البداية والنهاية، ط. دار الفكر

ثم دخلت سنة إحدى وستين
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَالْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ سَائِرٌ إِلَى الْكُوفَةِ فِيمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْعِرَاقِ وَمَعَهُ أَصْحَابُهُ وَقَرَابَاتُهُ، فَقُتِلَ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ مِنْ شَهْرِ الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ الّذي صححه الواقدي وغير واجد، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ قُتِلَ فِي صَفَرٍ مِنْهَا وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.
وَهَذِهِ صِفَةُ مَقْتَلِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَأْخُوذَةً مِنْ كَلَامِ أَئِمَّةِ هَذَا الشَّأْنِ لَا كَمَا يَزْعُمُهُ أَهْلُ التَّشَيُّعِ مِنَ الْكَذِبِ الصَّرِيحِ وَالْبُهْتَانِ
قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ عَنْ أَبِي جَنَابٍ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَرْمَلَةَ عَنْ عَبْدِ الله بْنِ حَرْمَلَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمٍ وَالْمَذْرِيِّ [1] بْنِ الْمُشْمَعِلِّ الْأَسَدِيَّيْنِ قَالَا: أَقْبَلَ الْحُسَيْنُ فلما نزل شرف قَالَ لِغِلْمَانِهِ وَقْتَ السَّحَرِ:
اسْتَقَوْا مِنَ الْمَاءِ فَأَكْثَرُوا، ثُمَّ سَارُوا إِلَى صَدْرِ النَّهَارِ فَسَمِعَ الْحُسَيْنُ رَجُلًا يُكَبِّرُ فَقَالَ لَهُ: مِمَّ كَبَّرْتَ؟
فقال: رأيت النخيلة، فَقَالَ لَهُ الْأَسَدِيَّانِ: إِنَّ هَذَا الْمَكَانَ لَمْ ير أحد منه نخيلة، فَقَالَ الْحُسَيْنُ: فَمَاذَا تَرَيَانِهِ رَأَى؟ فَقَالَا: هَذِهِ الْخَيْلُ قَدْ أَقْبَلَتْ، فَقَالَ الْحُسَيْنُ: أَمَا لَنَا مَلْجَأٌ نَجْعَلُهُ فِي ظُهُورِنَا وَنَسْتَقْبِلُ الْقَوْمَ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ؟ فَقَالَا: بَلَى: ذُو حُسُمٍ. فَأَخَذَ ذات اليسار إليها فَنَزَلَ، وَأَمَرَ بِأَبْنِيَتِهِ فَضُرِبَتْ، وَجَاءَ الْقَوْمُ وَهُمْ أَلْفُ فَارِسٍ مَعَ الْحُرِّ بْنِ يَزِيدَ التَّمِيمِيِّ، وَهُمْ مُقَدِّمَةُ الْجَيْشِ الَّذِينَ بَعَثَهُمُ ابْنُ زِيَادٍ، حتى وقفوا في مقابلته في نحو الظَّهِيرَةِ، وَالْحُسَيْنُ وَأَصْحَابُهُ مُعْتَمُّونَ مُتَقَلِّدُونَ سُيُوفَهُمْ، فَأَمَرَ الْحُسَيْنُ أَصْحَابَهُ أَنْ يَتَرَوَّوْا مِنَ الْمَاءِ وَيَسْقُوا خُيُولَهُمْ، وَأَنْ يَسْقُوا خُيُولَ أَعْدَائِهِمْ أَيْضًا. وَرَوَى هُوَ وَغَيْرُهُ قَالُوا: لَمَّا دَخَلَ وَقْتُ الظُّهْرِ أَمَرَ الْحُسَيْنُ الْحَجَّاجَ بْنَ مَسْرُوقٍ الْجُعْفِيَّ فَأَذَّنَ ثُمَّ خَرَجَ الْحُسَيْنُ فِي إِزَارٍ وَرِدَاءٍ وَنَعْلَيْنِ فَخَطَبَ النَّاسَ مِنْ أَصْحَابِهِ وَأَعْدَائِهِ وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِمْ فِي مَجِيئِهِ هَذَا إِلَى هَاهُنَا، بِأَنَّهُ قَدْ كَتَبَ إِلَيْهِ أَهْلُ الْكُوفَةِ أَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ إِمَامٌ، وَإِنْ أَنْتَ قَدِمْتَ عَلَيْنَا بَايَعْنَاكَ وَقَاتَلْنَا مَعَكَ، ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَقَالَ الْحُسَيْنُ لِلْحُرِّ: تُرِيدُ أَنْ تُصَلِّيَ بِأَصْحَابِكَ؟ قَالَ لَا! وَلَكِنْ صل أنت ونحن نصلي وَرَاءَكَ. فَصَلَّى بِهِمُ الْحُسَيْنُ، ثُمَّ دَخَلَ إِلَى خَيْمَتِهِ وَاجْتَمَعَ بِهِ أَصْحَابُهُ، وَانْصَرَفَ الْحُرُّ إِلَى جَيْشِهِ وَكُلٌّ عَلَى أُهْبَتِهِ، فَلَمَّا كَانَ وَقْتُ الْعَصْرِ صَلَّى بِهِمُ الْحُسَيْنُ ثُمَّ انْصَرَفَ فَخَطَبَهُمْ وَحَثَّهُمْ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لَهُ وَخَلْعِ مَنْ عاداهم من الأدعياء السائرين فيكم بالجور. فَقَالَ لَهُ الْحُرُّ: إِنَّا لَا نَدْرِي مَا هَذِهِ الْكُتُبُ، وَلَا مَنْ كَتَبَهَا، فَأَحْضَرَ الْحُسَيْنُ خُرْجَيْنِ مَمْلُوءَيْنِ كُتُبًا فَنَثَرَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَقَرَأَ مِنْهَا طَائِفَةً، فَقَالَ الْحُرُّ: لَسْنَا مِنْ هَؤُلَاءِ الذين كتبوا إليك في شيء، وَقَدْ أُمِرْنَا إِذَا نَحْنُ لَقِينَاكَ أَنْ لَا نُفَارِقُكَ حَتَّى نُقْدِمَكَ عَلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زياد، فقال الحسين: الموت أدنى مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ الْحُسَيْنُ لِأَصْحَابِهِ: ارْكَبُوا! فَرَكِبُوا وَرَكِبَ النِّسَاءُ، فَلَمَّا أَرَادَ الِانْصِرَافَ حَالَ الْقَوْمُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِانْصِرَافِ، فَقَالَ الْحُسَيْنُ لِلْحُرِّ: ثكلتك أمك، ماذا تريد؟
__________
[1] كذا بالأصلين. وفي الطبري

(8/172)


فَقَالَ لَهُ الْحُرُّ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْ غَيْرُكَ يَقُولُهَا لِي مِنَ الْعَرَبِ وَهُوَ عَلَى مِثْلِ الْحَالِ الَّتِي أَنْتَ عَلَيْهَا لَأَقْتَصَّنَّ مِنْهُ، وَلَمَا تركت أُمِّهِ، وَلَكِنْ لَا سَبِيلَ إِلَى ذِكْرِ أُمِّكَ إِلَّا بِأَحْسَنِ مَا نقَدْرُ عَلَيْهِ، وَتَقَاوَلَ الْقَوْمُ وتراجعوا فقال له الحر: إني لم أومر بِقِتَالِكَ، وَإِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ لَا أُفَارِقَكَ حَتَّى أُقْدِمَكَ الْكُوفَةَ عَلَى ابْنِ زِيَادٍ، فَإِذَا أَبَيْتَ فخذ طريقا لا يقدمك الكوفة ولا تردك إلى المدينة، واكتب أنت إلى يزيد، وأكتب أنا إِلَى ابْنِ زِيَادٍ إِنْ شِئْتَ، فَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَأْتِيَ بِأَمْرٍ يَرْزُقُنِي فِيهِ الْعَافِيَةَ مِنْ أَنْ أُبْتَلَى بِشَيْءٍ مِنْ أَمْرِكَ. قَالَ:
فَأَخَذَ الْحُسَيْنُ يَسَارًا عَنْ طَرِيقِ الْعُذَيْبِ وَالْقَادِسِيَّةِ، وَالْحُرُّ بْنُ يَزِيدَ يُسَايِرُهُ وَهُوَ يَقُولُ لَهُ: يَا حُسَيْنُ إِنِّي أُذَكِّرُكَ اللَّهَ فِي نَفْسِكَ، فَإِنِّي أَشْهَدُ لَئِنْ قَاتَلْتَ لَتُقْتَلَنَّ، وَلَئِنْ قُوتِلْتَ لَتَهْلِكَنَّ فِيمَا أَرَى. فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ: أَفَبِالْمَوْتِ تُخَوِّفُنِي؟ وَلَكِنْ أَقُولُ كَمَا قَالَ أَخُو الْأَوْسِ لِابْنِ عَمِّهِ وَقَدْ لَقِيَهُ وَهُوَ يُرِيدُ نُصْرَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَيْنَ تَذْهَبُ فَإِنَّكَ مَقْتُولٌ؟ فَقَالَ: -
سَأَمْضِي وَمَا بِالْمَوْتِ عَارٌ عَلَى الْفَتَى ... إِذَا مَا نَوَى حَقًّا وَجَاهَدَ مُسْلِمًا
وَآسَى الرِّجَالَ الصَّالِحِينَ بِنَفْسِهِ ... وَفَارَقَ خَوْفًا أَنْ يَعِيشَ وَيُرْغَمَا
وَيُرْوَى عَلَى صِفَةٍ أُخْرَى
سَأَمْضِي وَمَا بِالْمَوْتِ عَارٌ عَلَى امْرِئٍ ... إِذَا مَا نَوَى حَقًّا وَلَمْ يُلْفَ مُجْرِمًا
فَإِنْ مِتُّ لَمْ أَنْدَمْ وَإِنْ عِشْتُ لَمْ أُلَمْ ... كَفَى بِكَ مَوْتًا أَنْ تُذَلَّ وَتُرْغَمَا
فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ الْحُرُّ مِنْهُ تَنَحَّى عَنْهُ وَجَعَلَ يَسِيرُ بِأَصْحَابِهِ نَاحِيَةً عَنْهُ، فَانْتَهَوْا إِلَى عذيب الهجانات وَإِذَا سَفْرٌ أَرْبَعَةٌ- أَيْ أَرْبَعَةُ نَفَرٍ- قَدْ أَقْبَلُوا مِنَ الْكُوفَةِ عَلَى رَوَاحِلِهِمْ يَخُبُّونَ وَيَجْنُبُونَ فَرَسًا لِنَافِعِ بْنِ هِلَالٍ يُقَالُ لَهُ الْكَامِلُ [قد أقبلوا من الكوفة يَقْصِدُونَ الْحُسَيْنَ وَدَلِيلُهُمْ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ الطِّرِمَّاحُ بْنُ عَدِيٍّ رَاكِبٌ عَلَى فَرَسٍ] [1] وَهُوَ يَقُولُ
يا نافتى لَا تُذْعَرِي مِنْ زَجْرِي ... وَشَمِّرِي قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ
بِخَيْرِ رُكْبَانٍ وَخَيْرِ سَفْرِ ... حَتَّى تَحَلِّي بِكَرِيمِ النَّجْرِ
الْمَاجِدِ الْحُرِّ رَحِيبِ الصَّدْرِ ... أَتَى بِهِ اللَّهُ لِخَيْرِ أَمْرِ
ثُمَّتَ أَبْقَاهُ بَقَاءَ الدَّهْرِ
فَأَرَادَ الْحُرُّ أَنْ يَحُولَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْحُسَيْنِ فَمَنَعَهُ الْحُسَيْنُ مِنْ ذَلِكَ، فَلَمَّا خَلَصُوا إِلَيْهِ قَالَ لَهُمْ: أَخْبِرُونِي عَنِ النَّاسِ وَرَاءَكُمْ، فقال له مجمع بن عبد الله العامري أَحَدُ النَّفَرِ الْأَرْبَعَةِ: أَمَّا أَشْرَافُ النَّاسِ فَهُمْ إلب عَلَيْكَ، لِأَنَّهُمْ قَدْ عَظُمَتْ رِشْوَتُهُمْ وَمُلِئَتْ غَرَائِرُهُمْ، يستميل بذلك ودهم ويستخلص به نصيحتهم، فهم إلب واحد عليك، وَأَمَّا سَائِرُ النَّاسِ فَأَفْئِدَتُهُمْ تَهْوَى إِلَيْكَ، وَسُيُوفُهُمْ غدا مشهورة عليك. قال
__________
[1] سقط من نسخة طوب قبو بالأستانة

(8/173)


لَهُمْ: فَهَلْ لَكَمَ بِرَسُولَيْ عِلْمٍ؟ قَالُوا: وَمَنْ رَسُولُكَ؟ قَالَ: قَيْسُ بْنُ مُسْهِرٍ الصَّيْدَاوِيُّ. قَالُوا: نَعَمْ أَخَذَهُ الْحُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ فَبَعَثَ بِهِ إِلَى ابْنِ زِيَادٍ فَأَمَرَهُ ابْنُ زِيَادٍ أَنْ يَلْعَنَكَ وَيَلْعَنَ أَبَاكَ، فَصَلَّى عَلَيْكَ وَعَلَى أَبِيكَ ولعن بن زِيَادٍ وَأَبَاهُ، وَدَعَا النَّاسَ إِلَى نُصْرَتِكَ وَأَخْبَرَهُمْ بِقُدُومِكَ فَأَمَرَ بِهِ فَأُلْقِيَ مِنْ رَأَسَ الْقَصْرِ فَمَاتَ، فَتَرَقْرَقَتْ عَيْنَا الْحُسَيْنِ، وَقَرَأَ قَوْلَهُ تَعَالَى فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ 33: 23 الآية ثم قال: اللَّهمّ اجعل منازلهم الجنة نزلا، وَاجْمَعْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فِي مُسْتَقَرٍّ مِنْ رَحْمَتِكَ، ورغائب مدخور ثَوَابِكَ. ثُمَّ إِنَّ الطِّرِمَّاحَ بْنَ عَدِيٍّ قَالَ للحسين: انظر فما معك؟ لا أَرَى مَعَكَ أَحَدًا إِلَّا هَذِهِ الشِّرْذِمَةَ الْيَسِيرَةَ، وَإِنِّي لَأَرَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ الَّذِينَ يُسَايِرُونَكَ أَكْفَاءً لِمَنْ مَعَكَ، فَكَيْفَ وَظَاهِرُ الْكُوفَةِ مَمْلُوءٌ بِالْخُيُولِ والجيوش يعرضون ليقصدونك، فأنشدك الله، إن قدرت أن لا تتقدم إليهم شبرا فافعل، فَإِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَنْزِلَ بَلَدًا يَمْنَعُكَ اللَّهُ بِهِ مِنْ مُلُوكِ غَسَّانَ وَحِمْيَرَ، وَمِنَ النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ، وَمِنَ الْأَسْوَدِ وَالْأَحْمَرِ، وَاللَّهِ إِنْ دَخَلَ عَلَيْنَا ذُلٌّ قَطُّ فَأَسِيرُ مَعَكَ حَتَّى أنزلك القرية، ثم تبعث إلى الرجال من باجا وسلمى من طيِّئ، ثم أقم معنا مَا بَدَا لَكَ، فَأَنَا زَعِيمٌ بِعَشَرَةِ آلَافِ طَائِيٍّ يَضْرِبُونَ بَيْنَ يَدَيْكَ بِأَسْيَافِهِمْ، وَاللَّهِ لَا يُوصَلُ إِلَيْكَ أَبَدًا وَمِنْهُمْ عَيْنٌ تَطْرِفُ. فَقَالَ له الحسين: جزاك الله خيرا، فلم يَرْجِعْ عَمَّا هُوَ بِصَدَدِهِ، فَوَدَّعَهُ الطِّرِمَّاحُ، وَمَضَى الْحُسَيْنُ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ اللَّيْلِ أَمَرَ فِتْيَانَهُ أَنْ يَسْتَقُوا مِنَ الْمَاءِ كِفَايَتَهُمْ، ثُمَّ سَرَى فَنَعَسَ فِي مَسِيرِهِ حَتَّى خَفَقَ بِرَأْسِهِ، وَاسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَقُولُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ، 2: 156 وَالْحَمْدُ للَّه رَبِّ الْعَالَمِينَ. ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ فَارِسًا عَلَى فَرَسٍ وَهُوَ يَقُولُ: الْقَوْمُ يَسِيرُونَ وَالْمَنَايَا تَسْرِي إِلَيْهِمْ، فَعَلِمْتُ أَنَّهَا أَنْفُسُنَا نُعِيَتْ إِلَيْنَا، فَلَمَّا طَلَعَ الْفَجْرُ صَلَّى بِأَصْحَابِهِ وَعَجَّلَ الرُّكُوبَ ثُمَّ تَيَاسَرَ فِي مَسِيرِهِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى نِينَوَى، فَإِذَا رَاكِبٌ مُتَنَكِّبٌ قَوْسًا قَدْ قَدِمَ مِنَ الْكُوفَةِ، فَسَلَّمَ عَلَى الْحُرِّ بْنِ يَزِيدَ وَلَمْ يُسَلِّمْ عَلَى الْحُسَيْنِ، وَدَفَعَ إِلَى الْحُرِّ كِتَابًا مِنِ ابْنِ زِيَادٍ وَمَضْمُونُهُ أَنْ يَعْدِلَ بِالْحُسَيْنِ فِي السَّيْرِ إِلَى الْعِرَاقِ فِي غَيْرِ قَرْيَةٍ وَلَا حِصْنٍ، حَتَّى تَأْتِيَهُ رُسُلُهُ وَجُنُودُهُ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْخَمِيسِ الثَّانِي مِنَ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ قَدِمَ عُمَرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ، وَكَانَ قَدْ جَهَّزَهُ ابْنُ زِيَادٍ فِي هَؤُلَاءِ إِلَى الدَّيْلَمِ، وَخَيَّمَ بِظَاهِرِ الْكُوفَةِ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِمْ أَمْرُ الْحُسَيْنِ قَالَ لَهُ: سِرْ إِلَيْهِ، فَإِذَا فَرَغْتَ مِنْهُ فَسِرْ إِلَى الدَّيْلَمِ، فَاسْتَعْفَاهُ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ مِنْ ذَلِكَ. فَقَالَ: لَهُ ابْنُ زِيَادٍ. إِنْ شِئْتَ عفيتك وَعَزَلْتُكَ عَنْ وِلَايَةِ هَذِهِ الْبِلَادِ الَّتِي قَدِ اسْتَنَبْتُكَ عَلَيْهَا، فَقَالَ: حَتَّى أَنْظُرَ فِي أَمْرِي، فَجَعَلَ لَا يَسْتَشِيرُ أَحَدًا إِلَّا نَهَاهُ عَنِ الْمَسِيرِ إِلَى الْحُسَيْنِ، حَتَّى قَالَ لَهُ ابْنُ أُخْتِهِ حَمْزَةُ بْنُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ: إِيَّاكَ أَنْ تَسِيرَ إِلَى الْحُسَيْنِ فَتَعْصِيَ رَبَّكَ وَتَقْطَعَ رحمك، فو الله لَأَنْ تَخْرُجَ مِنْ سُلْطَانِ الْأَرْضِ كُلِّهَا أَحَبُّ إِلَيْكَ مِنْ أَنْ تَلْقَى اللَّهَ بِدَمِ الْحُسَيْنِ، فَقَالَ: إِنِّي أَفْعَلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ثُمَّ إِنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ تَهَدَّدَهُ وَتَوَعَّدَهُ بِالْعَزْلِ وَالْقَتْلِ، فَسَارَ إِلَى الْحُسَيْنِ فَنَازَلَهُ فِي الْمَكَانَ الَّذِي ذَكَرْنَا، ثُمَّ بَعَثَ إِلَى الْحُسَيْنِ الرُّسُلَ: مَا الَّذِي أقْدَمَكَ؟ فَقَالَ

(8/174)


كَتَبَ إِلَيَّ أَهْلُ الْكُوفَةِ أَنْ أَقَدَمَ عَلَيْهِمْ، فاذ قد كرهوني فأنا راجع إِلَى مَكَّةَ وَأَذَرُكُمْ. فَلَمَّا بَلَغَ عُمَرَ بْنَ سَعْدٍ هَذَا قَالَ: أَرْجُو أَنْ يُعَافِيَنِي اللَّهُ مِنْ حَرْبِهِ، وَكَتَبَ إِلَى ابْنِ زِيَادٍ بِذَلِكَ، فَرَدَّ عَلَيْهِ ابْنُ زِيَادٍ:
أَنْ حُلْ بَيْنِهِمْ وَبَيْنَ الْمَاءِ كَمَا فُعِلَ بِالتَّقِيِّ الزَّكِيِّ الْمَظْلُومِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَاعْرِضْ عَلَى الْحُسَيْنِ أَنْ يُبَايِعَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ رَأَيْنَا رَأْيَنَا، وَجَعَلَ أَصْحَابُ عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ يَمْنَعُونَ أَصْحَابَ الْحُسَيْنِ مِنَ الْمَاءِ، وَعَلَى سَرِيَّةٍ منهم عمرو بن الحجاج، فدعا عليهم بِالْعَطَشِ فَمَاتَ هَذَا الرَّجُلُ مِنْ شِدَّةِ الْعَطَشِ. ثُمَّ إِنَّ الْحُسَيْنَ طَلَبَ مِنْ عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ أَنْ يَجْتَمِعَ بِهِ بَيْنَ الْعَسْكَرَيْنِ، فَجَاءَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نَحْوٍ مِنْ عِشْرِينَ فَارِسًا، فَتَكَلَّمَا طَوِيلًا حَتَّى ذَهَبَ هَزِيعٌ مِنَ اللَّيْلِ، وَلَمْ يَدْرِ أَحَدٌ مَا قَالَا، وَلَكِنْ ظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ سَأَلَهُ أَنْ يَذْهَبَ معه إلى يزيد بن معاوية إلى الشام ويتركا العسكرين متواقفين، فقال عمر إذاً يَهْدِمُ ابْنُ زِيَادٍ دَارِي، فَقَالَ الْحُسَيْنُ: أَنَا أبنيها لك أحسن مما كانت، قال: إذا يَأْخُذُ ضَيَاعِي، قَالَ أَنَا أُعْطِيكَ خَيْرًا مِنْهَا مِنْ مَالِي بِالْحِجَازِ، قَالَ: فَتَكَرَّهَ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ مِنْ ذَلِكَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ سَأَلَ مِنْهُ إِمَّا أَنْ يَذْهَبَا إِلَى يَزِيدَ، أَوْ يَتْرُكَهُ يَرْجِعُ إِلَى الْحِجَازِ أَوْ يَذْهَبُ إِلَى بَعْضِ الثُّغُورِ فَيُقَاتِلَ التُّرْكَ، فَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بِذَلِكَ، فَقَالَ: نَعَمْ! قَدْ قَبِلْتُ، فقام الشمر بْنُ ذِي الْجَوْشَنِ فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ حَتَّى يَنْزِلَ عَلَى حُكْمِكَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، ثُمَّ قَالَ: والله لقد بلغني أن حسينا وابن سَعْدٍ يَجْلِسَانِ بَيْنَ الْعَسْكَرَيْنِ فَيَتَحَدَّثَانِ عَامَّةَ اللَّيْلِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ زِيَادٍ: فَنِعْمَ مَا رَأَيْتَ.
وَقَدْ رَوَى أَبُو مِخْنَفٍ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جُنْدَبٍ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ سَمْعَانَ. قَالَ: لَقَدْ صَحِبْتُ الْحُسَيْنَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى حِينِ قُتِلَ، وَاللَّهِ مَا مِنْ كَلِمَةٍ قَالَهَا فِي مَوْطِنٍ إِلَّا وَقَدْ سَمِعْتُهَا، وَإِنَّهُ لَمْ يَسْأَلْ أن يذهب إلى يزيد فيضع يده إلى يَدِهِ، وَلَا أَنْ يَذْهَبَ إِلَى ثَغْرٍ مِنَ الثُّغُورِ، وَلَكِنْ طَلَبَ مِنْهُمْ أَحَدَ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَرْجِعَ مِنْ حَيْثُ جَاءَ، وَإِمَّا أَنْ يَدَعُوهُ يَذْهَبُ فِي الْأَرْضِ الْعَرِيضَةِ حَتَّى يَنْظُرَ مَا يَصِيرُ أَمْرُ النَّاسِ إِلَيْهِ. ثُمَّ إِنَّ عبيد الله بَعَثَ شَمِرَ بْنَ ذِي الْجَوْشَنِ فَقَالَ: اذْهَبْ فَإِنْ جَاءَ حُسَيْنٌ وَأَصْحَابُهُ عَلَى حُكْمِي وَإِلَّا فَمُرْ عُمَرَ بْنَ سَعْدٍ أَنْ يُقَاتِلَهُمْ، فَإِنْ تَبَاطَأَ عَنْ ذَلِكَ فَاضْرِبْ عُنُقَهُ ثُمَّ أَنْتَ الْأَمِيرُ عَلَى النَّاسِ.
وَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ يَتَهَدَّدُهُ عَلَى تَوَانِيهِ فِي قِتَالِ الْحُسَيْنِ، وَأَمَرَهُ إِنْ لَمْ يَجِئِ الْحُسَيْنُ إِلَيْهِ أَنْ يقاتله ومن معه، فإنهم مشاقون. فاستأمن عبيد اللَّهِ بْنُ أَبِي الْمُحِلِّ لِبَنِي عَمَّتِهِ أُمِّ البنين بنت حرام مِنْ عَلِيٍّ، وَهُمُ الْعَبَّاسُ وَعَبْدُ اللَّهِ وَجَعْفَرٌ وَعُثْمَانُ. فَكَتَبَ لَهُمُ ابْنُ زِيَادٍ كِتَابَ أَمَانٍ وبعثه عبيد الله بن المحل مع مولى له يقال له كرمان، فَلَمَّا بَلَغَهُمْ ذَلِكَ قَالُوا: أَمَّا أَمَانُ ابْنِ سُمَيَّةَ. فَلَا نُرِيدُهُ، وَإِنَّا لَنَرْجُو أَمَانًا خَيْرًا مِنْ أَمَانِ ابْنِ سُمَيَّةَ. وَلَمَّا قَدِمَ شَمِرُ بْنُ ذِي الْجَوْشَنِ عَلَى عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ بكتاب عبيد الله بن زياد، قال عُمَرُ: أَبْعَدَ اللَّهُ دَارَكَ، وَقَبَّحَ مَا جِئْتَ بِهِ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأَظُنُّكَ الَّذِي صَرَفْتَهُ عَنِ الَّذِي عَرَضْتُ عَلَيْهِ مِنَ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي طَلَبَهَا الْحُسَيْنُ، فَقَالَ لَهُ شَمِرٌ: فَأَخْبِرْنِي مَا أَنْتَ صَانِعٌ؟ أَتُقَاتِلُهُمْ أَنْتَ أَوْ تَارِكِي وَإِيَّاهُمْ؟

(8/175)


فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: لَا وَلَا كَرَامَةَ لَكَ! أَنَا أَتَوَلَّى ذَلِكَ، وَجَعَلَهُ عَلَى الرَّجَّالَةِ وَنَهَضُوا إِلَيْهِمْ عَشِيَّةَ يَوْمِ الْخَمِيسِ التَّاسِعِ مِنَ الْمُحَرَّمِ، فَقَامَ شَمِرُ بْنُ ذِي الْجَوْشَنِ فَقَالَ: أَيْنَ بَنُو أُخْتِنَا؟ فَقَامَ إِلَيْهِ الْعَبَّاسُ وَعَبْدُ اللَّهِ، وَجَعْفَرٌ وَعُثْمَانُ بَنُو عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ: أَنْتُمْ آمِنُونَ. فَقَالُوا: إِنْ أَمَّنْتَنَا وَابْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِلَّا فَلَا حَاجَةَ لَنَا بِأَمَانِكَ. قَالَ: ثُمَّ نَادَى عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ فِي الْجَيْشِ: يَا خَيْلَ اللَّهِ ارْكَبِي وَأَبْشِرِي، فَرَكِبُوا وَزَحَفُوا إِلَيْهِمْ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ مِنْ يَوْمِئِذٍ، هَذَا وَحُسَيْنٌ جَالِسٌ أَمَامَ خَيْمَتِهِ مُحْتَبِيًا بِسَيْفِهِ، وَنَعَسَ فَخَفَقَ بِرَأْسِهِ وسمعت أخته الضَّجَّةَ فَدَنَتْ مِنْهُ فَأَيْقَظَتْهُ، فَرَجَعَ بِرَأْسِهِ كَمَا هُوَ، وَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ فَقَالَ لِي: «إِنَّكَ تَرُوحُ إِلَيْنَا» فَلَطَمَتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ: يَا ويلتنا. فقال:
ليس لك الويل يا أخته: اسْكُنِي رَحِمَكِ الرَّحْمَنُ، وَقَالَ لَهُ أَخُوهُ الْعَبَّاسُ بْنُ عَلِيٍّ: يَا أَخِي جَاءَكَ الْقَوْمُ، فَقَالَ: اذْهَبْ إِلَيْهِمْ فَسَلْهُمْ مَا بَدَا لَهُمْ، فَذَهَبَ إِلَيْهِمْ فِي نَحْوٍ مِنْ عِشْرِينَ فَارِسًا فَقَالَ: مَا لَكُمْ؟ فَقَالُوا جَاءَ أَمْرُ الْأَمِيرِ إِمَّا أَنْ تَأْتُوا عَلَى حُكْمِهِ وَإِمَّا أَنْ نُقَاتِلَكُمْ. فَقَالَ: مَكَانَكُمْ حَتَّى أَذْهَبَ إِلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَأُعْلِمَهُ، فَرَجَعَ وَوَقَفَ أَصْحَابُهُ فَجَعَلُوا يَتَرَاجَعُونَ الْقَوْلَ وَيُؤَنِّبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، يَقُولُ أَصْحَابُ الْحُسَيْنِ:
بِئْسَ الْقَوْمُ، أَنْتُمْ تُرِيدُونَ قَتْلَ ذُرِّيَّةَ نَبِيِّكُمْ وَخِيَارَ النَّاسِ فِي زَمَانِهِمْ؟ ثُمَّ رَجَعَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَلِيٍّ مِنْ عِنْدِ الْحُسَيْنِ إِلَيْهِمْ فَقَالَ لَهُمْ: يَقُولُ لَكُمْ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: انْصَرِفُوا عَشِيَّتَكُمْ هَذِهِ حَتَّى يَنْظُرَ فِي أَمْرِهِ اللَّيْلَةَ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ لِشَمِرِ بْنِ ذِي الْجَوْشَنِ: مَا تَقَولُ؟ فَقَالَ: أَنْتَ الْأَمِيرُ وَالرَّأْيُ رَأْيُكَ، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْحَجَّاجِ بْنِ سَلَمَةَ الزُّبَيْدِيُّ: سُبْحَانَ اللَّهِ! وَاللَّهِ لَوْ سَأَلَكُمْ ذَلِكَ رَجُلٌ مَنَ الدَّيْلَمِ لَكَانَ يَنْبَغِي إِجَابَتُهُ.
وَقَالَ قَيْسُ بْنُ الْأَشْعَثِ: أَجِبْهُمْ إِلَى مَا سَأَلُوكَ، فَلَعَمْرِي لَيُصَبِّحُنَّكَ بِالْقِتَالِ غُدْوَةً، وَهَكَذَا جَرَى الْأَمْرُ، فَإِنَّ الْحُسَيْنَ لَمَّا رَجَعَ الْعَبَّاسُ قَالَ لَهُ: ارْجِعْ فَارْدُدْهُمْ هَذِهِ الْعَشِيَّةَ لَعَلَّنَا نُصَلِّي لِرَبِّنَا هذه الليلة ونستغفره وندعوه، فَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ مِنِّي أَنِّي أُحِبُّ الصَّلَاةَ لَهُ، وَتِلَاوَةَ كِتَابِهِ، وَالِاسْتِغْفَارَ وَالدُّعَاءَ.
وَأَوْصَى الْحُسَيْنُ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ إِلَى أَهْلِهِ، وَخَطَبَ أَصْحَابَهُ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ فَحَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى وَأَثْنَى عليه وصلى على رسوله بِعِبَارَةٍ فَصِيحَةٍ بَلِيغَةٍ، وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْصَرِفَ إِلَى أَهْلِهِ فِي لَيْلَتِهِ هَذِهِ فَقَدْ أَذِنْتُ لَهُ فَإِنَّ الْقَوْمَ إِنَّمَا يُرِيدُونَنِي. [فَقَالَ مَالِكُ بْنُ النَّضْرِ: عَلَيَّ دَيْنٌ وَلِي عِيَالٌ، فَقَالَ هَذَا اللَّيْلُ قَدْ غَشِيَكُمْ فَاتَّخِذُوهُ حجلا، ليأخذ كل مِنْكُمْ بِيَدِ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي ثُمَّ اذْهَبُوا فِي بَسِيطِ الْأَرْضِ فِي سَوَادِ هَذَا اللَّيْلِ إِلَى بِلَادِكُمْ وَمَدَائِنِكُمْ، فَإِنَّ الْقَوْمَ إِنَّمَا يُرِيدُونَنِي، فَلَوْ قَدْ أَصَابُونِي لَهَوْا عَنْ طَلَبِ غَيْرِي، فَاذْهَبُوا حَتَّى يُفَرِّجَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. فَقَالَ لَهُ إِخْوَتُهُ وَأَبْنَاؤُهُ وَبَنُو أَخِيهِ: لَا بَقَاءَ لَنَا بَعْدَكَ، وَلَا أَرَانَا اللَّهُ فِيكَ مَا نَكْرَهُ، فَقَالَ الْحُسَيْنُ: يَا بَنِي عَقِيلٍ حَسْبُكُمْ بِمُسْلِمٍ أَخِيكُمْ، اذْهَبُوا فَقَدْ أَذِنْتُ لَكُمْ، قالوا: فما تقول النَّاسُ أَنَّا تَرَكْنَا شَيْخَنَا وَسَيِّدَنَا وبَنِي عُمُومَتِنَا خَيْرَ الْأَعْمَامِ، لَمْ نَرْمِ مَعَهُمْ بِسَهْمٍ، وَلَمْ نَطْعَنْ مَعَهُمْ بِرُمْحٍ، وَلَمْ نَضْرِبْ مَعَهُمْ بِسَيْفٍ، رَغْبَةً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، لَا وَاللَّهِ لَا نَفْعَلُ، وَلَكِنْ نَفْدِيكَ

(8/176)


بِأَنْفُسِنَا وَأَمْوَالِنَا وَأَهْلِينَا، وَنُقَاتِلُ مَعَكَ حَتَّى نَرِدَ مَوْرِدَكَ. فَقَبَّحَ اللَّهُ الْعَيْشَ بَعْدَكَ. وَقَالَ نَحْوَ ذَلِكَ مُسْلِمُ بْنُ عَوْسَجَةَ الْأَسَدِيُّ، وَكَذَلِكَ قَالَ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَنَفِيُّ: وَاللَّهِ لَا نُخَلِّيكَ حَتَّى يَعْلَمَ اللَّهُ أَنَّا قَدْ حَفِظْنَا غَيْبَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيكَ، وَاللَّهِ لَوْ عَلِمْتُ أَنِّي أُقْتَلُ دُونَكَ أَلْفَ قَتْلَةٍ، وَأَنَّ اللَّهَ يَدْفَعُ بِذَلِكَ الْقَتْلَ عَنْكَ وَعَنْ أَنْفُسِ هَؤُلَاءِ الْفِتْيَةِ مِنْ أَهْلِ بيتك، لأحببت ذلك، وَإِنَّمَا هِيَ قَتْلَةٌ وَاحِدَةٌ.
وَتَكَلَّمَ جَمَاعَةُ أَصْحَابِهِ بِكَلَامٍ يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ، فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَا نُفَارِقُكَ، وَأَنْفُسُنَا الْفِدَاءُ لَكَ، نَقِيكَ بِنُحُورِنَا وَجِبَاهِنَا، وَأَيْدِينَا وَأَبْدَانِنَا، فَإِذَا نَحْنُ قُتِلْنَا وَفَّيْنَا وَقَضَيْنَا مَا عَلَيْنَا. وَقَالَ أَخُوهُ الْعَبَّاسُ: لَا أَرَانَا اللَّهُ يَوْمَ فَقْدِكَ وَلَا حَاجَةَ لَنَا فِي الْحَيَاةِ بَعْدَكَ. وَتَتَابَعَ أَصْحَابُهُ عَلَى ذَلِكَ] [1] وَقَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: حَدَّثَنِي الْحَارِثُ بْنُ كَعْبٍ وَأَبُو الضَّحَّاكِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ زَيْنِ الْعَابِدِينَ.
قَالَ: إِنِّي لَجَالِسٌ تِلْكَ الْعَشِيَّةَ الَّتِي قُتِلَ أَبِي فِي صَبِيحَتِهَا، وَعَمَّتِي زَيْنَبُ تُمَرِّضُنِي إِذِ اعْتَزَلَ أَبِي فِي خِبَائِهِ وَمَعَهُ أَصْحَابُهُ، وَعِنْدَهُ حُوَيٌّ مَوْلَى أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ، وَهُوَ يُعَالِجُ سَيْفَهُ وَيُصْلِحُهُ وَأَبِي يَقُولُ: -
يَا دَهْرُ أُفٍّ لَكَ مِنْ خَلِيلِ ... كَمْ لَكَ بِالْإِشْرَاقِ وَالْأَصِيلِ
مِنْ صَاحِبٍ أَوْ طَالِبٍ قَتِيلِ ... وَالدَّهْرُ لَا يَقْنَعُ بِالْبَدِيلِ
وَإِنَّمَا الْأَمْرُ إلى الجليل ... وكل حي سالك السبيل
فأعادها مرتين أو ثلاثا حتى حفظتها وفهمت مَا أَرَادَ، فَخَنَقَتْنِي الْعَبْرَةُ فَرَدَدْتُهَا، وَلَزِمْتُ السُّكُوتَ، وَعَلِمْتُ أَنَّ الْبَلَاءَ قَدْ نَزَلَ، وَأَمَّا عَمَّتِي فقامت حاسرة حتى انتهت إليه فقالت: وا ثكلاه!! لَيْتَ الْمَوْتَ أَعْدَمَنِي الْحَيَاةَ الْيَوْمَ، مَاتَتْ أُمِّي فَاطِمَةُ وَعَلِيٌّ أَبِي، وَحَسَنٌ أَخِي، يَا خَلِيفَةَ الْمَاضِي، وَثِمَالَ الْبَاقِي فَنَظَرَ إِلَيْهَا وَقَالَ: يَا أُخَيَّةُ، [لَا يُذْهِبَنَّ حِلْمُكِ الشَّيْطَانُ، فَقَالَتْ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، اسْتُقْتِلْتَ؟ وَلَطَمَتْ وَجْهَهَا وَشَقَّتْ جَيْبَهَا وَخَرَّتْ مَغْشِيًّا عَلَيْهَا، فَقَامَ إِلَيْهَا فَصَبَّ عَلَى وَجْهِهَا الْمَاءَ وَقَالَ يا أخيه] [2] اتّق الله واصبري وَتَعَزِّي بِعَزَاءِ اللَّهِ، وَاعْلَمِي أَنَّ أَهْلَ الْأَرْضِ يَمُوتُونَ، وَأَنَّ أَهْلَ السَّمَاءِ لَا يَبْقَوْنَ، وَأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَ اللَّهِ الَّذِي خَلَقَ الْخَلْقَ بِقُدْرَتِهِ، وَيُمِيتُهُمْ بِقَهْرِهِ وَعِزَّتِهِ، وَيُعِيدُهُمْ فيعبدونه وحده، وَهُوَ فَرْدٌ وَحْدَهُ، وَاعْلَمِي أَنَّ أَبِي خَيْرٌ مِنِّي، وَأَخِي خَيْرٌ مِنِّي، وَلِي وَلَهُمْ وَلِكُلِّ مسلم برسول الله أسوة حسنة، ثم حرّج عليها أن لا تَفْعَلَ شَيْئًا مِنْ هَذَا بَعْدَ مَهْلِكِهِ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِهَا فَرَدَّهَا إِلَى عِنْدِي، ثُمَّ خَرَجَ إلى أصحابه فأمرهم أن يدنوا بُيُوتَهُمْ بَعْضَهَا مِنْ بَعْضٍ حَتَّى تَدْخُلَ الْأَطْنَابُ بعضها في بعض، وأن لا يجعلوا للعدو مخلصا إليهم إلا من جهة واحدة، وَتَكُونُ الْبُيُوتُ عَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ، وَمِنْ وَرَائِهِمْ. وَبَاتَ الْحُسَيْنُ وَأَصْحَابُهُ طُولَ لَيْلِهِمْ يُصَلُّونَ وَيَسْتَغْفِرُونَ وَيَدْعُونَ وَيَتَضَرَّعُونَ، وَخُيُولُ حَرَسِ عَدُوِّهِمْ تَدُورُ من ورائهم، عليها عزرة بن قيس
__________
[1] سقط من المصرية
[2] سقط من نسخة طوب قبو بالأستانة:

(8/177)


الْأَحْمَسِيُّ [وَالْحُسَيْنُ يَقْرَأُ وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ. مَا كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ 3: 178- 179 الآية فَسَمِعَهَا رَجُلٌ مِنْ تِلْكَ الْخَيْلِ الَّتِي كَانَتْ تَحْرُسُ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ زِيَادٍ فَقَالَ: نَحْنُ وَرَبِّ الْكَعْبةِ الطَّيِّبُونَ مَيَّزَنَا اللَّهُ مِنْكُمْ. قَالَ فعرفته فقلت لزيد [1] بن حضير: أَتَدْرِي مَنْ هَذَا؟ قَالَ:
لَا! فَقُلْتُ هَذَا أبو حرب السبيعي عبيد الله بن شمير- وَكَانَ مِضْحَاكًا بَطَّالًا- وَكَانَ شَرِيفًا شُجَاعًا فَاتِكًا، وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ قَيْسٍ رُبَّمَا حَبَسَهُ فِي خبائه. فقال له يزيد بن حصين: يَا فَاسِقُ مَتَى كُنْتَ مِنَ الطَّيِّبِينَ؟ فَقَالَ: من أنت ويلك؟ قال: أنا يزيد بن حصين. قال: إنا للَّه! هلكت والله عدو الله! على م يريد قَتْلَكَ؟ قَالَ فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا حَرْبٍ هل لك أن تتوب من ذنوبك العظام؟ فو الله إِنَّا لَنَحْنُ الطَّيِّبُونَ وَإِنَّكُمْ لَأَنْتُمُ الْخِبِيثُونَ. قَالَ: نَعَمْ وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ مِنَ الشَّاهِدَيْنِ. قَالَ: ويحك أفلا ينفعك مَعْرِفَتُكَ؟ قَالَ فَانْتَهَرَهُ عَزْرَةُ بْنُ قَيْسٍ أَمِيرُ السيرة التي تحرسنا فانصرف عنا] [2] قالوا: فَلَمَّا صَلَّى عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ الصُّبْحَ بِأَصْحَابِهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَقِيلَ يَوْمَ السَّبْتِ- وَكَانَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ- انْتَصَبَ لِلْقِتَالِ، وَصَلَّى الْحُسَيْنُ أَيْضًا بِأَصْحَابِهِ وَهُمُ اثَنَانِ وَثَلَاثُونَ فَارِسًا وَأَرْبَعُونَ رَاجِلًا، ثُمَّ انْصَرَفَ فَصَفَّهُمْ فَجَعَلَ عَلَى مَيْمَنَتِهِ زُهَيْرَ بْنَ القين، وعلى الميسرة حبيب بن المطهر، وَأَعْطَى رَايَتَهُ الْعَبَّاسَ بْنَ عَلِيٍّ أَخَاهُ، وَجَعَلُوا الْبُيُوتَ بِمَا فِيهَا مِنَ الْحَرَمِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، وَقَدْ أَمَرَ الْحُسَيْنُ مِنَ اللَّيْلِ فَحَفَرُوا وَرَاءَ بُيُوتِهِمْ خَنْدَقًا وَقَذَفُوا فِيهِ حَطَبًا وَخَشَبًا وَقَصَبًا، ثُمَّ أُضْرِمَتْ فِيهِ النَّارُ لِئَلَّا يَخْلُصَ أَحَدٌ إِلَى بُيُوتِهِمْ مِنْ وَرَائِهَا. وَجَعَلَ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ عَلَى مَيْمَنَتِهِ عَمْرَو بْنَ الْحَجَّاجِ الزُّبَيْدِيَّ، وَعَلَى الْمَيْسَرَةِ شَمِرَ بْنَ ذِي الْجَوْشَنِ- وَاسْمُ ذِي الْجَوْشَنِ شُرَحْبِيلُ بْنُ الْأَعْوَرِ بْنِ عَمْرِو بن معاوية من بنى الضِّبَابُ بْنُ كِلَابٍ- وَعَلَى الْخَيْلِ عَزْرَةَ بْنَ قيس الأحمسي، وعلى الرجالة شبيث بن ربعي، وأعطى الراية لوردان مَوْلَاهُ، وَتَوَاقَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، فَعَدَلَ الحسين إلى خيمة قد نصبت فَاغْتَسَلَ فِيهَا وَاطَّلَى بِالنُّورَةِ وَتَطَيَّبَ بِمِسْكٍ كَثِيرٍ، وَدَخَلَ بَعْدَهُ بَعْضُ الْأُمَرَاءِ فَفَعَلُوا كَمَا فَعَلَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مَا هَذَا فِي هَذِهِ السَّاعَةِ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ:
دَعْنَا مِنْكَ، وَاللَّهِ مَا هذه بساعة باطل، فقال يزيد بن حصين: وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمَ قَوْمِي أَنِّي مَا أَحْبَبْتُ الْبَاطِلَ شَابًّا وَلَا كَهْلًا، وَلَكِنْ وَاللَّهِ إِنِّي لمستبشر بما نحن لاحقون، وَاللَّهِ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْحُورِ الْعِينِ إِلَّا أن يميل علينا هؤلاء القوم فيقتلوننا. ثُمَّ رَكِبَ الْحُسَيْنُ عَلَى فَرَسِهِ وَأَخَذَ مُصْحَفًا فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَ الْقَوْمَ رَافِعًا يَدَيْهِ يَدْعُو بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ: اللَّهمّ أَنْتَ ثِقَتِي فِي كُلِّ كَرْبٍ، وَرَجَائِي فِي كُلِّ شدة، إلى آخره. وركب ابْنَهُ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ- وَكَانَ ضَعِيفًا مَرِيضًا- فرسا يقال له الأحمق وَنَادَى الْحُسَيْنُ أَيُّهَا النَّاسُ: اسْمَعُوا مِنِّي نَصِيحَةً أَقُولُهَا لَكُمْ، فَأَنْصَتَ النَّاسُ كُلُّهُمْ، فَقَالَ بَعْدَ حمد
__________
[1] كذا بالأصلين. وفي الطبري: برير بن حضير
[2] سقط من المصرية

(8/178)


اللَّهِ والثَنَاءِ عَلَيْهِ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ قَبِلْتُمْ مِنِّي وَأَنْصَفْتُمُونِي كُنْتُمْ بِذَلِكَ أَسْعَدَ، وَلَمْ يَكُنْ لَكُمْ عَلَيَّ سَبِيلٌ، وَإِنْ لَمْ تَقْبَلُوا مِنِّي فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ 10: 71.
إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ 7: 196.
فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ أَخَوَاتُهُ وَبَنَاتُهُ ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُنَّ بالبكاء فقال عند ذلك: لا يبعد الله ابن عباس.
- يعنى حين أشار عليه أن لا يَخْرُجَ بِالنِّسَاءِ مَعَهُ وَيَدَعَهُنَّ بِمَكَّةَ إِلَى أَنْ ينتظم الأمر- ثم بعث أخاه العباس فسكتهن، ثُمَّ شَرَعَ يَذْكُرُ لِلنَّاسِ فَضْلَهُ وَعَظَمَةَ نَسَبِهِ وعلو قدره وشرفه، ويقول: راجعوا أنفسكم وحاسبوها: هَلْ يَصْلُحُ لَكُمْ قِتَالُ مِثْلِي، وَأَنَا ابْنُ بنت نبيكم، وَلَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ ابْنُ بِنْتِ نَبِيٍّ غَيْرِي؟ وَعَلِيٌّ أَبِي، وَجَعْفَرُ ذُو الْجَنَاحَيْنِ عَمِّي، وَحَمْزَةُ سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ عَمُّ أَبِي؟ وَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَخِي: «هَذَانَ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ» .
فَإِنْ صَدَّقْتُمُونِي بما أقول فهو الحق، فو الله مَا تَعَمَّدْتُ كَذِبَةً مُنْذُ عَلِمْتُ أَنَّ اللَّهَ يَمْقُتُ عَلَى الْكَذِبِ، وَإِلَّا فَاسْأَلُوا أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ، جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَبَا سَعِيدٍ، وَسَهْلَ بْنَ سَعْدٍ، وَزَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ، وَأَنَسَ بْنَ مالك، يخبرونكم بِذَلِكَ، وَيْحَكُمْ! أَمَا تَتَّقُونَ اللَّهَ؟ أَمَا فِي هَذَا حَاجِزٌ لَكُمْ عَنْ سَفْكِ دَمِي؟ فَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ شَمِرُ بْنُ ذِي الْجَوْشَنِ: هُوَ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ: إِنْ كُنْتُ أَدْرِي ما يقول؟ فقال له حبيب بن مطهر [1] : وَاللَّهِ يَا شَمِرُ إِنَّكَ لَتَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى سبعين حرفا، وأما نحن فو الله إنا لندرى ما يقول، وإنه قد طبع على قلمك. ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ ذَرُونِي أَرْجِعْ إِلَى مَأْمَنِي مِنَ الْأَرْضِ، فَقَالُوا: وَمَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَنْزِلَ عَلَى حُكْمِ بَنِي عَمِّكَ؟، فَقَالَ: مَعَاذَ اللَّهِ إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ 40: 27 ثُمَّ أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ وَأَمَرَ عُقْبَةَ بْنَ سَمْعَانَ فَعَقَلَهَا [ثُمَّ قَالَ: أَخْبِرُونِي أَتَطْلُبُونِي بِقَتِيلٍ لَكُمْ قتلته؟ أو مال لكم أكلته؟ أو بقصاصة مِنْ جِرَاحَةٍ؟ قَالَ: فَأَخَذُوا لَا يُكَلِّمُونَهُ. قَالَ: فنادى يا شبيث بْنَ رِبْعِيٍّ، يَا حَجَّارُ بْنَ أَبْجَرَ، يَا قَيْسُ بْنَ الْأَشْعَثِ، يَا زَيْدُ بْنَ الْحَارِثِ، أَلَمْ تَكْتُبُوا إِلَيَّ أَنَّهُ قَدْ أَيْنَعَتِ الثِّمَارُ وَاخْضَرَّ الْجَنَابُ، فَاقْدَمْ عَلَيْنَا فَإِنَّكَ إِنَّمَا تَقْدَمُ على جند مجندة؟ فَقَالُوا لَهُ: لَمْ نَفْعَلْ.
فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! وَاللَّهِ لَقَدْ فَعَلْتُمْ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ! إِذْ قَدْ كَرِهْتُمُونِي فَدَعُونِي أَنْصَرِفْ عَنْكُمْ، فَقَالَ لَهُ قَيْسُ بْنُ الْأَشْعَثِ: أَلَا تَنْزِلُ عَلَى حُكْمِ بَنِي عَمِّكَ فَإِنَّهُمْ لَنْ يُؤْذُوكَ، وَلَا تَرَى مِنْهُمْ إِلَّا مَا تُحِبُّ؟ فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ: أَنْتَ أَخُو أَخِيكَ، أَتُرِيدُ أَنْ تَطْلُبَكَ بَنُو هَاشِمٍ بِأَكْثَرَ مِنْ دَمِ مُسْلِمِ ابن عَقِيلٍ؟ لَا وَاللَّهِ لَا أُعْطِيهِمْ بِيَدِي إِعْطَاءَ الذَّلِيلِ، وَلَا أُقِرُّ لَهُمْ إِقْرَارَ الْعَبِيدِ] . [2] قَالَ: وَأَقْبَلُوا يَزْحَفُونَ نَحْوَهُ وَقَدْ تَحَيَّزَ إِلَى جَيْشِ الْحُسَيْنِ مِنْ أُولَئِكَ طَائِفَةٌ قَرِيبٌ مِنْ ثَلَاثِينَ فَارِسًا فِيمَا قِيلَ، مِنْهُمُ الْحُرُّ بْنُ يَزِيدَ أمير مقدمة جيش ابن زياد، فاعتذر إلى الحسين مما كان منهم،
__________
[1] كذا بالأصلين وفي الطبري: مظاهر.
[2] سقط من المصرية

(8/179)


قَالَ: وَلَوْ أَعْلَمُ أَنَّهُمْ عَلَى هَذِهِ النِّيَّةِ لَسِرْتُ مَعَكَ إِلَى يَزِيدَ، فَقَبِلَ مِنْهُ الْحُسَيْنُ، ثُمَّ تَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْ أَصْحَابِ الْحُسَيْنِ فَخَاطَبَ عُمَرَ بْنَ سَعْدٍ فَقَالَ: وَيْحَكُمْ أَلَا تَقْبَلُونَ مِنِ ابْنِ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَعْرِضُ عَلَيْكُمْ مِنَ الْخِصَالِ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً مِنْهَا؟ فَقَالَ: لَوْ كَانَ ذَلِكَ إليّ قبلت.
[قال: وخرج من أصحاب الحسين زهير بن القين على فرس له شاك في السلاح، فقال: يا أهل الكوفة، نذار لكم من عذاب الله نذار، إن حقا على المسلم نصيحة أخيه المسلم، ونحن حتى الآن إخوة، وعلى دين واحد، وملة واحدة، ما لم يقع بيننا وبينكم السيف، فإذا وقع السيف انقطعت العصمة، وكنا أمة وأنتم أمة، إن الله قد ابتلانا وإياكم بذرية نبيّه لينظر ما نحن وأنتم عاملون، إنا ندعوكم إلى نصره وخذلان الطاغية ابن الطاغية، عبيد الله بن زياد، فإنكم لم تدركوا منهما إلا سوء عموم سلطانهما، يسملان أعينكم، ويقطعان أيديكم وأرجلكم، ويمثلان بكم، ويقتلان أماثلكم وقراءكم، أمثال حجر بن عدي وأصحابه، وهانئ بن عروة وأشباهه. قال: فسبوه وأثنوا على ابن زياد ودعوا له، وقالوا: لا ننزع حتى نقتل صاحبك ومن معه. فقال لهم: إن ولد فاطمة أحق بالود والنصر من ابن سمية، فان أنتم لم تنصروهم فأعيذكم باللَّه أن تقتلوهم، خلوا بين هذا الرجل وبين ابن عمه يزيد بن معاوية، نذهب حيث شاء، فلعمري إن يزيد ليرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين. قال: فرماه شمر بن ذي الجوشن بسهم وقال له: اسكت أسكت الله نامتك، أبرمتنا بكثرة كلامك، فقال له زهير: يا ابن البوّال على عقبيه، إياك أخاطب؟ إنما أنت بهيمة، والله ما أظنك تحكم من كتاب الله آيتين، فأبشر بالخزي يوم القيامة والعذاب الأليم. فقال له شمر: إن الله قاتلك وصاحبك بعد ساعة، فقال له زهير: أبالموت تخوفني؟ فو الله للموت معه أحب إليّ من الخلد معكم.
ثم إن زهيرا أقبل على الناس رافعا صوته يقول: عباد الله لا يغرنكم عن دينكم هذا الجلف الجافي وأشباهه، فو الله لا ينال شفاعة محمد صلّى الله عليه وسلّم قوم أهرقوا دماء ذريته، وقتلوا من نصرهم وذب عن حريمهم.
وقال الحر بن يزيد لعمر بن سعد: أصلحك الله! أمقاتل أنت هذا الرجل؟ قال: إي والله قتالا أيسره أن تسقط الرءوس وتطيح الأيدي، وكان الحر من أشجع أهل الكوفة، فلامه بعض أصحابه على الذهاب إلى الحسين، فقال له: والله إني أخير نفسي بين الجنة والنار، وو الله لا أختار على الجنة غيرها ولو قطعت وحرقت. ثم ضرب فرسه فلحق بالحسين فاعتذر إليه بما تقدم، ثم قال:
يا أهل الكوفة لأمكم الهبل، أدعوتم الحسين إليكم حتى إذا أتاكم أسلمتموه وزعمتم أنكم قاتلوا أنفسكم دونه، ثم عدوتم عليه لتقتلوه، ومنعتموه التوجه في بلاد الله العريضة الوسيعة التي لا يمنع فيها الكلب والخنزير، وحلتم بينه وبين الماء الفرات الجاري الّذي يشرب منه الكلب والخنزير وقد صرعهم

(8/180)


العطش؟ بئس ما خلفتم محمدا في ذريته، لا سقاكم الله يوم الظمأ الأكبر إن لم تتوبوا وترجعوا عما أنتم عليه من يومكم هذا في ساعتكم هذه. فحملت عليه رجالة لهم ترميه بالنبل فأقبل حتى وقف أمام الحسين] [1] وقال لهم عمر بن سعد: لو كان الأمر لي لأجبت الحسين إلى ما طلب ولكن أبى على عبيد الله بن زياد، وقد خاطب أهل الكوفة وأنبهم ووبخهم وسبهم، فقال لهم الحر بن يزيد: ويحكم منعتم الحسين ونساءه وبناته الماء الفرات الّذي يشرب منه اليهود والنصارى ويتمرغ فِيهِ خَنَازِيرُ السَّوَادِ وَكِلَابُهُ، فَهُوَ كَالْأَسِيرِ فِي أيديكم لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا.
قَالَ فَتَقَدَّمَ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ وَقَالَ لِمَوْلَاهُ: يا دريد أَدْنِ رَايَتَكَ، فَأَدْنَاهَا ثُمَّ شَمَّرَ عُمَرُ عَنْ سَاعِدِهِ وَرَمَى بِسَهْمٍ وَقَالَ: اشْهَدُوا أَنِّي أَوَّلُ مَنْ رَمَى الْقَوْمَ، قَالَ: فَتَرَامَى النَّاسُ بِالنِّبَالِ، وَخَرَجَ يَسَارٌ مَوْلَى زِيَادٍ وَسَالِمٌ مَوْلَى عُبَيْدِ الله، فقالا: من يبارز؟ فبرز لهما عبيد الله بن عمر الْكَلْبِيُّ بَعْدَ اسْتِئْذَانِهِ الْحُسَيْنَ فَقَتَلَ يَسَارًا أَوَّلًا ثُمَّ قَتَلَ سَالِمًا بَعْدَهُ، وَقَدْ ضَرَبَهُ سَالِمٌ ضَرْبَةً أَطَارَ أَصَابِعَ يَدِهِ الْيُسْرَى، وَحَمَلَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَوْزَةَ حَتَّى وَقَفَ بَيْنَ يَدَيِ الْحُسَيْنِ فَقَالَ لَهُ: يَا حُسَيْنُ أَبْشِرْ بِالنَّارِ! فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ: كَلَّا وَيْحَكَ إِنِّي أَقْدَمُ عَلَى رَبٍّ رَحِيمٍ وَشَفِيعٍ مُطَاعٍ، بَلْ أَنْتَ أَوْلَى بِالنَّارِ. قَالُوا: فَانْصَرَفَ فوقصته فرسه فسقط وتعلقت قدمه بالركاب، وكان الحسين قد سأل عنه فقال: أنا ابن حوزة، فرفع الحسين يده وقال: اللَّهمّ حزه إلى النار، فغضب ابن حوزة وأراد أن يقحم عليه الفرس وبينه وبينه نهر، فحالت به الفرس فانقطعت قدمه وساقه وفخذه وبقي جانبه الآخر متعلقا بِالرِّكَابِ، وَشَدَّ عَلَيْهِ مُسْلِمُ بْنُ عَوْسَجَةَ فَضَرَبَهُ فَأَطَارَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى، وَغَارَتْ بِهِ فَرَسُهُ فَلَمْ يَبْقَ حَجَرٌ يَمُرُّ بِهِ إِلَّا ضَرَبَهُ فِي رَأْسِهِ حَتَّى مَاتَ.
[وَرَوَى أَبُو مِخْنَفٍ عَنْ أَبِي جَنَابٍ قَالَ: كَانَ مِنَّا رَجُلٌ يُدْعَى عبد الله بن نمير مِنْ بَنِي عُلَيْمٍ، كَانَ قَدْ نَزَلَ الْكُوفَةَ وَاتَّخَذَ دَارًا عِنْدَ بِئْرِ الْجَعْدِ مِنْ هَمْدَانَ، وَكَانَتْ مَعَهُ امْرَأَةٌ لَهُ مَنَ النَّمِرِ بْنِ قَاسِطٍ، فَرَأَى النَّاسَ يَتَهَيَّئُونَ لِلْخُرُوجِ إِلَى قِتَالِ الْحُسَيْنِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ عَلَى قِتَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ حَرِيصًا، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ جِهَادِي مَعَ ابْنِ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهَؤُلَاءِ أَفْضَلَ مِنْ جِهَادِ الْمُشْرِكِينَ، وَأَيْسَرَ ثَوَابًا عِنْدَ اللَّهِ، فَدَخَلَ إِلَى امْرَأَتِهِ فَأَخْبَرَهَا بِمَا هُوَ عَازِمٌ عَلَيْهِ، فَقَالَتْ: أَصَبْتَ أَصَابَ اللَّهُ بِكَ أَرْشَدَ أُمُورِكَ، افْعَلْ وَأَخْرِجْنِي مَعَكَ. قَالَ: فَخَرَجَ بِهَا لَيْلًا حَتَّى أَتَى الْحُسَيْنَ، ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةَ رَمْيِ عُمَرَ بن سعد بالسهم، وقصة قتله يسار مولى زياد، وسالم مولى ابن زياد، وأن عبد الله ابن عُمَيْرٍ اسْتَأْذَنَ الْحُسَيْنَ فِي الْخُرُوجِ إِلَيْهِمَا فَنَظَرَ إِلَيْهِ الْحُسَيْنُ، فَرَأَى رَجُلًا آدَمَ طَوِيلًا شَدِيدَ السَّاعِدَيْنِ بَعِيدَ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ، فَقَالَ الْحُسَيْنُ: إِنِّي لَأَحْسَبُهُ لِلْأَقْرَانِ قَتَّالًا، اخْرُجْ إِنْ شِئْتَ،
__________
[1] سقط من المصرية

(8/181)


فَخَرَجَ فَقَالَا لَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَانْتَسَبَ لَهُمَا، فقالا: لا نعرفك إلا هو خَيْرٌ مِنْكُمَا، ثُمَّ شَدَّ عَلَى يَسَارٍ فَكَانَ كَأَمْسِ الذَّاهِبِ، فَإِنَّهُ لَمُشْتَغِلٌ بِهِ إِذْ حَمَلَ عَلَيْهِ سَالِمٌ مَوْلَى ابْنِ زِيَادٍ فَصَاحَ بِهِ صائح قد رهقك العبد، قال: فلم ينتبه حتى غشيه فضربه على يده اليسرى فأمطار أصابعه، ثم مال على الْكَلْبِيُّ فَضَرَبَهُ حَتَّى قَتَلَهُ وَأَقْبَلَ يَرْتَجِزُ وَيَقُولُ: -
إن تنكرانى فأنا ابن كلب نسبي ... بَيْتِي فِي عُلَيْمٍ حَسْبِي
إِنِّي امْرُؤٌ ذُو مروءة وغضب ... وَلَسْتُ بِالْخَوَّارِ عِنْدَ الْكَرْبِ
إِنِّي زَعِيمٌ لَكِ أُمَّ وَهْبِ ... بِالطَّعْنِ فِيهِمْ مُقْدِمًا وَالضَّرْبِ
ضَرْبِ غُلَامٍ مُؤْمِنٍ بِالرَّبِّ
فَأَخَذَتْ أُمُّ وَهْبٍ عَمُودًا ثُمَّ أَقْبَلَتْ نَحْوَ زَوْجِهَا تَقُولُ لَهُ: فِدَاؤُكَ أَبِي وَأُمِّي، قَاتِلْ دُونَ الطَّيِّبِينَ، ذُرِّيَّةِ مُحَمَّدٍ عليه السّلام، فَأَقْبَلَ إِلَيْهَا يَرُدُّهَا نَحْوَ النِّسَاءِ فَأَقْبَلَتْ تُجَاذِبُهُ ثَوْبَهُ، قَالَتْ: دَعْنِي أَكُونُ مَعَكَ، فَنَادَاهَا الْحُسَيْنُ: انْصَرِفِي إِلَى النِّسَاءِ فَاجْلِسِي مَعَهُنَّ فَإِنَّهُ لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ قِتَالٌ، فَانْصَرَفَتْ إِلَيْهِنَّ] [1] قَالَ: وَكَثُرَتِ الْمُبَارَزَةُ يَوْمَئِذٍ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ وَالنَّصْرُ فِي ذَلِكَ لِأَصْحَابِ الْحُسَيْنِ لِقُوَّةِ بَأْسِهِمْ، وَأَنَّهُمْ مُسْتَمِيتُونَ لَا عَاصِمَ لَهُمْ إِلَّا سُيُوفُهُمْ، فَأَشَارَ بَعْضُ الْأُمَرَاءِ عَلَى عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ بِعَدَمِ الْمُبَارَزَةِ، وَحَمَلَ عمرو بن الحجاج أمير ميمنة جيش ابن زياد. وَجَعَلَ يَقُولُ: قَاتِلُوا مَنْ مَرَقَ مِنَ الدِّينِ وفارق الجماعة. فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ: وَيْحَكَ يَا حَجَّاجُ أَعَلَيَّ تحرض الناس؟ أنحن مرقنا من الدين وأنت تقيم عليه؟ ستعلمون إذا فارقت أرواحنا أجسادنا مَنْ أَوْلَى بِصِلِيِّ النَّارِ. وَقَدْ قُتِلَ فِي هذه الحملة مسلم بن عوسجة، وكان أَوَّلَ مَنْ قُتِلَ مِنْ أَصْحَابِ الْحُسَيْنِ فَمَشَى إِلَيْهِ الْحُسَيْنُ فَتَرَحَّمَ عَلَيْهِ، وَهُوَ عَلَى آخِرِ رمق، وقال له حبيب بن مطهر: أَبْشِرْ بِالْجَنَّةِ، فَقَالَ لَهُ بِصَوْتٍ ضَعِيفٍ: بَشَّرَكَ اللَّهُ بِالْخَيْرِ. ثُمَّ قَالَ لَهُ حَبِيبٌ: لَوْلَا أنى أعلم أنى على أثرك لا حقك لكنت أقضى ما توصي بِهِ، فَقَالَ لَهُ مُسْلِمُ بْنُ عَوْسَجَةَ:
أُوصِيكَ بهذا- وأشار إلى الحسين- إلى أَنْ تَمُوتَ دُونَهُ. قَالُوا: ثُمَّ حَمَلَ شَمِرُ بن ذي الجوشن بليسرة وَقَصَدُوا نَحْوَ الْحُسَيْنِ فَدَافَعَتْ عَنْهُ الْفُرْسَانُ مِنْ أَصْحَابِهِ دِفَاعًا عَظِيمًا، وَكَافَحُوا دُونَهُ مُكَافَحَةً بَلِيغَةً، فَأَرْسَلُوا يَطْلُبُونَ مِنْ عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ طَائِفَةً مِنَ الرُّمَاةِ الرَّجَّالَةِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ نَحْوًا مِنْ خَمْسِمِائَةٍ، فَجَعَلُوا يَرْمُونَ خُيُولَ أَصْحَابِ الْحُسَيْنِ فَعَقَرُوهَا كُلَّهَا حَتَّى بَقِيَ جَمِيعُهُمْ رَجَّالَةً، وَلَمَّا عَقَرُوا جواد الحر ابن يَزِيدَ نَزَلَ عَنْهُ وَفِي يَدِهِ السَّيْفُ كَأَنَّهُ لَيْثٌ وَهُوَ يَقُولُ:
إِنْ تَعْقِرُوا بِي فَأَنَا ابن الحر ... أشجع من ذي لبد هِزَبْرِ
وَيُقَالُ إِنَّ عُمَرَ بْنَ سَعْدٍ أَمَرَ بِتَقْوِيضِ تِلْكَ الْأَبْنِيَةِ الَّتِي تَمْنَعُ مِنَ الْقِتَالِ من أتى نَاحِيَتِهَا، فَجَعَلَ أَصْحَابُ الْحُسَيْنِ يَقْتُلُونَ مَنْ يَتَعَاطَى ذَلِكَ، فَأَمَرَ بِتَحْرِيقِهَا فَقَالَ الْحُسَيْنُ: دَعُوهُمْ يَحْرِقُونَهَا فإنهم
__________
[1] سقط من المصرية

(8/182)


لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَجُوزُوا مِنْهَا وَقَدِ أُحْرِقَتْ. وَجَاءَ شَمِرُ بْنُ ذِي الْجَوْشَنِ قَبَّحَهُ اللَّهُ إِلَى فُسْطَاطِ الْحُسَيْنِ فَطَعَنَهُ بِرُمْحِهِ- يَعْنِي الْفُسْطَاطَ- وقال: ايتوني بِالنَّارِ لِأُحَرِّقَهُ عَلَى مَنْ فِيهِ، فَصَاحَتِ النِّسْوَةُ وخرجن منه، فقال له الحسين: أحرقك الله بالنار، وجاء شبيث بْنُ رِبْعِيٍّ إِلَى شَمِرٍ قَبَّحَهُ اللَّهُ فَقَالَ له: ما رأيت أقبح من قولك ولا من فعلك وموقفك هذا، أتريد أن ترعب النساء؟ فاستحيى وَهَمَّ بِالرُّجُوعِ وَقَالَ حُمَيْدُ بْنُ مُسْلِمٍ: قُلْتُ لِشَمِرٍ سُبْحَانَ اللَّهِ!! إِنَّ هَذَا لَا يَصْلُحُ لَكَ، أَتُرِيدُ أَنْ تَجْمَعَ عَلَى نَفْسِكَ خَصْلَتَيْنِ؟ تُعَذِّبُ بِعَذَابِ اللَّهِ وَتَقْتُلُ الْوِلْدَانَ وَالنِّسَاءَ؟ وَاللَّهِ إِنَّ فِي قَتْلِكَ الرِّجَالَ لَمَا تُرْضِي بِهِ أَمِيرَكَ. قَالَ فَقَالَ لِي: مَنْ أَنْتَ؟ قُلْتُ: لَا أُخْبِرُكَ مَنْ أَنَا- وَخَشِيتُ أَنِّي إِنْ أَخْبَرْتُهُ فَعَرَفَنِي أَنْ يَسُوءَنِي عِنْدَ السُّلْطَانِ-.
وَشَدَّ زُهَيْرُ بْنُ الْقَيْنِ فِي رِجَالٍ مِنْ أَصْحَابِ الْحُسَيْنِ عَلَى شَمِرِ بْنِ ذِي الْجَوْشَنِ فَأَزَالُوهُ عَنْ مَوْقِفِهِ، وَقَتَلُوا أَبَا عَزَّةَ الضِّبَابِيَّ- وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ شَمِرٍ- وَكَانَ الرَّجُلُ مِنْ أَصْحَابِ الْحُسَيْنِ إِذَا قُتِلَ بَانَ فِيهِمُ الْخَلَلُ، وَإِذَا قُتِلَ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ زِيَادٍ الْجَمَاعَةُ الْكَثِيرَةُ لَمْ يَتَبَيَّنْ ذَلِكَ فِيهِمْ لِكَثْرَتِهِمْ، وَدَخَلَ عَلَيْهِمْ وَقْتُ الظُّهْرِ فَقَالَ الْحُسَيْنُ: مُرُوهُمْ فَلْيَكُفُّوا عَنِ الْقِتَالِ حَتَّى نُصَلِّيَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ: إِنَّهَا لَا تُقْبَلُ مِنْكُمْ، فَقَالَ لَهُ حبيب بن مطهر: ويحك!! أتقبل منكم وَلَا تُقْبَلُ مِنْ آلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
[وَقَاتَلَ حَبِيبٌ قِتَالًا شَدِيدًا حتى قتل رجلا يقال له بديل بن صريم من بنى عقفان وجعل يقول:
أنا حبيب وأبى مطهر ... فارس هيجاء وحرب مسعر
أنتم أوفر عدة وأكثر ... ونحن أوفى منكم وأصبر
ونحن أعلى حجة وأظهر ... حقا وأبقى منكم وأطهر
ثم حمل على حبيب هذا رجل من بنى تميم فطعنه فوقع، ثم ذهب ليقوم فضربه الحصين بن نمير على رأسه بالسيف فوقع، ونزل إليه التميمي فاحتز رأسه وحمله إلى ابن زياد، فرأى ابن حبيب رأس أبيه فعرفه فقال لحامله: أعطني رأس أبى حتى أدفنه، ثم بكى. قال: فمكث الغلام إلى أن بلغ أشده ثم لم تكن له همة إلا قتل قاتل أبيه، قال: فلما كان زمن مصعب بن عمير دخل الغلام عسكر مصعب فإذا قاتل أبيه في فسطاطه، فدخل عليه وهو قائل فضربه بسيفه حتى برد.
وقال أبو مخنف: حدثني محمد بن قيس قال: لما قتل حبيب بن مطهر هدّ ذلك الحسين، وقال عند ذلك: أحتسب نفسي، وأخذ الحرّ يرتجز ويقول للحسين:
آليت لا تقتل حتى أقتلا ... ولن أصاب اليوم إلا مقبلا
أضربهم بالسيف ضربا مقصلا ... لأنا كلا عنهم ولا مهملا
ثم قاتل هو وزهير بن القين قتالا شديدا فكان إذا شد أحدهما حتى استلحم شد الآخر حتى

(8/183)


يخلصه، فعلا ذلك ساعة، ثم إن رجالا شدوا على الحر بن يزيد فقتلوه، وقتل أبو ثمامة الصائدى ابن عم له كان عدوا له. ثُمَّ صَلَّى الْحُسَيْنُ بِأَصْحَابِهِ الظُّهْرَ صَلَاةَ الْخَوْفِ، ثم اقتتلوا بعدها قتالا شديدا ودافع عن الحسين صناديد أصحابه، وقاتل زهير بن القين بين يدي الحسين قتالا شديدا، ورمى بعض أصحابه بالنبل حتى سقط بين يدي الحسين وجعل زهير يرتجز ويقول: -
أنا زهير وأنا ابن القين ... أذودكم بالسيف عن الحسين
قال: وأخذ يضرب على منكب الحسين ويقول:
أقدم هديت هاديا مهديا ... فاليوم تلقى جدك النبيا
وحسنا والمرتضى عليا ... وذا الجناحين الفتى الكميا
وأسد الله الشهيد الحيا
قال: فشد عليه كثير بن عبد الله الشعبي ومهاجر بن أوس فقتلاه.
قال: وكان من أصحاب الحسين نافع بن هلال الجملي، وكان قد كتب على فوق نبله فجعل يرمى بها مسمومة وهو يقول:
أرمى بها معلما أفواقها ... والنفس لا ينفعها شقاقها
أنا الجملي أنا على دين على.
فَقَتَلَ اثْنَيْ عَشَرَ مِنْ أَصْحَابِ عُمَرَ بْنِ سعد، سوى من جرح، ثم ضرب حتى كسرت عضداه، ثم أسروه فأتوا به عمر بن سعد فقال له: ويحك يا نافع، ما حملك على ما صنعت بنفسك؟ فقال:
إن ربى يعلم ما أردت، والدماء تسيل عليه وعلى لحيته، ثم قال: والله لقد قتلت من جندكم اثنى عشر سوى من جرحت، وما ألوم نفسي على الجهد، ولو بقيت لي عضد وساعد ما أسرتمونى. فقال شمر لعمر: اقتله، قال: أنت جئت به، فان شئت اقتله. فقام شمر فأنضى سيفه فقال له نافع: أما والله يا شمر لو كنت من المسلمين لعظم عليك أن تلقى الله بدمائنا، فالحمد للَّه الّذي جعل منايانا على يدي شرار خلقه. ثم قتله، ثم أقبل شمر فحمل على أصحاب الحسين وتكاثر معه الناس حتى كادوا أن يصلوا إلى الحسين، فلما رأى أصحاب الحسين أنهم قد كثروا عليهم، وأنهم لا يقدرون على أن يمنعوا الحسين ولا أنفسهم، تنافسوا أن يقتلوا بين يديه، فجاء عبد الرحمن وعبد الله ابنا عزرة الغفاريّ، فقالا: أبا عبد الله عليك السلام، حازنا العدو إليك فأحببنا أن نقتل بين يديك وندفع عنك. فقال: مرحبا بكما، ادنوا منى، فدنوا منه فجعلا يقاتلان قريبا منه وهما يقولان:
قد علمت حقا بنو غفار ... وخندف بعد بنى نزار
لنضربن معشر الفجار ... بكل عضب قاطع بتار
يا قوم ذودوا عن بنى الأخيار ... بالمشرفيّ والقنا الخطّار

(8/184)


ثم أتاه أصحابه مثنى وفرادى يقاتلون بين يديه وهو يدعو لهم ويقول: جزاكم الله أحسن جزاء المتقين، فجعلوا يسلمون على الحسين ويقاتلون حتى يقتلوا، ثم جاء عابس بن أبى شبيب فقال:
يا أبا عبد الله! أما والله ما أمسى على ظهر الأرض قريب ولا بعيد أعزّ عليّ منك، ولو قدرت أن أدفع عنك الضيم أو القتل بشيء أعز على من نفسي ودمي لفعلته، السلام عليك يا أبا عبد الله، اشهد لي أنى على هديك. ثم مشى بسيفه صلتا وبه ضربة على جبينه- وكان أشجع الناس- فنادى: ألا رجل لرجل؟ ألا ابرزوا إليّ. فعرفوه فنكلوا عنه، ثم قال عمر بن سعد: ارضخوه بالحجارة، فرمى بالحجارة من كل جانب، فلما رأى ذلك ألقى درعه ومغفره، ثم شد على الناس، والله لقد رأيته يكرد أكثر من مائتين من الناس بين يديه، ثم إنهم عطفوا عليه من كل جانب فقتل رحمه الله، فرأيت رأسه في أيدي رجال ذوى عدد، كل يدعى قتله، فأتوا به عمر بن سعد فقال لهم: لا تختصموا فيه، فإنه لم يقتله إنسان واحد، ففرق بينهم بهذا القول] [1] ثم قاتل أصحاب الحسين بين يديه حتى تفانوا ولم يَبْقَ مَعَهُ أَحَدٌ إِلَّا سُوِيدُ بْنُ عَمْرِو بن أبى مطاع الخثعميّ، وكان أول قتيل قتل من أهل الحسين من بنى أبى طالب على الأكبر بن الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَأُمُّهُ لَيْلَى بِنْتُ أَبِي مُرَّةَ بْنِ عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيِّ، طَعَنَهُ مُرَّةُ بْنُ مُنْقِذِ بْنِ النُّعْمَانِ الْعَبْدِيُّ فَقَتَلَهُ، لأنه جعل يقي أباه، وجعل يقصد أباه، فقال على بن الحسين:
أنا على بن الحسين بن على ... نحن وبيت الله أَوْلَى بِالنَّبِي
تاللَّه لَا يَحْكُمُ فِينَا ابْنُ الدَّعِي ... كَيْفَ تَرَوْنَ الْيَوْمَ سَتْرِي عَنْ أَبِي
فَلَمَّا طَعَنَهُ مُرَّةُ احْتَوَشَتْهُ الرِّجَالُ فَقَطَّعُوهُ بِأَسْيَافِهِمْ، فَقَالَ الْحُسَيْنُ: قَتَلَ اللَّهُ قَوْمًا قَتَلُوكَ يَا بُنَيَّ مَا أَجْرَأَهُمْ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى انْتِهَاكِ مَحَارِمِهِ؟! فَعَلَى الدُّنْيَا بَعْدَكَ الْعَفَاءُ. قَالَ: وَخَرَجَتْ جَارِيَةٌ كَأَنَّهَا الشَّمْسُ حُسْنًا فَقَالَتْ: يَا أُخَيَّاهُ ويا ابن أخاه، فَإِذَا هِيَ زَيْنَبُ بِنْتُ عَلِيٍّ مِنْ فَاطِمَةَ، فَأَكَبَّتْ عَلَيْهِ وَهُوَ صَرِيعٌ. قَالَ: فَجَاءَ الْحُسَيْنُ فَأَخَذَ بِيَدِهَا فَأَدْخَلَهَا الْفُسْطَاطَ، وَأَمَرَ بِهِ الْحُسَيْنُ فَحُوِّلَ مِنْ هُنَاكَ إِلَى بَيْنِ يَدَيْهِ عِنْدَ فُسْطَاطِهِ، ثُمَّ قُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ. ثُمَّ قُتِلَ عَوْنٌ وَمُحَمَّدٌ ابْنَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، ثُمَّ قُتِلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَجَعْفَرٌ ابْنَا عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، ثُمَّ قُتِلَ الْقَاسِمُ بْنِ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ.
[قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: وَحَدَّثَنِي فُضَيْلُ بْنُ خَدِيجٍ الْكِنْدِيُّ أَنَّ يَزِيدَ بْنَ زياد، وكان راميا، وهو أبو الشعثاء الكناني من بنى بهدلة. جثى عَلَى رُكْبَتَيْهِ بَيْنَ يَدَيِ الْحُسَيْنِ فَرَمَى بِمِائَةِ سَهْمٍ مَا سَقَطَ مِنْهَا عَلَى الْأَرْضِ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الرَّمْيِ قَالَ: قَدْ تبين لي أنى قتلت خمسة نفر:
أنا يزيد وأنا المهاجر ... أشجع من ليث قوى حادر
__________
[1] سقط من المصرية.

(8/185)


برب إِنِّي لِلْحُسَيْنِ نَاصِرْ ... وَلِابْنِ سَعْدٍ تَارِكٌ وَهَاجِرْ] (1)
قالوا: ومكث الحسين نهارا طويلا وحده لا يأتى أحد إليه إِلَّا رَجَعَ عَنْهُ، لَا يُحِبُّ أَنْ يَلِيَ قَتْلَهُ، حَتَّى جَاءَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي بَدَّاءَ، يقال له مالك بن البشير، فضرب الحسين على رأسه بالسيف فأدمى رأسه، وكان على الحسين برنس فقطعه وجرح رأسه فامتلأ البرنس دَمًا، فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ: لَا أَكَلْتَ بِهَا وَلَا شَرِبْتَ، وَحَشَرَكَ اللَّهُ مَعَ الظَّالِمِينَ. ثُمَّ ألقى الحسين ذلك البرنس ودعا بعمامة فلبسها.
[وقال أبو مخنف: حدثني سليمان بن أبى راشد عن حميد. قال: خرج إلينا غلام كأن وجهه فلقة قمر في يده السيف وعليه قميص وإزار ونعلان قد انقطع شسع أحدهما، ما أنسى أنها اليسرى، فقال لنا عمر بن سعد بن نفيل الأزدي: والله لأشدن عليه. فقلت له: سبحان الله!! وما تريد إلى ذلك؟ يكفيك. قتل هؤلاء الذين تراهم قد احتولوهم. فقال: والله لأشدّنّ عليه، فشد عليه عمر بن سعد أمير الجيش، فضربه وصاح الغلام: يا عماه، قال: فشد الحسين على عمر بن سعد شدة ليث أعضب، فضرب عمر بالسيف فاتقاه بالساعد فأطّنها من لدن المرفق فصاح ثم تنحى عنه، وحملت خيل أهل الكوفة ليستنقذوا عمر من الحسين، فاستقبلت عمر بصدورها وحركت حوافرها، وجالت بفرسانها عليه، ثم انجلت الغبرة فإذا بالحسين قائم على رأس الغلام، والغلام يفحص برجله والحسين يقول: بعدا لقوم قتلوك، ومن خصمهم يوم القيامة فيك جدك. ثم قال: عز والله على عمك أن تدعوه فلا يجيبك، أو يجيبك ثم لا ينفعك، صوت والله كثر واتره وقل ناصره. ثم احتمله فكأني انظر إلى رجلي الغلام يخطان في الأرض، وقد وضع الحسين صدره على صدره، ثم جاء به حتى ألقاه مع ابنه على الأكبر ومع من قتل من أهل بيته، فسألت عن الغلام فقيل لي هو الْقَاسِمُ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ.
وقال هانئ بن ثبيت الحضرميّ: إني لواقف يوم مقتل الحسين عاشر عشرة ليس منا رجل إلا على فرس، إذ خرج غلام من آل الحسين وهو ممسك بعود من تلك الأبنية، وعليه إزار وقميص، وهو مذعور يلتفت يمينا وشمالا، فكأني انظر إلى درتين في أذنيه تذبذبان كلما التفت، إذ أقبل رجل يركض فرسه حتى إذا دنا من الغلام مال عن فرسه ثم أخذ الغلام فقطعه بالسيف. قال هشام السكونيّ: هانئ بن ثبيت هو الّذي قتل الغلام، خاف أن يعاب ذلك عليه فكنى عن نفسه] [1] قَالَ: ثُمَّ إِنَّ الْحُسَيْنَ أَعْيَا فَقَعَدَ عَلَى بَابِ فُسْطَاطِهِ وَأُتِيَ بِصَبِيٍّ صَغِيرٍ مِنْ أَوْلَادِهِ اسمه عبد الله، فَأَجْلَسَهُ فِي حِجْرِهِ، ثُمَّ جَعَلَ يُقَبِّلُهُ وَيَشُمُّهُ وَيُوَدِّعُهُ وَيُوصِي أَهْلَهُ، فَرَمَاهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي أَسَدٍ يُقَالُ لَهُ «ابْنُ مُوقِدِ النَّارِ» بِسَهْمٍ فَذَبَحَ ذَلِكَ الْغُلَامَ، فَتَلَقَّى حُسَيْنٌ دَمَهُ فِي يده وألقاه نحو السماء وقال: رب
__________
[1] سقط من المصرية.

(8/186)


إِنْ تَكُ قَدْ حَبَسْتَ عَنَّا النَّصْرَ مِنَ السَّمَاءِ فَاجْعَلْهُ لِمَا هُوَ خَيْرٌ، وَانْتَقِمْ لَنَا من الظالمين. ورمى عبد الله ابن عُقْبَةَ الْغَنَوِيُّ أَبَا بَكْرِ بْنَ الْحُسَيْنِ بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ أَيْضًا، ثُمَّ قُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ وَالْعَبَّاسُ وعثمان وجعفر ومحمد بني على بن أبى طالب، إخوة الحسين. وَقَدِ اشْتَدَّ عَطَشُ الْحُسَيْنِ فَحَاوَلَ أَنْ يَصِلَ إلى أن يشرب من ماء الفرات فما قدر، بل مانعوه عنه، فخلص إلى شربة منه، فرماه رجل يقال له حصين بن تميم بِسَهْمٍ فِي حَنَكِهِ فَأَثْبَتَهُ، فَانْتَزَعَهُ الْحُسَيْنُ مِنْ حَنَكِهِ فَفَارَ الدَّمُ فَتَلَقَّاهُ بِيَدَيْهِ ثُمَّ رَفَعَهُمَا إِلَى السَّمَاءِ وَهُمَا مَمْلُوءَتَانِ دَمًا، ثُمَّ رَمَى بِهِ إِلَى السَّمَاءِ وَقَالَ: اللَّهمّ أَحْصِهِمْ عَدَدًا وَاقْتُلْهُمْ بِدَدًا، وَلَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنْهُمْ أحدا. ودعا عليهم دعاء بليغا.
[قال: فو الله إن مكث الرجل الرامي له إلا يسيرا حتى صب الله عليه الظمأ، فجعل لا يروى ويسقى الماء مبردا، وتارة يبرد له اللبن والماء جميعا، ويسقى فلا يروى، بل يقول: ويلكم اسقوني قتلني الظمأ. قال: فو الله ما لبث إلا يسيرا حتى أنفد بطنه انفداد بطن البعير. ثم إن شمر بن ذي الجوشن أقبل في نحو من عشرة من رجّالة الكوفة قبل منزل الحسين الّذي فيه ثقله وعياله، فمشى نحوهم فحالوا بينه وبين رحله، فقال لهم الحسين: ويلكم!! إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون يوم المعاد فكونوا في دنياكم أحرارا وذوى أحساب، امنعوا رحلي وأهلي من طغاتكم وجهالكم، فقال ابن ذي الجوشن ذلك لك يا ابن فاطمة، ثم أحاطوا به فجعل شمر يحرضهم على قتله، فقال له أبو الجنوب: وما يمنعك أنت من قتله؟ فقال له شمر: إلى تقول ذا؟ فقال أبو الجنوب: إلى تقول ذا؟
فاستبا ساعة، فقال له أبو الجنوب- وكان شجاعا-: والله لقد هممت أن أخضخض هذا السنان في عينك، فانصرف عنه شمر] [1] .
ثُمَّ جَاءَ شَمِرٌ وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الشُّجْعَانِ حَتَّى أَحَاطُوا بِالْحُسَيْنِ وَهُوَ عِنْدَ فُسْطَاطِهِ وَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ أَحَدٌ يَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ، فَجَاءَ غلام يشتد من الخيام كأنه البدر، وفي أذنيه درّتان، فَخَرَجَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ عَلِيٍّ لِتَرُدَّهُ فَامْتَنَعَ عَلَيْهَا، وَجَاءَ يُحَاجِفُ عَنْ عَمِّهِ فَضَرَبَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ بِالسَّيْفِ فَاتَّقَاهُ بِيَدِهِ فَأَطَنَّهَا سِوَى جِلْدَةٍ، فَقَالَ: يَا أَبَتَاهُ، فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ: يَا بُنَيَّ احْتَسِبْ أَجْرَكَ عِنْدَ اللَّهِ، فَإِنَّكَ تَلْحَقُ بِآبَائِكَ الصَّالِحِينَ. ثُمَّ حَمَلَ عَلَى الْحُسَيْنِ الرِّجَالُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَهُوَ يَجُولُ فِيهِمْ بِالسَّيْفِ يَمِينًا وَشِمَالًا، فَيَتَنَافَرُونَ عَنْهُ كَتَنَافُرِ الْمِعْزَى عَنِ السَّبُعِ، وَخَرَجَتْ أُخْتُهُ زَيْنَبُ بِنْتُ فَاطِمَةَ إِلَيْهِ فَجَعَلَتْ تقول: ليت السماء تقع على الأرض، وجاءت عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ فَقَالَتْ: يَا عُمَرُ أَرَضِيتَ أَنْ يُقْتَلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَأَنْتَ تَنْظُرُ؟
فَتَحَادَرَتِ الدُّمُوعُ عَلَى لِحْيَتِهِ وَصَرَفَ وَجْهَهُ عَنْهَا، ثُمَّ جَعَلَ لَا يُقْدِمُ أَحَدٌ عَلَى قَتْلِهِ، حَتَّى نَادَى شَمِرُ بْنُ ذِي الْجَوْشَنِ: وَيْحَكُمْ ماذا تنتظرون بالرجل؟ فاقتلوه ثَكِلَتْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ. فَحَمَلَتِ الرِّجَالُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ
__________
[1] سقط من المصرية

(8/187)


عَلَى الْحُسَيْنِ وَضَرَبَهُ زُرْعَةُ بْنُ شَرِيكٍ التَّمِيمِيُّ على كتفه الْيُسْرَى، وَضَرَبَ عَلَى عَاتِقِهِ، ثُمَّ انْصَرَفُوا عَنْهُ وَهُوَ يَنُوءُ وَيَكْبُو، ثُمَّ جَاءَ إِلَيْهِ سِنَانُ بن أبى عمرو بن أنس النَّخَعِيُّ فَطَعَنَهُ بِالرُّمْحِ فَوَقَعَ، ثُمَّ نَزَلَ فَذَبَحَهُ وَحَزَّ رَأْسَهُ، ثُمَّ دَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى خَوَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ. وَقِيلَ: إِنَّ الَّذِي قَتَلَهُ شَمِرُ بْنُ ذِي الْجَوْشَنِ، وَقِيلَ رَجُلٌ مِنْ مَذْحِجٍ، وَقِيلَ عُمَرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَإِنَّمَا كَانَ عُمَرُ أَمِيرَ السَّرِيَّةِ التي قتلت الحسين فقط. [والأول أشهر. وقال عبد الله بن عمار: رأيت الحسين حين اجتمعوا عليه يحمل على من على يمينه حتى انذغروا عنه، فو الله ما رأيت مكثورا قط قد قتل أولاده وأصحابه أربط جأشا منه ولا أمضى جنانا منه، والله ما رأيت قبله ولا بعده مثله. وقال: ودنا عمر بن سعد من الحسين فقالت له زينب: يا عمر أيقتل أبو عبد الله وأنت تنظر؟ فبكى وصرف وجهه عنها.
وقال أبو مخنف: حدثني الصقعب بن زهير عن حميد بن مسلم قال: جعل الحسين يشد على الرجال وهو يقول: أعلى قتلى تحابون؟ أما والله لا تقتلون بعدي عبدا من عباد الله أسخط عليكم بقتله منى، وأيم الله إني أرجو أن يكرمني الله بهوانكم ثم ينتقم الله لي منكم من حيث لا تشعرون، أما والله لو قد قتلتموني لقد ألقى الله بأسكم بينكم، وسفك دماءكم، ثم لا يرضى لكم بذلك حتى يضاعف لكم العذاب الأليم. قال: ولقد مكث طويلا من النهار ولو شاء الناس أن يقتلوه لفعلوا، ولكن كان يتقى بعضهم ببعض دمه، ويحب هؤلاء أن يكفيهم هؤلاء مؤنة قَتْلِهِ، حَتَّى نَادَى شَمِرُ بْنُ ذِي الْجَوْشَنِ ماذا تنتظرون بقتله؟ فتقدم إليه زرعة بن شريك التميمي فضربه بالسيف على عاتقه، ثم طعنه سنان بن أنس بن عمرو النخعي بالرمح، ثم نزل فاحتز رأسه ودفعه إلى خولى. وقد روى ابن عساكر في ترجمة شمر بن ذي الجوشن، وذو الجوشن صحابى جليل، قيل اسمه شرحبيل، وقيل عثمان بن نوفل، ويقال ابن أوس بن الأعور العامري الضبابي، بطن من كلاب، ويكنى شمر بأبي السابغة. ثم روى من طريق عمر بن شبة: ثنا أبو أحمد حدثني عمى فضيل بن الزبير عن عبد الرحيم بن ميمون عن محمد بن عمرو بن حسن. قال: كنا مع الحسين بنهرى كربلاء، فنظر إلى شمر بن ذي الجوشن فقال: صدق الله ورسوله، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كأنى انظر إلى كلب أبقع يلغ في دماء أهل بيتي» وكان شمر قبحه الله أبرص] [1] وَأَخَذَ سِنَانٌ وَغَيْرُهُ سَلَبَهُ، وَتَقَاسَمَ النَّاسُ مَا كَانَ مِنْ أَمْوَالِهِ وَحَوَاصِلِهِ، وَمَا فِي خِبَائِهِ حتى ما على النساء من الثياب الطاهرة.
وَقَالَ أَبُو مِخْنَفٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ. قال: وجدنا بالحسين حين قتل ثلاثة وثلاثين طعنة، وأربعة وثلاثين ضَرْبَةً، وَهَمَّ شَمِرُ بْنُ ذِي الْجَوْشَنِ بِقَتْلِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ الْأَصْغَرِ «زَيْنِ الْعَابِدِينَ» وَهُوَ صَغِيرٌ مَرِيضٌ حَتَّى صَرَفَهُ عَنْ ذَلِكَ حُمَيْدُ بْنُ مُسْلِمٍ أَحَدُ أَصْحَابِهِ. وَجَاءَ عُمَرُ بْنُ سعد فقال: ألا لا يدخلن
__________
[1] سقط من المصرية

(8/188)


عَلَى هَذِهِ النِّسْوَةِ أَحَدٌ، وَلَا يَقْتُلْ هَذَا الْغُلَامَ أَحَدٌ، وَمَنْ أَخَذَ مِنْ مَتَاعِهِمْ شَيْئًا فليرده عليهم، قال:
فو الله مَا رَدَّ أَحَدٌ شَيْئًا. فَقَالَ لَهُ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ: جُزِيتَ خَيْرًا فَقَدْ دَفَعَ اللَّهُ عَنِّي بِمَقَالَتِكَ شَرًّا، قَالُوا: ثُمَّ جَاءَ سِنَانُ بْنُ أَنَسٍ إِلَى بَابِ فُسْطَاطِ عُمَرِ بْنِ سَعْدٍ فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ:
أَوْقِرْ رِكَابِي فِضَّةً وَذَهَبًا ... أَنَا قَتَلْتُ الْمَلِكَ الْمُحَجَّبَا
قَتَلْتُ خَيْرَ الناس أما وأبا ... وخيرهم إذ ينسبون نسبا
فَقَالَ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ: أَدْخِلُوهُ عَلَيَّ، فَلَمَّا دَخَلَ رَمَاهُ بِالسَّوْطِ وَقَالَ: وَيْحَكَ أَنْتَ مَجْنُونٌ، وَاللَّهِ لَوْ سَمِعَكَ ابْنُ زِيَادٍ تَقُولُ هَذَا لَضَرَبَ عُنُقَكَ. وَمَنَّ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ عَلَى عُقْبَةَ بْنِ سَمْعَانَ حِينَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ مَوْلًى، فلم ينج منهم غيره. والمرفع بن يمانة أُسِرَ فَمَنَّ عَلَيْهِ ابْنُ زِيَادٍ، وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِ الْحُسَيْنِ اثَنَانِ وَسَبْعُونَ نَفْسًا، فَدَفَنَهُمْ أَهْلُ الْغَاضِرِيَّةِ مِنْ بَنِي أَسَدٍ بَعْدَ مَا قُتِلُوا بيوم واحد، قال: ثم أمر عمر بن سعد أن يوطأ الحسين بالخيل، ولا يصح ذلك والله أعلم. وقتل مِنْ أَصْحَابِ عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ ثَمَانِيَةٌ وَثَمَانُونَ نفسا. وروى عن محمد بن الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ قَالَ: قُتِلَ مَعَ الْحُسَيْنِ سَبْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا كُلُّهُمْ مِنْ أَوْلَادِ فَاطِمَةَ، وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: قُتِلَ مَعَ الْحُسَيْنِ سِتَّةَ عَشَرَ رَجُلًا كُلُّهُمْ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، مَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ لَهُمْ شِبْهٌ. وَقَالَ غَيْرُهُ: قُتِلَ مَعَهُ مِنْ وَلَدِهِ وَإِخْوَتِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ ثَلَاثَةُ وَعِشْرُونَ رَجُلًا، فَمِنْ أَوْلَادِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَعْفَرٌ، وَالْحُسَيْنُ، وَالْعَبَّاسُ، وَمُحَمَّدٌ، وَعُثْمَانُ، وَأَبُو بَكْرٍ. وَمِنْ أَوْلَادِ الْحُسَيْنِ عَلِيٌّ الْأَكْبَرُ وَعَبْدُ اللَّهِ. وَمِنْ أَوْلَادِ أَخِيهِ الْحَسَنِ ثَلَاثَةٌ، عَبْدُ اللَّهِ، وَالْقَاسِمُ، وَأَبُو بَكْرٍ بنو الحسن بن على ابن أَبِي طَالِبٍ. وَمِنْ أَوْلَادِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ اثَنَانِ، عَوْنٌ وَمُحَمَّدٌ. وَمِنْ أَوْلَادِ عَقِيلٍ، جَعْفَرٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَمُسْلِمٌ قُتِلَ قَبْلَ ذَلِكَ كَمَا قَدَّمْنَا. فَهَؤُلَاءِ أَرْبَعَةٌ لِصُلْبِهِ، واثَنَانِ آخَرَانِ هُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَعِيدِ بْنِ عَقِيلٍ، فَكَمَلُوا سِتَّةً مِنْ وَلَدِ عَقِيلٍ، وَفِيهِمْ يَقُولُ الشَّاعِرُ. -
وَانْدُبِي تِسْعَةً لِصُلْبِ عَلِيٍّ ... قَدْ أُصِيبُوا وَسِتَّةً لِعَقِيلِ
وَسَمِيُّ النَّبِيِّ غُودِرَ فِيهِمْ ... قَدْ عَلَوْهُ بِصَارِمٍ مَصْقُولِ
وَمِمَّنْ قُتِلَ مَعَ الحسين بكربلاء أخوه من الرضاعة عبد الله بن يقطر، وقد قيل إنه قتل قبل ذلك حيث بَعَثَ مَعَهُ كِتَابًا إِلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ فَحُمِلَ إِلَى ابْنِ زِيَادٍ فَقَتَلَهُ. وَقُتِلَ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ مِنْ أَصْحَابِ عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ ثَمَانِيَةٌ وَثَمَانُونَ رَجُلًا سِوَى الْجَرْحَى، فَصَلَّى عَلَيْهِمْ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ وَدَفَنَهُمْ. وَيُقَالُ إِنَّ عُمَرَ بْنَ سعد أمر عشرة فرسان فداسوا الحسين بحوافر خيولهم حتى ألصقوه بالأرض يوم المعركة، وأمر برأسه أن يحمل مِنْ يَوْمِهِ إِلَى ابْنِ زِيَادٍ مَعَ خَوَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ الْأَصْبَحِيِّ، فَلَمَّا انْتَهَى بِهِ إِلَى القصر وجده مغلقا فرجع به إِلَى مَنْزِلِهِ فَوَضَعَهُ تَحْتَ إِجَّانَةٍ وَقَالَ لِامْرَأَتِهِ نَوَارَ بِنْتِ مَالِكٍ: جِئْتُكِ بِعِزِّ الدَّهْرِ، فَقَالَتْ:
وما هو؟ فقال: برأس الْحُسَيْنِ. فَقَالَتْ: جَاءَ النَّاسُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَجِئْتَ أَنْتَ بِرَأْسِ ابْنِ بِنْتِ

(8/189)


رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وَاللَّهُ لَا يَجْمَعُنِي وَإِيَّاكَ فِرَاشٌ أَبَدًا، ثُمَّ نَهَضَتْ عَنْهُ مِنَ الْفِرَاشِ، وَاسْتَدْعَى بِامْرَأَةٍ لَهُ أُخْرَى من بنى أسد فنامت عنده قالت المرأة الثانية الاسدية: والله مَا زِلْتُ أَرَى النُّورَ سَاطِعًا مِنْ تِلْكَ الاجانة إلى السماء، وطيورا بيضا تُرَفْرِفُ حَوْلَهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا بِهِ إِلَى ابْنِ زِيَادٍ فَأَحْضَرَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَيُقَالُ إِنَّهُ كَانَ مَعَهُ رُءُوسُ بَقِيَّةِ أَصْحَابِهِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ. وَمَجْمُوعُهَا اثَنَانِ وَسَبْعُونَ رَأْسًا، وَذَلِكَ أَنَّهُ مَا قُتِلَ قَتِيلٌ إِلَّا احْتَزُّوا رَأَسَهُ وَحَمَلُوهُ إِلَى ابْنِ زِيَادٍ، ثُمَّ بَعَثَ بِهَا ابْنُ زِيَادٍ إِلَى يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ إِلَى الشَّامِ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ ثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مُحَمَّدِ عَنْ أَنَسٍ. قَالَ: أُتِيَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ بِرَأْسِ الْحُسَيْنِ فَجُعِلَ فِي طَسْتٍ فَجَعَلَ يَنْكُتُ عَلَيْهِ وَقَالَ فِي حُسْنِهِ شَيْئًا، فَقَالَ أَنَسٌ: إِنَّهُ كَانَ أَشْبَهَهُمْ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ مخضوبا بالوشمة. وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْمَنَاقِبِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الحسن بْنِ إِبْرَاهِيمَ- هُوَ ابْنُ إِشْكَابٍ- عَنْ حُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَنَسٍ فَذَكَرَهُ. وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ عن أنس. وقال: حسن صحيح، وفيه «فجعل ينكت بِقَضِيبٍ فِي أَنْفِهِ وَيَقُولُ: مَا رَأَيْتُ مِثْلَ هذا حسنا» . وقال الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا مُفَرِّجُ بْنُ شُجَاعِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْمَوْصِلِيُّ ثَنَا غَسَّانُ بْنُ الرَّبِيعِ ثَنَا يونس بن عبيدة عَنْ ثَابِتٍ وَحُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ. قَالَ: لَمَّا أُتِيَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ بِرَأْسِ الْحُسَيْنِ جعل ينكت بالقضيب ثناياه ويقول: لَقَدْ كَانَ- أَحْسَبُهُ قَالَ جَمِيلًا- فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَأَسُوءَنَّكَ «إِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْثَمُ حَيْثُ يَقَعُ قَضِيبُكَ» . قَالَ فَانْقَبَضَ.
تَفَرَّدَ بِهِ الْبَزَّارُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَقَالَ: لَا نَعْلَمُ رَوَاهُ عَنْ حُمَيْدٍ غَيْرُ يونس بْنِ عَبْدَةَ وَهُوَ رَجُلٌ مَنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ مَشْهُورٌ وَلَيْسَ بِهِ بَأْسٌ. وَرَوَاهُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَجَّاجِ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عن أَنَسٍ فَذَكَرَهُ. وَرَوَاهُ قُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ أَنَسٍ فَذَكَرَهُ.
وَقَالَ أَبُو مِخْنَفٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي رَاشِدٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ مُسْلِمٍ. قَالَ: دَعَانِي عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ فسرّحنى إلى أهله لأبشرهم بما فتح الله عليه وبعافيته، فَأَجِدُ ابْنَ زِيَادٍ قَدْ جَلَسَ لِلنَّاسِ، وَقَدْ دَخَلَ عَلَيْهِ الْوَفْدُ الَّذِينَ قَدِمُوا عَلَيْهِ، فَدَخَلْتُ فِيمَنْ دَخَلَ. فَإِذَا رَأَسُ الْحُسَيْنِ مَوْضُوعٌ بَيْنَ يديه، وإذا هو ينكت فيه بقضيب بين ثناياه ساعة، فقال له زيد بن أرقم: ارفع هذا القضيب عن هاتين الثنيتين، فو آللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَقَدْ رَأَيْتُ شَفَتَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هاتين الثنيتين يُقَبِّلُهُمَا» ثُمَّ انْفَضَخَ الشَّيْخُ يَبْكِي، فَقَالَ لَهُ ابن زياد: أبكى الله عينك، فو الله لَوْلَا أَنَّكَ شَيْخٌ قَدْ خَرِفْتَ وَذَهَبَ عَقْلُكَ لَضَرَبْتُ عُنُقَكَ، قَالَ: فَنَهَضَ فَخَرَجَ، فَلَمَّا خَرَجَ قَالَ النَّاسُ: وَاللَّهِ لَقَدْ قَالَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ كَلَامًا لَوْ سَمِعَهُ ابْنُ زِيَادٍ لَقَتَلَهُ، قَالَ: فَقُلْتُ مَا قَالَ؟ قَالُوا: مَرَّ بِنَا وهو يقول: ملك عبد عبيدا فاتخذهم تليدا أَنْتُمْ يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ الْعَبِيدُ بَعْدَ الْيَوْمِ، قَتَلْتُمُ ابْنَ فَاطِمَةَ، وَأَمَّرْتُمُ ابْنَ مَرْجَانَةَ، فَهُوَ يقتل خياركم، ويستعبد شراركم، فَبُعْدًا لِمَنْ رَضِيَ بِالذُّلِّ. وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طريق أبى داود باسناده عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ بِنَحْوِهِ.

(8/190)


وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ ثَابِتٍ عَنْ زَيْدٍ.
وَقَدْ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدَّثَنَا وَاصِلُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى ثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ. قَالَ: لَمَّا جِيءَ بِرَأْسِ عبيد الله بن زياد وأصحابه فنصبت في المسجد في الرحبة فانتهيت إليهم وهم يَقُولُونَ: قَدْ جَاءَتْ قَدْ جَاءَتْ، فَإِذَا حَيَّةٌ قد جاءت تتخلل الرُّءُوسَ حَتَّى دَخَلَتْ فِي مِنْخَرَيْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ، فَمَكَثَتْ هُنَيْهَةً ثُمَّ خَرَجَتْ، فَذَهَبَتْ حتى، تغيب ثُمَّ قَالُوا: قَدْ جَاءَتْ قَدْ جَاءَتْ، فَفَعَلَتْ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا. ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حسن صحيح.
وأمر ابن زياد فنودي الصلاة جامعة، فاجتمع الناس فصعد المنبر فذكر مَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ قَتْلِ الْحُسَيْنِ الَّذِي أَرَادَ أَنْ يَسْلُبَهُمُ الْمُلْكَ وَيُفَرِّقَ الْكَلِمَةَ عَلَيْهِمْ، فَقَامَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَفِيفٍ الْأَزْدِيُّ، فَقَالَ: وَيْحَكَ يَا ابْنَ زِيَادٍ!! تَقْتُلُونَ أَوْلَادَ النَّبِيِّينَ وَتَتَكَلَّمُونَ بِكَلَامِ الصِّدِّيقِينَ! فَأَمَرَ بِهِ ابْنُ زِيَادٍ فَقُتِلَ وَصُلِبَ. ثُمَّ أَمَرَ بِرَأْسِ الْحُسَيْنِ فَنُصِبَ بِالْكُوفَةِ وَطِيفَ بِهِ فِي أَزِقَّتِهَا، ثُمَّ سَيَّرَهُ مَعَ زَحْرِ بْنِ قَيْسٍ وَمَعَهُ رُءُوسُ أَصْحَابِهِ إِلَى يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بِالشَّامِ، وَكَانَ مَعَ زَحْرٍ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُرْسَانِ، مِنْهُمْ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ عَوْفٍ الْأَزْدِيُّ: وَطَارِقُ بْنُ أَبِي ظَبْيَانَ الْأَزْدِيُّ، فَخَرَجُوا حَتَّى قَدِمُوا بِالرُّءُوسِ كُلِّهَا عَلَى يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ.
قَالَ هِشَامٌ: فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ رَوْحِ بْنِ زِنْبَاعٍ الْجُذَامِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنِ الْغَازِ بْنِ رَبِيعَةَ الْجُرَشِيِّ مِنْ حِمْيَرَ. قَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لَعِنْدَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بِدِمَشْقَ إِذْ أَقْبَلَ زَحْرُ بْنُ قَيْسٍ فَدَخَلَ عَلَى يَزِيدَ، فقال له يزيد: ويحك مَا وَرَاءَكَ؟ [فَقَالَ أَبْشِرْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بِفَتْحِ اللَّهِ عَلَيْكَ وَنَصْرِهِ، وَرَدَ عَلَيْنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَسِتُّونَ رَجُلًا مِنْ شِيعَتِهِ، فَسِرْنَا إِلَيْهِمْ فَسَأَلْنَاهُمْ أَنْ يَسْتَسْلِمُوا وَيَنْزِلُوا عَلَى حُكْمِ الْأَمِيرِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ أَوِ القتال، فاختاروا القتال، فغدونا إليهم مَعَ شُرُوقِ الشَّمْسِ فَأَحَطْنَا بِهِمْ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ حَتَّى أَخَذَتِ السُّيُوفُ مَأْخَذَهَا مِنْ هَامِ الْقَوْمِ، فَجَعَلُوا يَهْرَبُونَ إِلَى غَيْرِ مَهْرَبٍ وَلَا وَزَرٍ، وَيَلُوذُونَ مِنَّا بِالْآكَامِ وَالْحُفَرِ، لِوَاذًا كَمَا لاذ الحمام من صقر، فو الله ما كانوا إلا حزر جَزُورٍ، أَوْ نَوْمَةُ قَائِلٍ، حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى آخرهم، فهاتيك أجسادهم مجردة، وثيابهم مزمّلة، وَخُدُودُهُمْ مُعَفَّرَةً، تَصْهَرُهُمُ الشَّمْسُ وَتَسْفِي عَلَيْهِمُ الرِّيحُ، وازرهم الْعِقْبَانُ وَالرَّخَمُ] [1] قَالَ: فَدَمَعْتَ عَيْنَا يَزِيدَ بْنِ معاوية وقال: كُنْتُ أَرْضَى مِنْ طَاعَتِكُمْ بِدُونِ قَتْلِ الْحُسَيْنِ، لعن الله ابن سمية، أَمَا وَاللَّهِ لَوْ أَنِّي صَاحِبُهُ لَعَفَوْتُ عَنْهُ، ورحم الله الحسين. ولم يصل الّذي جاء برأسه بشيء. ولما وضع رأس الْحُسَيْنُ بَيْنَ يَدَيْ يَزِيدَ قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْ أَنِّي صَاحِبُكَ مَا قَتَلْتُكَ، ثُمَّ أَنْشَدَ قول الحسين بْنِ الْحُمَامِ الْمُرِّيِّ الشَّاعِرِ
يُفَلِّقْنَ هَامًا مِنْ رِجَالٍ أَعِزَّةٍ ... عَلَيْنَا وَهُمْ كَانُوا أَعَقَّ وَأَظْلَمَا
__________
[1] سقط من من المصرية

(8/191)


قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: فَحَدَّثَنِي أَبُو جَعْفَرٍ الْعَبْسِيُّ قَالَ: وَقَامَ يَحْيَى بْنُ الْحَكَمِ- أَخُو مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ- فَقَالَ: -
لَهَامٌ بِجَنْبِ الطَّفِّ أَدْنَى قَرَابَةً ... مِنِ ابْنِ زِيَادِ الْعَبْدِ ذِي الْحَسَبِ الوغل
سمية أضحى نسلها عدد الحصى ... وليس لآل المصطفى اليوم من نَسْلُ
قَالَ: فَضَرَبَ يَزِيدُ فِي صَدْرِ يَحْيَى بن الحكم وقال له: اسْكُتْ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ الرَّازِيُّ- وَهُوَ شِيعِيٌّ-: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْأَحْمَرِيُّ ثَنَا لَيْثٌ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ، لَمَّا جِيءَ بِرَأْسِ الْحُسَيْنِ فَوُضِعَ بَيْنَ يَدَيْ يَزِيدَ تَمَثَّلَ بِهَذِهِ الْأَبْيَاتِ: -
لَيْتَ أَشْيَاخِي بِبَدْرٍ شَهِدُوا ... جَزَعَ الْخَزْرَجِ في وَقْعِ الْأَسَلْ
فَأَهَلُّوا وَاسْتَهَلُّوا فَرَحًا ... ثُمَّ قَالُوا لي هنيا لا تسل
حين حكت بفناء بركها ... واستحر القتل في عبد الأسل
قد قتلنا الضعف من أشرافكم ... وَعَدَلْنَا مَيْلَ بَدْرٍ فَاعْتَدَلَ [1]
قَالَ مُجَاهِدٌ: نَافَقَ فِيهَا، وَاللَّهِ ثُمَّ وَاللَّهِ مَا بَقِيَ فِي جيشه أحد إلا تركه أي ذمه وعابه.
وقد اختلف العلماء بعدها في رأس الحسين هل سيّره ابن زياد إلى الشام إلى يزيد أم لا، على قولين، الأظهر منهما أنه سيره إليه، وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ آثَارٌ كَثِيرَةٌ فاللَّه أعلم. وقال أَبُو مِخْنَفٍ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَالِيِّ عَنْ عبد الله اليماني عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ بُخَيْتٍ، قَالَ: لَمَّا وُضِعَ رَأْسُ الْحُسَيْنِ بَيْنَ يَدَيْ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ جَعَلَ يَنْكُتُ بِقَضِيبٍ كَانَ فِي يَدِهِ فِي ثَغْرِهِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ هَذَا وَإِيَّانَا كَمَا قال الحصين ابن الْحُمَامِ الْمُرِّيُّ: -
يُفَلِّقْنَ هَامًا مِنْ رِجَالٍ أَعِزَّةٍ ... عَلَيْنَا وَهُمْ كَانُوا أَعَقَّ وَأَظْلَمَا
فَقَالَ لَهُ أَبُو بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيُّ: أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ أَخَذَ قَضِيبُكَ هَذَا مَأْخَذًا لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْشُفُهُ، ثُمَّ قَالَ: ألا إِنَّ هَذَا سَيَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشَفِيعُهُ مُحَمَّدٌ، وَتَجِيءُ وَشَفِيعُكَ ابْنُ زِيَادٍ. ثُمَّ قَامَ فَوَلَّى. وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ أَسَدٍ عن عمار الدّهنى عن جَعْفَرٍ. قَالَ:
لَمَّا وُضِعَ رَأْسُ الْحُسَيْنِ بَيْنَ يدي يزيد وعنده أبو برزة وجعل ينكت بالقضيب فقال له: «ارْفَعْ قَضِيبَكَ فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْثَمُهُ» . قَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: وَحَدَّثَنِي مَسْلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ عَنِ الْحُمَيْدِيِّ عَنْ سُفْيَانَ سَمِعْتُ سَالِمَ بْنَ أَبِي حَفْصَةَ قَالَ قَالَ الْحَسَنُ: لَمَّا جِيءَ بِرَأْسِ الْحُسَيْنِ جعل يزيد
__________
[1] بالهامش: لا يتصور أن يكون يزيد قد تمثل بهذه الأبيات هذه الأيام، فان المؤرخين قاطبة ذكروا أنه تمثل بها لما جاءه خبر وقعة الحرة بالمدينة الشريفة، وقتل الأنصار، ووقعة الحرة بعد هذه كما ستراه. وأيضا فان قضية الحسين رضى الله عنه لم يكن حاضرها أحد من الخزرج، يعلم ذلك من الإلمام بالأخبار وأيام الناس والله أعلم.

(8/192)


يطعن بالقضيب، قال سفيان وأخبرت أن الحصين كَانَ يُنْشِدُ عَلَى إِثْرِ هَذَا: -
سُمَيَّةُ أَمْسَى نَسْلُهَا عَدَدَ الْحَصَى ... وَبِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ لَيْسَ لها نسل
وأما بقية أهله ونسائه فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ سَعْدٍ وَكَلَ بِهِمْ مَنْ يحرسهم ويكلؤهم، ثم أركبوهم عَلَى الرَّوَاحِلِ فِي الْهَوَادِجِ، فَلَمَّا مَرُّوا بِمَكَانِ المعركة ورأوا الحسين وأصحابه مطرحين لك بَكَتْهُ النِّسَاءُ، وَصَرَخْنَ، وَنَدَبَتْ زَيْنَبُ أَخَاهَا الْحُسَيْنَ وَأَهْلَهَا، فَقَالَتْ وَهِيَ تَبْكِي:
يَا مُحَمَّدَاهُ، يَا محمداه صلّى عليك الله وملك السماه هذا حسين بالعراه مزمل بالدماه، مُقَطَّعُ الْأَعْضَاءِ يَا مُحَمَّدَاهُ وَبَنَاتُكَ سَبَايَا، وَذُرِّيَّتُكَ مُقَتَّلَةٌ، تَسْفِي عَلَيْهَا الصَّبَا. قَالَ فَأَبْكَتْ وَاللَّهِ كل عدوّ وصديق.
[قال قرة بن قيس لما مرّت النسوة بالقتلى صحن ولطمن خدودهن، قال: فما رأيت من منظر من نسوة قط أحسن منظر رأيته منهن ذلك اليوم، والله إنهن لأحسن من مهابيرين. وذكر الحديث كما تقدم] [1] . ثم قال: ثم ساروا بهم مِنْ كَرْبَلَاءَ حَتَّى دَخَلُوا الْكُوفَةَ فَأَكْرَمَهُمُ ابْنُ زياد وأجرى عليهم النفقات والكساوى وغيرها، [قال: ودخلت زينب ابنة فاطمة في أرذل ثيابها قد تنكرت وحفّت بها إماؤها، فلما دخلت على عبيد الله بن زياد قال: من هذه؟ فلم تكلمه، فقال بعض إمائها: هذه زينب بنت فاطمة، فقال: الحمد للَّه الّذي فضحكم وقتلكم وكذّب أحدوثتكم.
فقالت: بل الحمد للَّه الّذي أكرمنا بمحمد وطهرنا تطهيرا لا كما نقول، وإنما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر. قال: كيف رأيت صنع الله بأهل بيتكم؟ فقالت: كتب عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فيحاجونك إلى الله. فغضب ابن زياد واستشاط، فقال له عمرو بن حريث: أصلح الله الأمير! إنما هي امرأة، وهل تؤاخذ المرأة بشيء من منطقها؟ إنها لا تؤاخذ بما تقول ولا تلام على خطل.
وقال أبو مخنف عن المجالد عن سعيد: إن ابن زياد لما نظر إلى على بن الحسين «زين العابدين» قال لشرطى: انظر أأدرك هذا الغلام، فان كان أدرك فانطلقوا به فاضربوا عنقه؟ فكشف إزاره عنه فقال: نعم! فقال: اذهب به فاضرب عنقه، فقال له على بن الحسين: إن كان بينك وبين هؤلاء النسوة قرابة فابعث معهن رجلا يحافظ عليهنّ، فقال له ابن زياد: تعال أنت! فبعثه معهن. قال أبو مخنف: وأما سليمان بن أبى راشد فحدثني عن حميد بن مسلم قال: إني لقائم عند ابن زياد حين عرض عليه على بن الحسين، فقال له ما اسمك؟ قال: أنا على بن الحسين، قال: أو لم يقتل الله على ابن الحسين؟ فسكت، فقال له ابن زياد. مالك لا تتكلم؟ قال: كان لي أخ يقال له على أيضا قتله
__________
[1] سقط من المصرية

(8/193)


الناس. قال: إن الله قتله، فسكت، فقال: مالك لا تتكلم؟ فقال الله يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها 39: 42 وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ الله 3: 145 قال: أنت والله منهم، ويحك!! انظروا هذا أدرك؟
والله إني لأحسبه رجلا، فكشف عنه مري بن معاد الأحمري فقال: نعم قد أدرك، فقال: اقتله، فقال على بن الحسين: من يوكل بهذه النسوة؟ وتعلقت به زينب عمته فقالت: يا ابن زياد حسبك منا ما فعلت بنا، أما رويت من دمائنا؟ وهل أبقيت منا أحدا؟ قال: واعتنقته وقالت: أسألك باللَّه إن كنت مؤمنا إن قتلته لما قتلني معه، وناداه على فقال: يا ابن زياد!! إن كان بينك وبينهن قرابة فابعث معهن رجلا تقيا يصحبهن بصحبة الإسلام. قال: فنظر إليهن ساعة ثم نظر إلى القوم فقال: عجبا للرحم!! والله إني لأظن أنها ودّت لو أنى قتلته أن أقتلها معه، دعوا الغلام، انطلق مع نسائك. قال: ثم إن ابن زياد أمر بنساء الحسين وصبيانه وبناته فجهزن إلى يزيد، وأمر بعلي بن الحسين فغل بغل إلى عنقه، وأرسلهم مع محقر بن ثعلبة العائذى- من عائذة قريش- ومع شمر بن ذي الجوشن قبحه الله، فلما بلغوا باب يزيد بن معاوية رفع محقر بن ثعلبة صوته فقال: هذا محقر بن ثعلبة، أنى أمير المؤمنين باللئام الفجرة، فأجابه يزيد بن معاوية: ما ولدت أم محقر شر وألأم] [1] .
فلما دخلت الرءوس والنساء على يزيد دعا أشراف الشام فأجلسهم حوله، ثم دعا بعلي بن الحسين وصبيان الحسين ونسائه، فأدخلن عليه والناس ينظرون، فقال لعلى بن الحسين: يا على أبوك قَطَعَ رَحِمِي وَجَهِلَ حَقِّي وَنَازَعَنِي سُلْطَانِي، فَصَنَعَ اللَّهُ بِهِ مَا قَدْ رَأَيْتَ. فَقَالَ عَلِيٌّ: مَا أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا في أَنْفُسِكُمْ إِلَّا في كِتابٍ 57: 22 فقال يزيد لابنه خالد: أجبه. قَالَ: فَمَا دَرَى خَالِدٌ مَا يَرُدُّ عَلَيْهِ، فقال له يزيد: قل ما أَصابَكُمْ من مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ 42: 30 فَسَكَتَ عَنْهُ سَاعَةً ثُمَّ دَعَا بِالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ فرأى هيئة قبيحة، فقال: قبح الله بن مرجانة، لو كانت بينهم وبينه قرابة ورحم ما فعل هذا بهم، وَلَا بَعَثَ بِكُمْ هَكَذَا. وَرَوَى أَبُو مِخْنَفٍ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ عَلِيٍّ قَالَتْ: لَمَّا أُجْلِسْنَا بَيْنَ يَدَيْ يَزِيدَ رَقَّ لَنَا وَأَمَرَ لَنَا بِشَيْءٍ وَأَلْطَفنَا، ثُمَّ إِنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الشَّامِ أَحْمَرَ قَامَ إِلَى يَزِيدَ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَبْ لِي هَذِهِ- يَعْنِينِي- وَكُنْتُ جَارِيَةً وَضِيئَةً، فَارْتَعَدْتُ فَزِعَةً مِنْ قَوْلِهِ، وَظَنَنْتُ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لَهُمْ، فَأَخَذْتُ بِثِيَابِ أُخْتِي زَيْنَبَ- وَكَانَتْ أَكْبَرَ مِنِّي وَأَعْقَلَ، وَكَانَتْ تَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ- فَقَالَتْ لِذَلِكَ الرَّجُلِ: كَذَبْتَ وَاللَّهِ وَلَؤُمْتَ، ما ذلك لك وله: فَغَضِبَ يَزِيدُ فَقَالَ لَهَا: كَذَبْتِ! وَاللَّهِ إِنَّ ذَلِكَ لِي، وَلَوْ شِئْتُ أَنْ أَفْعَلَهُ لَفَعَلْتُ. قَالَتْ: كَلَّا! وَاللَّهِ مَا جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ لَكَ إِلَّا أَنْ تَخْرُجَ مِنْ مِلَّتِنَا وَتَدِينَ بِغَيْرِ دِينِنَا. قَالَتْ: فَغَضِبَ يَزِيدُ وَاسْتَطَارَ ثُمَّ قَالَ: إِيَّايَ تَسْتَقْبِلِينَ بِهَذَا؟ إِنَّمَا خَرَجَ مِنَ
__________
[1] سقط من المصرية

(8/194)


الدِّينِ أَبُوكِ وَأَخُوكِ، فَقَالَتْ زَيْنَبُ: بِدِينِ اللَّهِ وَدِينِ أَبِي وَدِينِ أَخِي وَجَدِّي اهْتَدَيْتَ أَنْتَ وَأَبُوكَ وَجَدُّكَ. قَالَ: كَذَبْتِ يَا عَدُوَّةَ اللَّهِ. قالت: أنت أمير المؤمنين مسلط تشتم ظالما وتقهر بسلطانك.
قالت: فو الله لكأنه استحى فسكت، ثم قام ذلك الرجل فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَبْ لِي هَذِهِ. فَقَالَ لَهُ يَزِيدُ: اعْزُبْ وَهَبَ اللَّهُ لَكَ حَتْفًا قَاضِيًا. ثُمَّ أَمَرَ يَزِيدُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ أَنْ يَبْعَثَ مَعَهُمْ إِلَى الْمَدِينَةِ رَجُلًا أَمِينًا مَعَهُ رِجَالٌ وَخَيْلٌ، وَيَكُونُ عَلِيُّ بْنُ الحسين معهن. ثم أنزل النساء عند حريمه فِي دَارِ الْخِلَافَةِ فَاسْتَقْبَلَهُنَّ نِسَاءُ آلِ مُعَاوِيَةَ يَبْكِينَ وَيَنُحْنَ عَلَى الْحُسَيْنِ، ثُمَّ أَقَمْنَ الْمَنَاحَةَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَكَانَ يَزِيدُ لَا يَتَغَدَّى وَلَا يتعشى إلا ومعه على بن الحسين وأخوه عمر بن الحسين، فقال يزيد يوما لعمر بن الحسين- وكان صغيرا جِدًّا- أَتُقَاتِلُ هَذَا؟ - يَعْنِي ابْنَهُ خَالِدَ بْنَ يزيد- يريد بذلك ممازحته وملاعبته، فَقَالَ: أَعْطِنِي سِكِّينًا وَأَعْطِهِ سِكِّينًا حَتَّى نَتَقَاتَلَ، فَأَخْذُهُ يَزِيدُ فَضَمَّهُ إِلَيْهِ وَقَالَ: شِنْشِنَةٌ أَعْرِفُهَا مَنْ أَخْزَمَ، هَلْ تَلِدُ الْحَيَّةُ إِلَّا حَيَّةً؟
وَلَمَّا وَدَّعَهُمْ يَزِيدُ قَالَ لِعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ: قبح الله بن سمية، أما والله لو أنى صاحب أبيك مَا سَأَلَنِي خَصْلَةً إِلَّا أَعْطَيْتُهُ إِيَّاهَا، وَلَدَفَعْتُ الْحَتْفَ عَنْهُ بِكُلِّ مَا اسْتَطَعْتُ وَلَوْ بِهَلَاكِ بَعْضِ وَلَدِي، وَلَكِنَّ اللَّهَ قَضَى مَا رَأَيْتَ، ثم جهزه وأعطاه مالا كثيراً وكساهم وأوصى بهم ذلك الرسول، وَقَالَ لَهُ: كَاتِبْنِي بِكُلِّ حَاجَةٍ تَكُونُ لَكَ، فَكَانَ ذَلِكَ الرَّسُولُ الَّذِي أَرْسَلَهُ مَعَهُنَّ يَسِيرُ عنهن بمعزل مِنَ الطَّرِيقِ، ويبَعُدُ عَنْهُنَّ بِحَيْثُ يُدْرِكُهُنَّ طَرَفُهُ وهو في خدمتهم حتى وصلوا المدينة، فقالت فاطمة بنت على:
قلت لأختى زينب: إن هذا الرجل الّذي أرسل معنا قد أحسن صحبتنا فهل لك أن نصله؟ فقالت:
والله ما معنا شيء نصله به إلا حلينا، قالت وقلت لها: نعطيه حلينا، قالت: فأخذت سواري ودملجي، وأخذت أختى سوارها ودملجها وبعثنا به إليه واعتذرنا إليه وقلنا: هذا جزاؤك بحسن صحبتك لنا، فقال: لو كان الّذي صنعت معكم إنما هو للدنيا كان في هذا الّذي أرسلتموه ما يرضيني وزيادة، ولكن والله ما فعلت ذلك إلا للَّه تعالى وَلِقَرَابَتِكُمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
[وقيل إن يزيد لما رأى رأس الحسين قال: أتدرون من أين أتى ابن فاطمة؟ وما الحامل له على ما فعل، وما الّذي أوقعه فيما وقع فيه؟ قالوا: لا! قال: يزعم أن أباه خير من أبى، وأمه فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرُ من أمى، وجده رسول الله خير من جدي، وأنه خير منى وأحق بهذا الأمر منى، فأما قوله أبوه خير من أبى فقد حاج أبى أباه إلى الله عز وجل، وعلم الناس أيهما حكم له، وأما قوله أمه خير من أمى فلعمري إن فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرُ من أمى، وأما قوله جده رسول الله خير من جدي، فلعمري ما أحد يؤمن باللَّه واليوم الآخر يرى أن لرسول الله فينا عدلا ولا ندا، ولكنه إنما أتى من قلة فقهه لم يقرأ قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ

(8/195)


تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ 3: 26 الآية، وقوله تعالى وَالله يُؤْتِي مُلْكَهُ من يَشاءُ 2: 247. فلما دخلت النساء على يزيد قالت فاطمة بنت الحسين- وكانت أكبر من سكينة- يا يزيد! بَنَاتِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبَايَا. فقال يزيد: يا بنت أخي، أنا لهذا كنت أكره. قالت قلت والله ما تركوا لنا خرصاً، فقال: ابنة أخى! ما أتى إليك أعظم مما ذهب لك. ثم أدخلهن داره ثم أرسل إلى كل امرأة منهن ماذا أخذ لك؟ فليس منهن امرأة تدعى شيئا بالغا ما بلغ إلا أضعفه لها.
وقال هشام عن أبى مختف: حدثني أبو حَمْزَةَ الثُّمَالِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الثُّمَالِيِّ عَنِ القاسم بن نجيب.
قال: لما أقبل وفد الكوفة برأس الحسين دخلوا به مسجد دمشق فقال لهم مروان بن الحكم: كيف صنعتم؟ قالوا: ورد علينا منهم ثمانية عشر رجلا فأتينا والله على آخرهم، وهذه الرءوس والسبايا، فوثب مروان وانصرف، وأتاهم أخوه يحيى بن الحكم فقال: ما صنعتم؟ فقالوا له مثل ما قالوا لأخيه، فقال لهم: حجبتم عن مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لن أجامعكم على أمر أبدا، ثم قام فانصرف. قال:
ولما بلغ أهل المدينة مقتل الحسين بكى عليه نساء بنى هاشم ونحن عليه. وروى أن يزيد استشار الناس في أمرهم فقال رجال ممن قبحهم الله: يا أمير المؤمنين لا يتخذن من كلب سوء جروا، اقتل على ابن الحسين حتى لا يبقى من ذرية الحسين أحد، فسكت يزيد فَقَالَ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ اعمل معهم كما كان يعمل مَعَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ رآهم على هذه الحال. فرق عليهم يزيد وبعث بهم إلى الحمام وأجرى عليهم الكساوى والعطايا والاطعمة، وأنزلهم في داره] [1] .
وَهَذَا يَرُدُّ قَوْلَ الرَّافِضَةِ: إِنَّهُمْ حُمِلُوا عَلَى جَنَائِبِ الْإِبِلَ سَبَايَا عَرَايَا، حَتَّى كَذَبَ مَنْ زَعَمَ مِنْهُمْ أَنَّ الْإِبِلَ الْبَخَاتِيَّ إِنَّمَا نَبَتَتْ لَهَا الْأَسْنِمَةُ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ لِتَسْتُرَ عَوْرَاتِهِنَّ من قبلهن ودبرهن.
ثم كتب ابْنُ زِيَادٍ إِلَى عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ أَمِيرِ الْحَرَمَيْنِ يُبَشِّرُهُ بِمَقْتَلِ الْحُسَيْنِ، فَأَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى بذلك. فَلَمَّا سَمِعَ نِسَاءُ بَنِي هَاشِمٍ ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُنَّ بِالْبُكَاءِ وَالنَّوْحِ، فَجَعَلَ عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ يَقُولُ: هذا ببكاء نساء عثمان بن عفان. وقال عبد الملك بن عمير: دخلت على عبيد الله بن زياد وإذا رأس الحسين بن على بين يديه على ترس، فو الله ما لبثت إلا قليلا حتى دخلت على المختار بن أبى عبيد وإذا رأس عبيد الله بن زياد بين يدي المختار على ترس، وو الله ما لبثت إلا قليلا حتى دخلت على عبد الملك بن مروان وإذا رَأْسَ مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَلَى تُرْسٍ بَيْنَ يديه.
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ فِي تَارِيخِهِ: حدثني زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى الضَّرِيرُ ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ خباب المصيصي ثنا خالد بن يزيد عن عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ ثَنَا عَمَّارٌ الدُّهْنِيُّ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي جَعْفَرٍ: حَدِّثْنِي عَنْ مَقْتَلِ الْحُسَيْنِ كَأَنِّي حَضَرْتُهُ، فَقَالَ: أَقْبَلَ الْحُسَيْنُ بِكِتَابِ مُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ الَّذِي كَانَ قَدْ كَتَبَهُ إِلَيْهِ يأمره
__________
[1] سقط من المصرية.

(8/196)


فِيهِ بالْقُدُومِ عَلَيْهِ، حَتَّى إِذَا كَانَ بَيْنَهُ وبين القادسية ثلاث أَمْيَالٍ، لَقِيَهُ الْحُرُّ بْنُ يَزِيدَ التَّمِيمِيُّ فَقَالَ لَهُ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ فَقَالَ: أُرِيدُ هَذَا الْمِصْرَ، فَقَالَ لَهُ: ارْجِعْ فَإِنِّي لَمْ أَدَعْ لَكَ خَلْفِي خَيْرًا أَرْجُوهُ، فَهَمَّ الْحُسَيْنُ أَنْ يَرْجِعَ، وَكَانَ مَعَهُ إِخْوَةُ مُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ، فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَا نَرْجِعُ حَتَّى نَأْخُذَ بِثَأْرِنَا مِمَّنْ قَتَلَ أَخَانَا أَوْ نُقْتَلَ. فَقَالَ: لَا خَيْرَ فِي الْحَيَاةِ بَعْدَكُمْ، فَسَارَ فَلَقِيَهُ أَوَائِلُ خَيْلِ ابْنِ زِيَادٍ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عَادَ إِلَى كربلاء فأسند ظهره إلى قصيتا وحلفا ليقاتل من جهة واحدة. فَنَزَلَ وَضَرَبَ أَبْنِيَتَهُ وَكَانَ أَصْحَابُهُ خَمْسَةً وَأَرْبَعِينَ فَارِسًا وَمِائَةَ رَاجِلٍ، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ سَعْدِ بن أبى وقاص قد ولاه بن زِيَادٍ الرَّيَّ وَعَهِدَ إِلَيْهِ عَهْدَهُ، فَقَالَ: اكْفِنِي هذا الرجل واذهب إلى عملك، فَقَالَ: أَعْفِنِي. فَأَبَى أَنْ يُعْفِيَهُ، فَقَالَ: أَنْظِرْنِي اللَّيْلَةَ، فَأَخَّرَهُ فَنَظَرَ فِي أَمْرِهِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا عَلَيْهِ رَاضِيًا بِمَا أَمَرَهُ بِهِ، فَتَوَجَّهَ إِلَيْهِ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ فَلَمَّا أَتَاهُ قَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ: اخْتَرْ وَاحِدَةً مِنْ ثَلَاثٍ، إِمَّا أَنْ تَدَعُوَنِي فَأَنْصَرِفَ مِنْ حَيْثُ جِئْتُ، وَإِمَّا أَنْ تَدَعُوَنِي فَأَذْهَبَ إِلَى يَزِيدَ، وَإِمَّا أَنْ تَدَعُوَنِي فَأَلْحَقَ بِالثُّغُورِ. فَقَبِلَ ذَلِكَ عُمَرُ، فَكَتَبَ إليه عبيد الله ابن زِيَادٍ لَا وَلَا كَرَامَةَ حَتَّى يَضَعَ يَدَهُ فِي يَدِي، فَقَالَ الْحُسَيْنُ: لَا وَاللَّهِ لَا يَكُونُ ذَلِكَ أَبَدًا. فَقَاتَلَهُ فَقُتِلَ أَصْحَابُ الْحُسَيْنِ كُلُّهُمْ وَفِيهِمْ بِضْعَةَ عَشَرَ شَابًّا مِنْ أَهْلِ بيته، وجاءه سهم فأصاب ابنا له في حجره فجعل يمسح الدم وَيَقُولُ: اللَّهمّ احْكُمْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمٍ دَعَوْنَا لِيَنْصُرُونَا فَقَتَلُونَا، ثُمَّ أَمَرَ بِحِبَرَةٍ فَشَقَّهَا ثُمَّ لَبِسَهَا وَخَرَجَ بِسَيْفِهِ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، قَتَلَهُ رَجُلٌ مِنْ مَذْحِجٍ وَحَزَّ رَأْسَهُ فَانْطَلَقَ بِهِ إلى ابن زياد وَقَالَ فِي ذَلِكَ: -
أَوْقِرْ رِكَابِي فِضَّةً وَذَهَبًا ... فَقَدْ قَتَلْتُ الْمَلِكَ الْمُحَجَّبَا
قَتَلْتُ خَيْرَ النَّاسِ أُمًّا وَأَبَا ... وَخَيْرَهُمْ إِذْ يُنْسَبُونَ نَسَبًا
قَالَ فَأَوْفَدَهُ إِلَى يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ فَوَضَعَ رَأْسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَعِنْدَهُ أَبُو بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيُّ، فَجَعَلَ يَزِيدُ يَنْكُتُ بِالْقَضِيبِ عَلَى فِيهِ وَيَقُولُ: -
يُفَلِّقْنَ هَامًا مِنْ رِجَالٍ أَعِزَّةٍ ... عَلَيْنَا وَهُمْ كَانُوا أَعَقَّ وَأَظْلَمَا
فَقَالَ لَهُ أَبُو بَرْزَةَ: ارْفَعْ قضيبك، فو الله لربما رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واضعا فيه على فيه يلثمه.
قال: وأرسل عمر بن سعد بحرمة وعياله إلى ابن زياد، ولم يكن بقي من آل الحسين إلا غلام، وكان مَرِيضًا مَعَ النِّسَاءِ، فَأَمَرَ بِهِ ابْنُ زِيَادٍ لِيُقْتَلَ فَطَرَحَتْ زَيْنَبُ نَفْسَهَا عَلَيْهِ وَقَالَتْ: وَاللَّهِ لا يقتل حتى تقتلوني، فرّق لها وكف عنه، قال: فأرسلهم إلى يزيد فجمع يزيد مَنْ كَانَ بِحَضْرَتِهِ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ ثُمَّ دخلوا عليه فهنّوه بالفتح، فقام رَجُلٌ مِنْهُمْ أَحْمَرُ أَزْرَقُ- وَنَظَرَ إِلَى وَصِيفَةٍ من بناته- فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَبْ لِي هَذِهِ، فقالت زينب: لا وَلَا كَرَامَةَ لَكَ وَلَا لَهُ، إِلَّا أَنْ تخرجا مِنْ دِينِ اللَّهِ، قَالَ:
فَأَعَادَهَا الْأَزْرَقُ فَقَالَ لَهُ يَزِيدُ: كُفَّ عَنْ هَذَا. ثُمَّ أَدْخَلَهُمْ على عياله، ثم حملهم إِلَى الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا دَخَلُوهَا خَرَجَتِ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ نَاشِرَةً شَعْرَهَا وَاضِعَةً كُمَّهَا عَلَى رَأْسِهَا تَتَلَقَّاهُمْ وَهِيَ تَبْكِي

(8/197)


وَتَقُولُ:
مَاذَا تَقُولُونَ إِنْ قَالَ النَّبِيُّ لَكُمْ ... مَاذَا فَعَلْتُمْ وَأَنْتُمْ آخِرُ الْأُمَمِ
بِعِتْرَتِي وَبِأَهْلِي بَعْدَ مفتقدي ... منهم أسارى ومنهم ضُرِّجُوا بِدَمِ
مَا كَانَ هَذَا جَزَائِي إِذْ نَصَحْتُ لَكُمْ ... أَنْ تَخْلُفُونِي بِسُوءٍ فِي ذَوِي رحم
وَقَدْ رَوَى أَبُو مِخْنَفٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي رَاشِدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُبَيْدٍ أَبِي الْكَنُودِ أَنَّ بِنْتَ عَقِيلٍ هِيَ الَّتِي قَالَتْ هَذَا الشِّعْرَ، وَهَكَذَا حَكَى الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ أَنَّ زَيْنَبَ الصُّغْرَى بِنْتَ عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ هِيَ الَّتِي قَالَتْ ذَلِكَ حِينَ دَخَلَ آلُ الْحُسَيْنِ الْمَدِينَةَ النَّبَوِيَّةَ. وَرَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ الْأَنْبَارِيِّ بِإِسْنَادِهِ أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مِنْ فَاطِمَةَ- وَهِيَ زَوْجُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ أُمُّ بَنِيهِ- رَفَعَتْ سِجْفَ خِبَائِهَا يَوْمَ كَرْبَلَاءَ يَوْمَ قُتِلَ الْحُسَيْنُ وَقَالَتْ هَذِهِ الْأَبْيَاتَ فاللَّه أَعْلَمُ. وَقَالَ هِشَامُ بْنُ الْكَلْبِيِّ:
حَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْ عمرو بن الْمِقْدَامِ قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ عِكْرِمَةَ قَالَ: أَصْبَحْنَا صَبِيحَةَ قُتِلَ الْحُسَيْنُ بِالْمَدِينَةِ فَإِذَا مَوْلَاةٌ لَنَا تُحَدِّثُنَا قَالَتْ: سَمِعْتُ الْبَارِحَةَ مُنَادِيًا يُنَادِي وهو يقول:
أَيُّهَا الْقَاتِلُونَ ظُلْمًا حُسَيْنًا ... أَبْشِرُوا بِالْعَذَابِ وَالتَّنْكِيلِ
كل أهل السماء يدعو عليكم ... من نبي ومالك وقبيل
لقد لعنتم على لسان بن داود ... وموسى وحامل الإنجيل
قال ابن هِشَامٌ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ حَيْزُومٍ الْكَلْبِيُّ عَنْ أمه قالت: سمعت هذا الصوت. وقال الليث وأبو نعيم يوم السبت. وَمِمَّا أَنْشَدَهُ الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ النَّيْسَابُورِيُّ وَغَيْرُهُ لِبَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينِ فِي مَقْتَلِ الْحُسَيْنِ
جَاءُوا بِرَأْسِكَ يَا ابْنَ بِنْتِ مُحَمَّدٍ ... مُتَزَمِّلًا بِدِمَائِهِ تَزْمِيلَا
وَكَأَنَّمَا بِكَ يَا ابْنَ بِنْتِ مُحَمَّدٍ ... قَتَلُوا جِهَارًا عَامِدِينَ رَسُولَا
قَتَلُوكَ عطشانا ولم يتدبروا ... في قتلك القرآن والتنزيلا
وَيُكَبِّرُونَ بِأَنْ قُتِلْتَ وَإِنَّمَا ... قَتَلُوا بِكَ التَّكْبِيرَ والتهليلا
فصل
وَكَانَ مَقْتَلُ الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَ الجمعة، يَوْمَ عَاشُورَاءَ مِنَ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ. وَقَالَ هِشَامُ بْنُ الْكَلْبِيِّ، سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَسِتِّينَ، وَبِهِ قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ. وَقَالَ ابْنُ لَهِيعَةَ: سَنَةَ ثِنْتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ. وَقَالَ غيره سنة ستين. والصحيح الأول. بمكان من الطّفّ يقال له كربلاء مِنْ أَرْضِ الْعِرَاقِ وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ ثَمَانٌ وَخَمْسُونَ سَنَةً أَوْ نَحْوُهَا، وَأَخْطَأَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ قُتِلَ وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ خَمْسٌ أَوْ سِتٌّ وَسِتُّونَ سَنَةً

(8/198)


قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ حَسَّانَ ثَنَا عُمَارَةُ- يَعْنِي ابْنَ زَاذَانَ- عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «اسْتَأْذَنُ مَلَكُ الْقَطْرِ أَنْ يَأْتِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَذِنَ لَهُ، فَقَالَ لِأُمِّ سَلَمَةَ: احْفَظِي عَلَيْنَا الباب لا يدخل علينا أَحَدٌ، فَجَاءَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ فَوَثَبَ حَتَّى دَخَلَ، فَجَعَلَ يَصْعَدُ عَلَى مَنْكِبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ الْمَلَكُ: أنحبه؟ قال! نعم: فقال: إن أُمَّتَكَ تَقْتُلُهُ، وَإِنْ شِئْتَ أَرَيْتُكَ الْمَكَانَ الَّذِي يُقْتَلُ فِيهِ، قَالَ: فَضَرَبَ بِيَدِهِ فَأَرَاهُ تُرَابًا أَحْمَرَ، فَأَخَذَتْ أُمُّ سَلَمَةَ ذَلِكَ التُّرَابَ فَصَرَّتْهُ في طرف ثوبها» . قال: فكنا نسمع أنه يُقْتَلُ بِكَرْبَلَاءَ وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ حدثني عبد الله ابن سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ- أَوْ أُمِّ سَلَمَةَ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لَقَدْ دَخَلَ عَلِيَّ الْبَيْتَ مَلَكٌ لَمْ يَدْخُلْ قَبْلَهَا، فَقَالَ لِي: إِنَّ ابْنَكَ هَذَا حُسَيْنٌ مَقْتُولٌ، وَإِنْ شِئْتَ أَرَيْتُكَ الْأَرْضَ الَّتِي يُقْتَلُ بِهَا، قَالَ: فَأَخْرَجَ تُرْبَةً حَمْرَاءَ» . وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ وَفِيهِ قِصَّةُ أُمِّ سَلَمَةَ. وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ عَائِشَةَ بِنَحْوِ رِوَايَةِ أُمِّ سَلَمَةَ فاللَّه أَعْلَمُ. وَرُوِيَ ذَلِكَ مِنْ حَدِيثٍ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ وَلُبَابَةَ أُمِّ الْفَضْلِ امْرَأَةِ الْعَبَّاسِ. وَأَرْسَلَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ التَّابِعِينَ.
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ أَبُو بَكْرٍ ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الرَّقِّيُّ وَعَلِيُّ بْنُ الحسن الرَّازِيُّ قَالَا: ثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ أبو وَاقِدٍ الْحَرَّانِيُّ ثَنَا عَطَاءُ بْنُ مُسْلِمٍ ثَنَا أَشْعَثُ بْنُ سُحَيْمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ الْحَارِثِ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ ابْنِي- يَعْنِي الْحُسَيْنَ- يُقْتَلُ بِأَرْضٍ يُقَالُ لَهَا كَرْبَلَاءُ، فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ ذَلِكَ فَلْيَنْصُرْهُ» . قَالَ: فَخَرَجَ أَنَسُ بْنُ الْحَارِثِ إِلَى كَرْبَلَاءَ فَقُتِلَ مَعَ الحسين، قال: ولا أعلم رواه غَيْرَهُ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ ثنا شراحيل بن مدرك عن عبد الله بن يحيى عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَارَ مَعَ عَلِيٍّ- وَكَانَ صاحب مطهرته- فلما جاءوا نِينَوَى وَهُوَ مُنْطَلِقٌ إِلَى صِفِّينَ، فَنَادَى عَلِيٌّ: اصْبِرْ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، اصْبِرْ أَبَا عَبْدِ الله، بشط الفرات قلت: وماذا تريد؟ قَالَ: «دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ وَعَيْنَاهُ تَفِيضَانِ فَقُلْتُ: ما أبكاك يا رسول الله؟ قال: بلى قَامَ مِنْ عِنْدِي جِبْرِيلُ قَبْلُ، فَحَدَّثَنِي أَنَّ الْحُسَيْنَ يُقْتَلُ بِشَطِّ الْفُرَاتِ، قَالَ فَقَالَ: هَلْ لك أن أشمك من تربته؟ قال: فَمَدَّ يَدَهُ فَقَبَضَ قَبْضَةً مِنْ تُرَابٍ فَأَعْطَانِيهَا فَلَمْ أَمْلِكْ عَيْنَيَّ أَنْ فَاضَتَا» . تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا عَنْ رَجُلٍ عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَلِيٍّ مِثْلَهُ. وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ وَغَيْرُهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ مَرَّ بِكَرْبَلَاءَ عِنْدَ أَشْجَارِ الْحَنْظَلِ وَهُوَ ذَاهِبٌ إِلَى صِفِّينَ، فَسَأَلَ عَنِ اسْمِهَا فَقِيلَ كَرْبَلَاءُ، فَقَالَ: كَرْبٌ وَبَلَاءٌ، فَنَزَلَ وَصَلَّى عِنْدَ شَجَرَةٍ هُنَاكَ ثُمَّ قَالَ: يُقْتَلُ هَاهُنَا شُهَدَاءُ هُمْ خَيْرُ الشُّهَدَاءِ غَيْرَ الصَّحَابَةِ، يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بغير حساب،

(8/199)


- وَأَشَارَ إِلَى مَكَانٍ هُنَاكَ- فَعَلَّمُوهُ بِشَيْءٍ فَقُتِلَ فيه الحسين. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ آثَارٌ فِي كَرْبَلَاءَ وَقَدْ حَكَى أَبُو الْجَنَابِ الْكَلْبِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ أَهْلَ كَرْبَلَاءَ لَا يَزَالُونَ يَسْمَعُونَ نَوْحَ الجن على الحسين وَهُنَّ يَقُلْنَ: -
مَسَحَ الرَّسُولُ جَبِينَهُ ... فَلَهُ بَرِيقٌ في الخدود
أبواه من عليا قريش ... جَدُّهُ خَيْرُ الْجُدُودِ
وَقَدْ أَجَابَهُمْ بَعْضُ النَّاسِ فقال: -
خرجوا به وفدا إليه ... فَهُمْ لَهُ شَرُّ الْوُفُودِ
قَتَلُوا ابْنَ بِنْتِ نبيهم ... سكنوا به ذات الخدود
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّ طَائِفَةً مِنَ النَّاسِ ذَهَبُوا فِي غَزْوَةٍ إِلَى بِلَادِ الرُّومِ فَوَجَدُوا فِي كَنِيسَةٍ مَكْتُوبًا
أَتَرْجُو أُمَّةٌ قَتَلَتْ حُسَيْنًا ... شَفَاعَةَ جَدِّهِ يَوْمَ الْحِسَابِ؟
فَسَأَلُوهُمْ: مَنْ كَتَبَ هَذَا؟ فَقَالُوا: إِنَّ هَذَا مَكْتُوبٌ هَاهُنَا مِنْ قَبْلِ مَبْعَثِ نَبِيِّكُمْ بِثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ.
وَرُوِيَ أَنَّ الَّذِينَ قَتَلُوهُ رَجَعُوا فَبَاتُوا وَهُمْ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَالرَّأْسُ مَعَهُمْ، فَبَرَزَ لَهُمْ قَلَمٌ مِنْ حَدِيدٍ فَرَسَمَ لَهُمْ فِي الْحَائِطِ بِدَمٍ هَذَا الْبَيْتَ
أَتَرْجُو أُمَّةٌ قَتَلَتْ حُسَيْنًا ... شَفَاعَةَ جَدِّهِ يَوْمَ الْحِسَابِ؟
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَعَفَّانُ ثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَمَّارِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المنام نصف النَّهَارِ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، مَعَهُ قَارُورَةٌ فِيهَا دَمٌ، فقلت: بأبي وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذَا؟ قَالَ: هَذَا دَمُ الْحُسَيْنِ وَأَصْحَابِهِ لَمْ أَزَلْ أَلْتَقِطُهُ مُنْذُ الْيَوْمِ» . قَالَ عَمَّارٌ: فَأَحْصَيْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ فَوَجَدْنَاهُ قَدْ قُتِلَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ وَإِسْنَادُهُ قَوِيٌّ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ هانئ أبو عبد الرحمن النحويّ ثنا مهدي ابن سُلَيْمَانَ ثَنَا عَلِيُّ بْنُ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ. قَالَ: اسْتَيْقَظَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ نَوْمِهِ فَاسْتَرْجَعَ وَقَالَ: قُتِلَ الْحُسَيْنُ وَاللَّهِ، فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: لم يا ابن عباس؟ فَقَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعه زجاجة من دم فقال: أتعلم ما صنعت أمتى من بعدي؟ قتلوا الْحُسَيْنَ وَهَذَا دَمُهُ وَدَمُ أَصْحَابِهِ أَرْفَعُهُمَا إِلَى الله» .
فَكُتِبَ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي قَالَ فِيهِ، وَتِلْكَ السَّاعَةُ، فَمَا لَبِثُوا إِلَّا أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا حَتَّى جَاءَهُمُ الْخَبَرُ بِالْمَدِينَةِ أَنَّهُ قُتِلَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَتِلْكَ السَّاعَةِ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْأَشَجِّ عَنْ أَبِي خَالِدٍ الْأَحْمَرِ عَنْ رَزِينٍ عَنْ سَلْمَى قَالَتْ: دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ وَهِيَ تَبْكِي فَقُلْتُ: مَا يُبْكِيكِ؟ فَقَالَتْ:
رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ التُّرَابُ، فَقُلْتُ: مَا لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «شَهِدْتُ قَتْلَ الْحُسَيْنِ آنفا»

(8/200)


وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ أَنْبَأَنَا قُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ أَخْبَرَنِي عَامِرُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ قَالَ: إِنَّا لَعِنْدَ أُمَّ سَلَمَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَمِعْنَا صَارِخَةً فَأَقْبَلَتْ حَتَّى انْتَهَتْ إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَقَالَتْ: قُتِلَ الْحُسَيْنُ. فَقَالَتْ: قَدْ فَعَلُوهَا، مَلَأَ اللَّهُ قُبُورَهُمْ- أَوْ بُيُوتَهُمْ- عَلَيْهِمْ نَارًا، وَوَقَعَتْ مَغْشِيًّا عَلَيْهَا، وَقُمْنَا. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ ثنا ابن مسلم عَنْ عَمَّارٍ قَالَ: سَمِعْتُ أُمَّ سَلَمَةَ قَالَتْ: سمعت الجن يبكين على الحسين وسمعت الجن تنوح على الحسين. رواه الْحُسَيْنُ بْنُ إِدْرِيسَ عَنْ هَاشِمِ بْنِ هَاشِمٍ عَنْ أُمِّهِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: سَمِعْتُ الجن ينحن على الحسين وهن يقلن.
أَيُّهَا الْقَاتِلُونَ جَهْلًا حُسَيْنًا ... أَبْشِرُوا بِالْعَذَابِ وَالتَّنْكِيلِ
كل أهل السماء يدعو عليكم ... ونبي وَمُرْسَلٍ وَقَبِيلِ
قَدْ لُعِنْتُمْ عَلَى لَسَانِ ابْنِ دَاوُدَ ... وَمُوسَى وَصَاحِبِ الْإِنْجِيلِ
وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طريق أخرى عن أم سلمة بشعر غَيْرِ هَذَا فاللَّه أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْخَطِيبُ: أَنْبَأَنَا أحمد بن عثمان بن ساج السُّكَّرِيُّ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الشَّافِعِيُّ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ شَدَّادٍ الْمِسْمَعِيُّ ثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ ثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ: «أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى مُحَمَّدٍ إِنِّي قَتَلْتُ بِيَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا سَبْعِينَ أَلْفًا، وأنا قاتل بابن بنتك سَبْعِينَ أَلْفًا وَسَبْعِينَ أَلْفًا» . هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا، وَقَدْ رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ. وَقَدْ ذَكَرَ الطَّبَرَانِيُّ هَاهُنَا آثَارًا غَرِيبَةً جِدًّا، وَلَقَدْ بَالَغَ الشِّيعَةُ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ، فَوَضَعُوا أَحَادِيثَ كثيرة كذبا فَاحِشًا، مِنْ كَوْنِ الشَّمْسِ كَسَفَتْ يَوْمَئِذٍ حَتَّى بَدَتِ النُّجُومُ وَمَا رُفِعَ يَوْمَئِذٍ حَجَرٌ إِلَّا وُجِدَ تَحْتَهُ دَمٌ، وَأَنَّ أَرْجَاءَ السَّمَاءِ احْمَرَّتْ، وأن الشمس كانت تطلع وشعاعها كأنه الدم، وصارت السماء كأنها علقة، وأن الكواكب ضرب بَعْضُهَا بَعْضًا، وَأَمْطَرَتِ السَّمَاءُ دَمًا أَحْمَرَ، وَأَنَّ الْحُمْرَةَ لَمْ تَكُنْ فِي السَّمَاءِ قَبْلَ يَوْمِئِذٍ، ونحو ذلك. وَرَوَى ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي قَبِيلٍ الْمُعَافِرِيِّ أَنَّ الشَّمْسَ كَسَفَتْ يَوْمَئِذٍ حَتَّى بَدَتِ النُّجُومُ وَقْتَ الظُّهْرِ، وَأَنَّ رَأْسَ الْحُسَيْنِ لَمَّا دَخَلُوا بِهِ قَصْرَ الْإِمَارَةِ جَعَلَتِ الْحِيطَانُ تَسِيلُ دَمًا، وَأَنَّ الْأَرْضَ أَظْلَمَتْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَلَمْ يُمَسَّ زعفران ولا ورس [1] بما كَانَ مَعَهُ يَوْمَئِذٍ إِلَّا احْتَرَقَ مَنْ مَسَّهُ، وَلَمْ يُرْفَعْ حَجَرٌ مِنْ حِجَارَةِ بَيْتِ الْمَقَدْسِ إِلَّا ظَهَرَ تَحْتَهُ دَمٌ عَبِيطٌ، وَأَنَّ الْإِبِلَ الَّتِي غَنِمُوهَا مِنْ إِبِلِ الْحُسَيْنِ حِينَ طَبَخُوهَا صَارَ لَحْمُهَا مِثْلَ الْعَلْقَمِ. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَكَاذِيبِ وَالْأَحَادِيثِ الْمَوْضُوعَةِ الَّتِي لَا يَصِحُّ منها شيء.
وأما ما روى من الأحاديث وَالْفِتَنِ الَّتِي أَصَابَتْ مَنْ قَتَلَهُ فَأَكْثَرُهَا صَحِيحٌ، فإنه قل من نجا من
__________
[1] كذا بالأصل ولعلها: مما.

(8/201)


أولئك الذين قتلوه من آفة وعاهة في الدنيا، فلم يخرج منها حتى أصيب بمرض، وأكثرهم أصابهم الْجُنُونُ. وَلِلشِّيعَةِ وَالرَّافِضَةِ فِي صِفَةِ مَصْرَعِ الْحُسَيْنِ كذب كثير وأخبار باطلة، وفيما ذكرنا كِفَايَةٌ، وَفِي بَعْضِ مَا أَوْرَدْنَاهُ نَظَرٌ، وَلَوْلَا أن ابن جرير وغيره من الحفاظ والأئمة ذَكَرُوهُ مَا سُقْتُهُ، وَأَكْثَرُهُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي مِخْنَفٍ لُوطِ بْنِ يَحْيَى، وَقَدْ كَانَ شِيعِيًّا، وَهُوَ ضَعِيفُ الْحَدِيثِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ، وَلَكِنَّهُ أَخْبَارِيٌّ حَافِظٌ، عِنْدَهُ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مَا لَيْسَ عِنْدَ غَيْرِهِ، وَلِهَذَا يَتَرَامَى عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنَ المصنفين في هذا الشأن مِمَّنْ بَعْدَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ أَسْرَفَ الرَّافِضَةُ فِي دَوْلَةِ بَنِي بُوَيْهٍ فِي حُدُودِ الْأَرْبَعِمِائَةٍ وَمَا حَوْلَهَا فَكَانَتِ الدَّبَادِبُ تُضْرَبُ بِبَغْدَادَ وَنَحْوِهَا مِنَ الْبِلَادِ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ، وَيُذَرُّ الرَّمَادُ وَالتِّبْنُ فِي الطُّرُقَاتِ وَالْأَسْوَاقِ، وَتُعَلَّقُ الْمُسُوحُ عَلَى الدَّكَاكِينِ، وَيُظْهِرُ النَّاسُ الْحُزْنَ وَالْبُكَاءَ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ لَا يَشْرَبُ الْمَاءَ لَيْلَتَئِذٍ مُوَافَقَةً لَلْحُسَيْنِ لَأَنَّهُ قتل عطشانا. ثُمَّ تَخْرُجُ النِّسَاءُ حَاسِرَاتٍ عَنْ وُجُوهِهِنَّ يَنُحْنَ وَيَلْطِمْنَ وُجُوهَهُنَّ وَصُدُورَهُنَّ، حَافِيَاتٍ فِي الْأَسْوَاقِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْبِدَعِ الشَّنِيعَةِ، وَالْأَهْوَاءِ الْفَظِيعَةِ، وَالْهَتَائِكِ الْمُخْتَرَعَةِ وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ بِهَذَا وَأَشْبَاهِهِ أَنْ يُشَنِّعُوا عَلَى دَوْلَةِ بَنِي أُمَيَّةَ، لَأَنَّهُ قُتِلَ في دولتهم.
[وَقَدْ عَاكَسَ الرَّافِضَةَ وَالشِّيعَةَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ النَّوَاصِبُ من أهل الشام، فكانوا إلى يَوْمِ عَاشُورَاءَ يَطْبُخُونَ الْحُبُوبَ وَيَغْتَسِلُونَ وَيَتَطَيَّبُونَ وَيَلْبَسُونَ أَفْخَرَ ثِيَابِهِمْ وَيَتَّخِذُونَ ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا يَصْنَعُونَ فِيهِ أَنْوَاعَ الْأَطْعِمَةِ، وَيُظْهِرُونَ السُّرُورَ وَالْفَرَحَ، يُرِيدُونَ بِذَلِكَ عِنَادَ الرَّوَافِضِ وَمُعَاكَسَتَهُمْ] [1] .
وَقَدْ تَأَوَّلَ عَلَيْهِ مَنْ قَتَلَهُ أَنَّهُ جَاءَ لَيُفَرِّقَ كَلِمَةَ الْمُسْلِمِينَ بعد اجتماعها وليخلع من بايعه من النَّاسُ وَاجْتَمَعُوا عَلَيْهِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ الْحَدِيثُ بِالزَّجْرِ عَنْ ذَلِكَ، وَالتَّحْذِيرِ مِنْهُ، وَالتَّوَعُّدِ عَلَيْهِ وَبِتَقَدْيرِ أَنْ تَكُونَ طَائِفَةٌ مِنَ الْجَهَلَةِ قَدْ تَأَوَّلُوا عَلَيْهِ وَقَتَلُوهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ قَتْلُهُ، بَلْ كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ إِجَابَتُهُ إِلَى مَا سَأَلَ مِنْ تِلْكَ الْخِصَالِ الثَّلَاثَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا، فَإِذَا ذُمَّتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْجَبَّارِينَ تذم الأمة كلها بِكَمَالِهَا وَتُتَّهَمْ عَلَى نَبِيِّهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ، وَلَا كما سلكوه، بل أكثر الأئمة قَدْيمًا وَحَدِيثًا كَارِهٌ مَا وَقَعَ مِنْ قَتْلِهِ وَقَتْلِ أَصْحَابِهِ، سِوَى شِرْذِمَةٍ قَلِيلَةٍ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ قَبَّحَهُمُ اللَّهُ، وَأَكْثَرُهُمْ كَانُوا قَدْ كَاتَبُوهُ لَيَتَوَصَّلُوا بِهِ إِلَى أَغْرَاضِهِمْ وَمَقَاصِدِهِمُ الْفَاسِدَةِ [فَلَمَّا عَلِمَ ذَلِكَ ابْنُ زِيَادٍ مِنْهُمْ بَلَّغَهُمْ مَا يُرِيدُونَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَخَذَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَحَمَلَهُمْ عَلَيْهِ بِالرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ، فَانْكَفُّوا عَنِ الْحُسَيْنِ وَخَذَلُوهُ ثُمَّ قَتَلُوهُ] [2] . وَلَيْسَ كُلُّ ذَلِكَ الْجَيْشِ كَانَ رَاضِيًا بِمَا وَقَعَ مِنْ قَتْلِهِ، بَلْ وَلَا يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ بِذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَلَا كَرِهَهُ، وَالَّذِي يَكَادُ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ يَزِيدَ لَوْ قَدَرَ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُقْتَلَ لَعَفَا عَنْهُ كَمَا أَوْصَاهُ بِذَلِكَ أَبُوهُ، وكما صرح هو به مخبرا عن
__________
[1] ، (2) سقط من المصرية.

(8/202)


نَفْسِهِ بِذَلِكَ. [وَقَدْ لَعَنَ ابْنَ زِيَادٍ عَلَى فِعْلِهِ ذَلِكَ وَشَتَمَهُ فِيمَا يَظْهَرُ وَيَبْدُو، وَلَكِنْ لَمْ يَعْزِلْهُ عَلَى ذَلِكَ وَلَا عَاقَبَهُ وَلَا أَرْسَلَ يَعِيبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ] [1] .
فَكُلُّ مسلم ينبغي له أن يحزنه قَتْلِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَإِنَّهُ مِنْ سَادَاتِ الْمُسْلِمِينَ، وَعُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ وَابْنُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي هِيَ أَفْضَلُ بْناتِهِ، وَقَدْ كَانَ عَابِدًا وَشُجَاعًا وَسَخِيًّا، وَلَكِنْ لَا يُحْسِنُ مَا يَفْعَلُهُ الشِّيعَةُ مِنْ إِظْهَارِ الْجَزَعِ وَالْحُزْنِ الَّذِي لَعَلَّ أَكْثَرَهُ تَصَنُّعٌ وَرِيَاءٌ، وقد كان أبوه أفضل منه فقتل، وَهُمْ لَا يَتَّخِذُونَ مَقْتَلَهُ مَأْتَمًا كَيَوْمِ مَقْتَلِ الْحُسَيْنِ، فَإِنَّ أَبَاهُ قُتِلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَهُوَ خَارِجٌ إِلَى صَلَاةِ الْفَجْرِ فِي السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ أَرْبَعِينَ، وَكَذَلِكَ عُثْمَانُ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ عَلِيٍّ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَقَدْ قُتِلَ وَهُوَ مَحْصُورٌ فِي دَارِهِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ مِنْ شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ، وَقَدْ ذُبِحَ مِنَ الْوَرِيدِ إِلَى الوريد، وَلَمْ يَتَّخِذِ النَّاسَ يَوْمَ قَتْلِهِ مَأْتَمًا، وَكَذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، قُتِلَ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ صَلَاةَ الْفَجْرِ ويقرأ الْقُرْآنَ، وَلَمْ يَتَّخِذِ النَّاسَ يَوْمَ قَتْلِهِ مَأْتَمًا، وَكَذَلِكَ الصِّدِّيقُ كَانَ أَفْضَلَ مِنْهُ وَلَمْ يَتَّخِذِ النَّاسُ يَوْمَ وَفَاتِهِ مَأْتَمًا، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيِّدَ وَلَدِ آدَمَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَقَدْ قَبَضَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ كَمَا مَاتَ الْأَنْبِيَاءُ قَبْلَهُ، وَلَمْ يَتَّخِذْ أَحَدٌ يَوْمَ موتهم مَأْتَمًا يَفْعَلُونَ فِيهِ مَا يَفْعَلُهُ هَؤُلَاءِ الْجَهَلَةُ مِنَ الرَّافِضَةِ يَوْمَ مَصْرَعِ الْحُسَيْنِ. [وَلَا ذَكَرَ أَحَدٌ أَنَّهُ ظَهَرَ يَوْمَ مَوْتِهِمْ وَقِبَلَهُمْ شَيْءٌ مِمَّا ادَّعَاهُ هَؤُلَاءِ يَوْمَ مَقْتَلِ الْحُسَيْنِ مِنَ الْأُمُورِ الْمُتَقَدِّمَةِ، مِثْلَ كُسُوفِ الشَّمْسِ وَالْحُمْرَةِ الَّتِي تَطْلُعُ فِي السَّمَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ] [2] .
وَأَحْسَنُ مَا يُقَالُ عِنْدَ ذِكْرِ هَذِهِ الْمَصَائِبِ وَأَمْثَالِهَا مَا رواه على بن الحسين عَنْ جَدِّهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصَابُ بِمُصِيبَةٍ فَيَتَذَكَّرُهَا وَإِنْ تَقَادَمَ عَهْدُهَا فَيُحْدِثُ لَهَا اسْتِرْجَاعًا إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلَ يوم أصيب منها» . رواه الإمام أحمد وابن ماجة.
وَأَمَّا قَبْرُ الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
فَقَدِ اشتهر عند كثير من الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّهُ فِي مَشْهَدِ عَلِيٍّ. بِمَكَانٍ مِنَ الطَّفِّ عِنْدَ نَهْرِ كَرْبَلَاءَ، فَيُقَالُ إِنَّ ذَلِكَ الْمَشْهَدَ مَبْنِيٌّ عَلَى قَبْرِهِ فاللَّه أَعْلَمُ. وَقَدْ ذكر ابن جرير وغيره أن موضع قتله عفى أَثَرُهُ حَتَّى لَمْ يَطَّلِعْ أَحَدٌ عَلَى تَعْيِينِهِ بِخَبَرٍ: وَقَدْ كَانَ أَبُو نُعَيْمٍ، الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ، يُنْكِرُ عَلَى مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَعْرِفُ قبر الحسين. وَذَكَرَ هِشَامُ بْنُ الْكَلْبِيِّ أَنَّ الْمَاءَ لَمَّا أُجْرِيَ عَلَى قَبْرِ الْحُسَيْنِ لَيُمْحَى أَثَرُهُ نَضَبَ الْمَاءُ بَعْدَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ مِنْ بَنِي أَسَدٍ فَجَعَلَ يَأْخُذُ قَبْضَةً قَبْضَةً وَيَشُمُّهَا حَتَّى وَقَعَ عَلَى قَبْرِ الْحُسَيْنِ فَبَكَى وَقَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، مَا كَانَ أَطْيَبَكَ وَأَطْيَبَ تُرْبَتِكَ!! ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ: -
أَرَادُوا لَيُخْفُوا قَبْرَهُ عَنْ عَدُوِّهِ ... فَطِيبُ تُرَابِ الْقَبْرِ دَلَّ عَلَى القبر
__________
[1] ، (2) سقط من المصرية

(8/203)


وأما رأس الحسين رضى الله عنه
فالمشهور عند أهل التاريخ وأهل السِّيَرِ أَنَّهُ بَعَثَ بِهِ ابْنُ زِيَادٍ إِلَى يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ أَنْكَرَ ذلك. وعندي أن الأول أشهر فاللَّه أَعْلَمُ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْمَكَانَ الَّذِي دُفِنَ فِيهِ الرَّأْسُ، فَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ أَنَّ يَزِيدَ بَعَثَ بِرَأْسِ الْحُسَيْنِ إِلَى عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ نَائِبِ الْمَدِينَةِ فَدَفَنَهُ عِنْدَ أُمِّهِ بِالْبَقِيعِ، وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ صَالِحٍ- وَهُمَا ضَعِيفَانِ- أَنَّ الرَّأْسَ لَمْ يَزَلْ فِي خِزَانَةِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ حَتَّى تُوُفِّيَ فَأُخِذَ مِنْ خِزَانَتِهِ فَكُفِّنَ وَدُفِنَ دَاخِلَ بَابِ الْفَرَادِيسِ مِنْ مَدِينَةِ دِمَشْقَ. قُلْتُ: وَيُعْرَفُ مَكَانُهُ بِمَسْجِدِ الرَّأْسِ الْيَوْمَ دَاخِلَ باب الفراديس الثاني. وذكر ابن عساكر في تاريخه في ترجمته رَيَّا حَاضِنَةِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، أَنَّ يَزِيدَ حِينَ وَضَعَ رَأَسَ الْحُسَيْنِ بَيْنَ يَدَيْهِ تَمَثَّلَ بِشِعْرِ ابْنِ الزِّبْعَرَى يَعْنِي قَوْلَهُ: -
لَيْتَ أَشْيَاخِي بِبَدْرٍ شَهِدُوا ... جَزَعَ الْخَزْرَجِ مِنْ وقع الأسل
قال: ثُمَّ نَصَبَهُ بِدِمَشْقَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ وُضِعَ في خزائن السلاح، حتى كان زمن سليمان بن عبد الملك جيء بِهِ إِلَيْهِ، وَقَدْ بَقِيَ عَظْمًا أَبْيَضَ، فَكَفَّنَهُ وطيبه وصلى عليه ودفنه في مقبرة الْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا جَاءَتِ الْمُسَوِّدَةُ- يَعْنِي بَنِي الْعَبَّاسِ- نبشوه وَأَخَذُوهُ مَعَهُمْ. وَذَكَرَ ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ بَقِيَتْ بَعْدَ دَوْلَةِ بَنِي أُمَيَّةَ، وَقَدْ جَاوَزَتِ الْمِائَةَ سَنَةٍ فاللَّه أَعْلَمُ. وَادَّعَتِ الطَّائِفَةُ الْمُسَمَّوْنَ بِالْفَاطِمِيِّينَ الَّذِينَ مَلَكُوا الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ قَبْلَ سَنَةِ أَرْبَعِمِائَةٍ إِلَى مَا بَعْدَ سَنَةِ سِتِّينَ وَسِتِّمِائَةٍ، أَنَّ رَأْسَ الْحُسَيْنِ وَصَلَ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَدَفَنُوهُ بِهَا وَبَنُوا عَلَيْهِ الْمَشْهَدَ الْمَشْهُورَ بِهِ بِمِصْرَ، الَّذِي يُقَالُ لَهُ تَاجُ الْحُسَيْنِ، بَعْدَ سَنَةِ خَمْسِمِائَةٍ. وَقَدْ نَصَّ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَئِمَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهُ لَا أصل لذلك، وإنما أرادوا أن يرجوا بِذَلِكَ بُطْلَانَ [1] مَا ادَّعَوْهُ مِنَ النَّسَبِ الشَّرِيفِ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ كَذَبَةٌ خَوَنَةٌ، وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْقَاضِي الْبَاقِلَانِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْعُلَمَاءِ، فِي دَوْلَتِهِمْ فِي حُدُودِ سَنَةِ أَرْبَعِمِائَةٍ، كَمَا سَنُبَيِّنُ ذَلِكَ كُلَّهُ إِذَا انْتَهَيْنَا إِلَيْهِ فِي مَوَاضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [قلت: والناس أكثرهم يروج عليهم مثل هذا، فإنهم جاءوا برأس فوضعوه في مكان هذا المسجد المذكور، وقالوا: هذا رأس الحسين، فراج ذلك عليهم واعتقدوا ذلك والله أعلم] [2] .
فَصْلٌ فِي ذِكْرِ شَيْءٍ مِنْ فَضَائِلِهِ
رَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ وَمَهْدِيِّ بْنُ مَيْمُونٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي يَعْقُوبَ سَمِعْتُ ابْنَ أبى نعيم
__________
[1] كذا بالأصل ولعلها: باطل.
[2] سقط من المصرية.

(8/204)


قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ وَسَأَلَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ عَنِ الْمُحْرِمِ يَقْتُلُ الذُّبَابَ فَقَالَ: أَهْلُ الْعِرَاقِ يَسْأَلُونَ عَنْ قَتْلِ الذُّبَابِ وَقَدْ قَتَلُوا ابْنَ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هُمَا رَيْحَانَتَايَ مِنَ الدُّنْيَا» . وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ مُكْرَمٍ عَنْ وَهْبِ بْنِ جَرِيرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ محمد ابن أَبِي يَعْقُوبَ بِهِ نَحْوَهُ: أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ عَنْ دَمِ الْبَعُوضِ يُصِيبُ الثَّوْبَ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: انْظُرُوا إِلَى أَهْلِ الْعِرَاقِ يَسْأَلُونَ عَنْ دَمِ الْبَعُوضِ وقد قتلوا ابن بنت محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ. ثُمَّ قَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو أحمد ثنا سفيان عن أبى الحجاف عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَحَبَّهُمَا فَقَدْ أَحَبَّنِي، وَمَنْ أَبْغَضَهُمَا فَقَدْ أَبْغَضَنِي» - يَعْنِي حَسَنًا وَحُسَيْنًا-. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حدثنا تليد بن سليمان كوفى ثنا أبو الحجاف عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. قَالَ: «نَظَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عَلِيٍّ وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ وَفَاطِمَةَ فَقَالَ: أَنَا حَرْبٌ لِمَنْ حَارَبَكُمْ، سِلْمٌ لِمَنْ سَالَمَكُمْ» . تَفَرَّدَ بِهِمَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ ثَنَا حَجَّاجٌ- يَعْنِي ابْنَ دِينَارٍ- عَنْ جَعْفَرِ بْنِ إِيَاسٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. قَالَ: «خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَعَهُ حسن وحسين، هذا على عاتقه الواحد، وهذا على عاتقه الآخر، وَهُوَ يَلْثَمُ هَذَا مَرَّةً وَهَذَا مَرَّةً، حَتَّى انْتَهَى إِلَيْنَا، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَاللَّهِ إِنَّكَ لَتُحِبُّهُمَا، فَقَالَ: مَنْ أَحَبَّهُمَا فَقَدْ أَحَبَّنِي، وَمَنْ أَبْغَضَهُمَا فَقَدْ أَبْغَضَنِي» . تَفَرَّدَ به أحمد.
وقال أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ حَدَّثَنِي عُقْبَةُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنِي يُوسُفُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّمِيمِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْ أَهْلِ بَيْتِكَ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: «الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ» . قَالَ: وَكَانَ يَقُولُ «ادْعُ لِيَ ابْنَيَّ فَيَشُمُّهُمَا وَيَضُمُّهُمَا إِلَيْهِ» . وَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْأَشَجِّ بِهِ، وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ وَعَفَّانُ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ بن جُدْعَانَ عَنْ أَنَسٍ. أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كَانَ يَمُرُّ بِبَيْتِ فَاطِمَةَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ إِذَا خَرَجَ إِلَى صَلَاةِ الْفَجْرِ فَيَقُولُ: الصَّلَاةَ يَا أَهْلَ الْبَيْتِ، إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً 33: 33 وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ عَنْ عَفَّانَ بِهِ، وَقَالَ: غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ.
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ ثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ فُضَيْلِ بن مرزوق عن عدي عن ثَابِتٍ عَنِ الْبَرَاءِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَبْصَرَ حَسَنًا وَحُسَيْنًا فَقَالَ: اللَّهمّ إِنِّي أُحِبُّهُمَا فَأَحِبَّهُمَا» . ثُمَّ قَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ زَيْدِ بْنِ الْحُبَابِ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ وَأَهْلُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةُ مِنْ حَدِيثِ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ عن بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ. قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُنَا إِذْ جَاءَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ وَعَلَيْهِمَا قَمِيصَانِ أَحْمَرَانِ، يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ المنبر

(8/205)


فَحَمَلَهُمَا فَوَضَعَهُمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ: صَدَقَ الله، أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ 8: 28 نظرت إِلَى هَذَيْنَ الصَّبِيَّيْنِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ فَلَمْ أَصْبِرْ حتى قطعت حديثي ورفعتها» . وَهَذَا لَفْظُ التِّرْمِذِيِّ، وَقَالَ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ. ثُمَّ قال: حدثنا الحسين بْنُ عَرَفَةَ ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عثمان بن خيثم عَنْ سَعِيدِ بْنِ رَاشِدٍ عَنْ يَعْلَى بْنِ مَرَّةً. قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حُسَيْنٌ مِنِّي وَأَنَا مِنْ حُسَيْنٍ، أَحَبَّ اللَّهُ مَنْ أَحَبَّ حُسَيْنًا، حُسَيْنٌ سِبْطٌ مِنَ الْأَسْبَاطِ» . ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ.
هَذَا حَدِيثٌ حسن. ورواه أحمد عن عفان عن وهب عن عبد الله بن عثمان بن خيثم بِهِ. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ بَكْرِ بْنِ سَهْلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ بن رَاشِدِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ يَعْلَى بْنِ مُرَّةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ سِبْطَانِ مِنَ الْأَسْبَاطِ» . وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ ثَنَا سُفْيَانَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ عَنْ أبى نعيم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ» . وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ عَنْ دَاوُدَ بْنِ رُشَيْدٍ عَنْ مَرْوَانَ الْفَزَارِيِّ عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي نعيم عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ. قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِلَّا ابْنَيِ الخالة، يحيى وعيسى صلّى الله عليه وسلّم» . وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ [مَرْوَانَ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْفَزَارِيِّ بِهِ، وَرَوَاهُ سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَازِمٍ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ رَبِيعِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِي سَابِطٍ قَالَ: دَخَلَ حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الْمَسْجِدَ فَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدُ اللَّهِ: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى سَيِّدِ شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا، سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» . تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ] [1] إِسْرَائِيلَ عَنْ مَيْسَرَةَ بْنِ حَبِيبٍ عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّ أُمَّهُ بَعَثَتْهُ لَيَسْتَغْفِرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَهَا، قَالَ: فَأَتَيْتُهُ فَصَلَّيْتُ معه المغرب ثم صلى حين صَلَّى الْعِشَاءَ، ثُمَّ انْفَتَلَ فَتَبِعْتُهُ فَسَمِعَ صَوْتِي فَقَالَ: «مَنْ هَذَا؟
حُذَيْفَةُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ! قَالَ: مَا حَاجَتُكَ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ وَلِأُمِّكَ؟ إِنَّ هَذَا مَلَكٌ لَمْ يَنْزِلْ إِلَى الْأَرْضِ قَبْلَ هَذِهِ اللَّيْلَةِ، اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ بِأَنْ يُسَلِّمَ عَلَيَّ وَيُبَشِّرَنِي بِأَنَّ فَاطِمَةَ سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَأَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ» . ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَلَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ إِسْرَائِيلَ. وَقَدْ رُوِيَ مِثْلُ هَذَا مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَمِنْ حَدِيثِ الْحُسَيْنِ نَفْسِهِ، وَعُمَرَ وابنه عبد الله وابن عباس وابن مسعود وَغَيْرِهِمْ، وَفِي أَسَانِيدِهِ كُلِّهَا ضَعْفٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عطية عن أبى عن أبى هريرة. قال: سمعت رسول
__________
[1] سقط من المصرية

(8/206)


اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ: «مَنْ أَحَبَّنِي فَلْيُحِبَّ هَذَيْنِ» . وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ ثَنَا إِسْمَاعِيلُ- يَعْنِي ابْنَ جَعْفَرٍ- أَخْبَرَنِي مُحَمَّدٌ- يَعْنِي ابن حَرْمَلَةَ- عَنْ عَطَاءٍ. أَنَّ رَجُلًا أَخْبَرَهُ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يَضُمُّ إِلَيْهِ حَسَنًا وَحُسَيْنًا وَيَقُولُ: اللَّهمّ إِنِّي أُحِبُّهُمَا فَأَحِبَّهُمَا» . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ وسليمان الْفَارِسِيِّ شَيْءٌ يُشْبِهُ هَذَا وَفِيهِ ضَعْفٌ وَسَقَمٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ ثَنَا كامل وأبو المنذر ابنا كامل قال أسود: أنبأنا الْمَعْنَى عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. قَالَ: «كُنَّا نُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِشَاءَ فَإِذَا سَجَدَ وَثَبَ الحسين والحسن عَلَى ظَهْرِهِ، فَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ أَخَذَهُمَا أَخْذًا رَفِيقًا فَيَضَعُهُمَا عَلَى الْأَرْضِ، فَإِذَا عَادَ عَادَا حَتَّى قَضَى صَلَاتَهُ أَقْعَدَهُمَا عَلَى فَخِذَيْهِ، قَالَ: فَقُمْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرُدُّهُمَا إلى أمهما؟ قال فَبَرَقَتْ بَرْقَةٌ فَقَالَ لَهُمَا: الْحَقَا بِأُمِّكُمَا، قَالَ فمكث ضوؤها حتى دخلا على أمهما» . وَقَدْ رَوَى مُوسَى بْنُ عُثْمَانَ الْحَضْرَمِيُّ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ نحوه، وقد روى عن أبى سعيد وابن عمر قريب من هذا، فقال الامام أحمد: حدثنا عَفَّانُ ثَنَا مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ ثَنَا قَيْسُ بن الربيع عن أبى المقدام عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَزْرَقِ عَنْ عَلِيٍّ. قَالَ: «دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا نائم، فَاسْتَسْقَى الْحَسَنُ أَوِ الْحُسَيْنُ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى شَاةٍ لَنَا كي يحلبها فدرت فجاءه الآخر فنحاه، فَقَالَتْ فَاطِمَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّهُ أَحَبَّهُمَا إِلَيْكَ؟ قَالَ: لَا وَلَكِنَّهُ اسْتَسْقَى قَبْلَهُ، ثُمَّ قَالَ: إِنِّي وَإِيَّاكِ وَهَذَيْنِ وَهَذَا الرَّاقِدَ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي فَاخِتَةَ عَنْ على فذكر نَحْوُهُ. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كان يكرمهما ويحملهما ويعطيهما كَمَا يُعْطِي أَبَاهُمَا، وَجِيءَ مَرَّةً بِحُلَلٍ مِنَ الْيَمَنِ فَقَسَّمَهَا بَيْنَ أَبْنَاءِ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُعْطِهِمَا مِنْهَا شَيْئًا، وَقَالَ: لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ يَصْلُحُ لَهُمَا، ثُمَّ بَعَثَ إِلَى نَائِبِ الْيَمَنِ فَاسْتَعْمَلَ لَهُمَا حُلَّتَيْنِ تُنَاسِبُهُمَا.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: أنبأنا قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ ثَنَا يُونُسُ بْنُ أَبِي إسحاق عن العبزار بْنِ حُرَيْثٍ قَالَ: بَيْنَمَا عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ جَالِسٌ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ إِذْ رَأَى الْحُسَيْنَ مُقْبِلًا فَقَالَ: هَذَا أَحَبُّ أَهْلِ الْأَرْضِ إِلَى أَهْلِ السَّمَاءِ. وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: حَدَّثَنِي سليمان بن الدراوَرْديّ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَايَعَ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ وَهُمْ صِغَارٌ لَمْ يَبْلُغُوا، وَلَمْ يُبَايِعْ صَغِيرًا إِلَّا مِنَّا» . وَهَذَا مرسل غريب. وقال محمد بن سعد: أخبرنى يعلى ابن عبيد ثنا عبد الله بن الوليد الرصافيّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عميرة. قال: حج الحسين ابن عَلِيٍّ خَمْسًا وَعِشْرِينَ حَجَّةً مَاشِيًا وَنَجَائِبُهُ تُقَادُ بَيْنَ يَدَيْهِ. وَحَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ ثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ الْحُسَيْنَ بْنَ على حج ماشيا وإن نجائبه لتقاد وَرَاءَهُ.
وَالصَّوَابُ أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ الْحَسَنُ أَخُوهُ، كَمَا حَكَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَقَالَ الْمَدَائِنِيُّ: جَرَى بين

(8/207)


الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ كَلَامٌ فَتَهَاجَرَا، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ أَقْبَلَ الْحَسَنُ إِلَى الْحُسَيْنِ فَأَكَبَّ عَلَى رأسه يقبله، فقام الحسين فقبله أيضا، وَقَالَ: إِنَّ الَّذِي مَنَعَنِي مِنِ ابْتِدَائِكَ بِهَذَا أَنِّي رَأَيْتُ أَنَّكَ أَحَقُّ بِالْفَضْلِ مِنِّي فَكَرِهْتُ أن أنازعك ما أنت أحق به منى. وَحَكَى الْأَصْمَعِيُّ عَنِ ابْنِ عَوْنٍ أَنَّ الْحَسَنَ كَتَبَ إِلَى الْحُسَيْنِ يَعِيبُ عَلَيْهِ إِعْطَاءَ الشُّعَرَاءِ فقال الحسين إن أحسن الْمَالِ مَا وَقَى الْعِرْضَ. [وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو حَنِيفَةَ مُحَمَّدُ بْنُ حَنِيفَةَ الْوَاسِطِيُّ ثنا يزيد بن البراء بن عمرو ابن الْبَرَاءِ الْغَنَوِيُّ ثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْهَيْثَمِ قَالَ: كَانَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ فَأَرَادَ أن يستلم فما وسع له الناس، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا أَبَا فِرَاسٍ مَنْ هَذَا فَقَالَ الْفَرَزْدَقُ
هَذَا الَّذِي تَعْرِفُ الْبَطْحَاءُ وَطْأَتَهُ ... وَالْبَيْتُ يَعْرِفُهُ وَالْحِلُّ وَالْحَرَمُ
هَذَا ابْنُ خَيْرِ عِبَادِ اللَّهِ كُلِّهِمُ ... هَذَا التَّقِيُّ النَّقِيُّ الطَّاهِرُ الْعَلَمُ
يَكَادُ يُمْسِكُهُ عِرْفَانَ رَاحَتِهِ ... رُكْنُ الْحَطِيمِ إِذَا مَا جَاءَ يَسْتَلِمُ
إِذَا رَأَتْهُ قُرَيْشٌ قَالَ قَائِلُهَا ... إِلَى مَكَارِمِ هَذَا يَنْتَهِي الْكَرَمُ
يُغْضِي حَيَاءً وَيُغْضَى مِنْ مَهَابَتِهِ ... فَمَا يُكَلَّمُ إِلَّا حِينَ يَبْتَسِمُ
فِي كَفِّهِ خَيْزُرَانٌ رِيحُهَا عبق ... بكف أورع فِي عِرْنِينِهِ شَمَمُ
مُشْتَقَّةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ نِسْبَتُهُ ... طَابَتْ عَنَاصِرُهُ وَالْخِيمُ وَالشِّيَمُ
لَا يَسْتَطِيعُ جَوَادٌ بُعْدَ غَايَتِهِ ... وَلَا يُدَانِيهِ قَوْمٌ إِنْ هموا كرموا
مَنْ يَعْرِفِ اللَّهَ يَعْرِفْ أَوَّلِيَّةَ ذَا ... فَالدِّينُ من بيت هذا ناله أمم
أي العشائر هم ليست رقابهم ... لا ولية هذا أوله نعم
هَكَذَا أَوْرَدَهَا الطَّبَرَانِيُّ فِي تَرْجَمَةِ الْحُسَيْنِ فِي مُعْجَمِهِ الْكَبِيرِ وَهُوَ غَرِيبٌ، فَإِنَّ الْمَشْهُورَ أَنَّهَا من قبل الْفَرَزْدَقِ فِي عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ لَا فِي أَبِيهِ، وَهُوَ أَشْبَهُ فَإِنَّ الْفَرَزْدَقَ لَمْ يَرَ الْحُسَيْنَ إِلَّا وَهُوَ مُقْبِلٌ إِلَى الْحَجِّ وَالْحُسَيْنُ ذَاهِبٌ إِلَى الْعِرَاقِ، فَسَأَلَ الْحُسَيْنُ الْفَرَزْدَقَ عَنِ النَّاسِ فَذَكَرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ إِنَّ الْحُسَيْنَ قُتِلَ بَعْدَ مُفَارَقَتِهِ لَهُ بِأَيَّامٍ يَسِيرَةٍ، فَمَتَى رَآهُ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ عَوَانَةَ قَالَ:
قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ لِعُمَرَ بْنِ سَعْدٍ: أَيْنَ الْكِتَابُ الَّذِي كَتَبْتُهُ إِلَيْكَ فِي قَتْلِ الْحُسَيْنِ؟ فَقَالَ:
مَضَيْتُ لَأَمْرِكَ وَضَاعَ الْكِتَابُ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ زياد: لتحيئن بِهِ، قَالَ: ضَاعَ، قَالَ: وَاللَّهِ لَتَجِيئَنَّ بِهِ، قَالَ: تُرِكَ وَاللَّهِ يُقْرَأُ عَلَى عَجَائِزِ قُرَيْشٍ أَعْتَذِرُ إِلَيْهِنَّ بِالْمَدِينَةِ، أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ نَصَحْتُكَ في حسين نصيحة لو نصحتها إلى سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ لَكُنْتُ قَدْ أَدَّيْتُ حَقَّهُ، فَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ زِيَادٍ أَخُو عُبَيْدِ اللَّهِ، صَدَقَ عُمَرُ وَاللَّهِ. وَلَوَدِدْتُ وَاللَّهِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ بَنِي زِيَادٍ رَجُلٌ إِلَّا وَفَى أَنْفِهِ خِزَامَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَأَنَّ حُسَيْنًا لم يقتل، قال: فو الله ما أنكر ذلك عليه عبيد الله بن زياد] . [1]
__________
[1] سقط من المصرية

(8/208)


فَصْلٌ فِي ذِكْرِ شَيْءٍ مِنْ أَشْعَارِهِ الَّتِي رُوِيَتْ عَنْهُ
فَمِنْ ذَلِكَ مَا أَنْشَدَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ كَامِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ وَذَكَرَ أَنَّهُ لَلْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: -
اغْنَ عَنِ المخلوق بالخالق ... تسد على الْكَاذِبِ وَالصَّادِقِ
وَاسْتَرْزِقِ الرَّحْمَنَ مِنْ فَضْلِهِ ... فَلَيْسَ غَيْرَ اللَّهِ مِنْ رَازِقٍ
مَنْ ظَنَّ أَنَّ النَّاسَ يُغْنُونَهُ ... فَلَيْسَ بِالرَّحْمَنِ بِالْوَاثِقِ
أَوْ ظَنَّ أَنَّ الْمَالَ مِنْ كَسْبِهِ ... زَلَّتْ بِهِ النَّعْلَانِ مِنْ حَالِقٍ
وَعَنِ الْأَعْمَشِ أَنَّ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ قَالَ: -
كُلَّمَا زِيدَ صَاحِبُ الْمَالِ مَالًا ... زِيدَ فِي هَمِّهِ وَفِي الِاشْتِغَالِ
قَدْ عَرَفْنَاكِ يا منغصة العيش ... ويا دار كل فان وبالي
ليس يصفو لزاهد طلب الزهد ... إِذَا كَانَ مُثْقَلًا بِالْعِيَالِ
وَعَنْ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ الْحُسَيْنَ زَارَ مَقَابِرَ الشُّهَدَاءِ بِالْبَقِيعِ فَقَالَ: -
نَادَيْتُ سُكَّانَ الْقُبُورِ فَأَسْكَتُوا ... وأجابني عن صمتهم ترب الحصا
قالت أتدري ما فعلت بساكنى ... مزقت لحمهم وَخَرَّقْتُ الْكُسَا
وَحَشَوْتُ أَعْيُنَهُمْ تُرَابًا بَعْدَ مَا ... كَانَتْ تَأَذَّى بِالْيَسِيرِ مِنَ الْقَذَى
أَمَّا الْعِظَامُ فاننى مزقتها ... حتى تباينت المفاصل والشوا
قطعت ذا زاد من هذا كذا ... فتركتها رمما يطوف بها البلا
وَأَنْشَدَ بَعْضُهُمْ لَلْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَيْضًا: -
لَئِنْ كَانَتِ الدُّنْيَا تُعَدُّ نَفِيسَةً ... فَدَارُ ثَوَابِ اللَّهِ أَعَلَى وَأَنْبَلُ
وَإِنْ كَانَتِ الْأَبْدَانُ لَلْمَوْتِ أنشئت ... فقتل امرئ بالسيف في الله أَفْضَلُ
وَإِنْ كَانَتِ الْأَرْزَاقُ شَيْئًا مُقَدَّرًا ... فَقِلَّةُ سعى المرء في الرزق أجمل
وإن كانت الأموال للترك جمعها ... فَمَا بَالُ مَتْرُوكٍ بِهِ الْمَرْءُ يَبْخَلُ
وَمِمَّا أَنْشَدَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ مِنْ شِعْرِهِ فِي امْرَأَتِهِ الرَّبَابِ بِنْتِ أُنَيْفٍ، وَيُقَالُ بِنْتُ امْرِئِ القيس ابن عَدِيِّ بْنِ أَوْسٍ الْكَلْبِيِّ أُمِّ ابْنَتِهِ سُكَيْنَةَ.
لَعَمْرُكَ إِنَّنِي لَأُحِبُّ دَارًا ... تَحُلُّ بِهَا سُكَيْنَةُ والرباب

(8/209)


أُحِبُّهُمَا وَأَبْذُلُ جُلَّ مَالِي ... وَلَيْسَ لِلَائِمِي فِيهَا عِتَابُ
وَلَسْتُ لَهُمْ وَإِنْ عَتَبُوا مُطِيعًا ... حَيَاتِيَ أو يعلينى التُّرَابُ
وَقَدْ أَسْلَمَ أَبُوهَا عَلَى يَدَيْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَأَمَّرَهُ عُمَرُ عَلَى قَوْمِهِ، فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ خَطَبَ إِلَيْهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَنْ يُزَوِّجَ ابْنَهُ الْحَسَنَ أَوِ الْحُسَيْنَ مِنْ بَنَاتِهِ، فَزَوَّجَ الْحَسَنَ ابْنَتَهُ سَلْمَى، وَالْحُسَيْنَ ابْنَتَهُ الرَّبَابَ، وَزَوَّجَ عَلِيًّا ابْنَتَهُ الثَّالِثَةَ، وَهِيَ الْمُحَيَّاةُ بِنْتُ امْرِئِ الْقَيْسِ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ، فَأَحَبَّ الْحُسَيْنُ زَوْجَتَهُ الرَّبَابَ حُبًّا شَدِيدًا وَكَانَ بِهَا مُعْجَبًا يَقُولُ فِيهَا الشِّعْرَ، وَلَمَّا قُتِلَ بِكَرْبَلَاءَ كَانَتْ مَعَهُ فَوَجَدَتْ عَلَيْهِ وَجْدًا شَدِيدًا، وَذُكِرَ أَنَّهَا أَقَامَتْ عَلَى قَبْرِهِ سَنَةً ثُمَّ انْصَرَفَتْ وَهِيَ تَقُولُ:
إِلَى الْحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلَامِ عَلَيْكُمَا ... وَمَنْ يَبْكِ حَوْلًا كَامِلًا فَقَدِ اعْتَذَرْ
وَقَدْ خَطَبَهَا بَعْدَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ فَقَالَتْ: مَا كُنْتُ لِأَتَّخِذَ حموا بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وو الله لَا يُؤْوِينِي وَرَجُلًا بَعْدَ الْحُسَيْنِ سَقْفٌ أَبَدًا. وَلَمْ تَزَلْ عَلَيْهِ كَمِدَةً حَتَّى مَاتَتْ، وَيُقَالُ إِنَّهَا إِنَّمَا عَاشَتْ بَعْدَهُ أَيَّامًا يَسِيرَةً فاللَّه أَعْلَمُ، وَابْنَتُهَا سُكَيْنَةُ بِنْتُ الْحُسَيْنِ كَانَتْ مِنْ أَجْمَلِ النِّسَاءِ حَتَّى إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي زَمَانِهَا أَحْسَنُ مِنْهَا فاللَّه أَعْلَمُ.
وَرَوَى أَبُو مِخْنَفٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُنْدُبٍ أَنَّ ابن زِيَادٍ بَعْدَ مَقْتَلِ الْحُسَيْنِ تَفَقَّدَ أَشْرَافَ أَهْلِ الْكُوفَةِ فَلَمْ يَرَ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ الْحُرِّ بْنِ يَزِيدَ، فَتَطَلَّبَهُ حَتَّى جَاءَهُ بَعْدَ أَيَّامٍ فقال: أين كنت يا ابن الْحُرِّ؟ قَالَ: كُنْتُ مَرِيضًا، قَالَ. مَرِيضُ الْقَلْبِ أَمْ مَرِيضُ الْبَدَنِ؟ قَالَ: أَمَّا قَلْبِي فَلَمْ يَمْرَضْ، وَأَمَّا بَدَنِي فَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْعَافِيَةِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ زِيَادٍ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ كُنْتَ مَعَ عَدُوِّنَا، قَالَ: لَوْ كُنْتُ مَعَ عَدُوِّكَ لَمْ يَخْفَ مَكَانُ مِثْلِي، وَلَكَانَ النَّاسُ شاهدوا ذلك، قال: وعقل عن ابن زياد عقلة فَخَرَجَ ابْنُ الْحُرِّ فَقَعَدَ عَلَى فَرَسِهِ. ثُمَّ قَالَ: أَبْلِغُوهُ أَنِّي لَا آتِيهِ وَاللَّهِ طَائِعًا فقال ابن زياد: أين ابن الحر؟ قال:
خَرَجَ، فَقَالَ عَلَيَّ بِهِ، فَخَرَجَ الشُّرَطُ فِي طَلَبِهِ فَأَسْمَعَهُمْ غَلِيظَ مَا يَكْرَهُونَ، وَتَرَضَّى عَنِ الْحُسَيْنِ وَأَخِيهِ وَأَبِيهِ ثُمَّ أَسْمَعَهُمْ فِي ابْنِ زِيَادٍ غَلِيظًا مِنَ الْقَوْلِ ثُمَّ امْتَنَعَ مِنْهُمْ وقال في الحسين وفي أصحابه شِعْرًا: -
يَقُولُ أَمِيرٌ غَادِرٌ حَقُّ غَادِرٍ ... أَلَا كُنْتَ قَاتَلْتَ الشَّهِيدَ ابْنَ فَاطِمَهْ
فَيَا نَدَمِي أن لا أكون نصرته ... لَذُو حَسْرَةٍ مَا إِنْ تُفَارِقُ لَازِمَهْ
سَقَى الله أرواح الذين تبارزوا ... عَلَى نَصْرِهِ سَقْيًا مِنَ الْغَيْثِ دَائِمَهْ
وَقَفْتُ على أجداثهم وقبورهم ... فكان الحشى ينقض وَالْعَيْنُ سَاجِمَهْ
لَعَمْرِي لَقَدْ كَانُوا مَصَالِيتَ فِي الوغى ... سراعا إلى الهيجا حماة حضارمه
تأسوا على نصر بن بِنْتِ نَبِيِّهِمْ ... بِأَسْيَافِهِمْ آسَادَ غِيلٍ ضَرَاغِمَهْ
فَإِنْ يقتلوا تلك النفوس التقية ... على الأرض قد أضحت لذلك واجمه

(8/210)


فما إِنْ رَأَى الرَّاءُونَ أَفْضَلَ مِنْهُمُ ... لَدَى الْمَوْتِ سادات وزهر قماقمه
أتقتلهم ظلما وترجو ودادنا ... فذى خُطَّةً لَيْسَتْ لَنَا بِمُلَائِمَهْ
لَعَمْرِي لَقَدْ رَاغَمْتُمُونَا بِقَتْلِهِمْ ... فَكَمْ نَاقِمٍ مِنَّا عَلَيْكُمْ وَنَاقِمَهْ
أَهُمُّ مِرَارًا أَنْ أَسِيرَ بِجَحْفَلٍ ... إِلَى فِئَةٍ زَاغَتْ عن الحق ظالمه
فيا ابن زياد استعد لحربنا ... وموقف ضنك تقصم الظَّهْرَ قَاصِمَهْ
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: قَالَ سليمان بن قتيبة يَرْثِي الْحُسَيْنَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
وَإِنَّ قَتِيلَ الطَّفِّ مِنْ آلِ هَاشِمٍ ... أَذَلَّ رِقَابًا مِنْ قريش فذلت
فان تتبعوه عائذا لبيت تُصْبِحُوا ... كَعَادٍ تَعَمَّتْ عَنْ هُدَاهَا فَضَلَّتِ
مَرَرْتُ عَلَى أَبْيَاتِ آلِ مُحَمَّدٍ ... فَأَلْفَيْتُهَا أَمْثَالَهَا حَيْثُ حَلَّتِ
وَكَانُوا لَنَا غُنْمًا فَعَادُوا رَزِيَّةً ... لَقَدْ عَظُمَتْ تِلْكَ الرَّزَايَا وَجَلَّتِ
فَلَا يُبْعِدُ اللَّهُ الديار وأهلها ... وإن أصبحت منهم بزعمي تحلت
إذا افتقرت قيس خبرنا فقيرها ... وتفلنا قيس إذا النعل زلت
وعند يزيد قَطْرَةٌ مِنْ دِمَائِنَا ... سَنَجْزِيهِمْ يَوْمًا بِهَا حَيْثُ حَلَّتِ
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْأَرْضَ أَضْحَتْ مَرِيضَةً ... لِقَتْلِ حُسَيْنٍ وَالْبِلَادَ اقْشَعَرَّتِ
وَمِمَّا وَقَعَ مِنَ الْحَوَادِثِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ- أَعْنِي سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ- بَعْدَ مَقْتَلِ الْحُسَيْنِ فَفِيهَا وَلَّى يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ سَلْمَ بْنَ زِيَادٍ سِجِسْتَانَ وَخُرَاسَانَ حِينَ وَفَدَ عَلَيْهِ، وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، وَعَزَلَ عَنْهَا أَخَوَيْهِ عَبَّادًا وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ، وَسَارَ سَلْمٌ إِلَى عَمَلِهِ فَجَعَلَ يَنْتَخِبُ الْوُجُوهَ وَالْفُرْسَانَ، وَيُحَرِّضُ النَّاسَ عَلَى الْجِهَادِ، ثُمَّ خَرَجَ فِي جَحْفَلٍ عَظِيمٍ لَيَغْزُوَ بِلَادَ التُّرْكِ، وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ أُمُّ مُحَمَّدٍ بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ، فَكَانَتْ أَوَّلَ امْرَأَةٍ مِنَ الْعَرَبِ قُطِعَ بِهَا النَّهْرُ، وَوَلَدَتْ هناك ولدا أسموه صغدى، وبعثت إليها امرأة صاحب صغدى بتاجها من ذهب ولآل. وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ قَبْلَ ذَلِكَ لَا يُشَتُّونَ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ، فَشَتَّى بِهَا سَلْمُ بْنُ زِيَادٍ. [وَبَعَثَ الْمُهَلَّبَ بْنَ أَبِي صُفْرَةَ إِلَى تِلْكَ الْمَدِينَةِ الَّتِي هِيَ لِلتُّرْكِ، وَهِيَ خُوَارَزْمُ فَحَاصَرَهُمْ حَتَّى صَالَحُوهُ عَلَى نَيِّفٍ وَعِشْرِينَ أَلْفَ أَلْفٍ، وَكَانَ يَأْخُذُ مِنْهُمْ عُرُوضًا عِوَضًا، فَيَأْخُذُ الشَّيْءَ بْنصْفِ قِيمَتِهِ فَبَلَغَتْ قِيمَةُ مَا أَخَذَ مِنْهُمْ خَمْسِينَ أَلْفَ أَلْفٍ، فَحَظِيَ بِذَلِكَ الْمُهَلَّبُ عِنْدَ سَلْمِ بْنِ زِيَادٍ] [1] ثُمَّ بَعَثَ مِنْ ذَلِكَ مَا اصْطَفَاهُ لَيَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ مَعَ مَرْزُبَانٍ وَمَعَهُ وَفْدٌ، وَصَالَحَ سَلْمٌ أَهْلَ سَمَرْقَنْدَ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ عَلَى مَالٍ جَزِيلٍ. وَفِيهَا عَزَلَ يَزِيدُ عَنْ إِمْرَةِ الْحَرَمَيْنِ عَمْرَو بْنَ سَعِيدٍ وأعاد إليها الوليد بن
__________
[1] سقط من نسخة طوب قبو بالأستانة.

(8/211)


عُتْبَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، فَوَلَّاهُ الْمَدِينَةَ، وَذَلِكَ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ لَمَّا بَلَغَهُ مَقْتَلُ الْحُسَيْنِ شَرَعَ يَخْطُبُ النَّاسَ وَيُعَظِّمُ قَتْلَ الْحُسَيْنِ وَأَصْحَابِهِ جِدًّا، وَيَعِيبُ عَلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ وَأَهْلِ الْعِرَاقِ مَا صَنَعُوهُ مِنْ خِذْلَانِهِمُ الْحُسَيْنَ، وَيَتَرَحَّمُ عَلَى الْحُسَيْنِ وَيَلْعَنُ مَنْ قَتَلَهُ، وَيَقُولُ: أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ قَتَلُوهُ طَوِيلًا بِاللَّيْلِ قِيَامُهُ، كَثِيرًا فِي النَّهَارِ صِيَامُهُ، أَمَا وَاللَّهِ مَا كَانَ يَسْتَبْدِلُ بالقرآن الغنا والملاهي، ولا بالبكاء من خشية الله اللغو والحداء، ولا بالصيام شرب المدام وأكل الحرام، ولا بالجلوس في حلق الذكر طلب الصَّيْدِ، - يُعَرِّضُ فِي ذَلِكَ بِيَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ- فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا، وَيُؤَلِّبُ النَّاسَ عَلَى بَنِي أمية ويحثهم على مخالفته وَخَلْعِ يَزِيدَ. فَبَايَعَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ فِي الْبَاطِنِ، وَسَأَلُوهُ أَنْ يُظْهِرَهَا فَلَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ مَعَ وُجُودِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ، وَكَانَ شَدِيدًا عَلَيْهِ وَلَكِنْ فِيهِ رِفْقٌ، وَقَدْ كَانَ كَاتَبَهُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَغَيْرُهُمْ، وَقَالَ النَّاسُ: أَمَّا إِذْ قُتِلَ الحسين فليس ينازع أحد ابن الزبير، فلما بلغ ذلك يزيد شق ذلك عليه وَقِيلَ لَهُ: إِنَّ عَمْرَو بْنَ سَعِيدٍ لَوْ شَاءَ لَبَعَثَ إِلَيْكَ بِرَأْسِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، أَوْ يُحَاصِرُهُ حَتَّى يُخْرِجَهُ مِنَ الْحَرَمِ، فَبَعَثَ فَعَزَلَهُ وولى الوليد بن عتبة فيها، وقيل فِي مُسْتَهَلِّ ذِي الْحِجَّةِ، فَأَقَامَ لِلنَّاسِ الْحَجَّ فيها، وحلف يزيد ليأتينى ابن الزبير فِي سِلْسِلَةٍ مِنْ فِضَّةٍ، وَبَعَثَ بِهَا مَعَ البريد ومعه برنس من خز ليبر يَمِينُهُ، فَلَمَّا مَرَّ الْبَرِيدُ عَلَى مَرْوَانَ وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ وَأَخْبَرَهُ بِمَا هُوَ قَاصِدٌ لَهُ وَمَا مَعَهُ مِنَ الْغُلِّ أَنْشَأَ مَرْوَانُ يَقُولُ: -
فَخُذْهَا فَمَا هِيَ لَلْعَزِيزِ بِخُطَّةٍ ... وَفِيهَا مَقَالٌ لَامْرِئٍ مُتَذَلِّلِ
أَعَامِرَ إِنَّ الْقَوْمَ سَامُوكَ خُطَّةً ... وَذَلِكَ فِي الْجِيرَانِ غَزْلٌ بِمِغْزَلِ
أَرَاكَ إِذَا مَا كُنْتَ فِي الْقَوْمِ نَاصِحًا ... يُقَالُ لَهُ بِالدَّلْوِ أَدْبِرْ وَأَقْبِلِ
فَلَمَّا انْتَهَتِ الرُّسُلُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ بَعَثَ مَرْوَانُ ابْنَيْهِ عَبْدَ الْمَلِكِ وَعَبْدَ الْعَزِيزِ لَيَحْضُرَا مُرَاجَعَتَهُ فِي ذَلِكَ، وَقَالَ: أَسْمِعَاهُ قَوْلِي فِي ذَلِكَ، قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ: فَلَمَّا جَلَسَ الرُّسُلُ بَيْنَ يَدَيْهِ جَعَلْتُ أُنْشِدُهُ ذَلِكَ وَهُوَ يَسْمَعُ وَلَا أُشْعِرُهُ، فَالْتَفَتَ إِلَيَّ فَقَالَ: أَخْبِرَا أَبَاكُمَا أَنِّي أَقُولُ: -
إِنِّي لَمِنْ نَبْعَةٍ صُمٍّ مَكَاسِرُهَا ... إِذَا تَنَاوَحَتِ الْقَصْبَاءُ وَالْعُشَرُ
وَلَا أَلِينُ لَغَيْرِ الْحَقِّ أَسْأَلُهُ ... حَتَّى يَلِينَ لِضِرْسِ الْمَاضِغِ الْحَجَرُ
قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ: فما أدرى أيما كَانَ أَعْجَبَ!! قَالَ أَبُو مَعْشَرٍ: لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ السِّيَرِ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ حَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَهُوَ أَمِيرُ الْحَرَمَيْنِ وَعَلَى الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ، وَعَلَى خُرَاسَانَ وَسِجِسْتَانَ سَلْمُ بْنُ زِيَادٍ أخو عبيد الله ابن زِيَادٍ، وَعَلَى قَضَاءِ الْكُوفَةِ شُرَيْحٌ، وَعَلَى قَضَاءِ الْبَصْرَةِ هِشَامُ بْنُ هُبَيْرَةَ.
ذِكْرُ مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَمَعَهُ بِضْعَةَ عَشَرَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ قُتِلُوا جَمِيعًا بِكَرْبَلَاءَ، وَقِيلَ بِضْعَةٌ

(8/212)


وَعِشْرُونَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقُتِلَ مَعَهُمْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَبْطَالِ وَالْفُرْسَانِ.
جَابِرُ بْنُ عَتِيكِ بْنِ قَيْسٍ
أبو عبد الله الأنصاري السلمي، شهد بدرا وما معه، وكان حامل راية الأنصار يَوْمَ الْفَتْحِ، كَذَا قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ، قَالَ: وَتُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ إِحْدَى وَسَبْعِينَ سَنَةً.
حَمْزَةُ بْنُ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيُّ
صَحَابِيٌّ جَلِيلُ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: سَأَلَ حَمْزَةُ بْنُ عَمْرَو رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنِّي كَثِيرُ الصِّيَامِ أَفَأَصُومُ فِي السَّفَرِ؟ فَقَالَ لَهُ: «إِنْ شِئْتَ فَصُمْ، وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ» . وَقَدْ شَهِدَ فَتْحَ الشَّامَ، وَكَانَ هُوَ الْبَشِيرَ لِلصِّدِّيقِ يَوْمَ أَجْنَادِينَ، قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَهُوَ الَّذِي بَشَّرَ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ بِتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ فَأَعْطَاهُ ثَوْبَيْهِ، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ فَأَضَاءَتْ لِي أَصَابِعِي حَتَّى جَمَعْتُ عَلَيْهَا كُلَّ مَتَاعٍ كَانَ لَلْقَوْمِ» .
اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ- أَعْنِي سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ-
شَيْبَةُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ الْعَبْدَرِيُّ الْحَجَبِيُّ
صَاحِبُ مِفْتَاحِ الْكَعْبَةِ كَانَ أَبُوهُ مِمَّنْ قَتَلَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يَوْمَ أُحُدٍ كَافِرًا، وَأَظْهَرَ شَيْبَةُ الْإِسْلَامَ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَشَهِدَ حُنَيْنًا وَفِي قَلْبِهِ شَيْءٌ مِنَ الشَّكِّ، وَقَدْ هَمَّ بِالْفَتْكِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَطْلَعَ الله على ذلك رسوله فَأَخْبَرَهُ بِمَا هَمَّ بِهِ فَأَسْلَمَ بَاطِنًا وَجَادَ إِسْلَامُهُ، وَقَاتَلَ يَوْمَئِذٍ وَصَبَرَ فِيمَنْ صَبَرَ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ: إِنَّ شَيْبَةَ قَالَ: كُنْتُ أَقُولُ وَاللَّهِ لَوْ آمَنَ بِمُحَمَّدٍ جَمِيعُ النَّاسِ مَا آمَنْتُ بِهِ، فَلَمَّا فَتَحَ مَكَّةَ وَخَرَجَ إِلَى هَوَازِنَ خَرَجْتُ مَعَهُ رَجَاءَ أَنْ أَجِدَ فُرْصَةً آخُذُ بِثَأْرِ قُرَيْشٍ كُلِّهَا مِنْهُ، قَالَ: فَاخْتَلَطَ النَّاسُ ذَاتَ يَوْمٍ وَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَغْلَتِهِ فَدَنَوْتُ مِنْهُ وَانْتَضَيْتُ سَيْفِي لِأَضْرِبَهُ بِهِ، فَرُفِعَ لِي شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ كَادَ يَمْحَشُنِي، فَالْتَفَتَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: «يَا شَيْبَةُ ادْنُ مِنِّي، فَدَنَوْتُ مِنْهُ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى صَدْرِي وَقَالَ: اللَّهمّ أَعِذْهُ مِنَ الشيطان. قال: فو الله مَا رَفَعَ يَدَهُ حَتَّى لَهْوَ يَوْمَئِذٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ سَمْعِي وَبَصَرِي، ثُمَّ قَالَ: اذْهَبْ فَقَاتِلْ، قَالَ: فَتَقَدَّمْتُ إِلَى الْعَدُوِّ وَاللَّهِ لَوْ لَقِيتُ أَبِي لَقَتَلْتُهُ لَوْ كَانَ حَيًّا، فَلَمَّا تَرَاجَعَ النَّاسُ قَالَ لِي: يَا شَيْبَةُ الَّذِي أَرَادَ اللَّهُ بِكَ خَيْرٌ مِمَّا أَرَدْتَ لَنَفْسِكَ، ثُمَّ حَدَّثَنِي بِكُلِّ مَا كَانَ فِي نَفْسِي مِمَّا لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ أَحَدٌ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَتَشَهَّدْتُ وَقُلْتُ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، فَقَالَ:
غَفَرَ اللَّهُ لَكَ» . وَلِيَ الْحِجَابَةَ بَعْدَ عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ وَاسْتَقَرَّتِ الْحِجَابَةُ فِي بَنِيهِ وَبَيْتِهِ إِلَى الْيَوْمِ، وَإِلَيْهِ يُنْسَبُ بَنُو شَيْبَةَ، وَهُمْ حَجَبَةُ الْكَعْبَةِ. قَالَ خَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: تُوُفِّيَ سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: بَقِيَ إِلَى أَيَّامِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمُنْتَظَمِ: مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
عَبْدُ الْمُطَّلِبِ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ صحابى انْتَقَلَ إِلَى دِمَشْقَ وَلَهُ بِهَا دَارٌ،

(8/213)


وَلَمَّا مَاتَ أَوْصَى إِلَى يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَهُوَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ.
الْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ بْنِ أبى معيط
ابن أبان بن أبى عمر وذكوان بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيٍّ، أَبُو وَهْبٍ الْقُرَشِيُّ الْعَبْشَمِيُّ، وَهُوَ أَخُو عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ لِأُمِّهِ أَرْوَى بِنْتِ كُرَيْزِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ حَبِيبِ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، وَأُمُّهَا أُمُّ حَكِيمٍ الْبَيْضَاءُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَلِلْوَلِيدِ مِنَ الْإِخْوَةِ خَالِدٌ وَعُمَارَةُ وَأُمُّ كُلْثُومٍ، وَقَدْ قُتِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَاهُ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ مِنْ بَيْنِ الْأَسْرَى صَبْرًا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ مَنْ لِلصِّبْيَةِ؟ فَقَالَ: «لَهُمُ النَّارُ» وَكَذَلِكَ فَعَلَ بِالنَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ، وَأَسْلَمَ الْوَلِيدُ هَذَا يَوْمَ الْفَتْحِ، وَقَدْ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى صَدَقَاتِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ فَخَرَجُوا يَتَلَقَّوْنَهُ فَظَنَّ أَنَّهُمْ إِنَّمَا خَرَجُوا لَقِتَالِهِ فَرَجَعَ، فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَرَادَ أَنْ يُجَهِّزَ إِلَيْهِمْ جَيْشًا، فَبَلَغَهُمْ ذَلِكَ فَجَاءَ مَنْ جَاءَ مِنْهُمْ ليعتذروا إليه ويخبرونه بِصُورَةِ مَا وَقَعَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الوليد يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ 49: 6 الآية. ذَكَرَ ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّةِ ذَلِكَ. وَقَدْ حَكَى أَبُو عَمْرِو بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَلَى ذَلِكَ الْإِجْمَاعَ. وَقَدْ وَلَّاهُ عُمَرُ صَدَقَاتِ بَنِي تَغْلِبَ، وَوَلَّاهُ عُثْمَانُ نيابة الكوفة بعد سعد ابن أَبِي وَقَّاصٍ، سَنَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، ثُمَّ شَرِبَ الْخَمْرَ وَصَلَّى بِأَصْحَابِهِ ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: أَزِيدُكُمْ؟
وَوَقَعَ مِنْهُ تَخْبِيطٌ، ثُمَّ إِنَّ عُثْمَانَ جَلَدَهُ وَعَزَلَهُ عَنِ الْكُوفَةِ بَعْدَ أَرْبَعِ سِنِينَ فَأَقَامَ بِهَا، فَلَمَّا جَاءَ عَلِيٌّ إِلَى الْعِرَاقِ سَارَ إِلَى الرَّقَّةِ وَاشْتَرَى لَهُ عِنْدَهَا ضَيْعَةً وَأَقَامَ بِهَا مُعْتَزِلًا جَمِيعَ الْحُرُوبِ الَّتِي كَانَتْ أَيَّامَ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ وَمَا بَعْدَهَا إِلَى أَنْ توفى بضيعته في هذه السنة، ودفن بضيعته وَهِيَ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ مِيلًا مِنَ الرَّقَّةِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ تُوُفِّيَ فِي أَيَّامِ مُعَاوِيَةَ فاللَّه أَعْلَمُ. رَوَى لَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ حَدِيثًا وَاحِدًا فِي فَتْحِ مَكَّةَ، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَفَاتَهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَذَكَرَ أَيْضًا وَفَاةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ الْهِلَالِيَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ وَفَاتِهَا فِي سَنَةِ إِحْدَى وَخَمْسِينَ، وَقِيلَ إِنَّهَا تُوُفِّيَتْ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ، وَقِيلَ سَنَةَ سِتٍّ وَسِتِّينَ، وَالصَّوَابُ مَا ذَكَرْنَاهُ.
أُمُّ سَلَمَةَ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ
هِنْدُ بِنْتُ أبى أمية حذيفة وقيل سهل بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ، الْقُرَشِيَّةُ الْمَخْزُومِيَّةُ كَانَتْ أَوَّلًا تَحْتَ ابْنِ عَمِّهَا أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ فَمَاتَ عَنْهَا، فَتَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَخَلَ بِهَا فِي شَوَّالٍ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ، وَقَدْ كَانَتْ سَمِعَتْ مِنْ زَوْجِهَا أَبِي سَلَمَةَ: حَدِيثًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أَنَّهُ قَالَ «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصَابُ بِمُصِيبَةٍ فَيَقُولُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ، 2: 156 اللَّهمّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَاخْلُفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا، إِلَّا أَبْدَلَهُ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهَا» قَالَتْ: فَلَمَّا مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ قُلْتُ ذَلِكَ ثُمَّ قُلْتُ: وَمَنْ هُوَ خير من أبى سلمة أو رَجُلٍ هَاجَرَ؟ ثُمَّ عَزَمَ اللَّهُ لِي فَقُلْتُهَا فَأَبْدَلَنِي اللَّهُ خَيْرًا

(8/214)


مِنْهُ، رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتِ مِنْ حِسَانِ النِّسَاءِ وَعَابِدَاتِهِنَّ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: تُوُفِّيَتْ سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ وَصَلَّى عَلَيْهَا أَبُو هُرَيْرَةَ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ: تُوُفِّيَتْ فِي أَيَّامِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ. قُلْتُ: وَالْأَحَادِيثُ الْمُتَقَدِّمَةُ فِي مَقْتَلِ الْحُسَيْنِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا عَاشَتْ إلى ما بعد مقتله والله أعلم. ورضى الله عنها وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ