البداية والنهاية، ط. دار الفكر

 [المجلد الحادي عشر]
[تتمة سنة ثمان وأربعين ومائتين]
بسم الله الرحمن الرحيم
خِلَافَةُ الْمُسْتَعِينِ باللَّه
وَهُوَ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بن محمد الْمُعْتَصِمِ. بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ يَوْمَ مَاتَ الْمُنْتَصِرُ، بَايَعَهُ عُمُومُ النَّاسِ، ثُمَّ خَرَجَتْ عَلَيْهِ شِرْذِمَةٌ مِنَ الْأَتْرَاكِ يَقُولُونَ: يَا مُعْتَزُّ يَا مَنْصُورُ. فَالْتَفَّ عَلَيْهِمْ خَلْقٌ، وَقَامَ بِنَصْرِ الْمُسْتَعِينِ جُمْهُورُ الجيش، فاقتتلوا قتالا شديدا أياما فقتل منهم خَلْقٌ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَانْتُهِبَتْ أَمَاكِنُ كَثِيرَةٌ مِنْ بغداد، وجرت فتن منتشرة كَثِيرَةٌ جِدًّا، ثُمَّ اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ لِلْمُسْتَعِينِ فَعَزَلَ وولى وقطع ووصل، وأمر ونهى أياما ومدة غير طويلة. وَفِيهَا مَاتَ بُغَا الْكَبِيرُ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ منها، فَوَلَّى الْخَلِيفَةُ مَكَانَهُ وَلَدَهُ مُوسَى بْنَ بُغَا. وقد كانت له همم عَالِيَةٌ وَآثَارٌ سَامِيَةٌ، وَغَزَوَاتٌ فِي الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ متوالية وكان له من المتاع والضياع ما قيمته عشرة آلاف ألف دينار. وترك عشر حبات جوهر قيمتها ثلاثة آلاف ألف دينار، وثلاث جبات سلا ذهبا وورق وَفِيهَا عَدَا أَهْلُ حِمْصَ عَلَى عَامِلِهِمْ فَأَخْرَجُوهُ من بين أظهرهم، فأخذ منهم المستعين مِائَةَ رَجُلٍ مِنْ سَرَاتِهِمْ وَأَمَرَ بِهَدْمِ سُورِهِمْ. وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الزَّيْنَبِيُّ
. وفيها توفى من الأعيان
أحمد ابن صَالِحٍ. وَالْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الْكَرَابِيسِيُّ. وَعَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ الْعَلَاءِ. وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبٍ. وَعِيسَى ابن حَمَّادٍ. وَمُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ الرَّازِيُّ. وَمُحَمَّدُ بْنُ زينور. وَمُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ أَبُو كُرَيْبٍ. وَمُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ أَبُو هِشَامٍ الرِّفَاعِيُّ
وَأَبُو حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيُّ
وَاسْمُهُ سَهْلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ يزيد الجشمي أبو حاتم النَّحْوِيُّ اللُّغَوِيُّ صَاحِبُ الْمُصَنَّفَاتِ

(11/2)


الْكَثِيرَةِ وَكَانَ بَارِعًا فِي اللُّغَةِ. اشْتَغَلَ فِيهَا على أبى عبيد وَالْأَصْمَعِيِّ، وَأَكْثَرَ الرِّوَايَةَ عَنْ أَبِي زَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ. وَأَخَذَ عَنْهُ الْمُبَرِّدُ وَابْنُ دُرَيْدٍ وَغَيْرُهُمَا. وَكَانَ صالحا كثير الصدقة والتلاوة، كان يَتَصَدَّقُ كُلَّ يَوْمٍ بِدِينَارٍ وَيَقْرَأُ فِي كُلِّ أسبوع بختمة، وَلَهُ شِعْرٌ كَثِيرٌ مِنْهُ قَوْلُهُ:
أَبْرَزُوا وَجْهَهُ الجميل ... وَلَامُوا مَنِ افْتُتِنْ
لَوْ أَرَادُوا صِيَانَتِي ... سَتَرُوا وجهه الحسن
كانت وَفَاتُهُ فِي الْمُحَرَّمِ، وَقِيلَ فِي رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي يوم الجمعة للنصف من رجب الْتَقَى جَمْعٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَخَلْقٌ مِنَ الرُّومِ بالقرب من ملطية، فاقتتلوا قتالا شديدا، قُتِلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَقُتِلَ أَمِيرُ الْمُسْلِمِينَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَقْطَعِ، وَقُتِلَ مَعَهُ أَلْفَا رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَذَلِكَ قتل على بن يحيى الأرمني، وكان أميرا في طائفة من المسلمين أيضا، ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156. وَقَدْ كَانَ هَذَانَ الْأَمِيرَانِ مِنْ أَكْبَرِ أَنْصَارِ الْإِسْلَامِ. وَوَقَعَتْ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ بِبَغْدَادَ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ صَفَرٍ منها، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَامَّةَ كَرِهُوا جَمَاعَةً مِنَ الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ قَدْ تَغَلَّبُوا عَلَى أَمْرِ الْخِلَافَةِ وَقَتَلُوا الْمُتَوَكِّلَ وَاسْتَضْعَفُوا الْمُنْتَصِرَ وَالْمُسْتَعِينَ بَعْدَهُ، فَنَهَضُوا إِلَى السجن فأخرجوا من كان فيه، وجاءوا إلى أحد الجسرين فقطعوه وضربوا الآخر بالنار، وأحرقوا وَنَادَوْا بِالنَّفِيرِ فَاجْتَمَعَ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَجَمٌّ غَفِيرٌ، وَنَهَبُوا أَمَاكِنَ مُتَعَدِّدَةً، وَذَلِكَ بِالْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ مِنْ بغداد. ثم جمع أهل اليسار أموالا كثيرة من أهل بغداد لتصرف إلى من ينهض إلى ثغور المسلمين لقتال العدو عِوَضًا عَنْ مَنْ قُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ هُنَاكَ، فأقبل الناس من نواحي الجبال وأهواز وَفَارِسَ وَغَيْرِهَا لِغَزْوِ الرُّومِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْخَلِيفَةَ والجيش لم ينهضوا إلى بلاد الروم وقتال أعداء الإسلام، وقد ضعف جانب الخلافة واشتغلوا بالقيان والملاهي، فعند ذلك غضبت العوام مِنْ ذَلِكَ وَفَعَلُوا مَا ذَكَرْنَا. وَلِتِسْعٍ بَقِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ نَهَضَ عَامَّةُ أَهْلِ سَامَرَّا إلى السجن فأخرجوا من فيه أيضا كما فعل أهل بغداد وَجَاءَهُمْ قَوْمٌ مِنَ الْجَيْشِ يُقَالُ لَهُمُ الزُّرَافَةُ فهزمتهم العامة، فعند ذلك ركب وَصِيفٌ وَبُغَا الصَّغِيرُ وَعَامَّةُ الْأَتْرَاكِ فَقَتَلُوا مِنَ العامة خلقا كثيرا، وجرت فتن طويلة ثم سكنت.
وفي منتصف رَبِيعٍ الْآخَرِ وَقَعَتْ فِتْنَةٌ بَيْنَ الْأَتْرَاكِ وَذَلِكَ أن المستعين قَدْ فَوَّضَ أَمْرَ الْخِلَافَةِ وَالتَّصَرُّفِ فِي أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ إِلَى ثَلَاثَةٍ وَهُمْ أُتَامِشُ التُّرْكِيُّ، وكان أخص من عند الخليفة وهو بمنزلة الوزير، وفي حجره العباس بن الْمُسْتَعِينِ يُرَبِّيهِ وَيَعَلِّمُهُ الْفُرُوسِيَّةَ. وَشَاهَكُ الْخَادِمُ، وَأُمُّ الْخَلِيفَةِ.
وَكَانَ لَا يَمْنَعُهَا شَيْئًا تُرِيدُهُ، وَكَانَ لَهَا كَاتِبٌ يُقَالُ لَهُ سَلَمَةُ بْنُ سَعِيدٍ النَّصْرَانِيُّ. فَأَقْبَلَ أُتَامِشُ فَأَسْرَفَ فِي أَخْذِ الْأَمْوَالِ حَتَّى لَمْ يُبْقِ بِبَيْتِ الْمَالِ شَيْئًا، فَغَضِبَ الأتراك من ذلك وغاروا منه فاجتمعوا

(11/3)


وركبوا عليه وَأَحَاطُوا بِقَصْرِ الْخِلَافَةِ وَهُوَ عِنْدَ الْمُسْتَعِينِ، وَلَمْ يمكنه منعه منهم ولا دفعهم عنه، فأخذوه صَاغِرًا فَقَتَلُوهُ وَانْتَهَبُوا أَمْوَالَهُ وَحَوَاصِلَهُ وَدُورَهُ، وَاسْتَوْزَرَ الْخَلِيفَةُ بَعْدَهُ أَبَا صَالِحٍ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ محمد ابن يَزْدَادَ، وَوَلَّى بُغَا الصَّغِيرَ فِلَسْطِينَ، وَوَلَّى وَصِيفًا الأهواز، وجرى خبط كثير وشر كثير، ووهن الخليفة وضعف. وتحركت المغاربة بسامراء فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ لِثَلَاثٍ خَلَوْنَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ، فَكَانُوا يَجْتَمِعُونَ فَيَرْكَبُونَ ثُمَّ يَتَفَرَّقُونَ. وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى، وَهُوَ الْيَوْمُ السَّادِسَ عَشَرَ مِنْ تَمُّوزَ، مُطِرَ أهل سامرا مطرا عظيما برعد شديد، وبرق متصل وغيم منعقد مُطْبِقٌ وَالْمَطَرُ مُسْتَهِلٌّ كَثِيرٌ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ إِلَى اصْفِرَارِ الشَّمْسِ، وَفِي ذِي الْحِجَّةِ أَصَابَ أهل الري زلزلة شديدة جدا، وتبعتها رجفة هَائِلَةٌ تَهَدَّمَتْ مِنْهَا الدُّورُ وَمَاتَ مِنْهَا خَلْقٌ كثير، وخرج بقية أهلها إلى الصحراء. وفيها حج بالناس عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ مُوسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إبراهيم الامام وهو والى مكة.
وفيها توفى مِنَ الْأَعْيَانِ
أَيُّوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَزَّانُ. وَالْحَسَنُ بْنُ الصَّبَّاحِ الْبَزَّارُ صَاحِبُ كِتَابِ السُّنَنِ.
وَرَجَاءُ بن مرجا الحافظ. وعبد بن حميد صاحب التَّفْسِيرِ الْحَافِلِ. وَعَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ الْفَلَّاسُ
وَعَلِيُّ بن الجهم
ابن بدر بْنِ مَسْعُودِ بْنِ أَسَدٍ الْقُرَشِيُّ السَّامِيُّ مِنْ وَلَدِ سَامَةَ بْنِ لُؤَيٍّ الْخُرَاسَانِيُّ ثُمَّ الْبَغْدَادِيُّ، أَحَدُ الشُّعَرَاءِ الْمَشْهُورِينَ وَأَهْلِ الدِّيَانَةِ الْمُعْتَبَرِينَ. وَلَهُ دِيوَانُ شِعْرٍ فِيهِ أَشْعَارٌ حَسَنَةٌ، وَكَانَ فِيهِ تَحَامُلٌ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَانَ لَهُ خُصُوصِيَّةٌ بِالْمُتَوَكِّلِ ثُمَّ غَضِبَ عَلَيْهِ فَنَفَاهُ إِلَى خُرَاسَانَ وَأَمَرَ نَائِبَهُ بها أن يضربه مُجَرَّدًا فَفَعَلَ بِهِ ذَلِكَ، وَمِنْ مُسْتَجَادِ شِعْرِهِ:
بَلَاءٌ لَيْسَ يَعْدِلُهُ بَلَاءٌ ... عَدَاوَةُ غَيْرِ ذِي حَسَبٍ وَدِينِ
يُبِيحُكَ مِنْهُ عِرْضًا لَمْ يَصُنْهُ ... ويرتع منك في عرض مصون
قال ذلك في مروان بن حفصة حين هجاء فَقَالَ فِي هِجَائِهِ لَهُ:
لَعَمْرُكَ مَا الْجَهْمُ بْنُ بَدْرٍ بِشَاعِرٍ ... وَهَذَا عَلِيٌّ بَعْدَهُ يَدَّعِي الشِّعْرَا
وَلَكِنْ أَبِي قَدْ كَانَ جَارًا لِأُمِّهِ ... فلما ادعى الاشعار أو همني أَمْرَا
كَانَ عَلِيُّ بْنُ الْجَهْمِ قَدْ قَدِمَ الشَّامَ ثُمَّ عَادَ قَاصِدًا الْعِرَاقَ، فَلَمَّا جَاوَزَ حَلَبَ ثَارَ عَلَيْهِ أُنَاسٌ مِنْ بَنِي كَلْبٍ فَقَاتَلَهُمْ فَجُرِحَ جُرْحًا بَلِيغًا فَكَانَ فِيهِ حَتْفُهُ، فوجد في ثِيَابِهِ رُقْعَةٌ مَكْتُوبٌ فِيهَا:
يَا رَحْمَتَا لِلْغَرِيبِ بالبلد ... النازح مَاذَا بِنَفْسِهِ صَنَعَا
فَارَقَ أَحْبَابَهُ فَمَا انْتَفَعُوا ... بالعيش من بعده وما انتفعا
كانت وفاته بهذا السبب في هذه السنة

(11/4)


ثم دخلت سنة خمسين ومائتين من الهجرة
فِيهَا كَانَ ظُهُورُ أَبِي الْحُسَيْنِ يَحْيَى بْنُ عُمَرَ بْنِ يَحْيَى بْنِ حُسَيْنِ بْنِ زَيْدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ ابن أبى طالب، وَأُمُّهُ أُمُّ الْحُسَيْنِ فَاطِمَةُ بِنْتُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بن جعفر ابن أَبِي طَالِبٍ. وَذَلِكَ أَنَّهُ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ شَدِيدَةٌ فَدَخَلَ سَامَرَّا فَسَأَلَ وَصِيفًا أَنْ يُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقًا فَأَغْلَظَ لَهُ الْقَوْلَ. فَرَجَعَ إِلَى أَرْضِ الْكُوفَةِ فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ خَلْقٌ مِنَ الْأَعْرَابِ، وَخَرَجَ إِلَيْهِ خَلْقٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، فَنَزَلَ عَلَى الْفَلُّوجَةِ وَقَدْ كَثُرَ الْجَمْعُ مَعَهُ، فَكَتَبَ مُحَمَّدُ بن عبد الله بن طاهر نائب العراق إلى عامله بالكوفة- وهو أبو أيوب بن الحسين بْنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ- يَأْمُرُهُ بقتاله. ودخل يحيى ابن عُمَرَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى الْكُوفَةِ فَاحْتَوَى عَلَى بَيْتِ مَالِهَا فَلَمْ يَجِدْ فِيهِ سِوَى أَلْفَيْ دِينَارٍ وَسَبْعِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَظَهَرَ أَمْرُهُ بِالْكُوفَةِ وَفَتَحَ السِّجْنَيْنِ وَأَطْلَقَ مَنْ فِيهِمَا، وَأَخْرَجَ نُوَّابَ الْخَلِيفَةِ مِنْهَا وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ وَاسْتَحْوَذَ عَلَيْهَا، وَاسْتَحْكَمَ أَمْرُهُ بِهَا، وَالْتَفَّ عَلَيْهِ خَلْقٌ مِنَ الزَّيْدِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، ثُمَّ خَرَجَ مِنَ الْكُوفَةِ إِلَى سَوَادِهَا ثُمَّ كَرَّ رَاجِعًا إِلَيْهَا، فَتَلَقَّاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْخَطَّابِ الْمُلَقَّبُ وَجْهَ الْفُلْسِ، فَقَاتَلَهُ قِتَالًا شَدِيدًا فَانْهَزَمَ وَجْهُ الْفُلْسِ وَدَخَلَ يَحْيَى بْنُ عُمَرَ الْكُوفَةَ وَدَعَا إلى الرضى مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ، وَقَوِيَ أَمْرُهُ جَدًّا، وَصَارَ إليه جماعة كثيرة من أهل الكوفة، وَتَوَلَّاهُ أَهْلُ بَغْدَادَ مِنَ الْعَامَّةِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ ينسب إلى التشيع، وأحبوه أكثر من كل من خرج قبله مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ، وَشَرَعَ فِي تَحْصِيلِ السِّلَاحِ وإعداد آلات الحرب وجمع الرجال. وقد هرب نائب الكوفة منها إِلَى ظَاهِرِهَا، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ أَمْدَادٌ كَثِيرَةٌ مِنْ جهة الخليفة مع محمد بن عبد الله بن طاهر، واستراحوا وجمعوا خيولهم، فلما كان اليوم الثاني عَشَرَ مِنْ رَجَبٍ أَشَارَ مَنْ أَشَارَ عَلَى يَحْيَى بْنِ عُمَرَ مِمَّنْ لَا رَأْيَ لَهُ، أن يركب ويناجز الحسين ابن إِسْمَاعِيلَ وَيَكْبِسَ جَيْشَهُ، فَرَكِبَ فِي جَيْشٍ كَثِيرٍ فِيهِ خَلْقٌ مِنَ الْفُرْسَانِ وَالْمُشَاةِ أَيْضًا مِنْ عامة أهل الكوفة بغير أسلحة، فساروا إِلَيْهِمْ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا فِي ظُلْمَةِ آخِرِ اللَّيْلِ، فَمَا طَلَعَ الْفَجْرُ إِلَّا وَقَدِ انْكَشَفَ أصحاب يحيى بن عمر، وقد تقنطر به فرسه ثم طعن في ظهره فخر أيضا، فأخذوه وحزوا رأسه وحملوه إلى الأمير فبعثوه إلى ابن طَاهِرٍ فَأَرْسَلَهُ إِلَى الْخَلِيفَةِ مِنَ الْغَدِ مَعَ رجل يقال له عمر بن الخطاب، أخى عبد الرحمن بن الخطاب، فنصب بسامراء ساعة من النهار ثم بعث به إلى بغداد فنصب عند الجسر، ولم يمكن نصبه مِنْ كَثْرَةِ الْعَامَّةِ فَجُعِلَ فِي خَزَائِنِ السِّلَاحِ. وَلَمَّا جِيءَ بِرَأْسِ يَحْيَى بْنِ عُمَرَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ دَخَلَ النَّاسُ يُهَنُّونَهُ بِالْفَتْحِ وَالظَّفَرِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ أَبُو هَاشِمٍ دَاوُدُ بْنُ الْهَيْثَمِ الْجَعْفَرِيُّ فَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ! إِنَّكَ لَتُهَنَّى بِقَتْلِ رَجُلٍ لَوْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيًّا لَعُزِّيَ بِهِ، فَمَا رَدَّ عَلَيْهِ شَيْئًا ثُمَّ خَرَجَ أَبُو هَاشِمٍ الْجَعْفَرِيُّ وَهُوَ يَقُولُ:
يَا بَنِي طَاهِرٍ كُلُوُهُ وَبِيَّا ... إِنَّ لَحْمَ النَّبِيِّ غُيْرُ مَرِيِّ

(11/5)


إن وترا يكون طالبه الله ... لوتر تجاحه بالحرى
وكان الخليفة قَدْ وَجَّهَ أَمِيرًا إِلَى الْحُسَيْنِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ نَائِبِ الْكُوفَةِ، فَلَمَّا قُتِلَ يَحْيَى بْنُ عُمَرَ دَخَلُوا الْكُوفَةَ فَأَرَادَ ذَلِكَ الْأَمِيرُ أَنْ يَضَعَ فِي أَهْلِهَا السَّيْفَ فَمَنَعَهُ الْحُسَيْنُ وَأَمَّنَ الْأَسْوَدَ والأبيض، وأطفأ الله هذه الفتنة.
فَلَمَّا كَانَ رَمَضَانُ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ الْحَسَنُ بْنُ زَيْدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بن الحسين بن زيد ابن الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ بِنَاحِيَةِ طبرستان، وكان سبب خروجه أَنَّهُ لَمَّا قُتِلَ يَحْيَى بْنُ عُمَرَ أَقْطَعَ الْمُسْتَعِينُ لِمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ طَائِفَةً مِنْ أَرْضِ تِلْكَ النَّاحِيَةِ، فَبَعَثَ كَاتِبًا له يقال له جابر ابن هَارُونَ، وَكَانَ نَصْرَانِيًّا، لِيَتَسَلَّمَ تِلْكَ الْأَرَاضِيَ، فَلَمَّا انتهى إليهم كرهوا ذلك جدا وأرسلوا إلى الْحَسَنَ بْنَ زَيْدٍ هَذَا فَجَاءَ إِلَيْهِمْ فَبَايَعُوهُ وَالْتَفَّ عَلَيْهِ جُمْلَةُ الدَّيْلَمِ وَجَمَاعَةُ الْأُمَرَاءِ فِي تِلْكَ النَّوَاحِي، فَرَكِبَ فِيهِمْ وَدَخَلَ آمُلَ طَبَرِسْتَانَ وَأَخَذَهَا قَهْرًا، وَجَبَى خَرَاجَهَا، وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُهُ جِدًّا، ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا طَالِبًا لِقِتَالِ سُلَيْمَانَ بْنِ عبد الله أمير تلك الناحية، فالتقيا هنالك فكانت بَيْنَهُمَا حُرُوبٌ ثُمَّ انْهَزَمَ سُلَيْمَانُ هَزِيمَةً مُنْكَرَةٌ، وَتَرَكَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ وَلَمْ يَرْجِعْ دُونَ جُرْجَانَ. فدخل الحسن بن زيد سارية فأخذ ما فيها مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْحَوَاصِلِ، وَسَيَّرَ أَهْلَ سُلَيْمَانَ إِلَيْهِ مكرمين على مراكب، وَاجْتَمَعَ لِلْحَسَنِ بْنِ زَيْدٍ إِمْرَةُ طَبَرِسْتَانَ بِكَمَالِهَا. ثُمَّ بَعَثَ إِلَى الرَّيِّ فَأَخَذَهَا أَيْضًا وَأَخْرَجَ منها الطاهرية، وصار إلى جند همذان ولما بلغ خبره المستعين- وكان مدير مَلِكِهِ يَوْمَئِذٍ وَصِيفٌ التُّرْكِيُّ- اغْتَمَّ لِذَلِكَ جِدًّا وَاجْتَهَدَ فِي بَعْثِ الْجُيُوشِ وَالْأَمْدَادِ لِقِتَالِ الْحَسَنِ بن زيد هذا.
وفي يوم عرفة منها ظَهَرَ بِالرَّيِّ أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى بْنِ حُسَيْنٍ الصَّغِيرِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ ابن أَبِي طَالِبٍ، وَإِدْرِيسُ بْنُ مُوسَى بْنِ عَبْدِ الله بن موسى بْنِ حَسَنِ بْنِ حَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَصَلَّى بِالنَّاسِ يَوْمَ الْعِيدِ أَحْمَدُ بن عيسى هذا ودعا إلى الرضى مَنْ آلِ مُحَمَّدٍ، فَحَارَبَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بن طاهر فهزمه أحمد بن عيسى هذا وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُهُ. وَفِيهَا وَثَبَ أَهْلُ حِمْصَ عَلَى عاملهم الفضل بْنِ قَارَنَ فَقَتَلُوهُ فِي رَجَبٍ، فَوَجَّهَ الْمُسْتَعِينُ إِلَيْهِمْ مُوسَى بْنَ بُغَا الْكَبِيرِ فَاقْتَتَلُوا بِأَرْضِ الرَّسْتَنِ فَهَزَمَهُمْ وَقَتَلَ جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِهَا وَأَحْرَقَ أَمَاكِنَ كَثِيرَةً مِنْهَا، وَأَسَرَ أَشْرَافَ أَهْلِهَا. وَفِيهَا وَثَبَتِ الشَّاكِرِيَّةُ وَالْجُنْدُ فِي أَرْضِ فَارِسَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ فَهَرَبَ مِنْهُمْ فَانْتَهَبُوا دَارَهُ وَقَتَلُوا مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ بْنِ قَارَنَ. وَفِيهَا غَضِبَ الْخَلِيفَةُ عَلَى جَعْفَرِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ وَنَفَاهُ إِلَى الْبَصْرَةِ. وَفِيهَا أُسْقِطَتْ مَرْتَبَةُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْأُمَوِيِّينَ [1] فِي دَارِ الخلافة. وفيها حج بالناس جعفر بن الفضل أمير مكة.
وفيها توفى مِنَ الْأَعْيَانِ أَبُو الطَّاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ السَّرْحِ. والبزي أحد القراء المشاهير.
__________
[1] كذا. ولم نهتد إلى صوابه.

(11/6)


والحارث بن مسكين. وأبو حاتم السجستاني. وقد تقدم ذكره في التي قبلها. وعياد بن يعقوب الرواجى. وَعَمْرُو بْنُ بَحْرٍ الْجَاحِظُ صَاحِبُ الْكَلَامِ وَالْمُصَنَّفَاتِ. وَكَثِيرُ بْنُ عُبَيْدٍ الْحِمْصِيُّ. وَنَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الجهضمي.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا اجْتَمَعَ رَأْيُ الْمُسْتَعِينِ وَبُغَا الصَّغِيرِ وَوَصِيفٍ عَلَى قتل باغر التركي، وكان من قواد الأمراء الْكِبَارِ الَّذِينَ بَاشَرُوا قَتْلَ الْمُتَوَكِّلِ، وَقَدِ اتَّسَعَ إقطاعه وكثرت عماله، فَقُتِلَ وَنُهِبَتْ دَارُ كَاتِبِهِ دَلِيلِ بْنِ يَعْقُوبَ النصراني، ونهبت أمواله وحواصله، وركب الْخَلِيفَةُ فِي حَرَّاقَةِ مَنْ سَامَرَّا إِلَى بَغْدَادَ فاضطربت الأمور بسبب خروجه، وذلك في المحرم. فنزل دار محمد بن عبد الله بن طاهر. وفيها وَقَعَتْ فِتْنَةٌ شَنْعَاءُ بَيْنَ جُنْدِ بَغْدَادَ وَجُنْدِ سَامَرَّا، وَدَعَا أَهْلُ سَامَرَّا إِلَى بَيْعَةِ الْمُعْتَزِّ، وَاسْتَقَرَّ أَمْرُ أَهْلِ بَغْدَادَ عَلَى الْمُسْتَعِينِ، وَأُخْرِجَ الْمُعْتَزُّ وَأَخُوهُ الْمُؤَيَّدُ مِنَ السِّجْنِ فَبَايَعَ أَهْلُ سَامَرَّا الْمُعْتَزَّ وَاسْتَحْوَذَ عَلَى حَوَاصِلَ بَيْتِ الْمَالِ بِهَا فَإِذَا بِهَا خَمْسُمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَفِي خِزَانَةِ أَمِّ الْمُسْتَعِينِ أَلْفُ أَلْفُ دِينَارٍ، وَفِي حواصل العباس بن الْمُسْتَعِينِ سِتُّمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُ الْمُعْتَزِّ بسامراء. وَأَمَرَ الْمُسْتَعِينُ لِمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ أَنْ يُحَصِّنَ بَغْدَادَ وَيَعْمَلَ فِي السُّورَيْنِ وَالْخَنْدَقِ، وَغَرِمَ عَلَى ذَلِكَ ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وثلاثين ألف دينار، وو كل بِكُلِّ بَابٍ أَمِيرًا يَحْفَظُهُ، وَنَصَبَ عَلَى السُّورِ خمسة مناجيق، مِنْهَا وَاحِدٌ كَبِيرٌ جِدًّا، يُقَالُ لَهُ الْغَضْبَانُ، وَسِتَّ عَرَّادَاتٍ وَأَعَدُّوا آلَاتِ الْحَرْبِ وَالْحِصَارِ وَالْعُدَدَ، وَقُطِعَتِ الْقَنَاطِرُ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ لِئَلَّا يَصِلَ الْجَيْشُ إِلَيْهِمْ. وَكَتَبَ الْمُعْتَزُّ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ يَدْعُوهُ إِلَى الدُّخُولِ مَعَهُ فِي أَمْرِهِ، وَيُذَكِّرُهُ مَا كَانَ أَخَذَهُ عليهم أبوه المتوكل من العهود والمواثيق، من أنه ولى العهد بعده، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ بَلْ رَدَّ عَلَيْهِ وَاحْتَجَّ بِحُجَجٍ يَطُولُ ذِكْرُهَا. وَكَتَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُسْتَعِينِ وَالْمُعْتَزِّ إِلَى مُوسَى بْنِ بُغَا الْكَبِيرِ وَهُوَ مُقِيمٌ بِأَطْرَافِ الشَّامِ لِحَرْبِ أَهْلِ حِمْصَ يَدْعُوهُ إِلَى نَفْسِهِ وَبَعَثَ إِلَيْهِ بِأَلْوِيَةٍ يَعْقِدُهَا لِمَنِ اخْتَارَ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ الْمُسْتَعِينُ يَأْمُرُهُ بِالْمَسِيرِ إِلَيْهِ إِلَى بَغْدَادَ وَيَأْمُرُهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِي عَمَلِهِ، فَرَكِبَ مُسْرِعًا فَسَارَ إِلَى سَامَرَّا فَكَانَ مَعَ الْمُعْتَزِّ عَلَى الْمُسْتَعِينِ. وَكَذَلِكَ هَرَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُغَا الصَّغِيرِ مِنْ عند أبيه من بغداد إلى المعتز، وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَالْأَتْرَاكِ. وَعَقَدَ الْمُعْتَزُّ لأخيه أبى أحمد بن الْمُتَوَكِّلِ عَلَى حَرْبِ الْمُسْتَعِينِ وَجَهَّزَ مَعَهُ جَيْشًا لِذَلِكَ، فَسَارَ فِي خَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْأَتْرَاكِ وَغَيْرِهِمْ نَحْوَ بَغْدَادَ، وَصَلَّى بِعُكْبَرَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَدَعَا لِأَخِيهِ الْمُعْتَزِّ. ثُمَّ وَصَلَ إِلَى بَغْدَادَ لَيْلَةَ الْأَحَدِ لِسَبْعٍ خَلَوْنَ مِنْ صَفَرٍ فَاجْتَمَعَتِ الْعَسَاكِرُ هُنَالِكَ، وَقَدْ قَالَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ بَاذِنْجَانَةُ كَانَ فِي عَسْكَرِ أَبِي أَحْمَدَ: -
يَا بنى طاهر جُنُودُ اللَّهِ ... وَالْمَوْتُ بَيْنَهَا مَنْثُورُ
وَجُيُوشٌ أَمَامَهُنَّ أبو أحمد ... نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ
ثُمَّ جَرَتْ بَيْنَهُمَا حُرُوبٌ طَوِيلَةٌ وَفِتَنٌ مَهُولَةٌ جِدًّا قَدْ ذَكَرَهَا ابْنُ جَرِيرٍ مُطَوَّلَةً، ثُمَّ بَعَثَ الْمُعْتَزُّ مَعَ

(11/7)


موسى بن ارشناس ثلاثة آلاف مددا لأخيه أبى أحمد فَوَصَلُوا لِلَيْلَةٍ بَقِيَتْ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ فَوَقَفُوا في الجانب الغربي عند باب قطر بل، وَأَبُو أَحْمَدَ وَأَصْحَابُهُ عَلَى بَابِ الشَّمَّاسِيَّةِ، وَالْحَرْبُ مستعرة والقتال كثير جدا، وَالْقَتْلُ وَاقِعٌ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَذُكِرَ أَنَّ الْمُعْتَزَّ كَتَبَ إِلَى أَخِيهِ أَبِي أَحْمَدَ يَلُومُهُ عَلَى التَّقْصِيرِ فِي قِتَالِ أَهْلِ بَغْدَادَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَبُو أَحْمَدَ:
لِأَمْرِ الْمَنَايَا عَلَيْنَا طَرِيقُ ... وللدهر فينا اتساع وضيق
وأيامنا عِبَرٌ لِلَأَنَامِ ... فَمِنْهَا الْبُكُورُ وَمِنْهَا الطَّرُوقُ
وَمِنْهَا هَنَاتٌ تُشِيبُ الْوَلِيدَ ... وَيَخْذُلُ فِيهَا الصَّدِيقَ الصَّدِيقُ
وَسُورٌ عَرِيضٌ لَهُ ذِرْوَةٌ ... تَفُوتُ الْعُيُونَ وَبَحْرٌ عَمِيقُ
قِتَالٌ مُبِيدٌ وَسَيْفٌ عَتِيدٌ ... وَخَوْفٌ شَدِيدٌ وَحِصْنٌ وَثِيقُ
وَطُولُ صِيَاحٍ لِدَاعِي الصَّبَاحِ ... السِّلَاحَ السِّلَاحَ فَمَا يَسْتَفِيقُ
فَهَذَا طَرِيحٌ وَهَذَا جَرِيحٌ ... وَهَذَا حَرِيقٌ وَهَذَا غَرِيقُ
وَهَذَا قَتِيلٌ وَهَذَا تَلِيلٌ ... وَآخَرُ يَشْدُخُهُ الْمِنْجَنِيقُ
هُنَاكَ اغْتِصَابٌ وَثَمَّ انْتِهَابٌ ... وَدُورٌ خَرَابٌ وَكَانَتْ تَرُوقُ
إِذَا مَا سَمَوْنَا إِلَى مَسْلَكٍ ... وَجَدْنَاهُ قَدْ سُدَّ عَنَّا الطَّرِيقُ
فباللَّه نَبْلُغُ مَا نَرْتَجِيهِ ... وباللَّه نَدْفَعُ مَا لَا نُطِيقُ
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: هَذَا الشِّعْرُ يُنْشَدُ لِعَلِيِّ بْنِ أُمَيَّةَ فِي فِتْنَةِ الْمَخْلُوعِ وَالْمَأْمُونِ، وَقَدِ اسْتَمَرَّتِ الْفِتْنَةُ وَالْقِتَالُ بِبَغْدَادَ بَيْنَ أَبِي أَحْمَدَ أَخِي الْمُعْتَزِّ وَبَيْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ نَائِبِ الْمُسْتَعِينِ. وَالْبَلَدُ مَحْصُورٌ وَأَهْلُهُ فِي ضِيقٍ شَدِيدٍ جِدًّا، بَقِيَّةَ شُهُورِ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقُتِلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ خَلْقٌ كَثِيرٌ فِي وَقَعَاتٍ مُتَعَدِّدَاتٍ، وَأَيَّامٍ نَحِسَاتٍ، فَتَارَةً يَظْهَرُ أَصْحَابُ أَبِي أَحْمَدَ وَيَأْخُذُونَ بَعْضَ الْأَبْوَابِ فَتَحْمِلُ عَلَيْهِمُ الطَّاهِرِيَّةُ فَيُزِيحُونَهُمْ عَنْهَا، وَيَقْتُلُونَ مِنْهُمْ خَلْقًا ثُمَّ يَتَرَاجَعُونَ إِلَى مَوَاقِفِهِمْ وَيُصَابِرُونَهُمْ مصابرة عظيمة.
لكن أهل بغداد كلما هم إِلَى ضَعْفٍ بِسَبَبِ قِلَّةِ الْمِيرَةِ وَالْجَلَبِ إِلَى دَاخِلِ الْبَلَدِ، ثُمَّ شَاعَ بَيْنَ الْعَامَّةِ أَنْ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ يُرِيدُ أَنْ يَخْلَعَ الْمُسْتَعِينَ وَيُبَايِعَ لِلْمُعْتَزِّ، وَذَلِكَ فِي أَوَاخِرَ السَّنَةِ، فَتَنَصَّلَ مِنْ ذَلِكَ وَاعْتَذَرَ إِلَى الْخَلِيفَةِ وَإِلَى الْعَامَّةِ. وَحَلَفَ بِالْأَيْمَانِ الْغَلِيظَةِ فَلَمْ تَبْرَأْ سَاحَتُهُ مِنْ ذَلِكَ حَقَّ الْبَرَاءَةِ عِنْدَ الْعَامَّةِ، وَاجْتَمَعَتِ الْعَامَّةُ وَالْغَوْغَاءُ إِلَى دَارِ ابْنِ طَاهِرٍ وَالْخَلِيفَةُ نَازِلٌ بِهَا، فَسَأَلُوا أَنْ يُبْرِزَ لَهُمُ الْخَلِيفَةَ لِيَرَوْهُ وَيَسْأَلُوهُ عَنِ ابْنِ طَاهِرٍ أَهْوَ رَاضٍ عَنْهُ أَمْ لَا. وَمَا زَالَتِ الضجة والأصوات مرتفعة حتى برز لهم الْخَلِيفَةُ مِنْ فَوْقِ الْمَكَانِ الَّذِي هُمْ فِيهِ وَعَلَيْهِ السَّوَادُ وَمِنْ فَوْقِهِ الْبُرْدَةُ النَّبَوِيَّةُ وَبِيَدِهِ الْقَضِيبُ، وَقَالَ لَهُمْ فِيمَا خَاطَبَهُمْ بِهِ: أَقْسَمْتُ عَلَيْكُمْ بِحَقٍّ صَاحِبِ هَذِهِ الْبُرْدَةِ وَالْقَضِيبِ لَمَا رَجَعْتُمْ إِلَى مَنَازِلِكُمْ

(11/8)


وَرَضِيتُمْ عَنِ ابْنِ طَاهِرٍ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ لَدَيَّ. فَسَكَتَ الْغَوْغَاءُ وَرَجَعُوا إِلَى مَنَازِلِهِمْ، ثُمَّ انْتَقَلَ الْخَلِيفَةُ مِنْ دَارِ ابْنِ طَاهِرٍ إِلَى دار رزق الخادم، وذلك في أوائل ذِي الْحِجَّةِ، وَصَلَّى بِهِمُ الْعِيدَ يَوْمَ الْأَضْحَى فِي الْجَزِيرَةِ الَّتِي بِحِذَاءِ دَارَ ابْنِ طَاهِرٍ، وَبَرَزَ الْخَلِيفَةُ يَوْمَئِذٍ لِلنَّاسِ وَبَيْنَ يَدَيْهِ الْحَرْبَةُ وَعَلَيْهِ الْبُرْدَةُ وَبِيَدِهِ الْقَضِيبُ وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا ببغداد على ما بأهلها من الحصار والغلاء بالأسعار، وقد اجتمع على الناس الخوف والجوع المترجمان لباس الخوع وَالْخَوْفِ [1] نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَلَمَّا تَفَاقَمَ الْأَمْرُ وَاشْتَدَّ الْحَالُ وَضَاقَ الْمَجَالُ وجاع العيال وجهد الرجال، جعل ابْنُ طَاهِرٍ يُظْهِرُ مَا كَانَ كَامِنًا فِي نَفْسِهِ مِنْ خَلْعِ الْمُسْتَعِينِ، فَجَعَلَ يُعَرِّضُ لَهُ في ذلك وَلَا يُصَرِّحُ، ثُمَّ كَاشَفَهُ بِهِ وَأَظْهَرَهُ لَهُ وَنَاظَرَهُ فِيهِ وَقَالَ لَهُ: إِنَّ الْمَصْلَحَةَ تَقْتَضِي أَنْ تُصَالِحَ عَنِ الْخِلَافَةِ عَلَى مَالٍ تَأْخُذُهُ سَلَفًا وَتَعْجِيلًا، وَأَنْ يَكُونَ لَكَ مِنَ الْخَرَاجِ فِي كُلِّ عَامٍ مَا تَخْتَارُهُ وَتَحْتَاجُهُ، وَلَمْ يزل يقتل فِي الذِّرْوَةِ وَالْغَارِبِ حَتَّى أَجَابَ إِلَى ذَلِكَ وأناب. فكتب فيما اشْتَرَطَهُ الْمُسْتَعِينُ فِي خَلْعِهِ نَفْسَهُ مِنَ الْخِلَافَةِ كِتَابًا، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ السَّبْتِ لِعَشَرٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ رَكِبَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ إِلَى الرُّصَافَةِ وَجَمَعَ الْقُضَاةَ وَالْفُقَهَاءَ وَأَدْخَلَهُمْ عَلَى الْمُسْتَعِينِ فَوْجًا فَوْجًا يَشْهَدُونَ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَدْ صَيَّرَ أَمْرَهُ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ، وَكَذَلِكَ جَمَاعَةُ الْحُجَّابِ وَالْخَدَمِ، ثُمَّ تَسَلَّمَ مِنْهُ جَوْهَرَ الْخِلَافَةِ، وَأَقَامَ عِنْدَ الْمُسْتَعِينِ إِلَى هَوِيٍّ مِنَ اللَّيْلِ. وَأَصْبَحَ النَّاسُ يَذْكُرُونَ وَيَتَنَوَّعُونَ فِيمَا يَقُولُونَ مِنَ الْأَرَاجِيفِ. وَأَمَّا ابْنُ طَاهِرٍ فَإِنَّهُ أَرْسَلَ بِالْكِتَابِ مع جماعة من الأمراء إلى المعتز بسامراء، فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَيْهِ بِذَلِكَ أَكْرَمَهُمْ وَخَلَعَ عَلَيْهِمْ وَأَجَازَهُمْ فَأَسْنَى جَوَائِزَهُمْ.
وَسَيَأْتِي مَا كَانَ مِنْ أمره أول السنة الداخلة.
وفيها كَانَ ظُهُورُ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ أَيْضًا بأرض قزوين وزنجان في ربيع الأول منها، وَهُوَ الْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْأَرْقَطِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَيُعْرَفُ بِالْكَوْكَبِيِّ. وَسَيَأْتِي مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ هُنَاكَ. وَفِيهَا خَرَجَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ يُوسُفَ العلويّ، وهو ابن أخت موسى بن عبيد اللَّهِ الْحَسَنِيِّ، وَسَيَأْتِي مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ أَيْضًا. وَفِيهَا خَرَجَ بِالْكُوفَةِ أَيْضًا رَجُلٌ مِنَ الطَّالِبِيِّينَ وَهُوَ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بن الحسين بن على ابن أَبِي طَالِبٍ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِ الْمُسْتَعِينُ مُزَاحِمَ بْنَ خَاقَانَ فَاقْتَتَلَا فَهُزِمَ الْعَلَوِيُّ وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِ بَشَرٌ كَثِيرٌ. وَلَمَّا دَخَلَ مُزَاحِمٌ الْكُوفَةَ حَرَّقَ بِهَا أَلْفَ دَارٍ وَنَهَبَ أَمْوَالَ الَّذِينَ خَرَجُوا مَعَهُ، وَبَاعَ بَعْضَ جِوَارِي الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ هذا، وكانت معتقة.
وَفِيهَا ظَهَرَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ بِمَكَّةَ فَهَرَبَ مِنْهُ نَائِبُهَا جَعْفَرُ بْنُ الْفَضْلِ بن عيسى بن موسى، فانتهب مَنْزِلَهُ وَمَنَازِلَ أَصْحَابِهِ وَقَتَلَ جَمَاعَةً مِنَ الْجُنْدِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَأَخَذَ مَا فِي الكعبة من الذهب والفضة والطيب وكسوة
__________
[1] كذا ولعل فيه تحريفا.

(11/9)


الْكَعْبَةِ، وَأَخَذَ مِنَ النَّاسِ نَحَوًا مِنْ مِائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ فهرب منه نائبها أيضا على بن الحسين بن على بْنِ إِسْمَاعِيلَ، ثُمَّ رَجَعَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ يُوسُفَ إِلَى مَكَّةَ فِي رَجَبٍ فَحَصَرَ أَهْلَهَا حَتَّى هَلَكُوا جُوعًا وَعَطَشًا فَبِيعَ الْخُبْزُ ثَلَاثُ أَوَاقٍ بِدِرْهَمٍ، وَاللَّحْمُ الرِّطْلُ بِأَرْبَعَةٍ، وَشَرْبَةُ الْمَاءِ بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ، وَلَقِيَ مِنْهُ أَهْلُ مَكَّةَ كُلَّ بَلَاءٍ، فترحل عنهم إلى جدة- بعد مقامه عليهم سَبْعَةٍ وَخَمْسِينَ يَوْمًا- فَانْتَهَبَ أَمْوَالَ التُّجَّارِ هُنَالِكَ وَأَخَذَ الْمَرَاكِبَ وَقَطَعَ الْمِيرَةَ عَنْ أَهْلِ مَكَّةَ ثُمَّ عَادَ إِلَى مَكَّةَ لَا جَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا عَنِ الْمُسْلِمِينَ. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ عَرَفَةَ لَمْ يُمَكِّنِ النَّاسَ مِنَ الْوُقُوفِ نَهَارًا وَلَا لَيْلًا، وَقَتَلَ مِنَ الْحَجِيجِ أَلْفًا وَمِائَةً، وَسَلَبَهُمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَمْ يَقِفْ بِعَرَفَةَ عَامَئِذٍ سِوَاهُ وَمِنْ معه من الحرامية، لَا تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنْهُمْ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا. وفيها وهن أمر الخلافة جدا. وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ الكوننج وَحُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ وَعَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ بْنِ كثير بن دينار الحمصي. وأبو البقى هشام بن عبد الملك اليزني
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ
«ذِكْرُ خلافة المعتز باللَّه بن الْمُتَوَكِّلِ عَلَى اللَّهِ بَعْدَ خَلْعِ الْمُسْتَعِينِ نَفْسَهُ»
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَقَدِ اسْتَقَرَّتِ الْخِلَافَةُ بِاسْمِ أبى عبد الله محمد المعتز بْنِ جَعْفَرٍ الْمُتَوَكِّلِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمُعْتَصِمِ بْنِ هارون الرشيد، وَقِيلَ إِنَّ اسْمَ الْمُعْتَزِّ أَحْمَدُ، وَقِيلَ الزُّبَيْرُ، وهو الّذي عول عليه ابْنُ عَسَاكِرَ وَتَرْجَمَهُ فِي تَارِيخِهِ. فَلَمَّا خَلَعَ المستعين نَفْسَهُ مِنَ الْخِلَافَةِ وَبَايَعَ لِلْمُعْتَزِّ دَعَا الْخُطَبَاءُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ رَابِعَ الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ بِجَوَامِعِ بَغْدَادَ عَلَى الْمَنَابِرِ لِلْخَلِيفَةِ الْمُعْتَزِّ باللَّه، وَانْتَقَلَ الْمُسْتَعِينُ مِنَ الرُّصَافَةِ إِلَى قَصْرِ الْحَسَنِ بْنِ سَهْلٍ هُوَ وَعِيَالُهُ وَوَلَدُهُ وَجَوَارِيهِ، وَوَكَّلَ بِهِمْ سَعِيدَ بْنَ رَجَاءٍ فِي جَمَاعَةٍ مَعَهُ، وَأَخَذَ مِنَ الْمُسْتَعِينِ الْبُرْدَةَ وَالْقَضِيبَ وَالْخَاتَمَ، وَبَعَثَ بِذَلِكَ إِلَى الْمُعْتَزِّ ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِ الْمُعْتَزُّ يطلب منه خاتمين من جوهر ثمين عِنْدَهُ يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا بُرْجٌ وَلِلْآخَرِ جَبَلٌ. فَأَرْسَلَهُمَا. وَطَلَبَ الْمُسْتَعِينُ أَنْ يَسِيرَ إِلَى مَكَّةَ فَلَمْ يُمَكَّنْ، فَطَلَبَ الْبَصْرَةَ فَقِيلَ لَهُ إِنَّهَا وَبِيئَةٌ. فقال إن ترك الخلافة أو بأمنها. ثُمَّ أَذِنَ لَهُ فِي الْمَسِيرِ إِلَى وَاسِطَ فَخَرَجَ وَمَعَهُ حَرَسٌ يُوَصِّلُونَهُ إِلَيْهَا نَحْوٌ مَنْ أَرْبَعِمِائَةٍ. وَاسْتَوْزَرَ الْمُعْتَزُّ أَحْمَدَ بْنَ أَبِي إِسْرَائِيلَ وَخَلَعَ عَلَيْهِ وَأَلْبَسَهُ تَاجًا عَلَى رَأْسِهِ. وَلَمَّا تَمَهَّدَ أَمْرُ بَغْدَادَ وَاسْتَقَرَّتِ الْبَيْعَةُ لِلْمُعْتَزِّ بِهَا ودان له أهلها وَقَدِمَتْهَا الْمِيرَةُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَاتَّسَعَ النَّاسُ فِي الْأَرْزَاقِ وَالْأَطْعِمَةِ، رَكِبَ أَبُو أَحْمَدَ مِنْهَا في يوم السبت لثنتى عشرة ليلة من المحرم إلى سامرا وشيعه ابن طاهر في وجوه الأمراء، فَخَلَعَ أَبُو أَحْمَدَ عَلَى ابْنِ طَاهِرٍ خَمْسَ خلع وسيفا ورده من الطريق إلى بغداد. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ مَدَائِحَ الشُّعَرَاءِ فِي الْمُعْتَزِّ وَتَشَفِّيَهُمْ بِخَلْعِ الْمُسْتَعِينِ، فَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ جِدًّا، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ بن أبى الجنوب ابن مَرْوَانَ فِي مَدْحِ الْمُعْتَزِّ وَذَمِّ الْمُسْتَعِينِ كَمَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ الشُّعَرَاءِ:
إِنَّ الْأُمُورَ إِلَى الْمُعْتَزِّ قَدْ رَجَعَتْ ... وَالْمُسْتَعِينُ إِلَى حَالَاتِهِ رَجَعَا

(11/10)


وَكَانَ يَعْلَمُ أَنَّ الْمُلْكَ لَيْسَ لَهُ ... وَأَنَّهُ لَكَ لَكِنْ نَفْسَهُ خَدَعَا
وَمَالِكُ الْمُلْكِ مُؤْتِيهِ وَنَازِعُهُ ... آتَاكَ مُلْكًا وَمِنْهُ الْمُلْكَ قَدْ نَزَعَا
إِنَّ الْخِلَافَةَ كَانَتْ لَا تُلَائِمُهُ ... كَانَتْ كَذَاتِ حَلِيلٍ زُوِّجَتْ مُتَعَا
مَا كَانَ أَقْبَحَ عِنْدَ النَّاسِ بَيْعَتَهُ ... وَكَانَ أَحْسَنَ قَوْلَ النَّاسِ قَدْ خُلِعَا
لَيْتَ السَّفِينَ إِلَى قَافٍ دَفَعْنَ بِهِ ... نَفْسِي الْفِدَاءُ لِمَلَّاحٍ بِهِ دَفَعَا
كَمْ سَاسَ قَبْلَكَ أَمْرَ النَّاسِ مِنْ مَلِكٍ ... لَوْ كَانَ حُمِّلَ مَا حُمِّلْتَهُ ظَلَعَا
أَمَسَى بِكَ النَّاسُ بَعْدَ الضِّيقِ فِي سِعَةٍ ... وَاللَّهُ يَجْعَلُ بَعْدَ الضِّيقِ مُتَّسَعَا
وَاللَّهُ يَدْفَعُ عَنْكَ السُّوءَ مِنْ مَلِكٍ ... فَإِنَّهُ بِكَ عَنَّا السُّوءَ قَدْ دَفَعَا
وكتب الْمُعْتَزُّ مِنْ سَامَرَّا إِلَى نَائِبِ بَغْدَادَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ أَنْ يُسْقِطَ اسْمَ وَصِيِفٍ وَبُغَا وَمَنْ كَانَ فِي رَسْمِهِمَا فِي الدَّوَاوِينِ وَعَزَمَ عَلَى قَتْلِهِمَا، ثُمَّ اسْتُرْضِيَ عَنْهُمَا فَرَضِيَ عَنْهُمَا. وَفِي رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ خَلَعَ الْمُعْتَزُّ أَخَاهُ إِبْرَاهِيمَ الْمُلَقَّبَ بِالْمُؤَيَّدِ مِنْ وِلَايَةِ الْعَهْدِ وَحَبَسَهُ، وَأَخَاهُ أَبَا أَحْمَدَ، بعد ما ضَرَبَ الْمُؤَيَّدَ أَرْبَعِينَ مَقْرَعَةً. وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الجمعة خَطَبَ بِخَلْعِهِ وَأَمْرَهُ أَنْ يَكْتُبَ كِتَابًا عَلَى نَفْسِهِ بِذَلِكَ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِخَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فَقِيلَ إِنَّهُ أُدْرِجَ فِي لِحَافِ سَمُّورٍ وَأُمْسِكَ طَرَفَاهُ حَتَّى مَاتَ غَمًّا، وَقِيلَ بَلْ ضُرِبَ بِحِجَارَةٍ مِنْ ثَلْجٍ حَتَّى مَاتَ بردا وبعد ذلك أُخْرِجَ مِنَ السِّجْنِ وَلَا أَثَرَ بِهِ فَأُحْضِرَ القضاة والأعيان فشهدوا على موته من غير سبب ولا أَثَرٌ، ثُمَّ حُمِلَ عَلَى حِمَارٍ وَمَعَهُ كَفَنُهُ إِلَى أُمِّهِ فَدَفَنَتْهُ.
ذِكْرُ مَقْتَلِ الْمُسْتَعِينِ
فِي شوال منها كَتَبَ الْمُعْتَزُّ إِلَى نَائِبِهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ يَأْمُرُهُ بِتَجْهِيزِ جَيْشٍ نَحْوَ الْمُسْتَعِينِ فَجَهَّزَ أَحْمَدَ بْنَ طُولُونَ التُّرْكِيَّ فَوَافَاهُ فَأَخْرَجَهُ لِسِتٍّ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ فَقَدِمَ بِهِ الْقَاطُولَ لِثَلَاثٍ مَضَيْنَ مِنْ شَوَّالٍ ثُمَّ قُتِلَ، فَقِيلَ ضُرِبَ حَتَّى مَاتَ، وَقِيلَ بَلْ غُرِّقَ فِي دُجَيْلٍ، وَقِيلَ بَلْ ضُرِبَتْ عُنُقُهُ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْمُسْتَعِينَ سَأَلَ مِنْ سَعِيدِ بْنِ صَالِحٍ التُّرْكِيِّ حِينَ أَرَادَ قَتْلَهُ أَنْ يُمْهِلَهُ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ، فَأَمْهَلَهُ، فَلَمَّا كَانَ فِي السَّجْدَةِ الْأَخِيرَةِ قَتَلَهُ وَهُوَ سَاجِدٌ، ودفن جثته في مكان صلاته، وخفي أَثَرَهُ وَحَمَلَ رَأْسَهُ إِلَى الْمُعْتَزِّ فَدَخَلَ بِهِ عَلَيْهِ وَهُوَ يَلْعَبُ بِالشِّطْرَنْجِ، فَقِيلَ هَذَا رَأْسُ الْمَخْلُوعِ.
فَقَالَ: ضَعُوهُ حَتَّى أَفْرُغَ مِنَ الدَّسْتِ. فَلَمَّا فَرَغَ نَظَرَ إِلَيْهِ وَأَمَرَ بِدَفْنِهِ، ثُمَّ أمر لسعيد بن صالح الّذي قتله بخمسين ألف درهم، وولاه معونة البصرة. وفيها مَاتَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ يُوسُفَ الْعَلَوِيُّ الَّذِي فَعَلَ بمكة ما فعل كما تقدم من إلحاده في الحرم، فَأَهْلَكَهُ اللَّهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَاجِلًا وَلَمْ ينظره. وفيها مات أحمد بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُعْتَصِمِ وَهُوَ الْمُسْتَعِينُ باللَّه كَمَا تَقَدَّمَ. وَإِسْحَاقُ بْنُ بُهْلُولٍ، وَزِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ ومحمد ابن بشار. وغندر. وموسى بْنُ الْمُثَنَّى الزَّمِنُ. وَيَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ.

(11/11)


ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي رَجَبٍ مِنْهَا عَقَدَ الْمُعْتَزُّ لِمُوسَى بْنِ بُغَا الْكَبِيرِ عَلَى جَيْشٍ قَرِيبٍ مِنْ أَرْبَعَةِ آلَافٍ لِيَذْهَبُوا إِلَى قِتَالِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي دلف بناحية همذان، لِأَنَّهُ خَرَجَ عَنِ الطَّاعَةِ وَهُوَ فِي نَحْوٍ من عشرين ألفا بناحية همذان، فهزموا عبد العزيز في أواخر هذه السنة هَزِيمَةً فَظِيعَةً، ثُمَّ كَانَتْ بَيْنَهُمَا وَقْعَةٌ أُخْرَى فِي رَمَضَانَ عِنْدَ الْكَرَجِ فَهُزِمَ عَبْدُ الْعَزِيزِ أَيْضًا وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِ بَشَرٌ كَثِيرٌ، وَأَسَرُوا ذَرَارِيَّ كَثِيرَةً حَتَّى أَسَرُوا أَمَّ عَبْدِ الْعَزِيزِ أيضا، وبعثوا إلى المعتز سَبْعِينَ حِمْلًا مِنَ الرُّءُوسِ وَأَعْلَامًا كَثِيرَةً، وَأُخِذَ مِنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ مَا كَانَ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِ من البلاد. وفي رمضان منها خلع عَلَى بُغَا الشَّرَابِيِّ وَأَلْبَسَهُ التَّاجَ وَالْوِشَاحَيْنِ. وَفِي يَوْمِ عِيدِ الْفِطْرِ كَانَتْ وَقْعَةٌ هَائِلَةٌ عِنْدَ مكان يقال له الْبَوَازِيجِ، وَذَلِكَ أَنَّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ مُسَاوِرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ حَكَمَ فِيهَا وَالْتَفَّ عَلَيْهِ نَحْوٌ مَنْ سَبْعِمِائَةٍ مِنَ الْخَوَارِجِ، فَقَصَدَ لَهُ رجل يقال له بندار الطبري في ثلاثمائة من أصحابه، فالتقوا فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَقُتِلَ مِنَ الْخَوَارِجِ نَحْوٌ مِنْ خَمْسِينَ، وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِ بُنْدَارٍ مِائَتَانِ وقيل وخمسون رجلا. وقتل بندار فيمن قُتِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ. ثُمَّ صَمَدَ مُسَاوِرٌ إِلَى حلوان فقاتله أهلها وأعانهم حجاج أهل خراسان فقتل مساور منهم نحوا من أربعمائة قبحه الله. وقتل من جماعته كَثِيرُونَ أَيْضًا. وَلِثَلَاثٍ بَقِينَ مِنْ شَوَّالٍ قُتِلَ وصيف التركي وأرادت العامة نهب داره في سامرا وَدُورَ أَوْلَادِهِ فَلَمْ يُمْكِنْهُمْ ذَلِكَ، وَجَعَلَ الْخَلِيفَةُ مَا كَانَ إِلَيْهِ إِلَى بُغَا الشَّرَابِيِّ.
وَفِي لَيْلَةِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ خَسَفَ الْقَمَرُ حَتَّى غَابَ أَكْثَرُهُ وَغَرِقَ نُورُهُ، وَعِنْدَ انْتِهَاءِ خُسُوفِهِ مَاتَ مُحَمَّدُ بن عبد الله بن طاهر نائب العراق بِبَغْدَادَ. وَكَانَتْ عِلَّتُهُ قُرُوحًا فِي رَأْسِهِ وَحَلْقِهِ فَذَبَحَتْهُ، وَلَمَّا أُتِيَ بِهِ لِيُصَلَّى عَلَيْهِ اخْتَلَفَ أخوه عبيد الله وابنه طاهر وتنازعا الصلاة عليه حَتَّى جُذِبَتِ السُّيُوفُ وَتَرَامَى النَّاسُ بِالْحِجَارَةِ، وَصَاحَتِ الْغَوْغَاءُ يَا طَاهِرُ يَا مَنْصُورُ: فَمَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ إِلَى الشَّرْقِيَّةِ وَمَعَهُ الْقُوَّادُ وَأَكَابِرُ النَّاسِ، فدخل داره وصلى عليه ابنه وكان أبوه قَدْ أَوْصَى إِلَيْهِ.
وَحِينَ بَلَغَ الْمُعْتَزَّ مَا وَقَعَ بَعَثَ بِالْخِلَعِ وَالْوِلَايَةِ إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ فَأَطْلَقَ عُبَيْدُ اللَّهِ لِلَّذِي قَدِمَ بِالْخِلَعِ خَمْسِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ. وفيها نفى المعتز أخاه أبا أحمد من سرمن رَأَى إِلَى وَاسِطَ، ثُمَّ إِلَى الْبَصْرَةِ. ثُمَّ رُدَّ إِلَى بَغْدَادَ أَيْضًا. وَفِي يَوْمِ الْإِثْنَيْنِ منها سَلْخَ ذِي الْقَعْدَةِ الْتَقَى مُوسَى بْنُ بُغَا الكبير وَالْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ الْكَوْكَبِيُّ الطَّالِبِيُّ الَّذِي خَرَجَ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَخَمْسِينَ عِنْدَ قَزْوِينَ فَاقْتَتَلَا قِتَالًا شَدِيدًا، ثُمَّ هُزِمَ الْكَوْكَبِيُّ وَأَخَذَ مُوسَى قَزْوِينَ وَهَرَبَ الْكَوْكَبِيُّ إِلَى الدَّيْلَمِ. وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ بَعْضِ مَنْ حَضَرَ هَذِهِ الْوَقْعَةَ أَنَّ الْكَوْكَبِيَّ حِينَ الْتَقَى أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يتترسوا بالحجف- وكانت السهم لَا تَعْمَلُ فِيهِمْ- فَأَمَرَ مُوسَى بْنُ بُغَا أَصْحَابَهُ عِنْدَ ذَلِكَ أَنْ يَطْرَحُوا مَا مَعَهُمْ من النفط ثم حاولوهم وَأَرَوْهُمْ أَنَّهُمْ قَدِ انْهَزَمُوا مِنْهُمْ، فَتَبِعَهُمْ أَصْحَابُ الْكَوْكَبِيِّ، فَلَمَّا تَوَسَّطُوا الْأَرْضَ الَّتِي فِيهَا النِّفْطُ أمر عند ذلك

(11/12)


بإلقاء النار فيه فجعل النفط يحرق أَصْحَابَ الْكَوْكَبِيِّ فَفَرُّوا سِرَاعًا هَارِبِينَ، وَكَرَّ عَلَيْهِمْ مُوسَى وَأَصْحَابُهُ فَقَتَلُوا مِنْهُمْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً وَهَرَبَ الكوكبي إلى الديلم، وتسلم موسى قزوين. وفيها حج بالناس عبد الله ابن محمد بن سليمان الزينبي.
وفيها تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ
أَبُو الْأَشْعَثِ. وَأَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ.
وَسَرِيٌّ السَّقَطِيُّ
أَحَدُ كِبَارِ مَشَايِخِ الصوفية. تِلْمِيذُ مَعْرُوفٍ الْكَرْخِيِّ. حَدَّثَ عَنْ هُشَيْمٍ وَأَبِي بكر بن عياش وعلى ابن عراب وَيَحْيَى بْنِ يَمَانٍ وَيَزِيدَ بْنِ هَارُونَ وَغَيْرِهِمْ. وَعَنْهُ ابْنُ أُخْتِهِ الْجُنَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ. وَأَبُو الْحَسَنِ النُّورِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ جَابِرٍ السَّقَطِيُّ وَجَمَاعَةٌ. وَكَانَتْ لَهُ دُكَّانٌ يَتَّجِرُ فِيهَا فَمَرَّتْ بِهِ جَارِيَةٌ قَدِ انْكَسَرَ إِنَاءٌ كَانَ مَعَهَا تَشْتَرِي فِيهِ شَيْئًا لِسَادَتِهَا، فَجَعَلَتْ تَبْكِي فأعطاها سرى شيئا تشترى بَدَلَهُ، فَنَظَرَ مَعْرُوفٌ إِلَيْهِ وَمَا صَنَعَ بِتِلْكَ الْجَارِيَةِ فَقَالَ لَهُ: بَغَّضَ اللَّهُ إِلَيْكَ الدُّنْيَا فوجد الزهد من يومه. وَقَالَ سَرِيٌّ: مَرَرْتُ فِي يَوْمِ عِيدٍ فَإِذَا معروف ومعه صَغِيرٌ شَعِثُ الْحَالِ فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ فَقَالَ: هذا كان واقفا عند صبيان يلعبون بالجوز وهو مفكر، فقلت له: مالك لا تلعب كما يلعبون؟ فَقَالَ: أَنَا يَتِيمٌ وَلَا شَيْءَ مَعِي أَشْتَرِي بِهِ جَوْزًا أَلْعَبُ بِهِ. فَأَخَذْتُهُ لِأَجْمَعَ لَهُ نَوًى يَشْتَرِي بِهِ جَوْزًا يَفْرَحُ بِهِ.
فَقُلْتُ أَلَا أَكْسُوهُ وَأُعْطِيهِ شَيْئًا يَشْتَرِي بِهِ جَوْزًا؟ فقال أو تفعل؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ. فَقَالَ خُذْهُ أَغْنَى اللَّهُ قَلْبَكَ. قال سرى: فصغرت عندي الدنيا حتى لهى أَقَلَّ شَيْءٍ. وَكَانَ عِنْدَهُ مَرَّةً لَوْزٌ فَسَاوَمَهُ رَجُلٌ عَلَى الْكُرِّ بِثَلَاثَةٍ وَسِتِّينَ دِينَارًا، ثُمَّ ذهب الرجل فإذا اللوز يساوى الكر تِسْعِينَ دِينَارًا فَقَالَ لَهُ:
إِنِّي أَشْتَرِي مِنْكَ الكر بتسعين دينارا. فقال له إني إنما ساومتك بثلاثة وستين دينارا وَإِنِّي لَا أَبِيعُهُ إِلَّا بِذَلِكَ، فَقَالَ الرَّجُلُ: أنا أشترى منك بتسعين دينارا. فقال لا أبيعك هو إلا بما ساومتك عليه.
فقال له الرَّجُلُ: إِنَّ مِنَ النُّصْحِ أَنْ لَا أَشْتَرِيَ مِنْكَ إِلَّا بِتِسْعِينَ دِينَارًا. وَذَهَبَ فَلَمْ يَشْتَرِ مِنْهُ.
وَجَاءَتِ امْرَأَةٌ يَوْمًا إِلَى سَرِيٍّ فَقَالَتْ: إن ابني قد أخذه الحرسي وَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ تَبْعَثَ إِلَى صَاحِبِ الشُّرْطَةِ لئلا يضرب، فقام فصلى فطول الصلاة وجعلت الْمَرْأَةُ تَحْتَرِقُ فِي نَفْسِهَا، فَلَمَّا انْصَرَفَ مِنَ الصَّلَاةِ قَالَتِ الْمَرْأَةُ اللَّهَ اللَّهَ فِي وَلَدِي. فقال لها: إني إنما كنت في حاجتك. فما رام مجلسه الّذي صلى فيه حَتَّى جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى تِلْكَ الْمَرْأَةِ فَقَالَتْ لها: ابشرى فقد أطلق ولدك وها هو في المنزل. فَانْصَرَفَتْ إِلَيْهِ. وَقَالَ سَرِيٌّ: أَشْتَهِي أَنْ آكُلَ أكلة ليس للَّه فيها على تَبِعَةٌ، وَلَا لِأَحَدٍ عَلَيَّ فِيهَا مِنَّةٌ. فَمَا أجد إلى ذلك سبيلا. وفي رواية عنه أنه قَالَ: إِنِّي لَأَشْتَهِي الْبَقْلَ مِنْ ثَلَاثِينَ سَنَةً فما أقدر عليه. وقال:
احْتَرَقَ سُوقُنَا فَقَصَدْتُ الْمَكَانَ الَّذِي فِيهِ دُكَّانِي فَتَلَقَّانِي رَجُلٌ فَقَالَ: أَبْشِرْ فَإِنَّ دُكَّانَكَ قَدْ سلمت.
فقلت: الحمد للَّه. ثم ذكرت ذلك التحميد إذا حمدت الله على سلامة دنياي وإني لم أواس الناس فيما

(11/13)


هم فيه، فَأَنَا أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مُنْذُ ثَلَاثِينَ سَنَةً. رَوَاهَا الخطيب عنه. وقال: صَلَّيْتُ وِرْدِي ذَاتَ لَيْلَةٍ ثُمَّ مَدَدْتُ رِجْلِي في المحراب فنوديت: يا سرى هكذا تجالس الملوك؟ قال فضممت رجلي وقلت:
وَعِزَّتِكَ لَا مَدَدْتُ رِجْلِي أَبَدًا. وَقَالَ الْجُنَيْدُ: ما رأيت أعبد من سرى السَّقَطِيِّ. أَتَتْ عَلَيْهِ ثَمَانٍ وَتِسْعُونَ سَنَةً مَا رئي مضطجعا إلا في علة الموت. وروى الْخَطِيبُ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ عَنْ جَعْفَرٍ الْخُلْدِيِّ عن الجنيد قَالَ: دَخَلْتُ عَلَيْهِ أَعُودُهُ فَقُلْتُ: كَيْفَ تَجِدُكَ؟ فَقَالَ:
كَيْفَ أَشْكُو إِلَى طَبِيبِي مَا بِي ... والّذي أصابنى من طبيبي
قال: فأخذت المروحة لأروح عليه فقال: كَيْفَ يَجِدُ رَوْحَ الْمِرْوَحَةِ مَنْ جَوْفُهُ يَحْتَرِقُ مِنْ دَاخِلٍ؟ ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
الْقَلْبُ مُحْتَرِقٌ وَالدَّمْعُ مُسْتَبِقٌ ... وَالْكَرْبُ مُجْتَمِعٌ وَالصَّبْرُ مُفْتَرِقُ
كَيْفَ الْقَرَارُ عَلَى مَنْ لَا قَرَارَ لَهُ ... مِمَّا جَنَاهُ الْهَوَى وَالشَّوْقُ وَالْقَلَقُ
يَا رَبِّ إِنْ كان شيء لي به فَرَجٌ ... فَامْنُنْ عَلَيَّ بِهِ مَا دَامَ بِي رمق
قال فقلت لَهُ: أَوْصِنِي، قَالَ: لَا تَصْحَبِ الْأَشْرَارَ، وَلَا تشتغل عن الله بمجالسة الأبرار الْأَخْيَارِ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْخَطِيبُ وَفَاتَهُ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ لِسِتٍّ خَلَوْنَ مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ بَعْدَ أَذَانِ الْفَجْرِ، وَدُفِنَ بَعْدَ الْعَصْرِ بمقبرة الشوينزى، وَقَبْرُهُ ظَاهِرٌ مَعْرُوفٌ، وَإِلَى جَنْبِهِ قَبْرُ الْجُنَيْدِ.
وروى عن أبى عبيدة بن حريوبة قَالَ: رَأَيْتُ سَرِيًّا فِي الْمَنَامِ فَقُلْتُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟ فَقَالَ غَفَرَ لِي وَلِكُلِّ مَنْ شَهِدَ جِنَازَتِي. قُلْتُ: فَإِنِّي مِمَّنْ حَضَرَ جِنَازَتَكَ وَصَلَّى عَلَيْكَ. قَالَ: فَأَخْرَجَ دُرْجًا فَنَظَرَ فِيهِ فَلَمْ يَرَ فِيهِ اسْمِي، فَقُلْتُ: بَلَى! قَدْ حَضَرْتُ فَإِذَا اسْمِي فِي الْحَاشِيَةِ. وَحَكَى ابْنُ خِلِّكَانَ قَوْلًا أَنَّ سَرِيًّا تُوَفِّي سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ، وَقِيلَ سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ فاللَّه أعلم. قال ابن خلكان: وكان السري ينشد كثيرا:
ولما ادعيت الْحُبَّ قَالَتْ كَذَبْتَنِي ... فَمَا لِي أَرَى الْأَعْضَاءَ مِنْكَ كَوَاسِيَا
فَلَا حُبَّ حَتَى يَلْصَقَ الْجِلْدُ بالحشى ... وتذهل حتى لا تجيب المناديا
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا أَمَرَ الْخَلِيفَةُ الْمُعْتَزُّ بِقَتْلِ بُغَا الشَّرَابِيِّ وَنَصَبَ رأسه بسامراء ثُمَّ بِبَغْدَادَ وَحُرِّقَتْ جُثَّتُهُ وَأُخِذَتْ أَمْوَالُهُ وَحَوَاصِلُهُ. وفيها ولى الخليفة أَحْمَدُ بْنُ طُولُونَ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ، وَهُوَ بَانِي الْجَامِعِ الْمَشْهُورِ بِهَا.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ محمد.
وتوفى فيها من الأعيان
زياد بن أيوب الحسيانى. وعلى بن محمد بن موسى الرضى، يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ لِأَرْبَعٍ بَقِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ بِبَغْدَادَ. وَصَلَّى عَلَيْهِ أَبُو أَحْمَدَ الْمُتَوَكِّلُ فِي الشَّارِعِ الْمَنْسُوبِ إِلَى أَبِي أَحْمَدَ. وَدُفِنَ بِدَارِهِ ببغداد.
ومحمد بن عبد الله المخرمي. وموهل بن إهاب.

(11/14)


وَأَمَّا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيٌّ الْهَادِي
[فَهُوَ] ابْنُ مُحَمَّدٍ الْجَوَادِ بْنِ عَلِيٍّ الرِّضَا بْنِ مُوسَى الْكَاظِمِ بْنِ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْبَاقِرِ بْنِ عَلِيٍّ زَيْنِ الْعَابِدِينَ بْنِ الْحُسَيْنِ الشَّهِيدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَحَدُ الْأَئِمَّةِ الاثني عشرية، وهو والد الحسن ابن على العسكري المنتظر عند الفرقة الضالة الجاهلة الْكَاذِبَةِ الْخَاطِئَةِ. وَقَدْ كَانَ عَابِدًا زَاهِدًا نَقَلَهُ الْمُتَوَكِّلُ إِلَى سَامَرَّا فَأَقَامَ بِهَا أَزْيَدَ مِنْ عِشْرِينَ سَنَةً بِأَشْهُرٍ. وَمَاتَ بِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ. وَقَدْ ذُكِرَ لِلْمُتَوَكِّلِ أَنَّ بِمَنْزِلِهِ سِلَاحًا وكتبا كثيرة من الناس، فبعث كبسة فَوَجَدُوهُ جَالِسًا مُسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةِ وَعَلَيْهِ مِدْرَعَةٌ مِنْ صوف وهو على التراب ليس دونه حَائِلٌ، فَأَخَذُوهُ كَذَلِكَ فَحَمَلُوهُ إِلَى الْمُتَوَكِّلِ وَهُوَ عَلَى شَرَابِهِ، فَلَمَّا مَثُلَ بَيْنَ يَدَيْهِ أَجَلَّهُ وأعظمه وَأَجْلَسَهُ إِلَى جَانِبِهِ وَنَاوَلَهُ الْكَأْسَ الَّذِي فِي يده فقال:
يا أمير المؤمنين لم يدخل باطني ولم يُخَالِطْ لَحْمِي وَدَمِي قَطُّ، فَأَعْفِنِي مِنْهُ. فَأَعْفَاهُ ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَنْشِدْنِي شِعْرًا فَأَنْشَدَهُ: -
بَاتُوا عَلَى قُلَلِ الْأَجْبَالِ تَحْرُسُهُمْ ... غُلْبُ الرِّجَالِ فَمَا أَغْنَتْهُمُ الْقُلَلُ
وَاسْتُنْزِلُوا بَعْدَ عِزٍّ عَنْ مَعَاقِلِهِمْ ... فأودعوا حفرا يا بئس ما تزلوا
نادى بهم صَارِخٌ مِنْ بَعْدِ مَا قُبِرُوا ... أَيْنَ الْأَسِرَّةُ وَالتِّيجَانُ وَالْحُلَلُ
أَيْنَ الْوُجُوهُ الَّتِي كَانَتْ مُنَعَّمَةً ... مِنْ دُونِهَا تُضْرَبُ الْأَسْتَارُ وَالْكِلَلُ
فَأَفْصَحَ الْقَبْرُ عَنْهُمْ حِينَ سَاءَلَهُمْ ... تَلْكَ الْوُجُوهُ عَلَيْهَا الدُّودُ يَقْتَتِلُ
قَدْ طَالَ مَا أَكَلُوا دَهْرًا وَمَا لبسوا ... فَأَصْبَحُوا بَعْدَ طُولِ الْأَكْلِ قَدْ أُكِلُوا
قَالَ: فَبَكَى الْمُتَوَكِّلُ حَتَّى بَلَّ الثَّرَى، وَبَكَى مَنْ حَوْلَهُ بِحَضْرَتِهِ، وَأَمَرَ بِرَفْعِ الشَّرَابِ وَأَمَرَ لَهُ بأربعة آلاف دينار، وتحلل منه ورده إلى منزله مكرما رحمه الله.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا كَانَتْ وَقْعَةٌ بَيْنَ مُفْلِحٍ وَبَيْنَ الْحَسَنِ بْنِ زَيْدٍ الطَّالِبِيِّ فَهَزَمَهُ مُفْلِحٌ وَدَخَلَ آمُلَ طَبَرِسْتَانَ وَحَرَقَ مَنَازِلَ الْحَسَنِ بْنِ زَيْدٍ ثُمَّ سَارَ وَرَاءَهُ إِلَى الدَّيْلَمِ. وَفِيهَا كَانَتْ مُحَارَبَةٌ شَدِيدَةٌ بَيْنَ يَعْقُوبَ بْنِ اللَّيْثِ وَبَيْنَ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ قُرَيْشِ بْنِ شِبْلٍ، فَبَعَثَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ رَجُلًا مِنْ جِهَتِهِ يُقَالُ لَهُ طَوْقُ بْنُ الْمُغَلِّسِ، فَصَابَرَهُ أَكْثَرَ مِنْ شَهْرٍ ثم ظفر يعقوب بطوق فأسره فأسر وجوه أصحابه، ثم سار إلى على ابن الحسين هذا فأسره وَأَخَذَ بِلَادَهُ- وَهِيَ كَرْمَانُ- فَأَضَافَهَا إِلَى مَا بيده من مملكة خراسان سِجِسْتَانَ: ثُمَّ بَعَثَ يَعْقُوبُ بْنُ اللَّيْثِ بِهَدِيَّةٍ سنية إلى المعتز: دواب وبازات وَثِيَابٍ فَاخِرَةٍ. وَفِيهَا وَلَّى الْخَلِيفَةُ سُلَيْمَانَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ نِيَابَةَ بَغْدَادَ وَالسَّوَادِ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا. وَفِيهَا أَخَذَ صَالِحُ ابن وَصِيفٍ أَحْمَدَ بْنَ إِسْرَائِيلَ كَاتِبَ الْمُعْتَزِّ وَالْحَسَنَ بْنَ مَخْلَدٍ كَاتِبَ قَبِيحَةَ أَمِّ الْمُعْتَزِّ وَأَبَا نوح عيسى

(11/15)


ابن إبراهيم، وكانوا قد تمالئوا على أكل بَيْتِ الْمَالِ، وَكَانُوا دَوَّاوِينَ وَغَيْرَهُمْ، فَضَرَبَهُمْ وَأَخَذَ خطوطهم بأموال جزيلة يحملونها، وذلك بغير رضى مِنَ الْمُعْتَزِّ فِي الْبَاطِنِ وَاحْتِيطَ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَحَوَاصِلِهِمْ وَضِيَاعِهِمْ وَسُمُّوا الْكُتَّابَ الْخَوَنَةَ وَوَلَّى الْخَلِيفَةُ عن قهر غيرهم.
وفي رجب منها ظَهَرَ عِيسَى بْنُ جَعْفَرٍ وَعَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ الْحَسَنِيَّانِ بِالْكُوفَةِ وَقَتَلَا بِهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ دَاوُدَ بْنِ عِيسَى وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُهُمَا بها.
موت الخليفة المعتز بن المتوكل
وَلِثَلَاثٍ بَقِينَ مِنْ رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ خُلِعَ الْخَلِيفَةُ الْمُعْتَزُّ باللَّه، وَلِلَيْلَتَيْنِ مَضَتَا مِنْ شَعْبَانَ أُظْهِرَ مَوْتُهُ. وَكَانَ سَبَبَ خَلْعِهِ أَنَّ الْجُنْدَ اجْتَمَعُوا فَطَلَبُوا مِنْهُ أَرْزَاقَهُمْ فَلَمْ يَكُنْ عنده ما يعطيهم، فسأل من أَنْ تُقْرِضَهُ مَالًا يَدْفَعُهُمْ عَنْهُ بِهِ فَلَمْ تُعْطِهِ. وَأَظْهَرَتْ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عِنْدَهَا، فَاجْتَمَعَ الْأَتْرَاكُ عَلَى خَلْعِهِ فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ لِيَخْرُجَ إِلَيْهِمْ فَاعْتَذَرَ بِأَنَّهُ قَدْ شَرِبَ دَوَاءً وَأَنَّ عِنْدَهُ ضَعْفًا، وَلَكِنْ لِيَدْخُلْ إِلَيَّ بَعْضُكُمْ.
فَدَخَلَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْأُمَرَاءِ فَتَنَاوَلُوهُ بِالدَّبَابِيسِ يَضْرِبُونَهُ وَجَرُّوا بِرِجْلِهِ وَأَخْرَجُوهُ وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ مُخَرَّقٌ مُلَطَّخٌ بِالدَّمِ، فَأَقَامُوهُ فِي وَسَطِ دَارِ الْخِلَافَةِ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ حتى جعل يراوح بين رجليه مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَلْطِمُهُ وَهُوَ يَبْكِي وَيَقُولُ لَهُ الضَّارِبُ اخْلَعْهَا وَالنَّاسُ مُجْتَمِعُونَ ثُمَّ أَدْخَلُوهُ حُجْرَةً مُضَيَّقًا عَلَيْهِ فِيهَا. وَمَا زَالُوا عَلَيْهِ بِأَنْوَاعِ الْعَذَابِ حَتَّى خَلَعَ نَفْسَهُ مِنَ الْخِلَافَةِ وَوَلِيَ بَعْدَهُ الْمُهْتَدِي باللَّه كَمَا سَيَأْتِي. ثُمَّ سَلَّمُوهُ إِلَى مَنْ يَسُومُهُ سُوءَ الْعَذَابِ بِأَنْوَاعِ الْمَثُلَاتِ، وَمُنِعَ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى جَعَلَ يَطْلَبُ شَرْبَةً مِنْ مَاءِ الْبِئْرِ فَلَمْ يُسْقَ، ثُمَّ أَدْخَلُوهُ سِرْبًا فِيهِ جَصُّ جِيرٍ فَدَسُّوهُ فِيهِ فَأَصْبَحَ مَيِّتًا، فاستلوه من الجص سليم الجسد وأشهدوا عَلَيْهِ جَمَاعَةً مِنَ الْأَعْيَانِ أَنَّهُ مَاتَ وَلَيْسَ بِهِ أَثَرٌ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَ يَوْمَ السَّبْتِ، وَصَلَّى عَلَيْهِ الْمُهْتَدِي باللَّه، وَدُفِنَ مَعَ أَخِيهِ الْمُنْتَصِرِ إِلَى جَانِبِ قَصْرِ الصَّوَامِعِ، عَنْ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً.
وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ أَرْبَعَ سِنِينَ وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ وَثَلَاثَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا وَكَانَ طَوِيلًا جَسِيمًا وَسِيمًا أَقْنَى الْأَنْفِ مُدَوَّرَ الْوَجْهِ حَسَنَ الضحك أبيض أسود الشعر مجعده، كثيف اللحية حسن العينين ضيق الحاجبين أحمر الوجه وقد أثنى عليه الامام أحمد في جَوْدَةِ ذِهْنِهِ وَحُسْنِ فَهْمِهِ وَأَدَبِهِ حِينَ دَخَلَ عليه في حياة أبيه المتوكل، كما قدمنا في ترجمة أحمد. وروى الخطيب عَنْ عَلِيِّ بْنِ حَرْبٍ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى المعتز فَمَا رَأَيْتُ خَلِيفَةً أَحْسَنَ وَجْهًا مِنْهُ، فَلَمَّا رأيته سجدت فقال: يا شيخ تسجد لغير اللَّهِ؟ فَقُلْتُ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ النَّبِيلُ ثَنَا بَكَّارُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا رَأَى مَا يَفْرَحُ بِهِ أَوْ بُشِّرَ بِمَا يَسُرُّهُ سَجَدَ شُكْرًا للَّه عَزَّ وجل» . وقال الزبير ابن بكار: سرت إِلَى الْمُعْتَزِّ وَهُوَ أَمِيرٌ فَلَمَّا سَمِعَ بِقُدُومِي خَرَجَ مُسْتَعْجِلًا إِلَيَّ فَعَثَرَ فَأَنْشَأَ يَقُولُ: -

(11/16)


يَمُوتُ الْفَتَى مِنْ عَثْرَةٍ بِلِسَانِهِ ... وَلَيْسَ يَمُوتُ الْمَرْءُ مِنْ عَثْرَةِ الرِّجْلِ
فَعَثْرَتُهُ مِنْ فِيهِ تَرْمِي بِرَأْسِهِ ... وَعَثْرَتُهُ فِي الرِّجْلِ تَبْرَأُ عَلَى مهل
وذكر ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّ الْمُعْتَزَّ لَمَّا حَذَقَ الْقُرْآنَ في حياة أبيه المتوكل اجتمع أبوه والأمراء لذلك وكذلك الْكُبَرَاءُ وَالرُّؤَسَاءُ بِسُرَّ مَنْ رَأَى، وَاخْتَلَفُوا لِذَلِكَ أَيَّامًا عَدِيدَةً، وَجَرَتْ أَحْوَالٌ عَظِيمَةٌ. وَلَمَّا جَلَسَ وَهُوَ صَبِيٌّ عَلَى الْمِنْبَرِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِيهِ بالخلافة، وخطب الناس نثرت الجواهر والذهب والدراهم على الخواص والعوام بدار الخلافة، وكان قيمة ما نثر من الجواهر يُسَاوِي مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَمِثْلَهَا ذَهَبًا، وَأَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ غَيْرَ مَا كَانَ مِنْ خِلَعٍ وَأَسْمِطَةٍ وَأَقْمِشَةٍ مِمَّا يَفُوتُ الْحَصْرَ، وَكَانَ وَقْتًا مشهودا لم يكن سرورا بِدَارِ الْخِلَافَةِ أَبْهَجَ مِنْهُ وَلَا أَحْسَنَ. وَخَلَعَ الخليفة على أم ولده المعتز قَبِيحَةُ خِلَعًا سَنِيَّةً، وَأَعْطَاهَا وَأَجْزَلَ لَهَا الْعَطَاءَ، وكذلك خلع على مؤدب ولده وهو محمد بن عمران، أعطاه من الجوهر والذهب والفضة والقماش شَيْئًا كَثِيرًا جِدًّا وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
ذكر خلافة المهتدي باللَّه
أبى محمد عبد الله محمد بن الواثق بن المعتصم بن هارون، كانت بَيْعَتُهُ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لِلَّيْلَةِ بَقِيَتْ مِنْ رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ بَعْدَ خَلْعِ الْمُعْتَزِّ نَفْسَهُ بين يديه وإشهاده عليه بأنه عاجز عن القيام بها، وَأَنَّهُ قَدْ رَغِبَ إِلَى مَنْ يَقُومُ بِأَعْبَائِهَا. وهو مُحَمَّدِ بْنِ الْوَاثِقِ باللَّه، ثُمَّ مَدَّ يَدَهُ فَبَايَعَهُ قَبْلَ النَّاسِ كُلِّهِمْ، ثُمَّ بَايَعَهُ الْخَاصَّةُ ثم كانت بيعة العامة على المنبر، وكتب على المعتز كتابا أشهد فِيهِ بِالْخَلْعِ وَالْعَجْزِ وَالْمُبَايَعَةِ لِلْمُهْتَدِي. وَفِي آخِرِ رجب وقعت في بغداد فِتْنَةٌ هَائِلَةٌ، وَثَبَتَ فِيهَا الْعَامَّةُ عَلَى نَائِبِهَا سليمان بن عبد الله ابن طاهر ودعوا إلى بيعة أحمد بن الْمُتَوَكِّلِ أَخِي الْمُعْتَزِّ، وَذَلِكَ لِعَدَمِ عِلْمِ أَهْلِ بغداد بما وقع بسامراء من بيعة المهتدي، وَقُتِلَ مِنْ أَهْلِ بَغْدَادَ وَغَرِقَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كثير، ثم لما بلغهم بيعة المهتدي سكنوا، - وإنما بلغتهم في سابع شعبان- فاستقرت الأمور واستقر المهتدي في الخلافة. وَفِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ ظَهَرَ عِنْدَ قَبِيحَةَ أُمِّ الْمُعْتَزِّ أَمْوَالٌ عَظِيمَةٌ، وَجَوَاهِرُ نَفِيسَةٌ. كَانَ مِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ مَا يُقَارِبُ أَلْفَيْ أَلْفِ دِينَارٍ، وَمِنَ الزُّمُرُّدِ الَّذِي لَمْ يُرَ مثله مقدار مكرك، وَمِنَ الْحَبِّ الْكِبَارِ مَكُّوكٌ، وَكَيْلَجَةُ يَاقُوتٍ أَحْمَرَ مما لم ير مثله أيضا. وقد كان الأمراء طَلَبُوا مِنَ ابْنِهَا الْمُعْتَزِّ خَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ تُصْرَفُ فِي أَرْزَاقِهِمْ وَضَمِنُوا لَهُ أَنْ يَقْتُلُوا صَالِحَ بْنَ وَصِيفٍ فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مِنْ ذلك شيء، فطلب من أمه قبيحة هذه قبحها الله فامتنعت أن تقرضه ذلك، فأظهرت الفقر والشح: وأنه لَا شَيْءَ عِنْدَهَا. ثُمَّ لَمَّا قُتِلَ ابْنُهَا وَكَانَ مَا كَانَ، ظَهَرَ عِنْدَهَا مِنَ الْأَمْوَالِ ما ذكرنا. وكان عندها من الذهب والفضة والآنية شيء كثير، وَقَدْ كَانَ لَهَا مِنَ الْغَلَّاتِ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَا يَعْدِلُ عَشَرَةَ آلَافِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَقَدْ كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ مُخْتَفِيَةً عِنْدَ صَالِحِ بن وصيف عدو ولدها، ثم تزوجت به وكانت تَدْعُو عَلَيْهِ تَقُولُ: اللَّهمّ أَخْزِ صَالِحَ بْنَ وَصِيفٍ كَمَا هَتَكَ سِتْرِي

(11/17)


وَقَتَلَ وَلَدِي وَبَدَّدَ شَمْلِي وَأَخَذَ مَالِي وَغَرَّبَنِي عن بلدي وركب الفاحشة منى. ثم استقرت الخلافة باسم المهتدي باللَّه. وكانت بمحمد الله خلافة صالحة. قَالَ يَوْمًا لِلْأُمَرَاءِ: إِنِّي لَيْسَتْ لِي أُمٌّ لَهَا مِنَ الْغَلَّاتِ مَا يُقَاوِمُ عَشَرَةَ آلَافِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَلَسْتُ أُرِيدُ إِلَّا الْقُوتَ فَقَطْ لا أُرِيدُ فَضْلًا عَلَى ذَلِكَ إِلَّا لِإِخْوَتِي، فَإِنَّهُمْ مَسَّتْهُمُ الْحَاجَةُ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ لِثَلَاثٍ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ أَمَرَ صَالِحُ بْنُ وَصِيفٍ بِضَرْبِ أَحْمَدَ بْنِ إِسْرَائِيلَ الَّذِي كَانَ وَزِيرًا، وَأَبِي نُوحٍ عِيسَى بْنِ إِبْرَاهِيمَ الَّذِي كَانَ نَصْرَانِيًّا فَأَظْهَرَ الْإِسْلَامَ، وَكَانَ كَاتِبَ قَبِيحَةَ، فَضُرِبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسَمِائَةِ سَوْطٍ بَعْدَ اسْتِخْلَاصِ أَمْوَالِهِمَا ثُمَّ طِيفَ بِهِمَا عَلَى بَغْلَيْنِ مُنَكَّسَيْنِ فَمَاتَا وهما كذلك، ولم يكن ذلك عن رضى المهتدي ولكنه ضعيف لَا يَقْدِرُ عَلَى الْإِنْكَارِ عَلَى صَالِحِ بْنِ وَصِيفٍ فِي بَادِئِ الْأَمْرِ. وَفِي رَمَضَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَعَتْ فِتْنَةٌ بِبَغْدَادَ أَيْضًا بَيْنَ محمد بن أوس ومن تبعه مِنَ الشَّاكِرِيَّةِ وَالْجُنْدِ وَغَيْرِهِمْ، وَبَيْنَ الْعَامَّةِ وَالرَّعَاعِ، فَاجْتَمَعَ مِنَ الْعَامَّةِ نَحْوٌ مَنْ مِائَةِ أَلْفٍ وكان بين الناس قتال بالنبال والرماح والسوط، فقتل خَلْقٌ كَثِيرٌ ثُمَّ انْهَزَمَ مُحَمَّدُ بْنُ أَوْسٍ وَأَصْحَابُهُ فَنَهَبَتِ الْعَامَّةُ مَا وَجَدُوا مِنْ أَمْوَالِهِ، وهو ما يُعَادِلُ أَلْفَيْ أَلْفٍ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ. ثُمَّ اتَّفَقَ الْحَالُ عَلَى إِخْرَاجِ مُحَمَّدِ بْنِ أَوْسٍ من بغداد إلى أين أراد. فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا طَرِيدًا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ النَّاسِ مَرْضِيَّ السِّيرَةِ بَلْ كَانَ جَبَّارًا عَنِيدًا، وَشَيْطَانًا مَرِيدًا، وَفَاسِقًا شَدِيدًا، وَأَمَرَ الخليفة بان ينفى القيان والمغنون مَنْ سَامَرَّا، وَأَمَرَ بِقَتْلِ السِّبَاعِ وَالنُّمُورِ الَّتِي في دار السلطان، وقتل الكلاب المعدة للصيد أيضا. وأمر بإبطال الْمَلَاهِي وَرَدِّ الْمَظَالِمِ وَأَنْ يُؤْمَرَ بِالْمَعْرُوفِ وَيُنْهَى عن المنكر، وجلس للعامة.
وكانت ولايته في الدنيا كُلُّهَا مِنْ أَرْضِ الشَّامِ وَغَيْرِهَا مُفْتَرِقَةٌ. ثُمَّ استدعى الخليفة مُوسَى بْنَ بُغَا الْكَبِيرِ إِلَى حَضْرَتِهِ لِيَتَقَوَّى به على من عنده من الأتراك ولتجتمع كلمة الخلافة، فاعتذر إليه مِنَ اسْتِدْعَائِهِ بِمَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْجِهَادِ في تلك الْبِلَادِ.
ذِكْرُ خَارِجِيٍّ آخَرَ ادَّعَى أَنَّهُ مِنْ أهل البيت بالبصرة
في النصف من شوال ظَهَرَ رَجُلٌ بِظَاهِرِ الْبَصْرَةِ زَعَمَ أَنَّهُ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عِيسَى بْنِ زَيْدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ بْنِ أبى طالب، ولم يكن صادقا وإنما كان عسيفا- يعنى أجيرا- مَنْ عَبْدِ الْقَيْسِ، وَاسْمُهُ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحِيمِ، وَأُمُّهُ قُرَّةُ بِنْتُ عَلِيِّ بن رحيب من مُحَمَّدِ بْنِ حَكِيمٍ مِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ، وَأَصْلُهُ مِنْ قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى الرَّيِّ. قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. قَالَ: وَقَدْ خَرَجَ أَيْضًا في سنة تسع وأربعين ومائتين بالنجدين فَادَّعَى أَنَّهُ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَدَعَا النَّاسَ بهجر إلى طاعته فاتبعه جماعة من أهل هجر، ووقع بِسَبَبِهِ قِتَالٌ كَثِيرٌ وَفِتَنٌ كِبَارٌ، وَحُرُوبٌ كَثِيرَةٌ، وَلَمَّا خَرَجَ خَرْجَتَهُ هَذِهِ الثَّانِيَةَ بِظَاهِرِ الْبَصْرَةِ التف عليه

(11/18)


خَلْقٌ مِنَ الزَّنْجِ الَّذِينَ كَانُوا يَكْسَحُونَ السِّبَاخَ، فَعَبَرَ بِهِمْ دِجْلَةَ فَنَزَلَ الدِّينَارِيَّ، وَكَانَ يَزْعُمُ لبعض من معه أَنَّهُ يَحْيَى بْنُ عُمَرَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْمَقْتُولُ بناحية الكوفة، وكان يدعى أنه يحفظ سُوَرًا مِنَ الْقُرْآنِ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ جَرَى بِهَا لِسَانُهُ لَا يَحْفَظُهَا غَيْرُهُ فِي مُدَّةٍ دهر طويل، وهن سبحان والكهف وص وعم.
وزعم أنه فَكَّرَ يَوْمًا وَهُوَ فِي الْبَادِيَةِ إِلَى أَيِّ بلد يسير فَخُوطِبَ مِنْ سَحَابَةٍ أَنْ يَقْصِدَ الْبَصْرَةَ فَقَصَدَهَا، فلما اقْتَرَبَ مِنْهَا وَجَدَ أَهْلَهَا مُفْتَرِقِينَ عَلَى شُعْبَتَيْنِ، سعدية وبلالية، فطمع أن ينضم إلى إِحْدَاهُمَا فَيَسْتَعِينَ بِهَا عَلَى الْأُخْرَى فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ، فَارْتَحَلَ إِلَى بَغْدَادَ فَأَقَامَ بِهَا سَنَةً وَانْتَسَبَ بِهَا إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عِيسَى بْنِ زَيْدٍ، وَكَانَ يَزْعُمُ بِهَا أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي ضَمَائِرِ أَصْحَابِهِ، وَأَنَّ اللَّهَ يُعْلِمُهُ بِذَلِكَ، فَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ جَهَلَةٌ من الطغام، وطائفة من الرعاع الْعَوَامِّ. ثُمَّ عَادَ إِلَى أَرْضِ الْبَصْرَةِ فِي رمضان فَاجْتَمَعَ مَعَهُ بَشَرٌ كَثِيرٌ وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ عُدَدٌ يُقَاتِلُونَ بِهَا فَأَتَاهُمْ جَيْشٌ مِنْ ناحية البصرة فاقتتلوا جميعا، ولم يَكُنْ فِي جَيْشِ هَذَا الْخَارِجِيِّ سِوَى ثَلَاثَةِ أَسْيَافٍ، وَأُولَئِكَ الْجَيْشُ مَعَهُمْ عُدَدٌ وَعَدَدٌ وَلَبُوسٌ، وَمَعَ هَذَا هَزَمَ أَصْحَابُ هَذَا الْخَارِجِيِّ ذَلِكَ الجيش، وكانوا أَرْبَعَةِ آلَافِ مُقَاتِلٍ، ثُمَّ مَضَى نَحْوَ الْبَصْرَةِ بِمَنْ مَعَهُ فَأَهْدَى لَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ جبى فَرَسًا فَلَمْ يَجِدْ لَهَا سَرْجًا وَلَا لِجَامًا، وإنما ألقى عليها حبلا وركبها وسنف حنكها بليف، ثم صادر رجلا وتهدده بِالْقَتْلِ فَأَخَذَ مِنْهُ مِائَةً وَخَمْسِينَ دِينَارًا وَأَلْفَ درهم، وكان هذا أول مال نهبه مِنْ هَذِهِ الْبِلَادِ، وَأَخَذَ مِنْ آخَرَ ثَلَاثَةَ براذين، ومن موضع آخر شيئا من الأسلحة والأمتعة، ثم سار في جيش قليل السلاح والخيول، ثم جرت بينه وبين نَائِبِ الْبَصْرَةِ وَقْعَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ، يَهْزِمُهُمْ فِيهَا وَكُلُّ ما لأمره يقوى وتزداد أصحابه ويعظم أمره ويكثر جَيْشُهُ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَا يَتَعَرَّضُ لِأَمْوَالِ الناس ولا يؤذى أحدا، وَإِنَّمَا يُرِيدُ أَخْذَ أَمْوَالِ السُّلْطَانِ. وَقَدِ انْهَزَمَ أصحابه في بعض حر وبه هزيمة عظيمة ثُمَّ تَرَاجَعُوا إِلَيْهِ وَاجْتَمَعُوا حَوْلَهُ، ثُمَّ كَرُّوا على أَهْلِ الْبَصْرَةِ فَهَزَمُوهُمْ وَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا وَأَسَرُوا آخرين، وكان لا يؤتى بأسير إلا قتله ثم قوى أمره وَخَافَهُ أَهْلُ الْبَصْرَةِ، وَبَعَثَ الْخَلِيفَةُ إِلَيْهَا مَدَدًا ليقاتلوا هذا الخارجي وهو صاحب الزنج قبحه الله، ثم أشار عليه بعض أصحابه أن يهجم بمن معه على الْبَصْرَةِ فَيَدْخُلُونَهَا عَنْوَةً فَهَجَّنَ آرَاءَهُمْ وَقَالَ: بَلْ نَكُونُ مِنْهَا قَرِيبًا حَتَّى يَكُونُوا هُمُ الَّذِينَ يَطْلُبُونَنَا إِلَيْهَا وَيَخْطُبُونَنَا عَلَيْهَا. وَسَيَأْتِي مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ وَأَمْرِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ فِي السَّنَةِ المستقبلة إن شاء الله. وفيها حج بالناس على بن الحسين بن إسماعيل بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ
الْجَاحِظُ الْمُتَكَلِّمُ الْمُعْتَزِلِيُّ
وَإِلَيْهِ تُنْسَبُ الْفِرْقَةُ الْجَاحِظِيَّةُ لِجُحُوظِ عَيْنَيْهِ، وَيُقَالُ لَهُ الْحَدَقِيُّ وَكَانَ شَنِيعَ الْمَنْظَرِ سَيِّئَ الْمَخْبَرِ رَدِيءَ الِاعْتِقَادِ، يُنْسَبُ إِلَى البدع والضلالات، وربما جاز به بعضهم إلى الانحلال حتى قيل فِي الْمَثَلِ يَا وَيْحَ مَنْ كَفَّرَهُ الْجَاحِظُ. وَكَانَ بَارِعًا فَاضِلًا قَدْ أَتْقَنَ عُلُومًا كَثِيرَةً وَصَنَّفَ كُتُبًا جَمَّةً تَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ

(11/19)


ذِهْنِهِ وَجَوْدَةِ تَصَرُّفِهِ. وَمِنْ أَجَلِّ كُتُبِهِ كِتَابُ الْحَيَوَانِ، وَكِتَابُ الْبَيَانِ وَالتَّبْيِينِ. قَالَ ابْنُ خِلِّكَانَ:
وهما أحسن مصنفاته وَقَدْ أَطَالَ تَرْجَمَتَهُ بِحِكَايَاتٍ ذَكَرَهَا عَنْهُ. وَذَكَرَ أَنَّهُ أَصَابَهُ الْفَالِجُ فِي آخِرِ عُمُرِهِ، وَحَكَى أَنَّهُ قَالَ: أَنَا مِنْ جَانِبِي الْأَيْسَرِ مَفْلُوجٌ لَوْ قُرِضَ بِالْمَقَارِيضِ مَا عَلِمْتُ، وَجَانِبِي الْأَيْمَنُ منضرس لو مرت به ذبابة لآلمتنى، وَبِي حَصَاةٌ، وَأَشَدُّ مَا عَلَيَّ سِتٌّ وَتِسْعُونَ سَنَةً. وَكَانَ يُنْشِدُ: -
أَتَرْجُو أَنْ تَكُونَ وَأَنْتَ شَيْخٌ ... كَمَا قَدْ كُنْتَ أَيَّامَ الشَّبَابِ
لَقَدْ كَذَبَتْكَ نَفْسُكَ لَيْسَ ثَوْبٌ ... دَرِيسٌ كَالْجَدِيدِ مِنَ الثياب
وفيها توفى عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَبُو مُحَمَّدٍ الدَّارِمِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ هَاشِمٍ الطُّوسِيُّ. وَالْخَلِيفَةُ أَبُو عبد الله المعتز بن المتوكل. ومحمد بن عبد الرحيم الملقب صاعقة.
محمد بن كرّام
الَّذِي تُنْسَبُ إِلَيْهِ الْفِرْقَةُ الْكَرَّامِيَّةُ. وَقَدْ نُسِبَ إليه جواز وضع الأحاديث على الرسول وَأَصْحَابِهِ وَغَيْرِهِمْ وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ كَرَّامٍ- بِفَتْحِ الْكَافِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ، عَلَى وَزْنِ جَمَّالٍ- بْنِ عراف بن حزامة بْنِ الْبَرَاءِ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ السِّجِسْتَانِيُّ الْعَابِدُ، يقال إنه من بنى تراب، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ مُحَمَّدُ بْنُ كِرَامٍ بِكَسْرِ الْكَافِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَهُوَ الَّذِي سَكَنَ بَيْتَ المقدس إلى أن مات، وَجَعَلَ الْآخَرَ شَيْخًا مِنْ أَهْلِ نَيْسَابُورَ. وَالصَّحِيحُ الّذي يظهر من كلام أبى عبد الله الحاكم وابن عَسَاكِرَ أَنَّهُمَا وَاحِدٌ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ كَرَّامٍ عن على بن حجرد وَعَلِيِّ بْنِ إِسْحَاقَ الْحَنْظَلِيِّ السَّمَرْقَنْدِيِّ، سَمِعَ مِنْهُ التفسير عن محمد ابن مروان عن الكلبي، وإبراهيم بن يوسف الماكناني، وملك بْنِ سُلَيْمَانَ الْهَرَوِيِّ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَرْبٍ، وَعَتِيقِ بن محمد الجسرى، وَأَحْمَدَ بْنِ الْأَزْهَرِ النَّيْسَابُورِيِّ، وَأَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الله الحوسارى، ومحمد بن تميم القارياني، وَكَانَا كَذَّابَيْنِ وَضَّاعَيْنِ- وَغَيْرِهِمْ. وَعَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ وَأَبُو إِسْحَاقَ بْنُ سُفْيَانَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقِيرَاطِيُّ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَجَّاجِ النَّيْسَابُورِيُّ. وَذَكَرَ الْحَاكِمُ أَنَّهُ حُبِسَ فِي حَبْسِ طَاهِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فَلَمَّا أَطْلَقَهُ ذَهَبَ إِلَى ثُغُورِ الشَّامِ ثُمَّ عَادَ إِلَى نَيْسَابُورَ فَحَبَسَهُ مُحَمَّدُ بْنُ طَاهِرِ بْنِ عَبْدِ الله وأطال حَبْسُهُ وَكَانَ يَتَأَهَّبُ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَيَأْتِي إِلَى السَّجَّانِ فَيَقُولُ:
دَعْنِي أَخْرُجْ إِلَى الْجُمُعَةِ، فَيَمْنَعُهُ السَّجَّانُ فَيَقُولُ: اللَّهمّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّ الْمَنْعَ مِنْ غَيْرِي. وَقَالَ غَيْرُهُ:
أَقَامَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ أَرْبَعَ سِنِينَ، وَكَانَ يَجْلِسُ لِلْوَعْظِ عِنْدَ الْعَمُودِ الَّذِي عِنْدَ مَشْهَدِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ بِلَا عَمَلٍ فَتَرَكَهُ أَهْلُهَا وَنَفَاهُ مُتَوَلِّيهَا إِلَى غَوْرِ زُغَرَ فَمَاتَ بها، ونقل إلى بيت المقدس. مات فِي صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. وَقَالَ الْحَاكِمُ: تُوُفِّيَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ لَيْلًا وَدُفِنَ بِبَابِ أَرِيحَا عِنْدَ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَلَهُ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ مِنَ الْأَصْحَابِ نَحْوٌ مِنْ عِشْرِينَ أَلْفًا والله أعلم.

(11/20)


ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الْإِثْنَيْنِ الثَّانِيَ عَشَرَ مِنَ الْمُحَرَّمِ قَدِمَ مُوسَى بْنُ بُغَا الْكَبِيرِ إِلَى سَامَرَّا فَدَخَلَهَا فِي جَيْشٍ هَائِلٍ قَدْ عَبَّاهُ مَيْمَنَةً وميسرة وقلبا وجناحين، فأتوا دار الخلافة التي فيها المهتدي جالسا لكشف المظالم فاستأذنوا عليه فأبطأ الْإِذْنُ سَاعَةً، وَتَأَخَّرَ عَنْهُمْ فَظَنُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ أَنَّ الْخَلِيفَةَ إِنَّمَا طَلَبَهُمْ خَدِيعَةً مِنْهُ لِيُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ صَالِحَ بْنَ وَصِيفٍ، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ هَجْمًا فَجَعَلُوا يُرَاطِنُونَهُمْ بِالتُّرْكِيِّ ثُمَّ عَزَمُوا فَأَقَامُوهُ مِنْ مَجْلِسِهِ وَانْتَهَبُوا مَا كَانَ فِيهِ، ثُمَّ أَخَذُوهُ مُهَانًا إِلَى دَارٍ أُخْرَى فَجَعَلَ يَقُولُ لِمُوسَى بن بغا: مالك وَيْحَكَ؟ إِنَّى إِنَّمَا أَرْسَلْتُ إِلَيْكَ لِأَتَقَوَّى بِكَ على صالح بن وصيف. فقال له موسى:
لَا بَأْسَ عَلَيْكَ احْلِفْ لِي أَنَّكَ لَا تُرِيدُ بِي خِلَافَ مَا أَظْهَرْتَ. فَحَلَفَ لَهُ المهتدي فطابت الأنفس وَبَايَعُوهُ بَيْعَةً ثَانِيَةً مُشَافَهَةً وَأَخَذُوا عَلَيْهِ الْعُهُودَ وَالْمَوَاثِيقَ أَنْ لَا يُمَالِئَ صَالِحًا عَلَيْهِمْ، وَاصْطَلَحُوا عَلَى ذَلِكَ. ثُمَّ بَعَثُوا إِلَى صَالِحِ بْنِ وَصِيفٍ لِيَحْضُرَهُمْ لِلْمُنَاظَرَةِ فِي أَمْرِ الْمُعْتَزِّ وَمَنْ قَتَلَهُ صَالِحُ بْنُ وَصِيفٍ مِنَ الْكُتَّابِ وَغَيْرِهِمْ، فَوَعَدَهُمْ أَنْ يَأْتِيَهُمْ، ثُمَّ اجْتَمَعَ بِجَمَاعَةٍ مِنَ الْأُمَرَاءِ مِنْ أَصْحَابِهِ وَأَخَذَ يَتَأَهَّبُ لِجَمْعِ الْجُيُوشِ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ اخْتَفَى مِنْ لَيْلَتِهِ لَا يَدْرِي أَحَدٌ أَيْنَ ذَهَبَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ، فَبَعَثُوا المنادية تنادى عليه في أرجاء البلد وتهددوا من أخفاه فلم يزل مختفيا إلى آخر صَفَرٍ عَلَى مَا سَنَذْكُرُ، وَرُدَّ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ إِلَى نِيَابَةِ بَغْدَادَ، وَسُلِّمَ الْوَزِيرُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَزْدَادَ إِلَى الْحَسَنِ بْنِ مَخْلَدٍ الَّذِي كَانَ أَرَادَ صَالِحُ بْنُ وَصِيفٍ قَتْلَهُ مَعَ ذَيْنِكَ الرَّجُلَيْنِ، فَبَقِيَ فِي السِّجْنِ حَتَّى رَجَعَ إِلَى الْوِزَارَةِ.
وَلَمَّا أَبْطَأَ خَبَرُ صَالِحِ بْنِ وَصِيفٍ عَلَى مُوسَى بْنِ بُغَا وَأَصْحَابِهِ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: اخْلَعُوا هَذَا الرَّجُلَ- يَعْنِي- الْخَلِيفَةَ- فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا صَوَّامًا قَوَّامًا لَا يَشْرَبُ الخمر وَلَا يَأْتِي الْفَوَاحِشَ؟ وَاللَّهِ إِنَّ هَذَا لَيْسَ كغيره من الخلفاء ولا تطاوعكم النَّاسُ عَلَيْهِ. وَبَلَغَ ذَلِكَ الْخَلِيفَةَ فَخَرَجَ إِلَى النَّاسِ وَهُوَ مُتَقَلِّدٌ سَيْفًا فَجَلَسَ عَلَى السَّرِيرِ وَاسْتَدْعَى بِمُوسَى بْنِ بُغَا وَأَصْحَابِهِ فَقَالَ: قَدْ بَلَغَنِي مَا تَمَالَأْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِي، وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا خَرَجْتُ إِلَيْكُمْ إِلَّا وَأَنَا مُتَحَنِّطٌ وقد أوصيت أَخِي بِوَلَدِي، وَهَذَا سَيْفِي، وَاللَّهِ لَأَضْرِبَنَّ بِهِ مَا اسْتَمْسَكَ قَائِمُهُ بِيَدِي، وَاللَّهِ لَئِنْ سَقَطَ من شعرى شعرة ليهلكن بدلها منكم، أَوْ لِيَذْهَبَنَّ بِهَا أَكْثَرُكُمْ، أَمَا دِينٌ؟ أَمَا حياء؟ أما تستحيون؟ كم يكون هذا الاقدام على الخلفاء والجرأة على الله عز وجل وأنتم لا تبصرون؟ سواء عندكم من قصد الإبقاء عليكم والسيرة الصالحة فيكم، ومن كان يدعو بأرطال الشراب المسكر فيشربها بين أظهركم وأنتم لا تنكرون ذلك، ثم يستأثر بالأموال عنكم وعن الضعفاء، هذا منزلي فاذهبوا فانظروا فيه وَفِي مَنَازِلِ إِخْوَتِي وَمَنْ يَتَّصِلُ بِي هَلْ ترون فيها من آلات الخلافة شيئا، أو من فرشها أو غير ذلك؟ وإنما في بيوتنا ما فِي بُيُوتِ آحَادِ النَّاسِ، وَيَقُولُونَ إِنِّي أَعْلَمُ علم صالح بن وصيف، وهل هو إلا واحد مِنْكُمْ؟ فَاذْهَبُوا فَاعْلَمُوا

(11/21)


عِلْمَهُ فَابْلُغُوا شِفَاءَ نُفُوسِكُمْ فِيهِ وَأَمَّا أَنَا فَلَسْتُ أَعْلَمُ عِلْمَهُ. قَالُوا: فَاحْلِفْ لَنَا عَلَى ذَلِكَ، قَالَ أَمَّا الْيَمِينُ فَإِنِّي أَبْذُلُهَا لَكُمْ، ولكن أدخرها لَكُمْ حَتَّى تَكُونَ بِحَضْرَةِ الْهَاشِمِيِّينَ وَالْقُضَاةِ وَالْمُعَدَّلِينَ وَأَصْحَابِ الْمَرَاتِبِ فِي غَدٍ إِذَا صَلَّيْتُ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ قَالَ: فَكَأَنَّهُمْ لَانُوا لِذَلِكَ قَلِيلًا. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْأَحَدِ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ صَفَرٍ ظَفِرُوا بِصَالِحِ بْنِ وَصِيفٍ فَقُتِلَ وَجِيءَ بِرَأْسِهِ إِلَى الْمُهْتَدِي باللَّه وَقَدِ انْفَتَلَ مِنْ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ، فَلَمْ يَزِدْ عَلَى أَنْ قَالَ: وَارُوهُ. ثُمَّ أَخَذَ فِي تَسْبِيحِهِ وَذِكْرِهِ. وَلَمَّا أَصْبَحَ الصَّبَاحُ مِنْ يَوْمِ الْإِثْنَيْنِ رُفِعَ الرَّأْسُ عَلَى رُمْحٍ وَنُودِيَ عَلَيْهِ فِي أَرْجَاءِ الْبَلَدِ: هَذَا جَزَاءُ مَنْ قَتَلَ مَوْلَاهُ. وَمَا زَالَ الْأَمْرُ مضطربا متفاقما وعظم الخطب حتى أفضى إلى خلع الخليفة المهتدي وقتله رحمه الله.
ذكر خلع المهتدي باللَّه وولاية المعتمد أحمد بن المتوكل على الله وَإِيرَادُ شَيْءٍ مِنْ فَضَائِلِ الْمُهْتَدِي
لَمَّا بَلَغَ موسى بن بغا أن مساور الشاري قد عاث بتلك الناحية فسادا رَكِبَ إِلَيْهِ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ وَمَعَهُ مُفْلِحٌ وبايكباك التركي فاقتتلوا هم ومساور الخارجي ولم يظفروا به بل هرب مِنْهُمْ وَأَعْجَزَهُمْ، وَكَانَ قَدْ فَعَلَ قَبْلَ مَجِيئِهِمُ الأفاعيل المنكرة فرجعوا ولم يقدروا عليه. ثم إن الخليفة أَرَادَ أَنْ يُخَالِفَ بَيْنَ كَلِمَةِ الْأَتْرَاكِ فَكَتَبَ إِلَى بَايَكْبَاكَ أَنْ يَتَسَلَّمَ الْجَيْشَ مِنْ مُوسَى بْنِ بُغَا وَيَكُونَ هُوَ الْأَمِيرَ عَلَى النَّاسِ وَأَنْ يُقْبِلَ بِهِمْ إِلَى سَامَرَّا فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ الْكِتَابُ أَقْرَأَهُ مُوسَى بْنَ بُغَا فَاشْتَدَّ غَضَبُهُ عَلَى الْمُهْتَدِي وَاتَّفَقَا عَلَيْهِ وَقَصَدَا إِلَيْهِ إلى سَامَرَّا، وَتَرَكَا مَا كَانَا فِيهِ. فَلَمَّا بَلَغَ المهتدي ذلك اسْتَخْدَمَ مِنْ فَوْرِهِ جُنْدًا مِنَ الْمَغَارِبَةِ وَالْفَرَاغِنَةِ والأشروسية والارزكشية وَالْأَتْرَاكِ أَيْضًا، وَرَكِبَ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ فَلَمَّا سَمِعُوا بِهِ رَجَعَ مُوسَى بْنُ بُغَا إِلَى طَرِيقِ خُرَاسَانَ وَأَظْهَرَ بَايَكْبَاكُ السَّمْعَ وَالطَّاعَةَ، فَدَخَلَ فِي ثَانِيَ عَشَرَ رَجَبٍ إِلَى الْخَلِيفَةِ سَامِعًا مُطِيعًا، فَلَمَّا أُوقِفَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَحَوْلَهُ الْأُمَرَاءُ والسادة من بنى هاشم شاورهم في قتله فَقَالَ لَهُ صَالِحُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَبْلُغْ أَحَدٌ مِنَ الْخُلَفَاءِ فِي الشَّجَاعَةِ مَا بَلَغْتَ، وَقَدْ كَانَ أَبُو مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيُّ شَرًّا مِنْ هَذَا وَأَكْثَرَ جُنْدًا، وَلَمَّا قَتَلَهُ الْمَنْصُورُ سَكَنَتِ الْفِتْنَةُ وَخَمَدَ صَوْتُ أَصْحَابِهِ. فَأَمَرَ عند ذلك بِضَرْبِ عُنُقِ بَايَكْبَاكَ ثُمَّ أَلْقَى رَأْسَهُ إِلَى الْأَتْرَاكِ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ أَعْظَمُوهُ وَأَصْبَحُوا مِنَ الغد مجتمعين على أخى بايكباك طُغُوتْيَا فَخَرَجَ إِلَيْهِمُ الْخَلِيفَةُ فِيمَنْ مَعَهُ فَلَمَّا التقوا خامرت الأتراك الذين مَعَ الْخَلِيفَةِ إِلَى أَصْحَابِهِمْ وَصَارُوا أَلْبًا وَاحِدًا على الخليفة، فحمل الخليفة فَقَتَلَ مِنْهُمْ نَحْوًا مِنْ أَرْبَعَةِ آلَافٍ ثُمَّ حملوا عليه فهزموه ومن معه فانهزم الخليفة وَبِيَدِهِ السَّيْفُ صَلْتًا وَهُوَ يُنَادِي: يَا أَيُّهَا النَّاسُ انْصُرُوا خَلِيفَتَكُمْ. فَدَخَلَ دَارَ أَحْمَدَ بْنِ جَمِيلٍ صَاحِبِ الْمَعُونَةِ، فَوَضَعَ فِيهَا سِلَاحَهُ وَلَبِسَ الْبَيَاضَ وَأَرَادَ أَنْ يَذْهَبَ فَيَخْتَفِيَ، فَعَاجَلَهُ أَحْمَدُ بن خاقان منها فأخذه قبل أن يذهب، ورماه بسهم وطعن في خاصرته به وَحُمِلَ عَلَى دَابَّةٍ وَخِلْفَهُ سَائِسُ وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ وسراويل حتى أدخلوه دَارِ أَحْمَدَ بْنِ خَاقَانَ، فَجَعَلَ مَنْ هُنَاكَ يصفعونه ويبزقون في وجهه، وأخذ خَطَّهُ بِسِتِّمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ،

(11/22)


وسلموه إلى رجل فلم يزل يجأ خصيتيه ويطؤهما حَتَّى مَاتَ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَذَلِكَ يَوْمَ الْخَمِيسِ لثنتى عَشْرَةَ لَيْلَةً بَقِيَتْ مِنْ رَجَبٍ.
وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ أقل من سنة بخمسة أيام، وكان مولده فِي سَنَةِ تِسْعَ عَشْرَةَ، وَقِيلَ خَمْسَ عَشْرَةَ ومائتين، وكان أسمر رقيقا أحنى حسن اللحية يكنى أبا عبد الله. وَصَلَّى عَلَيْهِ جَعْفَرُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ وَدُفِنَ بمقبرة المنتصر بن المتوكل. قَالَ الْخَطِيبُ: وَكَانَ مِنْ أَحْسَنِ الْخُلَفَاءِ مَذْهَبًا وأجودهم طريقة وأكثرهم ورعا وعبادة وزهادة. قال: وروى حديثا واحدا قال: حدثني على بن هشام بن طراح عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الْفَقِيهِ عَنِ ابْنِ أبى ليلى- وهو دَاوُدَ بْنِ عَلِيٍّ- عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَنَا فِي هَذَا الْأَمْرِ؟ قَالَ: «لِي النُّبُوَّةُ وَلَكُمُ الْخِلَافَةُ، بِكُمْ يُفْتَحُ هَذَا الْأَمْرُ وَبِكُمْ يُخْتَمُ» وَقَالَ لِلْعَبَّاسِ: «مَنْ أَحَبَّكَ نَالَتْهُ شَفَاعَتِي، وَمَنْ أَبْغَضَكَ لَا نَالَتْهُ شَفَاعَتِي» . وَرَوَى.
الخطيب أن رجلا استعان الْمُهْتَدِي عَلَى خَصْمِهِ فَحَكَمَ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ فَأَنْشَأَ الرَّجُلُ يَقُولُ:
حَكَّمْتُمُوهُ فَقَضَى بَيْنَكُمْ ... أَبْلَجُ مِثْلُ الْقَمَرِ الزَّاهِرِ
لَا يَقْبَلُ الرِّشْوَةَ فِي حُكْمِهِ ... وَلَا يُبَالِي غَبَنَ الْخَاسِرِ
فَقَالَ لَهُ الْمُهْتَدِي: أَمَّا أَنْتَ أَيُّهَا الرَّجُلُ فَأَحْسَنَ اللَّهُ مَقَالَتَكَ، ولست أغتر بما قلت: وأما أنا فانى ما جلست مجلسى هذا حَتَّى قَرَأْتُ (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) 21: 47 قال: فبكى الناس حوله فما رئي أكثر باكيا مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: سَرَدَ الْمُهْتَدِي الصوم من حين تولى إلى حين قُتِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَكَانَ يُحِبُّ الِاقْتِدَاءَ بِمَا سَلَكَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْأُمَوِيُّ فِي خِلَافَتِهِ مِنَ الْوَرَعِ وَالتَّقَشُّفِ وَكَثْرَةِ الْعِبَادَةِ وَشِدَّةِ الاحتياط، ولو عاش ووجد ناصرا لسار سيرته ما أمكنه، وكان من عزمه أن يبيد الأتراك الذين أهانوا الخلفاء وأذلوهم، وانتهكوا منصب الخلافة. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الْأُمَوِيُّ: كُنَّا جُلُوسًا بِمَكَّةَ وَعِنْدِي جَمَاعَةٌ وَنَحْنُ نَبْحَثُ فِي النَّحْوِ وأشعار العرب، إذ وقف علينا رجل نظنه مجنونا فأنشأ يقول:
أما تستحيون الله يا معدن النحو ... شُغِلْتُمْ بِذَا وَالنَّاسُ فِي أَعْظَمِ الشُّغْلِ
إِمَامُكُمْ أضحى قتيلا مجندلا ... وَقَدْ أَصْبَحَ الْإِسْلَامُ مُفْتَرِقَ الشَّمْلِ
وَأَنْتُمْ عَلَى الأشعار والنحو عكّفا ... تصيحون بالأصوات في أحسن السبل
قال فنظر وَأَرَّخْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ فَإِذَا الْمُهْتَدِي باللَّه قَدْ قتل في ذلك اليوم، وهو يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ لِأَرْبَعَ عَشْرَةَ بَقِيَتْ مِنْ رَجَبٍ سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ.
خِلَافَةُ الْمُعْتَمِدِ عَلَى الله
وهو أحمد بن الْمُتَوَكِّلِ عَلَى اللَّهِ وَيُعْرَفُ بِابْنِ فِتْيَانَ، بُويِعَ بالخلافة يوم الثلاثاء لثلاث عشرة ليلة

(11/23)


خلت من رجب في هذه السنة فِي دَارِ الْأَمِيرِ يَارْجُوخَ وَذَلِكَ قَبْلَ خَلْعِ الْمُهْتَدِي بِأَيَّامٍ، ثُمَّ كَانَتْ بَيْعَةُ الْعَامَّةِ يَوْمَ الاثنين لثمان مضت من رجب، قيل ولعشرين بَقِينَ مِنْ رَجَبٍ دَخَلَ مُوسَى بْنُ بُغَا ومفلح إلى سرمن رأى فنزل موسى في داره وسكن وَخَمَدَتِ الْفِتْنَةُ هُنَالِكَ، وَأَمَّا صَاحِبُ الزَّنْجِ الْمُدَّعِي أَنَّهُ عَلَوِيٌّ فَهُوَ مُحَاصِرٌ لِلْبَصْرَةِ وَالْجُيُوشُ الْخَلِيفِيَّةُ في وجهه دونها، وهو في كل يوم يقهرهم ويغنم أموالهم وما يَفِدُ إِلَيْهِمْ فِي الْمَرَاكِبِ مِنَ الْأَطْعِمَةِ وَغَيْرِهَا، ثم استحوذ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الْأُبُلَّةِ وَعَبَّادَانَ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْبِلَادِ وَخَافَ مِنْهُ أَهْلُ الْبَصْرَةِ خَوْفًا شَدِيدًا، وكلما لأمره في قوة وجيوشه في زيادة، ولم يزل ذلك دأبه إلى انسلاخ هذه السنة.
وفيها خرج رجل آخر في الكوفة يقال له على بن زيد الطالبي، وجاء جَيْشٌ مِنْ جِهَةِ الْخَلِيفَةِ فَكَسَرَهُ الطَّالِبِيُّ وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُهُ بِالْكُوفَةِ وَقَوِيَتْ شَوْكَتُهُ، وَتَفَاقَمَ أَمْرُهُ. وَفِيهَا وَثَبَ مُحَمَّدُ بْنُ وَاصِلٍ التَّمِيمِيُّ عَلَى نَائِبِ الأهواز الْحَارِثِ بْنِ سِيمَا الشَّرَابِيِّ فَقَتَلَهُ وَاسْتَحْوَذَ عَلَى بلاد الأهواز. وَفِي رَمَضَانَ مِنْهَا تَغَلَّبَ الْحَسَنُ بْنُ زَيْدٍ الطَّالِبِيُّ عَلَى بِلَادِ الرَّيِّ فَتَوَجَّهَ إِلَيْهِ مُوسَى بن بغا في شوال، وَخَرَجَ الْخَلِيفَةُ لِتَوْدِيعِهِ. وَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةٌ عَظِيمَةٌ عَلَى بَابِ دِمَشْقَ بَيْنَ أَمَاجُورَ نَائِبِ دِمَشْقَ- وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِلَّا قَرِيبٌ مِنْ أَرْبَعِمِائَةِ فارس- وبين ابن عيسى بن الشَّيْخِ، وَهُوَ فِي قَرِيبٍ مَنْ عِشْرِينَ أَلْفًا، فهزمه اماجور وجاءت ولاية من الخليفة لابن الشيخ على بِلَادَ أَرْمِينِيَّةَ عَلَى أَنْ يَتْرُكَ أَهْلَ الشَّامِ، فقبل ذلك وانصرف عنهم. وفيها حج بالناس محمد بن أحمد بن عيسى بن المنصور، وكان في جملة من حج أبو أحمد بن الْمُتَوَكِّلِ. فَتَعَجَّلَ وَعَجَّلَ السَّيْرَ إِلَى سَامَرَّا فَدَخَلَهَا ليلة الأربعاء لثلاث بَقِيَتْ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
وَفِيهَا توفى
المهتدي باللَّه الخليفة
كما تقدم رحمه الله تعالى.
والزبير بن بكار
ابن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُصْعَبِ بْنِ ثَابِتِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ الْقُرَشِيُّ الزُّبَيْرِيُّ قَاضِي مَكَّةَ.
قَدِمَ بَغْدَادَ وَحَدَّثَ بِهَا، وله كتاب أنساب قريش، وكان من أهل العلم بِذَلِكَ، وَكِتَابُهُ فِي ذَلِكَ حَافِلٌ جِدًّا. وَقَدْ روى عنه ابن ماجة وغيره، ووثقه الدار قطنى وَالْخَطِيبُ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَعَلَى كِتَابِهِ.
وَتُوُفِّيَ بِمَكَّةَ عَنْ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
مُحَمَّدُ بن إسماعيل الْبُخَارِيُّ
صَاحِبُ الصَّحِيحِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا لَهُ تَرْجَمَةً حافلة في أول شرحنا لصحيحه، ولنذكر ها هنا نبذة يسيرة من ذلك فنقول: هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ المغيرة بن بزدز به الْجُعْفِيُّ مَوْلَاهُمْ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبُخَارِيُّ الْحَافِظُ، إِمَامُ أَهْلِ الْحَدِيثِ فِي زَمَانِهِ، وَالْمُقْتَدَى بِهِ فِي أَوَانِهِ، وَالْمُقَدَّمُ عَلَى سَائِرِ أَضْرَابِهِ وَأَقْرَانِهِ، وكتابه الصحيح يستقى بقراءته الغمام، وأجمع العلماء على قبوله وصحة ما فيه، وكذلك

(11/24)


سائر أَهْلُ الْإِسْلَامِ، وُلِدَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ شَوَّالٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ، وَمَاتَ أَبُوهُ وَهُوَ صَغِيرٌ فَنَشَأَ فِي حِجْرِ أُمِّهِ فَأَلْهَمَهُ اللَّهُ حِفْظَ الْحَدِيثِ وَهُوَ فِي الْمَكْتَبِ، وَقَرَأَ الْكُتُبَ الْمَشْهُورَةَ وَهُوَ ابْنُ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً حَتَّى قِيلَ إِنَّهُ كَانَ يَحْفَظُ وَهُوَ صَبِيٌّ سَبْعِينَ أَلْفَ حَدِيثٍ سَرْدًا، وَحَجَّ وَعَمُرُهُ ثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةً. فأقام بمكة يطلب بها الحديث، ثم رحل بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى سَائِرِ مَشَايِخِ الْحَدِيثِ فِي البلدان التي أمكنته الرِّحْلَةُ إِلَيْهَا، وَكَتَبَ عَنْ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ شَيْخٍ. وَرَوَى عَنْهُ خَلَائِقُ وَأُمَمٌ. وَقَدْ رَوَى الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ عَنِ الْفِرَبْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعَ الصحيح من البخاري معى نحو من سبعين أَلْفًا لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ غَيْرِي. وَقَدْ روى البخاري من طريق الفر بري كَمَا هِيَ رِوَايَةُ النَّاسِ الْيَوْمَ مِنْ طَرِيقِهِ، وَحَمَّادِ بْنِ شَاكِرٍ وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ مَعْقِلٍ وَطَاهِرِ بْنِ مَخْلَدٍ وَآخِرُ مَنْ حَدَّثَ عَنْهُ أَبُو طلحة منصور بن محمد بن على البردي النَّسَفِيُّ وَقَدْ تُوُفِّيَ النَّسَفِيُّ هَذَا فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ. وَوَثَّقَهُ الْأَمِيرُ أَبُو نَصْرِ بْنُ مَاكُولَا. وَمِمَّنْ رَوَى عَنِ الْبُخَارِيِّ مُسْلِمٌ فِي غَيْرِ الصَّحِيحِ، وَكَانَ مُسْلِمٌ يُتَلْمِذُ لَهُ وَيُعَظِّمُهُ، وَرَوَى عَنْهُ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ، وَالنَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ. وَقَدْ دَخَلَ بَغْدَادَ ثَمَانِ مَرَّاتٍ، وَفِي كُلٍّ مِنْهَا يَجْتَمِعُ بالإمام أحمد فَيَحُثُّهُ أَحْمَدُ عَلَى الْمُقَامِ بِبَغْدَادَ وَيَلُومُهُ عَلَى الْإِقَامَةِ بِخُرَاسَانَ، وَقَدْ كَانَ الْبُخَارِيُّ يَسْتَيْقِظُ فِي الليلة الواحدة من نومه فيوقد السِّرَاجَ وَيَكْتُبُ الْفَائِدَةَ تَمُرُّ بِخَاطِرِهِ ثُمَّ يُطْفِئُ سراجه، ثم يقوم مرة أخرى وأخرى حتى كان يتعدد منه ذلك قَرِيبًا مِنْ عِشْرِينَ مَرَّةً. وَقَدْ كَانَ أُصِيبَ بَصَرُهُ وَهُوَ صَغِيرٌ فَرَأَتْ أُمُّهُ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَقَالَ يَا هَذِهِ قَدْ رَدَّ اللَّهُ عَلَى وَلَدِكِ بَصَرَهُ بِكَثْرَةِ دُعَائِكِ، أَوْ قَالَ بُكَائِكِ، فَأَصْبَحَ وَهُوَ بَصِيرٌ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: فَكَّرْتُ الْبَارِحَةَ فَإِذَا أَنَا قَدْ كَتَبْتُ لي مصنفات نَحْوًا مِنْ مِائَتَيْ أَلْفِ حَدِيثٍ مُسْنَدَةً. وَكَانَ يَحْفَظُهَا كُلَّهَا. وَدَخَلَ مَرَّةً إِلَى سَمَرْقَنْدَ فَاجْتَمَعَ بأربعمائة من علماء الحديث بها، فركبوا أَسَانِيدَ وَأَدْخَلُوا إِسْنَادَ الشَّامِ فِي إِسْنَادِ الْعِرَاقِ، وَخَلَطُوا الرِّجَالَ فِي الْأَسَانِيدِ وَجَعَلُوا مُتُونَ الْأَحَادِيثِ عَلَى غَيْرِ أَسَانِيدِهَا، ثُمَّ قَرَءُوهَا عَلَى الْبُخَارِيِّ فَرَدَّ كُلَّ حَدِيثٍ إِلَى إِسْنَادِهِ، وَقَوَّمَ تِلْكَ الأحاديث والأسانيد كلها، وما تعنتوا عليه فيها، ولم يقدروا أن يعلقوا عليه سقطة في إسناد ولا متن. وكذلك صنع في بَغْدَادَ. وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّهُ كَانَ يَنْظُرُ فِي الكتاب مرة واحدة فيحفظه من نظرة واحدة. والأخبار عنه في ذلك كَثِيرَةٌ. وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ عُلَمَاءُ زَمَانِهِ مِنْ شُيُوخِهِ وَأَقْرَانِهِ. فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: مَا أَخْرَجَتْ خُرَاسَانُ مِثْلَهُ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ: لَمْ يَرَ الْبُخَارِيُّ مِثْلَ نَفْسِهِ. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ: لَوْ كَانَ فِي زَمَنِ الْحَسَنِ لَاحْتَاجَ الناس إليه في الحديث ومعرفته وَفِقْهِهِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ: مَا رَأَيْنَا مِثْلَهُ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ: لَا أعلم مثله. وقال محمود بن النظر بن سَهْلٍ الشَّافِعِيُّ: دَخَلْتُ الْبَصْرَةَ وَالشَّامَ وَالْحِجَازَ وَالْكُوفَةَ وَرَأَيْتُ عُلَمَاءَهَا كُلَّمَا جَرَى ذِكْرُ مُحَمَّدِ بْنِ إسماعيل

(11/25)


الْبُخَارِيِّ فَضَّلُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الدَّغُولِيُّ: كَتَبَ أَهْلُ بَغْدَادَ إِلَى الْبُخَارِيِّ:
الْمُسْلِمُونَ بخير ما حبيت لَهُمْ ... وَلَيْسَ بَعْدَكَ خَيْرٌ حِينَ تُفْتَقَدُ
وَقَالَ الْفَلَّاسُ: كُلُّ حَدِيثٍ لَا يَعْرِفُهُ الْبُخَارِيُّ فَلَيْسَ بحديث. وقال أبو نعيم أحمد بْنُ حَمَّادٍ: هُوَ فَقِيهُ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَكَذَا قَالَ يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ. وَمِنْهُمْ مَنْ فَضَّلَهُ فِي الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ عَلَى الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ وَقَالَ قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ: رُحِلَ إِلَيَّ مِنْ شَرْقِ الْأَرْضِ وغربها خلق فَمَا رَحَلَ إِلَيَّ مِثْلُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ البخاري. وقال مرجّى بن رجاء: فضل البخاري على العلماء كفضل الرجال على النساء- يعنى في زمانه- وأما قبل زمانه مثل قرب الصحابة والتابعين فلا. وقال هو آية من آيات الله تمشى عَلَى الْأَرْضِ. وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدارميّ: مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ أَفْقَهُنَا وَأَعْلَمُنَا وَأَغْوَصُنَا وَأَكْثَرُنَا طَلَبًا. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ: هُوَ أَبْصَرُ مِنِّي.
وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ: مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَعْلَمُ مَنْ دَخَلَ الْعِرَاقَ. وَقَالَ عبد الله الْعِجْلِيُّ: رَأَيْتَ أَبَا حَاتِمٍ وَأَبَا زُرْعَةَ يَجْلِسَانِ إليه يسمعان مَا يَقُولُ، وَلَمْ يَكُنْ مُسْلِمٌ يَبْلُغُهُ، وَكَانَ أَعْلَمَ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الذُّهْلِيِّ بِكَذَا وكذا، وكان حييا فَاضِلًا يُحْسِنُ كُلَّ شَيْءٍ. وَقَالَ غَيْرُهُ: رَأَيْتُ مُحَمَّدَ بْنَ يَحْيَى الذُّهْلِيَّ يَسْأَلُ الْبُخَارِيَّ عَنِ الْأَسَامِي وَالْكُنَى وَالْعِلَلِ، وَهُوَ يَمُرُّ فِيهِ كَالسَّهْمِ، كأنه يقرأ قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ 112: 1. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَمْدُونَ الْقَصَّارُ: رَأَيْتُ مُسْلِمَ بْنَ الْحَجَّاجِ جَاءَ إِلَى الْبُخَارِيِّ فَقَبَّلَ بَيْنَ عينيه وقال: دعني أُقَبِّلَ رِجْلَيْكَ يَا أُسْتَاذَ الْأُسْتَاذِينَ، وَسَيِّدَ الْمُحَدِّثِينَ، وَطَبِيبَ الْحَدِيثِ فِي عِلَلِهِ، ثُمَّ سَأَلَهُ عَنْ حَدِيثِ كَفَّارَةِ الْمَجْلِسِ فَذَكَرَ لَهُ عِلَّتَهُ فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ مُسْلِمٌ لَا يُبْغِضُكَ إِلَّا حَاسِدٌ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مِثْلُكَ. وَقَالَ الترمذي: لم أر بالعراق ولا في خراسان فِي مَعْنَى الْعِلَلِ وَالتَّارِيخِ وَمَعْرِفَةِ الْأَسَانِيدِ أَعْلَمَ مِنَ الْبُخَارِيِّ، وَكُنَّا يَوْمًا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُنِيرٍ فَقَالَ لِلْبُخَارِيِّ: جَعَلَكَ اللَّهُ زَيْنَ هَذِهِ الْأُمَّةِ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: فَاسْتُجِيبَ لَهُ فِيهِ. وَقَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ: مَا رَأَيْتُ تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ أَعْلَمَ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أحفظ له من محمد ابن إسماعيل البخاري، ولو استقصينا ثناء العلماء عليه فِي حِفْظِهِ وَإِتْقَانِهِ وَعِلْمِهِ وَفِقْهِهِ وَوَرَعِهِ وَزُهْدِهِ وعبادته لَطَالَ عَلَيْنَا، وَنَحْنُ عَلَى عَجَلٍ مِنْ أَجْلِ الحوادث والله سبحانه الْمُسْتَعَانُ. وَقَدْ كَانَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي غَايَةِ الْحَيَاءِ وَالشَّجَاعَةِ وَالسَّخَاءِ وَالْوَرَعِ وَالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا دَارِ الْفَنَاءِ، وَالرَّغْبَةِ فِي الْآخِرَةِ دَارِ البقاء. وقال البخاري: إني لأرجو أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَلَيْسَ أَحَدٌ يُطَالِبُنِي أَنِّي اغْتَبْتُهُ. فَذُكِرَ لَهُ التَّارِيخُ وَمَا ذَكَرَ فِيهِ مِنَ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَقَالَ: لَيْسَ هَذَا مِنْ هَذَا، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ائْذَنُوا لَهُ فَلَبِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ» وَنَحْنُ إِنَّمَا رَوَيْنَا ذَلِكَ رِوَايَةً وَلَمْ نَقُلْهُ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِنَا. وَقَدْ كَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ يُصَلِّي فِي كُلِّ لَيْلَةٍ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَكَانَ يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ خَتْمَةً، وَكَانَتْ لَهُ جِدَةٌ وَمَالٌ جَيِّدٌ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا، وَكَانَ يُكْثِرُ الصَّدَقَةَ بالليل والنهار، وَكَانَ مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ مُسَدَّدَ

(11/26)


الرَّمْيَةِ شَرِيفَ النَّفْسِ، بَعَثَ إِلَيْهِ بَعْضُ السَّلَاطِينِ لِيَأْتِيَهُ حَتَّى يَسْمَعَ أَوْلَادُهُ عَلَيْهِ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ: في بيته العلم والحلم يؤتى- يعنى إِنْ كُنْتُمْ تُرِيدُونَ ذَلِكَ فَهَلُمُّوا إِلَيَّ- وَأَبَى أن يذهب إليهم. والسلطان خالد ابن أَحْمَدَ الذُّهْلِيُّ نَائِبُ الظَّاهِرِيَّةِ بِبُخَارَى، فَبَقِيَ فِي نفس الأمير من ذلك، فاتفق أن جاء كتاب من محمد بن يحيى الذهلي بأن البخاري يقول لفظه بالقرآن مخلوق- وكان قد وَقَعَ بَيْنَ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الذُّهْلِيِّ وَبَيْنَ الْبُخَارِيِّ فِي ذَلِكَ كَلَامٌ وَصَنَّفَ الْبُخَارِيُّ فِي ذلك كتاب أَفْعَالِ الْعِبَادِ- فَأَرَادَ أَنْ يَصْرِفَ النَّاسَ عَنِ السَّمَاعِ مِنَ الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ كَانَ النَّاسُ يُعَظِّمُونَهُ جِدًّا، وَحِينَ رَجَعَ إِلَيْهِمْ نَثَرُوا عَلَى رَأْسِهِ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ يَوْمَ دَخَلَ بُخَارَى عَائِدًا إِلَى أهله، وكان له مجلس يجلس فيه للاملاء بِجَامِعِهَا فَلَمْ يَقْبَلُوا مِنَ الْأَمِيرِ، فَأَمَرَ عِنْدَ ذلك بنفيه من تلك الْبِلَادِ، فَخَرَجَ مِنْهَا وَدَعَا عَلَى خَالِدِ بْنِ أَحْمَدَ فِلَمْ يَمْضِ شَهْرٌ حَتَّى أَمَرَ ابْنُ طَاهِرٍ بِأَنْ يُنَادَى عَلَى خَالِدِ بْنِ أَحْمَدَ عَلَى أَتَانٍ، وَزَالَ مُلْكُهُ وَسُجِنَ فِي بَغْدَادَ حتى مات، ولم يبق أحد يساعده عَلَى ذَلِكَ إِلَّا ابْتُلِيَ بِبَلَاءٍ شَدِيدٍ، فَنَزَحَ الْبُخَارِيُّ مِنْ بَلَدِهِ إِلَى بَلْدَةٍ يُقَالُ لَهَا خَرْتَنْكُ عَلَى فَرْسَخَيْنِ مِنْ سَمَرْقَنْدَ، فَنَزَلَ عِنْدَ أَقَارِبَ لَهُ بِهَا وَجَعَلَ يَدْعُو اللَّهَ أَنْ يقبضه إليه حين رأى الفتن في الدين، لما جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «وَإِذَا أَرَدْتَ بِقَوْمٍ فِتْنَةً فَتَوَفَّنَا إِلَيْكَ غَيْرَ مَفْتُونِينَ» . ثُمَّ اتَّفَقَ مَرَضُهُ عَلَى إِثْرِ ذَلِكَ. فَكَانَتْ وَفَاتُهُ لَيْلَةَ عِيدِ الفطر- وكان لَيْلَةَ السَّبْتِ- عِنْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ يَوْمَ الْعِيدِ بَعْدَ الظُّهْرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ- أَعْنِي سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ- وَكُفِّنَ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عمامة، وفق ما أوصى به، وحين ما دُفِنَ فَاحَتْ مِنْ قَبْرِهِ رَائِحَةُ غَالِيَةٍ أَطْيَبُ من ريح المسك ثم دام ذلك أياما ثم جعلت ترى سواري بيض بحذاء قبره. وكان عمره يوم مات ثِنْتَيْنِ وَسِتِّينَ سَنَةً. وَقَدْ تَرَكَ رَحِمَهُ اللَّهُ بعده علما نافعا لجميع المسلمين، فعلمه لَمْ يَنْقَطِعْ بَلْ هُوَ مَوْصُولٌ بِمَا أَسْدَاهُ مِنَ الصَّالِحَاتِ فِي الْحَيَاةِ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ، عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ» الْحَدِيثَ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَشَرْطُهُ فِي صَحِيحِهِ هَذَا أَعَزُّ مِنْ شَرْطِ كُلِّ كِتَابٍ صُنِّفَ فِي الصَّحِيحِ، لَا يُوَازِيهِ فِيهِ غَيْرُهُ، لَا صَحِيحُ مُسْلِمٍ وَلَا غَيْرُهُ. وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ بَعْضُ الْفُصَحَاءِ مِنَ الشُّعَرَاءِ.
صَحِيحُ الْبُخَارِيِّ لَوْ أَنْصَفُوهُ ... لَمَا خُطَّ إِلَّا بِمَاءِ الذَّهَبْ
هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْهُدَى وَالْعَمَى ... هُوَ السَّدُ بَيْنَ الْفَتَى وَالْعَطَبْ
أَسَانِيدُ مِثْلُ نجوم السماء ... أمام متون لها كالشهب
بِهَا قَامَ مِيزَانُ دِينِ الرَّسُولِ ... وَدَانَ بِهِ الْعُجْمُ بَعْدَ الْعَرَبْ
حِجَابٌ مِنَ النَّارِ لَا شك فيه ... يميز بين الرضى وَالْغَضَبْ
وَسِتْرٌ رَقِيقٌ إِلَى الْمُصْطَفَى ... وَنَصٌّ مُبِينٌ لكشف الريب

(11/27)


فَيَا عَالِمًا أَجْمَعَ الْعَالِمُونَ ... عَلَى فَضْلِ رُتْبَتِهِ في الرتب
سبقت الأئمة فيما جَمَعْتَ ... وَفُزْتَ عَلَى زَعْمِهِمْ بِالْقَصَبْ
نَفَيْتَ الضَّعِيفَ مِنَ النَّاقِلِينَ ... وَمَنْ كَانَ مُتَّهَمًا بِالْكَذِبْ
وَأَبْرَزْتَ فِي حُسْنِ تَرْتِيبِهِ ... وَتَبْوِيبِهِ عَجَبًا لِلْعَجَبْ
فَأَعْطَاكَ مَوْلَاكَ مَا تَشْتَهِيهِ ... وَأَجْزَلَ حَظَّكَ فِيمَا وَهَبْ
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا ولى الخليفة المعتمد لِيَعْقُوبَ بْنِ اللَّيْثِ بَلْخَ وَطَخَارِسْتَانَ وَمَا يَلِي ذَلِكَ مِنْ كَرْمَانَ وَسَجِسْتَانَ وَالسِّنْدِ وَغَيْرِهَا. وَفِي صَفَرٍ مِنْهَا عَقَدَ الْمُعْتَمِدُ لِأَخِيهِ أَبِي أَحْمَدَ عَلَى الْكُوفَةِ وَطَرِيقِ مَكَّةَ وَالْحَرَمَيْنِ وَالْيَمَنِ وَأَضَافَ إِلَيْهِ فِي رَمَضَانَ نِيَابَةَ بَغْدَادَ وَالسَّوَادِ وَوَاسِطَ وَكُوَرِ دِجْلَةَ وَالْبَصْرَةِ وَالْأَهْوَازِ، وَفَارِسَ، وَأَذِنَ لَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ. وَفِيهَا تَوَاقَعَ سَعِيدٌ الْحَاجِبُ وَصَاحِبُ الزَّنْجِ فِي أَرَاضِي الْبَصْرَةِ فَهَزَمَهُ سَعِيدٌ الْحَاجِبُ وَاسْتَنْقَذَ مِنْ يَدِهِ خَلْقًا مِنَ النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ، وَاسْتَرْجَعَ مِنْهُ أَمْوَالًا جَزِيلَةً. وأهان الزنج غاية الإهانة. ثُمَّ إِنَّ الزِّنْجَ بَيَّتُوا سَعِيدًا وَجَيْشَهُ فَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا وَيُقَالُ إِنَّ سَعِيدَ بْنَ صالح قتل أيضا. ثم إن الزنج التقوا هم ومنصور بْنِ جَعْفَرٍ الْخَيَّاطِ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ فَهَزَمَهُمْ صَاحِبُ الزَّنْجِ الْمُدَّعِي أَنَّهُ طَالِبِيٌّ، وَهُوَ كَاذِبٌ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِيهَا ظُفِرَ بِبَغْدَادَ بِمَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ بِرْكَةُ زَلْزَلٍ بِرَجُلٍ خَنَّاقٍ قَدْ قتل خلقا من النساء كان يؤلف المرأة ثم يخنقها ويأخذ ما عليها، فَحُمِلَ إِلَى الْمُعْتَمِدِ فَضُرِبَ بَيْنَ يَدَيْهِ بِأَلْفَيْ سوط وأربعمائة، فلم يمت حتى ضربه الْجَلَّادُونَ عَلَى أُنْثَيَيْهِ بِخَشَبِ الْعُقَابَيْنِ فَمَاتَ، وَرُدَّ إِلَى بَغْدَادَ وَصُلِبَ هُنَاكَ، ثُمَّ أُحْرِقَتْ جُثَّتَهُ. وَفِي لَيْلَةِ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ كَسَفَ الْقَمَرُ وَغَابَ أَكْثَرُهُ. وَفِي صبيحة هذا اليوم دخل جيش الخبيث الزنجي إلى البصرة قهرا فقتل من أهلها خلقا وَهَرَبَ نَائِبُهَا بُغْرَاجُ وَمَنْ مَعَهُ، وَأَحْرَقَتِ الزِّنْجُ جَامِعَ الْبَصْرَةِ وَدُورًا كَثِيرَةً، وَانْتَهَبُوهَا ثُمَّ نَادَى فيهم إبراهيم بن المهلبي أحد أصحاب الزنجي الخارجي: من أراد الأمان فليحضر. فاجتمع عنده خلق كثير من أهل البصرة فَرَأَى أَنَّهُ قَدْ أَصَابَ فُرْصَةً فَغَدَرَ بِهِمْ وَأَمَرَ بِقَتْلِهِمْ، فَلَمْ يَفْلِتْ مِنْهُمْ إِلَّا الشَّاذُّ:
كانت الزنج تحيط بجماعة مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ ثُمَّ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: كيلوا- وهي الإشارة بينهم إلى القتل- فيحملون عليهم بالسيوف فلا يسمع إلا قول أشهد أن لا إله إلا الله، من أولئك المقتولين وضجيجهم عند القتل- أي صراخ الزنج وضحكهم- ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156. وهكذا كانوا يفعلون في كل محال البصرة في عدة أيام نحسات، وَهَرَبَ النَّاسُ مِنْهُمْ كُلَّ مَهْرَبٍ، وَحَرَقُوا الْكَلَأَ من الجبل إلى الجبل، فكانت النار تحرق مَا وَجَدَتْ مِنْ شَيْءٍ مِنْ إِنْسَانٍ أَوْ بهيمة أو آثار أو غير ذلك، وأحرقوا المسجد الجامع [وقد قتل هؤلاء جماعة كثيرة من الأعيان والأدباء والفضلا. والمحدثين

(11/28)


والعلماء. ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156 [1]] . وَكَانَ هَذَا الْخَبِيثُ قد أوقع في أهل فَارِسَ وَقْعَةً عَظِيمَةً، ثُمَّ بَلَغَهُ أَنَّ أَهْلَ الْبَصْرَةِ قَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْمِيرَةِ شَيْءٌ كَثِيرٌ وَقَدِ اتَّسَعُوا بَعْدَ الضِّيقِ فَحَسَدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مَنْ سَمِعَهُ يَقُولُ: دَعَوْتُ اللَّهَ عَلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ فَخُوطِبْتُ فَقِيلَ: إنما أهل البصرة خبزة لك تَأْكُلُهَا مِنْ جَوَانِبِهَا، فَإِذَا انْكَسَرَ نِصْفُ الرَّغِيفِ خربت البصرة فأولت الرغيف القمر وانكساره انكسافه، وَقَدْ كَانَ هَذَا شَائِعًا فِي أَصْحَابِهِ حَتَّى وقع الأمر طبق ما أخبر به. وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا كَانَ مَعَهُ شَيْطَانٌ يخاطبه، كما كان يأتى الشيطان مسيلمة وغيره. قال: ولما وقع ما وقع من الزنج بأهل البصرة قال هذا الخبيث لمن معه: إني صبيحة ذلك دَعَوْتُ اللَّهَ عَلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ فَرُفِعَتْ لِي البصرة بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَرَأَيْتُ أَهْلَهَا يُقَتَّلُونَ وَرَأَيْتُ الْمَلَائِكَةَ تُقَاتِلُ مَعَ أَصْحَابِي وَإِنِّي لَمَنْصُورٌ عَلَى الناس والملائكة تقاتل معى، وتثبت جيوشى، ويؤيدونى فِي حُرُوبِي. وَلَمَّا صَارَ إِلَيْهِ الْعَلَوِيَّةُ الَّذِينَ كانوا بالبصرة انتسب هو حِينَئِذٍ إِلَى يَحْيَى بْنِ زَيْدٍ، وَهُوَ كَاذِبٌ في ذلك بالإجماع، لابن يحيى ابن زَيْدٍ لَمْ يُعْقِبْ إِلَّا بِنْتًا مَاتَتْ وَهِيَ تَرْضَعُ، فَقَبَّحَ اللَّهُ هَذَا اللَّعِينَ مَا أَكْذَبَهُ وأفجره وأغدره.
وفيها في مستهل ذي القعدة وجه الخليفة جَيْشًا كَثِيفًا مَعَ الْأَمِيرِ مُحَمَّدٍ- الْمَعْرُوفِ بِالْمُوَلَّدِ- لِقِتَالِ صَاحِبِ الزَّنْجِ، فَقَبَضَ فِي طَرِيقِهِ عَلَى سعد بْنِ أَحْمَدَ الْبَاهِلِيِّ الَّذِي كَانَ قَدْ تَغَلَّبَ على أرض البطائح وأخاف السبيل. وفيها خالف محمد بن واصل الخليفة بِأَرْضِ فَارِسَ وَتَغَلَّبَ عَلَيْهَا. وَفِيهَا وَثَبَ رَجُلٌ مِنَ الرُّومِ يُقَالُ لَهُ بَسِيلُ الصَّقْلَبِيُّ عَلَى مَلِكِ الرُّومِ مِيخَائِيلَ بْنِ تَوْفِيلَ فَقَتَلَهُ وَاسْتَحْوَذَ عَلَى مَمْلَكَةِ الرُّومِ، وَقَدْ كَانَ لِمِيخَائِيلَ فِي الملك على الروم أربع وعشرون سنة. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا الْفَضْلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْعَبَّاسِيُّ.
وفيها توفى مِنَ الْأَعْيَانِ.
الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ بْنِ يَزِيدَ
صَاحِبُ الْجُزْءِ الْمَشْهُورِ الْمَرْوِيِّ، وَقَدْ جَاوَزَ الْمِائَةَ بِعَشْرِ سِنِينَ، وَقِيلَ بِسَبْعٍ، وَكَانَ لَهُ عَشَرَةٌ من الولد سماهم بأسماء العشرة. وَقَدْ وَثَّقَهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُ، وَكَانَ يتردد إلى الامام أحمد بن حنبل ولد فِي سَنَةِ خَمْسِينَ وَمِائَةٍ، وَتُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السنة عن مائة وسبع سنين وأبو سعيد الأشج. وبريد بن أخرم الطائي. والرواسي ذبحهما الزنج في جملة من ذبحوا من أهل البصرة. وعلى بن خشرم. أحد مشايخ مسلم الّذي يكثر عنهم الرواية.
وَالْعَبَّاسُ بْنُ الْفَرَجِ
أَبُو الْفَضْلِ الرِّيَاشِيُّ النَّحْوِيُّ اللُّغَوِيُّ، كَانَ عَالِمًا بِأَيَّامِ الْعَرَبِ وَالسِّيَرِ وَكَانَ كَثِيرَ الِاطِّلَاعِ ثِقَةً عَالِمًا، رَوَى عَنِ الْأَصْمَعِيِّ وَأَبِي عُبَيْدَةَ وَغَيْرِهِمَا، وَعَنْهُ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ، وَأَبُو بكر بن أبى الدنيا وغيرهما. قتل بالبصرة في هذه السنة، قتله الزنج. ذكره ابن خلكان في الوفيات وحكى عنه الأصمعي أنه قال:
__________
[1] زيادة من نسخة أخرى بالأستانة ومن المصرية.

(11/29)


مَرَّ بِنَا أَعْرَابِيٌّ يَنْشُدُ ابْنَهُ فَقُلْنَا لَهُ صِفْهُ لَنَا. فَقَالَ: كَأَنَّهُ دُنَيْنِيرٌ. فَقُلْنَا: لَمْ نَرَهُ، فَلَمْ نَلْبَثْ أَنْ جَاءَ يَحْمِلُهُ عَلَى عنقه أسيود كأنه سفل قدر. فقلت: لَوْ سَأَلْتَنَا عَنْ هَذَا لَأَرْشَدْنَاكَ، إِنَّهُ مُنْذُ الْيَوْمِ يَلْعَبُ هَاهُنَا مَعَ الْغِلْمَانِ. ثُمَّ أَنْشَدَ الأصمعي:
نعم ضجيع الفتى إذا برد ... الليل سحرا وقرقف العرد
زَيَّنَهَا اللَّهُ فِي الْفُؤَادِ كَمَا ... زُيِّنَ فِي عين والد ولد