البداية والنهاية، ط. دار الفكر

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ
قَالَ ابن جرير: في المحرم منها توفي الفضل بن يحيى، وقال ابن الجوزي توفي الفضل في سنة ثنتين وتسعين كما تقدم. وما قاله ابن جرير أقرب. قَالَ: وَفِيهَا تُوُفِّيَ سَعِيدٌ الْجَوْهَرِيُّ، قَالَ: وَفِيهَا وَافَى الرَّشِيدُ جُرْجَانَ وَانْتَهَتْ إِلَيْهِ خَزَائِنُ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى تُحْمَلُ عَلَى أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةِ بَعِيرٍ، وَذَلِكَ فِي صَفَرٍ مِنْهَا، ثُمَّ تَحَوَّلَ مِنْهَا إِلَى طُوسَ وَهُوَ عَلِيلٌ، فَلَمْ يَزَلْ بِهَا حَتَّى كَانَتْ وَفَاتُهُ فِيهَا. وَفِيهَا تَوَاقَعَ هَرْثَمَةُ نَائِبُ الْعِرَاقِ هُوَ وَرَافِعُ بْنُ اللَّيْثِ فَكَسَرَهُ هَرْثَمَةُ وَافْتَتَحَ بُخَارَى وَأَسَرَ أَخَاهُ بَشِيرَ بْنَ الليث، فبعثه إلى الرشيد وهو بطوس قد ثقل عن السير، فلما وقف بَيْنَ يَدَيْهِ شَرَعَ يَتَرَقَّقُ لَهُ فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ، بَلْ قَالَ: وَاللَّهِ لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنْ عُمْرِي إِلَّا أَنْ أُحَرِّكَ شَفَتَيْ بِقَتْلِكَ لَقَتَلْتُكَ، ثُمَّ دَعَا بِقَصَّابٍ فَجَزَّأَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ عُضْوًا، ثُمَّ رَفَعَ الرَّشِيدُ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَدْعُو اللَّهَ أَنْ يُمَكِّنَهُ مِنْ أخيه رافع كما مكنه من أخيه بشير.
__________
[1] نسبها ابن خلكان لصالح بن عبد القدوس، وقيل إنها لعلي بن الخليل. وقال غيره هي لأبي العتاهية.

(10/212)


وفاة الرشيد
كان قد رأى وهو بالكوفة رُؤْيَا أَفْزَعَتْهُ وَغَمَّهُ ذَلِكَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ بْنُ بَخْتَيْشُوعَ فَقَالَ: مَا لَكَ يَا أَمِيرَ المؤمنين؟ فقال: رأيت كَفًّا فِيهَا تُرْبَةٌ حَمْرَاءُ خَرَجَتْ مِنْ تَحْتِ سريري وقائلا يقول: هذه تربة هارون. فَهَوَّنَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ أَمْرَهَا وَقَالَ: هَذِهِ مِنْ أضغاث الأحلام من حَدِيثِ النَّفْسِ، فَتَنَاسَهَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَلَمَّا سَارَ يُرِيدُ خُرَاسَانَ وَمَرَّ بِطُوسَ وَاعْتَقَلَتْهُ الْعِلَّةُ بها، ذكر رؤياه فهاله ذلك وقال لجبريل:
ويحك! أما تذكر ما قصصته عليه من الرؤيا؟ فقال: بلى. فَدَعَا مَسْرُورًا الْخَادِمَ وَقَالَ: ائْتِنِي بِشَيْءٍ مِنْ تُرْبَةِ هَذِهِ الْأَرْضِ، فَجَاءَهُ بِتُرْبَةٍ حَمْرَاءَ فِي يَدِهِ، فَلَمَّا رَآهَا قَالَ: وَاللَّهِ هَذِهِ الْكَفُّ الَّتِي رَأَيْتُ، وَالتُّرْبَةُ الَّتِي كَانَتْ فِيهَا. قَالَ جبريل: فو الله ما أتت عليه ثلاث حتى توفي، وَقَدْ أَمَرَ بِحَفْرِ قَبْرِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ فِي الدَّارِ الَّتِي كَانَ فِيهَا، وَهِيَ دَارُ حُمَيْدِ بْنِ أَبِي غَانِمٍ الطَّائِيِّ، فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى قبره وهو يقول: يا بن آدم تصير إلى هذا. ثم أمر أن يقرءوا القرآن في قبره، فقرءوه حَتَّى خَتَمُوهُ وَهُوَ فِي مَحَفَّةٍ عَلَى شَفِيرِ الْقَبْرِ وَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ احْتَبَى بِمُلَاءَةٍ وَجَلَسَ يُقَاسِي سَكَرَاتِ الْمَوْتِ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ مَنْ حضر: لو اضطجعت كان أهون عليك. فضحك ضحكا صحيحا ثُمَّ قَالَ: أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ الشَّاعِرِ:
وَإِنِّي مِنْ قَوْمٍ كِرَامٍ يَزِيدُهُمْ ... شِمَاسًا وَصَبْرًا شِدَّةُ الحدثان
مات لَيْلَةَ السَّبْتِ، وَقِيلَ لَيْلَةَ الْأَحَدِ مُسْتَهَلَّ جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ، عَنْ خَمْسٍ، وقيل سبع وأربعين سنة. وكان ملكه ثلاثا وعشرين سنة.
وَهَذِهِ تَرْجَمَتُهُ
هُوَ هَارُونُ الرَّشِيدُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ابْنُ الْمَهْدِيِّ مُحَمَّدِ بْنِ الْمَنْصُورِ أَبِي جَعْفَرٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ علي ابن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، الْقُرَشِيُّ الْهَاشِمِيُّ، أَبُو مُحَمَّدٍ، وَيُقَالُ أَبُو جَعْفَرٍ. وأمه الخيزران أم ولد. كان مَوْلِدُهُ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ سِتٍّ وَقِيلَ سَبْعٍ، وَقِيلَ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ، وَقِيلَ إِنَّهُ وُلِدَ سَنَةَ خَمْسِينَ وَمِائَةٍ، وَبُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ بَعْدَ مَوْتِ أَخِيهِ مُوسَى الْهَادِي فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ سَبْعِينَ وَمِائَةٍ، بِعَهْدٍ مِنْ أَبِيهِ الْمَهْدِيِّ. رَوَى الْحَدِيثَ عَنْ أَبِيهِ وَجَدِّهِ، وَحَدَّثَ عَنِ الْمُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ» [1] . أَوْرَدَهُ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَهُوَ يَخْطُبُ النَّاسَ، وَقَدْ حَدَّثَ عَنْهُ ابْنُهُ وَسُلَيْمَانُ الْهَاشِمِيُّ وَالِدُ إِسْحَاقَ، وَنُبَاتَةُ بْنُ عَمْرٍو. وَكَانَ الرَّشِيدُ أَبْيَضَ طَوِيلًا سَمِينًا جَمِيلًا، وَقَدْ غَزَا الصَّائِفَةَ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ مِرَارًا، وَعَقَدَ الْهُدْنَةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالرُّومِ بَعْدَ مُحَاصَرَتِهِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ، وَقَدْ لَقِيَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ ذَلِكَ جَهْدًا جَهِيدًا وَخَوْفًا شَدِيدًا، وكان الصلح مع امرأة ليون وَهِيَ الْمُلَقَّبَةُ بِأُغُسْطَةَ عَلَى حَمْلٍ كَثِيرٍ تَبْذُلُهُ للمسلمين في كل عام، ففرح المسلمون بذلك، وكان هذا هو الّذي حدا أباه على البيعة له بعد أخيه فِي سَنَةِ سِتٍّ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ، ثُمَّ لَمَّا أفضت إليه
__________
[1] أخرجه البخاري في الأدب والزكاة والرقاق والتوحيد ومسلم في الزكاة ح (66- 67- 68- 70) والترمذي في القيامة (1) والزهد (37) والنسائي والدارميّ في الزكاة وا بن ماجة في المقدمة (13) والزكاة (38) وأحمد في المسند 1/ 288، 446 و 4/ 256، 358، 6/ 79، 138.

(10/213)


الخلافة في سنة سبعين كَانَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ سِيرَةً وَأَكْثَرِهِمْ غَزْوًا وحجا، وَلِهَذَا قَالَ فِيهِ أَبُو السَّعْلِيِّ [1] :
فَمَنْ يَطْلُبْ لِقَاءَكَ أَوْ يُرِدْهُ ... فَبِالْحَرَمَيْنِ أَوْ أَقْصَى الثُّغُورِ
ففي أرض العدو على طمر ... وفي أرض الترفه [2] فَوْقَ كُورِ
وَمَا حَازَ الثُّغُورَ سِوَاكَ خَلْقٌ ... من المتخلفين عَلَى الْأُمُورِ
وَكَانَ يَتَصَدَّقُ مِنْ صُلْبِ مَالِهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَإِذَا حَجَّ أَحَجَّ مَعَهُ مِائَةً مِنَ الْفُقَهَاءِ وَأَبْنَائِهِمْ وَإِذَا لَمْ يَحُجَّ أَحَجَّ ثَلَاثَمِائَةٍ بِالنَّفَقَةِ السَّابِغَةِ وَالْكُسْوَةِ التَّامَّةِ، وَكَانَ يُحِبُّ التَّشَبُّهَ بِجَدِّهِ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ إِلَّا فِي الْعَطَاءِ، فَإِنَّهُ كَانَ سَرِيعَ الْعَطَاءِ جَزِيلَهُ، وَكَانَ يُحِبُّ الْفُقَهَاءَ وَالشُّعَرَاءَ وَيُعْطِيهِمْ، ولا يضيع لديه بر ومعروف، وَكَانَ نَقْشُ خَاتَمِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَكَانَ يُصَلِّي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِائَةَ رَكْعَةٍ تَطَوُّعًا، إِلَى أَنْ فَارَقَ الدُّنْيَا، إِلَّا أَنْ تَعْرِضَ لَهُ عِلَّةٌ، وَكَانَ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ هُوَ الَّذِي يُضْحِكُهُ، وَكَانَ عِنْدَهُ فَضِيلَةٌ بِأَخْبَارِ الْحِجَازِ وَغَيْرِهَا، وَكَانَ الرَّشِيدُ قَدْ أَنْزَلَهُ فِي قَصْرِهِ وَخَلَطَهُ بِأَهْلِهِ. نَبَّهَهُ الرَّشِيدُ يَوْمًا إِلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ فَقَامَ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ أَدْرَكَ الرَّشِيدَ وَهُوَ يَقْرَأُ وَما لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي 36: 22 [يس: 22] فَقَالَ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ:
لَا أَدْرِي وَاللَّهِ. فَضَحِكَ الرَّشِيدُ وَقَطَعَ الصَّلَاةَ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِ وَقَالَ: وَيْحَكَ اجْتَنِبِ الصَّلَاةَ وَالْقُرْآنَ وقل فيما عَدَا ذَلِكَ. وَدَخَلَ يَوْمًا الْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَلَى الرَّشِيدِ وَمَعَهُ بَرْنِيَّةٌ مِنْ فِضَّةٍ فِيهَا غَالِيَةٌ مِنْ أَحْسَنِ الطِّيبِ، فَجَعَلَ يَمْدَحُهَا وَيَزِيدُ فِي شُكْرِهَا، وَسَأَلَ مِنَ الرَّشِيدِ أَنْ يَقْبَلَهَا مِنْهُ فَقَبِلَهَا فَاسْتَوْهَبَهَا مِنْهُ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ فَوَهَبَهَا لَهُ، فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ: وَيَحَكَ! جِئْتُ بشيء منعته نفسي وأهلي وآثرت به أمير المؤمنين سيدي فأخذته. فحلف ابن أبي مَرْيَمَ لَيُطَيِّبَنَّ بِهِ اسْتَهُ، ثُمَّ أَخَذَ مِنْهَا شَيْئًا فَطَلَى بِهِ اسْتَهُ وَدَهَنَ جَوَارِحَهُ كُلَّهَا مِنْهَا، وَالرَّشِيدُ لَا يَتَمَالَكُ نَفْسَهُ مِنَ الضَّحِكِ. ثم قال لخادم قائم عندهم يُقَالُ لَهُ خَاقَانُ: اطْلُبْ لِي غُلَامِي. فَقَالَ الرَّشِيدُ: ادْعُ لَهُ غُلَامَهُ. فَقَالَ لَهُ: خُذْ هَذِهِ الْغَالِيَةَ وَاذْهَبْ بِهَا إِلَى سِتِّكَ فَمُرْهَا فَلْتُطَيِّبْ مِنْهَا اسْتَهَا حَتَّى أَرْجِعَ إِلَيْهَا فَأَنِيكَهَا. فَذَهَبَ الضَّحِكُ بِالرَّشِيدِ كُلَّ مَذْهَبٍ، ثُمَّ أَقْبَلَ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ عَلَى الْعَبَّاسِ بْنِ مُحَمَّدٍ فَقَالَ لَهُ: جِئْتَ بِهَذِهِ الْغَالِيَةِ تَمْدَحُهَا عِنْدَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِي مَا تُمْطِرُ السَّمَاءُ شَيْئًا وَلَا تُنْبِتُ الْأَرْضُ شَيْئًا إِلَّا وَهُوَ تَحْتَ تَصَرُّفِهِ وَفِي يَدِهِ؟ وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا أَنْ قِيلَ لِمَلَكِ الْمَوْتِ: مَا أَمَرَكَ بِهِ هَذَا فَأَنْفِذْهُ. وَأَنْتَ تَمْدَحُ هَذِهِ الْغَالِيَةَ عِنْدَهُ كَأَنَّهُ بَقَّالٌ أَوْ خَبَّازٌ أَوْ طَبَّاخٌ أَوْ تَمَّارٌ، فَكَادَ الرَّشِيدُ يَهْلِكُ مِنْ شِدَّةِ الضَّحِكِ. ثُمَّ أَمَرَ لِابْنِ أَبِي مَرْيَمَ بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ.
__________
[1] في الطبري 10/ 99: أبو المعالي الكلابي.
[2] في فوات الوفيات 4/ 225: الثنية.

(10/214)


وَقَدْ شَرِبَ الرَّشِيدُ يَوْمًا دَوَاءً فَسَأَلَهُ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَنْ يَلِيَ الْحِجَابَةَ فِي هَذَا اليوم، ومهما حصل له كان بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَوَلَّاهُ الْحِجَابَةَ، فَجَاءَتِ الرُّسُلُ بِالْهَدَايَا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، مِنْ عِنْدِ زبيدة والبرامكة وكبار الأمراء، وكان حَاصِلُهُ فِي هَذَا الْيَوْمِ سِتِّينَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَسَأَلَهُ الرَّشِيدُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي عَمَّا تَحَصَّلَ فأخبره بذلك، فقال له: فأين نصيبي؟ فقال ابن أبي مريم: قَدْ صَالَحْتُكَ عَلَيْهِ بِعَشَرَةِ آلَافِ تُفَّاحَةٍ.
وَقَدِ اسْتَدْعَى إِلَيْهِ أَبَا مُعَاوِيَةَ الضَّرِيرَ مُحَمَّدَ بْنَ حازم لِيَسْمَعَ مِنْهُ الْحَدِيثَ قَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ: مَا ذكرت عنده حديثا إِلَّا قَالَ صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى سَيِّدِي، وإذا سمع فيه موعظة بكى حَتَّى يَبُلَّ الثَّرَى، وَأَكَلْتُ عِنْدَهُ يَوْمًا ثُمَّ قُمْتُ لِأَغْسِلَ يَدِي فَصَبَّ الْمَاءَ عَلَيَّ وَأَنَا لَا أَرَاهُ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا مُعَاوِيَةَ أتدري من يصب عليك الماء؟ قلت: لا. قال: يصب عليك أمير المؤمنين. قال أبو معاوية: فدعوت له، فقال:
إنما أردت تعظيم العلم. وحدثه أَبُو مُعَاوِيَةَ يَوْمًا عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هريرة بحديث احتجاج آدَمُ وَمُوسَى، فَقَالَ عَمُّ الرَّشِيدِ: أَيْنَ الْتَقَيَا يَا أَبَا مُعَاوِيَةَ؟ فَغَضِبَ الرَّشِيدُ مِنْ ذَلِكَ غَضَبًا شَدِيدًا، وَقَالَ: أَتَعْتَرِضُ عَلَى الْحَدِيثِ؟ عَلَيَّ بِالنَّطْعِ وَالسَّيْفِ، فَأُحْضِرَ ذَلِكَ فَقَامَ النَّاسُ إِلَيْهِ يَشْفَعُونَ فِيهِ فَقَالَ الرَّشِيدُ: هَذِهِ زَنْدَقَةٌ. ثُمَّ أمر بسجنه وأقسم أن لَا يَخْرُجُ حَتَّى يُخْبِرَنِي مَنْ أَلْقَى إِلَيْهِ هذا، فأقسم عمه بالأيمان المغلظة ما قال هذا له أحد، وإنما كانت هذه الكلمة بادرة مني وأنا أستغفر الله وأتوب إليه منها. فأطلقه.
وقال بعضهم: دخلت على الرَّشِيدِ وَبَيْنَ يَدَيْهِ رَجُلٌ مَضْرُوبُ الْعُنُقِ وَالسَّيَّافُ يَمْسَحُ سَيْفَهُ فِي قَفَا الرَّجُلِ الْمَقْتُولِ، فَقَالَ الرشيد: قتلته لأنه قال القرآن مخلوق، فقتله على ذلك قربة إلى الله عز وجل.
وقال بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ انْظُرْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَيُقَدِّمُونَهُمَا فأكرمهم بعز سُلْطَانُكَ، فَقَالَ الرَّشِيدُ: أَوَلَسْتُ كَذَلِكَ؟ أَنَا وَاللَّهِ كَذَلِكَ أُحِبُّهُمَا وَأُحِبُّ مَنْ يُحِبُّهُمَا وَأُعَاقِبُ مَنْ يبغضهما. وقال له ابن السماك: إن الله لم يجعل أحدا فَوْقَكُ فَاجْتَهِدْ أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِمْ أَحَدٌ أَطْوَعَ إِلَى اللَّهِ مِنْكَ. فَقَالَ: لَئِنْ كُنْتَ أَقْصَرْتَ فِي الْكَلَامِ لَقَدْ أَبْلَغْتَ فِي الْمَوْعِظَةِ.
وقال له الفضيل بن عياض- أو غيره- إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ أَحَدًا مِنْ هَؤُلَاءِ فوقك في الدنيا، فاجهد نفسك أن لا يكون أحد منهم فوقك في الآخرة، فاكدح لنفسك وأعملها في طاعة ربك. وَدَخَلَ عَلَيْهِ ابْنُ السِّمَاكِ يَوْمًا فَاسْتَسْقَى الرَّشِيدُ فَأُتِيَ بِقُلَّةٍ فِيهَا مَاءٌ مُبَرَّدٌ فَقَالَ لِابْنِ السِّمَاكِ: عِظْنِي. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! بِكُمْ كُنْتَ مُشْتَرِيًا هَذِهِ الشَّرْبَةَ لَوْ مُنِعْتَهَا؟ فَقَالَ: بِنِصْفِ مُلْكِي. فَقَالَ: اشْرَبْ هَنِيئًا، فَلَمَّا شَرِبَ قَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ مُنِعْتَ خُرُوجَهَا مِنْ بَدَنِكَ بكم كنت تشتري ذلك؟ قال بنصف ملكي الآخر.
فقال: إن ملكا قيمة نصفه شربة ماء، وقيمة نصفه الآخر بولة، لَخَلِيقٌ أَنْ لَا يُتَنَافَسَ فِيهِ. فَبَكَى هَارُونُ.

(10/215)


وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: ثِنَا الرِّيَاشِيُّ سَمِعْتُ الْأَصْمَعِيَّ يَقُولُ: دَخَلْتُ عَلَى الرَّشِيدِ وَهُوَ يُقَلِّمُ أَظْفَارَهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقُلْتُ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: أَخْذُ الْأَظْفَارِ يَوْمَ الْخَمِيسِ مِنَ السُّنَّةِ، وَبَلَغَنِي أَنَّ أَخْذَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ يَنْفِي الْفَقْرَ. فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَوَ تَخْشَى الْفَقْرَ؟ فَقَالَ: يَا أَصْمَعِيُّ وَهَلْ أَحَدٌ أَخْشَى لِلْفَقْرِ مِنَى؟.
وروى ابن عساكر عن إبراهيم الْمَهْدِيِّ قَالَ: كُنْتُ يَوْمًا عِنْدَ الرَّشِيدِ فَدَعَا طَبَّاخَهُ فَقَالَ: أَعِنْدَكَ فِي الطَّعَامِ لَحْمُ جَزُورٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَلْوَانٌ مِنْهُ. فَقَالَ: أَحْضِرْهُ مَعَ الطَّعَامِ فَلَمَّا وُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ أَخَذَ لُقْمَةً مِنْهُ فَوَضَعَهَا فِي فِيهِ فَضَحِكَ جَعْفَرٌ الْبَرْمَكِيُّ، فَتَرَكَ الرَّشِيدُ مَضْغَ اللُّقْمَةِ وَأَقْبَلَ عَلَيْهِ فَقَالَ: مِمَّ تَضْحَكُ؟ قَالَ: لَا شَيْءَ يَا أَمِيرَ المؤمنين، ذكرت كلاما بيني وبين جاريتي البارحة. فقال له: بحقي عليك لما أخبرتني به. فقال: حَتَّى تَأْكُلَ هَذِهِ اللُّقْمَةَ، فَأَلْقَاهَا مِنْ فِيهِ وَقَالَ: وَاللَّهِ لَتُخْبِرَنِّي. فَقَالَ:
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بِكَمْ تَقُولُ إِنَّ هَذَا الطَّعَامَ مِنْ لَحْمِ الْجَزُورِ يُقَوَّمُ عَلَيْكَ؟ قَالَ: بِأَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ. قَالَ: لَا وَاللَّهِ، يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بِأَرْبَعِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ. قَالَ: وَكَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ: إِنَّكَ طلبت من طباخك لَحْمَ جَزُورٍ قَبْلَ هَذَا الْيَوْمِ بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ فَلَمْ يُوجَدْ عِنْدَهُ، فَقُلْتُ: لَا يَخْلُوَنَّ الْمَطْبَخُ مِنْ لَحْمِ جَزُورٍ، فَنَحْنُ نَنْحَرُ كُلَّ يَوْمٍ جزور لأجل مطبخ أمير المؤمنين، لأنا لا نشتري من السوق لحم جزور. فَصُرِفَ فِي لَحْمِ الْجَزُورِ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ إِلَى هَذَا الْيَوْمِ أَرْبَعُمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَلَمْ يطلب أمير المؤمنين لحم جزور إِلَّا هَذَا الْيَوْمَ. قَالَ جَعْفَرٌ: فَضَحِكْتُ لِأَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّمَا نَالَهُ مِنْ ذَلِكَ هَذِهِ اللُّقْمَةُ. فَهِيَ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَرْبَعِمِائَةِ أَلْفٍ.
قال: فبكى الرشيد بكاء شديدا وأمر برفع السماط من بين يديه، وَأَقْبَلَ عَلَى نَفْسِهِ يُوَبِّخُهَا وَيَقُولُ: هَلَكْتَ وَاللَّهِ يا هارون. وَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى آذَنَهُ الْمُؤَذِّنُونَ بِصَلَاةِ الظُّهْرِ، فَخَرَجَ فَصَلَّى بِالنَّاسِ ثُمَّ رَجَعَ يَبْكِي حتى آذنه المؤذنون بصلاة العصر، وَقَدْ أَمَرَ بِأَلْفَيْ أَلْفٍ تُصْرَفُ إِلَى فُقَرَاءِ الْحَرَمَيْنِ فِي كُلِّ حَرَمٍ أَلْفُ أَلْفٍ صَدَقَةً، وَأَمَرَ بِأَلْفَيْ أَلْفٍ يَتَصَدَّقُ بِهَا فِي جَانِبَيْ بَغْدَادَ الْغَرْبِيِّ وَالشَّرْقِيِّ، وَبِأَلْفِ أَلْفٍ يُتَصَدَّقُ بِهَا على فقراء الكوفة والبصرة. ثم خرج إلى صلاة الْعَصْرِ ثُمَّ رَجَعَ يَبْكِي حَتَّى صَلَّى الْمَغْرِبَ، ثُمَّ رَجَعَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ أَبُو يُوسُفَ الْقَاضِي فَقَالَ: مَا شَأْنُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بَاكِيًا فِي هَذَا الْيَوْمِ؟ فَذَكَرَ أَمْرَهُ وَمَا صَرَفَ مِنَ الْمَالِ الْجَزِيلِ لِأَجْلِ شَهْوَتِهِ، وَإِنَّمَا نَالَهُ مِنْهَا لُقْمَةٌ. فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ لِجَعْفَرٍ: هَلْ كان ما تذبحونه مِنَ الْجَزُورِ يَفْسَدُ، أَوْ يَأْكُلُهُ النَّاسُ؟ قَالَ: بَلْ يَأْكُلُهُ النَّاسُ. فَقَالَ: أَبْشِرْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بِثَوَابِ اللَّهِ فِيمَا صَرَفْتَهُ مِنَ الْمَالِ الَّذِي أَكَلَهُ الْمُسْلِمُونَ فِي الْأَيَّامِ الْمَاضِيَةِ، وَبِمَا يسره الله عليك من الصدقة، وَبِمَا رَزَقَكَ اللَّهُ مِنْ خَشْيَتِهِ وَخَوْفِهِ فِي هذا اليوم، وقد قال تَعَالَى وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ 55: 46 [الرحمن: 46] . فَأَمَرَ لَهُ الرَّشِيدُ بِأَرْبَعِمِائَةِ أَلْفٍ. ثُمَّ اسْتَدْعَى بطعام فأكل منه فكان غداؤه في هذا اليوم عشاء.

(10/216)


وَقَالَ عَمْرُو بْنُ بَحْرٍ الْجَاحِظُ: اجْتَمَعَ لِلرَّشِيدِ مِنَ الْجِدِّ وَالْهَزْلِ مَا لَمْ يَجْتَمِعْ لِغَيْرِهِ من بعده، كَانَ أَبُو يُوسُفَ قَاضِيَهُ، وَالْبَرَامِكَةُ وُزَرَاءَهُ، وَحَاجِبُهُ الْفَضْلُ بْنُ الرَّبِيعِ أَنْبَهُ النَّاسِ وَأَشَدُّهُمْ تَعَاظُمًا، ونديمه عمر بن الْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ صَاحِبُ الْعَبَّاسِيَّةِ. وَشَاعِرُهُ مَرْوَانُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ، وَمُغَنِّيهِ إِبْرَاهِيمُ الْمَوْصِلِيُّ وَاحِدُ عصره في صناعته، ومضحكه ابن أبى مريم، وَزَامِرُهُ بَرْصُومَا. وَزَوْجَتُهُ أُمُّ جَعْفَرٍ- يَعْنِي زُبَيْدَةَ- وَكَانَتْ أَرْغَبَ النَّاسِ فِي كُلِّ خَيْرٍ وَأَسْرَعَهُمْ إِلَى كُلِّ بِرٍّ وَمَعْرُوفٍ، أَدْخَلَتِ الْمَاءَ الْحَرَمَ بَعْدَ امْتِنَاعِهِ مِنْ ذَلِكَ، إِلَى أَشْيَاءَ مِنَ المعروف أجراها الله على يدها.
وَرَوَى الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ أَنَّ الرَّشِيدَ كَانَ يَقُولُ: إنا من قوم عظمت رزيتهم، وحسنت بعثتهم، وَرِثْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبقيت فينا خلافة الله. وَبَيْنَمَا الرَّشِيدُ يَطُوفُ يَوْمًا بِالْبَيْتِ إِذْ عَرَضَ لَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُكَلِّمَكَ بِكَلَامٍ فِيهِ غِلْظَةٌ، فَقَالَ لَا وَلَا نِعْمَتْ عَيْنٌ قَدْ بَعَثَ اللَّهُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ إِلَى مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنِّي فَأَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا. وَعَنْ شُعَيْبِ بْنِ حَرْبٍ قَالَ: رَأَيْتُ الرَّشِيدَ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: قَدْ وَجَبَ عَلَيْكَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ المنكر، فخوفتنى فقالت: إِنَّهُ الْآنَ يَضْرِبُ عُنُقَكَ. فَقُلْتُ: لَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ، فَنَادَيْتُهُ فَقُلْتُ:
يَا هَارُونُ! قَدْ أَتْعَبْتَ الْأُمَّةَ وَالْبَهَائِمَ. فَقَالَ: خُذُوهُ. فَأُدْخِلْتُ عَلَيْهِ وَفِي يَدِهِ لَتٌّ مِنْ حَدِيدٍ يَلْعَبُ بِهِ وهو جالس على كرسي، فقال: من الرَّجُلُ؟ فَقُلْتُ: رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. فَقَالَ ثَكِلَتْكَ أمك ممن أنت؟ فقلت: من الأنبار. فَقَالَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى أَنْ دَعَوْتَنِي بِاسْمِي؟ قال: فخطر ببالي شيء لم يخطر قَبْلَ ذَلِكَ، فَقُلْتُ: أَنَا أَدْعُو اللَّهَ بِاسْمِهِ يا الله، أَفَلَا أَدْعُوكَ بِاسْمِكَ؟ وَهَذَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ دعا أحب خلقه إليه بأسمائهم: يا آدم، يا نوح، يا هود، يا صالح، يا إبراهيم، يا موسى يا عيسى، يا محمد، وكنى أبغض خلقه إليه فقال: تبت يدا أبى لهب. فَقَالَ الرَّشِيدُ: أَخْرِجُوهُ أَخْرِجُوهُ.
وَقَالَ لَهُ ابْنُ السماك يوما: إنك تموت وحدك، وتدخل القبر وحدك، وتبعث منه وحدك، فاحذر المقام بين يدي الله عز وجل، وَالْوُقُوفَ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، حِينَ يُؤْخَذُ بِالْكَظَمِ وتزل المقدم، ويقع الندم، فلا توبة تقبل، وَلَا عَثْرَةَ تُقَالُ، وَلَا يُقْبَلُ فِدَاءٌ بِمَالٍ. فَجَعَلَ الرَّشِيدُ يَبْكِي حَتَّى عَلَا صَوْتُهُ فَقَالَ يَحْيَى بْنُ خَالِدٍ لَهُ: يَا ابْنَ السِّمَاكِ! لَقَدْ شَقَقْتَ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ اللَّيْلَةَ. فَقَامَ فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ وَهُوَ يَبْكِي. وَقَالَ لَهُ الفضيل بن عياض- في كلام كثير ليلة وعظه بِمَكَّةَ-: يَا صَبِيحَ الْوَجْهِ إِنَّكَ مَسْئُولٌ عَنْ هؤلاء كلهم، وقد قال تعالى وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ 2: 166 قَالَ حَدَّثَنَا لَيْثٌ عَنْ مُجَاهِدٍ:
الْوُصَلَاتُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا. فَبَكَى حَتَّى جَعَلَ يشهق. وقال الفضيل: اسْتَدْعَانِي الرَّشِيدُ يَوْمًا وَقَدْ زَخْرَفَ مَنَازِلَهُ وَأَكْثَرَ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ وَاللَّذَّاتِ فِيهَا، ثُمَّ اسْتَدْعَى أَبَا الْعَتَاهِيَةِ فَقَالَ لَهُ: صِفْ لَنَا مَا نَحْنُ فيه من العيش والنعيم فقال: -

(10/217)


عِشْ مَا بَدَا لَكَ سَالِمًا ... فِي ظِلِّ شاهقة القصور
تسعى عليك بما اشتهيت ... لدى الرواح إلى الْبُكُورِ
فَإِذَا النُّفُوسُ تَقَعْقَعَتْ ... عَنْ ضِيقِ حَشْرَجَةِ الصُّدُورِ
فَهُنَاكَ تَعْلَمُ مُوقِنًا ... مَا كُنْتَ إِلَّا في غرور
قال: فبكى الرشيد بكاء كثيرا شديدا. فقال له الفضل بن يحيى: دعاك أمير المؤمنين تسره فَأَحْزَنْتَهُ؟ فَقَالَ لَهُ الرَّشِيدُ: دَعْهُ فَإِنَّهُ رَآنَا في عمر فَكَرِهَ أَنْ يَزِيدَنَا عَمًى. وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَنَّ الرَّشِيدَ قَالَ لِأَبِي الْعَتَاهِيَةِ: عِظْنِي بِأَبْيَاتٍ من الشعر وأوجز فقال: -
لَا تَأْمَنِ الْمَوْتَ فِي طَرَفٍ وَلَا نَفَسٍ ... ولو تمتعت بالحجاب والحرس
واعلم بأن سهام الموت صائبة ... لِكُلِّ مُدَّرِعٍ مِنْهَا وَمُتَّرِسِ
تَرْجُو النَّجَاةَ وَلَمْ تَسْلُكْ مَسَالِكَهَا ... إِنَّ السَّفِينَةَ لَا تَجْرِي عَلَى الْيَبَسِ
قَالَ: فَخَرَّ الرَّشِيدُ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ. وَقَدْ حَبَسَ الرَّشِيدُ مَرَّةً أَبَا الْعَتَاهِيَةِ وَأَرْصَدَ عَلَيْهِ مَنْ يَأْتِيهِ بِمَا يَقُولُ، فَكَتَبَ مَرَّةً عَلَى جدار الحبس:
أما والله إن الظلم شوم ... وَمَا زَالَ الْمُسِيءُ هُوَ الظَّلُومُ
إِلَى دَيَّانِ يَوْمِ الدِّينِ نَمْضِي ... وَعِنْدَ اللَّهِ تَجْتَمِعُ الْخُصُومُ
قَالَ: فَاسْتَدْعَاهُ وَاسْتَجْعَلَهُ فِي حِلٍّ وَوَهَبَهُ أَلْفَ دينار وأطلقه. وقال الحسن بن أبى الْفَهْمِ: ثِنَا مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادٍ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى الرَّشِيدِ فَقَالَ: مَا خَبَرُكَ؟ فَقُلْتُ:
بِعَيْنِ اللَّهِ مَا تَخْفَى الْبُيُوتُ ... فَقَدْ طَالَ التَّحَمُّلُ وَالسُّكُوتُ
فَقَالَ: يَا فُلَانُ مِائَةُ أَلْفٍ لِابْنِ عُيَيْنَةَ تُغْنِيهِ وَتُغْنِي عَقِبَهُ، وَلَا تَضُرُّ الرَّشِيدَ شَيْئًا. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ:
كُنْتُ مَعَ الرَّشِيدِ فِي الْحَجِّ فَمَرَرْنَا بِوَادٍ فإذا على شفيره امرأة حسناء بين يديها قصعة وهي تسأل منها وهي تقول: -
طَحْطَحَتْنَا طَحَاطِحُ الْأَعْوَامِ ... وَرَمَتْنَا حَوَادِثُ الْأَيَّامِ
فَأَتَيْنَاكُمْ نمد أكفّا ... نائلات لزادكم وَالطَّعَامِ
فَاطْلُبُوا الْأَجْرَ وَالْمَثُوبَةَ فِينَا ... أَيُّهَا الزَّائِرُونَ بَيْتَ الْحَرَامِ
مَنْ رَآنِي فَقَدْ رَآنِي وَرَحْلِي ... فَارْحَمُوا غُرْبَتِي وَذُلَّ مَقَامِي
قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: فَذَهَبْتُ إِلَى الرَّشِيدِ فَأَخْبَرْتُهُ بِأَمْرِهَا فَجَاءَ بِنَفْسِهِ حَتَّى وَقَفَ عَلَيْهَا فَسَمِعَهَا فَرَحِمَهَا وَبَكَى وَأَمَرَ مَسْرُورًا الْخَادِمَ أَنْ يَمْلَأَ قَصْعَتَهَا ذَهَبًا، فَمَلَأَهَا حَتَّى جَعَلَتْ تَفِيضُ يَمِينًا وَشِمَالًا. وَسَمِعَ مَرَّةً الرَّشِيدُ أعرابيا يحدو إبله في طريق الحج:

(10/218)


أيها المجمع هما لاتهم ... أنت تقضى ولك الحمى تحم
كيف ترقيك وقد جف القلم ... حطت الصحة منك والسقم
فقال الرشيد لبعض خدمه: مَا مَعَكَ؟ قَالَ: أَرْبَعُمِائَةِ دِينَارٍ، فَقَالَ: ادْفَعْهَا إِلَى هَذَا الْأَعْرَابِيِّ.
فَلَمَّا قَبَضَهَا ضَرَبَ رَفِيقُهُ بِيَدِهِ عَلَى كَتِفِهِ وَقَالَ مُتَمَثِّلًا:
وَكُنْتُ جَلِيسَ قعقعاع بْنِ عَمْرٍو ... وَلَا يَشْقَى بِقَعْقَاعٍ جَلِيسُ
فَأَمَرَ الرَّشِيدُ بَعْضَ الْخَدَمِ أَنْ يُعْطِيَ الْمُتَمَثِّلَ مَا مَعَهُ مِنَ الذَّهَبِ فَإِذَا مَعَهُ مِائَتَا دِينَارٍ. قال أبو عبيد إن [أصل] هذا المثل أن معاوية بن أبى سفيان أهديت له هدية جامات من ذهب فرقها عَلَى جُلَسَائِهِ وَإِلَى جَانِبِهِ قَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو، وَإِلَى جَانِبِ الْقَعْقَاعِ أَعْرَابِيٌّ لَمْ يَفْضُلْ لَهُ مِنْهَا شَيْءٌ. فَأَطْرَقَ الْأَعْرَابِيُّ حَيَاءً فَدَفَعَ إِلَيْهِ الْقَعْقَاعُ الْجَامَ الَّذِي حَصَلَ لَهُ، فَنَهَضَ الْأَعْرَابِيُّ، وَهُوَ يَقُولُ: وَكُنْتُ جَلِيسَ قَعْقَاعِ بْنِ عَمْرٍو إلى آخره.
وخرج الرشيد يوما من عنده زُبَيْدَةَ وَهُوَ يَضْحَكُ فَقِيلَ لَهُ مِمَّ تَضْحَكُ يا أمير المؤمنين؟ فقال:
دخلت اليوم إلى هذه المرأة- يعنى زبيدة- فأقلت عندها وبت، فما استيقظت إلا على صوت ذهب يصب، قَالُوا: هَذِهِ ثَلَاثُمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ قَدِمَتْ مِنْ مصر، فقالت زبيدة: هبها لي يا ابن عَمِّ، فَقُلْتُ: هِيَ لَكِ، ثُمَّ مَا خَرَجْتُ حتى عربدت على وقالت: أي خير رأيته مِنْكَ؟ وَقَالَ الرَّشِيدُ مَرَّةً لِلْمُفَضَّلِ الضَّبِّيِّ: مَا أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي الذِّئْبِ، وَلَكَ هَذَا الْخَاتَمُ، وَشِرَاؤُهُ أَلْفٌ وَسِتُّمِائَةِ دِينَارٍ، فَأَنْشَدَ قَوْلَ الشاعر:
ينام بإحدى مقلتيه وينقى ... بأخرى الرزايا فهو يقظان نائم
فَقَالَ: مَا قُلْتَ هَذَا إِلَّا لِتَسْلُبَنَا الْخَاتَمَ. ثُمَّ أَلْقَاهُ إِلَيْهِ فَبَعَثَتْ زُبَيْدَةُ فَاشْتَرَتْهُ مِنْهُ بِأَلْفٍ وَسِتِّمِائَةِ دِينَارٍ، وَبَعَثَتْ بِهِ إِلَى الرَّشِيدِ وَقَالَتْ: إِنِّي رَأَيْتُكَ مُعْجَبًا بِهِ. فَرَدَّهُ إِلَى الْمُفَضَّلِ وَالدَّنَانِيرَ، وَقَالَ:
مَا كُنَّا لِنَهَبَ شَيْئًا وَنَرْجِعَ فِيهِ.
وَقَالَ الرَّشِيدُ يَوْمًا لِلْعَبَّاسِ بْنِ الأحنف: أي بيت قالت الْعَرَبُ أَرَقُّ؟ فَقَالَ: قَوْلُ جَمِيلٍ فِي بُثَيْنَةَ:
أَلَا لَيْتَنِي أَعْمَى أَصَمُّ تَقُودُنِي ... بُثَيْنَةُ لَا يخفى على كلامها
فقال له الرشيد: أرق منه قولك في مثل هذا:
طَافَ الْهَوَى فِي عِبَادِ اللَّهِ كُلِّهِمْ ... حَتَّى إِذَا مَرَّ بِي مِنْ بَيْنِهِمْ وَقَفَا
فَقَالَ له الْعَبَّاسُ: فَقَوْلُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَرَقُّ مِنْ هَذَا كُلِّهِ:
أَمَا يَكْفِيكِ أَنَّكِ تَمْلِكِينِي ... وَأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ عَبِيدِي
وَأَنَّكِ لَوْ قَطَعْتِ يَدِي وَرِجْلِي ... لَقُلْتُ مِنَ الْهَوَى أَحْسَنْتِ زِيدِي
قَالَ: فَضَحِكَ الرَّشِيدُ وَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ. وَمِنْ شَعْرِ الرَّشِيدِ فِي ثَلَاثِ حَظِيَّاتٍ كُنَّ عِنْدَهُ مِنَ الْخَوَاصِّ

(10/219)


قوله:
ملك الثلاث الناشئات عِنَانِي ... وَحَلَلْنَ مِنْ قَلْبِي بِكُلِّ مَكَانِ
مَا لِي تُطَاوِعُنِي الْبَرِيَّةُ كُلُّهَا ... وَأُطِيعُهُنَّ وَهُنَّ فِي عِصْيَانِي
مَا ذَاكَ إِلَّا أَنَّ سُلْطَانَ الْهَوَى ... وبه قوين أعز من سلطاني
ومما أورد له صاحب العقد في كتابه:
تبدي الصدود وتخفى الحب عاشقة ... فالنفس راضية والطرف غضبان
وذكر ابن جرير وغيره أَنَّهُ كَانَ فِي دَارِ الرَّشِيدِ مِنَ الْجَوَارِي وَالْحَظَايَا وَخَدَمِهِنَّ وَخَدَمِ زَوْجَتِهِ وَأَخَوَاتِهِ أَرْبَعَةُ آلَافِ جارية، وأنهن حضرن يوما بين يديه فغنته المطربات منهن فطرب جدا، وأمر بمال فنثر عليهنّ. وكان مبلغ ما حصل لكل واحدة منهن ثلاثة آلاف دِرْهَمٍ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ.
رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ أيضا.
وَرَوَى أَنَّهُ اشْتَرَى جَارِيَةً مِنَ الْمَدِينَةِ فَأُعْجِبَ بِهَا جِدًّا فَأَمَرَ بِإِحْضَارِ مَوَالِيهَا وَمَنْ يَلُوذُ بهم ليقضى حوائجهم، فقدموا عليه بثمانين نفسا فأمر الحاجب- وهو الْفَضْلَ بْنَ الرَّبِيعِ- أَنْ يَتَلَقَّاهُمْ وَيَكْتُبَ حَوَائِجَهُمْ، فكان فيهم رجل قد أقام بالمدينة لأنه كان يهوى تلك الجارية، فبعثت إليه فأتى به فقال له الفضل: مَا حَاجَتُكَ؟ قَالَ: حَاجَتِي أَنْ يُجْلِسَنِي أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ فُلَانَةٍ فَأَشْرَبَ ثَلَاثَةَ أَرْطَالٍ مِنْ خمر، وتغنيني ثَلَاثَةَ أَصْوَاتٍ. فَقَالَ: أَمَجْنُونٌ أَنْتَ؟ فَقَالَ: لَا ولكن اعرض حاجتي هذه على أمير المؤمنين. فذكر للرشيد ذلك فَأَمَرَ بِإِحْضَارِهِ وَأَنْ تَجْلِسَ مَعَهُ الْجَارِيَةُ بِحَيْثُ ينظر إليهما ولا يريانه فجلست على كرسي والخدام بين يديها، وأجلس على كرسي فشرب رطلا وقال لها غنني:
خَلِيلَيَّ عُوجَا بَارَكَ اللَّهُ فِيكُمَا ... وَإِنْ لَمْ تَكُنْ هِنْدُ بِأَرْضِكُمَا قَصْدَا
وَقُولَا لَهَا لَيْسَ الضَّلَالُ أَجَازَنَا ... وَلَكِنَّنَا جُزْنَا لِنَلْقَاكُمْ عَمْدَا
غَدًا يكثر البادون مِنَّا وَمِنْكُمُ ... وَتَزْدَادُ دَارِي مِنْ دِيَارِكُمْ بُعْدَا
قال: فغنته ثم استعجله الخدم فشرب رطلا آخر، وقال: غنني جُعِلْتُ فِدَاكِ:
تَكَلَّمُ مِنَّا فِي الْوُجُوهِ عُيُونُنَا ... فَنَحْنُ سُكُوتٌ وَالْهَوَى يَتَكَلَّمُ
وَنَغْضَبُ أَحْيَانًا وَنَرْضَى بطرفنا ... وذلك فيما بيننا ليس يعلم
قال: فغنته. ثم شرب رطلا ثالثا وقال: غنني جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكِ:
أَحْسَنُ مَا كُنَّا تَفَرُّقُنَا ... وَخَانَنَا الدَّهْرُ وَمَا خُنَّا
فَلَيْتَ ذَا الدَّهْرَ لَنَا مَرَّةً ... عَادَ لَنَا يَوْمًا كَمَا كُنَّا
قَالَ ثُمَّ قَامَ الشَّابُّ إِلَى دَرَجَةٍ هُنَاكَ ثُمَّ أَلْقَى نَفْسَهُ مِنْ أَعْلَاهَا عَلَى أُمِّ رَأْسِهِ فَمَاتَ. فَقَالَ الرَّشِيدُ:
عَجِلَ الْفَتَى، وَاللَّهِ لو لم يعجل لوهبتها له.

(10/220)


وفضائل الرشيد ومكارمه كثيرة جدا. قد ذكر الأئمة من ذلك شيئا كثيرا فذكرنا منه أنموذجا صالحا. وَقَدْ كَانَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ يَقُولُ: لَيْسَ موت أحد أعز علينا من موت الرشيد، لما أتخوف بعده من الحوادث، وَإِنِّي لَأَدْعُو اللَّهَ أَنْ يَزِيدَ فِي عُمُرِهِ مِنْ عُمُرِي قَالُوا: فَلَمَّا مَاتَ الرَّشِيدُ وَظَهَرَتْ تلك الفتن والحوادث والاختلافات، وظهر القول بخلق القرآن، فعرفنا ما كان تخوفه الفضيل من ذلك. وقد تقدمت رؤياه لذلك الكف وتلك التربة الحمراء وقائل يقول: هذه تربة أمير المؤمنين.
فكان موته بِطُوسَ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّ الرَّشِيدَ رَأَى فِي مَنَامِهِ قَائِلًا يَقُولُ: كَأَنِّي بِهَذَا الْقَصْرِ قَدْ بَادَ أَهْلُهُ. الشِّعْرَ إِلَى آخِرِهِ.
وقد تقدم أن ذلك إنما رآه أخو مُوسَى الْهَادِي. وَأَبُوهُ مُحَمَّدٌ الْمَهْدِيُّ فاللَّه أَعْلَمُ.
وَقَدَّمْنَا أَنَّهُ أَمَرَ بِحَفْرِ قَبْرِهِ فِي حَيَاتِهِ، وأن تقرأ فيه ختمة تامة، وحمل حتى نظر إليه فجعل يقول:
إلى هنا تصير يا ابن آدَمَ. وَيَبْكِي، وَأَمَرَ أَنْ يُوَسَّعَ عِنْدَ صَدْرِهِ وَأَنْ يُمَدَّ مِنْ عِنْدِ رِجْلَيْهِ، ثُمَّ جَعَلَ يَقُولُ: مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سلطنيه ويبكى. وقيل: إنه لما احتضر قال: اللَّهمّ انْفَعْنَا بِالْإِحْسَانِ، وَاغْفِرْ لَنَا الْإِسَاءَةَ، يَا مَنْ لَا يَمُوتُ ارْحَمْ مَنْ يَمُوتُ. وَكَانَ مرضه بالدم، وقيل بالسيل، وجبريل الطبيب يكتم مَا بِهِ مِنَ الْعِلَّةِ، فَأَمَرَ الرَّشِيدُ رَجُلًا أَنْ يَأْخُذَ مَاءَهُ فِي قَارُورَةٍ وَيَذْهَبَ بِهِ إلى جبريل فيريه إياه، ولا يذكر له بول من هو، فان سأله قال: هو بول مريض عندنا. فلما رآه جبريل قَالَ لِرَجُلٍ عِنْدَهُ: هَذَا مِثْلُ مَاءِ ذَلِكَ الرَّجُلِ. فَفَهِمَ صَاحِبُ الْقَارُورَةِ مَنْ عَنَى بِهِ، فَقَالَ لَهُ: باللَّه عَلَيْكَ أَخْبِرْنِي عَنْ حَالِ صَاحِبِ هَذَا الْمَاءِ، فَإِنَّ لِي عَلَيْهِ مَالًا، فان كان به رجاء وإلا أخذت مالي مِنْهُ. فَقَالَ: اذْهَبْ فَتَخَلَّصْ مِنْهُ فَإِنَّهُ لَا يَعِيشُ إِلَّا أَيَّامًا. فَلَمَّا جَاءَ وَأَخْبَرَ الرَّشِيدَ بَعَثَ إِلَى جِبْرِيلَ فَتَغَيَّبَ حَتَّى مَاتَ الرَّشِيدُ. وقد قال الرشيد وهو فِي هَذِهِ الْحَالِ:
إِنِّي بِطُوسَ مُقِيمٌ ... مَا لِي بِطُوسَ حَمِيمُ
أَرْجُو إِلَهِي لِمَا بِي ... فإنه بى رحيم
لقد أتى بى طوسا ... قَضَاؤُهُ الْمَحْتُومُ
وَلَيْسَ إِلَّا رِضَائِي ... وَالصَّبْرُ وَالتَّسْلِيمُ
مَاتَ بِطُوسَ يَوْمَ السَّبْتِ لِثَلَاثٍ خَلَوْنَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ، وَقِيلَ إِنَّهُ تُوُفِّيَ فِي جُمَادَى الْأُولَى، وَقِيلَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ خَمْسٌ، وَقِيلَ سبع، وقيل ثمان وأربعون سنة. ومدة خلافته ثَلَاثٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً وَشَهْرٌ وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا. وقيل ثلاثة أَشْهُرٍ.
وَصَلَّى عَلَيْهِ ابْنُهُ صَالِحٌ وَدُفِنَ بِقَرْيَةٍ من قرى طوس يقال لها سناباذ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَرَأْتُ عَلَى خِيَامِ الرَّشِيدِ بِسَنَابَاذَ وَالنَّاسُ مُنْصَرِفُونَ مِنْ طُوسَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ.
مَنَازِلُ الْعَسْكَرِ مَعْمُورَةٌ ... وَالْمَنْزِلُ الْأَعْظَمُ مَهْجُورُ
خَلِيفَةُ الله بدار البلى ... تسعى عَلَى أَجْدَاثِهِ الْمُورُ

(10/221)


أَقْبَلَتِ الْعِيرُ تُبَاهِي بِهِ ... وَانْصَرَفَتْ تَنْدُبُهُ الْعِيرُ
وَقَدْ رَثَاهُ أَبُو الشِّيصِ فَقَالَ:
غَرَبَتْ فِي الشَّرْقِ شَمْسٌ ... فَلَهَا الْعَيْنَانِ تَدْمَعْ
مَا رَأَيْنَا قَطُّ شَمْسًا ... غَرَبَتْ مِنْ حَيْثُ تَطْلُعْ
وَقَدْ رثاه الشعراء بقصائد. قال ابن الجوزي: وَقَدْ خَلَّفَ الرَّشِيدُ مِنَ الْمِيرَاثِ مَا لَمْ يخلفه أحد من الخلفاء، خلف من الجواهر والإناث وَالْأَمْتِعَةِ سِوَى الضِّيَاعِ وَالدُّورِ مَا قِيمَتُهُ مِائَةُ ألف ألف دينار، وخمسة وثلاثون أَلْفِ دِينَارٍ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَكَانَ فِي بيت المال سبعمائة أَلْفِ أَلْفٍ وَنَيِّفٍ.
ذِكْرُ زَوْجَاتِهِ وَبَنِيهِ وَبَنَاتِهِ
تَزَوَّجَ أُمَّ جَعْفَرٍ زُبَيْدَةَ بِنْتَ عَمِّهِ جَعْفَرِ بن أبى جعفر المنصور، تزوجها فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ الْمَهْدِيِّ، فَوَلَدَتْ لَهُ مُحَمَّدًا الْأَمِينَ. وَمَاتَتْ زبيدة فِي سَنَةِ سِتَّ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ كَمَا سَيَأْتِي.
وَتَزَوَّجَ [أَمَةَ الْعَزِيزِ] أُمَّ وَلَدٍ كَانَتْ لِأَخِيهِ مُوسَى الْهَادِي فَوَلَدَتْ لَهُ عَلِيَّ بْنَ الرَّشِيدِ. وَتَزَوَّجَ أُمَّ مُحَمَّدٍ بِنْتَ صَالِحٍ الْمِسْكِينِ، وَالْعَبَّاسَةَ بِنْتَ عَمِّهِ سُلَيْمَانَ بْنَ أَبِي جَعْفَرٍ فَزُفَّتَا إِلَيْهِ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ بِالرَّقَّةِ، وَتَزَوَّجَ عَزِيزَةَ بِنْتَ الْغِطْرِيفِ، وَهِيَ بِنْتُ خَالِهِ أَخِي أُمِّهِ الْخَيْزُرَانِ، وَتَزَوَّجَ ابْنَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ الْعُثْمَانِيَّةَ، ويقال لها الحرشية، لأنها ولدت بجرش باليمن. وتوفى عن أربع: زُبَيْدَةَ، وَعَبَّاسَةَ، وَابْنَةِ صَالِحٍ، وَالْعُثْمَانِيَّةِ هَذِهِ. وَأَمَّا الحظايا من الجوار فَكَثِيرٌ جِدًّا حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ كَانَ في داره أربعة آلاف جارية سراري حسان.
وَأَمَّا أَوْلَادُهُ الذُّكُورُ فَمُحَمَّدٌ الْأَمِينُ بْنُ زُبَيْدَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ الْمَأْمُونُ مِنْ جَارِيَةٍ اسْمُهَا مَرَاجِلُ، وَمُحَمَّدٌ أَبُو إِسْحَاقَ الْمُعْتَصِمُ مِنْ أُمِّ وَلَدٍ يُقَالُ لَهَا مَارِدَةُ، وَالْقَاسِمُ الْمُؤْتَمَنُ مِنْ جَارِيَةٍ يُقَالُ لَهَا قَصْفُ.
وَعَلِيٌّ أُمُّهُ أَمَةُ الْعَزِيزِ. وصالح من جارية اسمها رئم. وَمُحَمَّدٌ أَبُو يَعْقُوبَ. وَمُحَمَّدٌ أَبُو عِيسَى. وَمُحَمَّدٌ أَبُو الْعَبَّاسِ. وَمُحَمَّدٌ أَبُو عَلِيٍّ كُلُّ هَؤُلَاءِ من أمهات أولاده. وكان من الْإِنَاثِ سَكِينَةُ مِنْ قَصْفَ. وَأُمُّ حَبِيبٍ مِنْ ماردة. وأروى. وأم الحسن. وأم محمد وهي حَمْدُونَةَ وَفَاطِمَةُ وَأُمُّهَا غُصَصُ. وَأُمُّ سَلَمَةَ. وَخَدِيجَةُ.
وأم القاسم رملة. وَأُمُّ عَلِيٍّ. وَأُمُّ الْغَالِيَةِ. وَرَيْطَةُ كُلُّهُنَّ مِنْ أمهات أولاد.
خلافة محمد الأمين
ابن هَارُونَ الرَّشِيدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَهْدِيِّ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ لَمَّا تُوُفِّيَ الرَّشِيدُ بِطُوسَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ- أَعْنِي سَنَةَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ- كَتَبَ صَالِحُ بْنُ الرَّشِيدِ إِلَى أَخِيهِ ولى العهد من بعد أبيه محمد الأمين بن زبيدة وهو ببغداد يعلمه بوفاة أبيه ويعزيه فيه، فوصل الْكِتَابُ صُحْبَةَ رَجَاءٍ الْخَادِمِ وَمَعَهُ الْخَاتَمُ وَالْقَضِيبُ والبردة، يوم

(10/222)


الْخَمِيسِ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ، فَرَكِبَ الأمين من قصره الخلد إلى قصر أبى جعفر المنصور- وهو قصر الذهب- على شط بغداد، فَصَلَّى بِالنَّاسِ ثُمَّ صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَخَطَبَهُمْ وَعَزَّاهُمْ فِي الرَّشِيدِ، وَبَسَطَ آمَالَ النَّاسِ وَوَعَدَهُمُ الْخَيْرَ. فبايعه الخواص من قومه ووجوه بنى هاشم والأمراء، وأمر بصرف أعطيات الجند عن سنتين، ثم نزل وأمر عمه سليمان بن جعفر أن يأخذ له البيعة مِنْ بَقِيَّةِ النَّاسِ فَلَمَّا انْتَظَمَ أَمْرُ الْأَمِينِ واستقام حاله حَسَدَهُ أَخُوهُ الْمَأْمُونُ وَوَقَعَ الْخُلْفُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
ذكر اختلاف الأمين والمأمون
كان السبب في ذلك أن الرشيد لما وَصَلَ إِلَى أَوَّلِ بِلَادِ خُرَاسَانَ وَهَبَ جَمِيعَ ما فيها مِنَ الْحَوَاصِلِ وَالدَّوَابِّ وَالسِّلَاحِ لِوَلَدِهِ الْمَأْمُونِ، وَجَدَّدَ لَهُ الْبَيْعَةَ، وَكَانَ الْأَمِينُ قَدْ بَعَثَ بَكْرَ بْنَ الْمُعْتَمِرِ بِكُتُبٍ فِي خِفْيَةٍ لِيُوَصِّلَهَا إِلَى الْأُمَرَاءِ إِذَا مَاتَ الرَّشِيدُ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ الرَّشِيدُ نَفَذَتِ الْكُتُبُ إِلَى الْأُمَرَاءِ وَإِلَى صَالِحِ بْنِ الرَّشِيدِ، وَفِيهَا كِتَابٌ إِلَى الْمَأْمُونِ يَأْمُرُهُ بِالسَّمْعِ والطاعة، فأخذ صالح البيعة من الناس إلى الأمين، وارتحل الفضل بن الربيع بِالْجَيْشِ إِلَى بَغْدَادَ وَقَدْ بَقِيَ فِي نُفُوسِهِمْ تحرّج من البيعة التي أخذت لِلْمَأْمُونِ، وَكَتَبَ إِلَيْهِمُ الْمَأْمُونُ يَدْعُوهُمْ إِلَى بَيْعَتِهِ فَلَمْ يُجِيبُوهُ، فَوَقَعَتِ الْوَحْشَةُ بَيْنَ الْأَخَوَيْنِ، وَلَكِنْ تَحَوَّلَ عَامَّةُ الْجَيْشِ إِلَى الْأَمِينِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ كتب المأمون إلى أخيه الأمين بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَالتَّعْظِيمِ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ مِنْ هَدَايَا خُرَاسَانَ وَتُحَفِهَا مِنَ الدَّوَابِّ وَالْمِسْكِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وهو نائبة عَلَيْهَا، وَقَدْ أَمَرَ الْأَمِينُ فِي صَبِيحَةِ يَوْمِ السبت بعد أخذ البيعة يوم الجمعة ببناء ميدانين للصيد، فَقَالَ فِي ذَلِكَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ: -
بَنَى أَمِينُ اللَّهِ مَيْدَانًا ... وَصَيَّرَ السَّاحَةَ بُسْتَانًا
وَكَانَتِ الْغِزْلَانُ فِيهِ بَانَا ... يُهْدَى إِلَيْهِ فِيهِ غِزْلَانَا
وَفِي شعبان من هذه السنة قَدِمَتْ زُبَيْدَةُ مِنَ الرَّقَّةِ بِالْخَزَائِنِ وَمَا كَانَ عندها من التحف والقماش من الرشيد، فتلقاها ولدها الْأَمِينُ إِلَى الْأَنْبَارِ وَمَعَهُ وُجُوهُ النَّاسِ. وَأَقَرَّ الْأَمِينُ أَخَاهُ الْمَأْمُونَ عَلَى مَا تَحْتَ يَدِهِ من بلاد خُرَاسَانَ وَالرَّيِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَقَرَّ أَخَاهُ الْقَاسِمَ عَلَى الْجَزِيرَةِ وَالثُّغُورِ، وَأَقَرَّ عُمَّالَ أَبِيهِ عَلَى البلاد إلا القليل منهم.
وفيها مات نِقْفُورُ مَلِكُ الرُّومِ، قَتَلَهُ الْبُرْجَانُ، وَكَانَ مُلْكُهُ تسع سِنِينَ، وَأَقَامَ بَعْدَهُ وَلَدُهُ إِسْتِبْرَاقُ شَهْرَيْنِ فَمَاتَ، فَمَلَكَهُمْ مِيخَائِيلُ زَوْجُ أُخْتِ نِقْفُورَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ. وفيها تواقع هرثمة نائب خراسان ورافع ابن اللَّيْثِ فَاسْتَجَاشَ رَافِعٌ بِالتُّرْكِ ثُمَّ هَرَبُوا وَبَقِيَ رافع وحده فضعف أمره. وحج بالناس نَائِبُ الْحِجَازِ دَاوُدُ بْنُ عِيسَى بْنِ مُوسَى بْنِ مُحَمَّدِ بن على.
وفيها توفى:

(10/223)


إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُلَيَّةَ
وَهُوَ مِنْ أَئِمَّةِ الْعُلَمَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ الرُّفَعَاءِ، رَوَى عَنْهُ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَقَدْ وَلِيَ الْمَظَالِمَ بِبَغْدَادَ، وَكَانَ نَاظِرَ الصدقات بالبصرة، وكان ثقة نبيلا جليلا كبيرا، وكان قليل التبسم وكان يتجر في البز وينفق على عياله منه ويحج منه، ويبر أصحابه منه مثل السفيانين وَغَيْرُهُمَا، وَقَدْ وَلَّاهُ الرَّشِيدُ الْقَضَاءَ فَلَمَّا بَلَغَ ابن المبارك أنه تولى القضاء كتب إليه يلومه نظما ونثرا، فاستعفى ابن علية مِنَ الْقَضَاءِ فَأَعْفَاهُ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ فِي مَقَابِرِ عبد الله بن مالك وفيها مات:
مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ
الْمُلَقَّبُ بِغُنْدَرٍ. رَوَى عَنْ شعبة وسعيد بن أبى عروبة وعن خلق كثير، وعنه جماعة مِنْهُمْ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَكَانَ ثِقَةً جَلِيلًا حافظا متقنا. وقد ذكر عند حِكَايَاتٌ تَدُلُّ عَلَى تَغْفِيلِهِ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا، كانت وَفَاتُهُ بِالْبَصْرَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، وَقِيلَ فِي الَّتِي بَعْدَهَا. وَقَدْ لُقِّبَ بِهَذَا اللقب جماعة من المتقدمين والمتأخرين. وفيها توفى:
أبو بكر بن العياش
أَحَدُ الْأَئِمَّةِ، سَمِعَ أَبَا إِسْحَاقَ السَّبِيعِيَّ وَالْأَعْمَشَ وهشام وهمام بن عروة وجماعة، وحدث عنه خلق منهم أحمد بن حنبل. وقال يزيد بن هارون: كان حبرا فَاضِلًا لَمْ يَضَعْ جَنْبَهُ إِلَى الْأَرْضِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، قَالُوا: وَمَكَثَ سِتِّينَ سَنَةً يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ يَوْمٍ خَتْمَةً كَامِلَةً، وَصَامَ ثَمَانِينَ رَمَضَانًا، وَتُوُفِّيَ وَلَهُ سِتٌّ وَتِسْعُونَ سَنَةً. وَلَمَّا احْتُضِرَ بَكَى عَلَيْهِ ابْنُهُ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ عَلَامَ تَبْكِي؟ وَاللَّهِ مَا أَتَى أَبُوكَ فَاحِشَةً قط.
ثم دخلت سنة أربعة وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا خَلَعَ أَهْلُ حِمْصَ نَائِبَهُمْ فَعَزَلَهُ عَنْهُمُ الْأَمِينُ وَوَلَّى عَلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بن سعيد الحرشيّ فقتل طائفة من وجوه أهلها وحرق نواحيها، فَسَأَلُوهُ الْأَمَانَ فَأَمَّنَهُمْ ثُمَّ هَاجُوا فَضَرَبَ أَعْنَاقَ كَثِيرٍ مِنْهُمْ أَيْضًا. وَفِيهَا عَزَلَ الْأَمِينُ أَخَاهُ الْقَاسِمَ عَنِ الْجَزِيرَةِ وَالثُّغُورِ، وَوَلَّى عَلَى ذَلِكَ خُزَيْمَةَ بْنَ خَازِمٍ، وَأَمَرَ أَخَاهُ بِالْمُقَامِ عِنْدَهُ بِبَغْدَادَ. وَفِيهَا أَمَرَ الْأَمِينُ بِالدُّعَاءِ لِوَلَدِهِ مُوسَى عَلَى الْمَنَابِرِ فِي سَائِرِ الْأَمْصَارِ، وَبِالْإِمْرَةِ مِنْ بعده، وسماه الناطق بالحق، ثم يدعى من بعده لأخيه المأمون ثم لأخيه القاسم، وكان من نِيَّةِ الْأَمِينِ الْوَفَاءُ لِأَخَوَيْهِ بِمَا شَرَطَ لَهُمَا، فَلَمْ يَزَلْ بِهِ الْفَضْلُ بْنُ الرَّبِيعِ حَتَّى غَيَّرَ نِيَّتَهُ فِي أَخَوَيْهِ، وَحَسَّنَ لَهُ خَلْعَ الْمَأْمُونِ وَالْقَاسِمِ، وَصَغَّرَ عِنْدَهُ شَأْنَ الْمَأْمُونِ. وَإِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ خَوْفُهُ مِنَ الْمَأْمُونِ إِنْ أفضت إليه الخلافة أن يخلعه من الحجابة. فَوَافَقَهُ الْأَمِينُ عَلَى ذَلِكَ وَأَمَرَ بِالدُّعَاءِ لِوَلَدِهِ موسى وبولاية العهد من بعده، وَذَلِكَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. فلما بلغ الْمَأْمُونَ قَطَعَ الْبَرِيدَ عَنْهُ وَتَرَكَ ضَرْبَ اسْمِهِ على السكة والطرز، وتنكر للأمين. وَبَعَثَ رَافِعُ بْنُ اللَّيْثِ إِلَى الْمَأْمُونِ يَسْأَلُ مِنْهُ الْأَمَانَ فَأَمَّنَهُ

(10/224)


فَسَارَ إِلَيْهِ بِمَنْ مَعَهُ فَأَكْرَمَهُ الْمَأْمُونُ وَعَظَّمَهُ، وَجَاءَ هَرْثَمَةُ عَلَى إِثْرِهِ فَتَلَقَّاهُ الْمَأْمُونُ وَوُجُوهُ النَّاسِ وَوَلَّاهُ الْحَرَسَ، فَلَمَّا بَلَغَ الْأَمِينَ أَنَّ الجنود الْتَفَّتَ عَلَى أَخِيهِ الْمَأْمُونِ سَاءَهُ ذَلِكَ وَأَنْكَرَهُ، وَكَتَبَ إِلَى الْمَأْمُونِ كِتَابًا وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ رُسُلًا ثلاثة من أكابر الأمراء، سأله أن يجيبه إلى تقديم ولده عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ قَدْ سَمَّاهُ النَّاطِقَ بِالْحَقِّ، فَأَظْهَرَ المأمون الامتناع فشرع الأمراء فِي مُطَايَبَتِهِ وَمُلَايَنَتِهِ، وَأَنْ يُجِيبَهُمْ إِلَى ذَلِكَ فَأَبَى كُلَّ الْإِبَاءِ، فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ بْنُ مُوسَى بْنِ عِيسَى: فَقَدْ خَلَعَ أَبِي نَفْسَهُ فماذا كان؟ فقال المأمون إن أباك كان امرأ مكروها، ثُمَّ لَمْ يَزَلِ الْمَأْمُونُ يَعِدُ الْعَبَّاسَ وَيُمَنِّيهِ حَتَّى بَايَعَهُ بِالْخِلَافَةِ، ثُمَّ لَمَّا رَجَعَ إِلَى بغداد كان يراسله بما كان من أمر الأمين وَيُنَاصِحُهُ، وَلَمَّا رَجَعَ الرُّسُلُ إِلَى الْأَمِينِ أَخْبَرُوهُ بما كان من قول أخيه، فَعِنْدَ ذَلِكَ صَمَّمَ الْفَضْلُ بْنُ الرَّبِيعِ عَلَى الْأَمِينِ فِي خَلْعِ الْمَأْمُونِ، فَخَلَعَهُ وَأَمَرَ بِالدُّعَاءِ لولده في سائر البلاد، وأقاموا من يتكلم في المأمون ويذكر مساويه، وَبَعَثُوا إِلَى مَكَّةَ فَأَخَذُوا الْكِتَابَ الَّذِي كَتَبَهُ الرشيد وأودعه في الكعبة، فمزقه الأمين وأكد البيعة إلى ولده الناطق بالحق على ما ولاه مِنَ الْأَعْمَالِ، وَجَرَتْ بَيْنَ الْأَمِينِ وَالْمَأْمُونِ مُكَاتَبَاتٌ ورسل يطول بسطها. وقد استقصاها ابن جرير في تاريخه، ثم آل بهما الأمر إِلَى أَنِ احْتَفَظَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى بِلَادِهِ وحصنها وهيأ الجيوش والجنود وتألف الرعايا. وفيها غدرت الروم بملكهم مِيخَائِيلَ فَرَامُوا خَلْعَهُ وَقَتْلَهُ فَتَرَكَ الْمُلْكَ وَتَرَهَّبَ وولوا عليهم اليون. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا نَائِبُ الْحِجَازِ دَاوُدُ بْنُ عيسى، وقيل على بن الرشيد.
وفيها توفي من الأعيان:
سلم بن سالم أبو بحر الْبَلْخِيُّ
قَدِمَ بَغْدَادَ وَحَدَّثَ بِهَا عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ وَالثَّوْرِيِّ. وَعَنْهُ الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ. وَكَانَ عَابِدًا زَاهِدًا، مَكَثَ أَرْبَعِينَ سَنَةً لَمْ يفرش له فراش، وصامها كلها إلا يومى العيد، وَلَمْ يَرْفَعْ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، وَكَانَ دَاعِيَةً الْإِرْجَاءِ ضَعِيفَ الْحَدِيثِ، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ رَأْسًا فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَكَانَ قد قدم بغداد فأنكر على الرشيد وشنع عليه فَحَبَسَهُ وَقَيَّدَهُ بِاثْنَيْ عَشَرَ قَيْدًا، فَلَمْ يَزَلْ أبو معاوية يشفع فيه حتى جعلوه فِي أَرْبَعَةِ قُيُودٍ، ثُمَّ كَانَ يَدْعُو اللَّهَ أَنْ يَرُدَّهُ إِلَى أَهْلِهِ. فَلَمَّا تُوُفِّيَ الرَّشِيدُ أطلقته زبيدة فرجع- وَكَانُوا بِمَكَّةَ قَدْ جَاءُوا حُجَّاجًا- فَمَرِضَ بِمَكَّةَ. واشتهى يوما بردا فسقط في ذلك الوقت برد حين اشتهاه فأكل منه. مَاتَ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
وعبد الْوَهَّابِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ
الثَّقَفِيُّ كَانَتْ غَلَّتُهُ فِي السَّنَةِ قَرِيبًا مِنْ خَمْسِينَ أَلْفًا يُنْفِقُهَا كُلَّهَا عَلَى أَهْلِ الْحَدِيثِ. تُوُفِّيَ عَنْ أَرْبَعٍ وثمانين سنة
. وأبو النَّصْرِ الْجُهَنِيُّ الْمُصَابُ
كَانَ مُقِيمًا بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ بِالصُّفَّةِ مِنَ الْمَسْجِدِ فِي الْحَائِطِ الشَّمَالِيِّ مِنْهُ، وكان طويل السُّكُوتَ، فَإِذَا سُئِلَ أَجَابَ بِجَوَابٍ حَسَنٍ، وَيَتَكَلَّمُ بِكَلِمَاتٍ مُفِيدَةٍ تُؤْثَرُ عَنْهُ وَتُكْتَبُ، وَكَانَ يَخْرُجُ يوم الجمعة

(10/225)


قَبْلَ الصَّلَاةِ فَيَقِفُ عَلَى مَجَامِعِ النَّاسِ فَيَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لَا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً 31: 33 ويَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ 2: 48 ثم ينتقل إلى جماعة أخرى ثم إلى أخرى، حَتَّى يَدْخُلَ الْمَسْجِدَ فَيُصَلِّيَ فِيهِ الْجُمُعَةَ ثُمَّ لا يخرج منه حَتَّى يُصَلِّيَ الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ.
وَقَدْ وَعَظَ مَرَّةً هَارُونَ الرَّشِيدَ بِكَلَامٍ حَسَنٍ فَقَالَ: اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ سَائِلُكَ عَنْ أُمَّةِ نَبِيِّهِ فَأَعِدَّ لِذَلِكَ جَوَابًا، وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لَوْ مَاتَتْ سَخْلَةٌ بِالْعِرَاقِ ضَيَاعًا لَخَشِيتُ أَنْ يَسْأَلَنِي الله عنها. فقال الرشيد: إِنِّي لَسْتُ كَعُمَرَ، وَإِنَّ دَهْرِي لَيْسَ كَدَهْرِهِ. فَقَالَ: مَا هَذَا بِمُغْنٍ عَنْكَ شَيْئًا. فَأَمَرَ لَهُ بِثَلَاثِمِائَةِ دِينَارٍ، فَقَالَ: أَنَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ فَمُرْ بِهَا فَلْتُقَسَّمْ عَلَيْهِمْ وَأَنَا واحد منهم.
ثم دخلت سنة خمس وتسعين ومائة
فيها في صفر منها أمر الأمين الناس أَنْ لَا يَتَعَامَلُوا بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ الَّتِي عَلَيْهَا اسم أخيه الْمَأْمُونِ وَنَهَى أَنْ يُدْعَى لَهُ عَلَى الْمَنَابِرِ، وأن يدعى له ولولده من بعده: وَفِيهَا تَسَمَّى الْمَأْمُونُ بِإِمَامِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَفِي رَبِيعٍ الآخر فيها عَقَدَ الْأَمِينُ لِعَلِيِّ بْنِ عِيسَى بْنِ مَاهَانَ الامارة على الجبل وهمدان وَأَصْبَهَانَ وَقُمَّ وَتِلْكَ الْبِلَادِ، وَأَمَرَهُ بِحَرْبِ الْمَأْمُونِ وجهز معه جيشا كثيرا، وأنفق فيها نَفَقَاتٍ عَظِيمَةً، وَأَعْطَاهُ مِائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ، وَلِوَلَدِهِ خَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ وَأَلْفَيْ سَيْفٍ مُحَلًّى، وَسِتَّةَ آلاف ثوب للخلع. فخرج على بن موسى بْنِ مَاهَانَ مِنْ بَغْدَادَ فِي أَرْبَعِينَ أَلْفَ مقاتل فارس، ومعه قيد من فضة ليأتى فيه بالمأمون.
وَخَرَجَ الْأَمِينُ مَعَهُ مُشَيِّعًا فَسَارَ حَتَّى وَصَلَ الرَّيِّ فَتَلَقَّاهُ الْأَمِيرُ طَاهِرٌ فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ، فجرت بينهم أمور آل الحال فيها أَنِ اقْتَتَلُوا، فَقُتِلَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى وَانْهَزَمَ أَصْحَابُهُ وَحُمِلَ رَأْسُهُ وَجُثَّتُهُ إِلَى الْأَمِيرِ طَاهِرٍ فكتب بذلك إلى وزير المأمون ذي الرئاستين، وَكَانَ الَّذِي قَتَلَ عَلِيَّ بْنَ عِيسَى رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ طَاهِرٌ الصَّغِيرُ فَسُمِّيَ ذَا الْيَمِينَيْنِ، لِأَنَّهُ أَخَذَ السَّيْفَ بِيَدَيْهِ الثِّنْتَيْنِ فَذَبَحَ بِهِ عَلِيَّ بْنَ عِيسَى بْنِ مَاهَانَ، فَفَرِحَ بِذَلِكَ الْمَأْمُونُ وَذَوُوهُ، وَانْتَهَى الْخَبَرُ إِلَى الْأَمِينِ وَهُوَ يَصِيدُ السَّمَكَ مِنْ دِجْلَةَ، فَقَالَ: وَيْحَكَ دَعْنِي مِنْ هَذَا فَإِنَّ كَوْثَرًا قَدْ صَادَ سَمَكَتَيْنِ. وَلَمْ أَصِدْ بَعْدُ شَيْئًا. وَأَرْجَفَ النَّاسُ بِبَغْدَادَ وَخَافُوا غَائِلَةَ هَذَا الْأَمْرِ، وَنَدِمَ مُحَمَّدٌ الْأَمِينُ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ مِنْ نَكْثِ الْعَهْدِ وَخَلْعِ أَخِيهِ الْمَأْمُونِ، وَمَا وَقَعَ مِنَ الْأَمْرِ الفظيع. وكان رجوع الخبر إليه في شوال من هذه السنة. ثم جهز عبد الرحمن بن جبلة الأنباري فِي عِشْرِينَ أَلْفًا مِنَ الْمُقَاتِلَةِ إِلَى هَمَذَانَ لِيُقَاتِلُوا طَاهِرَ بْنَ الْحُسَيْنِ بْنِ مُصْعَبٍ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْخُرَاسَانِيَّةِ، فَلَمَّا اقْتَرَبُوا مِنْهُمْ تَوَاجَهُوا فتقاتلوا قتالا شديدا حتى كثرت القتلى بينهم، ثم انهزم أصحاب عبد الرحمن ابن جَبَلَةَ فَلَجَئُوا إِلَى هَمَذَانَ فَحَاصَرَهُمْ بِهَا طَاهِرٌ حَتَّى اضْطَرَّهُمْ إِلَى أَنْ دَعَوْا إِلَى الصُّلْحِ، فَصَالَحَهُمْ وَأَمَّنَهُمْ وَوَفَّى لَهُمْ، وَانْصَرَفَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن جبلة على أن يكون راجعا إلى بغداد، ثُمَّ غَدَرُوا بِأَصْحَابِ

(10/226)


طَاهِرٍ وَحَمَلُوا عَلَيْهِمْ وَهُمْ غَافِلُونَ فَقَتَلُوا مِنْهُمْ خلقا وصبر لهم أصحاب طاهر ثم نهضوا إليهم وحملوا عليهم فهزموهم وقتل أَمِيرَهُمْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ جَبَلَةَ، وَفَرَّ أَصْحَابُهُ خائبين.
فلما رجعوا إلى بغداد اضطربت الْأُمُورُ وَكَثُرَتِ الْأَرَاجِيفُ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَطَرَدَ طَاهِرٌ عُمَّالَ الْأَمِينِ عَنْ قَزْوِينَ وَتِلْكَ النَّوَاحِي، وَقَوِيَ أَمْرُ الْمَأْمُونِ جِدًّا بِتِلْكَ الْبِلَادِ. وَفِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ ظَهَرَ أَمْرُ السُّفْيَانِيِّ بِالشَّامِ، وَاسْمُهُ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدِ بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، فعزل نائب الشام عنها وَدَعَا إِلَى نَفْسِهِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ الْأَمِينُ جَيْشًا فلم يقدموا عليه بل أقاموا بالرقة، ثم كان من أمره ما سنذكره. وحج بالناس فيها نائب الحجاز داود ابن عيسى.
وَفِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْأَعْيَانِ مِنْهُمْ:
إِسْحَاقُ بْنُ يُوسُفَ الْأَزْرَقُ
أَحَدُ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ. روى عنه أحمد وغيره. ومنهم:
بكار بن عبد الله
ابن مُصْعَبِ بْنِ ثَابِتِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزبير، كان نائب المدينة للرشيد ثنتى عشرة سنة وشهرا، وَقَدْ أَطْلَقَ الرَّشِيدُ عَلَى يَدَيْهِ لِأَهْلِهَا أَلْفَ أَلْفَ دِينَارٍ. وَمِائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ، وَكَانَ شَرِيفًا جوادا معظما.
وفيها توفى:
أبو نواس الشاعر المشهور
واسمه الحسن بن هانئ بْنِ صَبَاحِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْجَرَّاحِ بن هنب بن داود بن غنم بن سليم، ونسبه عبد الله بن سعد إلى الْجَرَّاحِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْحَكَمِيِّ، وَيُقَالُ لَهُ أَبُو نُوَاسٍ الْبَصْرِيُّ، كَانَ أَبُوهُ مِنْ أَهْلِ دِمَشْقَ مِنْ جُنْدِ مَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ صَارَ إِلَى الْأَهْوَازِ وَتَزَوَّجَ امْرَأَةً يُقَالُ لَهَا خلبان، فولدت له أبا نواس وابنا آخر يقال له أبا مُعَاذٍ، ثُمَّ صَارَ أَبُو نُوَاسٍ إِلَى الْبَصْرَةِ فَتَأَدَّبَ بِهَا عَلَى أَبِي زَيْدٍ وَأَبِي عُبَيْدَةَ، وَقَرَأَ كِتَابَ سِيبَوَيْهِ وَلَزِمَ خَلَفًا الْأَحْمَرَ، وَصَحِبَ يونس بن حبيب الجرمي النحويّ. وقد قال القاضي ابن خلكان: صحب أبا أسامة وابن الحباب الكوفي، وَرَوَى الْحَدِيثَ عَنْ أَزْهَرَ بْنِ سَعْدٍ وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ وَعَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ زِيَادٍ وَمُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، وَيَحْيَى الْقَطَّانِ. وعنه محمد بن إبراهيم بن كثير الصوفي. وحدث عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وغندر ومشاهير العلماء وَمِنْ مَشَاهِيرِ حَدِيثِهِ مَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إبراهيم بن كثير الصوفي عَنْ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ باللَّه، فَإِنَّ حُسْنَ الظَّنِّ باللَّه ثَمَنُ الْجَنَّةِ» . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: دَخَلْنَا عَلَيْهِ وَهُوَ فِي الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُ صَالِحُ بْنُ عَلِيٍّ الْهَاشِمِيُّ: يَا أَبَا عَلِيٍّ! أَنْتَ الْيَوْمَ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا وأول يوم من أيام الآخرة، وبينك وبينك الله هنات، فتب إلى الله من عملك. فقال: إياي تخوّف؟ باللَّه أسندوني. قال: فأسندناه فَقَالَ: حَدَّثَنِي حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ

(10/227)


عَنْ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «لِكُلِّ نَبِيٍّ شَفَاعَةً وَإِنِّي اخْتَبَأْتُ شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . ثُمَّ قَالَ: أفلا تراني مِنْهُمْ. وَقَالَ أَبُو نُوَاسٍ: مَا قُلْتُ الشِّعْرَ حتى رويت عن ستين امرأة منهن خنساء وليلى، فما الظن بِالرِّجَالِ؟ وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ السِّكِّيتِ: إِذَا رَوَيْتَ الشِّعْرَ عَنِ امْرِئِ الْقَيْسِ وَالْأَعْشَى مِنْ أَهْلِ الجاهلية، ومن الإسلاميين جرير وَالْفَرَزْدَقِ، وَمِنَ الْمُحْدَثِينَ عَنْ أَبِي نُوَاسٍ فَحَسْبُكَ. وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمُ الْأَصْمَعِيُّ والجاحظ والنظام.
قال أَبُو عَمْرٍو الشَّيْبَانِيُّ: لَوْلَا أَنَّ أَبَا نُوَاسٍ أفسد شعره بما وضع فيه من الأقذار لاحتججنا به- يعنى شعره الّذي قاله في الخمريات والمردان، وقد كان يميل إليهم- ونحو ذلك مما هو معروف في شعره.
واجتمع طائفة من الشعراء عند المأمون فقيل لَهُمْ: أَيُّكُمُ الْقَائِلُ:
فَلَمَّا تَحَسَّاهَا وَقَفْنَا كَأَنَّنَا ... نرى قمرا في الأرض يبلغ كَوْكَبًا
قَالُوا: أَبُو نُوَاسٍ. قَالَ: فَأَيُّكُمُ الْقَائِلُ: -
إذا نزلت دون اللهاة من الفتى ... دعي همه عن قلبه بِرَحِيلِ
قَالُوا أَبُو نُوَاسٍ. قَالَ: فَأَيُّكُمُ الْقَائِلُ: -
فَتَمَشَّتْ فِي مَفَاصِلِهِمْ ... كَتَمَشِّي الْبُرْءِ فِي السَّقَمِ
قَالُوا: أَبُو نُوَاسٍ. قَالَ: فَهُوَ أَشْعَرُكُمْ. وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ لِابْنِ مُنَاذِرٍ: مَا أَشْعَرَ ظَرِيفُكُمْ أَبَا نُوَاسٍ
فِي قَوْلِهِ: يَا قَمَرًا أَبْصَرْتُ فِي مَأْتَمٍ ... يَنْدُبُ شَجْوًا بَيْنَ أَتْرَابِ
أَبْرَزَهُ الْمَأْتَمُ لِي كَارِهًا ... بِرَغْمِ ذِي بَابٍ وحجاب
يبكى فيذرى الدر من عينه ... وَيَلْطِمُ الْوَرْدَ بِعُنَّابِ
لَا زَالَ مَوْتًا دَأْبُ أحبابه ... ولم تزل رؤيته دأبي
قال ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ أَشْعَرُ النَّاسِ أَبُو نُوَاسٍ فِي قوله: -
تسترت من دهري بكل جَنَاحِهِ ... فَعَيْنِي تَرَى دَهْرِي وَلَيْسَ يَرَانِي
فَلَوْ تسأل الأيام عنى ما دَرَتْ ... وَأَيْنَ مَكَانِي مَا عَرَفْنَ مَكَانِي
وَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ: قُلْتُ فِي الزُّهْدِ عِشْرِينَ أَلْفَ بيت، وددت أَنَّ لِي مَكَانَهَا الْأَبْيَاتَ الثَّلَاثَةَ الَّتِي قَالَهَا أَبُو نُوَاسٍ وَهِيَ هَذِهِ، وَكَانَتْ مَكْتُوبَةً عَلَى قبره:
يا نواسى توقر ... أو تغير أو تصبر
إِنْ يَكُنْ سَاءَكَ دَهْرٌ ... فَلَمَا سَرَّكَ أَكْثَرْ
يا كثير الذنب ... عفو الله مِنْ ذَنْبِكَ أَكْبَرْ
وَمِنْ شَعْرِ أَبِي نُوَاسٍ يَمْدَحُ بَعْضَ الْأُمَرَاءِ: -

(10/228)


أوجده الله فما مثله ... بطالب ذاك ولا ناشد
ليس على الله بِمُسْتَنْكَرٍ ... أَنْ يَجْمَعَ الْعَالَمَ فِي وَاحِدِ
وَأَنْشَدُوا سفيان بْنِ عُيَيْنَةَ قَوْلَ أَبِي نُوَاسٍ:
مَا هَوًى إِلَّا لَهُ سَبَبُ ... يَبْتَدِي مِنْهُ وَيَنْشَعِبُ
فَتَنَتْ قلبي محجبة ... وجهها بالحسن منتقب
خلته وَالْحُسْنُ تَأْخُذُهُ ... تَنْتَقِي مِنْهُ وَتَنْتَخِبُ
فَاكْتَسَتْ مِنْهُ طرائفه ... واستردت بَعْضَ مَا تَهَبُ
فَهِيَ لَوْ صَيَّرْتَ فِيهِ لَهَا ... عَوْدَةً لَمْ يُثْنِهَا أَرَبُ
صَارَ جِدًّا مَا مَزَحْتَ بِهِ ... رُبَّ جِدٍّ جَرَّهُ اللَّعِبُ
فَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: آمَنْتُ بِالَّذِي خَلَقَهَا. وَقَالَ ابن دريد قال أبو حاتم: لو أن العامة بدلت هذين البيتين كتبتهما بماء الذهب:
وَلَوْ أَنِّي اسْتَزَدْتُكَ فَوْقَ مَا بِي ... مِنَ الْبَلْوَى لَأَعْوَزَكَ الْمَزِيدُ
وَلَوْ عُرِضَتْ عَلَى الْمَوْتَى حَيَاتِي ... بِعَيْشٍ مِثْلَ عَيْشِي لَمْ يُرِيدُوا
وَقَدْ سَمِعَ أَبُو نُوَاسٍ حَدِيثَ سُهَيْلٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْقُلُوبُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ» . فَنَظَمَ ذَلِكَ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ فقال:
إِنَّ الْقُلُوبَ لَأَجْنَادٌ مُجَنَّدَةٌ ... للَّه فِي الْأَرْضِ بالأهواء تعترف
فما تناكر منها فهو مختلف ... وما تعارف منها فهو مؤتلف
ودخل يوما أبو نواس مَعَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ عَلَى عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ زِيَادٍ فَقَالَ لَهُمْ عَبْدُ الْوَاحِدِ لِيَخْتَرْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ عَشَرَةَ أَحَادِيثَ أُحَدِّثُهُ بِهَا، فَاخْتَارَ كُلُّ وَاحِدٍ عَشَرَةً إِلَّا أَبَا نُوَاسٍ، فقال له:، مالك لَا تَخْتَارُ كَمَا اخْتَارُوا؟ فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
وَلَقَدْ كُنَّا رَوَيْنَا ... عَنْ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَهْ
عَنْ سعيد بن المسيب ... ثم سعد بن عباده
وعن الشعبي والشعبي ... شيخ ذو جلاده
وعن الأخيار نحكيه ... وَعَنْ أَهْلِ الْإِفَادَهْ
أَنَّ مَنْ مَاتَ مُحِبًّا ... فَلَهُ أَجْرُ شَهَادَهْ
فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْوَاحِدِ: قم عنى يا فاجر، لَا حَدَّثْتُكَ وَلَا حَدَّثْتُ أَحَدًا مِنْ هَؤُلَاءِ مِنْ أَجْلِكَ. فَبَلَغَ ذَلِكَ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ وإبراهيم بن أبى يحيى فقال: كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُحَدِّثَهُ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَهُ.
قُلْتُ: وَهَذَا الَّذِي أَنْشَدَهُ أَبُو نُوَاسٍ قَدْ رَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي كَامِلِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا «مَنْ عَشِقَ فَعَفَّ فكتم فمات مات شهيدا» . ومعناه أَنَّ مَنِ ابْتُلِيَ بِالْعِشْقِ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ منه فصبر

(10/229)


وَعَفَّ عَنِ الْفَاحِشَةِ وَلَمْ يُفْشِ ذَلِكَ فَمَاتَ بسبب ذلك حصل له أجر كثير. فَإِنْ صَحَّ هَذَا كَانَ ذَلِكَ لَهُ نَوْعُ شَهَادَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَرَوَى الْخَطِيبُ أَيْضًا أَنَّ شُعْبَةَ لَقِيَ أَبَا نُوَاسٍ فَقَالَ لَهُ: حَدِّثْنَا مِنْ طُرَفِكَ، فَقَالَ مُرْتَجِلًا: حَدَّثَنَا الْخَفَّافُ عَنْ وَائِلٍ وَخَالِدٌ الْحَذَّاءُ عَنْ جَابِرِ وَمِسْعَرٌ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ يَرْفَعُهُ الشَّيْخُ إِلَى عَامِرِ قَالُوا جَمِيعًا:
أَيُّمَا طِفْلَةٍ عُلِّقَهَا ذُو خُلُقٍ طَاهِرِ فَوَاصَلَتْهُ ثُمَّ دَامَتْ لَهُ عَلَى وِصَالِ الْحَافِظِ الذَّاكِرِ، كَانَتْ لَهُ الْجَنَّةُ مَفْتُوحَةً يَرْتَعُ فِي مَرْتَعِهَا الزَّاهِرِ، وَأَيُّ مَعْشُوقٍ جَفَا عَاشِقًا بَعْدَ وصال دائم ناصر! ففي عذاب الله بعدا له نعم وسحقا دائم ذاخر. فَقَالَ لَهُ شُعْبَةُ: إِنَّكَ لَجَمِيلُ الْأَخْلَاقِ، وَإِنِّي لَأَرْجُو لَكَ. وَأَنْشَدَ أَبُو نُوَاسٍ أَيْضًا
يَا سَاحِرَ الْمُقْلَتَيْنِ وَالْجِيدِ ... وَقَاتِلِي مِنْكَ بِالْمَوَاعِيدِ
تُوعِدُنِي الوصل ثم تخلفني ... ويلاى من خلفك موعودى
حدثني الأزرق المحدث عن ... شهر وَعَوْفٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودِ
مَا يُخْلِفُ الْوَعْدَ غَيْرُ كَافِرَةٍ ... وَكَافِرٍ فِي الْجَحِيمِ مَصْفُودِ
فَبَلَغَ ذَلِكَ إِسْحَاقَ بْنَ يُوسُفَ الْأَزْرَقَ فَقَالَ: كَذَبَ عَدُوُّ اللَّهِ عَلَيَّ وَعَلَى التَّابِعِينِ وَعَلَى أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَعَنْ سُلَيْمِ بن منصور بن عمار قَالَ: رَأَيْتُ أَبَا نُوَاسٍ فِي مَجْلِسِ أَبِي يَبْكِي بُكَاءً شَدِيدًا فَقُلْتُ: إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ لا يعذبك الله بعد هذا البكاء فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
لَمْ أَبْكِ فِي مَجْلِسِ مَنْصُورِ ... شَوْقًا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْحُورِ
وَلَا مِنَ الْقَبْرِ وَأَهْوَالِهِ ... وَلَا مِنَ النَّفْخَةِ فِي الصُّورِ
وَلَا مِنَ النَّارِ وَأَغْلَالِهَا ... وَلَا مِنَ الْخُذْلَانِ وَالْجُورِ
لَكِنْ بُكَائِي لِبُكَا شَادِنٍ ... تَقِيهِ نَفْسِي كُلَّ مَحْذُورِ
ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا بَكَيْتُ لِبُكَاءِ هَذَا الْأَمْرَدِ الَّذِي إِلَى جَانِبِ أَبِيكَ- وَكَانَ صَبِيًّا حَسَنَ الصُّورَةِ يَسْمَعُ الْوَعْظَ فَيَبْكِي خَوْفًا مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ- قَالَ: أَبُو نُوَاسٍ: دَعَانِي يَوْمًا بَعْضُ الْحَاكَةِ وَأَلَحَّ عَلِيَّ لِيُضِيفَنِي فِي مَنْزِلِهِ، وَلَمْ يَزَلْ بِي حَتَّى أَجَبْتُهُ فَسَارَ إِلَى مَنْزِلِهِ وَسِرْتُ مَعَهُ فَإِذَا مَنْزِلٌ لَا بأس به، وقد احتفل الحائك في الطعام وجمع جمعا من الحياك، فَأَكَلْنَا وَشَرِبْنَا ثُمَّ قَالَ: يَا سَيِّدِي أَشْتَهِي أَنْ تَقُولَ فِي جَارِيَتِي شَيْئًا مِنَ الشِّعْرِ- وكان مغرما بجارية له- قال فَقُلْتُ أَرِنِيهَا حَتَّى أَنْظِمَ عَلَى شَكْلِهَا وَحُسْنِهَا، فكشف عنها فإذا هي أسمج خلق الله وأوحشهم، سوداء شمطاء ديدانية يَسِيلُ لُعَابُهَا عَلَى صَدْرِهَا. فَقُلْتُ لِسَيِّدِهَا: مَا اسْمُهَا؟ فَقَالَ تَسْنِيمُ، فَأَنْشَأْتُ أَقُولُ:
أَسْهَرَ لَيْلِي حُبُّ تَسْنِيمِ ... جَارِيَةٍ فِي الْحُسْنِ كَالْبُومِ
كَأَنَّمَا نَكْهَتُهَا كَامِخٌ ... أَوْ حُزْمَةٌ مِنْ حُزَمِ الثُّومِ

(10/230)


خرطت من حبي لها خرطة ... أَفْزَعْتُ مِنْهَا مَلِكَ الرُّومِ
قَالَ فَقَامَ الْحَائِكُ يرقص ويصفق سائر يومه ويفرح ويقول: إنه شبهها والله بملك الروم. ومن
شعره أيضا [1] أبرمنى الناس يقولون ... بزعمهم كثرت اوزاريه
إن كنت في النار أم في جَنَّةٍ ... مَاذَا عَلَيْكُمْ يَا بَنِي الزَّانِيَهْ
وَبِالْجُمْلَةِ فقد ذكروا له أمورا كثيرة، ومجونا وأشعارا منكرة، وَلَهُ فِي الْخَمْرِيَّاتِ وَالْقَاذُورَاتِ وَالتَّشَبُّبِ بِالْمُرْدَانِ وَالنِّسْوَانِ أَشْيَاءُ بَشِعَةٌ شَنِيعَةٌ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُفَسِّقُهُ وَيَرْمِيهِ بِالْفَاحِشَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرْمِيهِ بِالزَّنْدَقَةِ، وَمِنْهُمْ من يقول: كان إنما يُخَرِّبُ عَلَى نَفْسِهِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، لِمَا فِي أَشْعَارِهِ. فَأَمَّا الزَّنْدَقَةُ فَبَعِيدَةٌ عَنْهُ، وَلَكِنْ كَانَ فِيهِ مُجُونٌ وَخَلَاعَةٌ كَثِيرَةٌ. وَقَدْ عَزَوْا إِلَيْهِ في صغره وكبره أشياء منكرة اللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهَا، وَالْعَامَّةُ تَنْقُلُ عَنْهُ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً لَا حَقِيقَةَ لَهَا. وَفِي صَحْنِ جَامِعِ دمشق قبة يفور منها الماء يَقُولُ الدَّمَاشِقَةُ قُبَّةُ أَبِي نُوَاسٍ، وَهِيَ مَبْنِيَّةٌ بَعْدَ مَوْتِهِ بِأَزْيَدَ مِنْ مِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، فما أدرى لأى شيء نسبت إليه فاللَّه أعلم بهذا.
وقال محمد بن أبى عمر: سَمِعْتُ أَبَا نُوَاسٍ يَقُولُ: وَاللَّهِ مَا فَتَحْتُ سراويلي لحرام قط. وقال له محمد الأمين بن الرشيد: أنت زنديق. فقال: يا أمير المؤمنين لست بزنديق وَأَنَا أَقُولُ:
أُصَلِّي الصَّلَاةَ الْخَمْسَ فِي حِينِ وقتها ... وأشهد بالتوحيد للَّه خاضعا
وأحسن غسلي إِنْ رَكِبْتُ جَنَابَةً ... وَإِنْ جَاءَنِي الْمِسْكِينُ لَمْ أَكُ مَانِعَا
وَإِنِّي وَإِنْ حَانَتْ مِنَ الْكَأْسِ دعوة ... إلى بيعة الساقي أجبت مُسَارِعَا
وَأَشْرَبُهَا صِرْفًا عَلَى جَنْبِ مَاعِزٍ ... وَجَدْيٍ كثير الشحم أصبح راضعا
وجوذاب حوّارى ولوز وسكر ... وما زال للخمار ذلك نافعا
وأجعل تخليط الروافض كلهم ... لنفخة بختيشوع في النار طائعا
فَقَالَ لَهُ الْأَمِينُ: وَيْحَكَ! وَمَا الَّذِي أَلْجَأَكَ إلى نفخة بختيشوع؟ فقال: به تمت القافية. فأمر له بجائزة. وبختيشوع الّذي ذكره هو طبيب الخلفاء. وَقَالَ الْجَاحِظُ: لَا أَعْرِفُ فِي كَلَامِ الشُّعَرَاءِ أرق ولا أحسن من قول أبى نواس حيث يقول:
أَيَّةُ نارٍ قَدَحَ الْقَادِحُ ... وَأَيُّ جِدٍّ بَلَغَ الْمَازِحُ
للَّه دَرُّ الشَيبِ مِنْ واعِظٍ ... وَناصِحٍ لَو خُطِئَ الناصِحُ
يَأَبْى الْفَتَى إِلَّا اتِّبَاعَ الْهَوَى ... وَمَنْهَجُ الْحَقِّ لَهُ واضِحُ
فَاسْمُ بِعَيْنَيْكَ إِلى نِسْوَةٍ ... مُهُورُهُنَّ الْعَمَلُ الصَّالِحُ
لَا يَجْتَلِي الحوراء في خدرها ... إلا امرؤ ميزانه راجح
__________
[1] في البيت تحريف.

(10/231)


مَنِ اتَّقى اللَّهَ فَذَاكَ الَّذِي ... سِيقَ إِلَيهِ الْمَتْجَرُ الرَّابِحُ
فَاغْدُ فَمَا فِي الدِّينِ أُغْلُوطَةٌ ... وَرُحْ لِمَا أَنْتَ لَهُ رَائِحُ
وَقَدِ اسْتَنْشَدَهُ أبو عفان قصيدته التي في أولها: لا تنس ليلى ولا تنظر إِلَى هِنْدٍ. فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهَا سَجَدَ لَهُ أبو عفان، فَقَالَ لَهُ أَبُو نُوَاسٍ: وَاللَّهِ لَا أُكَلِّمُكَ مُدَّةً. قَالَ: فَغَمَّنِي ذَلِكَ، فَلَمَّا أَرَدْتُ الِانْصِرَافَ قَالَ: مَتَى أَرَاكَ؟ فَقُلْتُ: أَلَمْ تُقْسِمْ؟ فَقَالَ: الدَّهْرُ أَقْصَرُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ هَجْرٌ.
ومن مستجاد شعره قوله:
ألا رُبَّ وَجْهٍ فِي التُّرَابِ عَتِيقِ ... وَيا رُبَّ حُسْنٍ فِي التُّرَابِ رَقِيقِ
وَيَا رُبَّ حَزْمٍ فِي التُّرَابِ وَنَجْدَةٍ ... وَيَا رُبَّ رَأيٍ فِي التراب وثيق
فَقُلْ لِقَرِيبِ الدَّارِ إِنَّكَ ظَاعِنٌ ... إِلَى سَفَرٍ نائى المحل سحيق
أَرَى كُلَّ حَيٍّ هَالِكاً وَابْنَ هَالِكٍ ... وَذَا نَسَبٍ فِي الْهَالِكِينَ عَرِيقُ
إِذَا امْتَحَنَ الدُّنْيَا لَبِيبٌ تَكَشَّفَتْ ... لَهُ عَنْ عَدُوٍّ فِي لباس صَدِيقِ
وَقَوْلُهُ
لَا تَشْرَهَنَّ فَإِنَّ الذُّلَّ فِي الشَّرَهِ ... وَالْعِزُّ فِي الْحِلْمِ لَا فِي الطَّيْشِ وَالسَّفَهِ
وَقُلْ لِمُغْتَبِطٍ فِي التِّيْهِ مِنْ حُمَقٍ ... لَوْ كُنْتَ تَعْلَمُ مَا فِي التِّيهِ لَمْ تَتُهِ
التِّيهُ مَفْسَدَةٌ لِلدِّينِ مَنْقَصَةٌ ... لِلْعَقْلِ مَهْلَكَةٌ للعرض فانتبه
وجلس أبو العتاهية القاسم بن إسماعيل على دكان وراق فكتب على ظهر دفتر هذه الأبيات:
أيا عجبا كيف يعصى الإله ... أَمْ كَيْفَ يَجْحَدُهُ الْجَاحِدُ
وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ ... تَدُلُّ عَلَى أنه الواحد
ثم جاء أبو نواس فقرأها فقال: أحسن قائله والله. وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنَّهَا لِي بِجَمِيعِ شَيْءٍ قُلْتُهُ، لمن هذه؟ قيل له: لأبى العتاهية، فأخذ فكتب في جانبها:
سبحان من خلق الخلق ... من ضعف مَهِينِ
يَسوقُهُ مِنْ قَرَارٍ ... إِلى قَرارٍ مَكِينِ
يخلق شَيئًا فَشَيئًا ... فِي الْحُجُبِ دُونَ الْعُيُونِ
حَتَّى بدت حركات ... مخلوقة في سكون
ومن شعره المستجاد قوله:
انقطعت شدتي فَعِفْتُ الْمَلَاهِي إِذْ ... رَمَى الشَّيْبُ مَفْرِقِي بِالدَّوَاهِي
ونهتنى النهى فملت إلى العدل ... وأشفقت من مقالة ناهى
أيها الغافل المقر على السهو ... ولا عذر في المعاد لساهى

(10/232)


لا بأعمالنا نطيق خلاصا ... يوم تبدو السماء فوق الجباة
على أنا على الإساءة والتفريط ... نَرْجُو مِنْ حُسْنِ عَفْوِ الْإِلَهِ
وَقَوْلُهُ:
نَمُوتُ وَنَبْلَى غَيْرَ أَنَّ ذُنُوبَنَا ... إِذَا نَحْنُ مِتْنَا لَا تَمُوتُ وَلَا تَبْلَى
أَلَا رُبَّ ذِي عينين لا تنفعانه ... وما تَنْفَعُ الْعَيْنَانِ مَنْ قَلْبُهُ أَعْمَى
وَقَوْلُهُ:
لَوْ أن عينا أوهمتها نَفْسُهَا ... يَوْمَ الْحِسَابِ مُمَثَّلًا لَمْ تَطْرَفِ
سُبْحَانَ ذي الملكوت أية ليلة ... محقت صَبِيحَتُهَا بِيَوْمِ الْمَوْقِفِ
كَتَبَ الْفَنَاءَ عَلَى الْبَرِيَّةِ ربها ... فالناس بين مقدم ومخلف
وذكر أَنَّ أَبَا نُوَاسٍ لَمَّا أَرَادَ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ قال:
يا مالكا مَا أَعْدَلَكْ ... مَلِيكَ كُلِّ مَنْ مَلَكْ
لَبَّيْكَ إن الحمد لك ... والملك لا شريك لك
عبدك قد أهلّ لَكَ ... أَنْتَ لَهُ حَيْثُ سَلَكَ
لَوْلَاكَ يَا رب هَلَكْ ... لَبَّيْكَ إِنَّ الْحَمْدَ لَكَ
وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ ... وَاللَّيْلُ لَمَّا أَنْ حَلَكْ
وَالسَّابِحَاتُ في الفك ... على مجاري تنسلك
كُلُّ نَبِيٍّ وَمَلَكْ وَكُلُّ مَنْ أَهَلَّ لَكْ ... سَبَّحَ أَوْ صَلَّى فَلَكْ لَبَّيْكَ إِنَّ الْحَمْدَ لَكْ
وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَكْ ... يَا مُخْطِئًا ما أجهلك
عصيت ربا عدلك ... وأقدرك وأمهلك
عَجِّلْ وَبَادِرْ أَمَلَكْ ... وَاخْتِمْ بِخَيْرٍ عَمَلَكْ
لَبَّيْكَ إن الحمد لك ... والملك لا شريك لك
وقال المعافى بن زكريا الحريري: ثِنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ الْوَلِيدِ سَمِعْتُ أحمد بن يحيى بن ثعلب يَقُولُ: دَخَلْتُ عَلَى أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فَرَأَيْتُ رَجُلًا تُهِمُّهُ نَفْسُهُ لَا يُحِبُّ أَنْ يُكْثَرَ عَلَيْهِ كَأَنَّ النِّيرَانَ قَدْ سُعِّرَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ، فما زلت أترفق به وتوسلت إليه أنى من موالي شيبان حتى كلمني، فقال: في أي شيء نظرت من العلوم؟ فقلت: في اللغة والشعر. قال: رأيت بالبصرة جماعة يكتبون عن رجل الشعر، قيل لِي هَذَا أَبُو نُوَاسٍ. فَتَخَلَّلْتُ النَّاسَ وَرَائِي فلما جلست إليه أَمْلَى عَلَيْنَا:
إِذَا مَا خَلَوْتَ الدَّهْرَ يَوْمًا فلا تقل ... خلوت ولكن في الخلاء رَقِيبُ
وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ يَغْفَلُ سَاعَةً ... وَلَا آثما يخفى عليه يغيب
لهونا عن الآثام حَتَّى تَتَابَعَتْ ... ذُنُوبٌ عَلَى آثَارِهِنَّ ذُنُوبُ
فَيَا لَيْتَ أَنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ مَا مَضَى ... وَيَأْذَنُ فِي تَوْبَاتِنَا فَنَتُوبُ
وَزَادَ بَعْضُهُمْ فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي نُوَاسٍ بَعْدَ هَذِهِ الْأَبْيَاتِ:
أَقُولُ إذا ضاقت عليّ مذاهبي ... وحلت بِقَلْبِي لِلْهُمُومِ نُدُوبُ
لِطُولِ جِنَايَاتِي وَعِظَمِ خَطِيئَتِي ... هلكت ومالي فِي الْمَتَابِ نَصِيبُ
وَأَغْرَقُ فِي بَحْرِ الْمَخَافَةِ آيسا ... وترجع نفسي تارة فتتوب

(10/233)


وتذكرني عفو الكريم عن الورى ... فأحيا وأرجو عفوه فأنيب
وأخضع فِي قَوْلِي وَأَرْغَبُ سَائِلًا ... عَسَى كَاشِفُ الْبَلْوَى على يتوب
قال ابن طراز الْجَرِيرِيُّ: وَقَدْ رُوِيَتْ هَذِهِ الْأَبْيَاتُ لِمَنْ؟ قِيلَ لِأَبِي نُوَاسٍ وَهِيَ فِي زُهْدِيَّاتِهِ.
وَقَدِ اسْتَشْهَدَ بِهَا النُّحَاةُ فِي أَمَاكِنَ كَثِيرَةٍ قَدْ ذَكَرْنَاهَا. وقال حسن بن الدَّايَةِ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي نُوَاسٍ وَهُوَ فِي مرض الموت فقلت: عظني. فأنشأ يقول:
فكثر ما استطعت من الخطايا ... فإنك لاقيا ربا غفورا
ستبصر إن وردت عليه عفوا ... وتلقى سيدا ملكا قديرا
تَعَضُّ نَدَامَةً كَفَّيْكَ مِمَّا ... تَرَكْتَ مَخَافَةَ النَّارِ الشرورا
فقلت: ويحك! بمثل هذا الْحَالِ تَعِظُنِي بِهَذِهِ الْمَوْعِظَةِ؟ فَقَالَ: اسْكُتْ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ادَّخَرْتُ شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي» . وَقَدْ تقدم بهذا الاسناد عنه «لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ باللَّه» . وقال الربيع وغيره عن الشافعيّ قال:
دَخَلْنَا عَلَى أَبِي نُوَاسٍ فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ وَهُوَ يَجُودُ بِنَفْسِهِ فَقُلْنَا: مَا أَعْدَدْتَ لِهَذَا الْيَوْمِ؟ فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
تَعَاظَمَنِي ذَنْبِي فَلَمَّا قَرَنْتُهُ ... بِعَفْوِكَ رَبِّي كَانَ عَفْوُكَ أَعْظَمَا
وما زِلْتَ ذَا عَفْوٍ عَنِ الذَّنْبِ لَمْ تَزَلْ ... تجود وتعفو منّة وتكرما
ولولاك لم يقدر لا بليس عابد ... وكيف وقد أغوى صفيك آدما
رواه ابْنُ عَسَاكِرَ. وَرُوِيَ أَنَّهُمْ وَجَدُوا عِنْدَ رَأْسِهِ رُقْعَةً مَكْتُوبًا فِيهَا بِخَطِّهِ:
يَا رَبِّ إِنْ عظمت ذنوبي كثرة ... فلقد علمت بأن عفوك أعظم
أدعوك ربى كَمَا أَمَرْتَ تَضَرُّعًا ... فَإِذَا رَدَدْتَ يَدِي فَمَنْ ذا يرحم
إِنْ كَانَ لَا يَرْجُوكَ إِلَّا مُحْسِنٌ ... فَمَنِ الّذي يرجو المسيء المجرم
مَا لِي إِلَيْكَ وَسِيلَةٌ إِلَّا الرَّجَا ... وَجَمِيلُ عفوك ثم أنى مسلم
وقال يوسف بن الدَّايَةِ: دَخَلْتُ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي السِّيَاقِ فَقُلْتُ: كَيْفَ تَجِدُكَ؟ فَأَطْرَقَ مَلِيًّا ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ:
دَبَّ فِيَّ الْفَنَاءُ سُفْلًا وَعُلْوًا ... وَأُرَانِي أموت عضوا فعضوا
ليس يمضى من لحظة بِيَ إِلَّا ... نَقَصَتْنِي بِمُرِّهَا فِيَّ جَزْوَا
ذَهَبَتْ جِدَّتِي بِلَذَّةِ عَيْشِي ... وَتَذَكَّرْتُ طَاعَةَ اللَّهِ نِضْوَا
قَدْ أَسْأْنَا كُلَّ الْإِسَاءَةِ فاللَّهم ... صَفْحًا عَنَّا وغفرا وعفوا
ثم مات من ساعته سامحنا الله وإياه آمين.
وَقَدْ كَانَ نَقْشُ خَاتَمِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُخْلِصًا، فَأَوْصَى أَنْ يُجْعَلَ فِي فَمِهِ إِذَا غَسَّلُوهُ فَفَعَلُوا بِهِ ذَلِكَ. وَلَمَّا

(10/234)


مَاتَ لَمْ يَجِدُوا لَهُ مِنَ الْمَالِ سِوَى ثَلَاثِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَثِيَابِهِ وَأَثَاثِهِ، وَقَدْ كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بِبَغْدَادَ وَدُفِنَ فِي مَقَابِرِ الشونيزى فِي تَلِّ الْيَهُودِ. وَلَهُ خَمْسُونَ سَنَةً. وَقِيلَ سِتُّونَ سَنَةً، وَقِيلَ تِسْعٌ وَخَمْسُونَ سَنَةً.
وَقَدْ رَآهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ فِي الْمَنَامِ فَقَالَ لَهُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟ فَقَالَ: غَفَرَ لِي بأبيات قلتها في النرجس:
تفكر فِي نَبَاتِ الْأَرْضِ وَانْظُرْ ... إِلَى آثَارِ مَا صنع المليك
عيون من لجين شاخصات ... بأبصار هي الذهب السبيك
على قضب الزَّبَرْجَدِ شَاهِدَاتٌ ... بِأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ لَهُ شَرِيكُ
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: غَفَرَ لِي بِأَبْيَاتٍ قُلْتُهَا وَهِيَ تَحْتَ وِسَادَتِي فَجَاءُوا فَوَجَدُوهَا برقعة في خطه
يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة ... فلقد علمت أن عَفْوَكَ أَعْظَمُ
الْأَبْيَاتِ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ. وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ عَسَاكِرَ قَالَ بَعْضُهُمْ: رَأَيْتُهُ فِي الْمَنَامِ فِي هَيْئَةٍ حَسَنَةٍ وَنِعْمَةٍ عَظِيمَةٍ فَقُلْتُ لَهُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟ قَالَ: غَفَرَ لِي، قُلْتُ: بِمَاذَا وَقَدْ كُنْتَ مُخَلِّطًا عَلَى نَفْسِكَ؟
فَقَالَ: جَاءَ ذَاتَ لَيْلَةٍ رَجُلٌ صَالِحٌ إِلَى الْمَقَابِرِ فَبَسَطَ رِدَاءَهُ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ قَرَأَ فِيهِمَا ألفى قل هو الله أحد ثُمَّ أَهْدَى ثَوَابَ ذَلِكَ لِأَهْلِ تِلْكَ الْمَقَابِرِ فَدَخَلْتُ أَنَا فِي جُمْلَتِهِمْ، فَغَفَرَ اللَّهُ لِي. وقال ابن خلكان:
أول شعر قاله أبو نواس لَمَّا صَحِبَ أَبَا أُسَامَةَ وَالِبَةَ بْنَ الْحُبَابِ:
حَامِلُ الْهَوَى تَعِبُ ... يَسْتَخِفُّهُ الطَّرَبُ
إِنْ بَكَى يَحِقُّ لَهُ ... لَيْسَ مَا بِهِ لَعِبُ
تَضْحَكِينَ لَاهِيَةً ... وَالْمُحِبُّ يَنْتَحِبُ
تَعْجَبِينَ مِنْ سَقَمِي ... صِحَّتِي هِيَ الْعَجَبُ
وَقَالَ الْمَأْمُونُ: مَا أَحْسَنَ قَوْلَهُ:
وَمَا النَّاسُ إِلَّا هَالِكٌ وَابْنُ هَالِكٍ ... وَذُو نَسَبٍ فِي الْهَالِكِينَ عَرِيقُ
إِذَا امْتَحَنَ الدُّنْيَا لَبِيبٌ تَكَشَّفَتْ ... لَهُ عَنْ عَدُوٍّ فِي لباس صَدِيقِ
قَالَ ابْنُ خِلِّكَانَ: وَمَا أَشَدَّ رَجَاءَهُ بربه حيث يقول:
تحمل ما استطعت من الخطايا ... فإنك لاقيا ربا غفورا
ستبصر إن قدمت عليه عفوا ... وتلقى سيدا ملكا كبيرا
تَعَضُّ نَدَامَةً كَفَّيْكَ مِمَّا ... تَرَكْتَ مَخَافَةَ النَّارِ الشرورا
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا توفى أبو معاوية الضرير أَحَدُ مَشَايِخِ الْحَدِيثِ الثِّقَاتِ الْمَشْهُورِينَ. وَالْوَلِيدُ بْنُ مسلم الدمشقيّ تلميذ الأوزاعي. وفيها حبس الْأَمِينُ أَسَدَ بْنَ يَزِيدَ لِأَجْلِ أَنَّهُ نَقَمَ عَلَى الْأَمِينِ لَعِبَهُ وَتَهَاوُنَهُ فِي أَمْرِ الرَّعِيَّةِ، وارتكابه للصيد وغيره في هذا الوقت. وفيها وجه الأمين أحمد بن يزيد وعبد الله بن حميد ابن قحطبة في أربعين أَلْفًا إِلَى حُلْوَانَ لِقِتَالِ طَاهِرِ بْنِ الْحُسَيْنِ مِنْ جِهَةِ الْمَأْمُونِ، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى قَرِيبٍ

(10/235)


مِنْ حُلْوَانَ خَنْدَقَ طَاهِرٌ عَلَى جَيْشِهِ خَنْدَقًا وَجَعَلَ يَعْمَلُ الْحِيلَةَ فِي إِيقَاعِ الْفِتْنَةِ بَيْنَ الْأَمِيرَيْنِ، فَاخْتَلَفَا فَرَجَعَا وَلَمْ يُقَاتِلَاهُ، وَدَخَلَ طَاهِرٌ إِلَى حُلْوَانَ وَجَاءَهُ كِتَابُ الْمَأْمُونِ بِتَسْلِيمِ مَا تَحْتَ يَدِهِ إِلَى هَرْثَمَةَ بْنِ أَعْيَنَ، وَأَنْ يَتَوَجَّهَ هُوَ إِلَى الْأَهْوَازِ. فَفَعَلَ ذَلِكَ. وَفِيهَا رفع المأمون وزيره الفضل بن سهل وولاه أعمالا كبارا وسماه ذا الرئاستين. وَفِيهَا وَلَّى الْأَمِينُ نِيَابَةَ الشَّامِ لِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ صَالِحِ بْنِ عَلِيٍّ- وَقَدْ كَانَ أَخْرَجَهُ مِنْ سِجْنِ الرَّشِيدِ- وَأَمَرَهُ أَنْ يَبْعَثَ لَهُ رِجَالًا وَجُنُودًا لِقِتَالِ طَاهِرٍ وهَرْثَمَةَ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى الرَّقَّةِ أَقَامَ بِهَا وَكَتَبَ إِلَى رُؤَسَاءِ الشَّامِ يَتَأَلَّفُهُمْ وَيَدْعُوهُمْ إِلَى الطَّاعَةِ، فَقَدِمَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ، ثُمَّ وَقَعَتْ حُرُوبٌ كَانَ مَبْدَؤُهَا مِنْ أَهْلِ حِمْصَ، وَتَفَاقَمَ الْأَمْرُ وَطَالَ القتال بين الناس، ومات عبد الملك ابن صَالِحٍ هُنَالِكَ فَرَجَعَ الْجَيْشُ إِلَى بَغْدَادَ صُحْبَةَ الحسين بن على بن ماهان، فتلقاه أهل بغداد بالإكرام، وَذَلِكَ فِي شَهْرِ رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. فلما وصل جاء رَسُولُ الْأَمِينِ يَطْلُبُهُ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَنَا بِمُسَامِرٍ وَلَا مُضْحِكٍ، وَلَا وَلِيتُ لَهُ عَمَلًا ولا جبى على يدي مالا، فلماذا يطلبني في هذه الليلة؟.
ذكر سبب خلع محمد بن زبيدة الأمين
(وكيف أفضت الخلافة إلى أخيه عبد الله الْمَأْمُونِ) لَمَّا أَصْبَحَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مَاهَانَ وَلَمْ يَذْهَبْ إِلَى الْأَمِينِ لَمَّا طَلَبَهُ، وذلك بعد مقدمة بالجيش من الشام، قَامَ فِي النَّاسِ خَطِيبًا وَأَلَّبَهُمْ عَلَى الْأَمِينِ، وَذَكَرَ لَعِبَهُ وَمَا يَتَعَاطَاهُ مِنَ اللَّهْوِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَاصِي، وَأَنَّهُ لَا تَصْلُحُ الْخِلَافَةُ لِمَنْ هَذَا حَالُهُ، وَأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُوقِعَ الْبَأْسَ بَيْنَ النَّاسِ، ثُمَّ حَثَّهُمْ عَلَى الْقِيَامِ عَلَيْهِ وَالنُّهُوضِ إِلَيْهِ، وَنَدَبَهُمْ لِذَلِكَ، فَالْتَفَّ عَلَيْهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَجَمٌّ غَفِيرٌ، وَبَعَثَ مُحَمَّدٌ الْأَمِينُ إِلَيْهِ خَيْلًا فَاقْتَتَلُوا مَلِيًّا مِنَ النَّهَارِ، فَأَمَرَ الحسين أصحابه بالترجل إلى الأرض وأن يقاتلوا بالسيف والرماح، فانهزم جيش الأمين وخلعه وأخذ البيعة لعبد الله المأمون، وَذَلِكَ يَوْمَ الْأَحَدِ الْحَادِي عَشَرَ مِنْ شَهْرِ رجب من هذه السنة، وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الثُّلَاثَاءِ نَقَلَ الْأَمِينَ مِنْ قَصْرِهِ إِلَى قَصْرِ أَبِي جَعْفَرٍ وَسَطَ بَغْدَادَ، وَضَيَّقَ عَلَيْهِ وَقَيَّدَهُ وَاضْطَهَدَهُ، وَأَمَرَ الْعَبَّاسُ بْنُ عيسى بن موسى أمه زبيدة أن تنتقل إلى هناك فامتنعت فضربها بِالسَّوْطِ وَقَهَرَهَا عَلَى الِانْتِقَالِ فَانْتَقَلَتْ مَعَ أَوْلَادِهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ طَلَبُوا مِنَ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ أُعْطِيَاتِهِمْ وَاخْتَلَفُوا عَلَيْهِ وَصَارَ أهل بغداد فرقتين، فرقة مع الأمين وفرقة عليه، فاقتتلوا قتالا شديدا فغلب حرب الخليفة أولئك، وأسروا الحسين بن على ابن عِيسَى بْنِ مَاهَانَ وَقَيَّدُوهُ وَدَخَلُوا بِهِ عَلَى الخليفة ففكوا عنه قيوده وأجلسوه على سريره، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَ الْخَلِيفَةُ مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ سِلَاحٌ مِنَ الْعَامَّةِ أَنْ يُعْطَى سِلَاحًا من الخزائن، فانتهب الناس الخزائن التي فيها السلاح بسبب ذلك، وأمر الأمين فأتى بِالْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى فَلَامَهُ عَلَى مَا صَدَرَ مِنْهُ فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ بِأَنَّ عَفْوَ الْخَلِيفَةِ حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ. فَعَفَا عَنْهُ وَخَلَعَ عَلَيْهِ وَاسْتَوْزَرَهُ وَأَعْطَاهُ

(10/236)


الْخَاتَمَ وَوَلَّاهُ مَا وَرَاءَ بَابِهِ، وَوَلَّاهُ الْحَرْبَ وَسَيَّرَهُ إِلَى حُلْوَانَ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى الْجِسْرِ هرب في حاشيته وخدمه فَبَعَثَ إِلَيْهِ الْأَمِينُ مَنْ يَرُدُّهُ، فَرَكِبَتِ الْخُيُولُ وَرَاءَهُ فَأَدْرَكُوهُ فَقَاتَلَهُمْ وَقَاتَلُوهُ فَقَتَلُوهُ لِمُنْتَصَفِ رَجَبٍ، وجاءوا برأسه إلى الأمين، وجدد الناس البيعة للأمين يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَلَمَّا قُتِلَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى هَرَبَ الْفَضْلُ بْنُ الرَّبِيعِ الْحَاجِبُ واستحوذ طاهر بن الحسين على أكثر البلاد للمأمون، واستناب بها النواب، وخلع أكثر أهل الأقاليم الأمين وبايعوا المأمون، ودنا طَاهِرٌ إِلَى الْمَدَائِنِ فَأَخَذَهَا مَعَ وَاسِطٍ وَأَعْمَالِهَا، وَاسْتَنَابَ مِنْ جِهَتِهِ عَلَى الْحِجَازِ وَالْيَمَنِ وَالْجَزِيرَةِ وَالْمَوْصِلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَمْ يَبْقَ مَعَ الْأَمِينِ مِنَ الْبِلَادِ إِلَّا الْقَلِيلُ. وَفِي شَعْبَانَ مِنْهَا عقد الْأَمِينُ أَرْبَعَمِائَةِ لِوَاءٍ مَعَ كُلِّ لِوَاءٍ أَمِيرٌ، وبعثهم لقتال هرثمة، فَالْتَقَوْا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فَكَسَرَهُمْ هَرْثَمَةُ وَأَسَرَ مُقَدَّمَهُمْ عَلِيَّ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى بْنِ نَهِيكٍ، وَبَعَثَ بِهِ إِلَى الْمَأْمُونِ. وَهَرَبَ جَمَاعَةٌ من جند طاهر فساروا إلى الأمين فَأَعْطَاهُمْ أَمْوَالًا كَثِيرَةً، وَأَكْرَمَهُمْ وَغَلَّفَ لِحَاهُمْ بِالْغَالِيَةِ فَسُمُّوا جَيْشَ الْغَالِيَةِ. ثُمَّ نَدَبَهُمُ الْأَمِينُ وَأَرْسَلَ معهم جيشا كثيفا لقتال طاهر فهزمهم طاهر وَفَرَّقَ شَمْلَهُمْ، وَأَخَذَ مَا كَانَ مَعَهُمْ. وَاقْتَرَبَ طاهر مِنْ بَغْدَادَ فَحَاصَرَهَا وَبَعَثَ الْقُصَّادَ وَالْجَوَاسِيسَ يُلْقُونَ الْفِتْنَةَ بَيْنَ الْجُنْدِ حَتَّى تَفَرَّقُوا شِيَعًا، ثُمَّ وقع بين الجيش وتشعبت الْأَصَاغِرُ عَلَى الْأَكَابِرِ وَاخْتَلَفُوا عَلَى الْأَمِينِ فِي سَادِسِ ذِي الْحِجَّةِ فَقَالَ بَعْضُ الْبَغَادِدَةِ:
قُلْ لِأَمِينِ اللَّهِ فِي نَفْسِهِ ... مَا شَتَّتَ الْجُنْدَ سوى الغالية
وطاهر نفسي فدى طاهر ... بِرُسْلِهِ وَالْعُدَّةِ الْكَافِيهْ
أَضْحَى زِمَامُ الْمُلْكِ فِي كَفِّهِ ... مُقَاتِلًا لِلْفِئَةِ الْبَاغِيهْ
يَا نَاكِثًا أَسْلَمَهُ نكثه ... عيوبه في خبثه فَاشِيهْ
قَدْ جَاءَكَ اللَّيْثُ بِشَدَّاتِهِ ... مُسْتَكْلِبًا فِي أُسُدٍ ضَارِيَهْ
فَاهْرَبْ وَلَا مَهْرَبَ مِنْ مِثْلِهِ ... إِلَّا إِلَى النَّارِ أَوِ الْهَاوِيَهْ
فَتَفَرَّقَ عَلَى الْأَمِينِ شَمْلُهُ، وَحَارَ فِي أَمْرِهِ، وَجَاءَ طَاهِرُ بْنُ الْحُسَيْنِ بِجُيُوشِهِ فَنَزَلَ عَلَى بَابِ الْأَنْبَارِ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ لِثِنْتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَاشْتَدَّ الْحَالُ عَلَى أَهْلِ الْبَلَدِ وأخاف الدُّعَّارُ وَالشُّطَّارُ أَهْلَ الصَّلَاحِ، وَخُرِّبَتِ الدِّيَارُ، وَثَارَتِ الْفِتْنَةُ بَيْنَ النَّاسِ، حَتَّى قَاتَلَ الْأَخُ أَخَاهُ للأهواء المختلفة، والابن أباه، وجرت شرور عظيمة، واختلفت الأهواء وكثر الفساد والقتل داخل البلد.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا الْعَبَّاسُ بْنُ مُوسَى بْنِ عيسى الْهَاشِمِيُّ مِنْ قِبَلِ طَاهِرٍ، وَدَعَا لِلْمَأْمُونِ بِالْخِلَافَةِ بمكة والمدينة، وهو أول موسم دعي فيه للمأمون.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ
بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ الْحِمْصِيُّ إِمَامُ أَهْلِ حِمْصَ وَفَقِيهُهَا وَمُحَدِّثُهَا.

(10/237)


وَحَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ الْقَاضِي
عَاشَ فَوْقَ التِّسْعِينَ، وَلَمَّا احْتُضِرَ بَكَى بَعْضُ أَصْحَابِهِ فَقَالَ لَهُ: لَا تَبْكِ! وَاللَّهِ مَا حَلَلْتُ سَرَاوِيلِي عَلَى حَرَامٍ قَطُّ، وَلَا جَلَسَ بَيْنَ يَدَيَّ خَصْمَانِ فباليت على من وقع الحكم عليه منهما، قريبا كان أو بعيدا، ملكا أو سوقة.
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَرْزُوقٍ أَبُو مُحَمَّدٍ الزَّاهِدُ، كَانَ وَزِيرًا لِلرَّشِيدِ فَتَرَكَ ذَلِكَ كُلَّهُ وَتَزَهَّدَ وَأَوْصَى عِنْدَ مَوْتِهِ أَنْ يُطْرَحَ قَبْلَ مَوْتِهِ على مزبلة لعل الله أن يرحمه.
وأبو شِيصٍ
الشَّاعِرُ مُحَمَّدُ بْنُ رَزِينِ بْنِ سُلَيْمَانَ، كان أستاذ الشعراء، وإنشاء الشعر ونظمه أسهل عليه من شرب الماء، كذا قال ابن خلكان وغيره. وكان هو وأبو مسلم بْنُ الْوَلِيدِ- الْمُلَقَّبُ صَرِيعَ الْغَوَانِي- وَأَبُو نُوَاسٍ وَدِعْبِلٌ يَجْتَمِعُونَ وَيَتَنَاشَدُونَ. وَقَدْ عَمِيَ أَبُو الشِّيصِ فِي آخِرِ عُمُرِهِ، وَمِنْ جَيِّدِ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
وَقَفَ الْهَوَى بِي حَيْثُ أَنْتِ فَلَيْسَ لِي ... مُتَأَخَّرٌ عَنْهُ وَلَا مُتَقَدَّمُ
أَجِدُ الْمَلَامَةَ فِي هَوَاكِ لَذِيذَةً ... حُبًّا لِذِكْرِكِ فَلْيَلُمْنِي اللُّوَّمُ
أَشْبَهْتِ أعدائى فصرت أحبهم ... إذا كَانَ حَظِّي مِنْكِ حَظِّي مِنْهُمُ
وأَهَنْتِنِي فَأَهَنْتُ نَفْسِي صَاغِرًا ... مَا مَنْ يَهُونُ عَلَيْكِ مِمَّنْ تكرم
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ هذه السنة وقد ألح طاهر بن الحسين وهرثمة بن أعين ومن معهما في حصار بغداد والتضييق على الْأَمِينِ، وَهَرَبَ الْقَاسِمُ بْنُ الرَّشِيدِ وَعَمُّهُ مَنْصُورُ بْنُ الْمَهْدِيِّ إِلَى الْمَأْمُونِ فَأَكْرَمَهُمَا، وَوَلَّى أَخَاهُ القاسم جرجان. واشتد حصار بغداد ونصب عَلَيْهَا الْمَجَانِيقُ وَالْعَرَّادَاتُ. وَضَاقَ الْأَمِينُ بِهِمْ ذَرْعًا، وَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ مَا يُنْفِقُ فِي الْجُنْدِ، فَاضْطَرَّ إِلَى ضَرْبِ آنِيَةِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ دَرَاهِمَ وَدَنَانِيرَ، وَهَرَبَ كَثِيرٌ مِنْ جُنْدِهِ إِلَى طَاهِرٍ، وَقُتِلَ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَأُخِذَتْ أموال كثيرة منهم، وبعث الأمين إلى قصور كثيرة ودور شهيرة مزخرفة وأماكن ومحال كثيرة فحرقها بالنار لِمَا رَأَى فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَصْلَحَةِ، فَعَلَ كُلَّ هَذَا فِرَارًا مِنَ الْمَوْتِ وَلِتَدُومَ الْخِلَافَةُ لَهُ فَلَمْ تَدُمْ، وَقُتِلَ وَخُرِّبَتْ دِيَارُهُ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا، وَفَعَلَ طَاهِرٌ مِثْلَ مَا فَعَلَ الْأَمِينُ حَتَّى كَادَتْ بَغْدَادُ تَخْرَبُ بِكَمَالِهَا، فَقَالَ بعضهم فِي ذَلِكَ:
مَنْ ذَا أَصَابَكِ يَا بَغْدَادُ بِالْعَيْنِ ... أَلَمْ تَكُونِي زَمَاناً قُرَّةَ الْعَيْنِ
أَلَمْ يَكُنْ فِيكِ قَوْمٌ كَانَ مَسْكَنُهُمْ ... وَكَانَ قُرْبُهُمْ زنا مِنَ الزَّيْنِ
صَاحَ الْغُرَابُ بِهِمْ بِالْبَيْنِ فَافْتَرَقُوا ... مَاذَا لَقِيتِ بِهِمْ مِنْ لَوْعَةِ الْبَيْنِ
أَسْتَوْدِعُ اللَّهَ قَوْماً مَا ذَكَرْتُهُمْ ... إِلَّا تَحَدَّرَ مَاءُ العين من عيني

(10/238)


كانوا ففرقهم دَهْرٌ وَصَدَّعَهُمْ ... وَالدَّهْرُ يَصْدَعُ مَا بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ
وَقَدْ أَكْثَرَ الشُّعَرَاءُ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ أَوْرَدَ ابن جَرِيرٍ مِنْ ذَلِكَ طَرَفًا صَالِحًا، وَأَوْرَدَ فِي ذلك قصيدة طويلة جدا فِيهَا بَسْطُ مَا وَقَعَ، وَهِيَ هَوْلٌ مِنَ الأهوال اقتصرناها بالكلية.
واستحوذ طاهر على ما فِي الضِّيَاعِ مِنَ الْغَلَّاتِ وَالْحَوَاصِلِ لِلْأُمَرَاءِ وَغَيْرِهِمْ، ودعاهم إلى الأمان والبيعة للمأمون فاستجابوا جميعهم، مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُمَيْدِ بْنِ قَحْطَبَةَ، وَيَحْيَى بْنُ عَلِيِّ بْنِ مَاهَانَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْعَبَّاسِ الطُّوسِيُّ، وَكَاتَبَهُ خَلْقٌ مِنَ الْهَاشِمِيِّينَ وَالْأُمَرَاءِ، وَصَارَتْ قُلُوبُهُمْ مَعَهُ. وَاتَّفَقَ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ أَنْ ظَفِرَ أَصْحَابُ الْأَمِينِ بِبَعْضِ أَصْحَابِ طَاهِرٍ فَقَتَلُوا مِنْهُمْ طَائِفَةً عِنْدَ قَصْرِ صَالِحٍ، فلما سمع الأمين بذلك بطر وأشر وَأَقْبَلَ عَلَى اللَّهْوِ وَالشُّرْبِ وَاللَّعِبِ، وَوَكَّلَ الْأُمُورَ وَتَدْبِيرَهَا إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى بْنِ نَهِيكٍ، ثُمَّ قَوِيَتْ شَوْكَةُ أَصْحَابِ طَاهِرٍ وَضَعُفَ جَانِبُ الْأَمِينِ جِدًّا، وَانْحَازَ النَّاسُ إِلَى جَيْشِ طَاهِرٍ- وَكَانَ جَانِبُهُ آمِنًا جِدًّا لَا يَخَافُ أَحَدٌ فِيهِ مِنْ سَرِقَةٍ وَلَا نَهْبٍ وَلَا غَيْرِ ذلك- وقد أخذ طَاهِرٌ أَكْثَرَ مَحَالِّ بَغْدَادَ وَأَرْبَاضِهَا، وَمَنَعَ الْمَلَّاحِينَ أن يحملوا طعاما إلى من خالفه، فغلت الأسعار جدا عند من خالفه، وَنَدِمَ مَنْ لَمْ يَكُنْ خَرَجَ مِنْ بَغْدَادَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَمُنِعَتِ التُّجَّارُ مِنَ الْقُدُومِ إِلَى بَغْدَادَ بِشَيْءٍ مِنَ الْبَضَائِعِ أَوِ الدَّقِيقِ، وَصُرِفَتِ السفن إلى البصرة وغيرها، وجرت بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ، فَمِنْ ذَلِكَ وَقْعَةُ درب الحجارة كانت لأصحاب الْأَمِينِ، قُتِلَ فِيهَا خَلْقٌ مِنْ أَصْحَابِ طَاهِرٍ كَانَ الرَّجُلُ مِنَ الْعَيَّارِينَ وَالْحَرَافِشَةُ مِنَ الْبَغَادِدَةِ يَأْتِي عُرْيَانًا وَمَعَهُ بَارِيَّةٌ مُقَيَّرَةٌ، وَتَحْتَ كَتِفِهِ مِخْلَاةٌ فِيهَا حِجَارَةٌ، فَإِذَا ضَرَبَهُ الْفَارِسُ مِنْ بَعِيدٍ بِالسَّهْمِ اتَّقَاهُ بِبَارِيَّتِهِ فَلَا يُؤْذِيهِ، وَإِذَا اقترب منه رماه بحجر في المقلاع أصابه، فهزموهم لذلك. وَوَقْعَةُ الشَّمَّاسِيَّةِ أُسِرَ فِيهَا هَرْثَمَةُ بْنُ أَعْيَنَ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى طَاهِرٍ وَأَمَرَ بِعَقْدِ جِسْرٍ على دجلة فوق الشماسية، وعبر طاهر بِنَفْسِهِ وَمَنْ مَعَهُ إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ فَقَاتَلَهُمْ بِنَفْسِهِ أَشَدَّ الْقِتَالِ حَتَّى أَزَالَهُمْ عَنْ مَوَاضِعِهِمْ، وَاسْتَرَدَّ مِنْهُمْ هَرْثَمَةَ وَجَمَاعَةً مِمَّنْ كَانُوا أَسَرُوهُمْ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ وَقَالَ فِي ذَلِكَ: -
مُنِيتُ بِأَشْجَعِ الثَّقَلَيْنِ قَلْبًا ... إِذَا مَا طَالَ لَيْسَ كَمَا يَطُولُ
لَهُ مع كل ذي بدد رَقِيبٌ ... يُشَاهِدُهُ وَيَعْلَمُ مَا يَقُولُ
فَلَيْسَ بِمُغْفِلٍ أَمْرًا عِنَادًا ... إِذَا مَا الْأَمْرُ ضَيَّعَهُ الْغُفُولُ
وضعف أمر الأمين جِدًّا وَلَمْ يَبْقَ عِنْدَهُ مَالٌ يُنْفِقُهُ عَلَى جُنْدِهِ وَلَا عَلَى نَفْسِهِ، وَتَفَرَّقَ أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ عنه، وبقي مضطهدا ذليلا. ثم انقضت هَذِهِ السَّنَةُ بِكَمَالِهَا وَالنَّاسُ فِي بَغْدَادَ فِي قلاقل وأهوية مختلفة، وقتال وحريق، وسرقات، وساءت بغداد فلم يبق فيها أحد يرد عن أحدكما هي عادة الفتن.
وحج بالناس فيها العباس بن موسى الهاشمي من جهة المأمون. وفيها توفى شُعَيْبُ بْنُ حَرْبٍ أَحَدُ

(10/239)


الزُّهَّادِ. وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ إِمَامُ أَهْلِ الديار المصرية. وعبد الرحمن بن مسهر أَخُو عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ وَعُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الْمُلَقَّبُ بِوَرْشٍ أَحَدُ الْقُرَّاءِ الْمَشْهُورِينَ الرُّوَاةُ عَنْ نَافِعِ بْنِ أَبِي نُعَيْمٍ. وَوَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ الرواسي أَحَدُ أَعْلَامِ الْمُحَدِّثِينَ. مَاتَ عَنْ سِتٍّ وَسِتِّينَ سنة.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا خَامَرَ خُزَيْمَةُ بْنُ خَازِمٍ عَلَى مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ وَأَخَذَ الْأَمَانَ مِنْ طَاهِرٍ. وَدَخَلَ هَرْثَمَةُ بْنُ أعين من الْجَانِبَ الشَّرْقِيَّ. وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ لِثَمَانٍ خَلَوْنَ مِنَ الْمُحَرَّمِ وَثَبَ خُزَيْمَةُ بْنُ خَازِمٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى عَلَى جِسْرِ بَغْدَادَ فَقَطَعَاهُ وَنَصَبَا رَايَتَهُمَا عَلَيْهِ. وَدَعَوْا إِلَى بَيْعَةِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَأْمُونِ وَخَلْعِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ، وَدَخَلَ طَاهِرٌ يَوْمَ الْخَمِيسِ إِلَى الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ فَبَاشَرَ الْقِتَالَ بِنَفْسِهِ، وَنَادَى بِالْأَمَانِ لِمَنْ لَزِمَ مَنْزِلَهُ، وَجَرَتْ عِنْدَ دَارِ الرَّقِيقِ وَالْكَرْخِ وَغَيْرِهِمَا وَقَعَاتٌ، وأحاطوا بِمَدِينَةِ أَبِي جَعْفَرٍ وَالْخُلْدِ وَقَصْرِ زُبَيْدَةَ، وَنَصَبَ الْمَجَانِيقَ حَوْلَ السُّورِ وَحِذَاءَ قَصْرِ زُبَيْدَةَ، وَرَمَاهُ بالمنجنيق، فخرج الْأَمِينُ بِأُمِّهِ وَوَلَدِهِ إِلَى مَدِينَةِ أَبِي جَعْفَرٍ، وتفرق عنه عامة الناس في الطريق، لا يلوى أحد على أحد، حتى دخل قَصْرَ أَبِي جَعْفَرٍ وَانْتَقَلَ مِنَ الْخُلْدِ لِكَثْرَةِ مَا يَأْتِيهِ فِيهِ مِنْ رَمْيِ الْمَنْجَنِيقِ، وَأَمَرَ بِتَحْرِيقِ مَا كَانَ فِيهِ مِنَ الْأَثَاثِ وَالْبُسُطِ والأمتعة وغير ذلك، ثم حصر حَصْرًا شَدِيدًا. وَمَعَ هَذِهِ الشِّدَّةِ وَالضِّيقِ وَإِشْرَافِهِ عَلَى الْهَلَاكِ خَرَجَ ذَاتَ لَيْلَةٍ فِي ضَوْءِ الْقَمَرِ إِلَى شَاطِئِ دِجْلَةَ وَاسْتَدْعَى بِنَبِيذٍ وَجَارِيَةٍ فَغَنَّتْهُ فَلَمْ يَنْطَلِقْ لِسَانُهَا إِلَّا بِالْفُرَاقِيَّاتِ وَذِكْرِ الموت وهو يقول: غير هذا، وتذكر نظيره حتى غنته آخر ما غنته:
أما ورب السكون والحرك ... إن المنايا كثيرة الشَّرَكِ
مَا اخْتَلَفَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَلَا ... دَارَتْ نُجُومُ السَّمَاءِ فِي الْفَلَكِ
إِلَّا لِنَقْلِ السُّلْطَانِ من ملك ... قد انقضى ملكه إِلَى مَلِكِ
وَمُلْكُ ذِي الْعَرْشِ دَائِمٌ أَبَدًا ... لَيْسَ بِفَانٍ وَلَا بِمُشْتَرَكِ
قَالَ: فَسَبَّهَا وَأَقَامَهَا من عنده فَعَثَرَتْ فِي قَدَحٍ كَانَ لَهُ مِنْ بَلُّورٍ فَكَسَرَتْهُ فَتَطَيَّرَ بِذَلِكَ. وَلَمَّا ذَهَبَتِ الْجَارِيَةُ سَمِعَ صَارِخًا يَقُولُ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ 12: 41 فقال لجليسه: ويحك ألا تسمع، فتسمع فلا يَسْمَعْ شَيْئًا، ثُمَّ عَادَ الصَّوْتُ بِذَلِكَ فَمَا كَانَ إِلَّا لَيْلَةٌ أَوْ لَيْلَتَانِ حَتَّى قُتِلَ في رابع صفر يوم الأحد، وقد حصل له من الجهد والضيق في حصره شيئا كثيرا بحيث إنه لم يبق له طعام يأكله ولا شراب بحيث إنه جاع لَيْلَةً فَمَا أُتِيَ بِرَغِيفٍ وَدَجَاجَةٍ إِلَّا بَعْدَ شدة عظيمة، ثُمَّ طَلَبَ مَاءً فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ فَبَاتَ عَطْشَانًا فَلَمَّا أَصْبَحَ قُتِلَ قَبْلَ أَنْ يَشْرَبَ الماء.
كَيْفِيَّةِ مَقْتَلِهِ
لَمَّا اشْتَدَّ بِهِ الْأَمْرُ اجْتَمَعَ عِنْدَهُ مَنْ بَقِيَ مَعَهُ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَالْخَدَمِ وَالْجُنْدِ، فَشَاوَرَهُمْ فِي أَمْرِهِ فَقَالَتْ

(10/240)


طَائِفَةٌ: تَذْهَبُ بِمَنْ بَقِيَ مَعَكَ إِلَى الْجَزِيرَةِ أَوِ الشَّامِ فَتَتَقَوَّى بِالْأَمْوَالِ وَتَسْتَخْدِمَ الرِّجَالَ. وَقَالَ بعضهم تَخْرُجُ إِلَى طَاهِرٍ وَتَأْخُذُ مِنْهُ أَمَانًا وَتُبَايِعُ لِأَخِيكَ، فَإِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ فَإِنَّ أَخَاكَ سَيَأْمُرُ لك بما يكفيك ويكفى أهلك مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا، وَغَايَةُ مُرَادِكَ الدَّعَةُ وَالرَّاحَةُ، وذلك يحصل لك تاما. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ هَرْثَمَةُ أَوْلَى بِأَنْ يَأْخُذَ لك منه الأمان فإنه مولاكم وهو أحنى عليك. فَمَالَ إِلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ الْأَحَدِ الرَّابِعِ مِنْ صَفَرٍ بَعْدَ عِشَاءِ الْآخِرَةِ وَاعَدَ هَرْثَمَةَ أَنْ يَخْرُجَ إِلَيْهِ، ثُمَّ لَبِسَ ثِيَابَ الْخِلَافَةِ وَطَيْلَسَانًا وَاسْتَدْعَى بِوَلَدَيْهِ فَشَمَّهُمَا وَضَمَّهُمَا إِلَيْهِ وَقَالَ: أَسْتُوْدِعُكُمَا اللَّهَ، وَمَسَحَ دُمُوعَهُ بِطَرَفِ كُمِّهِ، ثُمَّ رَكِبَ عَلَى فَرَسٍ سَوْدَاءَ وَبَيْنَ يَدَيْهِ شَمْعَةٌ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى هَرْثَمَةَ أَكْرَمَهُ وَعَظَّمَهُ وَرَكِبَا فِي حَرَّاقَةٍ فِي دِجْلَةَ، وَبَلَغَ ذَلِكَ طَاهِرًا فَغَضِبَ مِنْ ذَلِكَ وَقَالَ: أَنَا الَّذِي فَعَلْتُ هَذَا كُلَّهُ، وَيَذْهَبُ إِلَى غَيْرِي، وَيُنْسَبُ هَذَا كُلُّهُ إِلَى هَرْثَمَةَ؟ فَلَحِقَهُمَا وَهُمَا فِي الحراقة فأمالها أصحابه فغرق من فيها، غير أن الْأَمِينَ سَبَحَ إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ وَأَسَرَهُ بَعْضُ الجند. وجاء فأعلم طاهرا فَبَعَثَ إِلَيْهِ جُنْدًا مِنَ الْعَجَمِ فَجَاءُوا إِلَى البيت الّذي هو فيه وَعِنْدَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ وَهُوَ يَقُولُ لَهُ: ادْنُ مِنِّي فَإِنِّي أَجِدُ وَحْشَةً شَدِيدَةً، وَجَعَلَ يَلْتَفُّ فِي ثِيَابِهِ شَدِيدًا وَقَلْبُهُ يَخْفِقُ خَفَقَانًا عَظِيمًا، كَادَ يَخْرُجُ مِنْ صَدْرِهِ. فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ أُولَئِكَ قَالَ: إِنَّا للَّه وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. ثُمَّ دَنَا مِنْهُ أَحَدُهُمْ فَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ عَلَى مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَجَعَلَ يَقُولُ: وَيْحَكُمُ أَنَا ابْنُ عَمِّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَا ابْنُ هَارُونَ، أَنَا أَخُو الْمَأْمُونِ، اللَّهَ اللَّهَ فِي دَمِي. فَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ تَكَاثَرُوا عَلَيْهِ وَذَبَحُوهُ مِنْ قفاه وهو مكبوب على وجهه وَذَهَبُوا بِرَأْسِهِ إِلَى طَاهِرٍ وَتَرَكُوا جُثَّتَهُ، ثُمَّ جاءوا بكرة إِلَيْهَا فَلَفُّوهَا فِي جُلِّ فَرَسٍ وَذَهَبُوا بِهَا. وذلك لَيْلَةَ الْأَحَدِ لِأَرْبَعِ لَيَالٍ خَلَتْ مِنْ صَفَرٍ من هذه السنة.
وهذا شيء من ترجمته
هو محمد الْأَمِينُ بْنُ هَارُونَ الرَّشِيدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَهْدِيِّ بْنِ الْمَنْصُورِ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَيُقَالُ أَبُو موسى الهاشمي العباسي، وَأُمُّهُ أُمُّ جَعْفَرٍ زُبَيْدَةُ بِنْتُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ، كَانَ مَوْلِدُهُ بِالرُّصَافَةِ سَنَةَ سبعين ومائة [قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا عياش بن هشام عن أبيه قال: ولد محمد الأمين بن هارون الرشيد في شوال سَنَةَ سَبْعِينَ وَمِائَةٍ [1]] . وَأَتَتْهُ الْخِلَافَةُ بِمَدِينَةِ السَّلَامِ بغداد لِثَلَاثَ عَشْرَةَ لَيْلَةً بَقِيَتْ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ سنة ثلاث وتسعين وقيل ليلة الأحد لخمس بقين من المحرم، وقتل سَنَةَ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ، قَتَلَهُ قُرَيْشٌ الدَّنْدَانِيُّ، وَحُمِلُ رَأْسُهُ إِلَى طَاهِرِ بْنِ الْحُسَيْنِ فَنَصَبَهُ عَلَى رُمْحٍ وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ 3: 26 وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ أَرْبَعَ سِنِينَ وَسَبْعَةَ أَشْهُرٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ، وَكَانَ طَوِيلًا سَمِينًا أَبْيَضَ أَقْنَى الْأَنْفِ صَغِيرَ الْعَيْنَيْنِ، عَظِيمَ الْكَرَادِيسِ بَعِيدًا مَا بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ. وَقَدْ رَمَاهُ بَعْضُهُمْ بِكَثْرَةِ اللَّعِبِ وَالشُّرْبِ وَقِلَّةِ الصَّلَاةِ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ طَرَفًا من سيرته في إكثاره من
__________
[1] زيادة من المصرية.

(10/241)


اقتناء السودان والخصيان، وإعطائه الْأَمْوَالَ وَالْجَوَاهِرَ، وَأَمْرِهِ بِإِحْضَارِ الْمَلَاهِي وَالْمُغَنِّينَ مِنْ سائر البلاد، وَأَنَّهُ أَمَرَ بِعَمَلِ خَمْسِ حَرَّاقَاتٍ عَلَى صُورَةِ الْفِيلِ وَالْأَسَدِ وَالْعُقَابِ وَالْحَيَّةِ وَالْفَرَسِ، وَأَنْفَقَ عَلَى ذَلِكَ أَمْوَالًا جَزِيلَةً جِدًّا، وَقَدِ امْتَدَحَهُ أَبُو نُوَاسٍ بِشِعْرٍ أَقْبَحَ فِي مَعْنَاهُ مِنْ صَنِيعِ الْأَمِينِ فَإِنَّهُ قَالَ فِي أَوَّلِهِ:
سَخَّرَ اللَّهُ لِلْأَمِينِ مَطَايَا ... لَمْ تُسَخَّرْ لِصَاحِبِ الْمِحْرَابِ
فَإِذَا مَا رِكَابُهُ سِرْنَ بَرًّا ... سَارَ فِي الْمَاءِ رَاكِبًا لَيْثَ غَابِ
ثُمَّ وَصَفَ كُلًّا مِنْ تِلْكَ الْحَرَّاقَاتِ. وَاعْتَنَى الْأَمِينُ بِبِنَايَاتٍ هَائِلَةٍ لِلنُّزْهَةِ وغيرها، وَأَنْفَقَ فِي ذَلِكَ أَمْوَالًا كَثِيرَةً جِدًّا. فَكَثُرَ النَّكِيرُ عَلَيْهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ.
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّهُ جَلَسَ يَوْمًا فِي مَجْلِسٍ أَنْفَقَ عَلَيْهِ ما لا جَزِيلًا فِي الْخُلْدِ، وَقَدْ فُرِشَ لَهُ بِأَنْوَاعِ الْحَرِيرِ، وَنُضِّدَ بِآنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَأَحْضَرَ نُدَمَاءَهُ وَأَمَرَ الْقَهْرَمَانَةَ أَنْ تُهَيِّئَ لَهُ مِائَةَ جَارِيَةٍ حَسْنَاءَ وَأَمَرَهَا أَنْ تَبْعَثَهُنَّ إِلَيْهِ عَشْرًا بَعْدَ عَشْرٍ يُغَنِّينَهُ، فَلَمَّا جَاءَتِ الْعَشْرُ الْأُوَلُ انْدَفَعْنَ يغنين بصوت واحد:
همو قَتَلُوهُ كَيْ يَكُونُوا مَكَانَهُ ... كَمَا غَدَرَتْ يَوْمًا بِكِسْرَى مَرَازِبُهُ
فَغَضِبَ مِنْ ذَلِكَ وَتَبَرَّمَ وَضَرَبَ رأسها بالكأس، وأمر بالقهرمانة أَنْ تُلْقَى إِلَى الْأَسَدِ فَأَكَلَهَا.
ثُمَّ اسْتَدْعَى بعشرة فَانْدَفَعْنَ يُغَنِّينَ:
مَنْ كَانَ مَسْرُورًا بِمَقْتَلِ مَالِكٍ ... فَلْيَأْتِ نِسْوَتَنَا بِوَجْهِ نَهَارِ
يَجِدِ النِّسَاءَ حَوَاسِرًا يَنْدُبْنَهُ ... يَلْطِمْنَ قَبْلَ تَبَلُّجِ الْأَسْحَارِ
فَطَرَدَهُنَّ وَاسْتَدْعَى بِعَشْرٍ غَيْرِهِنَّ، فَلَمَّا حَضَرْنَ انْدَفَعْنَ يُغَنِّينَ بِصَوْتٍ وَاحِدٍ:
كُلَيْبٌ لَعَمْرِي كَانَ أَكْثَرَ نَاصِرًا ... وَأَيْسَرَ ذَنْبًا مِنْكَ ضُرِّجَ بِالدَّمِ
فَطَرَدَهُنَّ وَقَامَ مِنْ فَوْرِهِ وَأَمَرَ بِتَخْرِيبِ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ وَتَحْرِيقِ مَا فيه.
وذكر أَنَّهُ كَانَ كَثِيرَ الْأَدَبِ فَصِيحًا يَقُولُ الشِّعْرَ وَيُعْطِي عَلَيْهِ الْجَوَائِزَ الْكَثِيرَةَ، وَكَانَ شَاعِرُهُ أَبَا نُوَاسٍ، وَقَدْ قَالَ فِيهِ أَبُو نُوَاسٍ مَدَائِحَ حسانا، وَقَدْ وَجَدَهُ مَسْجُونًا فِي حَبْسِ الرَّشِيدِ مَعَ الزَّنَادِقَةِ فَأَحْضَرَهُ وَأَطْلَقُهُ وَأَطْلَقَ لَهُ مَالًا وَجَعَلَهُ مِنْ نُدَمَائِهِ، ثُمَّ حَبَسَهُ مَرَّةً أُخْرَى فِي شُرْبِ الْخَمْرِ وَأَطَالَ حَبْسَهُ ثُمَّ أَطْلَقَهُ وَأَخَذَ عَلَيْهِ الْعَهْدَ أَنْ لَا يَشْرَبَ الْخَمْرَ وَلَا يأتى الذكور من المردان فَامْتَثَلَ ذَلِكَ، وَكَانَ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ ذلك بعد ما اسْتَتَابَهُ الْأَمِينُ، وَقَدْ تَأَدَّبَ عَلَى الْكِسَائِيِّ وَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ. وَرَوَى الْخَطِيبُ مِنْ طَرِيقِهِ حَدِيثًا أَوْرَدَهُ عَنْهُ لَمَّا عُزِّيَ فِي غُلَامٍ لَهُ تُوُفِّيَ بِمَكَّةَ فَقَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَبِيهِ عَنِ الْمَنْصُورِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ مات محرمات حُشِرَ مُلَبِّيًا» . وَقَدْ قَدَّمْنَا مَا وَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ مِنَ الِاخْتِلَافِ وَالْفُرْقَةِ، حَتَّى أَفْضَى ذلك إلى خلعه وعزله، ثم

(10/242)


إلى التضيق عليه، ثم إلى قتله، وَأَنَّهُ حُصِرَ فِي آخِرِ أَمْرِهِ حَتَّى احْتَاجَ إلى مصانعة هرثمة، وأنه ألقى في حراقة ثم ألقى منها فسبح إلى الشط الآخر فدخل دار بعض الْعَامَّةِ وَهُوَ فِي غَايَةِ الْخَوْفِ وَالدَّهَشِ وَالْجُوعِ والعرى، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يُلَقِّنُهُ الصَّبْرَ وَالِاسْتِغْفَارَ، فَاشْتَغَلَ بِذَلِكَ سَاعَةً مِنَ اللَّيْلِ، ثُمَّ جَاءَ الطَّلَبُ وَرَاءَهُ مِنْ جِهَةِ طَاهِرِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ مُصْعَبٍ، فدخلوا عليه وكان الباب ضيقا فتدافعوا عليه وَقَامَ إِلَيْهِمْ فَجَعَلَ يُدَافِعُهُمْ عَنْ نَفْسِهِ بِمِخَدَّةٍ فِي يَدِهِ، فَمَا وَصَلُوا إِلَيْهِ حَتَّى عَرْقَبُوهُ وضربوا رأسه أو خاصرته بِالسُّيُوفِ، ثُمَّ ذَبَحُوهُ وَأَخَذُوا رَأْسَهُ وَجُثَّتَهُ فَأَتَوْا بهما طاهرا، فَفَرِحَ بِذَلِكَ فَرَحًا شَدِيدًا، وَأَمَرَ بِنَصْبِ الرَّأْسِ فَوْقَ رُمْحٍ هُنَاكَ حَتَّى أَصْبَحَ النَّاسُ فَنَظَرُوا إِلَيْهِ فَوْقَ الرُّمْحِ عِنْدَ بَابِ الْأَنْبَارِ، وَكَثُرَ عَدَدُ النَّاسِ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ. ثُمَّ بَعَثَ طَاهِرٌ بِرَأْسِ الْأَمِينِ مَعَ ابْنِ عَمِّهِ مُحَمَّدِ بْنِ مصعب، وبعث معه بالبردة والقضيب والنعل- وَكَانَ مِنْ خُوصٍ مُبَطَّنٍ- فَسَلَّمَهُ إِلَى ذِي الرئاستين، فَدَخَلَ بِهِ عَلَى الْمَأْمُونِ عَلَى تُرْسٍ، فَلَمَّا رَآهُ سَجَدَ وَأَمَرَ لِمَنْ جَاءَ بِهِ بِأَلْفِ ألف درهم. وقد قال ذو الرئاستين حِينَ قَدِمَ الرَّأْسُ يُؤَلِّبُ عَلَى طَاهِرٍ: أَمَرْنَاهُ بأن يأتى به أسيرا فأرسل به إلينا عقيرا. فقال المأمون:
مَضَى مَا مَضَى. وَكَتَبَ طَاهِرٌ إِلَى الْمَأْمُونِ كتابا ذكر فيه صورة ما وقع حَتَّى آلَ الْحَالُ إِلَى مَا آلَ إِلَيْهِ.
وَلَمَّا قُتِلَ الْأَمِينُ هَدَأَتِ الْفِتَنُ وَخَمَدَتِ الشُّرُورُ، وأمن الناس، وطابت النفس، ودخل طاهر بغداد يوم الْجُمُعَةَ وَخَطَبَهُمْ خُطْبَةً بَلِيغَةً ذَكَرَ فِيهَا آيَاتٍ كَثِيرَةً مِنَ الْقُرْآنِ، وَأَنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ، وَأَمَرَهُمْ فِيهَا بِالْجَمَاعَةِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى مُعَسْكَرِهِ فَأَقَامَ بِهِ وَأَمَرَ بِتَحْوِيلِ زُبَيْدَةَ مِنْ قَصْرِ أَبِي جَعْفَرٍ إِلَى قَصْرِ الْخُلْدِ، فَخَرَجَتْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الثَّانِي عَشَرَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَبَعَثَ بِمُوسَى وَعَبْدِ اللَّهِ ابْنَيِ الْأَمِينِ إِلَى عَمِّهِمَا الْمَأْمُونِ بِخُرَاسَانَ، وَكَانَ ذَلِكَ رَأْيًا سديدا. وقد وثب طائفة من الجند على طاهر بَعْدَ خَمْسَةِ أَيَّامٍ مِنْ مَقْتَلِ الْأَمِينِ وَطَلَبُوا مِنْهُ أَرْزَاقَهُمْ فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ إِذْ ذَاكَ مَالٌ، فَتَحَزَّبُوا وَاجْتَمَعُوا وَنَهَبُوا بَعْضَ مَتَاعِهِ وَنَادَوْا: يَا مُوسَى يَا مَنْصُورُ، وَاعْتَقَدُوا أَنَّ مُوسَى بن الأمين الملقب بالناطق هناك، وإذا هو قد سيّره إلى عمه. وَانْحَازَ طَاهِرٌ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْقُوَّادِ نَاحِيَةً وعزم على قتالهم بِمَنْ مَعَهُ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَيْهِ وَاعْتَذَرُوا وَنَدِمُوا، فَأَمَرَ لَهُمْ بِرِزْقِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ بِعِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ اقْتَرَضَهَا مِنْ بَعْضِ النَّاسِ، فَطَابَتِ الْخَوَاطِرُ. ثم إن إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمَهْدِيِّ قَدْ أَسِفَ عَلَى قَتْلِ محمد الأمين بن زُبَيْدَةَ وَرَثَاهُ بِأَبْيَاتٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ الْمَأْمُونَ فَبَعَثَ إِلَيْهِ يُعَنِّفُهُ وَيَلُومُهُ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ مَرَاثِيَ كَثِيرَةً لِلنَّاسِ فِي الْأَمِينِ، وَذَكَرَ مِنْ أَشْعَارِ الَّذِينَ هَجَوْهُ طَرَفًا، وَذَكَرَ مِنْ شِعْرِ طَاهِرِ بْنِ الْحُسَيْنِ حِينَ قَتَلَهُ قَوْلَهُ: -
مَلَكْتَ النَّاسَ قَسْرًا وَاقْتِدَارًا ... وَقَتَلْتَ الْجَبَابِرَةَ الْكِبَارَا
وَوَجَّهْتَ الْخِلَافَةَ نَحْوَ مَرْوَ ... إِلَى الْمَأْمُونِ تبتدر ابتدارا

(10/243)


ذكر خلافة عبد الله المأمون بن الرشيد هارون
لما قتل أخوه محمد فِي رَابِعِ صَفَرٍ مِنْ سَنَةِ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ ومائة وقيل في المحرم، استوسقت البيعة شرقا وغربا للمأمون: فَوَلَّى الْحَسَنَ بْنَ سَهْلٍ نِيَابَةَ الْعِرَاقِ وَفَارِسَ وَالْأَهْوَازِ وَالْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ وَالْحِجَازِ وَالْيَمَنِ، وَبَعَثَ نُوَّابَهُ إِلَى هَذِهِ الْأَقَالِيمِ، وَكَتَبَ إِلَى طَاهِرِ بْنِ الحسين أَنْ يَنْصَرِفَ إِلَى الرَّقَّةِ لِحَرْبِ نَصْرِ بْنِ شَبَثٍ، وَوَلَّاهُ نِيَابَةَ الْجَزِيرَةِ وَالشَّامِ وَالْمَوْصِلِ وَالْمَغْرِبِ. وَكَتَبَ إِلَى هَرْثَمَةَ بْنِ أَعْيَنَ بِنِيَابَةِ خُرَاسَانَ. وفيها حج بالناس العباس بن عيسى الهاشمي. وفيها توفى سفيان بن عيينة. وعبد الرحمن ابن مهدي. ويحيى القطان. فهؤلاء الثلاثة سادة العلماء في الحديث والفقه وأسماء الرجال.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا قَدِمَ الْحَسَنُ بْنُ سَهْلٍ بَغْدَادَ نَائِبًا عَلَيْهَا مِنْ جِهَةِ الْمَأْمُونِ، وَوَجَّهَ نُوَّابَهُ إِلَى بَقِيَّةِ أَعْمَالِهِ، وَتَوَجَّهَ طَاهِرٌ إِلَى نِيَابَةِ الْجَزِيرَةِ وَالشَّامِ ومصر وبلاد المغرب. وسار هرثمة إلى خراسان نائبا عليها، وَكَانَ قَدْ خَرَجَ فِي أَوَاخِرِ السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْهَا، الْحَسَنُ الْهِرْشُ يَدْعُو إلى الرضى من آل محمد، فَجَبَى الْأَمْوَالَ وَانْتَهَبَ الْأَنْعَامَ وَعَاثَ فِي الْبِلَادِ فَسَادًا فَبَعَثَ إِلَيْهِ الْمَأْمُونُ جَيْشًا فَقَتَلُوهُ فِي المحرم من هذه السنة. وفيها خَرَجَ بِالْكُوفَةِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنَ الْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ يَوْمَ الْخَمِيسِ لِعَشْرٍ خلون من جمادى الآخرة، يدعو إلى الرضى مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ، وَالْعَمَلِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَةِ، وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ ابْنُ طَبَاطَبَا، وَكَانَ الْقَائِمُ بِأَمْرِهِ وَتَدْبِيرِ الْحَرْبِ بَيْنَ يَدَيْهِ أَبُو السَّرَايَا السري بن منصور الشيباني، وقد اتفق أهل الكوفة على موافقته وَاجْتَمَعُوا عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، وَوَفَدَتْ إليه الأعراب من نواحي الْكُوفَةِ، وَكَانَ النَّائِبُ عَلَيْهَا مِنْ جِهَةِ الْحَسَنِ بن سهل سليمان ابن أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ، فَبَعَثَ الْحَسَنُ بْنُ سَهْلٍ يَلُومُهُ وَيُؤَنِّبُهُ عَلَى ذَلِكَ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ بِعَشَرَةِ آلاف فارس صحبة زاهر بن زُهَيْرِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، فَتَقَاتَلُوا خَارِجَ الْكُوفَةِ فَهَزَمُوا زاهرا وَاسْتَبَاحُوا جَيْشَهُ وَنَهَبُوا مَا كَانَ مَعَهُ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءَ سَلْخَ جُمَادَى الْآخِرَةِ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ مِنَ الْوَقْعَةِ تُوُفِّيَ ابْنُ طَبَاطَبَا أَمِيرُ الشِّيعَةِ فَجْأَةً، يُقَالُ إِنَّ أَبَا السَّرَايَا سَمَّهُ وَأَقَامَ مَكَانَهُ غُلَامًا أَمْرَدَ يُقَالُ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَلِيِّ ابن الحسين بن على بن طالب. وانعزل زاهر بِمَنْ بَقِيَ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى قَصْرِ ابْنِ هُبَيْرَةَ، وَأَرْسَلَ الْحَسَنُ بْنُ سَهْلٍ مَعَ عبدوس بن محمد أربعة آلاف فارس، صورة مدد لزاهر، فالتقوهم وَأَبُو السَّرَايَا فَهَزَمَهُمْ أَبُو السَّرَايَا وَلَمْ يُفْلِتْ مِنْ أَصْحَابِ عُبْدُوسٍ أَحَدٌ، وَانْتَشَرَ الطَّالِبِيُّونَ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ، وَضَرَبَ أَبُو السَّرَايَا الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ في الكوفة، ونقش عليه إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا 61: 4 الآية. ثُمَّ بَعَثَ أَبُو السَّرَايَا جُيُوشَهُ إِلَى الْبَصْرَةِ وواسط والمدائن فهزموا من فيها من النواب ودخلوها قهرا، وقويت شوكتهم، فأهم ذلك الحسن بن سهل وكتب إلى هرثمة يَسْتَدْعِيهِ لِحَرْبِ أَبِي السَّرَايَا

(10/244)


فَتَمَنَّعَ ثُمَّ قَدِمَ عَلَيْهِ فَخَرَجَ إِلَى أَبِي السَّرَايَا فَهَزَمَ أَبَا السَّرَايَا غَيْرَ مَرَّةٍ وَطَرَدَهُ حَتَّى رَدَّهُ إِلَى الْكُوفَةِ.
وَوَثَبَ الطَّالِبِيُّونَ عَلَى دَورِ بَنِي الْعَبَّاسِ بِالْكُوفَةِ فَنَهَبُوهَا وَخَرَّبُوا ضِيَاعَهُمْ، وفعلوا أفعالا قبيحة، وبعث أبو السرايا إلى المدائن فاستجابوا، وَبَعَثَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ حُسَيْنَ بْنَ حَسَنٍ الأفطس ليقيم لهم الموسم فخاف أَنْ يَدْخُلَهَا جَهْرَةً، وَلَمَّا سَمِعَ نَائِبُ مَكَّةَ- وَهُوَ دَاوُدُ بْنُ عِيسَى بْنِ مُوسَى بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ- هَرَبَ مِنْ مَكَّةَ طَالِبًا أَرْضَ الْعِرَاقِ، وَبَقِيَ الناس بلا إمام فسئل مؤذنها أحمد ابن مُحَمَّدِ بْنِ الْوَلِيدِ الْأَزْرَقِيُّ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمْ فَأَبَى، فَقِيلَ لِقَاضِيهَا مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَخْزُومِيِّ فَامْتَنَعَ، وَقَالَ: لِمَنْ أَدْعُو وَقَدْ هَرَبَ نواب البلاد. فقدم الناس رجلا منهم فَصَلَّى بِهِمُ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ، وَبَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى حسين الأفطس فدخل مكة في عشرة أنفس قَبْلَ الْغُرُوبِ فَطَافَ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ وَقَفَ بِعَرَفَةَ ليلا وصلى بالناس الفجر بمزدلفة وأقام بقية المناسك في أيام منى، فدفع الناس من عرفة بغير إمام. وفيها توفى إسحاق بن سليمان. وابن نمير. وابن سابور. وعمر والعنبري، والد مطيع البلخي.
ويونس بن بكير
. ثم دخلت سنة مائتين من الهجرة
في أول يوم منها جَلَسَ حُسَيْنُ بْنُ حَسَنٍ الْأَفْطَسُ عَلَى طِنْفِسَةٍ مُثَلَّثَةٍ خَلْفَ الْمَقَامِ وَأَمَرَ بِتَجْرِيدِ الْكَعْبَةِ مِمَّا عَلَيْهَا مِنْ كَسَاوِي بَنِي الْعَبَّاسِ، وَقَالَ: نُطَهِّرُهَا من كساويهم. وكساها ملاءتين صفراوتين عَلَيْهِمَا اسْمُ أَبِي السَّرَايَا، ثُمَّ أَخَذَ مَا فِي كَنْزِ الْكَعْبَةِ مِنَ الْأَمْوَالِ، وَتَتَبَّعَ وَدَائِعَ بنى العباس فأخذها، حتى أنه أخذ مال ذوى المال ويزعم أنه للمسودة. وهرب منه الناس إلى الجبال، وسبك ما على رءوس الأساطين من الذهب، وكان ينزل مقدار يسير بعد جهد، وَقَلَعُوا مَا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مِنَ الشَّبَابِيكِ وباعوها بالبخس، وَأَسَاءُوا السِّيرَةَ جِدًّا. فَلَمَّا بَلَغَهُ مَقْتَلُ أَبِي السَّرَايَا كَتَمَ ذَلِكَ وَأَمَّرَ رَجُلًا مِنَ الطَّالِبِيِّينَ شيخا كبيرا، واستمر على سوء السيرة، ثم هرب في سادس عشر المحرم منها، وذلك لما قهر هرثمة أَبَا السَّرَايَا وَهَزَمَ جَيْشَهُ وَأَخْرَجَهُ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الطَّالِبِيِّينَ مِنَ الْكُوفَةِ، وَدَخَلَهَا هَرْثَمَةُ وَمَنْصُورُ بْنُ الْمَهْدِيِّ فَأَمَّنُوا أَهْلَهَا وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِأَحَدٍ. وَسَارَ أَبُو السَّرَايَا بِمَنْ مَعَهُ إِلَى الْقَادِسِيَّةِ، ثُمَّ سَارَ مِنْهَا فَاعْتَرَضَهُمْ بَعْضُ جُيُوشِ الْمَأْمُونِ فهزمهم أَيْضًا وَجُرِحَ أَبُو السَّرَايَا جِرَاحَةً مُنْكَرَةً جِدًّا، وَهَرَبُوا يُرِيدُونَ الْجَزِيرَةَ إِلَى مَنْزِلِ أَبِي السَّرَايَا بِرَأْسِ الْعَيْنِ، فَاعْتَرَضَهُمْ بَعْضُ الْجُيُوشِ أَيْضًا فَأَسَرُوهُمْ وَأَتَوْا بِهِمُ الْحَسَنَ بْنَ سَهْلٍ وَهُوَ بِالنَّهْرَوَانِ حِينَ طَرَدَتْهُ الْحَرْبِيَّةُ، فَأَمَرَ بِضَرْبِ عُنُقِ أَبِي السَّرَايَا فَجَزِعَ مِنْ ذَلِكَ جَزَعًا شَدِيدًا جِدًّا وطيف برأسه وأمر بجسده أن يقطع اثنتين وينصب على جسرى بَغْدَادَ، فَكَانَ بَيْنَ خُرُوجِهِ وَقَتْلِهِ عَشَرَةُ أَشْهُرٍ. فبعث الحسن بن سهل بْنَ مُحَمَّدٍ إِلَى الْمَأْمُونِ مَعَ رَأْسِ أَبِي السرايا. وقال بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
أَلَمْ تَرَ ضَرْبَةَ الْحَسَنِ بْنِ سَهْلٍ ... بِسَيْفِكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَا

(10/245)


أَدَارَتْ مَرْوَ رَأْسَ أَبِي السَّرَايَا ... وَأَبْقَتْ عِبْرَةً للعالمينا
وَكَانَ الَّذِي فِي يَدِهِ الْبَصْرَةُ مِنَ الطَّالِبِيِّينَ زَيْدُ بْنُ مُوسَى بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الحسين ابن عَلِيٍّ، وَيُقَالُ لَهُ زَيْدُ النَّارِ، لِكَثْرَةِ مَا حَرَّقَ مِنَ الْبُيُوتِ الَّتِي لِلْمُسَوِّدَةِ، فَأَسَرَهُ عَلِيُّ بن سَعِيدٍ وَأَمَّنَهُ وَبَعَثَ بِهِ وَبِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْقُوَّادِ إِلَى الْيَمَنِ لِقِتَالِ مَنْ هُنَاكَ مِنْ الطالبيين.
وَفِيهَا خَرَجَ بِالْيَمَنِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَيُقَالُ لَهُ الْجَزَّارُ لِكَثْرَةِ مَنْ قَتَلَ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، وَأَخَذَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ. وهو الّذي كان بمكة وفعل فيها ما فعل كما تقدم، فلما بلغة قتل أبى السرايا هرب إلى اليمن، فلما بلغ نائب اليمن خبره ترك اليمن وسار إلى خراسان وَاجْتَازَ بِمَكَّةَ وَأَخَذَ أَمَّهُ مِنْهَا. وَاسْتَحْوَذَ إِبْرَاهِيمُ هذا على بلاد اليمن وجرت حروب كثيرة يَطُولُ ذِكْرُهَا، وَرَجَعَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْعَلَوِيُّ عما كان بزعمه، وكان قد ادعى الخلافة بمكة، وَقَالَ: كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ الْمَأْمُونَ قَدْ مَاتَ وَقَدْ تَحَقَّقَتْ حَيَاتُهُ، وَأَنَا أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ مِمَّا كُنْتُ ادَّعَيْتُ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ رجعت إلى الطاعة وأنا رجل من المسلمين. ولما هزم هرثمة أبا السرايا ومن كان معه من ولاة الخلافة وهو محمد بن محمد وشى بعض الناس إلى المأمون أن هرثمة راسل أبا السرايا وهو الّذي أمره بالظهور، فاستدعاه المأمون إِلَى مَرْوَ فَأَمَرَ بِهِ فَضُرِبَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَوُطِئَ بَطْنُهُ ثُمَّ رُفِعَ إِلَى الْحَبْسِ ثُمَّ قُتِلَ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَيَّامٍ، وَانْطَوَى خَبَرُهُ بِالْكُلِّيَّةِ. ولما وصل خبر قتله إلى بغداد عبثت العامة والحربية بالحسن ابن سهل نائب العراق وَقَالُوا: لَا نَرْضَى بِهِ وَلَا بِعُمَّالِهِ بِبِلَادِنَا، وأقاموا إسحاق بن موسى المهدي نائبا، واجتمع أَهْلُ الْجَانِبَيْنِ عَلَى ذَلِكَ، وَالْتَفَّتْ عَلَى الْحَسَنِ بن سهل جماعة من الأمراء والأجناد، وأرسل من وافق العامة على ذلك من الأمراء يحرضهم على القتال، وجرت الحروب بَيْنَهُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. ثُمَّ اتَّفَقَ الْحَالُ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُمْ شَيْئًا مِنْ أَرْزَاقِهِمْ يُنْفِقُونَهَا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، فَمَا زَالَ يَمْطُلُهُمْ إِلَى ذِي الْقَعْدَةِ حَتَّى يُدْرِكَ الزَّرْعَ، فَخَرَجَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ زَيْدُ بن موسى الّذي يقال له زيد النار، وهو أخو أبى السرايا، وَقَدْ كَانَ خُرُوجُهُ هَذِهِ الْمَرَّةَ بِنَاحِيَةِ الْأَنْبَارِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ عَلِيُّ بْنُ هِشَامٍ نَائِبُ بَغْدَادَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ سَهْلٍ وَالْحَسَنُ بِالْمَدَائِنِ إِذْ ذاك فأخذ وأتى به إلى على ابن هشام، وأطفأ الله ثائرته.
وبعث المأمون في هذه السنة يطلب من بقي مِنَ الْعَبَّاسِيِّينَ، وَأَحْصَى كَمِ الْعَبَّاسِيُّونَ فَبَلَغُوا ثَلَاثَةً وثلاثين ألفا، ما بين ذكور وأناث. وَفِيهَا قَتَلَتِ الرُّومُ مَلِكَهُمْ إِلْيُونَ، وَقَدْ مَلَكَهُمْ سَبْعَ سِنِينَ، وَمَلَّكُوا عَلَيْهِمْ مِيخَائِيلَ نَائِبَهُ. وَفِيهَا قَتَلَ الْمَأْمُونُ يَحْيَى بْنَ عَامِرِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، لِأَنَّهُ قَالَ لِلْمَأْمُونِ:
يَا أَمِيرَ الْكَافِرِينَ. فَقُتِلَ صبرا بين يديه. وفيها حج بالناس محمد بن المعتصم بن هارون الرشيد.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:

(10/246)


أَسْبَاطُ بْنُ مُحَمَّدٍ. وَأَبُو ضَمْرَةَ أَنَسُ بْنُ عياض. ومسلم بْنُ قُتَيْبَةَ. وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ. وَابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ. وَمُبَشِّرُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ. وَمُحَمَّدُ بْنُ جبير. ومعاذ بن هشام.