعَاوِيَةُ وَكَتَبَ إِلَى ابْنِ أُمِّ الْحَكَمِ يُؤَنِّبُهُ عَلَى ذَلِكَ وَيَعِيبُهُ عَلَيْهِ، وَيَأْمُرُهُ بِطَلَاقِهَا قَوْلًا وَاحِدًا، فَلَمَّا جَاءَهُ كِتَابُ مُعَاوِيَةَ تَنَفَّسَ الصُّعَدَاءَ وَقَالَ: وَدِدْتُ أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ خَلَّى بَيْنِي وَبَيْنَهَا سَنَةً ثُمَّ عَرَضَنِي عَلَى السَّيْفِ، وَجَعَلَ يُؤَامِرُ نَفْسَهُ عَلَى طَلَاقِهَا فَلَا يَقْدِرُ على ذلك ولا تحبيبه نَفْسُهُ، وَجَعَلَ الْبَرِيدُ الَّذِي وَرَدَ عَلَيْهِ بِالْكِتَابِ يَسْتَحِثُّهُ، فَطَلَّقَهَا وَأَخْرَجَهَا عَنْهُ وَسَيَّرَهَا مَعَ الْوَفْدِ إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَلَمَّا وَقَفَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ رَأَى منظرا جميلا، فلما استنطقها فإذا أَفْصَحُ النَّاسِ وَأَحْلَاهُمْ كَلَامًا، وَأَكْمَلُهُمْ جَمَالًا وَدَلَالًا، فَقَالَ لِابْنِ عَمِّهَا: يَا أَعْرَابِيُّ هَلْ مِنْ سُلُوٍّ عَنْهَا بِأَفْضَلِ الرَّغْبَةِ؟ قَالَ: نَعَمَ إِذَا فَرَّقْتَ بَيْنَ رَأْسِي وَجَسَدِي ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ: -
لَا تَجْعَلَنِّي وَالْأَمْثَالُ تُضْرَبُ بِي ... كَالْمُسْتَغِيثِ مِنَ الرَّمْضَاءِ بِالنَّارِ
ارْدُدْ سُعَادَ عَلَى حَيْرَانَ مُكْتَئِبٍ ... يُمْسِي وَيُصْبِحُ فِي هَمٍّ وَتِذْكَارِ
قَدْ شَفَّهُ قَلَقٌ مَا مِثْلُهُ قَلَقٌ ... وَأَسْعَرَ الْقَلْبُ مِنْهُ أَيُ إِسْعَارِ
وَاللَّهِ وَاللَّهِ لَا أَنْسَى مَحَبَّتَهَا ... حتى أغيب في رمسي وأحجارى
كَيْفَ السُّلُوُّ وَقَدْ هَامَ الْفُؤَادُ بِهَا ... وَأَصْبَحَ الْقَلْبُ عَنْهَا غَيْرَ صَبَّارِ؟
فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: فَإِنَّا نُخَيِّرُهَا بَيْنِي وَبَيْنَكَ وَبَيْنَ ابْنِ أُمِّ الْحَكَمِ فأنشأت تقول: -
هذا وإن أصبح في إطار ... وكان في نقص من اليسار
أحب عِنْدِي مِنْ أَبِي وَجَارِي ... وَصَاحِبِ الدِّرْهَمِ وَالدِّينَارِ
أَخْشَى إِذَا غَدَرْتُ حَرَّ النَّارِ
قَالَ: فَضَحِكَ مُعَاوِيَةُ وَأَمَرَ لَهُ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ وَمَرْكَبٍ وَوَطَاءٍ، وَلَمَّا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا زَوَّجَهُ بِهَا وَسَلَّمَهَا إِلَيْهِ. حَذَفْنَا مِنْهَا أَشْعَارًا كَثِيرَةً مُطَوَّلَةً.
وَجَرَتْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فُصُولٌ طَوِيلَةٌ بَيْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ وَالْخَوَارِجِ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كثيرا وجما غَفِيرًا، وَحَبْسَ مِنْهُمْ آخَرِينَ، وَكَانَ صَارِمًا كَأَبِيهِ مقداما في أمرهم وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
ذِكْرُ مَنْ تُوُفِّيَ فيها مِنَ الْأَعْيَانِ
تُوُفِّيَ فِي هَذَا الْعَامِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مُنَافٍ، الْقُرَشِيُّ الْأُمَوِيُّ، قُتِلَ أَبُوهُ يَوْمَ بَدْرٍ كَافِرًا، قَتَلَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَنَشَأَ سَعِيدٌ فِي حِجْرِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَانَ عُمْرُ سَعِيدٍ يَوْمَ مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِسْعَ سِنِينَ، وَكَانَ مِنْ سَادَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَالْأَجْوَادِ الْمَشْهُورِينَ، وَكَانَ جَدُّهُ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ- ويكنى بأبي أجنحة- رَئِيسًا فِي قُرَيْشٍ، يُقَالُ لَهُ

(8/83)


ذُو التَّاجِ، لِأَنَّهُ كَانَ إِذَا اعْتَمَّ لَا يَعْتَمُّ أَحَدٌ يَوْمَئِذٍ إِعْظَامًا لَهُ، وَكَانَ سَعِيدٌ هَذَا مِنْ عُمَّالِ عُمَرَ عَلَى السَّوَادِ، وَجَعَلَهُ عثمان فيمن يكتب المصاحف لفصاحته، وكان أشبه الناس لحية بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ فِي جُمْلَةِ الِاثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا، الَّذِينَ يَسْتَخْرِجُونَ الْقُرْآنَ وَيُعَلِّمُونَهُ وَيَكْتُبُونَهُ، مِنْهُمْ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ. وَاسْتَنَابَهُ عُثْمَانُ عَلَى الْكُوفَةِ بَعْدَ عَزْلِهِ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ، فَافْتَتَحَ طَبَرِسْتَانَ وَجُرْجَانَ، وَنَقَضَ الْعَهْدَ أَهْلُ أَذْرَبِيجَانَ فَغَزَاهُمْ فَفَتَحَهَا، فَلَمَّا مَاتَ عُثْمَانُ اعْتَزَلَ الْفِتْنَةَ فَلَمْ يَشْهَدِ الْجَمَلَ وَلَا صِفِّينَ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ لِمُعَاوِيَةَ وَفَدَ إِلَيْهِ فَعَتَبَ عَلَيْهِ فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ فَعَذَرَهُ فِي كَلَامٍ طَوِيلٍ جِدًّا، وَوَلَّاهُ الْمَدِينَةَ مَرَّتَيْنِ، وَعَزَلَهُ عَنْهَا مَرَّتَيْنِ بِمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، وَكَانَ سَعِيدٌ هَذَا لَا يَسُبُّ عَلِيًّا، وَمَرْوَانُ يَسُبُّهُ، وَرَوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَعُثْمَانَ، وَعَائِشَةَ، وَعَنْهُ ابناه عمرو بن سعيد الأشدق وأبو سَعِيدٍ وَسَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَغَيْرُهُمْ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْمُسْنَدِ وَلَا فِي الْكُتُبِ السِّتَّةِ شَيْءٌ. وَقَدْ كَانَ حَسَنَ السِّيرَةِ، جَيِّدَ السَّرِيرَةِ، وَكَانَ كَثِيرًا مَا يَجْمَعُ أَصْحَابَهُ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ فَيُطْعِمُهُمْ وَيَكْسُوهُمُ الْحُلَلَ، وَيُرْسِلُ إِلَى بُيُوتِهِمْ بِالْهَدَايَا وَالتُّحَفِ وَالْبِرِّ الْكَثِيرِ، وَكَانَ يُصِرُّ الصُّرَرَ فَيَضَعُهَا بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّينَ مِنْ ذَوِي الْحَاجَاتِ فِي الْمَسْجِدِ. قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: وَقَدْ كَانَتْ لَهُ دَارٌ بِدِمَشْقَ تُعْرَفُ بَعْدَهُ بِدَارِ نَعِيمٍ، وَحَمَّامِ نَعِيمٍ، بِنَوَاحِي الدِّيمَاسِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَأَقَامَ بِهَا إِلَى أَنْ مَاتَ، وَكَانَ كَرِيمًا جَوَادًا مُمَدَّحًا. ثُمَّ أَوْرَدَ شَيْئًا مِنْ حَدِيثِهِ مِنْ طَرِيقِ يَعْقُوبَ بْنِ سُفْيَانَ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْجُعْفِيُّ ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْأَجْلَحِ ثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ قَالَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «خِيَارُكُمْ فِي الْإِسْلَامِ خياركم في الجاهلية» وفي طَرِيقِ الزُّبَيْرِ بْنِ بَكَّارٍ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبَانٍ حَدَّثَنِي خَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ببرد. فقالت: إني نذرت أَنْ أُعْطِيَ هَذَا الثَّوْبَ أَكْرَمَ الْعَرَبِ، فَقَالَ: «أعطه هَذَا الْغُلَامَ» - يَعْنِي سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ- وَهُوَ وَاقِفٌ، فَلِذَلِكَ سُمِّيَتِ الثِّيَابَ السَّعِيدِيَّةَ وَأَنْشَدَ الْفَرَزْدَقُ قَوْلَهُ فِيهِ
تَرَى الْغُرَّ الْجَحَاجِحَ مِنْ قُرَيْشٍ ... إِذَا مَا الْخَطْبُ فِي الْحَدَثَانِ عَالَا
قِيَامًا يَنْظُرُونَ إِلَى سَعِيدٍ ... كَأَنَّهُمُ يَرَوْنَ بِهِ هِلَالَا
وَذَكَرَ أَنَّ عُثْمَانَ عَزَلَ عَنِ الْكُوفَةِ الْمُغِيرَةَ وَوَلَّاهَا سَعِيدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ، ثُمَّ عَزَلَهُ وولاها الوليد ابن عتبة، ثُمَّ عَزَلَهُ وَوَلَّى سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ، فَأَقَامَ بِهَا حِينًا، وَلَمْ تُحْمَدْ سِيرَتُهُ فِيهِمْ وَلَمْ يُحِبُّوهُ، ثُمَّ رَكِبَ مَالِكُ بْنُ الْحَارِثِ- وَهُوَ الْأَشْتَرُ النَّخَعِيُّ- فِي جَمَاعَةٍ إِلَى عُثْمَانَ وَسَأَلُوهُ أَنْ يَعْزِلَ عَنْهُمْ سَعِيدًا فَلَمْ يَعْزِلْهُ، وَكَانَ عِنْدَهُ بِالْمَدِينَةِ فَبَعْثَهُ إِلَيْهِمْ، وَسَبَقَ الْأَشْتَرُ إِلَى الْكُوفَةِ فَخَطَبَ النَّاسَ وَحَثَّهُمْ عَلَى مَنْعِهِ مِنَ الدخول إليهم، وركب الأشتر في جيش يمنعوه مِنَ الدُّخُولِ، قِيلَ تَلَقَّوْهُ إِلَى الْعُذَيْبِ، - وَقَدْ نزل سعيد بالرعثة- فَمَنَعُوهُ مِنَ الدُّخُولِ إِلَيْهِمْ، وَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى رَدُّوهُ إِلَى عُثْمَانَ، وَوَلَّى الْأَشْتَرُ أَبَا موسى

(8/84)


الْأَشْعَرِيَّ عَلَى الصَّلَاةِ وَالثَّغْرِ وَحُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ عَلَى الْفَيْءِ، فَأَجَازَ ذَلِكَ أَهْلُ الْكُوفَةِ وَبَعَثُوا إِلَى عُثْمَانَ فِي ذَلِكَ فَأَمْضَاهُ وَسَرَّهُ ذَلِكَ فيما أظهره، ولكن هذا كان أَوَّلَ وَهَنٍ دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ. وَأَقَامَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ بِالْمَدِينَةِ حَتَّى كَانَ زَمَنُ حَصْرِ عُثْمَانَ فَكَانَ عِنْدَهُ بِالدَّارِ، ثُمَّ لَمَّا رَكِبَ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ مَعَ عَائِشَةَ مِنْ مَكَّةَ يُرِيدُونَ قَتَلَةَ عُثْمَانَ رَكِبَ مَعَهُمْ، ثُمَّ انْفَرَدَ عَنْهُمْ هُوَ وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ وَغَيْرُهُمَا، فَأَقَامَ بِالطَّائِفِ حَتَّى انْقَضَتْ تِلْكَ الْحُرُوبُ كُلُّهَا، ثُمَّ وَلَّاهُ مُعَاوِيَةُ إِمْرَةَ الْمَدِينَةِ سَنَةَ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ، وَعَزَلَ مَرْوَانَ فَأَقَامَ سَبْعًا ثُمَّ رَدَّ مَرْوَانَ. وَقَالَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ جَابِرٍ قَالَ: بَعَثَنِي زِيَادٌ فِي شُغُلٍ إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنْ أُمُورِي قُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لِمَنْ يَكُونُ الْأَمْرُ مِنْ بَعْدِكَ؟ فَسَكَتَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ: يَكُونُ بَيْنَ جَمَاعَةٍ، إما كريم قريش سعيد بْنُ الْعَاصِ، وَأَمَّا فَتَى قُرَيْشٍ، حَيَاءً وَدَهَاءً وسخاء، عبد اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ، وَأَمَّا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ فرجل سيد كريم، وإما القاري لِكِتَابِ اللَّهِ الْفَقِيهُ فِي دِينِ اللَّهِ، الشَّدِيدُ في حدود الله، مروان بن الحكم، وأما رجل فقيه عبد الله بن عمر، وأما رجل يتردد الشَّرِيعَةَ مَعَ دَوَاهِي السِّبَاعِ وَيَرُوغُ رَوَغَانَ الثَّعْلَبِ فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ. وَرُوِّينَا أَنَّهُ اسْتَسْقَى يَوْمًا فِي بَعْضِ طُرُقِ الْمَدِينَةِ، فَأَخْرَجَ لَهُ رجل من دار مَاءً فَشَرِبَ، ثُمَّ بَعْدَ حِينٍ رَأَى ذَلِكَ يَعْرِضُ دَارَهُ لِلْبَيْعِ فَسَأَلَ عَنْهُ لِمَ يَبِيعُ دَارَهُ؟ فَقَالُوا: عَلَيْهِ دَيْنٌ أَرْبَعَةُ آلَافِ دِينَارٍ، فَبَعَثَ إِلَى غَرِيمِهِ فَقَالَ: هِيَ لَكَ عَلَيَّ، وَأَرْسَلَ إِلَى صَاحِبِ الدَّارِ فَقَالَ: اسْتَمْتِعْ بِدَارِكَ. وَكَانَ رَجُلٌ مِنَ الْقُرَّاءِ الَّذِينَ يُجَالِسُونَهُ قَدِ افْتَقَرَ وَأَصَابَتْهُ فَاقَةٌ شَدِيدَةٌ، فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: إِنَّ أَمِيرَنَا هَذَا يُوصَفُ بِكَرَمٍ، فَلَوْ ذَكَرْتَ لَهُ حَالَكَ فَلَعَلَّهُ يَسْمَحُ لَكَ بِشَيْءٍ؟ فَقَالَ: ويحك! لا تحلقى وَجْهِي، فَأَلَحَّتْ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، فَجَاءَ فَجَلَسَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ النَّاسُ عَنْهُ مَكَثَ الرَّجُلُ جَالِسًا فِي مَكَانِهِ، فَقَالَ لَهُ سَعِيدٌ: أَظُنُّ جُلُوسَكَ لِحَاجَةٍ؟ فَسَكَتَ الرَّجُلُ، فَقَالَ سَعِيدٌ لِغِلْمَانِهِ: انْصَرِفُوا، ثُمَّ قَالَ لَهُ سَعِيدٌ: لَمْ يَبْقَ غَيْرِي وَغَيْرُكَ، فَسَكَتَ، فَأَطْفَأَ الْمِصْبَاحَ ثُمَّ قَالَ لَهُ: رَحِمَكَ اللَّهُ لَسْتَ تَرَى وَجْهِي فَاذْكُرْ حَاجَتَكَ، فَقَالَ: أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ أَصَابَتْنَا فَاقَةٌ وَحَاجَةٌ فَأَحْبَبْتُ ذِكْرَهَا لَكَ فَاسْتَحْيَيْتُ، فَقَالَ لَهُ: إذا أصبحت فالق وكيلي فلانا، فَلَمَّا أَصْبَحَ الرَّجُلُ لَقِيَ الْوَكِيلَ فَقَالَ لَهُ الْوَكِيلُ: إِنَّ الْأَمِيرَ قَدْ أَمَرَ لَكَ بِشَيْءٍ فَأْتِ بِمَنْ يَحْمِلُهُ مَعَكَ، فَقَالَ:
مَا عِنْدِي مَنْ يَحْمِلُهُ، ثُمَّ انْصَرَفَ الرَّجُلُ إِلَى امْرَأَتِهِ فَلَامَهَا وَقَالَ: حَمَلْتِينِي عَلَى بَذْلِ وَجْهِيَ لِلْأَمِيرِ، فَقَدْ أَمَرَ لِي بِشَيْءٍ يَحْتَاجُ إِلَى مَنْ يَحْمِلُهُ، وَمَا أَرَاهُ أَمَرَ لِي إِلَّا بِدَقِيقٍ أَوْ طَعَامٍ، وَلَوْ كَانَ مَالًا لَمَا احْتَاجَ إِلَى مَنْ يَحْمِلُهُ، وَلَأَعْطَانِيهِ. فَقَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ: فمهما أعطاك فإنه بقوتنا فَخُذْهُ، فَرَجَعَ الرَّجُلُ إِلَى الْوَكِيلِ فَقَالَ لَهُ الْوَكِيلُ: إِنِّي أَخْبَرْتُ الْأَمِيرَ أَنَّهُ لَيْسَ لَكَ أَحَدٌ يَحْمِلُهُ، وَقَدْ أَرْسَلَ بِهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ السُّودَانِ يَحْمِلُونَهُ مَعَكَ، فَذَهَبَ الرَّجُلُ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى مَنْزِلِهِ إِذَا عَلَى رَأْسِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَقَالَ لِلْغِلْمَانِ: ضَعُوا مَا مَعَكُمْ وَانْصَرِفُوا، فَقَالُوا: إِنَّ الْأَمِيرَ قَدْ أَطْلَقْنَا لَكَ، فَإِنَّهُ مَا بَعَثَ

(8/85)


مَعَ خَادِمٍ هَدِيَّةً إِلَى أَحَدٍ إِلَّا كَانَ الْخَادِمُ الَّذِي يَحْمِلُهَا مِنْ جُمْلَتِهَا، قَالَ: فَحَسُنَ حَالُ ذَلِكَ الرَّجُلِ.
وَذَكَرَ ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّ زِيَادَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ بَعَثَ إِلَى سَعِيدِ بن العاص هدايا وأموالا وكتابا ذَكَرَ فِيهِ أَنَّهُ يَخْطُبُ إِلَيْهِ ابْنَتَهُ أُمَّ عثمان من آمنة بِنْتِ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ، فَلَمَّا وَصَلَتِ الْهَدَايَا وَالْأَمْوَالُ وَالْكِتَابُ قَرَأَهُ، ثُمَّ فَرَّقَ الْهَدَايَا فِي جُلَسَائِهِ، ثُمَّ كَتَبَ إِلَيْهِ كِتَابًا لَطِيفًا فِيهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ! قَالَ اللَّهُ تَعَالَى كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى 96: 6- 7 وَالسَّلَامُ: وَرُوِّينَا أَنَّ سَعِيدًا خَطَبَ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ عَلِيٍّ مِنْ فَاطِمَةَ، الَّتِي كَانَتْ تَحْتَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَأَجَابَتْ إِلَى ذَلِكَ وَشَاوَرَتْ أخويها فكرها ذلك، وفي رواية إنما ذكره ذَلِكَ الْحُسَيْنُ وَأَجَابَ الْحَسَنُ، فَهَيَّأَتْ دَارَهَا وَنَصَبَتْ سَرِيرًا وَتَوَاعَدُوا لِلْكِتَابِ، وَأَمَرَتِ ابْنَهَا زَيْدَ بْنَ عُمَرَ أَنْ يُزَوِّجَهَا مِنْهُ، فَبَعَثَ إِلَيْهَا بِمِائَةِ أَلْفٍ، وَفِي رِوَايَةٍ بِمِائَتَيْ أَلْفٍ مَهْرًا، وَاجْتَمَعَ عِنْدَهُ أَصْحَابُهُ لِيَذْهَبُوا مَعَهُ، فَقَالَ: إِنِّي أَكْرَهُ أن أخرج أمى فَاطِمَةَ، فَتَرَكَ التَّزْوِيجَ وَأَطْلَقَ جَمِيعَ ذَلِكَ الْمَالِ لَهَا. وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ وَعَبْدُ الْأَعَلَى بْنُ حَمَّادٍ: سَأَلَ أَعْرَابِيٌّ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ فَأَمَرَ لَهُ بِخَمْسِمِائَةٍ، فَقَالَ الْخَادِمُ: خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ أَوْ دِينَارٍ؟ فَقَالَ: إِنَّمَا أَمَرْتُكَ بِخَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَإِذْ قَدْ جَاشَ فِي نَفْسِكَ أَنَّهَا دَنَانِيرُ فَادْفَعْ إِلَيْهِ خَمْسَمِائَةِ دِينَارٍ، فَلَمَّا قَبَضَهَا الْأَعْرَابِيُّ جَلَسَ يبكى، فقال له:
ما لك؟ أَلَمْ تَقْبِضْ نَوَالَكَ؟ قَالَ: بَلَى وَاللَّهِ! وَلَكِنْ أَبْكِي عَلَى الْأَرْضِ كَيْفَ تَأْكُلُ مِثْلَكَ. وَقَالَ عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ: جَاءَ رَجُلٌ فِي حَمَالَةِ أَرْبَعِ دِيَاتٍ سَأَلَ فِيهَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ، فقيل: له عليك بالحسن ابن عَلِيٍّ، أَوْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، أَوْ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، أَوْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، فَانْطَلَقَ إِلَى الْمَسْجِدِ فَإِذَا سَعِيدٌ دَاخِلٌ إِلَيْهِ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَقِيلَ: سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ، فَقَصَدَهُ فَذَكَرَ لَهُ مَا أَقْدَمَهُ، فَتَرَكَهُ حَتَّى انْصَرَفَ مِنَ الْمَسْجِدِ إِلَى الْمَنْزِلِ فَقَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ: ائْتِ بِمَنْ يَحْمِلُ مَعَكَ؟ فَقَالَ: رَحِمَكَ اللَّهُ! إِنَّمَا سَأَلْتُكَ مَالًا لَا تَمْرًا، فَقَالَ: أَعْرِفُ، ائْتِ بِمَنْ يَحْمِلُ مَعَكَ؟ فَأَعْطَاهُ أَرْبَعِينَ أَلْفًا فَأَخَذَهَا الْأَعْرَابِيُّ وَانْصَرَفَ وَلَمْ يَسْأَلْ غَيْرَهُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ أجر للَّه الْمَعْرُوفُ إِذَا لَمْ يَكُنِ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ، فَأَمَّا إِذَا أَتَاكَ الرَّجُلُ تَكَادُ تَرَى دَمَهُ فِي وَجْهِهِ، أَوْ جَاءَكَ مُخَاطِرًا لَا يدرى أتعطيه أم تمنعه، فو الله لَوْ خَرَجْتَ لَهُ مِنْ جَمِيعِ مَالِكِ مَا كَافَأْتَهُ. وَقَالَ سَعِيدٌ: لِجَلِيسِي عَلَيَّ ثَلَاثٌ، إِذَا دنا رحبت به، وإذ جَلَسَ أَوْسَعْتُ لَهُ، وَإِذَا حَدَّثَ أَقْبَلْتُ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَيْضًا: يَا بُنَيَّ لَا تُمَازِحِ الشَّرِيفَ فَيَحْقِدَ عَلَيْكَ وَلَا الدَّنِيءَ فَتَهُونَ عَلَيْهِ، وَفِي رِوَايَةٍ فَيَجْتَرِئَ عَلَيْكَ. وَخَطَبَ يَوْمًا فَقَالَ: مَنْ رَزَقَهُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا فَلْيَكُنْ أَسْعَدَ النَّاسِ بِهِ، إِنَّمَا يَتْرُكُهُ لِأَحَدِ رَجُلَيْنِ، إِمَّا مُصْلِحٌ فَيَسْعَدُ بِمَا جَمَعْتَ لَهُ وَتَخِيبُ أَنْتَ، وَالْمُصْلِحُ لَا يَقِلُّ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَإِمَّا مُفْسِدٌ فَلَا يبقى له شيء. فقال أبو مُعَاوِيَةُ: جَمَعَ أَبُو عُثْمَانَ طُرَفَ الْكَلَامِ. وَرَوَى الْأَصْمَعِيُّ عَنْ حَكِيمِ بْنِ قَيْسٍ. قَالَ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ: مَوْطِنَانِ لَا أَسْتَحْيِي مِنْ رِفْقِي فِيهِمَا وَالتَّأَنِّي عِنْدَهُمَا، مُخَاطَبَتِي جَاهِلًا أَوْ سَفِيهًا، وَعِنْدَ مَسْأَلَتِي حَاجَةً لِنَفْسِي. وَدَخَلَتْ عَلَيْهِ

(8/86)


امْرَأَةٌ مِنَ الْعَابِدَاتِ وَهُوَ أَمِيرُ الْكُوفَةِ فَأَكْرَمهَا وَأَحْسَنَ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ: لَا جَعَلَ اللَّهُ لَكَ إِلَى لَئِيمٍ حَاجَةً، وَلَا زَالَتِ الْمِنَّةُ لَكَ فِي أَعْنَاقِ الْكِرَامِ، وَإِذَا أَزَالَ عَنْ كَرِيمٍ نِعْمَةً جَعَلَكَ سَبَبًا لِرَدِّهَا عَلَيْهِ. وَقَدْ كَانَ لَهُ عَشَرَةٌ مِنَ الْوَلَدِ ذُكُورًا وَإِنَاثًا، وَكَانَتْ إِحْدَى زَوْجَاتِهِ أُمَّ الْبَنِينَ بِنْتَ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ- أُخْتَ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ- وَلَمَّا حَضَرَتْ سَعِيدًا الْوَفَاةُ جَمَعَ بَنِيهِ وَقَالَ لَهُمْ: لَا يَفْقِدْنَ أَصْحَابِي غَيْرَ وَجْهِي، وَصِلُوهُمْ بِمَا كُنْتُ أَصِلُهُمْ بِهِ، وَأَجْرُوا عَلَيْهِمْ مَا كُنْتُ أُجْرِي عَلَيْهِمْ، وَاكْفُوهُمْ مُؤْنَةَ الطَّلَبِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ إِذَا طَلَبَ الْحَاجَةَ اضْطَرَبَتْ أَرْكَانُهُ، وَارْتَعَدَتْ فَرَائِصُهُ مخافة أن يرد، فو الله لَرَجُلٌ يَتَمَلْمَلُ عَلَى فِرَاشِهِ يَرَاكُمْ مَوْضِعًا لِحَاجَتِهِ أَعْظَمُ مِنَّةً عَلَيْكُمْ مِمَّا تُعْطُونَهُ. ثُمَّ أَوْصَاهُمْ بِوَصَايَا كَثِيرَةٍ، مِنْهَا أَنْ يُوَفُّوا مَا عَلَيْهِ من الدين والوعود، وأن لا يزوجوا إخوانهم إِلَّا مِنَ الْأَكْفَاءِ، وَأَنْ يُسَوِّدُوا أَكْبَرَهُمْ. فَتَكَفَّلَ بِذَلِكَ كُلِّهِ ابْنُهُ عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ الْأَشْدَقُ، فَلَمَّا مَاتَ دَفَنَهُ بِالْبَقِيعِ ثُمَّ رَكِبَ عَمْرٌو إِلَى مُعَاوِيَةَ فَعَزَّاهُ فِيهِ وَاسْتَرْجَعَ مُعَاوِيَةُ وَحَزِنَ عَلَيْهِ وَقَالَ: هَلْ تَرَكَ مِنْ دَيْنٍ عَلَيْهِ؟ قال: نعم! قال: وكم هو؟ قال: ثلاثمائة ألف درهم، وفي رواية ثلاثة آلَافِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: هِيَ عَلَيَّ! فقال ابنه: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّهُ أَوْصَانِي أَنْ لَا أَقْضِيَ دَيْنَهُ إِلَّا مِنْ ثَمَنِ أَرَاضِيهِ، فَاشْتَرَى مِنْهُ مُعَاوِيَةُ أَرَاضِيَ بِمَبْلَغِ الدَّيْنِ، وَسَأَلَ مِنْهُ عمرو أن يحملها إِلَى الْمَدِينَةِ فَحَمَلَهَا لَهُ، ثُمَّ شَرَعَ عَمْرٌو يَقْضِي مَا عَلَى أَبِيهِ مِنَ الدَّيْنِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ، فَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ طَالَبَهُ شَابٌّ مَعَهُ رُقْعَةٌ مِنْ أَدِيمٍ فِيهَا عِشْرُونَ أَلْفًا، فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: كَيْفَ اسْتَحْقَقْتَ هَذِهِ عَلَى أَبِي؟ فَقَالَ الشَّابُّ: إِنَّهُ كَانَ يَوْمًا يَمْشِي وَحْدَهُ فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَكُونَ مَعَهُ حَتَّى يَصِلَ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَقَالَ: أَبْغِنِي رُقْعَةً من أدم، فذهبت إلى الجزارين فَأَتَيْتُهُ بِهَذِهِ فَكَتَبَ لِي فِيهَا هَذَا الْمَبْلَغَ، وَاعْتَذَرَ بِأَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُ الْيَوْمَ شَيْءٌ. فَدَفَعَ إِلَيْهِ عَمْرٌو ذَلِكَ الْمَالَ وَزَادَهُ شَيْئًا كَثِيرًا، وَيُرْوَى أَنَّ مُعَاوِيَةَ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ: مَنْ تَرَكَ مِثْلَكَ لَمْ يَمُتْ، ثُمَّ قَالَ: رَحِمَ اللَّهُ أَبَا عُثْمَانَ، ثُمَّ قَالَ: قَدْ مَاتَ مَنْ هُوَ أَكْبَرُ مِنِّي وَمَنْ هُوَ أصغر منى، وأنشد قَوْلَ الشَّاعِرِ
إِذَا سَارَ مَنْ دُونَ امْرِئٍ وَأَمَامَهُ ... وَأَوْحَشَ مِنْ إِخْوَانِهِ فَهُوَ سَائِرُ
وَكَانَتْ وَفَاةُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، وقيل في التي بَعْدَهَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَتْ وَفَاتُهُ قَبْلَ عَبْدِ الله بن عامر بجمعة.
شداد بن أوس بن ثابت
ابن الْمُنْذِرِ بْنِ حَرَامٍ، أَبُو يَعْلَى الْأَنْصَارِيُّ الْخَزْرَجِيُّ، صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، وَهُوَ ابْنُ أَخِي حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ. وَحَكَى ابْنُ مَنْدَهْ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ أَنَّهُ قَالَ: شَهِدَ بَدْرًا. قَالَ ابْنُ مَنْدَهْ وَهُوَ وَهْمٌ، وَكَانَ مِنَ الِاجْتِهَادِ فِي الْعِبَادَةِ عَلَى جَانِبٍ عَظِيمٍ، كَانَ إِذَا أَخَذَ مضجعه تعلق عَلَى فِرَاشِهِ وَيَتَقَلَّبُ عَلَيْهِ وَيَتَلَوَّى كَمَا تَتَلَوَّى الْحَيَّةُ وَيَقُولُ: اللَّهمّ إِنَّ خَوْفَ النَّارِ قَدْ أَقْلَقَنِي، ثُمَّ يَقُومُ إِلَى صَلَاتِهِ. قَالَ عُبَادَةُ بن الصامت:

(8/87)


كَانَ شَدَّادٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْحِلْمَ. نَزَلَ شَدَّادٌ فِلَسْطِينَ وَبَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَمَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَقِيلَ: مَاتَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ، وَقِيلَ سَنَةَ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ. فاللَّه أَعْلَمُ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ
ابن كُرَيْزِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ حَبِيبِ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيٍّ الْقُرَشِيُّ الْعَبْشَمِيُّ، ابْنُ خَالِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وُلِدَ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَفَلَ فِي فِيهِ، فَجَعَلَ يَبْتَلِعُ رِيقُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «إنه لمسقى» ، فَكَانَ لَا يُعَالِجُ أَرْضًا إِلَّا ظَهَرَ لَهُ الْمَاءُ، وَكَانَ كَرِيمًا مُمَدَّحًا مَيْمُونَ النَّقِيبَةِ، اسْتَنَابَهُ عُثْمَانُ عَلَى الْبَصْرَةِ بَعْدَ أَبِي مُوسَى، وَوَلَّاهُ بِلَادَ فَارِسَ بَعْدَ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ، وعمره إذ ذاك خمسا وعشرين سَنَةً، فَفَتَحَ خُرَاسَانَ كُلَّهَا، وَأَطْرَافَ فَارِسَ وَسِجِسْتَانَ وَكَرْمَانَ وَبِلَادَ غَزْنَةَ، وَقُتِلَ كِسْرَى مَلِكُ الْمُلُوكِ فِي أَيَّامِهِ- وَهُوَ يَزْدَجِرْدُ- ثُمَّ أَحْرَمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ بِحَجَّةٍ، وَقِيلَ بِعُمْرَةٍ مِنْ تِلْكَ الْبِلَادِ شُكْرًا للَّه عَزَّ وَجَلَّ، وَفَرَّقَ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَمْوَالًا كَثِيرَةً جَزِيلَةً، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ لَبِسَ الْخَزَّ بِالْبَصْرَةِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَهُوَ أَوَّلُ مَنِ اتَّخَذَ الْحِيَاضَ بِعَرَفَةَ وَأَجْرَى إِلَيْهَا الْمَاءَ الْمَعِينَ وَالْعَيْنَ، وَلَمْ يَزَلْ عَلَى الْبَصْرَةِ حَتَّى قُتِلَ عُثْمَانُ، فَأَخَذَ أَمْوَالَ بَيْتِ الْمَالِ وَتَلَقَّى بِهَا طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ وَحَضَرَ مَعَهُمُ الْجَمَلَ، ثُمَّ سَارَ إِلَى دِمَشْقَ، وَلَمْ يُسْمَعْ لَهُ بِذِكْرٍ فِي صِفِّينَ، وَلَكِنْ وَلَّاهُ مُعَاوِيَةُ الْبَصْرَةَ بَعْدَ صُلْحِهِ مَعَ الْحَسَنِ، وَتُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بِأَرْضِهِ بِعَرَفَاتٍ، وَأَوْصَى إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ. لَهُ حَدِيثٌ وَاحِدٌ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْكُتُبِ شَيْءٌ، رَوَى مصعب الزبيري عن أبيه عَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ قَيْسٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابن عَامِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ» وَقَدْ زَوَّجَهُ مُعَاوِيَةُ بِابْنَتِهِ هِنْدَ، وَكَانَتْ جَمِيلَةً، فَكَانَتْ تَلِي خِدْمَتَهُ بِنَفْسِهَا مِنْ مَحَبَّتِهَا لَهُ، فَنَظَرَ يَوْمًا فِي الْمِرْآةِ فَرَأَى صَبَاحَةَ وَجْهِهَا وَشَيْبَةً فِي لِحْيَتِهِ فَطَلَّقَهَا، وَبَعَثَ إِلَى أَبِيهَا أَنْ يُزَوِّجَهَا بِشَابٍّ كَأَنَّ وَجْهَهُ وَرَقَةُ مُصْحَفٍ. تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقِيلَ بَعْدَهَا بِسَنَةٍ.
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ الله عنهما
وَهُوَ أَكْبَرُ وَلَدِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، قَالَهُ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ، قَالَ: وَكَانَتْ فِيهِ دُعَابَةٌ، وأمه أم رومان، وأم عائشة فهو شقيقها، بارز يوم بدر وأخذ مَعَ الْمُشْرِكِينَ، وَأَرَادَ قَتْلَ أَبِيهِ أَبِي بَكْرٍ، فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ أَبُوهُ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمْتِعْنَا بْنفْسِكَ» ثُمَّ أَسْلَمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْهُدْنَةِ، وَهَاجَرَ قَبْلَ الْفَتْحِ، وَرَزَقَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خَيْبَرَ كُلَّ سَنَةٍ أَرْبَعِينَ وَسْقًا، وَكَانَ مِنْ سَادَاتِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ الَّذِي دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ مَاتَ وَعَائِشَةُ مُسْنِدَتُهُ إِلَى صَدْرِهَا، وَمَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ سِوَاكٌ رطب فأخذه بَصَرَهُ، فَأَخَذَتْ عَائِشَةُ ذَلِكَ السِّوَاكَ فَقَضَمَتْهُ وَطَيَّبَتْهُ، ثُمَّ دَفَعَتْهُ إِلَى

(8/88)


رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَنَّ بِهِ أَحْسَنَ اسْتِنَانٍ ثُمَّ قَالَ: «اللَّهمّ فِي الرَّفِيقِ الْأَعَلَى» . ثُمَّ قَضَى. قَالَتْ:
فَجَمَعَ اللَّهُ بَيْنَ رِيقِي وَرِيقِهِ، وَمَاتَ بَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي، فِي بَيْتِي وَيَوْمِي لَمْ أَظْلِمْ فِيهِ أَحَدًا.
وَقَدْ شَهِدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَتْحَ الْيَمَامَةِ وَقَتَلَ يَوْمَئِذٍ سَبْعَةً، وَهُوَ الَّذِي قَتَلَ مُحَكَّمَ بْنَ الطُّفَيْلِ. صَدِيقَ مُسَيْلِمَةَ عَلَى بَاطِلِهِ- كَانَ مُحَكَّمٌ وَاقِفًا فِي ثُلْمَةِ حَائِطٍ فَرَمَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فسقط محكم، فدخل المسلمون من الثُّلْمَةِ فَخَلَصُوا إِلَى مُسَيْلِمَةَ فَقَتَلُوهُ. وَقَدْ شَهِدَ فَتْحَ الشَّامَ، وَكَانَ مُعَظَّمًا بَيْنَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَنُفِلَ لَيْلَى بِنْتَ الْجُودِيِّ مَلِكِ عَرَبِ الشَّامِ، نَفَلَهُ إِيَّاهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ أَمْرِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ مُفَصَّلًا.
وَقَدْ قَالَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ- وَلَمْ يُجَرَّبْ عَلَيْهِ كَذْبَةٌ قَطُّ- ذَكَرَ عَنْهُ حِكَايَةً أَنَّهُ لَمَّا جَاءَتْ بَيْعَةُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ لِمَرْوَانَ: جَعَلْتُمُوهَا وَاللَّهِ هِرَقْلِيَّةً وَكِسْرَوِيَّةً- يَعْنِي جَعَلْتُمْ مُلْكَ الْمَلِكِ لِمَنْ بَعْدَهُ مِنْ وَلَدِهِ- فَقَالَ لَهُ مَرْوَانُ: اسْكُتْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ فِيكَ وَالَّذِي قَالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ 46: 17 فقالت عائشة: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِينَا شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ، إِلَّا أَنَّهُ أَنْزَلَ عُذْرِي، وَيُرْوَى أَنَّهَا بَعَثَتْ إِلَى مَرْوَانَ تَعْتِبُهُ وَتُؤَنِّبُهُ وَتُخْبِرُهُ بِخَبَرٍ فِيهِ ذَمٌّ لَهُ وَلِأَبِيهِ لَا يَصِحُّ عَنْهَا، قَالَ الزبير ابن بَكَّارٍ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الزُّهْرِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ. قَالَ: بَعَثَ مُعَاوِيَةُ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ بَعْدَ أَنْ أَبَى الْبَيْعَةَ لِيَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، فَرَدَّهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَأَبَى أَنْ يَأْخُذَهَا، وَقَالَ: أَبِيعُ دِينِي بِدُنْيَايَ؟ وَخَرَجَ إِلَى مَكَّةَ فَمَاتَ بِهَا. وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيُّ:
ثَنَا أَبُو مُسْهِرٍ ثَنَا مَالِكٌ قَالَ: تُوُفِّيَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ فِي نَوْمَةٍ نَامَهَا. وَرَوَاهُ أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ فَذَكَرَهُ وَزَادَ: فَأَعْتَقَتْ عَنْهُ عَائِشَةُ رِقَابًا. وَرَوَاهُ الثَّوْرِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنِ الْقَاسِمِ فَذَكَرَهُ. وَلَمَّا تُوُفِّيَ كَانَتْ وَفَاتُهُ بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ الْحُبْشِيُّ- عَلَى سِتَّةِ أَمْيَالٍ مِنْ مَكَّةَ، وَقِيلَ اثْنَيْ عَشَرَ مِيلًا- فَحَمَلَهُ الرِّجَالُ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ حَتَّى دُفِنَ بِأَعَلَى مَكَّةَ، فَلَمَّا قَدِمَتْ عَائِشَةُ مَكَّةَ زَارَتْهُ وَقَالَتْ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْ شَهِدْتُكَ لَمْ أَبْكِ عَلَيْكَ، وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَكَ لَمْ أَنْقُلْكَ مِنْ مَوْضِعِكَ الَّذِي مِتَّ فِيهِ، ثُمَّ تَمَثَّلَتْ بِشِعْرِ مُتَمِّمِ بْنِ نُوَيْرَةَ فِي أَخِيهِ مَالِكٍ: -
وكنا كندمانى جديمة بُرْهَةً ... مِنَ الدَّهْرِ حَتَّى قِيلَ لَنْ يَتَصَدَّعَا
فَلَمَّا تفرقنا كأنى ومالك ... لِطُولِ اجْتِمَاعٍ لَمْ نَبِتْ لَيْلَةً مَعَا
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ. وَرَوَى ابْنُ سَعْدٍ أَنَّ ابْنَ عمر مرة رَأَى فُسْطَاطًا مَضْرُوبًا عَلَى قَبْرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ- ضَرَبَتْهُ عَائِشَةُ بَعْدَ مَا ارْتَحَلَتْ- فَأَمَرَ ابْنُ عُمَرَ بِنَزْعِهِ وَقَالَ: إِنَّمَا يُظِلُّهُ عَمَلُهُ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذَا الْعَامِ فِي قَوْلِ كَثِيرٍ مِنْ عُلَمَاءِ التَّارِيخِ، وَيُقَالُ إِنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ قَالَهُ الْوَاقِدِيُّ وَكَاتِبُهُ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وقيل سنة أربع وخمسين فاللَّه أعلم.

(8/89)


قصته مَعَ لَيْلَى بِنْتِ الْجُودِيِّ مَلِكِ عَرَبِ الشَّامِ
قَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الضحاك الحزامي عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَدِمَ الشَّامَ فِي تِجَارَةٍ- يَعْنِي فِي زَمَانِ جَاهِلِيَّتِهِ- فَرَأَى امْرَأَةً يُقَالُ لَهَا لَيْلَى ابْنةُ الْجُودِيِّ عَلَى طنفسة لها وحولها وَلَائِدُهَا فَأَعْجَبَتْهُ، قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: رَآهَا بِأَرْضِ بُصْرَى فَقَالَ فِيهَا:
تَذَكَّرْتُ لَيْلَى وَالسَّمَاوَةُ دُونَهَا ... فمال ابنة الْجُودِيِّ لَيْلَى وَمَا لِيَا
وَأَنَّى تَعَاطَى قَلْبُهُ حارثية ... تؤمن بصرى أو تحل الحوابيا
وإني بلاقيها بَلَى وَلَعَلَّهَا ... إِنِ النَّاسُ حَجُّوا قَابِلًا أَنْ تُوَافِيَا
قَالَ: فَلَمَّا بَعَثَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ جَيْشَهُ إِلَى الشَّامِ قَالَ لِلْأَمِيرِ عَلَى الْجَيْشِ: إِنْ ظَفِرْتَ بِلَيْلَى بِنْتِ الْجُودِيِّ عَنْوَةً فَادْفَعْهَا إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، فَظَفِرَ بِهَا فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ فَأُعْجِبَ بِهَا وَآثَرَهَا عَلَى نسائه حتى جعلن يشكونها إِلَى عَائِشَةَ، فَعَاتَبَتْهُ عَائِشَةُ عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ كَأَنِّي أَرْشُفُ بِأَنْيَابِهَا حَبَّ الرُّمَّانِ، فَأَصَابَهَا وَجَعٌ سَقَطَ لَهُ فُوهَا فَجَفَاهَا حَتَّى شَكَتْهُ إِلَى عَائِشَةَ، فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ لَقَدْ أَحْبَبْتَ لَيْلَى فَأَفْرَطْتَ، وَأَبْغَضَتْهَا فَأَفْرَطَتْ، فَإِمَّا أَنْ تُنْصِفَهَا وَإِمَّا أَنْ تُجَهِّزَهَا إِلَى أَهْلِهَا. قَالَ الزُّبَيْرِيُّ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ.
قَالَ: إِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ نَفَلَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ لَيْلَى بِنْتَ الْجُودِيِّ حِينَ فَتَحَ دِمَشْقَ، وَكَانَتِ ابْنةَ مَلِكِ دِمَشْقَ- يَعْنِي ابنة ملك العرب الذين حول دمشق- وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ
الْقُرَشِيُّ الْهَاشِمِيُّ ابْنُ عَمِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ أَصْغَرَ مِنْ أخيه عبد الله بسنة، وأمها أُمُّ الْفَضْلِ لُبَابَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْهِلَالِيَّةُ، وَكَانَ عُبَيْدُ اللَّهِ كَرِيمًا جَمِيلًا وَسِيمًا يُشْبِهُ أَبَاهُ فِي الْجَمَالِ، رُوِّينَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَانَ يَصِفُ عَبْدَ اللَّهِ وعبيد الله وكثيرا صفا ويقول: مَنْ سَبَقَ إِلَيَّ فَلَهُ كَذَا، فَيَسْتَبِقُونَ إِلَيْهِ فَيَقَعُونَ عَلَى ظَهْرِهِ وَصَدْرِهِ فَيُقَبِّلُهُمْ وَيَلْتَزِمُهُمْ» . وَقَدِ اسْتَنَابَهُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي أَيَّامِ خِلَافَتِهِ على اليمن. وحج بالناس سَنَةِ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ وَسَنَةَ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ، فَلَمَّا كَانَ سَنَةُ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ اخْتَلَفَ هُوَ وَيَزِيدُ بن سمرة الرَّهَاوِيُّ الَّذِي قَدِمَ عَلَى الْحَجِّ مِنْ جِهَةِ مُعَاوِيَةَ، ثُمَّ اصْطَلَحَا عَلَى شَيْبَةَ بْنِ عُثْمَانَ الْحَجَبِيِّ، فَأَقَامَ لِلنَّاسِ الْحَجَّ عَامَئِذٍ، ثُمَّ لَمَّا صارت الشكوة لِمُعَاوِيَةَ تَسَلَّطَ عَلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بُسْرُ بْنُ أَبِي أَرْطَاةَ فَقَتَلَ لَهُ وَلَدَيْنِ، وَجَرَتْ أُمُورٌ بِالْيَمَنِ قَدْ ذَكَرْنَا بَعْضَهَا. وَكَانَ يَقْدُمُ هُوَ وَأَخُوهُ عَبْدُ اللَّهِ الْمَدِينَةَ فَيُوسِعُهُمْ عَبْدُ اللَّهِ عِلْمًا، وَيُوسِعُهُمْ عُبَيْدُ اللَّهِ كَرَمًا. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ نَزَلَ فِي مَسِيرٍ لَهُ مَعَ مَوْلًى لَهُ عَلَى خَيْمَةِ رَجُلٍ مِنَ الْأَعْرَابِ، فَلَمَّا رَآهُ الْأَعْرَابِيُّ أَعْظَمَهُ وَأَجَلَّهُ، وَرَأَى حُسْنَهُ وَشَكْلَهُ، فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ:
وَيْحَكِ مَاذَا عِنْدَكِ لِضَيْفِنَا هَذَا؟ فَقَالَتْ: لَيْسَ عِنْدَنَا إِلَّا هَذِهِ الشُّوَيْهَةُ الَّتِي حَيَاةُ ابْنَتِكَ مِنْ لَبَنِهَا،

(8/90)


فَقَالَ: إِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ ذَبْحِهَا، فَقَالَتْ: أَتَقْتُلُ ابْنَتَكَ؟ فَقَالَ: وَإِنْ، فَأَخَذَ الشَّفْرَةَ وَالشَّاةَ وَجَعَلَ يَذْبَحُهَا وَيَسْلُخُهَا وَهُوَ يَقُولُ مُرْتَجِزًا:
يَا جَارَتِي لَا تُوقِظِي الْبُنَيَّهْ ... إِنْ تُوقِظِيهَا تَنْتَحِبْ عَلَيَّهْ
وَتَنْزِعِ الشَّفْرَةَ مِنْ يَدَيَّهْ
ثُمَّ هَيَّأَهَا طَعَامًا فَوَضَعَهَا بَيْنَ يَدَيْ عُبَيْدِ اللَّهِ وَمَوْلَاهُ فَعَشَّاهُمَا، وَكَانَ عُبَيْدُ اللَّهِ قَدْ سَمِعَ مُحَاوَرَتَهُ لِامْرَأَتِهِ فِي الشَّاةِ، فَلَمَّا أَرَادَ الِارْتِحَالَ قَالَ لِمَوْلَاهُ: وَيْلَكَ مَاذَا مَعَكَ مِنَ الْمَالِ؟ فَقَالَ: مَعِي خَمْسُمِائَةِ دِينَارٍ فَضَلَتْ مِنْ نَفَقَتِكَ، فَقَالَ: ادْفَعْهَا إِلَى الْأَعْرَابِيِّ، فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! تُعْطِيهِ خَمْسَمِائَةِ دِينَارٍ وَإِنَّمَا ذَبْحَ لَكَ شَاةً وَاحِدَةً تُسَاوِي خَمْسَةَ دَرَاهِمَ؟ فَقَالَ: وَيْحَكَ وَاللَّهِ لَهْوَ أَسْخَى مِنَّا وَأَجْوَدُ، لِأَنَّا إِنَّمَا أَعْطَيْنَاهُ بَعْضَ مَا نَمْلِكُ، وَجَادَ هُوَ عَلَيْنَا بِجَمِيعِ مَا يَمْلُكُ، وَآثَرَنَا عَلَى مُهْجَةِ نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ. فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةَ فَقَالَ: للَّه دَرُّ عُبَيْدِ اللَّهِ، مِنْ أَيِّ بَيْضَةٍ خَرَجَ؟ وَمَنْ أَيِّ شَيْءٍ دَرَجَ. قَالَ خَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ:
تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: تُوُفِّيَ فِي أَيَّامِ يزيد بن معاوية، قال أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ! تُوُفِّيَ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِالْمَدِينَةِ، وَقِيلَ بِالْيَمَنِ، وَلَهُ حَدِيثٌ وَاحِدٌ، قَالَ أَحْمَدُ: ثَنَا هشيم ثنا يحيى بن إِسْحَاقَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ عُبَيْدِ الله بن عباس قال: جاءت العميصا- أو الرميصا- إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَشْكُو زَوْجَهَا تَزْعُمُ أَنَّهُ لَا يَصِلُ إِلَيْهَا، فَمَا كَانَ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى جَاءَ زَوْجُهَا فَزَعَمَ أَنَّهَا كَاذِبَةً، وَأَنَّهَا تُرِيدُ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى زَوْجِهَا الْأَوَّلِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ لَكِ ذَلِكَ حَتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ رَجُلٌ غَيْرُهُ» وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ عَنْ على بن حجرة عن هشيم به. وممن توفى فيها
أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ الصَّدِيقِ
وزوجة رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَحَبُّ أَزْوَاجِهِ إِلَيْهِ، الْمُبَرَّأَةِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ رَضِيَ اللَّهُ عنها، وعن أبيها. وَأُمُّهَا هِيَ أُمُّ رُومَانَ بِنْتُ عَامِرِ بْنِ عُوَيْمِرٍ الْكِنَانِيَّةُ، تُكَنَّى عَائِشَةُ بِأُمِّ عَبْدِ اللَّهِ، قِيلَ كَنَّاهَا بِذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَلَّمَ بِابْنِ أُخْتِهَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَقِيلَ إِنَّهَا أَسْقَطَتْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُقْطًا فَسَمَّاهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَلَمْ يَتَزَوَّجْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكْرًا غَيْرَهَا، وَلَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فِي لِحَافِ امْرَأَةٍ غَيْرِهَا، وَلَمْ يَكُنْ فِي أَزْوَاجِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْهَا، تَزَوَّجَهَا بِمَكَّةَ بَعْدَ وَفَاةِ خَدِيجَةَ، وَقَدْ أَتَاهُ الْمَلَكُ بِهَا فِي المنام في سرقة من حريرة، مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، فَيَقُولُ: هَذِهِ زَوْجَتُكَ. قَالَ: «فَأَكْشِفُ عَنْكِ فَإِذَا هِيَ أَنْتِ، فَأَقُولُ، إِنْ يَكُنْ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يُمْضِهِ، فَخَطَبَهَا من أبيها فقال: يا رسول الله أو تحل لك؟ قال: نعم! قال: أو لست أخوك؟ قَالَ: بَلَى فِي الْإِسْلَامِ، وَهِيَ لِي حَلَالٌ، فَتَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَظِيَتْ عِنْدَهُ» . وَقَدْ قَدَّمْنَا ذَلِكَ فِي أَوَّلِ السِّيرَةِ، وَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسَنَتَيْنِ، وَقِيلَ بِسَنَةٍ وَنِصْفٍ، وَقِيلَ بِثَلَاثِ سِنِينَ، وَكَانَ عُمْرُهَا إِذْ ذَاكَ سِتَّ سِنِينَ ثُمَّ دَخَلَ بِهَا وَهِيَ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ بَعْدَ بَدْرٍ، فِي شَوَّالٍ مِنْ سَنَةِ ثِنْتَيْنِ مِنَ الْهِجْرَةِ فَأَحَبَّهَا. وَلَمَّا تَكَلَّمَ فِيهَا أَهْلُ الْإِفْكِ بِالزُّورِ

(8/91)


والبهتان، غار الله لها فأنزل بَرَاءَتَهَا فِي عَشْرِ آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ تُتْلَى على تعاقب الزمان. وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ مُفَصَّلًا فِيمَا سَلَفَ، وَشَرَحْنَا الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ الْمُرَيْسِيعِ، وَبَسَطْنَا ذَلِكَ أَيْضًا فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ وَمَقْنَعٌ، وللَّه الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَكْفِيرِ مَنْ قَذَفَهَا بَعْدَ بَرَاءَتِهَا، وَاخْتَلَفُوا فِي بَقِيَّةِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، هَلْ يَكْفُرُ مَنْ قَذَفَهُنَّ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَأَصَحُّهُمَا أَنَّهُ يَكْفُرُ، لِأَنَّ الْمَقْذُوفَةَ زَوْجَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاللَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا غَضِبَ لَهَا لِأَنَّهَا زَوْجَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهِيَ وَغَيْرُهَا مِنْهُنَّ سَوَاءٌ. وَمِنْ خَصَائِصِهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا كَانَ لَهَا فِي الْقَسْمِ يَوْمَانِ يَوْمُهَا وَيَوْمُ سَوْدَةَ حِينَ وَهَبَتْهَا ذَلِكَ تَقَرُّبًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّهُ مَاتَ فِي يَوْمِهَا وَفِي بَيْتِهَا وَبَيْنَ سَحْرِهَا وَنَحْرِهَا، وَجَمْعَ اللَّهُ بَيْنَ رِيقِهِ وَرِيقِهَا فِي آخر ساعة من ساعاته في الدُّنْيَا، وَأَوَّلِ سَاعَةٍ مِنَ الْآخِرَةِ، وَدُفِنَ فِي بَيْتِهَا. وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ مصعب بن إسحاق ابن طَلْحَةَ عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّهُ لَيُهَوِّنُ عَلَيَّ أَنِّي رَأَيْتُ بَيَاضَ كَفِّ عَائِشَةَ فِي الْجَنَّةِ» تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ. وَهَذَا فِي غَايَةِ مَا يَكُونُ مِنَ الْمَحَبَّةِ الْعَظِيمَةِ أَنَّهُ يَرْتَاحُ لِأَنَّهُ رَأَى بَيَاضَ كَفِّهَا أَمَامَهُ فِي الْجَنَّةِ. وَمِنْ خَصَائِصِهَا أَنَّهَا أَعْلَمُ نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَلْ هِيَ أَعْلَمُ النِّسَاءِ عَلَى الْإِطْلَاقِ. قَالَ الزُّهْرِيُّ:
لَوْ جُمِعَ عِلْمُ عَائِشَةَ إِلَى علم جميع أزواجه، وَعِلْمِ جَمِيعِ النِّسَاءِ لَكَانَ عِلْمُ عَائِشَةَ أَفْضَلَ. وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: كَانَتْ عَائِشَةُ أَفْقَهَ النَّاسِ، وَأَعْلَمَ النَّاسِ، وَأَحْسَنَ النَّاسِ رَأْيًا فِي الْعَامَّةِ. وَقَالَ عُرْوَةُ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَعْلَمَ بِفِقْهٍ وَلَا طِبٍّ وَلَا شِعْرٍ مِنْ عَائِشَةَ، وَلَمْ تَرْوِ امْرَأَةٌ وَلَا رَجُلٌ غَيْرُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْأَحَادِيثِ بِقَدْرِ رِوَايَتِهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَقَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ: «مَا أشكل علينا أصحاب محمد حَدِيثٌ قَطُّ فَسَأَلْنَا عَائِشَةَ إِلَّا وَجَدْنَا عِنْدَهَا مِنْهُ عِلْمًا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ أَبُو الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ: رَأَيْتُ مَشْيَخَةَ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ الْأَكَابِرَ يَسْأَلُونَهَا عَنِ الْفَرَائِضِ. فَأَمَّا مَا يَلْهَجُ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَعُلَمَاءِ الْأُصُولِ مِنْ إِيرَادِ حديث: «خذوا شطر دينكم عن هذه الْحُمَيْرَاءِ» فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ وَلَا هُوَ مُثْبَتٌ فِي شَيْءٍ مِنْ أُصُولِ الْإِسْلَامِ، وَسَأَلَتُ عَنْهُ شَيْخَنَا أَبَا الْحَجَّاجِ الْمِزِّيَّ فَقَالَ:
لَا أَصْلَ لَهُ. ثُمَّ لَمْ يَكُنْ فِي النِّسَاءِ أَعْلَمُ مِنْ تِلْمِيذَاتِهَا عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَحَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ، وَعَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ. وَقَدْ تفردت أم المؤمنين عائشة بمسائل عن الصَّحَابَةِ لَمْ تُوجَدْ إِلَّا عِنْدَهَا، وَانْفَرَدَتْ بِاخْتِيَارَاتٍ أيضا وردت أخبار بِخِلَافِهَا بِنَوْعٍ مِنَ التَّأْوِيلِ. وَقَدْ جَمَعَ ذَلِكَ غير واحد من الأئمة، فمن ذلك قال الشَّعْبِيُّ: كَانَ مَسْرُوقٌ إِذَا حَدَّثَ عَنْ عَائِشَةَ قال: حدثتني الصديقة بنت الصديق، حبيبة رسول اللَّهِ الْمُبَرَّأَةُ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ. وَثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ. قَالَ: «قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: عَائِشَةُ، قُلْتُ: وَمِنَ الرِّجَالِ؟ قَالَ: أَبُوهَا» وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَيْضًا عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم: «كمل

(8/92)


مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَفَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ» وَقَدِ اسْتَدَلَّ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى تَفْضِيلِ عائشة على خديجة بهذا الحديث، قال: فَإِنَّهُ دَخَلَ فِيهِ سَائِرُ النِّسَاءِ الثَّلَاثِ الْمَذْكُورَاتِ وَغَيْرُهُنَّ، وَيُعَضِّدُ ذَلِكَ أَيْضًا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ خَلِيلٍ ثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ. قَالَتْ: «اسْتَأْذَنَتْ هَالَةُ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ- أُخْتُ خَدِيجَةَ- عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَرَفَ اسْتِئْذَانَ خَدِيجَةَ فَارْتَاعَ لِذَلِكَ، فَقَالَ: اللَّهمّ هَالَةَ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَغِرْتُ وقلت: مَا تَذْكُرُ مِنْ عَجُوزٍ مِنْ عَجَائِزِ قُرَيْشٍ حمراء الشدقين هلكت في الدهر الأول، قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهَا؟» هَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، فَأَمَّا مَا يُرْوَى فِيهِ مِنَ الزِّيَادَةِ: «والله ما أبدلني خَيْرًا مِنْهَا» فَلَيْسَ يَصِحُّ سَنَدُهَا. وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ مُطَوَّلًا عِنْدَ وَفَاةِ خَدِيجَةَ، وَذَكَرْنَا حُجَّةَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى تَفْضِيلِهَا عَلَى عَائِشَةَ بِمَا أغنى عن إعادته هاهنا. وروى البخاري عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمًا: «يَا عَائِشُ هَذَا جِبْرِيلُ يُقْرِئُكِ السَّلَامَ، فَقُلْتُ: وَعَلَيْهِ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، تَرَى مَا لَا أَرَى» وَثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا يَتَحَرَّوْنَ بِهَدَايَاهُمْ يَوْمَ عَائِشَةَ، فاجتمع أزواجه إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ وَقُلْنَ لَهَا: قُولِي لَهُ يأمر الناس أن يهدوا له حَيْثُ كَانَ، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيَّ قُلْتُ لَهُ ذَلِكَ فَأَعْرَضَ عَنِّي، ثُمَّ قُلْنَ لَهَا ذَلِكَ فَقَالَتْ لَهُ فَأَعْرَضَ عَنْهَا، ثُمَّ لَمَّا دَارَ إِلَيْهَا قَالَتْ لَهُ فَقَالَ: يَا أُمَّ سَلَمَةَ لَا تُؤْذِينِي فِي عَائِشَةَ، فإنه والله ما نزل عليّ الوحي في بيت وَأَنَا فِي لِحَافِ امْرَأَةٍ مِنْكُنَّ غَيْرِهَا» وَذَكَرَ أَنَّهُنَّ بَعَثْنَ فَاطِمَةَ ابْنَتَهُ إِلَيْهِ فَقَالَتْ: «إِنَّ نِسَاءَكَ يَنْشُدُونَكَ الْعَدْلَ فِي ابْنةِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي قُحَافَةَ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّةُ أَلَّا تُحِبِّينَ مَنْ أُحِبُّ؟ قَالَتْ: قُلْتُ بَلَى! قَالَ: فَأَحِبِّي هَذِهِ» . ثُمَّ بَعَثْنَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ فَدَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ عَائِشَةُ فَتَكَلَّمَتْ زَيْنَبُ وَنَالَتْ مِنْ عَائِشَةَ، فَانْتَصَرَتْ عَائِشَةُ مِنْهَا وَكَلَّمَتْهَا حَتَّى أَفْحَمَتْهَا، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ إِلَى عَائِشَةَ وَيَقُولُ: «إِنَّهَا ابْنَةُ أَبِي بَكْرٍ» . وَذَكَرْنَا أَنَّ عَمَّارًا لَمَّا جَاءَ يَسْتَصْرِخُ النَّاسَ وَيَسْتَنْفِرُهُمْ إِلَى قِتَالِ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ أَيَّامَ الْجَمَلِ، صَعِدَ هُوَ وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ عَلَى مِنْبَرِ الْكُوفَةِ، فَسَمِعَ عَمَّارُ رَجُلًا يَنَالُ مِنْ عائشة فقال له:
اسكت مقبوحا منبوذا، والله إنها لزوجة رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ ابْتَلَاكُمْ لِيَعْلَمَ إِيَّاهُ تُطِيعُونَ أَوْ إِيَّاهَا. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو ثَنَا زَائِدَةُ ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خُثَيْمٍ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّهُ حَدَّثَهُ ذَكْوَانُ- حَاجِبُ عَائِشَةَ- أَنَّهُ جَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ يَسْتَأْذِنُ عَلَى عَائِشَةَ فَجِئْتُ- وعند رأسها عبد الله بن أخيها عَبْدِ الرَّحْمَنِ- فَقُلْتُ: هَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ يَسْتَأْذِنُ، فَأَكَبَّ عَلَيْهَا ابْنُ أَخِيهَا عَبْدُ اللَّهِ فَقَالَ: هَذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ يَسْتَأْذِنُ- وَهِيَ تَمُوتُ- فَقَالَتْ: دَعْنِي مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: يا أماه!! إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ مِنْ صَالِحِ بَنِيكِ يُسَلِّمُ عليك

(8/93)


وَيُوَدِّعُكِ، فَقَالَتِ: ائْذَنْ لَهُ إِنْ شِئْتَ، قَالَ فَأَدْخَلْتُهُ، فَلَمَّا جَلَسَ قَالَ: أَبْشِرِي فَقَالَتْ: بِمَاذَا؟
فَقَالَ: مَا بَيْنَكِ وَبَيْنَ أَنْ تَلْقَيْ مُحَمَّدًا وَالْأَحِبَّةَ إِلَّا أَنَّ تَخْرُجَ الرُّوحُ مِنَ الْجَسَدِ، وكنت أَحَبَّ نِسَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ، وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ إِلَّا طَيِّبًا، وَسَقَطَتْ قِلَادَتُكِ لَيْلَةَ الْأَبْوَاءِ فَأَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلّم وَأَصْبَحَ النَّاسُ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ التَّيَمُّمِ، فَكَانَ ذَلِكَ فِي سَبَبِكِ، وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الرُّخْصَةِ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ بَرَاءَتَكِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ، جَاءَ بها الروح الأمين، فأصبح ليس مَسْجِدٌ مِنْ مَسَاجِدِ اللَّهِ إِلَّا يُتْلَى فِيهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، فَقَالَتْ:
دَعْنِي مِنْكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا. وَالْأَحَادِيثُ فِي فَضَائِلِهَا وَمَنَاقِبِهَا كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَقَدْ كَانَتْ وَفَاتُهَا فِي هَذَا الْعَامِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ، وَقِيلَ قَبْلَهُ بِسَنَةٍ، وَقِيلَ بَعْدَهُ بِسَنَةٍ، وَالْمَشْهُورُ فِي رَمَضَانَ مِنْهُ وَقِيلَ فِي شَوَّالٍ، وَالْأَشْهَرُ لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ السَّابِعُ عَشَرَ مِنْ رَمَضَانَ، وَأَوْصَتْ أَنْ تُدْفَنَ بِالْبَقِيعِ لَيْلًا، وَصَلَّى عَلَيْهَا أَبُو هُرَيْرَةَ بَعْدَ صَلَاةِ الْوِتْرِ، وَنَزَلَ فِي قَبْرِهَا خَمْسَةٌ، وَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ وَعُرْوَةُ ابْنَا الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، مِنْ أُخْتِهَا أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، وَالْقَاسِمُ وَعَبْدُ اللَّهِ ابْنَا أَخِيهَا مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، وَكَانَ عُمْرُهَا يَوْمَئِذٍ سَبْعًا وَسِتِّينَ سَنَةً، لِأَنَّهُ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعمرها ثمان عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانَ عُمْرُهَا عَامَ الْهِجْرَةِ ثَمَانِ سنين أو تسع سنين، فاللَّه أعلم ورضى الله تعالى عن أبيها وعن الصحابة أجمعين.
ثم دخلت سنة تسع وخمسين
فِيهَا شَتَّى عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ الْجُهَنِيُّ فِي أرض الروم في البر، قاله الْوَاقِدِيُّ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا غَزْوٌ فِي الْبَحْرِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: بَلْ غَزَا فِي الْبَحْرِ عَامَئِذٍ جُنَادَةُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ. وَفِيهَا عَزَلَ مُعَاوِيَةُ ابْنَ أُمِّ الْحَكَمِ عَنِ الْكُوفَةِ لِسُوءِ سِيرَتِهِ فيهم، وولى عليهم النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ. وَفِيهَا وَلَّى مُعَاوِيَةُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ زِيَادٍ وِلَايَةَ خُرَاسَانَ وَعَزَلَ عَنْهَا سَعِيدَ بْنَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، فَصَارَ عُبَيْدُ الله على البصرة، وأخوه عبد الرحمن هذا على خراسان، وعباد بن زياد على سجستان، ولم يزل عبد الرحمن عليها واليا إِلَى زَمَنِ يَزِيدَ، فَقَدِمَ عَلَيْهِ بَعْدَ مَقْتَلِ الْحُسَيْنِ فَقَالَ لَهُ: كَمْ قَدِمْتَ بِهِ مِنَ هذا الْمَالِ؟ قَالَ: عِشْرُونَ أَلْفَ أَلْفٍ، فَقَالَ لَهُ: إِنْ شِئْتَ حَاسَبْنَاكَ، وَإِنْ شِئْتَ سَوَّغْنَاكَهَا وَعَزَلْنَاكَ عَنْهَا، عَلَى أَنْ تُعْطِيَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جعفر خمسمائة ألف درهم، قال: بل سوغها، وَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ فَأُعْطِيهُ مَا قُلْتَ وَمِثْلَهَا مَعَهَا، فَعَزَلَهُ وَوَلَّى غَيْرَهُ، وَبَعَثَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ زِيَادٍ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ بِأَلْفِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَقَالَ: خَمْسُمِائَةِ أَلْفٍ مِنْ جِهَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَخَمْسُمِائَةِ أَلْفٍ مِنْ قِبَلِي. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَفَدَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ عَلَى مُعَاوِيَةَ وَمَعَهُ أَشْرَافُ أهل البصرة والعراق، فاستأذن لهم عبد الله عليه على منازلهم منه، وكان آخِرَ مَنْ أَدْخَلَهُ عَلَى مُعَاوِيَةَ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ، - وَلَمْ يَكُنْ عُبَيْدُ اللَّهِ يُجِلُّهُ- فَلَمَّا رَأَى مُعَاوِيَةُ الْأَحْنَفَ رَحَّبَ بِهِ

(8/94)


وعظمه وأجله وأجلسه معه على السرير، ورفع منزلته، ثُمَّ تَكَلَّمَ الْقَوْمُ فَأَثْنَوْا عَلَى عُبَيْدِ اللَّهِ والأحنف ساكت، فقال له معاوية: مالك يا أبا بحر لا تتكلم؟ فقال له: إِنْ تَكَلَّمْتُ خَالَفْتُ الْقَوْمَ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: انْهَضُوا فَقَدْ عَزَلْتُهُ عَنْكُمْ فَاطْلُبُوا وَالِيًا تَرْضَوْنَهُ، فَمَكَثُوا أَيَّامًا يَتَرَدَّدُونَ إِلَى أَشْرَافِ بَنِي أُمَيَّةَ، يَسْأَلُونَ كل واحد أَنْ يَتَوَلَّى عَلَيْهِمْ فَلَمْ يَقْبَلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ ذَلِكَ، ثُمَّ جَمَعَهُمْ مُعَاوِيَةُ فَقَالَ: مَنِ اخْتَرْتُمْ؟
فَاخْتَلَفُوا عَلَيْهِ، وَالْأَحْنَفُ سَاكِتٌ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: مالك لَا تَتَكَلَّمُ؟ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ كنت تريد غير أهل بيتك فرأيك فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: قَدْ أَعَدْتُهُ إِلَيْكُمْ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: قَالَ الْأَحْنَفُ:
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ وَلَّيْتَ عَلَيْنَا مِنْ أَهْلِ بَيْتِكَ فَإِنَّا لَا نعدل بعبيد الله بن زياد أَحَدًا، وَإِنَّ وَلَّيْتَ عَلَيْنَا مِنْ غَيْرِهِمْ فَانْظُرْ لَنَا فِي ذَلِكَ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: قَدْ أَعَدْتُهُ إِلَيْكُمْ. ثُمَّ إِنَّ مُعَاوِيَةَ أَوْصَى عُبَيْدَ اللَّهِ ابن زياد بالأحنف خيرا، وقبح رأيه فيه وفي مُبَاعَدَتِهِ، فَكَانَ الْأَحْنَفُ بَعْدَ ذَلِكَ أَخَصَّ أَصْحَابِ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَلَمَّا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ لَمْ يَفِ لعبيد الله غير الأحنف بن قيس، والله أعلم.
قِصَّةُ يَزِيدَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ مُفَرِّغٍ الْحِمْيَرِيِّ مَعَ ابْنَيْ زِيَادٍ عُبَيْدِ اللَّهِ وَعَبَّادٍ
ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ مَعْمَرِ بْنِ الْمُثَنَّى وَغَيْرِهِ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ كَانَ شَاعِرًا، وَكَانَ مَعَ عَبَّادِ بْنِ زِيَادٍ بِسِجِسْتَانَ، فَاشْتَغَلَ عَنْهُ بِحَرْبِ التُّرْكِ، وَضَاقَ عَلَى النَّاسِ عَلَفُ الدَّوَابِّ، فَقَالَ ابْنُ مُفَرِّغٍ شِعْرًا يَهْجُو بِهِ ابن زِيَادٍ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ فَقَالَ: -
أَلَا لَيْتَ اللِّحَى كَانَتْ حَشِيشًا ... فَنَعْلِفُهَا خُيُولَ الْمُسْلِمِينَا
وَكَانَ عَبَّادُ بْنُ زِيَادٍ عَظِيمَ اللِّحْيَةِ كَبِيرَهَا جِدًّا، فَبَلَغَهُ ذَلِكَ فَغَضِبَ وَتَطَلَّبَهُ فَهَرَبَ مِنْهُ وَقَالَ فِيهِ قَصَائِدَ يَهْجُوهُ بِهَا كَثِيرَةً فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: -
إِذَا أَوْدَى مُعَاوِيَةُ بْنُ حَرْبٍ ... فَبَشِّرْ شِعْبَ قَعْبِكَ بِانْصِدَاعِ
فَأَشْهَدُ أَنَّ أُمَّكَ لَمْ تُبَاشِرْ ... أَبَا سُفْيَانَ وَاضِعَةَ الْقِنَاعِ
وَلَكِنْ كان أمرا فيه لبس ... على خوف شَدِيدٍ وَارْتِيَاعِ
وَقَالَ أَيْضًا: -
أَلَا أَبْلِغْ مُعَاوِيَةَ بْنَ حَرْبٍ ... مُغَلْغَلَةً مِنَ الرَّجُلِ الْيَمَانِي
أَتَغْضَبُ أَنْ يُقَالَ أَبُوكَ عَفٌّ ... وَتَرْضَى أَنْ يُقَالَ أَبُوكَ زَانِي
فَأَشْهَدُ أَنَّ رَحْمَكَ مِنْ زِيَادٍ ... كَرَحْمِ الْفِيلِ مِنْ وَلَدِ الْأَتَانِ
فَكَتَبَ عَبَّادُ بْنُ زِيَادٍ إِلَى أَخِيهِ عُبَيْدِ اللَّهِ وَهُوَ وَافِدٌ عَلَى مُعَاوِيَةَ بِهَذِهِ الْأَبْيَاتِ، فَقَرَأَهَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَلَى مُعَاوِيَةَ وَاسْتَأْذَنَهُ فِي قَتْلِهِ، فَقَالَ: لَا تَقْتُلْهُ، وَلَكِنْ أَدِّبْهُ وَلَا تَبْلُغْ بِهِ الْقَتْلَ، فَلَمَّا رَجَعَ عُبَيْدُ اللَّهِ إِلَى الْبَصْرَةِ اسْتَحْضَرَهُ وَكَانَ قَدِ اسْتَجَارَ بِوَالِدِ زَوْجَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ، وَهُوَ الْمُنْذِرُ بْنُ الْجَارُودِ، وكانت

(8/95)


ابِنْتُهُ بَحْرِيَّةُ عِنْدَ عُبَيْدِ اللَّهِ، فَأَجَارَهُ وَآوَاهُ إلى داره، وجاء الجارود مُسَلِّمًا عَلَى عُبَيْدِ اللَّهِ، وَبَعَثَ عُبَيْدُ اللَّهِ الشرط إلى دار المنذر فجاءوا بابن مفرع فَأُوقِفَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ الْمُنْذِرُ: إِنِّي قَدْ أَجَرْتُهُ، فَقَالَ: يَمْدَحُكَ وَيَمْدَحُ أَبَاكَ فَتَرْضَى عَنْهُ، وَيَهْجُونِي وَيَهْجُو أَبِي ثُمَّ تُجِيرُهُ عَلَيَّ، ثُمَّ أَمَرَ عُبَيْدُ اللَّهِ بِابْنِ مُفَرِّغٍ فَسُقِيَ دَوَاءً مُسْهِلًا وَحَمَلُوهُ عَلَى حِمَارٍ عَلَيْهِ إِكَافٌ وَجَعَلُوا يَطُوفُونَ بِهِ فِي الْأَسْوَاقِ وَهُوَ يَسْلَحُ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَنُفِيَ إِلَى سِجِسْتَانَ إِلَى عِنْدِ أَخِيهِ عَبَّادٍ، فَقَالَ ابْنُ مُفَرِّغٍ لِعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ: -
يَغْسِلُ الْمَاءُ مَا صَنَعْتَ وَقَوْلِي ... رَاسِخٌ مِنْكَ فِي الْعِظَامِ البوالي
فلما أمر عبيد الله بنفي ابن مفرغ إلى سجستان، كلم الْيَمَانِيُّونَ مُعَاوِيَةَ فِي أَمْرِ ابْنِ مُفَرِّغٍ، وَأَنَّهُ إنما بعثه إِلَى أَخِيهِ لِيَقْتُلَهُ، فَبَعَثَ مُعَاوِيَةُ إِلَى ابْنِ مفرغ وأحضره، فَلَمَّا وَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ بَكَى وَشَكَى إِلَى معاوية ما فعل به ابن زياد، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: إِنَّكَ هَجَوْتَهُ، أَلَسْتَ الْقَائِلَ كَذَا؟ أَلَسْتَ الْقَائِلَ كَذَا؟
فَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ قَالَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، وَذَكَرَ أَنَّ الْقَائِلَ ذَلِكَ هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَكَمِ أَخُو مَرْوَانَ، وَأَحَبَّ أَنْ يُسْنِدَهَا إِلَيَّ، فَغَضِبَ مُعَاوِيَةُ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَكَمِ وَمَنَعَهُ الْعَطَاءَ حَتَّى يَرْضَى عَنْهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ، وأنشد ابن مفرع مَا قَالَهُ فِي الطَّرِيقِ فِي مُعَاوِيَةَ يُخَاطِبُ رَاحِلَتَهُ:
عَدَسْ مَا لِعَبَّادٍ عَلَيْكِ إِمَارَةٌ ... نَجَوْتِ وَهَذَا تَحْمِلِينَ طَلِيقُ
لَعَمْرِي لَقَدْ نَجَّاكِ مِنْ هُوَّةِ الرَّدَى ... إِمَامٌ وَحَبْلٌ لِلْأَنَامِ وَثِيقُ
سَأَشْكُرُ مَا أَوْلَيْتَ مِنْ حُسْنِ نِعْمَةٍ ... وَمِثْلِي بِشُكْرِ الْمُنْعِمِينَ حَقِيقُ
فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: أَمَا لَوْ كُنَّا نَحْنُ الَّذِينَ هَجَوْتَنَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أذانا شيء يصل إليك، ولم نتعرض لذلك، فقال: يا أمير المؤمنين إنه ارتكب فىّ ما لم يرتكب مسلم من مسلم على غير حدث ولا جرم، قال: ألست القائل كذا؟ ألست القائل كذا؟ فقد عفونا عن جرمك، أما إنك لو إيانا تعامل لم يكن مما كان شيء فانظر الآن من تخاطب ومن تشاكل، فليس كل أحد يحتمل الهجاء، ولا تعامل أحدا إلا بالحسنى، وانظر لنفسك أي البلاد أحب إليك تقيم بها حتى نبعثك إليها، فَاخْتَارَ الْمَوْصِلَ فَأَرْسَلَهُ إِلَيْهَا، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُبَيْدُ اللَّهِ فِي الْقَدْومِ إِلَى الْبَصْرَةِ وَالْمُقَامِ بِهَا فأذن له. ثم إن عبد الرحمن رَكِبَ إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ فَاسْتَرْضَاهُ فَرَضِيَ عَنْهُ وَأَنْشَدَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: -
لَأَنْتَ زِيَادَةٌ فِي آلِ حَرْبٍ ... أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ إِحْدَى بَنَانِي
أَرَاكَ أخا وعما وابن عمّ ... فلا أَدْرِي بِغَيْبٍ مَا تَرَانِي
فَقَالَ لَهُ عُبَيْدٌ الله: أَرَاكَ وَاللَّهِ شَاعِرَ سُوءٍ، ثُمَّ رَضِيَ عَنْهُ وأعاد إليه ما كان منعه مِنَ الْعَطَاءِ.
قَالَ أَبُو مَعْشَرٍ وَالْوَاقِدِيُّ: وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عُثْمَانُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَكَانَ نَائِبَ الْمَدِينَةِ الْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَعَلَى الْكُوفَةِ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ، وَقَاضِيهَا شُرَيْحٌ، وَعَلَى الْبَصْرَةِ

(8/96)


عبيد الله بْنُ زِيَادٍ، وَعَلَى سِجِسْتَانَ عَبَّادُ بْنُ زِيَادٍ، وَعَلَى كَرْمَانَ شَرِيكُ بْنُ الْأَعْوَرِ الْحَارِثِيُّ، مِنْ قِبَلِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ.
ذِكْرُ مَنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْمَشَاهِيرِ وَالْأَعْيَانِ
قال بن الجوزي: تُوُفِّيَ فِيهَا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَالصَّحِيحُ قَبْلَهَا كَمَا تَقَدَّمَ
الْحُطَيْئَةُ الشَّاعِرُ
وَاسْمُهُ جَرْوَلُ بْنُ مالك بن جرول بن مالك بن جوية بْنِ مَخْزُومِ بْنِ مَالِكِ بْنِ قُطَيْعَةَ بْنِ عيسى ابن مُلَيْكَةَ، الشَّاعِرُ الْمُلَقَّبُ بِالْحُطَيْئَةِ لِقَصَرِهِ، أَدْرَكَ الْجَاهِلِيَّةَ وَأَسْلَمَ فِي زَمَنِ الصِّدِّيقِ، وَكَانَ كَثِيرَ الْهِجَاءِ حَتَّى يُقَالَ إِنَّهُ هَجَا أَبَاهُ وَأُمَّهُ، وَخَالَهُ وَعَمَّهُ، وَنَفْسَهُ وَعِرْسَهُ، فَمِمَّا قَالَ فِي أُمِّهِ قَوْلُهُ: -
تَنَحِّي فَاقْعُدِي عَنِّي بَعِيدًا ... أَرَاحَ اللَّهُ مِنْكِ الْعَالَمِينَا
أَغِرْبَالًا إِذَا اسْتُودِعْتِ سِرًّا ... وَكَانَونًا عَلَى الْمُتَحَدِّثِينَا
جَزَاكِ اللَّهُ شَرًّا مِنْ عَجُوزٍ ... وَلَقَّاكِ الْعُقُوقَ مِنَ الْبَنِينَا
وَقَالَ فِي أَبِيهِ وَعَمِّهِ وَخَالِهِ: -
لَحَاكَ اللَّهُ ثُمَّ لَحَاكَ حَقًّا ... أَبًا وَلَحَاكَ مِنْ عَمٍّ وَخَالِ
فَنِعْمَ الشَّيْخُ أَنْتَ لَدَى الْمَخَازِي ... وَبِئْسَ الشَّيْخُ أَنْتَ لَدَى الْمَعَالِي
وَمِمَّا قَالَ فِي نَفْسِهِ يَذُمُّهَا: -
أَبَتْ شفتاي اليوم أن تتكلما ... بِشَرٍّ فَمَا أَدْرِي لِمَنْ أَنَا قَائِلُهْ؟
أَرَى لِي وَجْهًا شَوَّهَ اللَّهُ خَلْقَهُ ... فَقُبِّحَ مِنْ وَجْهٍ وَقُبِّحَ حَامِلُهْ
وَقَدْ شَكَاهُ النَّاسُ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَأَحْضَرَهُ وَحَبَسَهُ، وكان سبب ذلك أن الزبرقان ابن بَدْرٍ شَكَاهُ لِعُمَرَ أَنَّهُ قَالَ لَهُ يَهْجُوهُ: -
دع المكارم لا نرحل لِبُغْيَتِهَا ... وَاقْعُدْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الطَّاعِمُ الْكَاسِي
فَقَالَ له عمر: ما أراه هجاك، أما نرضى أَنْ تَكُونَ طَاعِمًا كَاسِيًا؟ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّهُ لَا يَكُونُ هِجَاءٌ أَشَدَّ مِنْ هَذَا، فَبَعَثَ عُمَرُ إِلَى حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا هَجَاهُ وَلَكِنْ سَلَحَ عَلَيْهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ حبسه عمرو قال: يَا خَبِيثُ لَأَشْغَلَنَّكَ عَنْ أَعْرَاضِ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ شَفَعَ فِيهِ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ فَأَخْرَجَهُ وَأَخَذَ عَلَيْهِ الْعَهْدَ أَنْ لَا يَهْجُوَ النَّاسَ وَاسْتَتَابَهُ، وَيُقَالُ إِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَقْطَعَ لِسَانَهُ فَشَفَعُوا فِيهِ حَتَّى أَطْلَقَهُ، وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الضحاك بن عثمان الحرامى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُصْعَبٍ حَدَّثَنِي عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ عُثْمَانَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَمَرَ عُمَرُ بِإِخْرَاجِ الْحُطَيْئَةِ مِنَ الْحَبْسِ وَقَدْ كَلَّمَهُ فِيهِ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَغَيْرُهُ، فَأُخْرِجَ وَأَنَا حَاضِرٌ فَأَنْشَأَ يَقُولُ: -

(8/97)


ماذا تقول لا فراخ بذي مرح ... زعب الْحَوَاصِلِ لَا مَاءٌ وَلَا شَجَرُ
غَادَرْتَ كَاسِبَهُمْ فِي قَعْرِ مُظْلِمَةٍ ... فَارْحَمْ هَدَاكَ مَلِيكُ النَّاسِ يَا عُمَرُ
أَنْتَ الْإِمَامُ الَّذِي مِنْ بَعْدِ صَاحِبِهِ ... أَلْقَى إِلَيْكَ مَقَالِيدَ النُّهَى الْبَشَرُ
لَمْ يُؤْثِرُوكَ بِهَا إِذْ قَدَّمُوكَ لَهَا ... لَكِنْ لِأَنْفُسِهِمْ كَانَتْ بِكَ الْإِثَرُ
فَامْنُنْ عَلَى صِبْيَةٍ بِالرَّمْلِ مَسْكَنُهُمْ ... بَيْنَ الْأَبَاطِحِ يَغْشَاهُمْ بِهَا الْقَدْرُ
نَفْسِي فداؤك كم بيني وبينهم ... من عرض وادية يَعْمَى بِهَا الْخُبُرُ
قَالَ: فَلَمَّا قَالَ الْحُطَيْئَةُ: ماذا تقول الافراخ بذي مرح، بَكَى عُمَرُ، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ:
مَا أَظَلَّتِ الْخَضْرَاءُ وَلَا أَقَلَّتِ الْغَبْرَاءُ أَعْدَلَ مِنْ رجل يبكى على تركه الحطيئة. ثم ذكروا أَنَّهُ أَرَادَ قَطْعَ لِسَانِ الْحُطَيْئَةِ لِئَلَّا يَهْجُوَ بِهِ النَّاسَ فَأَجْلَسَهُ عَلَى كُرْسِيٍّ وَجِيءَ بِالْمُوسَى، فَقَالَ النَّاسُ: لَا يَعُودُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَشَارُوا إِلَيْهِ قُلْ: لَا أَعُودُ، فَقَالَ لَهُ عمر النجا، فَلَمَّا وَلَّى قَالَ لَهُ عُمَرُ: ارْجِعْ يَا حُطَيْئَةُ، فَرَجَعَ فَقَالَ لَهُ: كَأَنِّي بِكَ عِنْدَ شَابٍّ مِنْ قُرَيْشٍ قَدْ كَسَرَ لَكَ نُمْرُقَةً، وَبَسَطَ لَكَ أُخْرَى، وَقَالَ:
يَا حُطَيْئَةُ غَنِّنَا، فَانْدَفَعْتَ تُغَنِّيهِ بِأَعْرَاضِ النَّاسِ، قَالَ أَسْلَمُ: فَرَأَيْتُ الحطيئة بعد ذلك عند عبيد الله ابن عُمَرَ وَقَدْ كَسَرَ لَهُ نُمْرُقَةً وَبَسَطَ لَهُ أُخْرَى، وَقَالَ: يَا حُطَيْئَةُ غَنِّنَا فَانْدَفَعَ حُطَيْئَةُ يُغَنِّي، فَقُلْتُ لَهُ:
يَا حُطَيْئَةُ أَتَذْكُرُ يَوْمَ عُمَرَ حِينَ قَالَ لَكَ مَا قَالَ؟ فَفَزِعَ وَقَالَ: رَحِمَ اللَّهُ ذَلِكَ الْمَرْءَ، لَوْ كَانَ حَيًّا مَا فَعَلْنَا هَذَا، فَقَلَتُ لِعُبَيْدِ اللَّهِ: إِنِّي سَمِعْتُ أَبَاكَ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا فَكُنْتَ أَنْتَ ذَلِكَ الرَّجُلَ، وَقَالَ الزُّبَيْرُ:
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الضَّحَّاكِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ عُمَرُ لِلْحُطَيْئَةِ: دَعْ قَوْلَ الشِّعْرِ. قَالَ لَا أَسْتَطِيعُ، قال: لم؟
قال: هو مأكلة عيالي، وعلة لِسَانِي، قَالَ: فَدَعِ الْمِدْحَةَ الْمُجْحِفَةَ، قَالَ: وَمَا هِيَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ تَقُولُ بَنُو فُلَانٍ أَفْضَلُ مِنْ بَنِي فُلَانٍ، امْدَحْ وَلَا تُفَضِّلْ، فَقَالَ: أَنْتَ أَشْعَرُ مِنِّي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. وَمِنْ مَدِيحِهِ الْجَيِّدِ الْمَشْهُورِ قَوْلُهُ:
أَقِلُّوا عَلَيْهِمْ لَا أَبَا لِأَبِيكُمُ ... مِنَ اللَّوْمِ أَوْ سُدُّوا الْمَكَانَ الَّذِي سَدُّوا
أُولَئِكَ قَوْمِي إِنْ بَنَوْا أَحْسَنُوا الْبِنَا ... وَإِنْ عَاهَدُوا أَوْفُوا وَإِنْ عَقَدُوا شَدُّوا
وَإِنْ كَانَتِ النَّعْمَاءُ فِيهِمْ جَزَوْا بِهَا ... وَإِنْ أَنْعَمُوا لَا كَدَّرُوهَا وَلَا كَدُّوا
قَالُوا: وَلَمَّا احْتُضِرَ الْحُطَيْئَةُ قِيلَ لَهُ أَوْصِ قال أُوصِيكُمْ بِالشِّعْرِ، ثُمَّ قَالَ:
الشِّعْرُ صَعْبٌ وَطَوِيلٌ سُلَّمُهْ ... إِذَا ارْتَقَى فِيهِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهْ
زَلَّتْ بِهِ إِلَى الْحَضِيضِ قَدَمُهْ ... وَالشِّعْرُ لَا يستطيعه من يظلمه
أراد أن يعربه فأعجمه
قَالَ أَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمُنْتَظَمِ: تُوُفِّيَ الْحُطَيْئَةُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَذَكَرَ أَيْضًا فِيهَا وَفَاةَ

(8/98)


عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ كُرَيْزٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَالِكِ بْنِ الْقِشْبِ
وَاسْمُهُ جُنْدَبُ بْنُ نَضْلَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَافِعٍ الْأَزْدِيُّ، أَبُو محمد حليف بنى عبد الْمُطَّلِبِ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ بُحَيْنَةَ، وَهِيَ أُمُّهُ بُحَيْنَةُ بِنْتُ الْأَرَتِّ، وَاسْمُهُ الْحَارِثُ بْنُ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، أَسْلَمَ قَدِيمًا، وَصَحِبَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ ناسكا قواما صوّاما، وَكَانَ مِمَّنْ يَسْرُدُ صَوْمَ الدَّهْرِ كُلِّهِ، قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: كَانَ يَنْزِلُ بَطْنَ رِيمٍ عَلَى ثَلَاثِينَ مِيلًا مِنَ الْمَدِينَةِ، وَمَاتَ فِي عَمَلِ مَرْوَانَ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ، مَا بَيْنَ سَنَةِ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ إِلَى ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ، وَالْعَجَبُ أَنَّ ابْنَ الْجَوْزِيِّ نَقَلَ مِنْ كَلَامِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ، ثُمَّ إِنَّهُ ذَكَرَ وَفَاتَهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ- يَعْنِي سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ فاللَّه أَعْلَمُ
قَيْسُ بْنُ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ الْأَنْصَارِيُّ الْخَزْرَجِيُّ
صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ كَأَبِيهِ، لَهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ حَدِيثٌ، وَهُوَ الْقِيَامُ لِلْجِنَازَةِ، وَلَهُ فِي الْمُسْنَدِ حَدِيثٌ فِي صَوْمِ عَاشُورَاءَ، وَحَدِيثُ غَسْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دَارِهِمْ وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَخَدَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرٌ سِنِينَ، وَثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْزِلَةِ صَاحِبِ الشُّرْطَةِ مِنَ الْأَمِيرِ. وَحَمَلَ لِوَاءُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ الْغَزَوَاتِ، وَاسْتَعْمَلَهُ عَلَى الصَّدَقَةِ، وَلَمَّا بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجِرَّاحِ وَمَعَهُ ثَلَاثُمِائَةٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَأَصَابَهُمْ ذَلِكَ الْجَهْدُ الْكَثِيرُ فَنَحَرَ لَهُمْ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ تِسْعَ جَزَائِرَ، حَتَّى وَجَدُوا تِلْكَ الدَّابَّةَ عَلَى سَيْفِ الْبَحْرِ فَأَكَلُوا مِنْهَا، وَأَقَامُوا عَلَيْهَا شَهْرًا حَتَّى سَمِنُوا، وَكَانَ قَيْسٌ سَيِّدًا مُطَاعًا كَرِيمًا مُمَدَّحًا شُجَاعًا، وَلَّاهُ عَلِيٌّ نِيَابَةَ مِصْرَ، وَكَانَ يُقَاوِمُ بِدَهَائِهِ وَخَدِيعَتِهِ وَسِيَاسَتِهِ لِمُعَاوِيَةَ وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَلَمْ يَزَلْ مُعَاوِيَةُ يَعْمَلُ عَلَيْهِ حَتَّى عَزَلَهُ [عَلِيٌّ] عَنْ مِصْرَ وَوَلَّى عَلَيْهَا مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، فَاسْتَخَفَّهُ معاوية، ولم يزل حتى أخذ منه مصر كما قدمنا. وَأَقَامَ قَيْسٌ عِنْدَ عَلِيٍّ فَشَهِدَ مَعَهُ صِفِّينَ وَالنَّهْرَوَانَ وَلَزِمَهُ حَتَّى قُتِلَ ثُمَّ صَارَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا اجْتَمَعَتِ الْكَلِمَةُ عَلَى مُعَاوِيَةَ جَاءَهُ لِيُبَايِعَهُ كَمَا بَايَعَهُ أَصْحَابُهُ، قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ قَدِمَ قَيْسُ بْنُ سعد على معاوية فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: وَأَنْتَ يَا قَيْسُ تُلْجِمُ عَلَيَّ مَعَ مَنْ أَلْجَمَ؟ أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ كنت أحب أن لا تأتينى هَذَا الْيَوْمَ إِلَّا وَقَدْ ظَفِرَ بِكَ ظُفْرٌ مِنْ أَظَافِرِي مُوجِعٌ، فَقَالَ لَهُ قَيْسٌ: وَأَنَا وَاللَّهِ قَدْ كُنْتُ كَارِهًا أَنْ أَقُومَ فِي هَذَا الْمُقَامِ فَأُحَيِّيَكَ بِهَذِهِ التَّحِيَّةِ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ:
وَلِمَ؟ وَهَلْ أَنْتَ إِلَّا حَبْرٌ مِنْ أحبار اليهود؟ فَقَالَ لَهُ قَيْسٌ: وَأَنْتَ يَا مُعَاوِيَةُ كُنْتَ صَنَمًا مِنْ أَصْنَامِ الْجَاهِلِيَّةِ، دَخَلَتْ فِي الْإِسْلَامِ كَارِهًا، وَخَرَجْتَ مِنْهُ طَائِعًا، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: اللَّهمّ غَفْرًا، مُدَّ يَدَكَ، فَقَالَ لَهُ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ: إِنْ شِئْتَ. زِدْتَ وَزِدْتُ. وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: قَالَتْ عَجُوزٌ لِقَيْسٍ: أَشْكُو إِلَيْكَ قلة فأر بيتى، فَقَالَ قَيْسٌ: مَا أَحْسَنَ هَذِهِ الْكِنَايَةَ!! امْلَئُوا بَيْتَهَا خُبْزًا وَلَحْمًا وَسَمْنًا وَتَمْرًا.

(8/99)


وقال غيره: كانت لَهُ صَحْفَةٌ يُدَارُ بِهَا حَيْثُ دَارَ، وَكَانَ يُنَادِي لَهُ مُنَادٍ: هَلُمُّوا إِلَى اللَّحْمِ وَالثَّرِيدِ.
وَكَانَ أَبُوهُ وَجَدُّهُ مِنْ قَبْلِهِ يَفْعَلَانِ كَفِعْلِهِ، وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: بَاعَ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ مِنْ مُعَاوِيَةَ أَرْضًا بِتِسْعِينَ أَلْفًا، فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ فَنَادَى مُنَادِيهِ: مَنْ أَرَادَ الْقَرْضَ فَلْيَأْتِ، فَأَقْرَضَ مِنْهَا خَمْسِينَ أَلْفًا وَأَطْلَقَ الْبَاقِيَ، ثُمَّ مَرِضَ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَلَّ عُوَّادُهُ، فَقَالَ لِزَوْجَتِهِ- قُرَيْبَةَ بِنْتِ أَبِي عَتِيقٍ أُخْتِ أَبِي بَكْرٍ الصديق- إني أرى قلة من عادني فِي مَرَضِي هَذَا، وَإِنِّي لَأَرَى ذَلِكَ مِنْ أجل مالي عَلَى النَّاسِ مِنَ الْقَرْضِ، فَبَعَثَ إِلَى كُلِّ رَجُلٍ مِمَّنْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ بِصَكِّهِ المكتوب عليه، فوهبهم ماله عَلَيْهِمْ، وَقِيلَ: إِنَّهُ أَمَرَ مُنَادِيَهُ فَنَادَى: مَنْ كَانَ لِقَيْسِ بْنِ سَعْدٍ عَلَيْهِ دِينٌ فَهُوَ مِنْهُ فِي حِلٍّ، فَمَا أَمْسَى حَتَّى كُسِرَتْ عَتَبَةُ بَابِهِ مِنْ كَثْرَةِ الْعُوَّادِ، وَكَانَ يَقُولُ: اللَّهمّ ارْزُقْنِي مَالًا وَفَعَالًا، فَإِنَّهُ لَا يَصْلُحُ الْفَعَالُ إِلَّا بِالْمَالِ. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: اقْتَرَضَ رَجُلٌ مِنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ ثَلَاثِينَ أَلْفًا فَلَمَّا جَاءَ لِيُوَفِّيَهُ إِيَّاهَا قَالَ لَهُ قَيْسٌ: إنا قوم ما أعطينا أحدا شيئا فنرجع فِيهِ. وَقَالَ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ: اخْتَلَفَ ثَلَاثَةٌ عِنْدَ الْكَعْبَةِ فِي أَكْرَمِ أَهْلِ زَمَانِهِمْ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَقَالَ الْآخَرُ: قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ، وَقَالَ الْآخَرُ: عَرَابَةُ الْأَوْسِيُّ، فَتَمَارَوْا فِي ذَلِكَ حَتَّى ارْتَفَعَ ضَجِيجُهُمْ عِنْدَ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ لَهُمْ رَجُلٌ: فَلْيَذْهَبْ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ إِلَى صَاحِبِهِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ أَكْرَمُ مِنْ غَيْرِهِ، فَلْيَنْظُرْ مَا يُعْطِيهِ وَلْيُحْكَمْ عَلَى الْعَيَانِ. فَذَهَبَ صَاحِبُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ إِلَيْهِ فَوَجَدَهُ قَدْ وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الْغَرْزِ لِيَذْهَبَ إِلَى ضَيْعَةٍ لَهُ، فَقَالَ لَهُ: يَا ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ ابْنُ سَبِيلٍ وَمُنْقَطَعٌ بِهِ، قَالَ: فَأَخْرَجَ رِجْلَهُ مِنَ الْغَرْزِ وَقَالَ: ضَعْ رِجْلَكَ وَاسْتَوِ عَلَيْهَا فَهِيَ لَكَ بِمَا عَلَيْهَا، وَخُذْ مَا فِي الْحَقِيبَةِ وَلَا تُخْدَعَنَّ عَنِ السَّيْفِ فَإِنَّهُ مِنْ سُيُوفِ عَلِيٍّ، فَرَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ بِنَاقَةٍ عَظِيمَةٍ وَإِذَا فِي الْحَقِيبَةِ أَرْبَعَةُ آلَافِ دِينَارٍ، وَمَطَارِفُ مِنْ خَزٍّ وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَأَجَلُّ ذَلِكَ سَيْفُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طالب. وَمَضَى صَاحِبُ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ إِلَيْهِ فَوَجَدَهُ نَائِمًا، فَقَالَتْ لَهُ الْجَارِيَةُ: مَا حَاجَتُكَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: ابْنُ سَبِيلٍ وَمُنْقَطَعٌ بِهِ، قَالَتْ: فَحَاجَتُكَ أَيْسَرُ مِنْ إِيقَاظِهِ، هَذَا كِيسٌ فِيهِ سَبْعُمِائَةِ دِينَارٍ مَا فِي دَارِ قَيْسٍ مَالٌ غَيْرُهُ الْيَوْمَ، وَاذْهَبْ إِلَى مَوْلَانَا فِي مَعَاطِنِ الْإِبِلِ فَخُذْ لَكَ نَاقَةً وَعَبْدًا، وَاذْهَبْ رَاشِدًا. فَلَمَّا استيقظ قيس من نومه أَخْبَرَتْهُ الْجَارِيَةُ بِمَا صَنَعَتْ فَأَعْتَقَهَا شُكْرًا عَلَى صنيعها ذلك، وقال:
هلا أيقظتينى حتى أعطيه ما يكفيه أبدا، فلعل الّذي أعطيتيه لَا يَقَعُ مِنْهُ مَوْقِعَ حَاجَتِهِ. وَذَهَبَ صَاحِبُ عَرَابَةَ الْأَوْسِيِّ إِلَيْهِ فَوَجَدَهُ وَقَدْ خَرَجَ مِنْ مَنْزِلِهِ يُرِيدُ الصَّلَاةَ وَهُوَ يَتَوَكَّأُ عَلَى عَبْدَيْنِ له- وكان قد كُفَّ بَصَرُهُ- فَقَالَ لَهُ: يَا عَرَابَةُ، فَقَالَ: قُلْ، فَقَالَ: ابْنُ سَبِيلٍ وَمُنْقَطَعٌ بِهِ، قَالَ: فخلى عن العبدين ثم صفق بيديه، باليمنى عَلَى الْيُسْرَى، ثُمَّ قَالَ أَوَّهْ أَوَّهْ، وَاللَّهِ مَا أَصْبَحْتُ وَلَا أَمْسَيْتُ وَقَدْ تَرَكَتِ الْحُقُوقُ من مال عرابة شيئا، ولكن خذ هذين العبدين، قال: مَا كُنْتُ لِأَفْعَلَ، فَقَالَ: إِنْ لَمْ تَأْخُذْهُمَا فَهُمَا حُرَّانِ، فَإِنْ شِئْتَ فَأَعْتِقْ، وَإِنْ شِئْتَ فَخُذْ. وَأَقْبَلَ يَلْتَمِسُ الْحَائِطَ بِيَدِهِ، قَالَ: فَأَخَذَهُمَا وجاء

(8/100)


بهما إلى صاحبيه، قَالَ فَحَكَمَ النَّاسُ عَلَى أَنَّ ابْنَ جَعْفَرٍ قَدْ جَادَ بِمَالٍ عَظِيمٍ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمُسْتَنْكَرٍ لَهُ، إِلَّا أَنَّ السَّيْفَ أَجَلُّهَا. وَأَنَّ قَيْسًا أَحَدُ الْأَجْوَادِ حَكَّمَ مَمْلُوكَتَهُ فِي مَالِهِ بغير علمه واستحسن فعلها وعتقها شكرا لها على ما فعلت، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ أَسْخَى الثَّلَاثَةِ عَرَابَةُ الْأَوْسِيُّ، لأنه جاد بجميع ما يملكه، وذلك جُهْدٌ مِنْ مُقِلٍّ. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ عَمْرٍو عَنْ أَبِي صَالِحٍ قَالَ: قَسَّمَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ مَالَهُ بَيْنَ أَوْلَادِهِ وَخَرَجَ إِلَى الشَّامِ فَمَاتَ بِهَا، فَوُلِدَ لَهُ وَلَدٌ بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ إِلَى قَيْسِ ابن سَعْدٍ فَقَالَا: إِنَّ أَبَاكَ قَسَّمَ مَالَهُ وَلَمْ يَعْلَمْ بِحَالِ هَذَا الْوَلَدِ إِذْ كَانَ حَمْلًا، فَاقْسِمُوا لَهُ مَعَكُمْ، فَقَالَ قَيْسٌ: إِنِّي لَا أُغَيِّرُ مَا فَعَلَهُ سَعْدٌ وَلَكِنَّ نَصِيبِي لَهُ. وَرَوَاهُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ محمد ابن سِيرِينَ فَذَكَرَهُ. وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ فَذَكَرَهُ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ:
ثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ ثَنَا مِسْعَرٌ عَنْ مَعْبَدِ بْنِ خَالِدٍ. قَالَ: كَانَ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ لَا يَزَالُ هَكَذَا رَافِعًا أُصْبُعَهُ الْمُسَبِّحَةَ- يَعْنِي يَدْعُو- وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ: ثَنَا الْجَرَّاحُ بْنُ مَلِيحٍ ثَنَا أَبُو رَافِعٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ. قَالَ: لَوْلَا إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «الْمَكْرُ وَالْخَدِيعَةُ فِي النَّارِ» : لَكُنْتُ مِنْ أَمْكَرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: دُهَاةُ الْعَرَبِ حِينَ ثَارَتِ الْفِتْنَةُ خَمْسَةٌ، مُعَاوِيَةُ، وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، وَقَيْسُ بْنُ سَعْدٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُدَيْلٍ وَكَانَا مَعَ عَلِيٍّ، وَكَانَ المغيرة معتزلا بالطائف حتى حكم الخصمان فصارا إِلَى مُعَاوِيَةَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي حُذَيْفَةَ كَانَ قَدْ تَغَلَّبَ عَلَى مِصْرَ وَأَخْرَجَ مِنْهَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، نَائِبَ عُثْمَانَ بَعْدَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، فَأَقَرَّهُ عَلَيْهَا عَلَى مُدَّةٍ يَسِيرَةٍ ثُمَّ عَزَلَهُ بِقَيْسِ بْنِ سَعْدٍ، فَلَمَّا دَخَلَهَا سَارَ فيها سيرة حسنة وضبطها، وذلك سَنَةِ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ، فَثَقُلَ أَمْرُهُ عَلَى مُعَاوِيَةَ وعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، فَكَاتَبَاهُ لِيَكُونَ مَعَهُمَا عَلَى على فامتنع وأظهر للناس منا صحته لهما، وفي الباطن هو مع على، فبلغ ذلك عَلِيًّا فَعَزَلَهُ وَبَعَثَ إِلَى مِصْرَ الْأَشْتَرَ النَّخَعِيَّ فَمَاتَ الْأَشْتَرُ فِي الرَّمْلَةِ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهَا، فَبَعَثَ عَلِيٌّ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ فَخَفَّ أَمْرُهُ عَلَى مُعَاوِيَةَ وَعَمْرٍو، فَلَمْ يَزَالَا حَتَّى أَخَذَا مِنْهُ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ، وَقُتِلَ مُحَمَّدُ بن أبى بكر هذا وأحرق في جيفة حمار. ثم سار قَيْسٌ إِلَى الْمَدِينَةِ، ثُمَّ سَارَ إِلَى عَلِيٍّ بن أبى طالب إلى العراق، فَكَانَ مَعَهُ فِي حُرُوبِهِ حَتَّى قُتِلَ عَلِيٌّ، ثم كان مع الحسن ابن على حين سار إلى معاوية ليقاتله، فكان قيس على مقدمة الجيش، فَلَمَّا بَايَعَ الْحَسَنُ مُعَاوِيَةَ سَاءَ قَيْسًا ذَلِكَ وما أحبه، وامتنع من طاعته مُعَاوِيَةَ، ثُمَّ ارْتَحَلَ إِلَى الْمَدِينَةِ، ثُمَّ قَدِمَ عَلَى مُعَاوِيَةَ فِي وَفْدٍ مِنَ الْأَنْصَارِ فَبَايَعَ معاوية بعد معاتبة شديدة وقعت بينهما، وَكَلَامٍ فِيهِ غِلْظَةٌ، ثُمَّ أَكْرَمَهُ مُعَاوِيَةُ وَقَدَّمَهُ وَحَظِيَ عِنْدَهُ، فَبَيْنَمَا هُوَ مَعَ الْوُفُودِ عِنْدَ مُعَاوِيَةَ إِذْ قَدِمَ كِتَابُ مَلِكِ الرُّومِ عَلَى مُعَاوِيَةَ وَفِيهِ: أَنِ ابْعَثْ إِلَيَّ بِسَرَاوِيلِ أَطْوَلِ رجل في العرب، فقال معاوية: ما أرانا إلا قد احتجنا إلا سَرَاوِيلِكَ؟ - وَكَانَ قَيْسٌ مَدِيدُ الْقَامَةِ جِدًّا لَا يَصِلُ أَطْوَلُ الرِّجَالِ إِلَى صَدْرِهِ- فَقَامَ قَيْسٌ فَتَنَحَّى ثُمَّ خَلَعَ سَرَاوِيلَهُ

(8/101)


فألقاها إلى معاوية فقال له معاوية: لو ذَهَبْتَ إِلَى مَنْزِلِكَ ثُمَّ أَرْسَلْتَ بِهَا إِلَيْنَا، فَأَنْشَأَ قَيْسٌ يَقُولُ عِنْدَ ذَلِكَ: -
أَرَدْتُ بِهَا كَيْ يَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّهَا ... سَرَاوِيلُ قَيْسٍ وَالْوُفُودُ شُهُودُ
وَأَنْ لَا يَقُولُوا غَابَ قَيْسٌ وَهَذِهِ ... سراويل غادى سمّد وثمود
وَإِنِّي مِنَ الْحَيِّ الْيَمَانِي لَسَيِّدٌ ... وَمَا النَّاسُ إِلَّا سَيِّدٌ وَمَسُودُ
فَكِدْهُمْ بِمِثْلِي إِنَّ مِثْلِي عليهم ... شديد وخلقي في الرجال مديد
وفضلني في الناس أصل ووالد ... وَبَاعٌ بِهِ أَعْلُو الرِّجَالَ مَدِيدُ
قَالَ: فَأَمَرَ مُعَاوِيَةُ أَطْوَلَ رَجُلٍ فِي الْوَفْدِ فَوَضَعَهَا عَلَى أَنْفِهِ فَوَقَعَتْ بِالْأَرْضِ، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ مَلِكَ الرُّومِ بَعَثَ إِلَى مُعَاوِيَةَ بِرَجُلَيْنِ مِنْ جَيْشِهِ يَزْعُمُ أَنَّ أَحَدَهُمَا أَقْوَى الرُّومِ، وَالْآخَرَ أَطْوَلُ الروم فانظر هل في قومك مَنْ يَفُوقُهُمَا فِي قُوَّةِ هَذَا وَطُولِ هَذَا؟ فان كان في قومك من يفوقهما بَعَثْتُ إِلَيْكَ مِنَ الْأَسَارَى كَذَا وَكَذَا، وَمَنَ التُّحَفِ كَذَا وَكَذَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي جيشك من هو أقوى وأطول منهما فَهَادِنِي ثَلَاثَ سِنِينَ. فَلَمَّا حَضَرَا عِنْدَ مُعَاوِيَةَ قَالَ: مَنْ لِهَذَا الْقَوِيِّ؟ فَقَالُوا: مَا لَهُ إلا أحد رجلين، إما محمد بن الْحَنَفِيَّةِ، أَوْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، فَجِيءَ بِمُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ ابْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَلَمَّا اجْتَمَعَ النَّاسُ عِنْدَ مُعَاوِيَةَ قَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: أَتَعْلَمُ فِيمَ أُرْسَلْتُ إِلَيْكَ؟ قَالَ: لَا! فَذَكَرَ لَهُ أَمْرَ الرُّومِيِّ وَشِدَّةَ بأسه، فقال للرومى: إما أن تجلس لي أو أجلس إليك وَتُنَاوِلُنِي يَدَكَ أَوْ أُنَاوِلُكَ يَدِي، فَأَيُّنَا قَدَرَ عَلَى أَنْ يُقِيمَ الْآخَرَ مِنْ مَكَانِهِ غَلَبَهُ، وَإِلَّا فَقَدْ غُلِبَ. فَقَالَ لَهُ: مَاذَا تُرِيدُ؟ تَجْلِسُ أَوْ أَجْلِسُ؟
فَقَالَ لَهُ الرُّومِيُّ: بَلِ أجلس أنت، فجلس محمد بن الْحَنَفِيَّةِ وَأَعْطَى الرُّومِيَّ يَدَهُ فَاجْتَهَدَ الرُّومِيُّ بِكُلِّ مَا يَقَدْرُ عَلَيْهِ مِنَ الْقُوَّةِ أَنْ يُزِيلَهُ مِنْ مَكَانَهِ أَوْ يُحَرِّكَهُ لِيُقِيمَهُ فَلَمْ يَقَدِرْ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا وَجَدَ إِلَيْهِ سَبِيلًا، فَغَلَبَ الرُّومِيَّ: عِنْدَ ذَلِكَ، وَظَهَرَ لِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْوُفُودِ مِنْ بِلَادِ الرُّومِ أَنَّهُ قَدْ غَلَبَ، ثم قام محمد بن الْحَنَفِيَّةِ فَقَالَ لِلرُّومِيِّ اجْلِسْ لِي، فَجَلَسَ وَأَعْطَى محمدا يده فما أمهله أَنْ أَقَامَهُ سَرِيعًا، وَرَفَعَهُ فِي الْهَوَاءِ ثُمَّ أَلْقَاهُ عَلَى الْأَرْضِ فَسُرَّ بِذَلِكَ مُعَاوِيَةُ سُرُورًا عَظِيمًا، وَنَهَضَ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ فَتَنَحَّى عَنِ النَّاسِ ثُمَّ خَلَعَ سَرَاوِيلَهُ وَأَعْطَاهَا لِذَلِكَ الرُّومِيِّ الطويل فلبسها فبلغت إلى تدييه وأطرافها تخط بالأرض، فاعترف الرومي بِالْغَلَبِ، وَبَعَثَ مَلِكُهُمْ مَا كَانَ الْتَزَمَهُ لِمُعَاوِيَةَ، وَعَاتَبَ الْأَنْصَارُ قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ فِي خَلْعِهِ سَرَاوِيلَهُ بِحَضْرَةِ النَّاسِ فَقَالَ: ذَلِكَ الشِّعْرُ الْمُتَقَدِّمَ مُعْتَذِرًا بِهِ إِلَيْهِمْ، وَلِيَكُونَ ذَلِكَ أَلْزَمَ لِلْحُجَّةِ الَّتِي تَقُومُ عَلَى الرُّومِ، وَأَقْطَعَ لِمَا حَاوَلُوهُ. وَرَوَاهُ الْحُمَيْدِيُّ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: كَانَ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ رَجُلًا ضَخْمًا جَسِيمًا صَغِيرَ الرَّأْسِ لَهُ لِحْيَةٌ فِي ذَقَنِهِ، وَكَانَ إِذَا رَكِبَ الْحِمَارَ العالي خطت رجلاه بالأرض، وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ وَخَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: تُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ فِي آخِرِ خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ. وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَفَاتَهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فَتَبِعْنَاهُ في ذلك.

(8/102)


مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ الْمُزَنِيُّ
صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، شَهِدَ الحديبيّة، وكان هو الّذي كان يَرْفَعُ أَغْصَانَ الشَّجَرَةِ عَنْ وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُبَايِعُ النَّاسَ تَحْتَهَا، وَكَانَتْ مِنَ السَّمُرِ، وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ 48: 18 وَقَدْ وَلَّاهُ عُمَرُ إِمْرَةَ الْبَصْرَةِ فَحَفَرَ بِهَا النَّهْرَ الْمَنْسُوبَ إِلَيْهِ، فَيُقَالُ نَهْرُ مَعْقِلٍ، وَلَهُ بِهَا دَارٌ، قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: دَخَلَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ عَلَى مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ يَعُودُهُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَقَالَ لَهُ مَعْقِلٌ: إِنِّي مُحَدِّثُكَ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لو لَمْ أَكُنْ عَلَى حَالَتِي هَذِهِ لَمْ أُحَدِّثْكَ بِهِ، سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «مَنِ اسْتَرْعَاهُ اللَّهُ رَعِيَّةً فَلَمْ يُحِطْهَا بْنصِيحَةٍ لَمْ يَجِدْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ مِائَةِ عَامٍ» . وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
أَبُو هُرَيْرَةَ الدَّوْسِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي اسْمِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ، وَاسْمِ أَبِيهِ عَلَى أقوال متعددة، وقد بَسَطْنَا أَكْثَرَهَا فِي كِتَابِنَا التَّكْمِيلِ، وَقَدْ بَسَطَ ذلك ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ، وَالْأَشْهُرُ أَنَّ اسْمَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ صَخْرٍ وَهُوَ مِنَ الْأَزْدِ، ثُمَّ مِنْ دَوْسٍ. وَيُقَالُ: كَانَ اسْمُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَبْدَ شَمْسٍ، وَقِيلَ عَبْدَ نِهْمٍ، وَقِيلَ عَبْدَ غَنْمٍ، وَيُكَنَّى بِأَبِي الْأُسُودِ، فَسَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللَّهِ، وَقِيلَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ، وَكَنَّاهُ بِأَبِي هُرَيْرَةَ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: وَجَدْتُ هُرَيْرَةً وَحْشِيَّةً فَأَخَذْتُ أَوْلَادَهَا فَقَالَ لِي أَبِي: مَا هَذِهِ فِي حِجْرِكَ؟ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: أَنْتَ أَبُو هُرَيْرَةَ. وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له: «أَبَا هِرٍّ» وَثَبَتَ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ» قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ وَابْنُ الكلبي والطبراني: اسم أمه ميمونة بنت صفيح بن الحارث بن أبى صعب بن هبة بْنِ سَعْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، أَسْلَمَتْ وَمَاتَتْ مُسْلِمَةً. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَثِيرَ الطَّيِّبَ، وَكَانَ مِنْ حُفَّاظِ الصَّحَابَةِ، وَرَوَى عَنْ أَبَى بَكْرٍ وَعُمَرَ وأبى بن كعب، وأسامة بن زيد، ونضرة بن أبى نضرة، وَالْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ، وَكَعْبِ الْأَحْبَارِ، وَعَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ. وَحَدَّثَ عَنْهُ خَلَائِقُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَدْ ذَكَرْنَاهُمْ مُرَتَّبِينَ عَلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ فِي التكميل، كما ذكره شَيْخُنَا فِي تَهْذِيبِهِ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: رَوَى عَنْهُ نَحْوٌ مِنْ ثَمَانِمِائَةِ رَجُلٍ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ الْفَلَّاسُ: كَانَ يَنْزِلُ الْمَدِينَةَ وَكَانَ إِسْلَامُهُ سَنَةَ خَيْبَرَ:
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَكَانَ بذي الحليفة له دَارٌ، وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ آدَمَ اللَّوْنِ، بَعِيدَ ما بين المنكبين، ذا طفرتين، أقرن الثَّنِيَّتَيْنِ. وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ أَبِي خَلْدَةَ، خَالِدِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا أَسْلَمْتُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. «مِمَّنْ أَنْتَ؟ فَقُلْتُ: مِنْ دَوْسٍ، فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى جَبْهَتِهِ وَقَالَ: مَا كُنْتُ أَرَى أَنَّ فِي دَوْسٍ رَجُلًا فِيهِ خَيْرٌ» وَقَالَ الْزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ، وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ

(8/103)


إِسْمَاعِيلَ عَنْ قَيْسٍ. قَالَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: جِئْتُ يَوْمَ خَيْبَرَ بَعْدَ مَا فَرَغُوا مِنَ الْقِتَالِ. وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ ثَنَا الدراوَرْديّ. قَالَ: حَدَّثَنِي خيثم عن عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. قَالَ: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتُخْلِفَ عَلَى الْمَدِينَةِ سِبَاعُ بْنُ عُرْفُطَةَ، قَالَ أَبُو هريرة: وقدمت المدينة فهاجروا فَصَلَّيْتُ الصُّبْحَ وَرَاءَ سِبَاعٍ فَقَرَأَ فِي السَّجْدَةِ الْأُولَى سُورَةَ مَرْيَمَ، وَفِي الثَّانِيَةِ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: وَيْلٌ لأبى فلان، لرجل كان بأرض الأزد- وكان له مكيالان مكيال يكيل بِهِ لِنَفْسِهِ، وَمِكْيَالٌ يَبْخَسُ بِهِ النَّاسَ» . وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ ضَلَّ غُلَامٌ لَهُ فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي اجْتَمَعَ فِي صَبِيحَتِهَا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ جَعَلَ يُنْشِدُ:
يَا لَيْلَةً مِنْ طُولِهَا وَعَنَائِهَا ... عَلَى أَنَّهَا مِنْ دَارَةِ الْكُفْرِ نَجَّتِ
فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: «هَذَا غُلَامُكَ» ؟ فَقَالَ هُوَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَدْ لَزِمَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ إِسْلَامِهِ، فَلَمْ يُفَارِقْهُ فِي حَضَرٍ وَلَا سَفَرٍ، وَكَانَ أَحْرَصَ شَيْءٍ عَلَى سَمَاعِ الْحَدِيثِ مِنْهُ، وَتَفَقَّهَ عَنْهُ، وَكَانَ يَلْزَمُهُ عَلَى شِبَعِ بَطْنِهِ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ- وَقَدْ تَمَخَّطَ يوما في قميص له كتان- بخ بخ، أبو هريرة يمتخط فِي الْكَتَّانِ، لَقَدْ رَأَيْتُنِي أَخِرُّ فِيمَا بَيْنَ الْمِنْبَرِ وَالْحُجَرِ مِنَ الْجُوعِ، فَيَمُرُّ الْمَارُّ فَيَقُولُ: بِهِ جُنُونٌ وَمَا بِي إِلَّا الْجُوعُ، وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَقَدْ كُنْتُ أَعْتَمِدُ بِكَبِدِي عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْجُوعِ، وَأَشُدُّ الْحَجَرَ عَلَى بَطْنِي مِنَ الْجُوعِ، وَلَقَدْ كُنْتُ أَسْتَقْرِئُ أَحَدَهُمُ الْآيَةَ وَأَنَا أَعْلَمُ بِهَا مِنْهُ، وَمَا بِي إِلَّا أَنْ يَسْتَتْبِعَنِي إِلَى مَنْزِلِهِ فَيُطْعِمُنِي شَيْئًا، وَذَكَرَ حَدِيثَ اللَّبَنِ مَعَ أَهْلِ الصفة كما قدمناه في دلائل النبوة. وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الرحمن ثنا عكرمة بن عامر حَدَّثَنِي أَبُو كَثِيرٍ- وَهُوَ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أُذَيْنَةَ السُّحَيْمِيُّ الْأَعْمَى- حَدَّثَنِي أَبُو هريرة. قال: وَاللَّهِ مَا خَلَقَ اللَّهُ مُؤْمِنًا يَسْمَعُ بِي وَلَا يَرَانِي إِلَّا أَحَبَّنِي، قُلْتُ: وَمَا عِلْمُكَ بِذَلِكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: إِنَّ أُمِّي كَانَتِ امْرَأَةً مُشْرِكَةً، وَإِنِّي كُنْتُ أَدْعُوهَا إِلَى الْإِسْلَامِ وَكَانَتْ تَأْبَى عَلَيَّ، فَدَعَوْتُهَا يَوْمًا فَأَسْمَعَتْنِي فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَكْرَهُ، فَأَتَيْتُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أَبْكِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي كُنْتُ أَدْعُو أُمِّي إِلَى الْإِسْلَامِ فَكَانَتْ تَأْبَى عَلَيَّ، وَإِنِّي دَعَوْتُهَا الْيَوْمَ فَأَسْمَعَتْنِي فِيكَ مَا أَكْرَهُ، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَ أم أبى هريرة، فقال: «اللَّهمّ اهْدِ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ» فَخَرَجْتُ أَعْدُو أُبَشِّرُهَا بِدُعَاءِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا، فَلَمَّا أَتَيْتُ الْبَابَ إِذَا هُوَ مُجَافٍ، وَسَمِعْتُ خضخضة (خشخشة) وَسَمِعْتُ خَشْفَ رِجْلٍ- يَعْنِي وَقْعَهَا- فَقَالَتْ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ كَمَا أَنْتَ، ثُمَّ فَتَحَتِ الْبَابَ وقد لبست درعها وعجلت عن خمارها أن تلبسه، وقالت: إِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبْكِي مِنَ الْفَرَحِ كَمَا بَكَيْتُ مِنَ الْحُزْنِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَبْشِرْ فَقَدِ اسْتَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَكَ، قد هدى الله أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أدعو اللَّهَ أَنْ يُحَبِّبَنِي وَأُمِّي إِلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، فقال:

(8/104)


«اللَّهمّ حَبِّبْ عُبَيْدَكَ هَذَا وَأُمَّهُ إِلَى عِبَادِكَ الْمُؤْمِنِينَ، وَحَبِّبْهُمْ إِلَيْهِمَا» قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ مُؤْمِنٍ يَسْمَعُ بِي وَلَا يَرَانِي أَوْ يَرَى أُمِّي إِلَّا وَهُوَ يُحِبُّنِي. وقد رواه مسلم من حديث عكرمة عن عمار نَحْوَهُ. وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ، فَإِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ مُحَبَّبٌ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ، وَقَدْ شهر الله ذكره بما قدره أن يكون من روايته من إيراد هذا الخبر عنه على رءوس الناس في الجوامع المتعددة في سائر الأقاليم في الإنصات يوم الجمعة بين يدي الخطبة، والإمام على المنبر، وهذا من تقدير الله العزيز العليم، وَمَحَبَّةِ النَّاسِ لَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَقَالَ هشام بن عمار: حدثنا سَعِيدٌ ثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ عَنِ المقبري عن سالم مولى النضريين أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّمَا مُحَمَّدٌ بَشَرٌ أَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ وَإِنِّي قَدِ اتَّخَذْتُ عِنْدَكَ عَهْدًا لَنْ تُخْلِفَنِيهِ، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ آذَيْتُهُ أَوْ شَتَمْتُهُ أَوْ جلدته فاجعلها له قربة بِهَا عِنْدَكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: لَقَدْ رَفَعَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوما الدرة ليضربني بها فلأن يَكُونُ ضَرَبَنِي بِهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ، ذَلِكَ بِأَنِّي أَرْجُو أَنْ أَكُونَ مُؤْمِنًا وَأَنْ يُسْتَجَابَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم دعوته، وقال ابن أبى ذيب عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَسْمَعُ مِنْكَ حديثا كثيرا فأنساه، فَقَالَ: «ابْسُطْ رِدَاءَكَ، فَبَسَطْتُهُ، ثُمَّ قَالَ: ضُمَّهُ فَضَمَمْتُهُ فَمَا نَسِيتُ حَدِيثًا بَعْدُ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجِ. قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: إِنَّكُمْ تَزْعُمُونَ أن أبا هريرة يُكْثِرُ الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاللَّهُ الْمَوْعِدُ إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مِسْكِينًا أَصْحَبُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مِلْءِ بَطْنِي، وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ يَشْغَلُهُمُ الصفق في الأسواق، وَكَانَتِ الْأَنْصَارُ يَشْغَلُهُمُ الْقِيَامُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ، فَحَضَرْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوما مَجْلِسًا فَقَالَ: «مَنْ بَسَطَ رِدَاءَهُ حَتَّى أَقْضِيَ مَقَالَتِي ثُمَّ يَقْبِضُهُ إِلَيْهِ فَلَنْ يَنْسَى شَيْئًا سَمِعَهُ مِنِّي» . فَبَسَطْتُ بُرْدَةً عَلَيَّ حَتَّى قَضَى مقالته ثم قبضتها إليّ فو الّذي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا نَسِيتُ شَيْئًا سَمِعْتَهُ مِنْهُ بعد ذلك. وَقَدْ رَوَاهُ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَهُ طُرُقٌ أُخَرُ عَنْهُ. وَقَدْ قِيلَ إن هذا كان خاصا بتلك المقالة لَمْ يَنْسَ مِنْهَا شَيْئًا، بِدَلِيلِ أَنَّهُ نَسِيَ بَعْضَ الْأَحَادِيثِ كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي الصحيح، حيث نسيى حَدِيثَ «لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ» مَعَ حَدِيثِهِ «لَا يُورِدُ مُمَرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ» وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا كَانَ عَامًّا فِي تِلْكَ الْمَقَالَةِ وَغَيْرِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ الدراوَرْديّ عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقَالَ: لَقَدْ ظننت يا أبا هريرة أن أحدا لا يسألنى عن هذا الحديث أَوَّلُ مِنْكَ، لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الناس، إِنَّ أَسْعَدَ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ» وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو ابْنِ أَبِي عَمْرٍو بِهِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي ذيب عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: «حَفِظْتُ مِنْ

(8/105)


رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وِعَاءَيْنِ فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَبَثَثْتُهُ فِي النَّاسِ، وَأَمَّا الْآخَرُ فلو بثثته لقطع هذا البلعوم» رواه البخاري من حديث ابن أبى ذيب، وَرَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَهَذَا الْوِعَاءُ الَّذِي كَانَ لَا يَتَظَاهَرُ بِهِ هُوَ الْفِتَنُ وَالْمَلَاحِمُ وَمَا وَقَعَ بَيْنَ النَّاسِ مِنَ الْحُرُوبِ وَالْقِتَالِ، وَمَا سَيَقَعُ الَّتِي لَوْ أَخْبَرَ بِهَا قَبْلَ كَوْنِهَا لَبَادَرَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ إِلَى تَكْذِيبِهِ، وَرَدُّوا مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنَ الْحَقِّ، كَمَا قَالَ: لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّكُمْ تَقْتُلُونَ إِمَامَكُمْ وَتَقْتَتِلُونَ فِيمَا بَيْنَكُمْ بِالسُّيُوفِ لَمَا صَدَّقْتُمُونِي. وَقَدْ يَتَمَسَّكُ بِهَذَا الْحَدِيثِ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ الْبَاطِلَةِ، وَالْأَعْمَالِ الْفَاسِدَةِ، وَيُسْنِدُونَ ذَلِكَ إِلَى هَذَا الْجِرَابِ الَّذِي لَمْ يَقُلْهُ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ كَانَ فِي هَذَا الْجِرَابِ الَّذِي لَمْ يُخْبِرْ بِهِ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَمَا مِنْ مُبْطِلٍ مَعَ تَضَادِّ أقوالهم إلا وهو يدعى هَذَا وَكُلُّهُمْ يَكْذِبُونَ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ أَبُو هريرة قد أخبر به فمن علمه بَعْدِهِ؟
وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الفتن والملاحم كما أَخْبَرَ بِهَا هُوَ وَغَيْرُهُ مِنَ الصَّحَابَةِ، مِمَّا ذَكَرْنَاهُ وَمِمَّا سَنَذْكُرُهُ فِي كِتَابِ الْفِتَنِ وَالْمَلَاحِمِ. وقال حماد بن زيد: حدثنا عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ ثَنَا أَبُو الزُّعَيْزِعَةِ كَاتِبُ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ أَنَّ مَرْوَانَ دَعَا أَبَا هُرَيْرَةَ وَأَقْعَدَهُ خَلْفَ السَّرِيرِ، وَجَعَلَ مَرْوَانُ يسأل وجعلت أكتب عنه، حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ رَأْسِ الْحَوَلِ دَعَا بِهِ وَأَقْعَدَهُ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ فَجَعَلَ يَسْأَلُهُ عَنْ ذَلِكَ الْكِتَابِ، فَمَا زَادَ وَلَا نَقْصَ، وَلَا قَدَّمَ وَلَا أَخَّرَ. وَرَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ وَغَيْرُهُ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ. قَالَ: كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ مِنْ أَحْفَظِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَكُنْ بِأَفْضَلِهِمْ.
وَقَالَ الرَّبِيعُ قَالَ الشَّافِعِيُّ: أَبُو هُرَيْرَةَ أَحْفَظُ مَنْ رَوَى الْحَدِيثَ فِي دهره. وقال أبو القاسم البغوي:
حدثنا أَبُو خَيْثَمَةَ ثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ ثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ مَكْحُولٍ قَالَ: تَوَاعَدَ النَّاسُ لَيْلَةً مِنَ اللَّيَالِي إِلَى قُبَّةٍ مِنْ قِبَابِ مُعَاوِيَةَ فَاجْتَمَعُوا فِيهَا، فَقَامَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَحَدَّثَهُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَصْبَحَ. وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ وَهَبِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَخِيهِ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ. قَالَ: سَمِعْتُ أبا هريرة يقول: مَا مِنْ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم أَكْثَرُ حَدِيثًا عَنْهُ مِنِّي، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ وَلَا أَكْتُبُ. وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيُّ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ زُرْعَةَ الرُّعَيْنِيُّ ثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ ثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بن عبد اللَّهِ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: لَتَتْرُكَنَّ الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ لَأُلْحِقَنَّكَ بِأَرْضِ دَوْسٍ، وَقَالَ لِكَعْبِ الأحبار: لتتركن الحديث عن الأول أو لألحقنك بأرض القردة. قال أبو زرعة، وسمعت أَبَا مُسْهِرٍ يَذْكُرُهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ نَحْوًا مِنْهُ وَلَمْ يُسْنِدْهُ، وَهَذَا مَحْمُولٌ مِنْ عُمَرَ عَلَى أَنَّهُ خَشِيَ مِنَ الْأَحَادِيثِ التي قد تضعها الناس على غير مواضعها، وأنهم يتكلمون على ما فيها من أحاديث الرخص، وأن الرَّجُلَ إِذَا أَكْثَرَ مِنَ الْحَدِيثِ رُبَّمَا وَقَعَ فِي أَحَادِيثِهِ بَعْضُ الْغَلَطِ أَوِ الْخَطَأِ فَيَحْمِلُهَا النَّاسُ عَنْهُ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ. وَقَدْ جَاءَ أَنَّ عُمَرَ أَذِنَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي التحديث، فقال مسدد:

(8/106)


حدثنا خالد الطحان ثنا يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. قَالَ: بَلَغَ عُمَرَ حَدِيثِي فَأَرْسَلَ إِلَيَّ فَقَالَ: كُنْتَ مَعَنَا يَوْمَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِ فُلَانٍ؟ قَالَ قلت: نعم! وقد علمت لم تسألنى عَنْ ذَلِكَ؟ قَالَ: وَلِمَ سَأَلْتُكَ؟ قُلْتُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال يَوْمَئِذٍ «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فليتبوَّأ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» قال: أما إذا فاذهب فحدث. وقال الامام أحمد: حدثنا عَفَّانُ ثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ- يَعْنِي ابْنَ زِيَادٍ- ثَنَا عَاصِمُ بْنُ كُلَيْبٍ حَدَّثَنِي أَبِي. قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ- وَكَانَ يَبْتَدِئُ حَدِيثَهُ بِأَنْ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصادق المصدوق: «من كذب عليّ عامدا فليتبوَّأ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» . وَرُوِيَ مِثْلُهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ. أن أبا هريرة كان يقول: إني لا حدث أَحَادِيثَ لَوْ تَكَلَّمْتُ بِهَا فِي زَمَانِ عُمَرَ أَوْ عِنْدَ عُمَرَ لَشَجَّ رَأْسِي. وَقَالَ صَالِحُ بْنُ أَبِي الْأَخْضَرِ عَنِ الْزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: مَا كُنَّا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَقُولَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى قُبِضَ عُمَرُ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ ثَنَا عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ. قَالَ قَالَ عُمَرُ: أَقِلُّوا الرِّوَايَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا فِيمَا يُعْمَلُ بِهِ. قَالَ ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَفَكُنْتُ مُحَدِّثَكُمْ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَعُمَرُ حَيٌّ؟ أَمَا وَاللَّهِ إِذًا لَأَيْقَنْتُ أن المحففة سَتُبَاشِرُ ظَهْرِي، [فَإِنَّ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ، اشْتَغِلُوا بِالْقُرْآنِ فَإِنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ، وَلِهَذَا لَمَّا بَعَثَ أَبَا مُوسَى إِلَى الْعِرَاقِ قَالَ لَهُ: إنك تأنى قَوْمًا لَهُمْ فِي مَسَاجِدِهِمْ دَوِيٌّ بِالْقُرْآنِ كَدَوِيِّ النَّحْلِ، فَدَعْهُمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ، وَلَا تشغلهم بالأحاديث، وأنا شريكك في ذلك. هذا مَعْرُوفٌ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] [1] وَقَالَ الامام أحمد: حدثنا هُشَيْمٌ عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ. أَنَّهُ مَرَّ بِأَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ تَبِعَ جِنَازَةً فَصَلَّى عَلَيْهَا فَلَهُ قِيرَاطٌ، فَإِنْ شَهِدَ دَفْنَهَا فَلَهُ قِيرَاطَانِ، الْقِيرَاطُ أَعْظَمُ مِنْ أُحُدٍ» . فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرُ: أَبَا هِرٍّ انْظُرْ مَا تُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَ إِلَيْهِ أَبُو هُرَيْرَةَ حَتَّى انْطَلَقَ بِهِ إِلَى عَائِشَةَ فَقَالَ لَهَا: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْشُدُكَ باللَّه أَسَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ تَبِعَ جِنَازَةً فَصَلَّى عَلَيْهَا فَلَهُ قِيرَاطٌ فَإِنْ شَهِدَ دَفْنَهَا فَلَهُ قِيرَاطَانِ» ؟ فَقَالَتِ: اللَّهمّ نَعَمْ. فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَشْغَلُنِي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غرس بالوادي وصفق بِالْأَسْوَاقِ، إِنِّي إِنَّمَا كُنْتُ أَطْلُبُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلِمَةً يُعَلِّمُنِيهَا، أَوْ أَكْلَةً يُطْعِمُنِيهَا، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ: أنت يا أبا هر كنت ألزمنا رسول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَعْلَمَنَا بِحَدِيثِهِ. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ عَنْ أَبِيهِ. قَالَ: كُنْتُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ فِي جِنَازَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ يَمْشِي أَمَامَهَا وَيُكْثِرُ التَّرَحُّمَ عَلَيْهِ، وَيَقُولُ:
كَانَ مِمَّنْ يَحْفَظُ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ رَوَى أَنَّ عَائِشَةَ تَأَوَّلَتْ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَوَهَّمَتْهُ فِي بَعْضِهَا، وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّهَا عَابَتْ عَلَيْهِ سَرْدَ الحديث، أي الإكثار منه في
__________
[1] سقط من المصرية

(8/107)


الساعة الواحدة. وقال أبو القاسم البغوي: حدثنا بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ الْكِنْدِيُّ ثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سعد عَنْ سَعِيدٍ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: أَكْثَرَتِ الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، قَالَ: إِنِّي وَاللَّهِ مَا كَانَتْ تَشْغَلُنِي عَنْهُ الْمُكْحُلَةُ وَالْخِضَابُ، ولكن أَرَى ذَلِكَ شَغَلَكَ عَمَّا اسْتَكْثَرْتُ مِنْ حَدِيثِي.
قالت: لعله. وقال أبو يعلى: حدثنا إِبْرَاهِيمُ الشَّامِيُّ ثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَبِي رَافِعٍ أَنَّ رَجُلًا مِنْ قريش أتى أبا هريرة في حلة وهو يَتَبَخْتَرُ فِيهَا، فَقَالَ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ إِنَّكَ تُكْثِرُ الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهَلْ سَمِعْتَهُ يَقُولُ فِي حُلَّتِي هَذِهِ شَيْئًا؟ قَالَ: وَاللَّهِ إِنَّكُمْ لَتُؤْذُونَنَا، وَلَوْلَا مَا أَخَذَ اللَّهُ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ لَيُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا يَكْتُمُونَهُ مَا حَدَّثْتُكُمْ بِشَيْءٍ، سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ رَجُلًا مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بَيْنَمَا هُوَ يَتَبَخْتَرُ فِي حُلَّةٍ إِذْ خَسَفَ اللَّهُ بِهِ الْأَرْضَ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ» . فو الله مَا أَدْرِي لَعَلَّهُ كَانَ مِنْ قَوْمِكَ أَوْ مِنْ رَهْطِكَ- شَكَّ أَبُو يَعْلَى- وقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنِي كَثِيرُ بْنُ زَيْدٍ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ رَبَاحٍ. قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ لِمَرْوَانَ:
وَاللَّهِ ما أنت بوال، وَإِنَّ الْوَالِيَ لَغَيْرُكَ فَدَعْهُ- يَعْنِي حِينَ أَرَادُوا يدفنون الْحَسَنَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَكِنَّكَ تَدَخَّلُ فِيمَا لَا يَعْنِيكَ، إِنَّمَا تُرِيدُ بِهَذَا إِرْضَاءَ مَنْ هُوَ غَائِبٌ عَنْكَ- يَعْنِي مُعَاوِيَةَ- قَالَ: فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ مَرْوَانُ مُغْضَبًا فَقَالَ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ إِنَّ النَّاسَ قَدْ قالوا إنك أكثرت عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَدِيثَ، وَإِنَّمَا قَدِمْتَ قَبْلَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَسِيرٍ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: نعم! قدمت وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَيْبَرَ سَنَةَ سَبْعٍ، وَأَنَا يَوْمَئِذٍ قَدْ زِدْتُ عَلَى الثَّلَاثِينَ سَنَةً سَنَوَاتٍ، وَأَقَمْتُ مَعَهُ حَتَّى تُوُفِّيَ، أَدُورُ مَعَهُ فِي بُيُوتِ نِسَائِهِ وَأَخْدِمُهُ، وَأَنَا والله يومئذ مقل، وأصلى خلفه وأحج وأغزو مَعَهُ، فَكُنْتُ وَاللَّهِ أَعْلَمَ النَّاسِ بِحَدِيثِهِ، قَدْ والله سبقني قوم بصحبته والهجرة إليه من قريش والأنصار، وكانوا يَعْرِفُونَ لُزُومِي لَهُ فَيَسْأَلُونِي عَنْ حَدِيثِهِ، مِنْهُمْ عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ، فَلَا وَاللَّهِ ما يخفى على كل حديث كَانَ بِالْمَدِينَةِ، وَكُلُّ مَنْ أَحَبَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَكُلُّ مَنْ كَانَتْ لَهُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْزِلَةٌ، وَكُلُّ صَاحِبٍ له، وكان أبو بكر صاحبه في الغار وغيره، وقد أَخْرَجَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُسَاكِنَهُ- يُعَرِّضُ بِأَبِي مَرْوَانَ الْحَكَمِ بْنِ الْعَاصِ-. ثُمَّ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: لِيَسْأَلْنِي أَبُو عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ هَذَا وَأَشْبَاهِهِ فَإِنَّهُ يَجِدُ عندي منه علما جما ومقالا، قال: فو الله مَا زَالَ مَرْوَانُ يَقْصُرُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَيَتَّقِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَيَخَافُهُ وَيَخَافُ جَوَابَهُ [وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ لِمَرْوَانَ: إِنِّي أَسْلَمْتُ وَهَاجَرْتُ اخْتِيَارًا وَطَوْعًا، وَأَحْبَبْتُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُبًّا شَدِيدًا، وَأَنْتُمْ أَهْلُ الدَّارِ وَمَوْضِعُ الدَّعْوَةِ، أَخْرَجْتُمُ الدَّاعِيَ مِنْ أَرْضِهِ، وَآذَيْتُمُوهُ وَأَصْحَابَهُ، وَتَأَخَّرَ إِسْلَامُكُمْ عَنْ إِسْلَامِي إِلَى الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ إِلَيْكُمْ. فَنَدِمَ مَرْوَانُ عَلَى كَلَامِهِ لَهُ وَاتَّقَاهُ] [1] وَقَالَ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ: حدثنا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ ثنا محمد بن إسحاق عن
__________
[1] سقط من المصرية.

(8/108)


عُمَرَ أَوْ عُثْمَانَ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ- يَعْنِي عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ- قَالَ: قَالَ لِي أَبِي الزُّبَيْرُ: أَدْنِنِي مِنْ هَذَا الْيَمَانِيِّ- يَعْنِي أَبَا هُرَيْرَةَ- فَإِنَّهُ يُكْثِرُ الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فَأَدْنَيْتُهُ مِنْهُ، فَجَعَلَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ، وجعل الزبير يقول: صدق، كذلك صَدَقَ، كَذَبَ. قَالَ: قُلْتُ يَا أَبَهْ مَا قَوْلُكَ صَدَقَ كَذَبَ؟ قَالَ: يَا بُنَيَّ أَمَّا أَنْ يَكُونَ سَمِعَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا أَشُكُّ، ولكن منها ما يضعه عَلَى مَوَاضِعِهِ، وَمِنْهَا مَا وَضَعَهُ عَلَى غَيْرِ مَوَاضِعِهِ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ عَنْ وَهْبِ بْنِ جَرِيرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي اليسر بْنِ أَبِي عَامِرٍ.
قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ وَاللَّهِ مَا نَدْرِي هَذَا الْيَمَانِيُّ أَعْلَمُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْكُمْ، أَمْ يَقُولُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما لم يسمع، أو مَا لَمْ يَقُلْ؟ فَقَالَ طَلْحَةُ: وَاللَّهِ مَا نشك أنه قد سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَمْ نَسْمَعْ، وَعَلِمَ مَا لَمْ نَعْلَمْ، إِنَّا كُنَّا قَوْمًا أَغْنِيَاءَ، لَنَا بُيُوتَاتٌ وَأَهْلُونَ، وَكُنَّا نَأْتِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَرَفَيِ النَّهَارِ ثُمَّ نَرْجِعُ، وَكَانَ هو مِسْكِينًا لَا مَالَ لَهُ وَلَا أَهْلَ، وَإِنَّمَا كانت يده مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان يدور معه حيث ما دَارَ، فَمَا نَشُكُّ أَنَّهُ قَدْ عَلِمَ مَا لَمْ نَعْلَمْ وَسَمِعَ مَا لَمْ نَسْمَعْ. وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بْنحْوِهِ. وَقَالَ شُعْبَةُ عَنْ أَشْعَثَ بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا أَيُّوبَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقِيلَ لَهُ: أَنْتَ صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتُحَدِّثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؟ فَقَالَ: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَدْ سَمِعَ مَا لَمْ نَسْمَعْ، وَإِنِّي أَنْ أُحَدِّثَ عَنْهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَعْنِي مَا لَمْ أَسْمَعْهُ مِنْهُ- وقال مسلم بن الحجاج: حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ ثَنَا مَرْوَانُ الدِّمَشْقِيُّ عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ حَدَّثَنِي بكير بن الأشج. قال قال لنا بشر بْنُ سَعِيدٍ: اتَّقُوا اللَّهَ وَتَحَفَّظُوا مِنَ الْحَدِيثِ، فو الله لقد رأيتنا تجالس أَبَا هُرَيْرَةَ فَيُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُحَدِّثُنَا عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ ثم يقوم فأسمع بعض ما كَانَ مَعَنَا يَجْعَلُ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كَعْبٍ، وَحَدِيثَ كَعْبٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي رِوَايَةٍ يَجْعَلُ مَا قَالَهُ كَعْبٌ عَنْ رسول الله، وما قاله رسول الله عَنْ كَعْبٍ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَتَحَفَّظُوا فِي الْحَدِيثِ. وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ: سَمِعْتُ شُعْبَةَ يَقُولُ: أبو هريرة كان يدلس- أي يروى ما سمعه من كعب وما سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا يميز هذا من هذا- ذكره ابْنُ عَسَاكِرَ.
وَكَانَ شُعْبَةُ يُشِيرُ بِهَذَا إِلَى حَدِيثِهِ «مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا فَلَا صِيَامَ لَهُ» فَإِنَّهُ لَمَّا حُوقِقَ عَلَيْهِ قَالَ: أَخْبَرَنِيهِ مُخْبِرٌ وَلَمْ أَسَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ شَرِيكٌ عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ. قَالَ: كَانَ أَصْحَابُنَا يَدَعُونَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَرَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ. قَالَ: مَا كَانُوا يَأْخُذُونَ بِكُلِّ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وقال الثَّوْرِيُّ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: كَانُوا يَرَوْنَ فِي أَحَادِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ شَيْئًا، وَمَا كانوا يأخذون بكل حديث أبى هريرة، إلا ما كان من حديث صفة جنة أو نار، أو حث على عمل صالح، أو نهى عن شرجاء القرآن به. وَقَدِ انْتَصَرَ ابْنُ عَسَاكِرَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ وَرَدَّ هَذَا الَّذِي قَالَهُ إِبْرَاهِيمُ

(8/109)


النَّخَعِيُّ. وَقَدْ قَالَ مَا قَالَهُ إِبْرَاهِيمُ طَائِفَةٌ مِنَ الْكُوفِيِّينَ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى خِلَافِهِمْ.
وَقَدْ كَانَ أبو هريرة مِنَ الصِّدْقِ وَالْحِفْظِ وَالدِّيَانَةِ وَالْعِبَادَةِ وَالزَّهَادَةِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ عَلَى جَانِبٍ عَظِيمٍ.
قَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَبَّاسٍ الْجَرِيرِيِّ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ. قَالَ: كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقُومُ ثُلُثَ اللَّيْلِ، وَامْرَأَتُهُ ثُلُثَهُ، وَابْنَتُهُ ثُلُثَهُ، يَقُومُ هَذَا ثم يوقظ هذا، ثم يوقظ هذا هذا. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «أَوْصَانِي خَلِيلِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ وَرَكْعَتَيِ الضُّحَى، وَأَنْ أُوَتِرَ قَبْلَ أَنْ أَنَامَ» : وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَمَّنْ حَدَّثَهُ. قَالَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: إِنِّي أُجَزِّئُ الليل ثلاثة أجزاء فجزءا لقراءة القرآن، وجزءا أنام فيه، وجزءا أَتَذَكَّرُ فِيهِ حَدِيثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ:
ثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عُثْمَانَ الْقُرَشِيُّ ثَنَا أَبُو أَيُّوبَ. قَالَ كَانَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ مَسْجِدٌ فِي مُخْدَعِهِ، وَمَسْجِدٌ فِي بَيْتِهِ، وَمَسْجِدٌ فِي حُجْرَتِهِ، وَمَسْجِدٌ عَلَى بَابِ دَارِهِ، إِذَا خَرَجَ صَلَّى فِيهَا جَمِيعِهَا، وَإِذَا دَخَلَ صلى فيها جميعا. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُسَبِّحُ كُلَّ ليلة ثنتى عشرة ألف تسبيحة، يقول: أُسَبِّحُ عَلَى قَدْرِ دِيَتِي. وَقَالَ هُشَيْمٌ عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ أَبِي مَيْسَرَةَ.
قَالَ: كَانَتْ لِأَبِي هُرَيْرَةَ صَيْحَتَانِ فِي كل يوم، أول النهار صيحة يَقُولُ: ذَهَبَ اللَّيْلُ وَجَاءَ النَّهَارُ وَعُرِضَ آلُ فِرْعَوْنَ عَلَى النَّارِ، وَإِذَا كَانَ الْعَشِيُّ يَقُولُ: ذَهَبَ النَّهَارُ وَجَاءَ اللَّيْلُ وَعُرِضَ آلُ فِرْعَوْنَ عَلَى النَّارِ، فَلَا يَسْمَعُ أَحَدٌ صَوْتَهُ إِلَّا اسْتَعَاذَ باللَّه مِنَ النَّارِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بن المبارك: حدثنا مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ عَنْ زِيَادِ بْنِ ثَوْبَانَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. قَالَ: لَا تَغْبِطَنَّ فَاجِرًا بِنِعْمَةٍ فَإِنَّ مِنْ وَرَائِهِ طَالِبًا حَثِيثًا طَلَبُهُ، جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا. وَقَالَ ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي يُونُسَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ صَلَّى بِالنَّاسِ يَوْمًا فَلَمَّا سَلَّمَ رَفْعَ صَوْتَهُ فَقَالَ: الْحَمْدُ للَّه الَّذِي جَعَلَ الدِّينَ قَوَامًا، وَجَعَلَ أَبَا هُرَيْرَةَ إِمَامًا، بعد ما كَانَ أَجِيرًا لِابْنةِ غَزْوَانَ عَلَى شِبَعِ بَطْنِهِ وحمولة رجله [وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ الْحَرْبِيُّ: ثَنَا عَفَّانُ ثَنَا سُلَيْمُ بْنُ حَيَّانَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: نَشَأَتُ يَتِيمًا، وَهَاجَرَتُ مِسْكِينًا، وَكُنْتُ أَجِيرًا لِابْنةِ غَزْوَانَ بِطَعَامِ بَطْنِي وَعُقْبَةِ رِجْلِي، أَحْدُو بِهِمْ إِذَا رَكِبُوا وَأَحْتَطِبُ إِذَا نَزَلُوا، فَالْحَمْدُ للَّه الَّذِي جَعَلَ الدين قواما وجعل أبا هريرة إماما،] [1] ثُمَّ يَقُولُ: وَاللَّهِ يَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ إِنْ كَانَتْ إِجَارَتِي مَعَهُمْ إِلَّا عَلَى كِسْرَةٍ يَابِسَةٍ، وَعُقْبَةٍ فِي لَيْلَةٍ غَبْرَاءَ مُظْلِمَةٍ، ثُمَّ زَوَّجَنِيهَا الله فكنت أركب إذا ركبوا، وأخدم إلا خدموا، وأنزل إذا نزلوا. وقال إبراهيم بن يعقوب الجورجانى: حدثنا الحجاج بن نصر ثنا هلال ابن عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحَنَفِيُّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ. قَالَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَأَبُو ذَرٍّ: بَابٌ مِنَ الْعِلْمِ نَتَعَلَّمُهُ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ أَلْفِ رَكْعَةٍ تَطَوُّعًا، وَبَابٌ نُعَلِّمُهُ عَمِلْنَا بِهِ أَوْ لَمْ نَعْمَلْ بِهِ، أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ مِائَةِ رَكْعَةٍ تَطَوُّعًا، وَقَالَا: سَمِعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ «إِذَا جَاءَ طَالِبَ الْعِلْمِ الْمَوْتُ وَهُوَ على هذه الحال
__________
[1] سقط من المصرية.

(8/110)


مَاتَ وَهُوَ شَهِيدٌ» وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَرَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَانَ يَتَعَوَّذُ فِي سُجُودِهِ أَنْ يَزْنِيَ أَوْ يَسْرِقَ، أَوْ يَكْفُرَ أَوْ يَعْمَلَ كبيرة. فَقِيلَ لَهُ: أَتَخَافُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ:
مَا يُؤَمِّنُنِي وَإِبْلِيسُ حَيٌّ، وَمُصَرِّفُ الْقُلُوبِ يُصَرِّفُهَا كَيْفَ يَشَاءُ؟. وقالت له ابنته: يا أبة إِنَّ الْبَنَاتَ يُعَيِّرْنَنِي يَقُلْنَ: لِمَ لَا يَحْلِيكِ أَبُوكِ بِالذَّهَبِ؟ فَقَالَ: يَا بُنَيَّةُ قُولِي لَهُنَّ. إِنَّ أَبِي يَخْشَى عَلَيَّ حَرَّ اللَّهَبِ وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ أَتَيْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَقُمْتُ لَهُ وَهُوَ يُسَبِّحُ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَانْتَظَرْتُهُ فَلَمَّا انْصَرَفَ دَنَوْتُ مِنْهُ فَقُلْتُ: أَقْرِئْنِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، قَالَ: وَمَا أُرِيدُ إِلَّا الطَّعَامَ، قَالَ فَأَقْرَأَنِي آيَاتٍ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، فَلَمَّا بَلَغَ أَهْلَهُ دَخَلَ وَتَرَكَنِي عَلَى الْبَابِ، فَقُلْتُ: يَنْزِعُ ثِيَابَهُ ثُمَّ يَأْمُرُ لِي بِطَعَامٍ، فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، فَلَمَّا طَالَ عَلَيَّ قُمْتُ فَمَشَيْتُ فَاسْتَقْبَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَلَّمَنِي فَقَالَ: «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ إِنَّ خُلُوفَ فَمِكَ اللَّيْلَةَ لَشَدِيدٌ؟ فَقُلْتُ: أَجَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَقَدْ ظَلَلْتُ صَائِمًا وَمَا أَفْطَرْتُ بَعْدُ، وَمَا أَجِدُ مَا أُفْطِرُ عَلَيْهِ، قَالَ: فَانْطَلَقَ، فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ حَتَّى أَتَى بَيْتَهُ فَدَعَا جارية له سوداء فقال: ايتنا بتلك القصعة، فأتينا بِقَصْعَةٍ فِيهَا وَضُرٌ مِنْ طَعَامٍ أَرَاهُ شَعِيرًا قَدْ أُكِلَ وَبَقِيَ فِي جَوَانِبِهَا بَعْضُهُ وَهُوَ يَسِيرٌ، فَسَمَّيْتُ وَجَعَلْتُ أَتَتَبَّعُهُ فَأَكَلْتُ حَتَّى شَبِعْتُ» . وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: ثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ لِابْنَتِهِ: لَا تَلْبَسِي الذَّهَبَ فَإِنِّي أَخْشَى عَلَيْكِ حَرَّ اللَّهَبِ. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ طُرُقٍ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ ثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ عَنْ أَبِي الرَّبِيعِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْكُنَاسَةَ مَهْلَكَةُ دُنْيَاكُمْ وَآخِرَتِكُمْ- يَعْنِي الشَّهَوَاتِ وَمَا يَأْكُلُونَهُ- وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ دَعَاهُ لِيَسْتَعْمِلَهُ فَأَبَى أَنْ يَعْمَلَ لَهُ، فَقَالَ: أَتَكْرَهُ الْعَمَلَ وَقَدْ عَمِلَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ؟ - أَوْ قَالَ: قَدْ طَلَبَهُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ-؟ قَالَ: مَنْ؟ قَالَ: يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: يُوسُفُ نبي ابن نبي، وأنا أبو هريرة بن أميمة، فأخشى ثلاثا أو اثنتين. فَقَالَ عُمَرُ: أَفَلَا قُلْتَ خَمْسًا؟ قَالَ: أَخْشَى أن أقول بغير علم، وأقضى بغير حلم، وأن يضرب ظهري، وينتزع مالي، وَيُشْتَمَ عِرْضِي. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي هِنْدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: «أَلَا تَسْأَلُنِي من هذه الغنائم التي سألني أَصْحَابُكَ؟ فَقُلْتُ: أَسْأَلُكَ أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عَلَّمَكَ الله، قال: فنزع نمرة على ظهري فبسطها بيني وبينه حتى كأنى إِلَى الْقَمْلِ يَدِبُّ عَلَيْهَا، فَحَدَّثَنِي حَتَّى إِذَا اسْتَوْعَبَ حَدِيثَهُ قَالَ:
اجْمَعْهَا إِلَيْكَ فَصُرَّهَا، فَأَصْبَحْتُ لَا أُسْقِطُ حَرْفًا مِمَّا حَدَّثَنِي» . وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ: قُلْتُ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: كَيْفَ تَصُومُ؟ قَالَ: أَصُومُ أَوَّلَ الشَّهْرِ ثَلَاثًا فَإِنْ حَدَثَ بِي حَدَثٌ كَانَ لِي أَجْرُ شَهْرِي.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ فِي سَفَرٍ وَمَعَهُ قَوْمٌ فَلَمَّا نَزَلُوا وَضَعُوا السُّفْرَةَ وَبَعَثُوا إِلَيْهِ لِيَأْكُلَ مَعَهُمْ فَقَالَ: إِنِّي صَائِمٌ، فَلَمَّا كَادُوا أَنْ يَفْرَغُوا مِنْ أَكْلِهِمْ جَاءَ فجعل

(8/111)


يَأْكُلُ، فَجَعَلَ الْقَوْمُ يَنْظُرُونَ إِلَى رَسُولِهِمُ الَّذِي أَرْسَلُوهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُمْ: أَرَاكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيَّ، قَدْ وَاللَّهِ أَخْبَرَنِي أَنَّهُ صَائِمٌ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: صَدَقَ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «صوم شهر صوم الصَّبْرِ، وَصَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ صَوْمُ الدَّهْرِ» . وَقَدْ صُمْتُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ فَأَنَا مُفْطِرٌ فِي تَخْفِيفِ اللَّهِ، صَائِمٌ فِي تَضْعِيفِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمرٍو ثَنَا إِسْمَاعِيلُ عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَانَ هُوَ وَأَصْحَابٌ لَهُ إِذَا صاموا يجلسون في المسجد وقالوا نطهر صِيَامَنَا. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدَةَ الْحِدَادُ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ الشَّحَّامُ أَبُو سَلَمَةَ ثَنَا فَرْقَدٌ السَّبَخِيُّ قَالَ: كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَهُوَ يَقُولُ: وَيْلٌ لِي مِنْ بَطْنِي، إِنْ أَشْبَعْتُهُ كَظَّنِي، وَإِنْ أَجَعْتُهُ أَضْعَفَنِي. وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ كُلَّ يَوْمٍ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَلْفَ مَرَّةٍ، وَذَلِكَ عَلَى قَدْرِ دِيَتِي. وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَانَ لَهُ خَيْطٌ فِيهِ اثَنَا عَشَرَ أَلْفَ عُقَدْةٍ يُسَبِّحُ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَنَامَ. وَفِي رِوَايَةٍ أَلْفَا عُقَدْةٍ فَلَا يَنَامُ حَتَّى يُسَبِّحَ بِهِ، وَهُوَ أَصَحُّ مِنَ الَّذِي قَبِلَهُ. وَلِمَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ بَكَى فَقِيلَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ؟ فَقَالَ:
مَا أَبْكِي عَلَى دُنْيَاكُمْ هَذِهِ، وَلَكِنْ أَبْكِي عَلَى بُعْدِ سَفَرِي وَقِلَّةِ زَادِي، وَإِنِّي أَصْبَحْتُ في صعود ومهبط عَلَى جَنَّةٍ وَنَارٍ، لَا أَدْرِي إِلَى أَيِّهِمَا يُؤْخَذُ بِي. وَرَوَى قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ ثَنَا الْفَرَجُ بْنُ فَضَالَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «إِذَا زَوَّقْتُمْ مَسَاجِدَكُمْ وَحَلَّيْتُمْ مَصَاحِفَكُمْ فَالدَّمَارُ عَلَيْكُمْ» وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ: بَلَغَنِي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَانَ إذا مر به جنازة قَالَ رُوحُوا فَإِنَّا غَادُونَ، أَوِ اغْدُوَا فَإِنَّا رائحون، موعظة بليغة، وعقلة سَرِيعَةٌ، يَذْهَبُ الْأَوَّلُ وَيَبْقَى الْآخِرُ لَا عَقْلَ لَهُ. وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَالِكٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ حدثني أبو بكر ليث بن خالد البجلي ثَنَا عَبْدُ الْمُؤْمِنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ السَّدُوسِيُّ. قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا يَزِيدَ الْمَدِينِيَّ يَقُولُ: قَامَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُونَ مَقَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعُتْبَةَ، فَقَالَ: وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، وَيْلٌ لَهُمْ مِنْ إِمَارَةِ الصِّبْيَانِ، يَحْكُمُونَ فِيهِمْ بِالْهَوَى وَيَقْتُلُونَ بِالْغَضَبِ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ ثابت عن أسامة ابن زَيْدٍ عَنْ أَبِي زِيَادٍ- مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَتْ لِي خَمْسَ عَشْرَةَ ثَمَرَةً فَأَفْطَرْتُ عَلَى خَمْسٍ وَتَسَحَّرْتُ بِخَمْسٍ وَأَبْقَيْتُ خَمْسًا لِفِطْرِي. وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنِ عَمْرٍو ثَنَا إِسْمَاعِيلُ- يَعْنِي الْعَبْدِيَّ- عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَتْ لَهُمْ زِنْجِيَّةٌ قَدْ غَمَّتْهُمْ بِعَمَلِهَا، فَرَفَعَ عَلَيْهَا يَوْمًا السَّوْطَ ثُمَّ قَالَ: لَوْلَا الْقِصَاصُ يَوْمَ القيامة لأغشينك بِهِ، وَلَكِنْ سَأَبِيعُكِ مِمَّنْ يُوَفِّينِي ثَمَنَكِ، أَحْوَجَ مَا أَكُونُ إِلَيْهِ، اذْهَبِي فَأَنْتِ حُرَّةٌ للَّه عَزَّ وَجَلَّ. وَرَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ مَرِضَ فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ أَعُودُهُ فَقُلْتُ: اللَّهمّ اشْفِ أَبَا هُرَيْرَةَ، فَقَالَ: اللَّهمّ لَا تُرْجِعْهَا، ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا سَلَمَةَ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَكُونُ الْمَوْتُ أَحَبَّ

(8/112)


إِلَى أَحَدِهِمْ مِنَ الذَّهَبِ الْأَحْمَرِ. وَرَوَى عَطَاءٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: إِذَا رَأَيْتُمْ سِتًّا فَإِنْ كَانَتْ نَفْسُ أَحَدِكُمْ فِي يَدِهِ فَلْيُرْسِلْهَا، فَلِذَلِكَ أَتَمَنَّى الْمَوْتَ أَخَافُ أَنْ تُدْرِكَنِي، إِذَا أُمِّرَتِ السُّفَهَاءُ، وَبِيعَ الْحُكْمُ، وَتُهُوِّنُ بِالدَّمِ، وَقُطَّعَتِ الأرحام، وكثرت الجلاوزة، ونشأ نشو يَتَّخِذُونَ الْقُرْآنَ مَزَامِيرَ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ زِيَادٍ الْقُرَظِيِّ أَنَّ ثَعْلَبَةَ بْنَ أَبِي مَالِكٍ الْقُرَظِيَّ حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَقْبَلَ فِي السُّوقِ يحمل حزمتى حَطَبٍ- وَهُوَ يَوْمَئِذٍ أَمِيرٌ لِمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ- فَقَالَ: أَوْسِعِ الطَّرِيقَ لِلْأَمِيرِ يَا ابْنَ أَبِي مَالِكٍ، [فَقُلْتُ يَرْحَمُكَ اللَّهُ يَكْفِي هَذَا! فَقَالَ: أَوْسِعِ الطَّرِيقَ لِلْأَمِيرِ وَالْحُزْمَةُ عَلَيْهِ] [1] وَلَهُ فَضَائِلُ ومناقب كثيرة وَكَلَامٌ حَسَنٌ وَمَوَاعِظُ جَمَّةٌ، أَسْلَمَ كَمَا قَدَّمْنَا عَامَ خَيْبَرَ، فَلَزِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِمَ يُفَارِقْهُ إِلَّا حِينَ بَعَثَهُ مَعَ الْعَلَاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ إِلَى الْبَحْرَيْنِ، وَوَصَّاهُ بِهِ، فَجَعَلَهُ الْعَلَاءُ مُؤَذِّنًا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقَالَ لَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ: لَا تَسْبِقْنِي بِآمِينَ أَيُّهَا الْأَمِيرُ. وَقَدِ اسْتَعْمَلَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَيْهَا فِي أَيَّامِ إِمَارَتِهِ، وَقَاسَمَهُ مَعَ جُمْلَةِ الْعُمَّالِ. قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ. أَنَّ عُمَرَ اسْتَعْمَلَ أَبَا هُرَيْرَةَ عَلَى الْبَحْرَيْنِ فَقَدِمَ بِعَشَرَةِ آلَافٍ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: اسْتَأْثَرْتَ بِهَذِهِ الْأَمْوَالِ أَيْ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّ كِتَابِهِ؟ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: لَسْتُ بعدو الله ولا عدو كتابه، ولكن عَدُوُّ مَنْ عَادَاهُمَا.
فَقَالَ: فَمِنْ أَيْنَ هِيَ لَكَ؟ قَالَ: خَيْلٌ نُتِجَتْ، وَغَلَّةٌ وَرَقِيقٌ لِي، وَأَعْطِيَةٌ تَتَابَعَتْ عَلَيَّ. فَنَظَرُوا فَوَجَدُوهُ كَمَا قَالَ. فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ دَعَاهُ عُمَرُ لِيَسْتَعْمِلَهُ فَأَبَى أَنْ يَعْمَلَ لَهُ، فَقَالَ لَهُ: تَكْرَهُ الْعَمَلَ وَقَدْ طَلَبَهُ مَنْ كَانَ خَيْرًا مِنْكَ؟ طَلَبَهُ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ: إِنَّ يُوسُفَ نَبِيٌّ ابْنُ نَبِيٍّ ابْنِ نَبِيٍّ ابْنِ نَبِيٍّ، وأنا أبو هريرة بن أمية وأخشى ثلاثا واثنين، قَالَ عُمَرُ: فَهَلَّا قُلْتَ خَمْسَةً؟ قَالَ: أَخْشَى أن أقول بغير علم، وأقضى بغير حلم، أو يضرب ظهري، وينزع مَالِي، وَيُشْتَمُ عِرْضِي. وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّ عُمَرَ غرمه فِي الْعِمَالَةِ الْأُولَى اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا فَلِهَذَا امْتَنَعَ فِي الثَّانِيَةِ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ.
قَالَ: كَانَ مُعَاوِيَةُ يَبْعَثُ أَبَا هُرَيْرَةَ عَلَى الْمَدِينَةِ فَإِذَا غَضِبَ عَلَيْهِ عَزَلَهُ وَوَلَّى مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ، فَإِذَا جَاءَ أَبُو هُرَيْرَةَ إِلَى مَرْوَانَ حَجَبَهُ عَنْهُ، فَعَزَلَ مَرْوَانَ وَرَجَعَ أَبُو هُرَيْرَةَ، فَقَالَ لِمَوْلَاهُ: مَنْ جَاءَكَ فَلَا تَرُدَّهُ وَاحَجُبْ مَرْوَانَ، فَلَمَّا جَاءَ مَرْوَانُ دَفَعَ الْغُلَامُ فِي صَدْرِهِ فما دخل إلا بعد جهد جهيد، فَلَمَّا دَخَلَ قَالَ:
إِنَّ الْغُلَامَ حَجَبَنَا عَنْكَ، فَقَالَ لَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ: إِنَّكَ أَحَقُّ النَّاسِ أَنْ لَا تَغْضَبَ مِنْ ذَلِكَ. وَالْمَعْرُوفُ أَنَّ مَرْوَانَ هُوَ الَّذِي كَانَ يَسْتَنِيبُ أَبَا هُرَيْرَةَ فِي إِمْرَةِ الْمَدِينَةِ، وَلَكِنْ كَانَ يَكُونُ عَنْ إِذْنِ مُعَاوِيَةَ فِي ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَبِي رَافِعٍ: كَانَ مَرْوَانُ رُبَّمَا اسْتَخْلَفَ أَبَا هُرَيْرَةَ عَلَى الْمَدِينَةِ فَيَرْكَبُ الْحِمَارَ وَيَلْقَى الرَّجُلَ فَيَقُولُ: الطَّرِيقَ قَدْ جَاءَ الْأَمِيرُ- يَعْنِي نَفْسَهُ- وَكَانَ يَمُرُّ بِالصِّبْيَانِ وَهُمْ يَلْعَبُونَ بِاللَّيْلِ لُعْبَةَ الْأَعْرَابِ، وهو أمير، فلا يشعرون إلا وقد ألقى نفسه بينهم ويضرب برجليه
__________
[1] سقط من المصرية

(8/113)


كأنه مجنون، يريد بذلك أن يضحكهم، فيفزع الصبيان منه ويفرون عنه هاهنا وهاهنا يتضاحكون.
قَالَ أَبُو رَافِعٍ: وَرُبَّمَا دَعَانِي أَبُو هُرَيْرَةَ إِلَى عَشَائِهِ بِاللَّيْلِ فَيَقُولُ: دَعِ الْعِرَاقَ لِلْأَمِيرِ- يَعْنِي قِطَعَ اللَّحْمِ- قَالَ: فَأَنْظُرُ فَإِذَا هُوَ ثريد بالزيت. وقال ابن وهب: حدثني عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ زِيَادٍ القرظي أن ثعلبة بن أبى مالك حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَقْبَلَ فِي السُّوقِ يحمل حزمة حطب وهو يومئذ خليفة مروان فَقَالَ: أَوْسِعِ الطَّرِيقَ لِلْأَمِيرِ يَا ابْنَ أَبِي مالك. فقلت: أصلحك الله تلقى هَذَا، فَقَالَ: أَوْسِعِ الطَّرِيقَ لِلْأَمِيرِ وَالْحُزْمَةُ عَلَيْهِ. وقد تقدم هذا. وروى نحوه من غير وجه. وَقَالَ أَبُو الزُّعَيْزِعَةِ كَاتِبُ مَرْوَانَ:
بَعَثَ مَرْوَانُ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ بِمِائَةِ دِينَارٍ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ بَعْثَ إِلَيْهِ: إِنِّي غَلِطْتُ وَلَمْ أُرِدْكَ بِهَا، وَإِنِّي إِنَّمَا أَرَدْتُ غَيْرَكَ. فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَدْ أَخْرَجْتُهَا فَإِذَا خَرَجَ عَطَائِي فَخُذْهَا مِنْهُ- وَكَانَ قَدْ تَصَدَّقَ بِهَا- وَإِنَّمَا أَرَادَ مروان اختباره. وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الأعلى بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ ثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: كَانَ مُعَاوِيَةُ إِذَا أَعْطَى أَبَا هُرَيْرَةَ سَكَتَ، وَإِذَا أَمْسَكَ عَنْهُ تَكَلَّمَ.
وَرَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ جَاءَهُ شَابٌّ فَقَالَ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ إِنِّي أَصْبَحْتُ صَائِمًا فَدَخَلْتُ عَلَى أَبِي فَجَاءَنِي بِخُبْزٍ وَلَحْمٍ فَأَكَلْتُ نَاسِيًا، فَقَالَ: طُعْمَةٌ أَطْعَمَكَهَا اللَّهُ لَا عَلَيْكَ، قَالَ: ثُمَّ دَخَلْتُ دَارًا لِأَهْلِي فَجِيءَ بِلَبَنِ لَقْحَةٍ فَشَرِبْتُهُ نَاسِيًا، قَالَ: لَا عَلَيْكَ، قَالَ: ثُمَّ نِمْتُ فَاسْتَيْقَظْتُ فَشَرِبْتُ مَاءً، وَفِي رِوَايَةٍ وَجَامَعْتُ نَاسِيًا، فَقَالَ أَبُو هريرة: إنك يا ابن أخى لم تعتد الصيام. [وقال غير واحد: كان أبو هريرة إذا رأى الجنازة قَالَ: رُوحُوا فَإِنَّا غَادُونَ، أَوِ اغْدُوَا فَإِنَّا رائحون. وَرَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّهُ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ بَكَى فَقِيلَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: عَلَى قِلَّةِ الزَّادِ وَشِدَّةِ الْمَفَازَةِ، وَأَنَا عَلَى عَقَبَةِ هبوط إما إلى جنة أَوْ إِلَى نَارٍ فَمَا أَدْرِي إِلَى أَيِّهِمَا أَصِيرُ] [1] وَقَالَ مَالِكٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ. قَالَ: دَخَلَ مَرْوَانُ عَلَى أَبِي هريرة في مرضه الَّذِي مَاتَ فِيهِ فَقَالَ: شَفَاكَ اللَّهُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: اللَّهمّ إِنِّي أُحِبُّ لِقَاءَكَ فَأَحِبَّ لِقَائِي. قَالَ: فَمَا بَلَغَ مروان أصحاب القطن حتى مات أبو هريرة وقال يعقوب ابن سفيان عن دحيم عن الوليد بن جَابِرٍ عَنْ عُمَيْرِ بْنِ هَانِئٍ. قَالَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: اللَّهمّ لَا تُدْرِكْنِي سَنَةَ سِتِّينَ، قَالَ: فَتُوُفِّيَ فِيهَا أَوْ قَبْلَهَا بِسَنَةٍ، وَهَكَذَا قَالَ الْوَاقِدِيُّ: أَنَّهُ تُوُفِّيَ سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ، عَنْ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً، قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَهُوَ الَّذِي صَلَّى عَلَى عَائِشَةَ فِي رَمَضَانَ، وَعَلَى أُمِّ سَلَمَةَ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ، ثُمَّ تُوُفِّيَ أَبُو هُرَيْرَةَ بَعْدَهُمَا فِيهَا، كَذَا قَالَ، وَالصَّوَابُ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ تَأَخَّرَتْ بَعْدَ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَقَدْ قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ: إِنَّهُ تُوُفِّيَ سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ وَقِيلَ ثَمَانٍ، وَقِيلَ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ، وَالْمَشْهُورُ تِسْعٌ وَخَمْسِينَ. قَالُوا: وَصَلَّى عَلَيْهِ الْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ نَائِبُ الْمَدِينَةِ، وَفِي الْقَوْمِ ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو سعيد وخلق من الصحابة وغيرهم، وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ في داره بالعقيق،
__________
[1] سقط من نسخة طوب قبو بالأستانة

(8/114)


فَحُمِلَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَصَلَّى عَلَيْهِ، ثُمَّ دُفِنَ بِالْبَقِيعِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ. وَكَتَبَ الْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ إِلَى مُعَاوِيَةَ بِوَفَاةِ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ: أَنِ انْظُرْ وَرَثَتَهُ فَأَحْسِنْ إِلَيْهِمْ، وَاصْرِفْ إِلَيْهِمْ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَأَحْسِنْ جِوَارَهُمْ، وَاعْمَلْ إِلَيْهِمْ مَعْرُوفًا، فَإِنَّهُ كَانَ مِمَّنْ نصر عثمان، وكان معه في الدار رحمهما اللَّهُ تَعَالَى: