البداية والنهاية، ط. دار الفكر
ثم دخلت سنة أربع
وستين وثلاثمائة
فِيهَا جَاءَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ بْنُ رُكْنِ الدَّوْلَةِ بْنِ
بُوَيْهِ إِلَى وَاسِطٍ وَمَعَهُ وَزِيرُ أَبِيهِ أبو الفتح بن العميد،
فهرب منه الفتكين في الأتراك إلى بغداد، فسار خلفهم فنزل في الجانب
الشرقي منها، وَأَمَرَ بَخْتِيَارَ أَنْ يَنْزِلَ عَلَى الْجَانِبِ
الْغَرْبِيِّ، وَحَصَرَ التُّرْكَ حَصْرًا شَدِيدًا، وَأَمَرَ
أُمَرَاءَ الْأَعْرَابِ أن يغيروا على الأطراف ويقطعوا عن بغداد الميرة
الواصلة إليها، فغلت الأسعار وَامْتَنَعَ النَّاسُ مِنَ الْمَعَاشِ
مِنْ كَثْرَةِ الْعَيَّارِينَ والنهوب، وكبس الفتكين البيوت لطلب
الطعام واشتد الحال، ثُمَّ الْتَقَتِ الْأَتْرَاكُ وَعَضُدُ
الدَّوْلَةِ فَكَسَرَهُمْ وَهَرَبُوا إِلَى تِكْرِيتَ وَاسْتَحْوَذَ
عَضُدُ الدَّوْلَةِ عَلَى بَغْدَادَ وَمَا وَالَاهَا مِنَ الْبِلَادِ،
وَكَانَتِ التُّرْكُ قَدْ أَخْرَجُوا مَعَهُمُ الْخَلِيفَةَ فَرَدَّهُ
عَضُدُ الدَّوْلَةِ إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ مُكَرَّمًا، وَنَزَلَ
هُوَ بِدَارِ الْمُلْكِ وضعف أَمْرُ بَخْتِيَارَ جِدًّا، وَلَمْ يَبْقَ
مَعَهُ شَيْءٌ بالكلية، فأغلق بابه وطرد الحجبة والكتاب عَنْ بَابِهِ
وَاسْتَعْفَى عَنِ الْإِمَارَةِ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَشُورَةِ عَضُدِ
الدَّوْلَةِ، فَاسْتَعْطَفَهُ عَضُدُ الدَّوْلَةِ فِي الظَّاهِرِ،
وَقَدْ أَشَارَ عَلَيْهِ فِي الْبَاطِنِ أَنْ لَا يَقْبَلَ فَلَمْ
يَقْبَلْ. وَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ بَيْنَهُمَا فصمم بختيار على
الامتناع ظاهرا، فألزم عَضُدُ الدَّوْلَةِ بِذَلِكَ وَأَظْهَرَ
لِلنَّاسِ أَنَّهُ إِنَّمَا يَفْعَلُ هَذَا عَجْزًا مِنْهُ عَنِ
الْقِيَامِ بِأَعْبَاءِ الْمُلْكِ فَأَمَرَ بِالْقَبْضِ عَلَى
بَخْتِيَارَ وَعَلَى أَهْلِهِ واخوته، ففرح بذلك الخليفة الطائع،
وَأَظْهَرَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ مِنْ تَعْظِيمِ الْخِلَافَةِ مَا كَانَ
دَارِسًا، وَجَدَّدَ دَارَ الْخِلَافَةِ حَتَّى صَارَ كُلُّ مَحَلٍّ
مِنْهَا آنِسًا، وَأَرْسَلَ إِلَى الْخَلِيفَةِ بالأموال والأمتعة
الحسنة العزيزة وقتل الْمُفْسِدِينَ مِنْ مَرَدَةِ التُّرْكِ
وَشُطَّارِ الْعَيَّارِينَ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَظُمَ الْبَلَاءُ
بِالْعَيَّارِينَ بِبَغْدَادَ، وَأَحْرَقُوا سُوقَ بَابِ الشَّعِيرِ،
وَأَخَذُوا أَمْوَالًا كَثِيرَةً، وَرَكِبُوا الْخُيُولَ وَتَلَقَّبُوا
بِالْقُوَّادِ، وَأَخَذُوا الْخَفَرَ مِنَ الْأَسْوَاقِ وَالدُّرُوبِ،
(11/279)
وعظمت المحنة بهم جدا واستفحل أمرهم،
حَتَّى إِنَّ رَجُلًا مِنْهُمْ أَسْوَدَ كَانَ مُسْتَضْعَفًا نَجَمَ
فِيهِمْ وَكَثُرَ مَالُهُ حَتَّى اشْتَرَى جَارِيَةً بِأَلْفِ
دِينَارٍ، فَلَمَّا حَصَلَتْ عِنْدَهُ حَاوَلَهَا عَنْ نَفْسِهَا
فَأَبَتْ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهَا:
مَاذَا تَكْرَهِينَ مِنِّي؟ قَالَتْ: أَكْرَهُكَ كُلَّكَ. فَقَالَ:
فَمَا تُحِبِّينَ؟ فقالت تبيعني. فقال: أو خير مِنْ ذَلِكَ؟
فَحَمَلَهَا إِلَى الْقَاضِي فَأَعْتَقَهَا وَأَعْطَاهَا أَلْفَ
دِينَارٍ وَأَطْلَقَهَا، فَتَعَجَّبَ النَّاسُ مِنْ حِلْمِهِ وكرمه مع
فسقه وقوته. قَالَ: وَوَرَدَ الْخَبَرُ فِي الْمُحَرَّمِ بِأَنَّهُ
خُطِبَ لِلْمُعِزِّ الْفَاطِمِيِّ بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فِي
الْمَوْسِمِ، وَلَمْ يُخْطَبْ لِلطَّائِعِ. قَالَ: وَفِي رَجَبٍ
مِنْهَا غَلَتِ الأسعار ببغداد حَتَّى بِيعَ الْكُرُّ الدَّقِيقُ
الْحُوَّارَى بِمِائَةٍ وَنَيِّفٍ وَسَبْعِينَ دِينَارًا. قَالَ:
وَفِيهَا اضْمَحَلَّ أَمْرُ عَضُدِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ
وَتَفَرَّقَ جُنْدُهُ عَنْهُ وَلَمْ يبق معه سوى بغداد وحدها، فأرسل
إِلَى أَبِيهِ يَشْكُو لَهُ ذَلِكَ، فَأَرْسَلَ يَلُومُهُ على الغدر
بابن عمه بختيار، فَلَمَّا بَلَغَهُ ذَلِكَ خَرَجَ مِنْ بَغْدَادَ
إِلَى فارس بعد أن أخرج ابن عمه مِنَ السِّجْنِ وَخَلَعَ عَلَيْهِ
وَأَعَادَهُ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَشَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ
نَائِبًا لَهُ بِالْعِرَاقِ يَخْطُبُ لَهُ بِهَا، وَجَعَلَ مَعَهُ
أَخَاهُ أَبَا إِسْحَاقَ أَمِيرَ الْجُيُوشِ لِضَعْفِ بَخْتِيَارَ عن
تدبير الأمور، واستمر ذاهبا إلى بلاده، وَذَلِكَ كُلُّهُ عَنْ أَمْرِ
أَبِيهِ لَهُ بِذَلِكَ، وَغَضَبِهِ عَلَيْهِ بِسَبَبِ غَدْرِهِ بِابْنِ
عَمِّهِ وَتَكْرَارِ مكاتباته فيه إليه. ولما سار تَرَكَ بَعْدَهُ
وَزِيرَ أَبِيهِ أَبَا الْفَتْحِ بْنَ الْعَمِيدِ، وَلَمَّا اسْتَقَرَّ
عِزُّ الدَّوْلَةِ بَخْتِيَارُ بِبَغْدَادَ وَمَلَكَ الْعِرَاقَ لَمْ
يَفِ لِابْنِ عَمِّهِ عَضُدِ الدولة بشيء مما قال، ولا ما كان التزم،
بل تمادى على ضلاله القديم، واستمر على مشيه الّذي هو غير مستقيم، من
الرفض وغيره.
قَالَ: وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ لِعَشْرٍ خَلَوْنَ مِنْ ذي القعدة تزوج
الخليفة الطائع شاه باز بِنْتَ عِزِّ الدَّوْلَةِ عَلَى صَدَاقٍ
مِائَةِ أَلْفِ دينار، وفي سلخ ذي العقدة عُزِلَ الْقَاضِي أَبُو
الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحِ بن أم شيبان وقلده أبو محمد معروف.
وإمام الحج فيها أصحاب الفاطمي، وخطب له بالحرمين دون الطَّائِعِ
وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
ذِكْرُ أَخْذِ دِمَشْقَ مِنْ أَيْدِي الْفَاطِمِيِّينَ
ذَكَرَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي كامله أن الفتكين غُلَامَ مُعِزِّ
الدَّوْلَةِ الَّذِي كَانَ قَدْ خَرَجَ عَنْ طَاعَتِهِ كَمَا
تَقَدَّمَ، وَالْتَفَّ عَلَيْهِ عَسَاكِرُ وَجُيُوشٌ مِنَ الدَّيْلَمِ
وَالتُّرْكِ وَالْأَعْرَابِ، نَزَلَ فِي هذه السنة على دمشق، وكان
عليها من جهة الفاطميين ريان الخادم، فلما نزل بظاهرها خرج إليه كبراء
أهلها وشيوخها فذكروا له مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الظُّلْمِ وَالْغَشْمِ
وَمُخَالَفَةِ الاعتقاد بسبب الفاطميين، وسألوه أن يصمم على أخذها
لِيَسْتَنْقِذَهَا مِنْهُمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ صَمَّمَ عَلَى أَخْذِهَا
ولم يزل حتى أخذها وأخرج منها ريان الخادم وَكَسَرَ أَهْلَ الشَّرِّ
بِهَا، وَرَفَعَ أَهْلَ الْخَيْرِ، ووضع في أهلها العدل وَقَمَعَ
أَهْلَ اللَّعِبِ وَاللَّهْوِ، وَكَفَّ أَيْدِيَ الْأَعْرَابِ
الَّذِينَ كَانُوا قَدْ عَاثُوا فِي الْأَرْضِ فَسَادًا، وَأَخَذُوا
عَامَّةَ الْمَرْجِ وَالْغُوطَةِ، وَنَهَبُوا أَهْلَهَا. وَلَمَّا
اسْتَقَامَتِ الْأُمُورُ عَلَى يَدَيْهِ وَصَلُحَ أَمْرُ أَهْلِ الشام
كتب إليه المعز الفاطمي يَشْكُرُ سَعْيَهُ وَيَطْلُبُهُ إِلَيْهِ
(11/280)
لِيَخْلَعَ عَلَيْهِ وَيَجْعَلَهُ نَائِبًا
مِنْ جِهَتِهِ، فَلَمْ يجبه إلى ذلك، بل قطع خُطْبَتَهُ مِنَ الشَّامِ
وَخَطَبَ لِلطَّائِعِ الْعَبَّاسِيِّ، ثُمَّ قَصَدَ صَيْدَا وَبِهَا
خَلْقٌ مِنَ الْمَغَارِبَةِ عَلَيْهِمُ ابْنُ الشَّيْخِ، وَفِيهِمْ
ظَالِمُ بْنُ مَوْهُوبٍ الْعُقَيْلِيُّ الَّذِي كَانَ نَائِبًا عَلَى
دِمَشْقَ لِلْمُعِزِّ الْفَاطِمِيِّ، فَأَسَاءَ بِهِمُ السِّيرَةَ،
فَحَاصَرَهُمْ وَلَمْ يَزَلْ حَتَّى أَخَذَ الْبَلَدَ مِنْهُمْ،
وَقَتَلَ مِنْهُمْ نَحْوًا مِنْ أَرْبَعَةِ آلَافٍ مِنْ سَرَاتِهِمْ،
ثُمَّ قَصَدَ طَبَرِيَّةَ فَفَعَلَ بِأَهْلِهَا مِثْلَ ذَلِكَ،
فَعِنْدَ ذَلِكَ عَزَمَ المعز الفاطمي على المسير إليه، فبينما هو يجمع
له العساكر إذ توفى المعز فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَسِتِّينَ كَمَا
سَيَأْتِي، وَقَامَ بعده ولده العزيز، فاطمأن عند ذلك الفتكين بالشام،
واستفحل أمره وقويت شوكته، ثم اتفق أمر المصريين على أن يبعثوا جوهرا
القائد لقتاله وأخذ الشام من يده، فعند ذلك حلف أهل الشام لأفتكين أنهم
معه على الفاطميين، وأنهم ناصحون له غير تاركيه وَجَاءَ جَوْهَرٌ
فَحَصَرَ دِمَشْقَ سَبْعَةَ أَشْهُرٍ حَصْرًا شديدا ورأى من شجاعة
الفتكين ما بهره، فلما طَالَ الْحَالُ أَشَارَ مَنْ أَشَارَ مِنَ
الدَّمَاشِقَةِ على الفتكين أن يكتب إلى الحسين بن أحمد بن القرمطى وهو
بالحساء، لِيَجِيءَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا كَتَبَ إِلَيْهِ أَقْبَلَ
لِنَصْرِهِ، فلما سمع به جوهر لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَبْقَى بَيْنَ
عَدُوَّيْنِ مِنْ داخل البلد وخارجها، وفارتحل قاصدا الرملة فتبعه
الفتكين وَالْقِرْمِطِيُّ فِي نَحْوٍ مِنْ خَمْسِينَ أَلْفًا،
فَتَوَاقَعُوا عند نهر الطواحين على ثلاث فَرَاسِخَ مِنَ الرَّمَلَةِ،
وَحَصَرُوا جَوْهَرًا بِالرَّمْلَةِ فَضَاقَ حَالُهُ جِدًّا مِنْ
قِلَّةِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، حَتَّى أَشْرَفَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ
عَلَى الْهَلَاكِ، فَسَأَلَ من الفتكين على أن يجتمع هو وهو عَلَى
ظُهُورِ الْخَيْلِ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، فَلَمْ يزل يترفق له أن
يطلقه حتى يذهب بِمَنْ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى أُسْتَاذِهِ
شَاكِرًا لَهُ مُثْنِيًا عَلَيْهِ الْخَيْرَ، وَلَا يَسْمَعُ مِنَ
القرمطى فِيهِ- وَكَانَ جَوْهَرٌ دَاهِيَةً- فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ
فَنَدَّمَهُ الْقِرْمِطِيُّ وَقَالَ: الرَّأْيُ أَنَّا كُنَّا
نَحْصُرُهُمْ حتى يموتوا عن آخرهم فإنه يذهب إلى أستاذه ثم يجمع
العساكر ويأتينا، ولا طاقة لنا به. وكان الأمر كما قال، فإنه لما أطلقه
الفتكين مِنَ الْحَصْرِ لَمْ يَكُنْ لَهُ دَأْبٌ إِلَّا أنه حث العزيز
على الخروج إلى الفتكين بنفسه، فأقبل في جحافل أمثال الجبال، وفي كثرة
مِنَ الرِّجَالِ وَالْعُدَدِ وَالْأَثْقَالِ وَالْأَمْوَالِ، وَعَلَى
مُقَدِّمَتِهِ جوهر القائد. وجميع الفتكين وَالْقِرْمِطِيُّ الْجُيُوشَ
وَالْأَعْرَابَ وَسَارُوا إِلَى الرَّمْلَةِ فَاقْتَتَلُوا فِي
مُحَرَّمٍ سَنَةَ سَبْعٍ وَسِتِّينَ، وَلَمَّا تَوَاجَهُوا رأى العزيز
من شجاعة الفتكين مَا بَهَرَهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ يَعْرِضُ عَلَيْهِ
إِنْ أَطَاعَهُ وَرَجَعَ إِلَيْهِ أَنْ يَجْعَلَهُ مُقَدَّمَ
عَسَاكِرِهِ، وَأَنْ يُحْسِنَ إِلَيْهِ غَايَةَ الْإِحْسَانِ.
فَتَرَجَّلَ أَفْتِكِينُ عَنْ فَرَسِهِ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ وَقَبَّلَ
الْأَرْضَ نَحْوَ الْعَزِيزِ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ يَقُولُ: لَوْ كَانَ
هَذَا القول سبق قَبْلَ هَذَا الْحَالِ لَأَمْكَنَنِي وَسَارَعْتُ
وَأَطَعْتُ، وَأَمَّا الْآنَ فَلَا. ثُمَّ رَكِبَ فَرَسَهُ وَحَمَلَ
عَلَى ميسرة العزيز فَفَرَّقَ شَمْلَهَا وَبَدَّدَ خَيْلَهَا
وَرَجِلَهَا، فَبَرَزَ عِنْدَ ذَلِكَ الْعَزِيزُ مِنَ الْقَلْبِ
وَأَمَرَ الْمَيْمَنَةَ فَحَمَلَتْ حَمْلَةً صَادِقَةً فَانْهَزَمَ
الْقِرْمِطِيُّ وَتَبِعَهُ بَقِيَّةُ الشَّامِيِّينَ وَرَكِبَتِ
الْمَغَارِبَةُ أَقَفِيَتَهُمْ يَقْتُلُونَ وَيَأْسِرُونَ مَنْ
شَاءُوا، وَتَحَوَّلَ الْعَزِيزُ فَنَزَلَ خِيَامَ الشَّامِيِّينَ
بِمَنْ مَعَهُ، وأرسل السرايا وراءهم،
(11/281)
وجعل لَا يُؤْتَى بِأَسِيرٍ إِلَّا خَلَعَ
عَلَى مَنْ جاء به، وجعل لمن جاءه الفتكين مائة ألف دينار، فاتفق أن
الفتكين عطش عَطَشًا شَدِيدًا، فَاجْتَازَ بِمُفَرِّجِ بْنِ دَغْفَلٍ،
وَكَانَ صاحبه، فاستسقاه فسقاه وَأَنْزَلَهُ عِنْدَهُ فِي بُيُوتِهِ،
وَأَرْسَلَ إِلَى الْعَزِيزِ يخبره بأن طلبته عنده، فليحمل المال إلى
وليأخذ غريمه، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ بِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ وَجَاءَ
مَنْ تسلمه منه، فلما أحيط بالفتكين لَمْ يَشُكَّ أَنَّهُ مَقْتُولٌ،
فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ حَضَرَ عِنْدَ الْعَزِيزِ أَكْرَمَهُ غَايَةَ
الْإِكْرَامِ، وَرَدَّ إِلَيْهِ حَوَاصِلَهُ وَأَمْوَالَهُ لَمْ
يَفْقِدْ مِنْهَا شَيْئًا، وَجَعَلَهُ مِنْ أَخَصِّ أَصْحَابِهِ
وَأُمَرَائِهِ، وَأَنْزَلَهُ إِلَى جَانِبِ مَنْزِلِهِ، وَرَجَعَ بِهِ
إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ مُكَرَّمًا مُعَظَّمًا، وَأَقْطَعَهُ
هُنَالِكَ إَقْطَاعَاتٍ جَزِيلَةً، وأرسل إلى القرمطى أن يقدم عليه
ويكرمه كما أكرم الفتكين، فامتنع عليه وخاف منه، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ
بِعِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَجَعَلَهَا لَهُ عليه فِي كُلِّ سَنَةٍ،
يَكُفُّ بِهَا شَرَّهُ، وَلَمْ يزل الفتكين مكرما عند العزيز حتى وقع
بينه وبين الوزير ابن كاس، فَعَمِلَ عَلَيْهِ حَتَّى سَقَاهُ سُمًّا
فَمَاتَ، وَحِينَ علم العزيز بِذَلِكَ غَضِبَ عَلَى الْوَزِيرِ
وَحَبَسَهُ بِضْعًا وَأَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَأَخَذَ مِنْهُ
خَمْسَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ ثُمَّ رأى أن لا غنى به عنه فأعاده إلى
الوزارة. وهذا ملخص ما ذكره ابن الأثير.
وفيها توفى مِنَ الْأَعْيَانِ
سُبُكْتِكِينُ الْحَاجِبُ التُّرْكِيُّ
مَوْلَى الْمُعِزِّ الدَّيْلَمِيِّ وَحَاجِبُهُ، وَقَدْ تَرَقَّى فِي
الْمَرَاتِبِ حَتَّى آل به الأمر إِلَى أَنْ قَلَّدَهُ الطَّائِعُ
الْإِمَارَةَ وَخَلَعَ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ اللِّوَاءَ، وَلَقَّبَهُ
بِنُورِ الدَّوْلَةِ، وَكَانَتْ مُدَّةُ أيامه فِي هَذَا الْمَقَامِ
شَهْرَيْنِ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَدُفِنَ بِبَغْدَادَ
وَدَارُهُ هِيَ دَارُ الْمُلْكِ بِبَغْدَادَ، وَهِيَ دَارٌ عَظِيمَةٌ
جِدًّا، وَقَدِ اتَّفَقَ لَهُ أنه سقط مرة عن فرسه فانكسر صلبه
فَدَاوَاهُ الطَّبِيبُ حَتَّى اسْتَقَامَ ظَهْرُهُ وَقَدَرَ عَلَى
الصلاة إلا أنه لا يستطيع الرُّكُوعَ، فَأَعْطَاهُ شَيْئًا كَثِيرًا
مِنَ الْأَمْوَالِ، وَكَانَ يقول للطبيب: إذا ذكرت وجعي وَمُدَاوَاتَكَ
لِي لَا أَقْدِرُ عَلَى مُكَافَأَتِكَ، وَلَكِنْ إِذَا تَذَكَّرْتُ
وَضْعَكَ قَدَمَيْكَ عَلَى ظَهْرِي اشْتَدَّ غضبى منك. توفى ليلة
الثلاثاء لسبع بقين من المحرم منها، وَقَدْ تَرَكَ مِنَ الْأَمْوَالِ
شَيْئًا كَثِيرًا جِدًّا، مِنْ ذَلِكَ أَلْفُ أَلْفِ دِينَارٍ
وَعَشَرَةُ آلَافِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَصُنْدُوقَانِ مِنْ جَوْهَرٍ،
وَخَمْسَةَ عَشَرَ صندوقا من البلور، وخمسة وأربعين صندوقا من آنية
الذهب، ومائة وثلاثون كوكبا مِنْ ذَهَبٍ، مِنْهَا خَمْسُونَ وَزْنُ
كُلِّ وَاحِدٍ ألف دينار، وستمائة مركب من فضة وأربعة آلاف ثوب من
ديباج، وعشرة آلاف ديبقي وَعِتَّابِيٍّ، وَثَلَاثُمِائَةِ عِدْلٍ
مَعْكُومَةٍ مِنَ الْفُرُشِ، وَثَلَاثَةُ آلاف فرس وَأَلْفُ جَمَلٍ
وَثَلَاثُمِائَةِ غُلَامٍ وَأَرْبَعُونَ خَادِمًا وَذَلِكَ غَيْرُ مَا
أَوْدَعَ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ الْبَزَّارِ. وكان صاحبه.
ثم دخلت سنة خمس وستين وثلاثمائة
فِيهَا قَسَّمَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهِ مَمَالِكَهُ بين
أولاده عند ما كَبِرَتْ سِنُّهُ، فَجَعَلَ لِوَلَدِهِ عَضُدِ
الدَّوْلَةِ بِلَادَ فَارِسَ وَكَرْمَانَ وَأَرَّجَانَ، وَلِوَلَدِهِ
مُؤَيِّدِ الدَّوْلَةِ الرَّيَّ وَأَصْبَهَانَ، وَلِفَخْرِ الدَّوْلَةِ
هَمْدَانَ وَالدِّينَوَرَ،
(11/282)
وَجَعَلَ وَلَدَهُ أَبَا الْعَبَّاسِ فِي
كَنَفِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ وَأَوْصَاهُ بِهِ. وَفِيهَا جَلَسَ قَاضِي
الْقُضَاةِ ببغداد أبو محمد ابن معروف في دار عز الدولة لفصل الحكومات
عن أمره له بذلك، فحكم بين يديه بين الناس وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ
أَمِيرُ الْمِصْرِيِّينَ مِنْ جِهَةِ العزيز الفاطمي بعد ما حاصر
أَهْلُ مَكَّةَ وَلَقُوا شِدَّةً عَظِيمَةً، وَغَلَتِ الْأَسْعَارُ بها
جدا. وفيها ذكر ابن الأثير أن يوسف بلتكين نائب المعز الفاطمي على بلاد
إفريقية ذهب إلى سبتة فأشرف عليها من جبل فطل عليها فجعل يتأمل من أين
يحاصرها، فحاصرها نِصْفَ يَوْمٍ فَخَافَهُ أَهْلُهَا خَوْفًا شَدِيدًا،
ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهَا إِلَى مَدِينَةٍ هُنَالِكَ يُقَالُ لَهَا
بَصْرَةُ فِي الْمَغْرِبِ، فَأَمَرَ بِهَدْمِهَا وَنَهْبِهَا، ثُمَّ
سَارَ إِلَى مَدِينَةِ بَرْغَوَاطَةَ وَبِهَا رَجُلٌ يُقَالُ له عيسى
بن أُمِّ الْأَنْصَارِ، وَهُوَ مَلِكُهَا، وَقَدِ اشْتَدَّتِ
الْمِحْنَةُ بِهِ لِسِحْرِهِ وَشَعْبَذَتِهِ وَادَّعَى أَنَّهُ نَبِيٌّ
فَأَطَاعُوهُ، ووضع لهم شريعة يقتدون بها، فقاتلهم بلتكين فهزمهم وقتل
هذا الفاجر ونهب أموالهم وسبى ذراريهم فلم يرسبى أَحْسَنُ أَشْكَالًا
مِنْهُمْ فِيمَا ذَكَرَهُ أَهْلُ تِلْكَ البلاد في ذلك الزمان.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَلْمٍ
أَبُو بَكْرٍ الحنبلي، لَهُ مُسْنَدٌ كَبِيرٌ، رَوَى عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأَبِي مُحَمَّدٍ الْكَجِّيِّ
وخلق، وروى عنه الدار قطنى وغيره، وكان ثقة وقد قَارَبَ التِّسْعِينَ.
ثَابِتُ بْنُ سِنَانِ بْنِ ثَابِتِ بن قرة الصابي
الْمُؤَرِّخُ فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي الْكَامِلِ.
الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ
أَبُو عَلِيٍّ الْمَاسَرْجَسِيُّ الْحَافِظُ، رَحَلَ وَسَمِعَ
الْكَثِيرَ وَصَنَّفَ مُسْنَدًا فِي أَلْفٍ وَثَلَاثِمِائَةِ جُزْءٍ،
بِطُرُقِهِ وَعِلَلِهِ، وَلَهُ المغازي والقبائل، وخرج على الصحيح
وغيره، قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِي بَيْتِهِ وَسَلَفِهِ تِسْعَةَ
عشر محدثا، توفى في رجب منها.
أبو أحمد بن عدي الحافظ
أبو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي أَحْمَدَ الجرجاني- أبو
أحمد بن عدي- الحافظ الْكَبِيرُ الْمُفِيدُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ
الْجَوَّالُ النَّقَّالُ الرَّحَّالُ، لَهُ كِتَابُ الْكَامِلِ فِي
الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، لَمْ يسبق إلى مثله ولم يلحق في شكله.
قال حمزة عن الدار قطنى: فيه كفاية لا يزاد عليه. ولد أبو أحمد بن
عَدِيٍّ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ وَهِيَ السَّنَةُ
الَّتِي تُوَفِّيَ فِيهَا أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ، وَتُوُفِّيَ
ابْنُ عَدِيٍّ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هذه السنة.
المعز الفاطمي
باني القاهرة معد بن إسماعيل بن سعيد بن عبد اللَّهِ أَبُو تَمِيمٍ
الْمُدَّعِي أَنَّهُ فَاطِمِيٌّ، صَاحِبُ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ،
وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ مَلَكَهَا مِنَ الفاطميين، وكان أولا ملكا
بِبِلَادِ إِفْرِيقِيَّةَ وَمَا وَالَاهَا مِنْ بِلَادِ الْمَغْرِبِ،
فَلَمَّا كَانَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ،
بَعَثَ بَيْنَ يَدَيْهِ جَوْهَرًا الْقَائِدَ فَأَخَذَ لَهُ بلاد مصر
من
(11/283)
كَافُورٍ الْإِخْشِيدِيِّ بَعْدَ حُرُوبٍ
تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا، وَاسْتَقَرَّتْ أيدي الفاطميين عليها، فبنى بها
القاهرة وبنى منزل الملك وهما القصران، ثم أقام جوهر الخطبة للمعز
الفاطمي في سنة ثنتين وستين وثلاثمائة ثم قدم المعز بعد ذلك ومعه جحافل
من الجيوش، وأمراء من المغاربة والأكابر، وحين نزل الاسكندرية تلقاه
وجوه الناس فخطبهم بها خطبة بليغة ادعى فيها أنه ينصف المظلوم من
الظالم، وافتخر فيها بنسبه وأن الله قد رحم الأمة بهم، وهو مع ذلك
متلبس بالرفض ظاهرا وباطنا كما قاله القاضي الباقلاني إن مذهبهم الكفر
المحض، واعتقادهم الرفض، وكذلك أهل دولته ومن أطاعه ونصره ووالاه،
قَبَّحَهُمُ اللَّهُ وَإِيَّاهُ. وَقَدْ أُحْضِرَ إِلَى بَيْنِ يديه
الزاهد العابد الورع الناسك التقى أبو بكر النابلسي، فقال له المعز
بلغني عنك أَنَّكَ قُلْتَ لَوْ أَنَّ مَعِي عَشَرَةُ أَسْهُمٍ لرميت
الروم بتسعة ورميت المصريين بسهم، فقال ما قلت هذا، فظن أنه رجع عن
قوله فقال: كيف قلت؟ قال: قلت ينبغي أن نرميكم بتسعة ثم نرميهم
بِالْعَاشِرِ. قَالَ: وَلِمَ؟ قَالَ: لِأَنَّكُمْ غَيَّرْتُمْ دِينَ
الأمة وقتلتم الصالحين وأطفأ ثم نور الإلهية، وادعيتم ما ليس لكم.
فَأَمَرَ بَإِشْهَارِهِ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ ثُمَّ ضُرِبَ في اليوم
الثاني بالسياط ضَرْبًا شَدِيدًا مُبَرِّحًا ثُمَّ أَمَرَ بِسَلْخِهِ
فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ، فَجِيءَ بِيَهُودِيٍّ فَجَعَلَ يَسْلُخُهُ
وَهُوَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ قَالَ الْيَهُودِيُّ: فَأَخَذَتْنِي
رِقَّةٌ عَلَيْهِ، فَلَمَّا بَلَغْتُ تِلْقَاءَ قَلْبِهِ طَعَنْتُهُ
بِالسِّكِّينِ فَمَاتَ رحمه الله. فكان يقال لَهُ الشَّهِيدُ،
وَإِلَيْهِ يُنْسَبُ بَنُو الشَّهِيدِ مِنْ أهل نابلس إلى اليوم، ولم
تزل فيهم بقايا خير، وقد كان المعز قبحه الله فيه شهامة وقوة حزم وشدة
عزم، وله سياسة، وكان يظهر أنه يعدل وينصر الحق ولكنه كان مع ذلك منجما
يعتمد على حَرَكَاتِ النُّجُومِ، قَالَ لَهُ مُنَجِّمُهُ: إِنَّ
عَلَيْكَ قطعا- أي خوفا- فِي هَذِهِ السَّنَةِ فَتَوَارَ عَنْ وَجْهِ
الْأَرْضِ حَتَّى تَنْقَضِيَ هَذِهِ الْمُدَّةُ. فَعَمِلَ لَهُ
سِرْدَابًا وأحضر الأمراء وأوصاهم بولده نزار ولقبه العزيز وَفَوَّضَ
إِلَيْهِ الْأَمْرَ حَتَّى يَعُودَ إِلَيْهِمْ، فَبَايَعُوهُ على ذلك،
ودخل المعز ذَلِكَ السِّرْدَابَ فَتَوَارَى فِيهِ سَنَةً فَكَانَتِ
الْمَغَارِبَةُ إذا رأوا سحابا ترجل الفارس منهم له عَنْ فَرَسِهِ
وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ بِالسَّلَامِ ظَانِّينَ أَنَّ الْمُعِزَّ فِي
ذَلِكَ الْغَمَامِ، (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ
كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) 43: 54 ثم برز إليهم بعد سَنَةٍ وَجَلَسَ
فِي مَقَامِ الْمُلْكِ وَحَكَمَ عَلَى عادته أياما، ولم تطل مدته بل
عاجله القضاء المحتوم، ونال رزقه الْمَقْسُومُ، فَكَانَتْ وَفَاتُهُ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَتْ أيامه في الملك قبل أن يملك مصر وبعد
ما ملكها ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَخَمْسَةَ أَشْهُرٍ وَعَشَرَةَ
أَيَّامٍ، منها بمصر سنتان وتسعة أشهر والباقي ببلاد المغرب، وجملة
عمره كلها خمسة وَأَرْبَعُونَ سَنَةً وَسِتَّةُ أَشْهُرٍ، لِأَنَّهُ
وُلِدَ بِإِفْرِيقِيَّةَ في عاشر رَمَضَانَ سَنَةَ تِسْعَ عَشْرَةَ
وَثَلَاثِمِائَةٍ وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِمِصْرَ فِي الْيَوْمِ
السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ
وَثَلَاثِمِائَةٍ وَهِيَ هَذِهِ السَّنَةُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فيها توفى ركن الدولة بن على بن بويه وقد جاوز التسعين سَنَةً،
وَكَانَتْ أَيَّامُ وِلَايَتِهِ نَيِّفًا وَأَرْبَعِينَ
(11/284)
سنة، وقبل موته بسنة قَسَّمَ مُلْكَهُ
بَيْنَ أَوْلَادِهِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَقَدْ عمل ابن العميد مرة ضيافة
في داره وكانت حافلة حضرها ركن الدولة وبنوه وأعيان الدولة، فعهد ركن
الدولة فِي هَذَا الْيَوْمِ إِلَى ابْنِهِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ وَخَلَعَ
عَضُدُ الدَّوْلَةِ عَلَى إِخْوَتِهِ وَسَائِرِ الْأُمَرَاءِ الأقبية
والأكسية على عادة الديلم، وحفوه بِالرَّيْحَانِ عَلَى عَادَتِهِمْ
أَيْضًا، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا. وقد كان ركن الدولة قد أسن وكبر
وتوفى بعد هذه الوليمة بقليل في هذه السنة، وكان حَلِيمًا وَقُورًا
كَثِيرَ الصَّدَقَاتِ مُحِبًّا لِلْعُلَمَاءِ فِيهِ بر وكرم وإيثار،
وحسن عشرة ورياسة، وحنو على الرعية وعلى أقاربه. وَحِينَ تَمَكَّنَ
ابْنُهُ عَضُدُ الدَّوْلَةِ قَصَدَ الْعِرَاقَ ليأخذها من ابن عمه
بَخْتِيَارَ لِسُوءِ سِيرَتِهِ وَرَدَاءَةِ سَرِيرَتِهِ، فَالْتَقَوْا
فِي هذه السنة بالأهواز فَهَزَمَهُ عَضُدُ الدَّوْلَةِ وَأَخَذَ
أَثْقَالَهُ وَأَمْوَالَهُ، وَبَعَثَ إلى البصرة فأخذها وأصلح بين
أهلها حييى ربيعة ومضر، وكان بَيْنَهُمَا خُلْفٌ مُتَقَادِمٌ مِنْ
نَحْوِ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَكَانَتْ مُضَرُ تَمِيلُ إِلَيْهِ
وَرَبِيعَةُ عَلَيْهِ، ثم اتفق الحيان عليه وقويت شوكته، وأذل بختيار
وَقَبَضَ عَلَى وَزِيرِهِ ابْنِ بَقِيَّةَ لِأَنَّهُ اسْتَحْوَذَ عَلَى
الْأُمُورِ دُونَهُ، وَجَبَى الْأَمْوَالَ إِلَى خَزَائِنِهِ، فاستظهر
عضد الدولة بما وجده في الخزائن والحواصل لِابْنِ بَقِيَّةَ وَلَمْ
يُبْقِ لَهُ مِنْهَا بَقِيَّةً. وكذلك أمر ركن الدَّوْلَةِ بِالْقَبْضِ
عَلَى وَزِيرِ أَبِيهِ أَبِي الْفَتْحِ بْنِ الْعَمِيدِ لِمَوْجِدَةٍ
تَقَدَّمَتْ مِنْهُ إِلَيْهِ، وَقَدْ سلف ذكرها. ولم يبق لابن
الْعَمِيدِ أَيْضًا فِي الْأَرْضِ بَقِيَّةٌ، وَقَدْ كَانَتِ الأكابر
تتقيه.
وَقَدْ كَانَ ابْنُ الْعَمِيدِ مِنَ الْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ بأوفر
مكان، فخانته المقادير ونزل به غضب السلطان، ونحن نعوذ باللَّه مِنْ
غَضَبِ الرَّحْمَنِ.
وَفِي مُنْتَصَفِ شَوَّالٍ منها تُوُفِّيَ الْأَمِيرُ مَنْصُورُ بْنُ
نُوحٍ السَّامَانِيُّ صَاحِبُ بلاد خراسان وبخارى وغيرها، وكانت ولايته
خمس عشر سَنَةً، وَقَامَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدَهُ وَلَدُهُ أَبُو
الْقَاسِمِ نُوحٌ، وَكَانَ عُمُرُهُ إِذْ ذَاكَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ
سَنَةً، وَلُقِّبَ بِالْمَنْصُورِ.
وفيها توفى الحاكم وهو الْمُسْتَنْصِرُ باللَّه بْنُ النَّاصِرِ
لِدِينِ اللَّهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأُمَوِيِّ، وَقَدْ كَانَ هَذَا
مِنْ خِيَارِ الملوك وعلمائهم، وكان عَالِمًا بِالْفِقْهِ وَالْخِلَافِ
وَالتَّوَارِيخِ مُحِبًّا لِلْعُلَمَاءِ مُحْسِنًا إليهم. توفى وَلَهُ
مِنَ الْعُمُرِ ثَلَاثٌ وَسِتُّونَ سَنَةً وَسَبْعَةُ أشهر، ومدة
خِلَافَتِهِ مِنْهَا خَمْسَةَ عَشَرَ سَنَةً وَخَمْسَةُ أَشْهُرٍ،
وَقَامَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ هِشَامٌ وَلَهُ عَشْرُ
سِنِينَ وَلُقِّبَ بِالْمُؤَيَّدِ باللَّه، وَقَدِ اخْتُلِفَ عَلَيْهِ
فِي أَيَّامِهِ وَاضْطَرَبَتِ الرَّعَايَا عَلَيْهِ وَحُبِسَ مُدَّةً
ثُمَّ أُخْرِجَ وَأُعِيدَ إِلَى الْخِلَافَةِ، وَقَامَ بِأَعْبَاءِ
أَمْرِهِ حَاجِبُهُ الْمَنْصُورُ أَبُو عَامِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي
عَامِرٍ الْمُعَافِرِيُّ، وَابْنَاهُ الْمُظَفَّرُ وَالنَّاصِرُ،
فساسوا الرعايا جيدا وعدلا فيهم وغزوا الأعداء واستمر لَهُمُ الْحَالُ
كَذَلِكَ نَحْوًا مِنْ سِتٍّ وَعِشْرِينَ سنة. وقد ساق ابن الأثير هنا
قطعة من أخبارهم وأطال.
وَفِيهَا رَجَعَ مُلْكُ حَلَبَ إِلَى أَبِي الْمَعَالِي شَرِيفِ بْنِ
سَيْفِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا مَاتَ
أَبُوهُ وَقَامَ هُوَ مِنْ بعده تغلب قرعويه مولاهم واستولى عليهم سار
إليه فأخرجه منها خائفا يترقب،
(11/285)
ثُمَّ جَاءَ فَنَزَلَ حُمَاةَ وَكَانَتِ
الرُّومُ قَدْ خَرَّبَتْ حِمْصَ فَسَعَى فِي عِمَارَتِهَا
وَتَرْمِيمِهَا وَسَكَنَهَا، ثم لما اختلفت الأمور على قرعويه كتب أهل
حلب إلى أبى المعالي هذا وهو بحمص أن يأتيهم، فسار إليهم فحاصر حلب
أربعة أشهر فافتتحها وامتنعت منه القلعة وقد تحصن بها نكجور، ثُمَّ
اصْطَلَحَ مَعَ أَبِي الْمَعَالِي عَلَى أَنْ يؤمنه على نفسه ويستنيبه
بحمص، ثم انتقل إِلَى نِيَابَةِ دِمَشْقَ وَإِلَيْهِ تُنْسَبُ هَذِهِ
الْمَزْرَعَةُ ظاهر دمشق التي تعرف بالقصر النكجورى.
ذكر ابتداء ملك بنى سُبُكْتِكِينَ
وَالِدِ مَحْمُودٍ صَاحِبِ غَزْنَةَ. وَقَدْ كَانَ سبكتكين مولى الأمير
أَبِي إِسْحَاقَ بْنِ أَلِبْتِكِينَ صَاحِبِ جَيْشِ غَزْنَةَ
وَأَعْمَالِهَا لِلسَّامَانِيَّةِ، وَلَيْسَ هَذَا بِحَاجِبِ مُعِزِّ
الدَّوْلَةِ، ذَاكَ تُوُفِّيَ قَبْلَ هَذِهِ السَّنَةِ كَمَا
تَقَدَّمَ، وَأَمَّا هَذَا فَإِنَّهُ لَمَّا مَاتَ مَوْلَاهُ لَمْ
يَتْرُكْ أَحَدًا يَصْلُحُ لِلْمُلْكِ مِنْ بَعْدِهِ لَا مِنْ وَلَدِهِ
وَلَا مِنْ قَوْمِهِ، فَاصْطَلَحَ الْجَيْشُ على مبايعة سبكتكين هذا
لصلاحه فيهم وخيره وَحُسْنِ سِيرَتِهِ، وَكَمَالِ عَقْلِهِ
وَشَجَاعَتِهِ وَدِيَانَتِهِ، فَاسْتَقَرَّ الملك في يده وَاسْتَمَرَّ
مِنْ بَعْدِهِ فِي وَلَدِهِ السَّعِيدِ مَحْمُودِ بن سبكتكين، وقد غزا
هذا بلاد الهند وفتح شيئا كثيرا من حصونهم، وغنم أموالا كثيرة،
وَكَسَرَ مِنْ أَصْنَامِهِمْ وَنُذُورِهِمْ أَمْرًا هَائِلًا،
وَبَاشَرَ من معه من الجيوش حربا عظيمة هائلة، وقد قصده جيبال ملك
الهند الأعظم بِنَفْسِهِ وَجُنُودِهِ الَّتِي تَعُمُّ السُّهُولَ
وَالْجِبَالَ، فَكَسَرَهُ مَرَّتَيْنِ وَرَدَّهُمْ إِلَى بِلَادِهِمْ
فِي أَسْوَإِ حَالٍ وَأَرْدَإِ بَالٍ. وَذَكَرَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي
كَامِلِهِ أَنَّ سُبُكْتِكِينَ لَمَّا الْتَقَى مَعَ جِيبَالَ مَلِكِ
الْهِنْدِ فِي بَعْضِ الْغَزَوَاتِ كَانَ بِالْقُرْبِ مِنْهُمْ عين في
عقبة باغورك وكان من عادتهم أنها إذا وضعت فيها نجاسة أو قذرا كفهرت
السَّمَاءُ وَأَرْعَدَتْ وَأَبْرَقَتْ وَأَمْطَرَتْ، وَلَا تَزَالُ
كَذَلِكَ حَتَّى تُطَهَّرَ تِلْكَ الْعَيْنُ مِنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ
الّذي ألقى فيها، فأمر سبكتكين بإلقاء نجاسة فيها- وكانت قريبة من نحو
الْعَدُوِّ- فَلَمْ يَزَالُوا فِي رُعُودٍ وَبَرْوَقٍ وَأَمْطَارٍ
وصواعق حتى ألجأهم ذلك إِلَى الْهَرَبِ وَالرُّجُوعِ إِلَى بِلَادِهِمْ
خَائِبِينَ هَارِبِينَ، وَأَرْسَلَ مَلِكُ الْهِنْدِ يَطْلُبُ مِنْ
سُبُكْتِكِينَ الصُّلْحَ فَأَجَابَهُ بَعْدَ امْتِنَاعٍ مِنْ وَلَدِهِ
مَحْمُودٍ، عَلَى مَالٍ جَزِيلٍ يَحْمِلُهُ إِلَيْهِ، وَبِلَادٍ
كَثِيرَةٍ يُسَلِّمُهَا إِلَيْهِ، وَخَمْسِينَ فِيلًا وَرَهَائِنَ مِنْ
رُءُوسِ قَوْمِهِ يتركها عنده حتى يقوم بما التزمه من ذلك.
وفيها توفى
أبو يعقوب بن سيف
ابن الحسين الْجَنَّابِيُّ، صَاحِبُ هَجَرَ وَمُقَدَّمُ
الْقَرَامِطَةِ، وَقَامَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ سِتَّةٌ مِنْ
قَوْمِهِ وَكَانُوا يُسَمَّوْنَ بِالسَّادَةِ، وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى
تَدْبِيرِ الْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فَمَشَى
حَالُهُمْ. وَفِيهَا كَانَتْ وفاة.
الحسين بن أحمد
ابن سَعِيدٍ الْجَنَّابِيُّ أَبُو مُحَمَّدٍ الْقِرْمِطِيُّ. قَالَ
ابْنُ عساكر: واسم أبى سعيد الحسين بن بهرام، ويقال ابن أحمد، يقال
أصلهم من الفرس، وقد تغلب هذا عَلَى الشَّامِ فِي سَنَةِ سَبْعٍ
وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ثم عاد
(11/286)
إِلَى الْأَحْسَاءِ بَعْدَ سَنَةٍ ثُمَّ
عَادَ إِلَى دِمَشْقَ فِي سَنَةِ سِتِّينَ، وَكَسَرَ جَيْشَ جَعْفَرِ
بْنِ فَلَاحٍ، أَوَّلِ مَنْ نَابَ بِالشَّامِ عَنِ المعز الفاطمي قتله،
ثُمَّ تَوَجَّهَ إِلَى مِصْرَ فَحَاصَرَهَا فِي مُسْتَهَلِّ رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ مِنْ سَنَةِ إِحْدَى وَسِتِّينَ، وَاسْتَمَرَّ مُحَاصِرُهَا
شُهُورًا، وَقَدْ كَانَ اسْتَخْلَفَ عَلَى دِمَشْقَ ظالم بن موهوب
ثُمَّ عَادَ إِلَى الْأَحْسَاءِ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الرَّمْلَةِ
فَتُوفِّيَ بِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ جاوز التِّسْعِينَ،
وَهُوَ يُظْهِرُ طَاعَةَ عَبْدِ الْكَرِيمِ الطَّائِعِ للَّه العباسي،
وقد أورد له ابن عساكر أشعارا رائقة، مِنْ ذَلِكَ مَا كَتَبَ بِهِ
إِلَى جَعْفَرِ بن فلاح قبل وقوع الحرب بينهما وهي من أفحل الشعر:
الْكُتْبُ مُعْذِرَةٌ وَالرُّسْلُ مُخْبِرَةٌ ... وَالْحُقُّ مُتَّبَعٌ
وَالْخَيْرُ محمود
وَالْحَرْبُ سَاكِنَةٌ وَالْخَيْلُ صَافِنَةٌ ... وَالسِّلْمُ
مُبْتَذَلٌ وَالظِّلُّ مَمْدُودُ
فَإِنْ أَنَبْتُمْ فَمَقْبُولٌ إِنَابَتُكُمْ ... وَإِنْ أَبَيْتُمْ
فهذا الكور مشدود
على ظهور المنايا أو يردن بنا ... دمشق والباب مسدود وَمَرْدُودُ
إِنِّي امْرُؤٌ لَيْسَ مِنْ شَأْنِي وَلَا أَرَبِي ... طَبْلٌ يَرِنُّ
وَلَا نَايٌ وَلَا عُودُ
ولا اعتكاف على خمر ومخمرة ... وذات دل لها غنج وَتَفْنِيدُ
وَلَا أَبِيتُ بَطِينَ الْبَطْنِ مِنْ شِبَعٍ ... وَلِي رَفِيقٌ
خَمِيصُ الْبَطْنِ مَجْهُودُ
وَلَا تَسَامَتْ بِيَ الدُّنْيَا إِلَى طَمَعٍ ... يَوْمًا وَلَا
غَرَّنِي فِيهَا الْمَوَاعِيدُ
وَمِنْ شَعْرِهِ أَيْضًا:
يَا سَاكِنَ الْبَلَدِ الْمُنِيفِ تَعُزُّزًا ... بِقِلَاعِهِ
وَحُصُونِهِ وَكُهُوفِهِ
لَا عِزَّ إِلَّا لِلْعَزِيزِ بِنَفْسِهِ ... وَبِخَيْلِهِ
وَبِرَجْلِهِ وَسُيُوفِهِ
وَبِقُبَّةٍ بَيْضَاءَ قَدْ ضُرِبَتْ عَلَى ... شَرَفِ الْخِيَامِ
بجاره وضيوفه
قوم إذا اشتد الوغا أردى العدا ... وشفى النفوس بضربه وزحوفه
لم يجعل الشرف التليد لنفسه ... حتى أفاد تَلِيدُهُ بِطَرِيفِهِ
وَفِيهَا تَمَلَّكَ قَابُوسُ بْنُ وُشْمَكِيرَ بِلَادَ جُرْجَانَ
وَطَبَرِسْتَانَ وَتِلْكَ النَّوَاحِي. وَفِيهَا دَخَلَ الخليفة الطائع
بشاه بار بِنْتِ عِزِّ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ، وَكَانَ عُرْسًا
حافلا. وفيها حَجَّتْ جَمِيلَةُ بِنْتُ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ بْنِ
حَمْدَانَ في تجمل عظيم، حتى كَانَ يُضْرَبُ الْمَثَلُ بِحَجِّهَا،
وَذَلِكَ أَنَّهَا عَمِلَتْ أربعمائة محمل وكان لا يُدْرَى فِي
أَيِّهَا هِيَ، وَلَمَّا وَصَلَتْ إِلَى الكعبة نثرت عشرة آلاف دينار
على الفقراء والمجاورين، وَكَسَتِ الْمُجَاوِرِينَ بِالْحَرَمَيْنِ
كُلَّهُمْ، وَأَنْفَقَتْ أَمْوَالًا جَزِيلَةً فِي ذَهَابِهَا
وَإِيَابِهَا. وَحَجَّ بِالنَّاسِ مِنَ الْعِرَاقِ الشريف أحمد بن
الحسين بن محمد الْعُلْوِيُّ، وَكَذَلِكَ حَجَّ بِالنَّاسِ إِلَى
سَنَةِ ثَمَانِينَ وثلاثمائة، وكانت الخطبة بالحرمين في هذه السنة
للفاطميين أصحاب مصر دون العباسيين.
(11/287)
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ
الْأَعْيَانِ
إِسْمَاعِيلُ بْنُ نجيد
ابن أحمد بن يوسف أَبُو عَمْرٍو السُّلَمِيُّ، صَحِبَ الْجُنَيْدَ
وَغَيْرَهُ، وَرَوَى الحديث وكان ثقة، ومن جيد كلامه قوله: من لم تهدك
رُؤْيَتُهُ فَلَيْسَ بِمُهَذَّبٍ. وَقَدِ احْتَاجَ شَيْخُهُ أَبُو
عُثْمَانَ مَرَّةً إِلَى شَيْءٍ فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ فِيهِ فَجَاءَهُ
ابْنُ نُجَيْدٍ بِكِيسٍ فِيهِ أَلْفَا دِرْهَمٍ فَقَبَضَهُ مِنْهُ
وَجَعَلَ يَشْكُرُهُ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ له ابن نجيد بين
أصحابه: يَا سَيِّدِي إِنَّ الْمَالَ الَّذِي دَفَعْتُهُ إِلَيْكَ كان
من مال أمى أخذته وهي كارهة فأنا أحب أن ترده إلى حتى أرده إليها.
فأعطاه إياه، فلما كان الليل جاء به وقال أحب أن تصرفها في أمرك ولا
تذكرها لأحد. فكان أبو عثمان يقول: أنا أجتني مِنْ هِمَّةِ أَبِي
عَمْرِو بْنِ نُجَيْدٍ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى.
الْحَسَنُ بْنُ بُوَيْهِ
أَبُو عَلِيٍّ ركن الدولة عرض له قولنج فمات في لَيْلَةَ السَّبْتِ
الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ مِنْهَا، وكانت مدة
ولايته أَرْبَعًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً وَشَهْرًا وَتِسْعَةَ أَيَّامٍ،
وَمُدَّةُ عُمُرِهِ ثَمَانٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً، وَكَانَ حَلِيمًا
كَرِيمًا
محمد بن إسحاق
ابن إبراهيم بن أفلح بن رافع بْنِ رَافِعِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ
أَفْلَحَ بْنِ عبد الرحمن بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ أَبُو الْحَسَنِ
الْأَنْصَارِيُّ الزرقيّ، كان نقيب الأنصار، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ
مِنْ أَبِي الْقَاسِمِ الْبَغَوِيِّ وَغَيْرِهِ، وَكَانَ ثِقَةً
يَعْرِفُ أَيَّامَ الْأَنْصَارِ وَمَنَاقِبَهُمْ، وكانت وفاته في جمادى
الآخرة منها.
محمد بن الحسن
ابن أَحْمَدَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ أَبُو الْحَسَنِ السَّرَّاجُ، سَمِعَ
يُوسُفَ بْنَ يَعْقُوبَ الْقَاضِي وَغَيْرَهُ، وَكَانَ شَدِيدَ
الِاجْتِهَادِ فِي الْعِبَادَةِ. صَلَّى حَتَّى أُقْعِدَ، وَبَكَى حتى
عمى، توفى يوم عاشوراء منها.
القاضي منذر البلوطي
رحمه الله قاضى قضاة الأندلس، كان إماما عالما فصيحا خطيبا شاعرا
أديبا، كثير الفضل، جامعا لصنوف من الخير والتقوى والزهد، وَلَهُ
مُصَنَّفَاتٌ وَاخْتِيَارَاتٌ، مِنْهَا أَنَّ الْجَنَّةَ الَّتِي سكنها
آدم وأهبط منها كانت في الأرض وليست بالجنة التي أعدها الله لعباده في
الآخرة، وَلَهُ فِي ذَلِكَ مُصَنَّفٌ مُفْرَدٌ، لَهُ وَقْعٌ في النفوس
وعليه حلاوة وطلاوة، دَخَلَ يَوْمًا عَلَى النَّاصِرِ لِدِينِ اللَّهِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأُمَوِيِّ وَقَدْ فَرَغَ مِنْ بِنَاءِ
الْمَدِينَةِ الزَّهْرَاءِ وَقُصُورِهَا، وَقَدْ بُنِيَ لَهُ فِيهَا
قَصْرٌ عظيم منيف، وقد زخرف بأنواع الدهانات وكسى الستور، وجلس عنده
رءوس دولته وأمراؤه، فجاءه الْقَاضِي فَجَلَسَ إِلَى جَانِبِهِ
وَجَعَلَ الْحَاضِرُونَ يُثْنُونَ على ذلك البناء ويمدحونه،
وَالْقَاضِي سَاكِتٌ لَا يَتَكَلَّمُ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ الْمَلِكُ
وقال.
ما تقول أنت يَا أَبَا الْحَكَمِ؟ فَبَكَى الْقَاضِي وَانْحَدَرَتْ
دُمُوعُهُ عَلَى لِحْيَتِهِ وَقَالَ: مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ الشيطان
أخزاه الله يبلغ منك هذا المبلغ المفضح المهتك، المهلك لصاحبه في
الدنيا والآخرة، ولا أنك تمكنه
(11/288)
من قيادك مع ما آتاك الله وفضلك به على
كثير من الناس، حتى أنزلك منازل الكافرين والفاسقين.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً
واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ
سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ،
وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ
وَزُخْرُفاً) 43: 33- 35 الآية. قَالَ: فَوَجَمَ الْمَلِكُ عِنْدَ
ذَلِكَ وَبَكَى وَقَالَ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا، وَأَكْثَرَ فِي
الْمُسْلِمِينَ مِثْلَكَ. وقد قحط في بعض السنين فأمره الملك أن يستسقى
للناس، فلما جاءته الرسالة مع البريد قال للرسول: كيف تركت الملك؟ فقال
تركته أخشع ما يكون وأكثره دعاء وتضرعا. فقال القاضي: سقيتم وَاللَّهِ،
إِذَا خَشَعَ جَبَّارُ الْأَرْضِ رَحِمَ جَبَّارُ السماء. ثم قال
لغلامه: ناد في الناس الصلاة. فجاء الناس إلى محل الاستسقاء وجاء
القاضي منذر فصعد المنبر والناس ينظرون إليه ويسمعون ما يَقُولُ،
فَلَمَّا أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ كَانَ أَوَّلَ مَا خاطبهم به قَالَ:
(سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ
أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ
بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) 6: 54 ثم أعادها مرارا
فَأَخَذَ النَّاسُ فِي الْبُكَاءِ وَالنَّحِيبِ وَالتَّوْبَةِ
وَالْإِنَابَةِ، فَلَمْ يَزَالُوا كَذَلِكَ حَتَّى سُقُوا وَرَجَعُوا
يَخُوضُونَ الماء.
أبو الحسن على بن أحمد
ابن المرزبان الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، تَفَقَّهَ بِأَبِي الْحُسَيْنِ
بْنِ الْقَطَّانِ وَأَخَذَ عَنْهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ
الْإِسْفَرَايِينِيُّ. قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: كَانَ وَرِعًا زَاهِدًا
لَيْسَ لِأَحَدٍ عنده مظلمة، وله في المذهب وجه، وَكَانَ لَهُ دَرْسٌ
بِبَغْدَادَ. تُوُفِّيَ فِي رَجَبٍ منها.
ثم دخلت سنة سبع وستين وثلاثمائة
فيها دَخَلَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ إِلَى بَغْدَادَ وَخَرَجَ مِنْهَا عز
الدولة بختيار واتبعه عضد الدولة وأخذ معه الخليفة فاستعفاه
فَأَعْفَاهُ، وَسَارَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ وَرَاءَهُ فَأَخَذَهُ
أَسِيرًا، ثُمَّ قُتِلَ سَرِيعًا وَتَصَرَّمَتْ دَوْلَتُهُ
وَاسْتَقَرَّ أَمْرُ عَضُدِ الدَّوْلَةِ بِبَغْدَادَ، وَخَلَعَ
عَلَيْهِ الْخَلِيفَةُ الْخِلَعَ السنية والأسورة والطوق، وأعطاه
لواءين أحدهما ذهب والآخر فضة، ولم يكن هذا لغيره إِلَّا لِأَوْلِيَاءِ
الْعَهْدِ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ بِتُحَفٍ سَنِيَّةٍ،
وَبَعَثَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ إِلَى الْخَلِيفَةِ أَمْوَالًا جَزِيلَةً
مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَاسْتَقَرَّتْ يَدُهُ عَلَى بَغْدَادَ
وَمَا وَالَاهَا مِنَ الْبِلَادِ، وَزُلْزِلَتْ بَغْدَادُ مِرَارًا فِي
هَذِهِ السَّنَةِ، وَزَادَتْ دِجْلَةُ زِيَادَةً كثيرة غرق بسببها خلق
كثير، وَقِيلَ لِعَضُدِ الدَّوْلَةِ إِنَّ أَهْلَ بَغْدَادَ قَدْ
قَلُّوا كَثِيرًا بِسَبَبِ الطَّاعُونِ وَمَا وَقَعَ بَيْنَهُمْ مِنَ
الْفِتَنِ بِسَبَبِ الرَّفْضِ وَالسُّنَّةِ وَأَصَابَهُمْ حَرِيقٌ
وَغَرَقٌ، فَقَالَ: إِنَّمَا يُهَيِّجُ الشَّرَّ بَيْنَ النَّاسِ
هَؤُلَاءِ الْقُصَّاصُ وَالْوُعَّاظُ، ثُمَّ رَسَمَ أَنَّ أَحَدًا لَا
يَقُصُّ وَلَا يَعِظُ فِي سَائِرِ بَغْدَادَ وَلَا يَسْأَلُ سَائِلٌ
بَاسِمِ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وإنما يقرأ الْقُرْآنَ فَمَنْ
أَعْطَاهُ أَخَذَ مِنْهُ. فَعُمِلَ بِذَلِكَ فِي الْبَلَدِ، ثُمَّ
بَلَغَهُ أَنَّ أَبَا الْحُسَيْنِ بن سمعون الواعظ- وكان من الصالحين-
لم يترك الوعظ بل استمر عَلَى عَادَتِهِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ مَنْ
جَاءَ بِهِ،
(11/289)
وتحول عضد الدولة من مجلسه وجلس وحده لئلا
يبدر من ابن سمعون إليه بين الدولة كلام يكرهه، وقيل لابن سمعون إذا
دخلت على الملك فتواضع في الخطاب وقبّل التراب. فلما دخل دار الملك
وجده قد جلس وحده لئلا يبدر مِنِ ابْنِ سَمْعُونَ فِي حَقِّهِ كَلَامٌ
بِحَضْرَةِ النَّاسِ يُؤْثَرُ عَنْهُ. وَدَخَلَ الْحَاجِبُ بَيْنَ
يَدَيْهِ يستأذن له عليه ودخل ابن سمعون وراءه، ثم استفتح القراءة
بقوله (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ)
11: 102 الآية. ثم التفت بوجهه نحو دار عز الدولة ثم قرأ (ثُمَّ
جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ
كَيْفَ تَعْمَلُونَ) 10: 14 ثُمَّ أَخَذَ فِي مُخَاطَبَةِ الْمَلِكِ
وَوَعْظِهِ فَبَكَى عَضُدُ الدَّوْلَةِ بُكَاءً كَثِيرًا، وَجَزَاهُ
خَيْرًا. فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ قَالَ لِلْحَاجِبِ: اذْهَبْ
فَخُذْ ثلاثة آلاف درهم وعشرة أثواب وادفعها له فَإِنْ قَبِلَهَا
جِئْنِي بِرَأْسِهِ، قَالَ الْحَاجِبُ: فَجِئْتُهُ فقلت: هذا أرسل به
الملك إليك. فقال: لا حاجة لي به، هَذِهِ ثِيَابِي مِنْ عَهْدِ أَبِي
مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً كُلَّمَا خَرَجْتُ إِلَى النَّاسِ
لَبِسْتُهَا، فَإِذَا رجعت طويتها، ولي دَارٌ آكُلُ مِنْ أُجْرَتِهَا
تَرَكَهَا لِي أَبِي فانا في غنية عما أرسل به الملك. فقلت: فرقها في
فقراء أهلك. فقال: فقراء أهله أحق بها من فقراء أَهْلِي، وَأَفْقَرُ
إِلَيْهَا مِنْهُمْ.
فَرَجَعْتُ إِلَى الْمَلِكِ لِأُشَاوِرَهُ وَأُخْبِرَهُ بِمَا قَالَ،
فَسَكَتَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ للَّه الَّذِي سَلَّمَهُ
مِنَّا وَسَلَّمَنَا مِنْهُ. ثُمَّ إِنَّ عَضُدَ الدَّوْلَةِ أَخَذَ
ابْنَ بَقِيَّةَ الْوَزِيرَ لِعِزِّ الدَّوْلَةِ فَأَمَرَ بِهِ
فَوُضِعَ بَيْنَ قَوَائِمِ الْفِيَلَةِ فَتَخَبَّطَتْهُ بِأَرْجُلِهَا
حَتَّى هَلَكَ، ثُمَّ صُلِبَ عَلَى رَأْسِ الْجِسْرِ فِي شَوَّالٍ
مِنْهَا، فَرَثَاهُ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْأَنْبَارِيِّ
بِأَبْيَاتٍ يَقُولُ فِيهَا:
عُلُوٌّ فِي الْحَيَاةِ وَفِي الْمَمَاتِ ... بِحَقٍّ أَنْتَ إِحْدَى
الْمُعْجِزَاتِ
كَأَنَّ النَّاسَ حَوْلَكَ حِينَ قَامُوا ... وُفُودُ نَدَاكَ أَيَّامَ
الصِّلَاتِ
كَأَنَّكَ وَاقِفٌ فِيهَمْ خَطِيبًا ... وَكُلُّهُمْ وَقُوفٌ
لِلصَّلَاةِ
مَدَدْتَ يَدَيْكَ نَحْوَهُمُ احْتِفَاءً ... كَمَدِّهِمَا إِلَيْهِمْ
بِالْهِبَاتِ
وَهِيَ قَصِيدَةٌ طَوِيلَةٌ أَوْرَدَ كَثِيرًا مِنْهَا ابْنُ
الْأَثِيرِ في كامله.
صفة مقتل عز الدولة بختيار بن معز الدولة وأخذ الْمَوْصِلَ
وَأَعْمَالَهَا
لَمَّا دَخَلَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ بَغْدَادَ وتسلمها خرج منها بختيار
ذَلِيلًا طَرِيدًا فِي فَلٍّ مِنَ النَّاسِ، وَمِنْ عزمه أن يذهب إلى
الشام فيأخذها، وكان عضد الدولة قد حلفه أن لا يتعرض لأبى تغلب لمودة
كانت بينهما ومراسلات، فَحَلَفَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَحِينَ خَرَجَ
مِنْ بَغْدَادَ كَانَ مَعَهُ حَمْدَانُ بْنُ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ ابن
حَمْدَانَ فَحَسَّنَ لِعِزِّ الدَّوْلَةِ أَخْذَ بِلَادِ الْمَوْصِلِ
من أبى تغلب، لأنها أطيب وأكثر مالا من الشام وأقرب إليه، وَكَانَ
عِزُّ الدَّوْلَةِ ضَعِيفَ الْعَقْلِ قَلِيلَ الدِّينِ، فَلَمَّا
بَلَغَ ذَلِكَ أَبَا تَغْلِبَ أَرْسَلَ إِلَى عز الدولة يقول له: لئن
أرسلت إلى ابن أخى حمدان بن ناصر الدولة أغنيتك بنفسي وجيشي حتى آخذ لك
ملك بغداد من عضد الدولة، وأردك إليها. فعند ذلك أمسك حَمْدَانَ
وَأَرْسَلَهُ إِلَى عَمِّهِ أَبِي تَغْلِبَ
(11/290)
فَسَجَنَهُ فِي بَعْضِ الْقِلَاعِ وَبَلَغَ
ذَلِكَ عَضُدَ الدولة وأنهما قد اتفقا عَلَى حَرْبِهِ فَرَكِبَ
إِلَيْهِمَا بِجَيْشِهِ وَأَرَادَ إِخْرَاجَ الخليفة الطائع معه
فاستعفاه فأعفاه فذهب إِلَيْهِمَا فَالْتَقَى مَعَهُمَا فَكَسَرَهُمَا
وَهَزَمَهُمَا، وَأَخَذَ عِزَّ الدولة أسيرا وقتله من فوره، وأخذ
الْمَوْصِلَ وَمُعَامَلَتَهَا، وَكَانَ قَدْ حَمَلَ مَعَهُ مِيرَةً
كثيرة، وشرد أبا تغلب في البلاد وبعث وراءه السرايا في كل وجه،
وَأَقَامَ بِالْمَوْصِلِ إِلَى أَوَاخِرِ سَنَةِ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ،
وَفَتَحَ مَيَّافَارِقِينَ وَآمِدَ وَغَيْرَهُمَا مِنْ بِلَادِ بَكْرٍ
وَرَبِيعَةَ، وَتَسَلَّمَ بِلَادَ مُضَرَ مِنْ أَيْدِي نُوَّابِ أَبِي
تَغْلِبَ، وَأَخَذَ مِنْهُمُ الرَّحْبَةَ وَرَدَّ بَقِيَّتَهَا عَلَى
صَاحِبِ حَلَبَ سَعْدِ الدَّوْلَةِ بْنِ سَيْفِ الدولة، وتسلط على سعد
الدولة، وحين رجع من الموصل استناب عليها أبا ألوفا، وعاد إلى بغداد
فتلقاه الخليفة وَرُءُوسُ النَّاسِ إِلَى ظَاهِرِ الْبَلَدِ، وَكَانَ
يَوْمًا مشهودا.
ومما وقع من الحوادث فيها الْوَقْعَةُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ
الْعَزِيزِ بْنِ الْمُعِزِّ الفاطمي وبين الفتكين غُلَامِ مُعِزِّ
الدَّوْلَةِ صَاحِبِ دِمَشْقَ فَهَزَمَهُ وَأَسَرَهُ وَأَخَذَهُ مَعَهُ
إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ مُكَرَّمًا مُعَظَّمًا كَمَا
تَقَدَّمَ، وَتَسَلَّمُ الْعَزِيزُ دِمَشْقَ وَأَعْمَالَهَا، وَقَدْ
تقدم بسط ذلك في سنة أربع وستين.
وَفِيهَا خُلِعَ عَلَى الْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ أَحْمَدَ
الْمُعْتَزِلِيِّ بِقَضَاءِ قُضَاةِ الرَّيِّ وَمَا تَحْتَ حكم مؤيد
الدولة بن ركن الدولة، وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ حَسَنَةٌ، مِنْهَا
دَلَائِلُ النُّبُوَّةِ وَعُمُدُ الأدلة وغيرها. وَحَجَّ بِالنَّاسِ
فِيهَا نَائِبُ الْمِصْرِيِّينَ وَهُوَ الْأَمِيرُ بَادِيسُ بْنُ
زِيرِي أَخُو يُوسُفَ بْنِ بُلُكِّينَ. وَلَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ
اجْتَمَعَ إِلَيْهِ اللُّصُوصُ وَسَأَلُوا مِنْهُ أَنْ يُضَمِّنَهُمُ
الْمَوْسِمَ هَذَا الْعَامَ بِمَا شَاءَ مِنَ الْأَمْوَالِ. فَأَظْهَرَ
لَهُمُ الْإِجَابَةَ إِلَى مَا سَأَلُوا وَقَالَ لَهُمْ: اجْتَمَعُوا
كُلُّكُمْ حَتَّى أُضَمِّنَكُمْ كُلَّكُمْ، فَاجْتَمَعَ عِنْدَهُ
بِضْعٌ وَثَلَاثُونَ حَرَامِيًّا، فَقَالَ:
هَلْ بَقِيَ مِنْكُمْ أَحَدٌ؟ فَحَلَفُوا لَهُ إنه لم يبق منهم أحد.
فأخذ عند ذلك بالقبض عليهم وبقطع أيديهم كلهم، ونعما ما فعل. وكانت
الخطبة في الحجاز للفاطميين دون العباسيين.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
الْمَلِكُ عِزُّ الدولة.
بختيار بْنِ بُوَيْهِ الدَّيْلَمِيُّ
مَلَكَ بَعْدَ أَبِيهِ وَعُمُرُهُ فَوْقَ الْعِشْرِينَ سَنَةً
بِقَلِيلٍ، وَكَانَ حَسَنَ الْجِسْمِ شديد البطش قوى القلب، يُقَالُ
إِنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ بِقَوَائِمِ الثَّوْرِ الشَّدِيدِ فيلقيه في
الأرض من غير أعوان، ويقصد الأسود في أماكنها، وَلَكِنَّهُ كَانَ
كَثِيرَ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ وَالْإِقْبَالِ عَلَى اللَّذَّاتِ،
وَلَمَّا كَسَرَهُ ابْنُ عَمِّهِ بِبِلَادِ الْأَهْوَازِ كان في جملة
ما أخذ منه أمرد كان يحبه حبا شديدا لا يهنأ بالعيش إلا معه، فبعث
يترفق له في رده إليه، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ بِتُحَفٍ كَثِيرَةٍ
وَأَمْوَالٍ جَزِيلَةٍ وَجَارِيَتَيْنِ عوادتين لا قيمة لهما، فَرَدَّ
عَلَيْهِ الْغُلَامَ الْمَذْكُورَ فَكَثُرَ تَعْنِيفُ النَّاسِ له عند
ذلك وَسَقَطَ مِنْ أَعْيُنِ الْمُلُوكِ، فَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ: ذهاب
هذا الغلام منى أشد على من أخذ بغداد من يدي، بل وأرض العراق كلها. ثم
كان من أمره بعد ذلك
(11/291)
أن ابن عمه أسره كما ذكرنا وقتله سَرِيعًا،
فَكَانَتْ مُدَّةُ حَيَّاتِهِ سِتًّا وَثَلَاثِينَ سَنَةً، ومدة دولته
منها إحدى وعشرين سنة وشهور، وهو الّذي أظهر الرفض ببغداد وجرى بسبب
ذلك شرور كما تقدم.
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
أَبُو بَكْرٍ الْقَاضِي الْمَعْرُوفُ بِابْنِ قُرَيْعَةَ، وَلِيُّ
الْقَضَاءِ بِالسِّنْدِيَّةِ، وَكَانَ فَصِيحًا يَأْتِي بِالْكَلَامِ
الْمَسْجُوعِ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ ولا تردد، وكان جميل المعاشرة ومن
شعره:
لي حيلة في من ينمم ... وَلَيْسَ فِي الُكَذَّابِ حِيلَهْ
مَنْ كَانَ يَخْلُقُ ما يقول ... فَحِيلَتِي فِيهِ قَلِيلَهْ
وَكَانَ يَقُولُ لِلرَّجُلِ مِنْ أصحابه إذا تماشيا: إذا تقدمت بين
يديك فانى حاجب وإن تأخرت فواجب.
توفى يوم السبب لعشر بقين من جمادى الآخرة منها.
ثم دخلت سنة ثمان وستين وثلاثمائة
فِي شَعْبَانَ مِنْهَا أَمَرَ الطَّائِعُ للَّه أَنْ يُدْعَى لِعَضُدِ
الدَّوْلَةِ بَعْدَ الْخَلِيفَةِ عَلَى الْمَنَابِرِ بِبَغْدَادَ،
وَأَنْ تُضْرَبَ الدَّبَادِبُ عَلَى بَابِهِ وَقْتَ الفجر وبعد المغرب
والعشاء. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَهَذَا شَيْءٌ لَمْ يَتَّفِقْ
لِغَيْرِهِ مِنْ بَنِي بُوَيْهِ، وَقَدْ كَانَ مُعِزُّ الدولة سأل من
الخليفة أن يضرب الدبادب على بابه فلم يأذن له، وقد افتتح عز
الدَّوْلَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَهُوَ مُقِيمٌ بِالْمَوْصِلِ
أَكْثَرَ بِلَادِ أَبِي تَغْلِبَ بْنِ حَمْدَانَ، كَآمِدَ والرحبة
وغيرهما، ثم دخل بغداد في سلخ ذي القعدة فتلقاه الخليفة والأعيان إلى
أثناء الطريق.
ذكر ملك قسام التراب لدمشق فيها
لما ذهب الفتكين إِلَى دِيَارِ مِصْرَ نَهَضَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ دمشق
يقال له قسام التراب، كان الفتكين يقربه ويدنيه، ويأمنه عَلَى
أَسْرَارِهِ، فَاسْتَحْوَذَ عَلَى دِمَشْقَ وَطَاوَعَهُ أَهْلُهَا
وَقَصَدَتْهُ عَسَاكِرُ الْعَزِيزِ مِنْ مِصْرَ فَحَاصَرُوهُ فَلَمْ
يتمكنوا منه، وَجَاءَ أَبُو تَغْلِبَ بْنُ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ بْنِ
حمدان فحاصره فلم يقدر أَنْ يَدْخُلَ دِمَشْقَ، فَانْصَرَفَ عَنْهُ
خَائِبًا إِلَى طَبَرِيَّةَ، فَوَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَنِي
عُقَيْلٍ وَغَيْرِهِمْ من العرب حروب طويلة، آل الْحَالُ إِلَى أَنْ
قَتُلِ أَبُو تَغْلِبَ وَكَانَتْ معه أخته وجميلة امرأته وهي بنت
سَيْفِ الدَّوْلَةِ، فَرُدَّتَا إِلَى سَعْدِ الدَّوْلَةِ بْنِ سَيْفِ
الدَّوْلَةِ بِحَلَبَ، فَأَخَذَ أُخْتَهُ وَبَعَثَ بِجَمِيلَةَ إِلَى
بَغْدَادَ فَحُبِسَتْ فِي دَارٍ وَأُخِذَ مِنْهَا أموال جزيله. وأما
قسام التراب هذا- وهو مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ مِنَ
الْيَمَنِ- فإنه أقام بالشام فسد خللها وقام بِمَصَالِحِهَا مُدَّةَ
سِنِينَ عَدِيدَةٍ، وَكَانَ مَجْلِسُهُ بِالْجَامِعِ يجتمع الناس إليه
فيأمرهم وينهاهم فيمتثلون ما يأمر بِهِ. قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ:
أَصْلُهُ مِنْ قَرْيَةِ تلفيتا، وكان ترابا. قلت والعامة يسمونه
قُسَيْمٌ الزَّبَّالُ، وَإِنَّمَا هُوَ قَسَّامٌ، وَلَمْ يَكُنْ
زَبَّالًا بَلْ تَرَّابًا مِنْ قَرْيَةِ تَلْفِيتَا بِالْقُرْبِ مِنْ
قَرْيَةِ مَنِينَ، وَكَانَ بُدُوَّ أَمْرِهِ أَنَّهُ انتمى إلى رجل من
أحداث أهل دمشق يقال له أحمد بن المسطان، فكان من
(11/292)
حِزْبِهِ ثُمَّ اسْتُحْوِذَ عَلَى
الْأُمُورِ وَغُلِبَ عَلَى الولاة والأمراء إلى أن قدم بلكتكين التركي
من مصرفى يَوْمِ الْخَمِيسِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنَ الْمُحَرَّمِ
سَنَةَ ست وسبعين وثلاثمائة، فأخذها منه وَاخْتَفَى قَسَّامٌ
التَّرَّابُ مُدَّةً ثُمَّ ظَهَرَ فَأَخَذَهُ أَسِيرًا وَأَرْسَلَهُ
مُقَيَّدًا إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، فَأُطْلِقَ وأحسن إليه
وأقام بها مكرما.
وممن توفى فيها من الأعيان.
العقيقي
صاحب الحمام والدار المنسوبتين إليه بدمشق بمحلة باب البريد، واسمه
أحمد بن الحسن العقيقي ابن جَعْفَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الْحُسَيْنِ الْأَصْغَرِ بن علي بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ
أَبِي طَالِبٍ، الشريف أبو القاسم الحسين الْعَقِيقِيُّ، قَالَ ابْنُ
عَسَاكِرَ: كَانَ مِنْ وُجُوهِ الْأَشْرَافِ بِدِمَشْقَ وَإِلَيْهِ
تَنْسُبُ الدَّارُ وَالْحَمَّامُ بِمَحَلَّةِ باب البريد. وَذَكَرَ
أَنَّهُ تُوُفِّيَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ لِأَرْبَعٍ خَلَوْنَ من جمادى
الأولى منها، وأنه دفن من الغد وأغلقت البلد لأجل جنازته، وحضرها نكجور
وَأَصْحَابُهُ- يَعْنِي نَائِبَ دِمَشْقَ- وَدُفِنَ خَارِجَ بَابِ
الصغير. قلت: وقد اشترى الملك الظاهر بِيبَرْسُ دَارَهُ وَبَنَاهَا
مَدْرَسَةً وَدَارَ حَدِيثٍ وَتُرْبَةً وَبِهَا قَبْرُهُ، وَذَلِكَ فِي
حُدُودِ سَنَةِ سَبْعِينَ وستمائة كما سيأتي بيانه.
أحمد بن جعفر
ابن مَالِكِ بْنِ شَبِيبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو بَكْرِ بْنُ
مَالِكٍ الْقَطِيعِيُّ- مِنْ قَطِيعَةِ الدَّقِيقِ بِبَغْدَادَ- رَاوِي
مُسْنَدِ أَحْمَدَ عَنِ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ، وَقَدْ رَوَى عَنْهُ
غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ مُصَنَّفَاتِ أَحْمَدَ، وَحَدَّثَ عَنْ غَيْرِهِ
مِنَ الْمَشَايِخِ، وكان ثقة كثير الحديث، حدث عنه الدار قطنى وَابْنُ
شَاهِينَ وَالْبَرْقَانِيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالْحَاكِمُ، وَلَمْ
يَمْتَنِعْ أَحَدٌ مِنَ الرِّوَايَةِ عَنْهُ وَلَا الْتَفَتُوا إلى ما
طعن عليه بعضهم وتكلم فيه، بسبب غرق كُتُبِهِ حِينَ غَرِقَتِ
الْقَطِيعَةُ بِالْمَاءِ الْأَسْوَدِ، فَاسْتَحْدَثَ بعضها من نسخ
أخرى، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ مُعَارَضَةٌ
عَلَى كُتُبِهِ الَّتِي غَرِقَتْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيُقَالُ
إِنَّهُ تَغَيَّرَ فِي آخِرِ عُمُرِهِ فَكَانَ لَا يدرى ما جرى عليه،
وقد جاوز التسعين.
تَمِيمُ بْنُ الْمُعِزِّ الْفَاطِمِيُّ
وَبِهِ كَانَ يُكَنَّى، وَقَدْ كَانَ مِنْ أَكَابِرِ أُمَرَاءِ
دَوْلَةِ أَبِيهِ وأخيه العزيز، وَقَدِ اتَّفَقَتْ لَهُ كَائِنَةٌ
غَرِيبَةٌ وَهِيَ أَنَّهُ أَرْسَلَ إِلَى بَغْدَادَ فَاشْتُرِيَتْ لَهُ
جَارِيَةٌ مُغَنِّيَةٌ بِمَبْلَغٍ جَزِيلٍ، فَلَمَّا حَضَرَتْ عِنْدَهُ
أَضَافَ أَصْحَابَهُ ثُمَّ أَمَرَهَا فَغَنَّتْ- وَكَانَتْ تُحِبُّ
شَخْصًا بِبَغْدَادَ-:
وبدا له من بعد ما انتقل الهوى ... برق تألق من هنا لمعانه
يبدو لحاشية اللواء وَدُونَهُ ... صَعْبُ الذَّرَى مُتَمَنِّعٌ
أَرْكَانُهُ
فَبَدَا لِيَنْظُرَ كيف لاح فلم يطق ... نظرا إليه وشده أَشْجَانُهُ
فَالنَّارُ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ ضُلُوعُهُ ... وَالْمَاءُ ما سمحت
به اجفانه
ثم غنته أبياتا غيرها فَاشْتَدَّ طَرَبُ تَمِيمٍ هَذَا وَقَالَ لَهَا:
لَا بُدَّ أَنْ تَسْأَلِينِي حَاجَةً، فَقَالَتْ: عَافِيَتَكَ.
(11/293)
فقال: ومع العافية. فَقَالَتْ: تَرُدُّنِي
إِلَى بَغْدَادَ حَتَّى أُغَنِّيَ بِهَذِهِ الأبيات، فوجم لذلك ثم لم
يجد بدا من الوفاء لها بما سألت، فأرسلها مع بعض أصحابه فأحجبها ثم سار
بها عَلَى طَرِيقِ الْعِرَاقِ، فَلَمَّا أَمْسَوْا فِي اللَّيْلَةِ
التي يدخلون فيها بغداد من صبيحتها ذَهَبَتْ فِي اللَّيْلِ فَلَمْ
يَدْرِ أَيْنَ ذَهَبَتْ، فلما سمع تميم خبرها شق عليه ذلك وتألم ألما
شديدا، وندم ندما شديدا حيث لا ينفعه الندم.
أَبُو سَعِيدٍ السِّيرَافِيُّ
النَّحْوِيُّ الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ الله بن المرزبان. الْقَاضِي،
سَكَنَ بَغْدَادَ وَوَلِيَ الْقَضَاءَ بِهَا نِيَابَةً، وله شرح كتاب
سيبويه، وطبقات النحاة. روى عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ دُرَيْدٍ
وَغَيْرِهِ، وَكَانَ أبوه مجوسيا، وكان أبو سعيد هذا عالما باللغة
والنحو والقراءات وَالْفَرَائِضِ وَالْحِسَابِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ
فُنُونِ الْعِلْمِ، وكان مع ذلك زَاهِدًا لَا يَأْكُلُ إِلَّا مِنْ
عَمَلِ يَدِهِ، كَانَ يَنْسَخُ فِي كُلِّ يَوْمٍ عَشْرَ وَرَقَاتٍ
بعشرة دراهم، تكون منها نفقته، وكان من أعلم الناس بنحو البصريين، وكان
ينتحل مذهب أهل العراق في الفقه، وقرأ القراءات عَلَى ابْنِ مُجَاهِدٍ،
وَاللُّغَةَ عَلَى ابْنِ دُرَيْدٍ، والنحو على ابن السراج وابن
المرزبان، ونسبه بعضهم إلى الاعتزال وأنكره آخرون. توفى في رجب منها
عَنْ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَدُفِنَ بِمَقْبَرَةِ
الْخَيْزُرَانِ.
عبد الله بن إبراهيم
ابن أبى القاسم الريحاني، ويعرف بالانبدرى، رحل في طلب الحديث إلى
الآفاق ووافق ابْنَ عَدِيٍّ فِي بَعْضِ ذَلِكَ، ثُمَّ سَكَنَ بَغْدَادَ
وَحَدَّثَ بِهَا عَنْ أَبِي يَعْلَى وَالْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ
وَابْنِ خُزَيْمَةَ وَغَيْرِهِمْ، وَكَانَ ثِقَةً ثَبَتًا، لَهُ
مُصَنَّفَاتٌ، زَاهِدًا رَوَى عَنْهُ الْبَرْقَانِيُّ وأثنى عليه خيرا،
وذكر أن أكثر أدم أهله الخبز المأدوم بمرق الباقلاء، وذكر القفصي من
تقلله وزهده وورعه. توفى عن خمس وَتِسْعِينَ سَنَةً.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ وَرْقَاءَ
الْأَمِيرُ أَبُو أَحْمَدَ الشَّيْبَانِيُّ مِنْ أَهْلِ الْبُيُوتَاتِ
وَالْحِشْمَةِ، بلغ التسعين سنة، رَوَى عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ
أَنَّهُ أَنْشَدَ فِي صِفَةِ النِّسَاءِ:
هِيَ الضِّلَعُ الُعَوْجَاءُ لَسْتَ تُقِيمُهَا ... أَلَا إِنَّ
تَقْوِيمَ الضُّلُوعِ انْكِسَارُهَا
أَيَجْمَعْنَ ضَعْفًا وَاقْتِدَارًا عَلَى الْفَتَى ... أَلَيْسَ
عَجِيبًا ضَعْفُهَا وَاقْتِدَارُهَا؟
قلت: وهذا المعنى أخذه مِنَ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «إِنَّ الْمَرْأَةَ
خُلِقَتْ مِنْ ضِلْعٍ أَعْوَجَ وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلْعِ
أَعْلَاهُ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسْرَتَهُ، وَإِنِ
اسْتَمْتَعْتَ بها استمتعت بها وفيها عوج» .
محمد بن عيسى
ابن عَمْرَوَيْهِ الْجُلُودِيُّ رَاوِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ
إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ الْفَقِيهِ عَنْ مُسْلِمِ
بْنِ الْحَجَّاجِ وَكَانَ مِنَ الزُّهَّادِ، يَأْكُلُ مِنْ كَسْبِ
يَدِهِ مِنَ النَّسْخِ وَبَلَغَ ثَمَانِينَ سَنَةً.
(11/294)
ثم دخلت سنة تسع
وستين وثلاثمائة
في المحرم منها توفى الأمير عمر بْنُ شَاهِينَ صَاحِبُ بِلَادِ
الْبَطِيحَةِ مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، تَغَلَّبَ عَلَيْهَا وَعَجَزَ
عَنْهُ الْأُمَرَاءُ وَالْمُلُوكُ والخلفاء، وبعثوا إليه الجنود
والسرايا والجيوش غيره مَرَّةٍ، فَكُلُّ ذَلِكَ يَفُلُّهَا
وَيَكْسِرُهَا، وَكُلُّ مَا له في تمكن وزيادة وقوة، ومكث كذلك هذه
المدة، وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ حَتْفَ أَنْفِهِ،
فَلَا نَامَتْ أَعْيُنُ الْجُبَنَاءِ. وَقَامَ بِالْأَمْرِ مِنْ
بَعْدِهِ وَلَدُهُ الْحَسَنُ فَرَامَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ أَنْ
يَنْتَزِعَ الْمُلْكَ مِنْ يَدِهِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ سرية حافلة من
الجنود فكسرهم الحسن بن عمر بن شاهين، وَكَادَ أَنْ يُتْلِفَهُمْ
بِالْكُلِّيَّةِ حَتَّى أَرْسَلَ إِلَيْهِ عضد الدولة فصالحه عَلَى
مَالٍ يَحْمِلُهُ إِلَيْهِ فِي كُلِّ سَنَةٍ، وَهَذَا مِنَ
الْعَجَائِبِ الْغَرِيبَةٍ. وَفِي صَفَرٍ قُبِضَ على الشريف أبى أحمد
الحسن بن موسى الموسوي نقيب الطالبيين، وقد كان أمير الحج مدة سنين،
اتهم بِأَنَّهُ يُفْشِي الْأَسْرَارَ وَأَنَّ عِزَّ الدَّوْلَةِ
أَوْدَعَ عنده عقدا ثمينا، ووجدوا كتابا بخطه فِي إِفْشَاءِ
الْأَسْرَارِ فَأَنْكَرَ أَنَّهُ خَطُّهُ وَكَانَ مُزَوَّرًا عَلَيْهِ،
وَاعْتَرَفَ بِالْعِقْدِ فَأُخِذَ مِنْهُ وَعُزِلَ عن النقابة وولوا
غيره، وكان مظلوما. وَفِي هَذَا الشَّهْرِ أَيْضًا عَزَلَ عَضُدُ
الدَّوْلَةِ قَاضِيَ الْقُضَاةِ أَبَا مُحَمَّدِ بْنَ مَعْرُوفٍ،
وَوَلَّى غيره وفي شعبان منها وَرَدَ الْبَرِيدُ مِنْ مِصْرَ إِلَى
عَضُدِ الدَّوْلَةِ بِمُرَاسَلَاتٍ كَثِيرَةٍ فَرَدَّ الْجَوَابَ بِمَا
مَضْمُونُهُ صِدْقُ النِّيَّةِ وَحُسْنُ الطَّوِيَّةِ ثُمَّ سَأَلَ
عَضُدُ الدَّوْلَةِ مِنَ الطَّائِعِ أَنْ يُجَدِّدَ عَلَيْهِ الْخِلَعَ
وَالْجَوَاهِرَ، وأن يزيد في إنشائه تاج الدولة، فأجابه إلى ذلك، وخلع
عَلَيْهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَلَابِسِ مَا لَمْ يَتَمَكَّنْ معه من
تقبيل الأرض بين يدي الخليفة، وفوض إليه ما وراء بابه مِنَ الْأُمُورِ
وَمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ ومغاربها، وحضر
ذلك أعيان النَّاسِ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا. وَأَرْسَلَ فِي
رَمَضَانَ إلى الْأَعْرَابِ مِنْ بَنِي شَيْبَانَ وَغَيْرِهِمْ
فَعَقَرَهُمْ وَكَسَرَهُمْ، وكان أميرهم منبه ابن محمد الأسدي متحصنا
بعين التمر مدة نيف وثلاثين سنة، فأخذ ديارهم وأموالهم.
وفي يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ لِسَبْعٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ تزوج
الطَّائِعُ للَّه بِنْتَ عَضُدِ الدَّوْلَةِ الْكُبْرَى، وَعُقِدَ
العقد بحضرة الأعيان على صداق مبلغه مائة أَلْفِ دِينَارٍ، وَكَانَ
وَكِيلَ عَضُدِ الدَّوْلَةِ الشَّيْخُ أبا على الحسين بْنُ أَحْمَدَ
الْفَارِسِيُّ النَّحْوِيُّ، صَاحِبُ الْإِيضَاحِ وَالتَّكْمِلَةِ،
وَكَانَ الَّذِي خَطَبَ خُطْبَةَ الْعَقْدِ الْقَاضِي أَبُو على الحسن
بن على التنوخي. قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: وَفِيهَا جَدَّدَ عَضُدُ
الدَّوْلَةِ عِمَارَةَ بَغْدَادَ وَمَحَاسِنَهَا، وَجَدَّدَ
الْمَسَاجِدَ وَالْمَشَاهِدَ، وَأَجْرَى على الفقهاء الأرزاق وعلى
الأئمة مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ وَالْأَطِبَّاءِ
وَالْحُسَّابِ وَغَيْرِهِمْ، وَأَطْلَقَ الصِّلَاتِ لِأَرْبَابِ
الْبُيُوتَاتِ وَالشَّرَفِ، وَأَلْزَمَ أَصْحَابَ الْأَمْلَاكِ
بِعِمَارَةِ بُيُوتِهِمْ وَدُورِهِمْ، وَمَهَّدَ الطُّرُقَاتِ
وَأَطْلَقَ الْمُكُوسَ وأصلح الطريق للحجاج مِنْ بَغْدَادَ إِلَى
مَكَّةَ، وَأَرْسَلَ الصَّدَقَاتِ لِلْمُجَاوِرِينَ بالحرمين. قال:
وأذن لِوَزِيرِهِ نَصْرِ بْنِ هَارُونَ- وَكَانَ نَصْرَانِيًّا-
بِعِمَارَةِ البيع والأديرة وأطلق الأموال لفقرائهم.
(11/295)
وفيها توفى حسنويه بن حسين الْكُرْدِيُّ،
وَكَانَ قَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَى نَوَاحِي بِلَادِ الدينور وهمدان
وَنَهَاوَنْدَ مُدَّةَ خَمْسِينَ سَنَةً، وَكَانَ حَسَنَ السِّيرَةِ
كَثِيرَ الصَّدَقَةِ بِالْحَرَمَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، فَلَمَّا
تُوُفِّيَ اخْتَلَفَ أولاده من بعده وتمرق شملهم، وتمكن عضد الدولة من
أكثر بلادهم، وقويت شوكته في تلك الأرض.
وفيها ركب عضد الدولة في جنود كَثِيفَةٍ إِلَى بِلَادِ أَخِيهِ فَخْرِ
الدَّوْلَةِ، وَذَلِكَ لما بلغه من ممالأته لعز الدولة واتفاقهم عليه،
فتسلم بلاد أخيه فخر الدولة وهمدان وَالرَّيَّ وَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ
الْبِلَادِ، وَسَلَّمَ ذَلِكَ إلى مؤيد الدولة- وهو أخوه الآخر-
لِيَكُونَ نَائِبَهُ عَلَيْهَا، ثُمَّ سَارَ إِلَى بِلَادِ حسنويه
الكردي فتسلمها وأخذ حواصله وذخائره، وكانت كثيرة جدا، وحبس بعض أولاده
وأسر بَعْضَهُمْ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْأَكْرَادِ الْهَكَّارِيَّةِ
فَأَخَذَ مِنْهُمْ بعض بلادهم، وعظم شأنه وارتفع صيته، إلا أنه أصابه
في هذا السفر داء الصداع، وكان قد تقدم له بالموصل مثله، وكان يكتمه
إلى أن غلب عليه كَثْرَةُ النِّسْيَانِ فَلَا يَذْكُرُ الشَّيْءَ
إِلَّا بَعْدَ جَهْدٍ جَهِيدٍ، وَالدُّنْيَا لَا تَسُرُّ بِقَدْرِ مَا
تَضُرُّ:
دَارٌ إِذَا مَا أَضْحَكَتْ فِي يَوْمِهَا ... أبكت غدا، بعدا لها من
دار
وفيها توفى من الأعيان
أحمد بن زكريا أبو الحسن اللُّغَوِيُّ
صَاحِبُ كِتَابِ الْمُجْمَلِ فِي اللُّغَةِ وَغَيْرِهِ، وَمِنْ
شِعْرِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِيَوْمَيْنِ:
يَا رَبِّ إِنَّ ذُنُوبِي قَدْ أَحَطْتَ بِهَا ... عِلْمًا وَبِي
وَبِإِعْلَانِي وَإِسْرَارِي
أَنَا الْمُوَحِّدُ لَكِنِّي الْمُقِرُّ بِهَا ... فهب ذنوبي لتوحيدى
وإقراري
ذكر ذلك ابن الأثير.
أَحْمَدُ بْنُ عَطَاءِ بْنِ أَحْمَدَ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرُّوذَبَارِيُّ- ابْنُ أُخْتِ أَبِي عَلِيٍّ
الرُّوذْبَارِيُّ- أَسْنَدَ الْحَدِيثَ، وَكَانَ يَتَكَلَّمُ عَلَى
مَذْهَبِ الصُّوفِيَّةِ، وكان قد انتقل من بغداد فأقام بصور وتوفى بها
في هذه السنة. قال: رأيت في المنام كأن قائلا يقول: أي شيء أصح في
الصلاة؟ فقلت صحة القصد، فسمعت قائلا يقول. رؤية المقصود بإسقاط رؤية
القصد أتم. وقال: مجالسة الاضداد ذوبان الروح، ومجالسة الأشكال تلقيح
العقول، وليس كل من يصلح للمجالسة يصلح للمؤانسة، ولا كل من يصلح
للمؤانسة يؤمن على الأسرار، ولا يؤمن على الأسرار الا الأمناء فقط.
وقال: الخشوع في الصلاة علامة الفلاح. قال تعالى (قَدْ أَفْلَحَ
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ في صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) 23: 1- 2 وترك
الخشوع في الصلاة علامة النفاق وخراب القلب. قال تعالى (إِنَّهُ لا
يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) 23: 117.
عبد الله بن إبراهيم
ابن أَيُّوبَ بْنِ مَاسِيٍّ أَبُو مُحَمَّدٍ الْبَزَّازُ، أَسْنَدَ
الْكَثِيرَ وَبَلَغَ خَمْسًا وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَكَانَ ثِقَةً ثبتا.
توفى في رجب منها
محمد بن صالح
ابن على بن يحيى أبو الحسن الهاشمي، يعرف بابن أم شيبان، كان عَالِمًا
فَاضِلًا، لَهُ تَصَانِيفُ، وَقَدْ
(11/296)
وَلِيَ الْحُكْمَ بِبَغْدَادَ قَدِيمًا
وَكَانَ جَيِّدَ السِّيرَةِ، توفى فيها وقد جاوز السبعين وقارب
الثمانين.
ثم دخلت سنة سبعين وثلاثمائة
فِيهَا وَرَدَ الصَّاحِبُ بْنُ عَبَّادٍ مِنْ جِهَةِ مُؤَيِّدِ
الدَّوْلَةِ إِلَى أَخِيهِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ فَتَلَقَّاهُ عَضُدُ
الدَّوْلَةِ إِلَى ظَاهِرِ الْبَلَدِ وَأَكْرَمَهُ وَأَمَرَ الأعيان
بِاحْتِرَامِهِ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ وَزَادَهُ فِي أَقْطَاعِهِ، وَرَدَّ
معه هدايا كثيرة.
وَفِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْهَا رَجَعَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ إلى
بغداد فتلقاه الخليفة الطائع وضرب لَهُ الْقِبَابُ وَزُيِّنَتِ
الْأَسْوَاقُ. وَفِي هَذَا الشَّهْرِ أَيْضًا وَصَلَتْ هَدَايَا مِنْ
صَاحِبِ الْيَمَنِ إِلَى عضد الدولة، وكانت الخطبة بالحرمين لِصَاحِبِ
مِصْرَ، وَهُوَ الْعَزِيزُ بْنُ الْمُعِزِّ الْفَاطِمِيِّ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ.
أَبُو بَكْرِ الرازيّ الحنفي
أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ أَبُو بَكْرٍ الْفَقِيهُ الْحَنَفِيُّ الرازيّ
أحد أئمة أصحاب أبى حنيفة، وَلَهُ مِنَ الْمُصَنَّفَاتِ الْمُفِيدَةِ
كِتَابُ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ، وَهُوَ تِلْمِيذُ أَبِي الْحَسَنِ
الْكَرْخِيِّ، وَكَانَ عَابِدًا زَاهِدًا وَرِعًا، انْتَهَتْ إِلَيْهِ
رِيَاسَةُ الْحَنَفِيَّةِ فِي وَقْتِهِ وَرَحَلِ إِلَيْهِ الطَّلَبَةُ
مِنَ الْآفَاقِ، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ أَبِي الْعَبَّاسِ
الْأَصَمِّ وَأَبِي القاسم الطبراني، وقد أراده الطائع على أن يوليه
القضاء فلم يقبل، تُوُفِّيَ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذَا الْعَامِ،
وَصَلَّى عَلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الخوارزمي.
محمد بن جعفر
ابن مُحَمَّدِ بْنِ زَكَرِيَّا أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ، وَيُلَقَّبُ
بغندر، كان جوالا رحالا، سمع الْكَثِيرَ بِبِلَادِ فَارِسَ
وَخُرَاسَانَ، وَسَمِعَ الْبَاغَنْدِيَّ وَابْنَ صَاعِدٍ وَابْنَ
دُرَيْدٍ وَغَيْرَهُمْ، وَعَنْهُ الْحَافِظُ أَبُو نعيم الأصفهانيّ،
وكان ثقة حافظا.
ابْنُ خَالَوَيْهِ
الْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ خَالَوَيْهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
النَّحْوِيُّ اللُّغَوِيُّ صَاحِبُ الْمُصَنَّفَاتِ، أَصْلُهُ مِنْ
هَمَذَانَ، ثُمَّ دَخَلَ بَغْدَادَ فَأَدْرَكَ بها مشايخ هذا الشأن.
كابن دُرَيْدٍ وَابْنِ مُجَاهِدٍ، وَأَبِي عُمَرَ الزَّاهِدِ،
وَاشْتَغَلَ عَلَى أَبِي سَعِيدٍ السِّيرَافِيِّ ثُمَّ صَارَ إِلَى
حَلَبَ فَعَظُمَتْ مَكَانَتُهُ عِنْدَ آلِ حَمْدَانَ، وَكَانَ سَيْفُ
الدَّوْلَةِ يُكْرِمُهُ وَهُوَ أَحَدُ جُلَسَائِهِ، وَلَهُ مَعَ
الْمُتَنَبِّي مُنَاظَرَاتٌ. وَقَدْ سَرَدَ لَهُ ابْنُ خلكان مصنفات
كثيرة منها كتاب ليس في كلام العرب- لأنه كان يكثر أن يقول ليس في كلام
العرب كذا وكذا- وكتاب الْآلِ تَكَلَّمَ فِيهِ عَلَى أَقْسَامِهِ
وَتَرْجَمَ الْأَئِمَّةَ الاثني عشر وأعرب ثَلَاثِينَ سُورَةً مِنَ
الْقُرْآنِ، وَشَرَحَ الدُّرَيْدِيَّةَ وَغَيْرَ ذلك، وله شعر حسن،
وكان به داء كانت به وفاته.
ثم دخلت سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة
فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا وَقَعَ حَرِيقٌ عَظِيمٌ بالكرخ، وفيها
سرق شيء نفيس لعضد الدولة فتعجب الناس من جرأة من سرقه مع شدة هَيْبَةِ
عَضُدِ الدَّوْلَةِ، ثُمَّ مَعَ هَذَا اجْتَهَدُوا كل الاجتهاد فلم
يعرفوا من
(11/297)
أَخَذَهُ. وَيُقَالُ إِنَّ صَاحِبَ مِصْرَ
بَعَثَ مَنْ فعل ذلك فاللَّه أعلم.
وممن توفى فيها من الأعيان.
الإسماعيلي
أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ الْعَبَّاسِ أَبُو
بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيُّ الْجُرْجَانِيُّ الْحَافِظُ الْكَبِيرُ
الرَّحَّالُ الْجَوَّالُ، سَمِعَ الْكَثِيرَ وَحَدَّثَ وَخَرَّجَ
وَصَنَّفَ فَأَفَادَ وَأَجَادَ، وَأَحْسَنَ الِانْتِقَادَ
وَالِاعْتِقَادَ، صَنَّفَ كِتَابًا عَلَى صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ
فَوَائِدُ كَثِيرَةٌ، وَعُلُومٌ غَزِيرَةٌ. قال الدار قطنى: كُنْتُ
عَزَمْتُ غَيْرَ مَرَّةٍ عَلَى الرِّحْلَةِ إِلَيْهِ فَلَمْ أُرْزَقْ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ السَّبْتَ عَاشِرَ رَجَبٍ سَنَةَ إِحْدَى
وَسَبْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ
سَنَةً رَحِمَهُ اللَّهُ.
الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ
أَبُو مُحَمَّدٍ السَّبِيعِيُّ، سَمِعَ ابْنَ جَرِيرٍ وقاسما المطرز
وغيرهما، وعنه الدار قطنى وَالْبَرْقَانِيُّ، وَكَانَ ثِقَةً حَافِظًا
مُكْثِرًا وَكَانَ عَسِرَ الرواية.
الحسن بن على بن الحسن
ابن الْهَيْثَمِ بْنِ طَهْمَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشَّاهِدُ،
المعروف بالبادى، سمع الحديث وكان ثقة، عاش سَبْعًا وَتِسْعِينَ
سَنَةً، مِنْهَا خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً مقيدا أعمى.
عبد الله بن الحسين
ابن إسماعيل بن محمد أبو بكر الضبيّ، ولى الحكم ببغداد، وكان عفيفا
نزها دينا.
عبد العزيز بن الحارث
ابن أَسَدِ بْنِ اللَّيْثِ أَبُو الْحَسَنِ التَّمِيمِيُّ الْفَقِيهُ
الْحَنْبَلِيُّ. لَهُ كَلَامٌ وَمُصَنَّفٌ فِي الْخِلَافِ، وَسَمِعَ
الْحَدِيثَ وَرَوَى عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ، وَقَدْ ذَكَرَ الخطيب
البغدادي أنه وضع حديثا. وأنكر ذلك ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَقَالَ: مَا
زَالَ هَذَا دَأْبَ الْخَطِيبِ فِي أَصْحَابِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ.
قَالَ: وَشَيْخُ الْخَطِيبِ الَّذِي حُكِيَ عَنْهُ هَذَا هُوَ أَبُو
الْقَاسِمِ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَسَدٍ الْعُكْبَرِيُّ لَا
يُعْتَمَدُ عَلَى قَوْلِهِ، فَإِنَّهُ كَانَ مُعْتَزِلِيًّا وَلَيْسَ
مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَكَانَ يَقُولُ بِأَنَّ الْكُفَّارَ لَا
يَخْلُدُونَ فِي النَّارِ. قُلْتُ: وَهَذَا غريب فان المعتزلة يقولون
بأن الكفار يخلدون في النار، بل يقولون بتخليد أصحاب الكبائر. قال:
وعنه حكى الكلام عن ابْنِ بَطَّةَ أَيْضًا
عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ
أَبُو الْحَسَنِ الْحُصَرِيُّ الصُّوفِيُّ الْوَاعِظُ شَيْخُ
الْمُتَصَوِّفَةِ بِبَغْدَادَ، أَصْلُهُ مِنَ الْبَصْرَةِ صَحِبَ
الشِّبْلِيَّ وَغَيْرَهُ، وَكَانَ يَعِظُ النَّاسَ بِالْجَامِعِ، ثُمَّ
لَمَّا كَبُرَتْ سِنُّهُ بُنِيَ لَهُ الرِّبَاطُ الْمُقَابِلُ
لِجَامِعِ الْمَنْصُورِ، ثُمَّ عرف بصاحبه المروزي، وَكَانَ لَا
يَخْرُجُ إِلَّا مِنَ الْجُمُعَةِ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَلَهُ كَلَامٌ
جَيِّدٌ فِي التَّصَوُّفِ عَلَى طَرِيقَتِهِمْ.
وَمِمَّا نَقَلَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مَا
عَلَيَّ مِنِّي؟ وَأَيُّ شَيْءٍ لِي فِيَّ؟ حَتَّى أَخَافَ وَأَرْجُوَ،
إِنْ رَحِمَ رَحِمَ ماله،
(11/298)
وإن عذب عذب ماله. تُوُفِّيَ فِي ذِي
الْحِجَّةِ وَقَدْ نَيَّفَ عَلَى الثمانين، ودفن بمقبرة دار حَرْبٍ
مِنْ بَغْدَادَ.
عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَحْدَبُ الْمُزَوِّرُ
كَانَ قَوِيَّ الْخَطِّ، لَهُ مَلَكَةٌ عَلَى التزوير لا يشاء يكتب على
أحد كتابة إِلَّا فَعَلَ، فَلَا يَشُكُّ ذَلِكَ الْمُزَوَّرُ عَلَيْهِ
أنه خطه، وحصل للناس به بلاء عَظِيمٍ، وَخَتَمَ السُّلْطَانُ عَلَى
يَدِهِ مِرَارًا فَلَمْ يقدر، وكان يزور ثُمَّ كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي
هَذِهِ السَّنَةِ.
الشَّيْخُ أبو زيد المروزي الشافعيّ
محمد بن أحمد بن عبد الله بن محمد أبو زيد المروزي شَيْخُ
الشَّافِعِيَّةِ فِي زَمَانِهِ وَإِمَامُ أَهْلِ عَصْرِهِ فِي
الْفِقْهِ وَالزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ وَالْوَرَعِ، سَمِعَ الْحَدِيثَ
ودخل بغداد وحدث بها فسمع منه الدار قطنى وَغَيْرُهُ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: عَادَلْتُ الشَّيْخَ أَبَا زَيْدٍ فِي
طَرِيقِ الْحَجِّ فَمَا أَعْلَمُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ كَتَبَتْ
عَلَيْهِ خَطِيئَةً.
وَقَدْ ذَكَرْتُ تَرْجَمَتَهُ بِكَمَالِهَا فِي طَبَقَاتِ
الشَّافِعِيَّةِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو نُعَيْمٍ: تُوُفِّيَ بِمَرْوَ
يَوْمَ الْجُمُعَةِ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ
مُحَمَّدُ بْنُ خَفِيفٍ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشِّيرَازِيُّ أَحَدُ مَشَاهِيرِ الصُّوفِيَّةِ،
صَحِبَ الْجَرِيرِيَّ وَابْنَ عَطَاءِ وَغَيْرَهُمَا. قَالَ ابْنُ
الْجَوْزِيِّ: وَقَدْ ذَكَرْتُ فِي كتابي المسمى بتلبيس إِبْلِيسَ
عَنْهُ حِكَايَاتٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَذْهَبُ مَذْهَبَ
الْإِبَاحِيَّةِ
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: فِي الْمُحَرَّمِ منها جَرَى الْمَاءُ
الَّذِي سَاقَهُ عَضُدُ الدَّوْلَةِ إِلَى دَارِهِ وَبُسْتَانِهِ.
وَفِي صَفَرٍ فُتِحَ الْمَارَسْتَانُ الَّذِي أَنْشَأَهُ عَضُدُ
الدَّوْلَةِ فِي الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ مِنْ بَغْدَادَ، وَقَدْ
رَتَّبَ فِيهِ الْأَطِبَّاءَ وَالْخَدَمَ، وَنُقِلَ إليه من الأدوية
والأشربة والعقاقير شيئا كثيرا. وَقَالَ: وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَضُدُ
الدَّوْلَةِ فَكَتَمَ أَصْحَابُهُ وفاته حتى أحضروا ولده صمصامة
فَوَلَّوْهُ الْأَمْرَ وَرَاسَلُوا الْخَلِيفَةَ فَبَعَثَ إِلَيْهِ
بِالْخِلَعِ وَالْوِلَايَةِ
ذِكْرُ شَيْءٍ مِنْ أَخْبَارِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ
أبو شجاع ابن ركن الدولة أبو على الحسين بن بويه الديلميّ، صاحب ملك
بَغْدَادَ وَغَيْرِهَا، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ تَسَمَّى شَاهِنْشَاهْ،
وَمَعْنَاهُ مَلِكُ الْمُلُوكِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:
«أَوْضَعُ اسْمٍ- وَفِي رِوَايَةٍ أَخْنَعُ اسم- عند الله رجل تسمى ملك
الملوك» وفي رواية «مَلِكَ الْأَمْلَاكِ لَا مَلِكَ إِلَّا اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ» . وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ ضُرِبَتْ لَهُ الدَّبَادِبُ
بِبَغْدَادَ، وَأَوَّلُ مَنْ خُطِبَ لَهُ بِهَا مَعَ الْخَلِيفَةِ.
وَذَكَرَ ابْنُ خَلِّكَانَ أَنَّهُ امْتَدَحَهُ الشُّعَرَاءُ بمدائح
هائلة منهم المتنبي وَغَيْرِهِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ أَبِي الْحَسَنِ
مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ السَّلَامِيِّ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ:
إِلَيْكَ طَوَى عَرْضَ الْبَسِيطَةِ جَاعِلٌ ... قُصَارَى الْمَطَايَا
أَنْ يَلُوحَ لَهَا الْقَصْرُ
فَكُنْتُ وَعَزْمِي فِي الظلام وصارمى ... ثلاثة القفصي كَمَا
اجْتَمَعَ النَّسْرُ
(11/299)
وَبَشَّرْتُ آمَالِي بِمَلْكٍ هُوَ
الْوَرَى ... وَدَارٍ هِيَ الدنيا ويوم هو الدهر
وَقَالَ الْمُتَنَبِّي أَيْضًا:
هِيَ الْغَرَضُ الْأَقْصَى وَرُؤْيَتُكَ المنى ... ومنزلك الدنيا وأنت
الخلائق
قال وقال أبو بكر أحمد الأرجاني فِي قَصِيدَةٍ لَهُ بَيْتًا فَلَمْ
يَلْحَقِ السَّلَامِيَّ أَيْضًا وَهُوَ قَوْلُهُ:
لَقِيتُهُ فَرَأَيْتُ النَّاسَ فِي رَجُلٍ ... وَالدَّهْرَ فِي سَاعَةٍ
وَالْأَرْضَ فِي دَارِ
قال: وكتب إليه افتكين مولى أخيه يستمده بجيش إلى دمشق يُقَاتِلُ بِهِ
الْفَاطِمِيِّينَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَضُدُ الدَّوْلَةِ «غرّك عزّك
فصار قصاراك ذُلَّكَ، فَاخْشَ فَاحِشَ فِعْلِكَ، فِعَلَّكَ بِهَذَا
تُهْدَا» . قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَلَقَدْ أَبْدَعَ فِيهَا كُلَّ
الْإِبْدَاعِ، وَقَدْ جَرَى لَهُ مِنَ التَّعْظِيمِ مِنَ الخليفة ما لم
يقع لغيره قبله، وقد اجْتَهَدَ فِي عِمَارَةِ بَغْدَادَ
وَالطُّرُقَاتِ، وَأَجْرَى النَّفَقَاتِ على المساكين والمحاويج،
وَحَفَرَ الْأَنْهَارَ وَبَنَى الْمَارَسْتَانَ الْعَضُدِيَّ وَأَدَارَ
السُّورَ على مدينة الرسول، فعل ذلك مدة ملكه على العراق، وهي خمسة
سِنِينَ، وَقَدْ كَانَ عَاقِلًا فَاضِلًا حَسَنَ السِّيَاسَةِ شَدِيدَ
الْهَيْبَةِ بَعِيدَ الْهِمَّةِ، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ يتجاوز في سياسة
الْأُمُورَ الشَّرْعِيَّةَ، كَانَ يُحِبُّ جَارِيَةً فَأَلْهَتْهُ عَنْ
تَدْبِيرِ الْمَمْلَكَةِ، فَأَمَرَ بِتَغْرِيقِهَا. وَبَلَغَهُ أَنَّ
غُلَامًا لَهُ أَخَذَ لِرَجُلٍ بِطِّيخَةً فَضَرَبَهُ بِسَيْفِهِ
فَقَطَعَهُ نصفين، وهذه مبالغة. وكان سبب موته الصرع.
وحين أخذ في عِلَّةُ مَوْتِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ كَلَامٌ سِوَى
تِلَاوَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى (مَا أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ هَلَكَ
عَنِّي سُلْطانِيَهْ) 69: 28- 29 فكان هذا هجيراه حتى مات. وَحَكَى
ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَنَّهُ كَانَ يُحِبُّ الْعِلْمَ وَالْفَضِيلَةَ،
وَكَانَ يُقْرَأُ عِنْدَهُ كِتَابُ إِقْلِيدِسَ وَكِتَابُ النَّحْوِ
لِأَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ، وَهُوَ الْإِيضَاحُ وَالتَّكْمِلَةُ
الّذي صنفه له.
وَقَدْ خَرَجَ مَرَّةً إِلَى بُسْتَانٍ لَهُ فَقَالَ أَوَدُّ لَوْ
جَاءَ الْمَطَرُ، فَنَزَلَ الْمَطَرُ فَأَنْشَأَ يقول:
ليس شرب الراح إِلَّا فِي الْمَطَرْ ... وَغِنَاءٌ مِنْ جِوَارٍ فِي
السحر
غانيات سالبات للنهى ... ناعمات فِي تَضَاعِيفِ الْوَتَرْ
رَاقِصَاتٍ زَاهِرَاتٍ نُجَّلٍ ... رَافِلَاتٍ في أفانين الحبر
مطربات غنجات لحن ... رافضات الهم أمال الفكر
مبرزات الكاس من مطلعها ... مُسَقَّيَاتِ الْخَمْرِ مَنْ فَاقَ
الْبَشَرْ
عَضُدُ الدَّوْلَةِ وَابْنُ رُكْنِهَا ... مَالِكُ الْأَمْلَاكِ
غَلَّابُ الْقَدَرْ
[1]
سَهَّلَ الله إليه نصره ... في ملوك الأرض ما دام القمر
وأراه الخير في أولاده ... ولباس الملك فيهم بالغرر
قبحه الله وقبح شعره وقبح أولاده، فإنه قد اجترأ في أبياته هذه فلم
يفلح بعدها، فيقال: إنه حين أنشد قوله غلاب القدر، أخذه الله فأهلكه،
ويقال: إن هذه الأبيات إنما أنشدت بين يديه
__________
[1] بهامش الأصل: كذب القائل في لحنته. وكذا في شعره أيضا كفر.
(11/300)
ثم هلك عقيبها. مات فِي شَوَّالٍ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ سَبْعٍ أَوْ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً،
وَحُمِلَ إِلَى مَشْهَدِ على فدفن فيه، وكان فيه رفض وتشيع، وقد كتب
على قبره في تربته عِنْدَ مَشْهَدِ عَلِيٍّ: هَذَا قَبْرُ عَضُدِ
الدَّوْلَةِ، وَتَاجِ الْمَمْلَكَةِ، أَبِي شُجَاعِ بْنِ رُكْنِ
الدَّوْلَةِ، أَحَبَّ مُجَاوَرَةَ هَذَا الْإِمَامِ الْمُتَّقِي
لِطَمَعِهِ فِي الْخَلَاصِ (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ
نَفْسِها) 16: 111 وَالْحَمْدُ للَّه وَصَلَوَاتُهُ عَلَى مُحَمَّدٍ
وَعِتْرَتِهِ الطَّاهِرَةِ. وَقَدْ تَمَثَّلَ عِنْدَ مَوْتِهِ بِهَذِهِ
الْأَبْيَاتِ وَهِيَ لِلْقَاسِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ:
قَتَلْتُ صَنَادِيدَ الرِّجَالِ فَلَمْ أَدَعْ ... عَدُوًّا وَلَمْ
أُمْهِلْ عَلَى ظَنِّهِ خلقا
وأخليت در الملك من كان باذلا ... فَشَرَّدْتُهُمْ غَرْبًا
وَشَرَّدْتُهُمْ شَرْقَا
فَلَمَّا بَلَغْتُ النَّجْمَ عزا ورفعة ... وصارت رقاب الخلق أجمع لي
رِقَّا
رَمَانِي الرَّدَى سَهْمًا فَأَخْمَدَ جَمْرَتِي ... فَهَا أَنَا ذَا
فِي حُفْرَتِي عَاطِلًا مُلْقَى
فَأَذْهَبْتُ دُنْيَايَ وَدِينِي سَفَاهَةً ... فَمَنْ ذَا الَّذِي
مِنِّي بمصرعه أشقى؟
ثم جعل يكرر هذه الأبيات وهذه الْآيَةَ (مَا أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ
هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ) 69: 28- 29 إلى أن مات. وأجلس ابنه صمصامة
عَلَى الْأَرْضِ وَعَلَيْهِ ثِيَابُ السَّوَادِ، وَجَاءَهُ
الْخَلِيفَةُ معزيا وناح النساء عليه في الأسواق حاسرات عن وجوههن
أياما كثيرة، ولما انقضى العزاء ركب ابنه صَمْصَامَةُ إِلَى دَارِ
الْخِلَافَةِ فَخَلَعَ عَلَيْهِ الْخَلِيفَةُ سبع خلع وطوقه وسوره
وَأَلْبَسَهُ التَّاجَ وَلَقَّبَهُ شَمْسَ الدَّوْلَةِ، وَوَلَّاهُ مَا
كان يتولاه أبوه، وكان يوما مشهودا.
محمد بن جعفر
ابن أَحْمَدَ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ وَهْبٍ أبو بكر
الجريريّ الْمَعْرُوفُ بِزَوْجِ الْحُرَّةِ، سَمِعَ ابْنَ جَرِيرٍ
وَالْبَغَوِيَّ وَابْنَ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرَهُمْ، وَعَنْهُ ابْنُ
رَزْقَوَيْهِ وابن شاهين والبرقاني، وكان أحد العدول الثقات جليل
القدر. وذكر ابن الجوزي والخطيب سَبَبُ تَسْمِيَتِهِ بِزَوْجِ
الْحُرَّةِ أَنَّهُ كَانَ يَدْخُلُ إلى مطبخ أبيه بدار مولاته الَّتِي
كَانَتْ زَوْجَةَ الْمُقْتَدِرِ باللَّه، فَلَمَّا تُوُفِّيَ
الْمُقْتَدِرُ وَبَقِيَتْ هَذِهِ الْمَرْأَةُ سَالِمَةً مِنَ
الْكُتَّابِ والمصادرات وكانت كثيرة الأموال، وكان هذا غلاما شابا حدث
السن يحمل شيئا من حوائج المطبخ عَلَى رَأْسِهِ فَيَدْخُلُ بِهِ إِلَى
مَطْبَخِهَا مَعَ جُمْلَةِ الْخَدَمِ، وَكَانَ شَابًّا رَشِيقًا
حَرِكَا، فَنَفَقَ على القهرمانة حتى جعلته كاتبا على المطبخ، ثم ترقى
إلى أن صار وكيلا للست على ضياعها، ينظر فيها وفي أموالها، ثُمَّ آلَ
بِهِ الْحَالُ حَتَّى صَارَتِ السِّتُّ تحدثه من وراء الحجاب، ثم علقت
بِهِ وَأَحَبَّتْهُ وَسَأَلَتْهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِهَا فَاسْتَصْغَرَ
نَفْسَهُ وَخَافَ مِنْ غَائِلَةِ ذَلِكَ فَشَجَّعَتْهُ هِيَ وأعطته
أموالا كثيرة ليظهر عليه الحشمة والسعادة مما يُنَاسِبُهَا
لِيَتَأَهَّلَ لِذَلِكَ، ثُمَّ شَرَعَتْ تُهَادِي الْقُضَاةَ
وَالْأَكَابِرَ، ثُمَّ عَزَمَتْ عَلَى تَزْوِيجِهِ وَرَضِيَتْ بِهِ
عِنْدَ حُضُورِ الْقُضَاةِ، وَاعْتَرَضَ أَوْلِيَاؤُهَا عَلَيْهَا
فَغَلَبَتْهُمْ بالمكارم وَالْهَدَايَا، وَدَخَلَ عَلَيْهَا فَمَكَثَتْ
مَعَهُ دَهْرًا طَوِيلًا ثم ماتت قبله فورث منها نحو ثَلَاثِمِائَةِ
أَلْفِ دِينَارٍ، وَطَالَ عُمُرُهُ بَعْدَهَا حَتَّى كانت وَفَاتَهُ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ
(11/301)
والله أعلم
ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة
فِيهَا غَلَتِ الْأَسْعَارُ بِبَغْدَادَ حَتَّى بَلَغَ الْكَرُّ مِنَ
الطَّعَامِ إِلَى أَرْبَعَةِ آلَافٍ وَثَمَانِمِائَةٍ، وَمَاتَ كثير من
الناس جوعا، وجافت الطرقات من الموتى من الجوع، ثُمَّ تَسَاهَلَ
الْحَالُ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْهَا، وَجَاءَ الْخَبَرُ بِمَوْتِ
مُؤَيِّدِ الدَّوْلَةِ بْنِ رُكْنِ الدَّوْلَةِ، وَأَنَّ أَبَا
الْقَاسِمِ بْنَ عَبَّادٍ الْوَزِيرَ بَعَثَ إِلَى أَخِيهِ فَخْرِ
الدَّوْلَةِ فَوَلَّاهُ الْمُلْكَ مكانه، فَاسْتَوْزَرَ ابْنَ عَبَّادٍ
أَيْضًا عَلَى مَا كَانَ عليه، وَلَمَّا بَلَغَ الْقَرَامِطَةَ مَوْتُ
عَضُدِ الدَّوْلَةِ قَصَدُوا البصرة فيأخذوها مَعَ الْكُوفَةِ فَلَمْ
يَتِمَّ لَهُمْ ذَلِكَ، وَلَكِنْ صولحوا على مال كثير فأخذوه وانصرفوا.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
بُوَيْهِ مُؤَيِّدُ الدولة بن ركن الدولة، وكان مَلِكًا عَلَى بَعْضِ
مَا كَانَ أَبُوهُ يَمْلِكُهُ، وَكَانَ الصَّاحِبُ أَبُو الْقَاسِمِ
بْنُ عَبَّادٍ وَزِيرَهُ، وقد تزوج مؤيد الدولة هذا ابنة عَمِّهِ
مُعِزِّ الدَّوْلَةِ، فَغَرِمَ عَلَى عُرْسِهِ سَبْعَمِائَةِ أَلْفِ
دِينَارٍ، وَهَذَا سَرَفٌ عَظِيمٌ.
بُلُكِّينُ بْنُ زيري بن منادى
الحمدى الصِّنْهَاجِيُّ، وَيُسَمَّى أَيْضًا يُوسُفَ، وَكَانَ مِنْ
أَكَابِرِ أمراء المعز الفاطمي، وَقَدِ اسْتَخْلَفَهُ عَلَى بِلَادِ
إِفْرِيقِيَّةَ حِينَ سَارَ إِلَى الْقَاهِرَةِ، وَكَانَ حَسَنَ
السِّيرَةِ، لَهُ أَرْبَعُمِائَةِ حظية، وقد بشّر في ليلة واحدة بتسعة
عَشَرَ وَلَدًا، وَهُوَ جَدُّ بَادِيسَ الْمَغْرِبِيِّ.
سَعِيدُ بْنُ سَلَّامٍ
أَبُو عُثْمَانَ الْمَغْرِبِيُّ، أَصْلُهُ مِنْ بِلَادِ
الْقَيْرَوَانِ، وَدَخَلَ الشَّامَ وَصَحِبَ أَبَا الْخَيْرِ
الْأَقْطَعَ، وَجَاوَرَ بِمَكَّةَ مُدَّةَ سِنِينَ، وَكَانَ لَا
يَظْهَرُ فِي الْمَوَاسِمِ، وَكَانَتْ لَهُ كَرَامَاتٌ، وَقَدْ أَثْنَى
عَلَيْهِ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ، وَرُوِيَ لَهُ
أَحْوَالٌ صَالِحَةٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
عَبْدُ الله بن محمد
ابن عبد الله بن عثمان بن المختار بن محمد المري الْوَاسِطِيُّ،
يُعْرَفُ بِابْنِ السَّقَّا، سَمِعَ عَبْدَانَ وَأَبَا يَعْلَى
الْمَوْصِلِيَّ وَابْنَ أَبِي دَاوُدَ وَالْبَغَوِيَّ، وَكَانَ فَهِمًا
حَافِظًا، دَخَلَ بَغْدَادَ فَحَدَّثَ بِهَا مَجَالِسَ كثيرة من حفظه،
وكان يحضره الدار قطنى وَغَيْرُهُ مِنَ الْحُفَّاظِ فَلَمْ يُنْكِرُوا
عَلَيْهِ شَيْئًا، غَيْرَ أَنَّهُ حَدَّثَ مَرَّةً عَنْ أَبِي يَعْلَى
بِحَدِيثٍ أَنْكَرُوهُ عَلَيْهِ ثُمَّ وَجَدُوهُ فِي أَصْلِهِ بخط
الضبيّ، كما حدث به، فبرئ من عهدته.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا جرى الصلح بين صمصامة وبين عمه فخر الدولة، فأرسل الخليفة لفخر
الدولة خلعا وَتُحَفًا.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِي رَجَبٍ مِنْهَا عمل عرس في درب رياح
فَسَقَطَتِ الدَّارُ عَلَى مَنْ فِيهَا فَهَلَكَ أَكْثَرُ النِّسَاءِ
بِهَا، وَنُبِشَ مِنْ تَحْتِ الرَّدْمِ فَكَانَتِ الْمُصِيبَةُ
عَامَّةً.
وَفِيهَا كَانَتْ وَفَاةٌ.
(11/302)
الحافظ أبى الفتح
محمد بن الحسن
ابن أَحْمَدَ بْنِ الْحُسَيْنِ الْأَزْدِيُّ الْمَوْصِلِيُّ
الْمُصَنَّفُ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ
مِنْ أَبِي يعلى وطبقته، وضعفه كثير من الحفاظ من أهل زَمَانِهِ،
وَاتَّهَمَهُ بَعْضُهُمْ بِوَضْعِ حَدِيثٍ رَوَاهُ لِابْنِ بُوَيْهِ،
حِينَ قَدِمَ عَلَيْهِ بَغْدَادَ، فَسَاقَهُ بِإِسْنَادٍ إِلَيَّ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنْ جِبْرِيلَ كَانَ
يَنْزِلُ عَلَيْهِ فِي مِثْلِ صُورَةِ ذَلِكَ الْأَمِيرِ» .
فَأَجَازَهُ وَأَعْطَاهُ دَرَاهِمَ كَثِيرَةً. وَالْعَجَبُ إِنْ كان
هذا صحيحا كيف راج عَلَى أَحَدٍ مِمَّنْ لَهُ أَدْنَى فَهْمٍ وَعَقْلٍ،
وَقَدْ أَرَّخَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَفَاتَهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ،
وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ تُوُفِّيَ سَنَةَ تِسْعٍ وستين.
وفيها توفى
الخطيب ابن نباتة الحذاء
في بطن من قضاعة، وقيل إياد الفارقيّ خطيب حلب في أَيَّامَ سَيْفِ
الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ، وَلِهَذَا أَكْثَرُ دِيوَانِهِ الْخُطَبُ
الْجِهَادِيَّةُ، وَلَمْ يُسْبَقْ إِلَى مَثَلِ ديوانه هذا، ولا يلحق
إلا أن يشاء الله شيئا، لأنه كان فصيحا بليغا دَيِّنًا وَرِعًا، رَوَى
الشَّيْخُ تَاجُ الدِّينِ الْكِنْدِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ خَطَبَ يَوْمَ
جُمُعَةٍ بِخُطْبَةِ الْمَنَامِ ثُمَّ رَأَى لَيْلَةَ السَّبْتِ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ
أَصْحَابِهِ بَيْنَ الْمَقَابِرِ، فَلَمَّا أَقْبَلَ عَلَيْهِ قَالَ
لَهُ: مرحبا بخطيب الخطباء، ثم أومأ إلى قبور هناك فقال لابن نباتة:
كَأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا لِلْعُيُونِ قُرَّةً، وَلَمْ يُعَدُّوا في
الأحياء مرّة، أبادهم الّذي خلقهم، وأسكنتهم الّذي أنطقهم، وسيجدّهم
كما أخلقهم، ويجمعهم كما فرقهم، فتم الْكَلَامَ ابْنُ نُبَاتَةَ حَتَّى
انْتَهَى إِلَى قَوْلِهِ (يوم تَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ 22:
78- وأشار إلى الصحابة الذين مع الرسول- وَيَكُونَ الرَّسُولُ
عَلَيْكُمْ شَهِيداً) 2: 143 وَأَشَارَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ: أَحْسَنْتَ أحسنت أدنه أدنه،
فقبّل وَجْهَهُ وَتَفَلَ فِي فِيهِ- وَقَالَ: وَفَّقَكَ اللَّهُ.
فَاسْتَيْقَظَ وَبِهِ مِنَ السُّرُورِ أَمْرٌ كَبِيرٌ، وَعَلَى وجهه
بهاء ونور، ولم يعش بعد ذلك إلا سبعة عشر يوما لم يستطعم بطعام، وكان
يوجد منه مِثْلُ رَائِحَةِ الْمِسْكِ حَتَّى مَاتَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
قَالَ ابْنُ الْأَزْرَقِ الْفَارِقِيُّ: وُلِدَ ابْنُ نُبَاتَةَ فِي
سَنَةِ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَتُوُفِّيَ فِي سنة
أربع وسبعين وثلاثمائة. حَكَاهُ ابْنُ خَلِّكَانَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وسبعين وثلاثمائة
فيها خلع الخليفة على صمصامة الدَّوْلَةِ وَسَوَّرَهُ وَطَوَّقَهُ
وَأُرْكِبَ عَلَى فَرَسٍ بِسَرْجٍ ذَهَبٍ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ جَنِيبٌ
مِثْلُهُ، وَفِيهَا وَرَدَ الْخَبَرُ بِأَنَّ اثْنَيْنِ مِنْ سَادَةِ
الْقَرَامِطَةِ وَهُمَا إسحاق وجعفر، دخلا الكوفة في حفل عظيم فانزعجت
النفوس بسبب ذلك، وذلك لصرامتهما وشجاعتهما، ولأن عضد الدولة مع شجاعته
كان يصانعهما، وأقطعهما أراضى من أراضى وَاسِطٍ، وَكَذَلِكَ عِزُّ
الدَّوْلَةِ مِنْ قَبْلِهِ أَيْضًا. فجهز إليهما صمصامة جيشا فطردهما
عَنْ تِلْكَ النَّوَاحِي الَّتِي قَدْ أَكْثَرُوا فِيهَا الفساد، وبطل
ما كان في نفوس الناس منهما. وفيها عزم صمصامة الدَّوْلَةِ عَلَى أَنْ
يَضَعَ مَكْسًا عَلَى الثِّيَابِ الابريسميات، فاجتمع الناس بجامع
المنصور وأرادوا تعطيل الْجُمُعَةِ وَكَادَتِ الْفِتْنَةُ تَقَعُ
بَيْنَهُمْ فَأُعْفُوا مِنْ ذلك.
(11/303)
وفي ذي الحجة ورد الخبر بموت مؤيد الدولة
فجلس صمصامة للعزاء، وجاء إليه الخليفة معزيا له فقام إليه صمصامة
وَقَبَّلَ الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَخَاطَبَا فِي الْعَزَاءِ
بألفاظ حسنة.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ
الشَّيْخُ.
أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هريرة
واسمه الحسن بن الحسين، وهو أَحَدُ مَشَايِخِ الشَّافِعِيَّةِ، وَلَهُ
اخْتِيَارَاتٌ كَثِيرَةٌ غَرِيبَةٌ في المذهب وقد ترجمناه في طبقات
الشافعية.
الحسين بن على
ابن مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى أَبُو أَحْمَدَ النَّيْسَابُورِيُّ
الْمَعْرُوفُ بحسنك، كَانَتْ تَرْبِيَتُهُ عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ
وَتِلْمِيذًا لَهُ، وكان يقدمه على أولاده ويقر له ما لا يقر
لِغَيْرِهِ، وَإِذَا تَخَلَّفَ ابْنُ خُزَيْمَةَ عَنْ مَجَالِسِ
السلطان بعث حسنك مَكَانَهُ. وَلَمَّا تُوُفِّيَ ابْنُ خُزَيْمَةَ
كَانَ عُمُرُ حسنك ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، ثُمَّ عَمَّرَ
بَعْدَهُ دَهْرًا طَوِيلًا، وَكَانَ مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ عِبَادَةً
وَقِرَاءَةً للقرآن، لا يترك قيام الليل حضرا ولا سفرا، كثيرا الصدقات
وَالصِّلَاتِ، وَكَانَ يَحْكِي وُضُوءَ ابْنِ خُزَيْمَةَ وَصَلَاتَهُ،
ولم يكن فِي الْأَغْنِيَاءِ أَحْسَنُ صَلَاةً مِنْهُ رَحِمَهُ اللَّهُ،
وَصَلَّى عَلَيْهِ الْحَافِظُ أَبُو أَحْمَدَ النَّيْسَابُورِيُّ.
أَبُو الْقَاسِمِ الدَّارَكِيُّ
عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَبُو
الْقَاسِمِ الدَّارَكِيُّ أَحَدُ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ فِي
زَمَانِهِ، نَزَلَ نَيْسَابُورَ ثُمَّ سَكَنَ بَغْدَادَ إِلَى أَنْ
مَاتَ بِهَا، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ: مَا
رَأَيْتُ أَفْقَهَ مِنْهُ. وَحَكَى الْخَطِيبُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ
يُسْأَلُ عَنِ الْفَتْوَى فَيُجِيبُ بَعْدَ تَفَكُّرٍ طَوِيلٍ،
فَرُبَّمَا كَانَتْ فَتْوَاهُ مُخَالِفَةً لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ
وَأَبِي حَنِيفَةَ فَيُقَالُ لَهُ فِي ذَلِكَ فَيَقُولُ: وَيَلَكُمُ
رَوَى فَلَانٌ عَنْ فُلَانٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَا وَكَذَا، فَالْأَخْذُ بِهِ أَوْلَى من الأخذ
بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَمُخَالَفَتُهُمَا
أَسْهَلُ مِنْ مخالفة الحديث. قال ابْنُ خَلِّكَانَ:
وَلَهُ فِي الْمَذْهَبِ وُجُوهٌ جَيِّدَةٌ دَالَّةٌ عَلَى مَتَانَةِ
عِلْمِهِ، وَكَانَ يُتَّهَمُ بِالِاعْتِزَالِ، وكان قد أخذ العلم عَنِ
الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَالْحَدِيثَ عَنْ جَدِّهِ
لِأُمِّهِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الدَّارَكِيِّ، وَهُوَ أَحَدُ
مَشَايِخِ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ، وَأَخَذَ عَنْهُ
عَامَّةُ شُيُوخِ بَغْدَادَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْآفَاقِ،
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي شَوَّالٍ، وَقِيلَ فِي ذِي القعدة منها، وقد
نيف على السبعين رَحِمَهُ اللَّهُ.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَسْنَوَيْهِ
أَبُو سَهْلٍ النَّيْسَابُورِيُّ، وَيُعْرَفُ بِالْحَسْنَوِيِّ، كَانَ
فَقِيهًا شافعيا أديبا محدثا مشتغلا بنفسه عمالا يعنيه
مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ
أَبُو بَكْرٍ الْفَقِيهُ الْمَالِكِيُّ، سَمِعَ مِنِ ابن أبى عمرويه
وَالْبَاغَنْدِيِّ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِمْ،
وَعَنْهُ الْبَرْقَانِيُّ، وَلَهُ تَصَانِيفُ فِي شَرْحِ مَذْهَبِ
مَالِكٍ، وَانْتَهَتْ إِلَيْهِ رِيَاسَةُ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَعُرِضَ
عليه
(11/304)
الْقَضَاءُ فَأَبَاهُ وَأَشَارَ بِأَبِي
بَكْرٍ الرَّازِيِّ الْحَنَفِيِّ، فلم يقبل الآخر أيضا. توفى فِي
شَوَّالٍ مِنْهَا عَنْ سِتٍّ وَثَمَانِينَ سَنَةً رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وسبعين وثلاثمائة
قال ابن الجوزي: في محرمها كثرت الحيات في بغداد فهلك بسبب ذلك خَلْقٌ
كَثِيرٌ. وَلِسَبْعٍ خَلَوْنَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ- وكان يوم
العشرين مِنْ تَمُّوزَ- وَقَعَ مَطَرٌ كَثِيرٌ بِبَرْقٍ وَرَعْدٍ. وفي
رجب غلت الأسعار جدا وَوَرَدَ الْخَبَرُ فِيهِ بِأَنَّهُ وَقَعَ
بِالْمَوْصِلِ زَلْزَلَةٌ عظيمة سقط بسببها عُمْرَانٌ كَثِيرٌ، وَمَاتَ
مِنْ أَهْلِهَا أُمَّةٌ عَظِيمَةٌ. وَفِيهَا وَقَعَ بَيْنَ صَمْصَامِ
الدَّوْلَةِ وَبَيْنَ أَخِيهِ شرف الدولة فاقتتلا فغلبه شرف الدولة
وَدَخَلَ بَغْدَادَ فَتَلَقَّاهُ الْخَلِيفَةُ وَهَنَّأَهُ
بِالسَّلَامَةِ، ثُمَّ اسْتَدْعَى شَرَفُ الدَّوْلَةِ بِفَرَّاشٍ
لِيُكَحِّلَ صَمْصَامَ الدَّوْلَةِ فاتفق موته فأكحله بَعْدَ مَوْتِهِ،
وَهَذَا مِنْ غَرِيبِ مَا وَقَعَ. وفي ذي الحجة منها قبل قاضى القضاة
أبو محمد ابن معروف شهادة القاضي الحافظ أبى الحسن الدار قطنى، وأبى
محمد بن عقبة، فذكر أن الدار قطنى ندم على ذلك وقال: كان ويقبل قَوْلِي
عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْدِي
فَصَارَ لَا يُقْبَلُ قَوْلِي عَلَى نقلي إلا مع غيري.
ثم دخلت سنة سبع وسبعين وثلاثمائة
في صفرها عُقِدَ مَجْلِسٌ بِحَضْرَةِ الْخَلِيفَةِ فِيهِ الْقُضَاةُ
وَأَعْيَانُ الدولة وجددت البيعة بين الطائع وَبَيْنَ شَرَفِ
الدَّوْلَةِ بْنِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ وَكَانَ يوما مشهودا، ثم في
ربيعها الأول ركب شرف الدولة من داره إلى دار الخليفة وزينت البلد
وضربت البوقات والطبول والدبادب، فخلع عليه الخليفة وسوره وأعطاه
لواءين معه، وَعَقَدَ لَهُ عَلَى مَا وَرَاءَ دَارِهِ، وَاسْتَخْلَفَهُ
عَلَى ذَلِكَ، وَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَنْ قَدِمَ مَعَ شَرَفِ
الدَّوْلَةِ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ
بْنِ مَعْرُوفٍ، فَلَمَّا رَآهُ الخليفة قال:
مرحبا بالأحبة القادمينا ... أو حشونا وطال ما آنَسُونَا
فَقَبَّلَ الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيِ الْخَلِيفَةِ، وَلَمَّا قضيت البيعة
دخل شرف الدولة على أُخْتِهِ امْرَأَةِ الْخَلِيفَةِ فَمَكَثَ
عِنْدَهَا إِلَى الْعَصْرِ وَالنَّاسُ يَنْتَظِرُونَهُ، ثُمَّ خَرَجَ
وَسَارَ إِلَى دَارِهِ للتهنئة. وفيها اشْتَدَّ الْغَلَاءُ جِدًّا
ثُمَّ لَحِقَهُ فَنَاءٌ كَثِيرٌ. وَفِيهَا تُوُفِّيَتْ أُمُّ شَرَفِ
الدَّوْلَةِ- وَكَانَتْ تُرْكِيَّةً أم ولد- فجاءه الخليفة فعزاه.
وفيها ولد لشرف الدولة ابنان توأمان.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ
أَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَزِيُّ، وَيُعْرَفُ بِابْنِ الطَّبَرِيِّ، كَانَ
حَافِظًا لِلْحَدِيثِ مُجْتَهِدًا فِي العبادة، متقنا بصيرا بالأثر،
فقيها حنفيا درس على أبى الحسين الْكَرْخِيِّ وَصَنَّفَ كُتُبًا فِي
الْفِقْهِ وَالتَّارِيخِ، وَوَلِيَ قَضَاءَ الْقُضَاةِ بِخُرَاسَانَ،
ثُمَّ دَخَلَ بَغْدَادَ وَقَدْ عَلَتْ سِنُّهُ، فَحَدَّثَ النَّاسَ
وَكَتَبَ النَّاسُ عَنْهُ، منهم الدار قطنى.
(11/305)
إسحاق بن المقتدر باللَّه
توفى ليلة الجمعة لسبع عشر مِنْ ذِي الْحِجَّةِ عَنْ سِتِّينَ سَنَةً،
وَصَلَّى عَلَيْهِ ابْنُهُ الْقَادِرُ باللَّه وَهُوَ إِذْ ذَاكَ أمير
المؤمنين، وَدُفِنَ فِي تُرْبَةِ جَدَّتِهِ شَغَبَ أُمِّ
الْمُقْتَدِرِ، وحضر جنازته الأمراء والأعيان من جهة الخليفة وشرف
الدَّوْلَةِ، وَأَرْسَلَ شَرَفُ الدَّوْلَةِ مَنْ عَزَّى الْخَلِيفَةَ
فيه، واعتذر من الْحُضُورِ لِوَجَعٍ حَصَلَ لَهُ
جَعْفَرُ بْنُ الْمُكْتَفِي باللَّه
كان فاضلا توفى فيها أيضا.
أبو على الفارسي النحويّ
صاحب الإيضاح والمصنفات الكثيرة، وُلِدَ بِبَلَدِهِ ثُمَّ دَخَلَ
بَغْدَادَ وَخَدَمَ الْمُلُوكَ وَحَظِيَ عِنْدَ عَضُدِ الدَّوْلَةِ
بِحَيْثُ إِنَّ عَضُدَ الدَّوْلَةِ كَانَ يَقُولُ أَنَا غُلَامُ أَبِي
عَلِيٍّ في النحو، وحصلت لَهُ الْأَمْوَالَ، وَقَدِ اتَّهَمَهُ قَوْمٌ
بِالِاعْتِزَالِ وَفَضَّلَهُ قَوْمٌ مِنْ أَصْحَابِهِ عَلَى
الْمُبَرِّدِ، وَمِمَّنْ أَخَذَ عنه أبو عثمان بن جنى وغيره، توفى فيها
عن بضع وتسعين سنة.
سُتَيْتَةُ
بِنْتُ الْقَاضِي أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنِ بن إسماعيل
المحاملي، وتكنى أم عبد الْوَاحِدِ، قَرَأَتِ الْقُرْآنَ وَحَفِظَتِ
الْفِقْهَ وَالْفَرَائِضَ وَالْحِسَابَ والدرر وَالنَّحْوَ وَغَيْرَ
ذَلِكَ، وَكَانَتْ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ فِي وَقْتِهَا بِمَذْهَبِ
الشَّافِعِيِّ، وَكَانَتْ تُفْتِي بِهِ مَعَ الشَّيْخِ أَبِي عَلِيٍّ
بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَكَانَتْ فَاضِلَةً فِي نَفْسِهَا كَثِيرَةَ
الصَّدَقَةِ، مُسَارِعَةً إلى فعل الخيرات، وقد سمعت الحديث أيضا،
وكانت وفاتها في رجب عن بضع وتسعين سنة. |