البداية والنهاية، ط. دار الفكر
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثمان وتسعين
وثلاثمائة
فِيهَا غَزَا يَمِينُ الدَّوْلَةِ مَحْمُودُ بْنُ سُبُكْتِكِينَ
بِلَادَ الْهِنْدِ، فَفَتَحَ حُصُونًا كَثِيرَةً، وَأَخَذَ أَمْوَالًا
جَزِيلَةً وَجَوَاهِرَ نَفِيسَةً، وَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَا وَجَدَ
بَيْتٌ طُولُهُ ثَلَاثُونَ ذِرَاعًا وَعَرْضُهُ خَمْسَةَ عشر ذراعا
مملوء فِضَّةً، وَلَمَّا رَجَعَ إِلَى غَزْنَةَ بَسَطَ هَذِهِ الأموال
كُلَّهَا فِي صَحْنِ دَارِهِ وَأَذِنَ لِرُسُلِ الْمَلِكِ فَدَخَلُوا
عَلَيْهِ فَرَأَوْا مَا بَهَرَهُمْ وَهَالَهُمْ. وَفِي يَوْمِ
الْأَرْبِعَاءِ الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ وَقَعَ
بِبَغْدَادَ ثَلْجٌ عَظِيمٌ، بِحَيْثُ بَقِيَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ
ذِرَاعًا وَنِصْفًا، وَمَكَثَ أُسْبُوعًا لَمْ يَذُبْ، وَبَلَغَ
سُقُوطُهُ إِلَى تِكْرِيتَ وَالْكُوفَةِ وَعَبَّادَانَ والنهروان. وفي
هذا الشهر كثرت العملات جهرة وخفية، حَتَّى مِنَ الْمَسَاجِدِ
وَالْمَشَاهِدِ ثُمَّ ظَفِرَ أَصْحَابُ الشرطة بكثير منهم فقطعوا
أيديهم وكحلوهم.
قصة مصحف ابن مسعود وتحريقه
«على فتيا الشيخ أبى حامد الأسفراييني فيما ذكره ابن الجوزي في منتظمه»
وفي عاشر رجب جرت فتنة بين السنة والرافضة، سَبَبُهَا أَنَّ بَعْضَ
الْهَاشِمِيِّينَ قَصَدَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدَ بْنَ
النُّعْمَانِ الْمَعْرُوفَ بِابْنِ الْمُعَلِّمِ- وكان فقيه الشيعة- في
مسجده بدرب رباح، فَعَرَضَ لَهُ بِالسَّبِّ فَثَارَ أَصْحَابُهُ لَهُ
وَاسْتَنْفَرَ أَصْحَابَ الْكَرْخِ وَصَارُوا إِلَى دَارِ الْقَاضِي
أَبِي محمد الْأَكْفَانِيِّ وَالشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ
الْإِسْفَرَايِينِيِّ،
(11/338)
وجرت فتنة عظيمة طَوِيلَةٌ، وَأَحْضَرَتِ
الشِّيعَةُ مُصْحَفًا ذَكَرُوا أَنَّهُ مُصْحَفُ عبد الله بن مسعود،
وهو مخالف للمصاحف كُلَّهَا، فَجُمِعَ الْأَشْرَافُ وَالْقُضَاةُ
وَالْفُقَهَاءُ فِي يَوْمِ جمعة لِلَّيْلَةٍ بَقِيَتْ مِنْ رَجَبٍ،
وَعُرِضَ الْمُصْحَفُ عَلَيْهِمْ فَأَشَارَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ
الْإِسْفَرَايِينِيُّ وَالْفُقَهَاءُ بِتَحْرِيقِهِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ
بِمَحْضَرٍ مِنْهُمْ، فَغَضِبَ الشِّيعَةُ مِنْ ذَلِكَ غَضَبًا
شَدِيدًا، وَجَعَلُوا يَدْعُونَ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ
عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَيَسُبُّونَهُ، وَقَصَدَ جَمَاعَةٌ مِنْ
أَحْدَاثِهِمْ دَارَ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ لِيُؤْذُوهُ فَانْتَقَلَ
مِنْهَا إِلَى دَارِ الْقُطْنِ، وَصَاحُوا يَا حَاكِمُ يَا مَنْصُورُ،
وَبَلَغَ ذَلِكَ الْخَلِيفَةَ فَغَضِبَ وَبَعَثَ أَعْوَانَهُ
لِنُصْرَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ، فَحُرِّقَتْ دُورٌ كَثِيرَةٌ مِنْ دُورِ
الشِّيعَةِ، وَجَرَتْ خُطُوبٌ شَدِيدَةٌ، وَبَعَثَ عَمِيدَ الْجُيُوشِ
إِلَى بَغْدَادَ لينفى عنها ابن المعلم فقيه الشيعة، فَأُخْرِجَ
مِنْهَا ثُمَّ شُفِعَ فِيهِ، وَمُنِعَتِ الْقُصَّاصُ من التعرض للذكر
والسؤال باسم الشيخين، وعلى رضى الله عنهم، وَعَادَ الشَّيْخُ أَبُو
حَامِدٍ إِلَى دَارِهِ عَلَى عادته. وفي شعبان منها زلزلت الدينور
زلزالا شديدا، وسقطت منها دور كثيرة، وَهَلَكَ لِلنَّاسِ شَيْءٌ
كَثِيرٌ مِنَ الْأَثَاثِ وَالْأَمْتِعَةِ، وهبت ريح سوداء بدقوقى
وتكريت وشيراز، فأتلفت كَثِيرًا مِنَ الْمَنَازِلِ وَالنَّخِيلِ
وَالزَّيْتُونِ، وَقَتَلَتْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَسَقَطَ بَعْضُ
شِيرَازَ وَوَقَعَتْ رَجْفَةٌ بِشِيرَازَ غَرِقَ بِسَبَبِهَا مَرَاكِبُ
كَثِيرَةٌ فِي الْبَحْرِ. وَوَقَعَ بِوَاسِطٍ بَرَدٌ زِنَةُ
الْوَاحِدَةِ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَسِتَّةُ دَرَاهِمَ، وَوَقَعَ
بِبَغْدَادَ فِي رَمَضَانَ- وَذَلِكَ فِي أَيَّارَ- مَطَرٌ عَظِيمٌ
سَالَتْ مِنْهُ الْمَزَارِيبُ.
ذِكْرُ تَخْرِيبِ قُمَامَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
وَفِيهَا أَمَرَ الحاكم بتخريب قمامة وهي كنيسة النصارى ببيت المقدس،
وأباح للعامة ما فِيهَا مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَمْتِعَةِ وَغَيْرِ
ذَلِكَ، وَكَانَ سبب ذلك الْبُهْتَانِ الَّذِي يَتَعَاطَاهُ
النَّصَارَى فِي يَوْمِ الْفُصْحِ من النار التي يحتالون بها، وهي التي
يوهمون جَهَلَتِهِمْ أَنَّهَا نَزَلَتْ مِنَ السَّمَاءِ، وَإِنَّمَا
هِيَ مصنوعة بدهن البلسان في خيوط الإبريسم، والرقاع الْمَدْهُونَةِ
بِالْكِبْرِيتِ وَغَيْرِهِ، بِالصَّنْعَةِ اللَّطِيفَةِ الَّتِي
تَرُوجُ عَلَى الطَّغَامِ مِنْهُمْ وَالْعَوَامِّ، وَهُمْ إِلَى الْآنِ
يستعملونها في ذلك المكان بعينه. وكذلك هدم في هذه السنة عدة كنائس
ببلاد مصر، ونودي في النصارى: مَنْ أَحَبَّ الدُّخُولَ فِي دِينِ
الْإِسْلَامِ دَخَلَ وَمَنْ لَا يَدْخُلْ فَلْيَرْجِعْ إِلَى بِلَادِ
الرُّومِ آمِنًا، وَمَنْ أَقَامَ مِنْهُمْ عَلَى دِينِهِ
فَلْيَلْتَزِمْ بما شرط عليهم من الشروط التي زادها الحاكم عَلَى
الْعُمَرِيَّةِ، مِنْ تَعْلِيقِ الصُّلْبَانِ عَلَى صُدُورِهِمْ، وأن
يكون الصليب من خشب زنته أَرْبَعَةُ أَرْطَالٍ، وَعَلَى الْيَهُودِ
تَعْلِيقُ رَأْسِ الْعِجْلِ زِنَتُهُ سِتَّةُ أَرْطَالٍ. وَفِي
الْحَمَّامِ يَكُونُ فِي عُنُقِ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ قِرْبَةٌ زِنَةُ
خَمْسَةِ أَرْطَالٍ، بأجراس، وَأَنْ لَا يَرْكَبُوا خَيْلًا. ثُمَّ
بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ أَمَرَ بِإِعَادَةِ بِنَاءِ الْكَنَائِسِ الَّتِي
هَدَمَهَا وَأَذِنَ لِمَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ فِي الِارْتِدَادِ إِلَى
دِينِهِ. وَقَالَ نُنَزِّهُ مَسَاجِدَنَا أَنْ يَدْخُلَهَا مَنْ لا نية
له، ولا يعرف باطنه، قبحه الله.
(11/339)
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ
الْأَعْيَانِ
أَبُو مُحَمَّدٍ الباجي
سبق ذكره، اسمه عبد الله بن محمد الباجي البخاري الخوارزمي، أحد أئمة
الشافعية، تَفَقَّهَ عَلَى أَبِي الْقَاسِمِ الدَّارَكِيِّ وَدَرَّسَ
مَكَانَهُ، وَلَهُ مَعْرِفَةٌ جَيِّدَةٌ بِالْأَدَبِ وَالْفَصَاحَةِ
وَالشِّعْرِ، جَاءَ مرة ليزور بعض أصحابه فلم يجده في المنزل فكتب هذه
الأبيات:
قد حضرنا وليس نقضي التَّلَاقِي ... نَسْأَلُ اللَّهَ خَيْرَ هَذَا
الْفِرَاقِ
إِنْ تغب لم أغب وإن لم تغب ... غبت كأن افتراقنا باتفاق
توفى فِي مُحَرَّمِ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَرْجَمَتَهُ
في طبقات الشافعية.
عبد الله بن أحمد
ابن على بن الحسين، أبو القاسم الْمَعْرُوفُ بِالصَّيْدَلَانِيِّ،
وَهُوَ آخِرُ مَنْ حَدَّثَ عَنِ ابْنِ صَاعِدٍ مِنَ الثِّقَاتِ،
وَرَوَى عَنْهُ الْأَزْهَرِيُّ، وَكَانَ ثِقَةً مَأْمُونًا صَالِحًا.
تُوُفِّيَ فِي رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ جَاوَزَ التسعين
الببغاء الشاعر
عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ نَصْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، أَبُو الفرج المخزومي،
الْمُلَقَّبُ بِالْبَبَّغَاءِ، تُوُفِّيَ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ
السنة، وكان أديبا فاضلا مترسلا شاعرا مطبقا، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
يَا مَنْ تَشَابَهَ مِنْهُ الْخَلْقُ وَالْخَلْقُ ... فَمَا تُسَافِرُ
إِلَّا نَحْوَهُ الْحَدَقُ
فورد دَمْعِي مَنْ خَدَّيْكَ مُخْتَلَسٌ ... وَسُقْمُ جِسْمِي مِنْ
جَفْنَيْكَ مُسْتَرَقُ
لَمْ يَبْقَ لِي رَمَقٌ أَشْكُو هَوَاكَ بِهِ ... وَإِنَّمَا
يَتَشَكَّى مَنْ بِهِ رَمَقُ
مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْجُرْجَانِيُّ، أَحَدُ الْعُلَمَاءِ
الزُّهَّادِ الْعُبَّادِ، الْمُنَاظِرِينَ لِأَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ،
وَكَانَ يُدَرِّسُ فِي قَطِيعَةِ الرَّبِيعِ، وَقَدْ فُلِجَ فِي آخِرِ
عُمُرِهِ، وَحِينَ مَاتَ دُفِنَ مع أبى حنيفة.
بديع الزمان
صاحب المقامات، أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ.
أَبُو الْفَضْلِ الْهَمَذَانِيُّ، الْحَافِظُ الْمَعْرُوفُ بِبَدِيعِ
الزَّمَانِ، صَاحِبُ الرَّسَائِلِ الرَّائِقَةِ، وَالْمَقَامَاتِ
الْفَائِقَةِ، وَعَلَى مِنْوَالِهِ نَسَجَ الْحَرِيرِيُّ، وَاقْتَفَى
أَثَرَهُ وَشَكَرَ تَقَدُّمَهُ، وَاعْتَرَفَ بفضله، وقد كان أَخَذَ
اللُّغَةَ عَنِ ابْنِ فَارِسٍ، ثُمَّ بَرَزَ، وكان أحد الفضلاء
الفصحاء، ويقال إنه سم وأخذه سَكْتَةٌ، فَدُفِنَ سَرِيعًا. ثُمَّ عَاشَ
فِي قَبْرِهِ وَسَمِعُوا صُرَاخَهُ فَنَبَشُوا عَنْهُ فَإِذَا هُوَ
قَدْ مَاتَ وَهُوَ آخِذٌ عَلَى لِحْيَتِهِ مِنْ هَوْلِ الْقَبْرِ،
وَذَلِكَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ جُمَادَى
الْآخِرَةِ مِنْهَا، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
(11/340)
ثم دخلت سنة تسع
وتسعين وثلاثمائة
فيها قتل عَلِيِّ بْنُ ثُمَالٍ نَائِبُ الرَّحْبَةِ مِنْ طَرَفِ
الْحَاكِمِ الْعُبَيْدِيِّ، قَتَلَهُ عِيسَى بْنُ خَلَّاطٍ
الْعُقَيْلِيُّ، وَمَلَكَهَا، فَأَخْرَجَهُ مِنْهَا عَبَّاسُ بْنُ
مِرْدَاسٍ صَاحِبُ حَلَبَ وَمَلَكَهَا، وَفِيهَا صُرِفَ عَمْرُو بْنُ
عَبْدِ الْوَاحِدِ عَنْ قَضَاءِ الْبَصْرَةِ وَوَلِيَهُ أَبُو
الْحَسَنِ بْنُ أَبِي الشَّوَارِبِ، فَذَهَبَ النَّاسُ يُهَنُّونَ
هَذَا وَيُعَزُّونَ هَذَا، فَقَالَ فِي ذَلِكَ الْعُصْفُرِيُّ:
عِنْدِي حديث ظريف ... بِمِثْلِهِ يَتَغَنَّى
مِنْ قَاضِيَيْنِ يُعَزَّى ... هَذَا وَهَذَا يهنأ
فذا يقول أكرهونى ... وذا يقول استرحنا
ويكذبان جميعا ... ومن يُصَدَّقُ مِنَّا
وَفِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عصفت ريح شديدة فألقت وحلا
أَحْمَرَ فِي طُرُقَاتِ بَغْدَادَ. وَفِيهَا هَبَّتْ عَلَى الْحُجَّاجِ
رِيحٌ سَوْدَاءُ مُظْلِمَةٌ وَاعْتَرَضَهُمُ الْأَعْرَابُ فَصَدُّوهُمْ
عن السبيل، واعتاقوهم حتى فاتهم الحج فَرَجَعُوا، وَأَخَذَتْ بَنُو
هِلَالٍ طَائِفَةً مِنْ حُجَّاجِ الْبَصْرَةِ نَحْوًا مِنْ
سِتِّمِائَةِ وَاحِدٍ، وَأَخَذُوا مِنْهُمْ نحوا من ألف ألف دينار،
وكانت الخطبة فيها للمصريين.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ
أَبُو أحمد الطبراني، سمع بمكة وبغداد وغيرهما من البلاد، وكان مكرما،
سمع منه الدار قطنى وَعَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدٍ ثُمَّ أَقَامَ
بِالشَّامِ بِالْقُرْبِ مِنْ جَبَلٍ عِنْدَ بَانْيَاسَ يَعْبُدُ
اللَّهَ تَعَالَى إِلَى أَنْ مَاتَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ منها.
محمد بن على بن الحسن
أبو مسلم كاتب الوزير بن خنزابة، رَوَى عَنِ الْبَغَوِيِّ وَابْنِ
صَاعِدٍ وَابْنِ دُرَيْدٍ وَابْنِ أَبِي دَاوُدَ وَابْنِ عَرَفَةَ
وَابْنِ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِمْ، وَكَانَ آخِرَ مَنْ بَقِيَ مِنْ
أَصْحَابِ الْبَغَوِيِّ، وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْحَدِيثِ
وَالْمَعْرِفَةِ وَالْفَهْمِ، وَقَدْ تَكَلَّمَ بَعْضُهُمْ فِي
رِوَايَتِهِ عَنِ البغوي لأن أصله كان غالبا مَفْسُودًا. وَذَكَرَ
الصُّورِيُّ أَنَّهُ خَلَطَ فِي آخِرِ عمره.
أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ
عَبْدِ الواحد بن أحمد بن يونس بن عبد الأعلى الصَّدَفِيُّ
الْمِصْرِيُّ، صَاحِبُ كِتَابِ الزِّيجِ الْحَاكِمِيِّ فِي أربع
مجلدات، كان أبوه من كبار المحدثين الحفاظ، وقد وضع لمصر تاريخا نافعا
يرجع العلماء إليه فيه، وأما هذا فإنه اشتغل في علم النُّجُومِ فَنَالَ
مِنْ شَأْنِهِ مَنَالًا جَيِّدًا، وَكَانَ شَدِيدَ الِاعْتِنَاءِ
بِعِلْمِ الرَّصْدِ وَكَانَ مَعَ هَذَا مُغَفَّلًا سَيِّئَ الْحَالِ،
رَثَّ الثِّيَابِ، طَوِيلًا يَتَعَمَّمُ عَلَى طُرْطُورٍ طَوِيلٍ،
وَيَتَطَيْلَسُ فَوْقَهُ، وَيَرْكَبُ حِمَارًا، فَمَنْ رَآهُ ضَحِكَ
مِنْهُ، وَكَانَ يَدْخُلُ عَلَى الْحَاكِمِ فَيُكْرِمُهُ وَيَذْكُرُ
مِنْ تَغَفُّلِهِ مَا يَدُلُّ على اعْتِنَائِهِ بِأَمْرِ نَفْسِهِ،
وَكَانَ شَاهِدًا مُعَدَّلًا، وَلَهُ شِعْرٌ جَيِّدٌ، فَمِنْهُ مَا
ذَكَرَهُ ابْنُ خَلِّكَانَ:
أُحَمِّلُ نَشْرَ الرِّيحِ عِنْدَ هُبُوبِهِ ... رِسَالَةَ مُشْتَاقٍ
إلى حبيبه
بنفسي من تحيا النفوس بريقه ... ومن طابت الدنيا به وبطيبة
(11/341)
يجدد وجدي طائف منه في الكرا ... سرى موهنا
في جفنه مِنْ رَقِيبِهِ
لَعَمْرِي لَقَدْ عَطَّلْتُ كَأْسِي بَعْدَهُ ... وَغَيَّبْتُهَا
عَنِّي لَطُولِ مَغِيبِهِ
تَمَنِّي أُمُّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْقَادِرِ باللَّه
مَوْلَاةُ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ الْمُقْتَدِرِ، كَانَتْ مِنَ
الْعَابِدَاتِ الصَّالِحَاتِ، وَمِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ وَالدِّينِ
تُوُفِّيَتْ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ الثَّانِيَ وَالْعِشْرِينَ من شعبان
منها، وَصَلَّى عَلَيْهَا ابْنُهَا الْقَادِرُ، وَحُمِلَتْ بَعْدَ
الْعِشَاءِ إلى الرصافة
ثم دخلت سنة أربعمائة من الهجرة
فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ مِنْهَا نَقَصَتْ دِجْلَةُ نَقْصًا كثيرا، حتى
ظهرت جزائر لم تغرق، وامتنع سير السفن في أعاليها من أذنة والراشدية،
فأمر بكرى تلك الأماكن، وفيها كمل السور على مشهد أمير المؤمنين على
عليه السلام الّذي بناه أبو إسحاق الأجانى، وذلك أن أبا محمد بن سهلان
مرض فنذر إن عوفي ليبنينه فعوفي. وَفِي رَمَضَانَ أَرْجَفَ النَّاسُ
بِالْخَلِيفَةِ الْقَادِرِ باللَّه بأنه مات فَجَلَسَ لِلنَّاسِ يَوْمَ
جُمُعَةٍ بَعْدَ الصَّلَاةِ وَعَلَيْهِ الْبُرْدَةُ وَبِيَدِهِ
الْقَضِيبُ، وَجَاءَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ
فَقَبَّلَ الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَقَرَأَ (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ
الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ
في الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ) 33: 60 الآيات فتباكى الناس
ودعوا وانصرفوا وهم فراحا. وفيها وَرَدَ الْخَبَرُ بِأَنَّ الْحَاكِمَ
أَنْفَذَ إِلَى دَارِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الصَّادِقِ
بِالْمَدِينَةِ فَأَخَذَ مِنْهَا مُصْحَفًا وَآلَاتٍ كَانَتْ بِهَا،
وَهَذِهِ الدَّارُ لَمْ تفتح بعد موت صاحبها إلى هذا الآن، وَكَانَ
مَعَ الْمُصْحَفِ قَعْبٌ خَشَبٌ مُطَوَّقٌ بِحَدِيدٍ وَدَرَقَةٌ
خَيْزُرَانٌ وَحَرْبَةٌ وَسَرِيرٌ، حَمَلَ ذَلِكَ كُلَّهَ جَمَاعَةٌ
مِنَ الْعَلَوِيِّينَ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، فَأَطْلَقَ لهم
الحاكم أَنْعَامًا كَثِيرَةً وَنَفَقَاتٍ زَائِدَةً، وَرَّدَ
السَّرِيرَ وَأَخَذَ الْبَاقِيَ، وَقَالَ: أَنَا أَحَقُّ بِهِ.
فَرَدُّوا وَهُمْ ذامون له داعون عليه. وبنى الحاكم فيها دارا للعلم
وَأَجْلَسَ فِيهَا الْفُقَهَاءَ، ثُمَّ بَعْدَ ثَلَاثِ سِنِينَ
هَدَمَهَا وَقَتَلَ خَلْقًا كَثِيرًا مِمَّنْ كَانَ فِيهَا من الفقهاء
والمحدثين وأهل الخير. وفيها عمر الجامع المنسوب إليه بمصر وهو جامع
الحاكم، وتأنق في بنائه. وَفِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْهَا أُعِيدَ
الْمُؤَيَّدُ هِشَامُ بْنُ الْحَكَمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
الْأُمَوِيُّ إِلَى مُلْكِهِ بَعْدَ خَلْعِهِ وَحَبْسِهِ مُدَّةً
طَوِيلَةً، وَكَانَتِ الخطبة بالحرمين للحاكم صاحب مصر والشام.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
أَبُو أَحْمَدَ الموسوي النقيب
الحسن بْنُ مُوسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ موسى بن جعفر
الموسوي، وَالِدُ الرَّضِيِّ وَالْمُرْتَضَى، وَلِيَ نِقَابَةَ
الطَّالِبِيِّينَ مَرَّاتٍ نَحْوًا مِنْ خَمْسِ مَرَّاتٍ، يُعْزَلُ
وَيُعَادُ، ثُمَّ أخر فِي آخِرِ عُمُرِهِ، وَتُوُفِّيَ عَنْ سَبْعٍ
وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَصَلَّى عَلَيْهِ ابْنُهُ الْمُرْتَضَى، وَدُفِنَ
فِي مشهد الحسين. وقد رثاه ابنه المرتضى في قصيدة حسنة قوية المنزع
والمطلع فمنها:
سلام الله تنقله الليالي ... وتهديه الغدو إلى الرواح
(11/342)
على جدث حسيب من لؤيّ ... لينبوع
الْعِبَادَةِ وَالصَّلَاحِ
فَتًى لَمْ يَرْوِ إِلَّا مِنْ حلال ... ولم يك زاده إلا المباح
ولا دنست له أزر لزور ... وَلَا عَلِقَتْ لَهُ رَاحٌ بِرَاحِ
خَفِيفُ الظَّهْرِ من ثقل الخطايا ... وعريان الجوارح مِنْ جَنَاحِ
مَشُوقٌ فِي الْأُمُورِ إِلَى عُلَاهَا ... وَمَدْلُولٌ عَلَى بَابِ
النَّجَاحِ
مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ لهم قلوب ... بذكر الله عامرة النواحي
بأجسام من التقوى مراض ... لنصرتها وأديان صحاح
الْحَجَّاجُ بْنُ هُرْمُزَ أَبُو جَعْفَرٍ
نَائِبُ بَهَاءِ الدولة على العراق، وكان تليده لقتال الأعراب
والأكراد، وكان من المقدمين في أيام عَضُدِ الدَّوْلَةِ، وَكَانَتْ
لَهُ خِبْرَةٌ تَامَّةٌ بِالْحَرْبِ، وحزمة شديدة، وشجاعة تامة
وَافِرَةٌ، وَهِمَّةٌ عَالِيَةٌ وَآرَاءٌ سَدِيدَةٌ. وَلَمَّا خَرَجَ
من بغداد في سنة ثنتين وسبعين وثلاثمائة كثرت بها الفتن. توفى بالأهواز
عَنْ مِائَةِ سَنَةٍ وَخَمْسِ سِنِينَ. رَحِمَهُ اللَّهُ.
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُمِّيُّ الْمِصْرِيُّ التَّاجِرُ
كَانَ ذَا مَالٍ جَزِيلٍ جِدًّا، اشْتَمَلَتْ تَرِكَتُهُ عَلَى
أَزْيَدِ مِنْ أَلْفِ أَلْفِ دِينَارٍ، مِنْ سَائِرِ أنواع المال.
توفى بِأَرْضِ الْحِجَازِ وَدُفِنَ بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ
عِنْدَ قَبْرِ الحسن بن على، رضى الله عنهم.
أبو الحسين ابن الرفّاء المقري
تقدم ذكره وقراءته على كبير الأعراب في سنة أربع وتسعين وثلاثمائة،
كَانَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ صَوْتًا بِالْقُرْآنِ وَأَحْلَاهُمْ أداء
رحمه الله.
ثم دخلت سنة إحدى وأربعمائة
فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ الرَّابِعِ مِنَ الْمُحَرَّمِ مِنْهَا خُطِبَ
بِالْمَوْصِلِ لِلْحَاكِمِ الْعُبَيْدِيِّ عَنْ أَمْرِ صَاحِبِهَا
قرواش بن مقلد أبى منيع، وذلك لقهره رعيته، وقد سرد ابن الجوزي صفة
الخطبة بِحُرُوفِهَا. وَفِي آخِرِ الْخُطْبَةِ صَلَّوْا عَلَى آبَائِهِ
المهدي ثم ابنه القائم ثم الْمَنْصُورِ، ثُمَّ ابْنِهِ الْمُعِزِّ،
ثُمَّ ابْنِهِ الْعَزِيزِ، ثُمَّ ابْنِهِ الْحَاكِمِ صَاحِبِ
الْوَقْتِ، وَبَالَغُوا فِي الدعاء لهم، ولا سيما للحاكم، وكذلك تبعته
أعمالها مَنَ الْأَنْبَارِ وَالْمَدَائِنِ وَغَيْرِهَا.
وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّ الْحَاكِمَ تَرَدَّدَتْ مُكَاتَبَاتُهُ
وَرُسُلُهُ وَهَدَايَاهُ إِلَى قِرْوَاشٍ يَسْتَمِيلُهُ إِلَيْهِ،
وَلِيُقْبِلَ بِوَجْهِهِ عَلَيْهِ، حَتَّى فعل ما فعل من الخطبة
وغيرها، فَلَمَّا بَلَغَ الْخَبَرُ الْقَادِرَ باللَّه الْعَبَّاسِيَّ
كَتَبَ يعاتب قرواش عَلَى مَا صَنَعَ، وَنَفَذَ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ
إِلَى عَمِيدِ الْجُيُوشِ بِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ لِمُحَارَبَةِ
قِرْوَاشٍ. فَلَمَّا بَلَغَ قِرْوَاشًا رَجَعَ عَنْ رَأْيِهِ وَنَدِمَ
عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ، وَأَمَرَ بِقَطْعِ الْخُطْبَةِ للحاكم من
بلاده، وخطب للقادر على عادته.
(11/343)
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَلِخَمْسٍ
بَقِينَ مِنْ رَجَبٍ زَادَتْ دِجْلَةُ زِيَادَةً كَثِيرَةً
وَاسْتَمَرَّتِ الزِّيَادَةُ إِلَى رَمَضَانَ، وَبَلَغَتْ أَحَدًا
وَعِشْرِينَ ذِرَاعًا وَثُلُثًا، وَدَخَلَ إِلَى أَكْثَرِ دُورِ
بَغْدَادَ. وَفِيهَا رَجَعَ الْوَزِيرُ أبو خلف إلى بغداد ولقب فخر
الملك بعميد الْجُيُوشِ. وَفِيهَا عَصَى أَبُو الْفَتْحِ الْحَسَنُ
بْنُ جَعْفَرٍ الْعَلَوِيُّ وَدَعَا إِلَى نَفْسِهِ وَتَلَقَّبَ
بِالرَّاشِدِ باللَّه. وَلَمْ يَحُجَّ فِيهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ
الْعِرَاقِ والخطبة للحاكم.
وممن توفى فيها من الأعيان
أبو مسعود صاحب الأطراف.
إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدٍ
أَبُو مَسْعُودٍ الدِّمَشْقِيُّ الْحَافِظُ الْكَبِيرُ، مُصَنِّفُ
كِتَابِ الْأَطْرَافِ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ، رَحَلَ إِلَى بِلَادٍ
شَتَّى كَبَغْدَادَ وَالْبَصْرَةِ والكوفة وواسط وأصبهان وخراسان، وكان
من الحفاظ الصادقين، والأمناء الضَّابِطِينَ، وَلَمْ يَرْوِ إِلَّا
الْيَسِيرَ، رَوَى عَنْهُ أبو القاسم وأبو ذر الهروي، وحمزة السهمي،
وغيرهم.
توفى بِبَغْدَادَ فِي رَجَبٍ وَأَوْصَى إِلَى أَبِي حَامِدٍ
الْإِسْفَرَايِينِيِّ فَصَلَّى عَلَيْهِ، وَدُفِنَ فِي مَقْبَرَةِ
جَامِعِ المنصور قريبا من السكك. وقد ترجمه ابن عساكر وأثنى عليه.
عميد الجيوش الوزير
الحسن بن أبى جعفر أستاذ هرمز، وُلِدَ سَنَةَ خَمْسِينَ
وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَكَانَ أَبُوهُ مِنْ حجاب عضد الدولة، وولاه بهاء
الدولة وزارته سنة ثنتين وتسعين، والشرور كثيرة منتشرة، فَمَهَّدَ
الْبِلَادَ وَأَخَافَ الْعَيَّارِينَ وَاسْتَقَامَتْ بِهِ الْأُمُورُ،
وَأَمَرَ بَعْضَ غِلْمَانِهِ أَنْ يَحْمِلَ صِينِيَّةً فِيهَا
دَرَاهِمُ مَكْشُوفَةٌ مِنْ أَوَّلِ بَغْدَادَ إِلَى آخِرِهَا وأن يدخل
بها في جميع الأزقة، فَإِنِ اعْتَرَضَهُ أَحَدٌ فَلْيَدْفَعْهَا
إِلَيْهِ وَلْيَعْرِفَ ذَلِكَ المكان، فذهب الغلام فلم يعترضه أحد،
فحمد الله وأثنى عليه، ومنع الروافض النياحة في يوم عاشوراء، وما
يتعاطونه من الفرح في يوم ثامن عشر ذي الحجة الّذي يقال له عيد غدير
خم، وكان عادلا منصفا.
خلف الواسطي
صاحب الأطراف أيضا، خَلَفُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ
حَمْدُونَ، أَبُو مُحَمَّدٍ الْوَاسِطِيُّ، رَحَلَ إِلَى الْبِلَادِ
وَسَمِعَ الْكَثِيرَ ثُمَّ عَادَ إِلَى بَغْدَادَ، ثُمَّ رَحَلَ إلى
الشام ومصر، وكتب الناس عنه بِانْتِخَابِهِ، وَصَنَّفَ أَطْرَافًا
عَلَى الصَّحِيحَيْنِ، وَكَانَتْ لَهُ مَعْرِفَةٌ تَامَّةٌ، وَحِفْظٌ
جَيِّدٌ، ثُمَّ عَادَ إِلَى بَغْدَادَ وَاشْتَغَلَ بِالتِّجَارَةِ
وَتَرَكَ النَّظَرَ فِي الْعِلْمِ حتى توفى في هذه السنة سامحه الله.
رَوَى عَنْهُ الْأَزْهَرِيُّ.
أَبُو عُبَيْدٍ الْهَرَوِيُّ
صَاحِبُ الغريبين، أحمد بن محمد بن أبى عبيد العبديّ
أبو عبيد الهروي اللُّغَوِيُّ
الْبَارِعُ، كَانَ مِنْ عُلَمَاءِ النَّاسِ فِي الْأَدَبِ وَاللُّغَةِ،
وَكِتَابُهُ الْغَرِيبَيْنِ، فِي مَعْرِفَةِ غَرِيبِ الْقُرْآنِ
وَالْحَدِيثِ، يَدُلُّ عَلَى اطِّلَاعِهِ وَتَبَحُّرِهِ فِي هَذَا
الشَّأْنِ، وَكَانَ مِنْ تَلَامِذَةِ أَبِي مَنْصُورٍ الأزهري. قال ابن
خلكان: وقيل كان
(11/344)
يحب التنزه ويتناول في خلوته ما لا يجوز،
ويعاشر أهل الأدب في مجلس اللذة والطرب، والله أعلم. سامحه الله.
قَالَ: وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي رَجَبٍ سَنَةَ إِحْدَى وأربعمائة، وذكر
ابن خلكان أن في هذه السنة أو التي قبلها كانت وفاة الْبُسْتِيِّ
الشَّاعِرِ وَهُوَ:
عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الحسين بن يوسف الكاتب
صاحب الطريقة الأنيقة والتجنيس الْأَنِيسِ، الْبَدِيعِ التَّأْسِيسِ،
وَالْحَذَاقَةِ وَالنَّظْمِ وَالنَّثْرِ، وَقَدْ ذكرناه، وَمِمَّا
أَوْرَدَ لَهُ ابْنُ خَلِّكَانَ قَوْلُهُ: مَنْ أصلح فاسده أرغم حاسده،
ومن أَطَاعَ غَضَبَهُ أَضَاعَ أَدَبَهُ. مِنْ سَعَادَةِ جَدِّكَ
وُقُوفُكَ عِنْدَ حَدِّكَ. الْمَنِيَّةُ تَضْحَكُ مِنَ الْأُمْنِيَةِ.
الرشوة رشا الحاجات، حد العفاف الرضى بِالْكَفَافِ. وَمِنْ شَعْرِهِ:
إِنْ هَزَّ أَقْلَامَهُ يَوْمًا لِيُعْمِلَهَا ... أَنْسَاكَ كُلَّ
كَمِيٍّ هَزَّ عَامِلَهُ
وَإِنْ أمر عَلَى رِقٍّ أَنَاَمِلَهُ ... أَقَرَّ بَالرِّقِّ كُتَّابُ
الْأَنَامِ لَهُ
وَلَهُ:
إِذَا تَحَدَّثْتَ فِي قَوْمٍ لِتُؤْنِسَهُمْ ... بِمَا تُحَدِّثُ مِنْ
مَاضٍ وَمِنْ آتِ
فَلَا تَعُدْ لِحَدِيثٍ إِنَّ طَبْعَهُمُ ... مُوَكَّلٌ بَمُعَادَاةِ
الْمُعَادَاتِ
ثم دخلت سنة اثنتين وأربعمائة
في المحرم منها أذن فخر الملك الوزير للروافض أن يعملوا بدعتهم
الشَّنْعَاءَ، وَالْفَضِيحَةَ الصَّلْعَاءَ، مِنَ الِانْتِحَابِ
وَالنَّوْحِ وَالْبُكَاءِ، وتعليق المسوح وأن تغلق الأسواق من الصباح
إلى المساء، وأن تدور النِّسَاءِ حَاسِرَاتٍ عَنْ وُجُوهِهِنَّ
وَرُءُوسِهِنَّ، يَلْطِمْنَ خُدُودَهُنَّ، كفعل الجاهلية الجهلاء، على
الحسين بن على، فلا جزاء الله خَيْرًا، وَسَوَّدَ اللَّهُ وَجْهَهُ
يَوْمَ الْجَزَاءِ، إِنَّهُ سميع الدعاء. وفي ربيع الآخر أمر القادر
بِعِمَارَةِ مَسْجِدِ الْكَفِّ بِقَطِيعَةِ الدَّقِيقِ، وَأَنْ يُعَادَ
إِلَى أَحْسَنِ مَا كَانَ، فَفُعِلَ ذَلِكَ وَزُخْرِفَ زخرفة عظيمة
جدا، ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ. 2: 156
ذكر الطعن من أئمة بغداد وعلمائهم وغيرهم
من البلاد في نسب الفاطميين وأنهم أدعياء كذبة
وَفِي رَبِيعٍ الْآخَرِ مِنْهَا كَتَبَ هَؤُلَاءِ بِبَغْدَادَ محاضر
تتضمن الطعن والقدح في نسب الفاطميين وهم ملوك مصر وليسوا كذلك، وإنما
نسبهم إلى عبيد بن سعد الجرمي، وَكَتَبَ فِي ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنَ
الْعُلَمَاءِ وَالْقُضَاةِ والأشراف والعدول، والصالحين والفقهاء،
والمحدثين، وشهدوا جميعا أن الحاكم بمصر هو مَنْصُورُ بْنُ نِزَارٍ
الْمُلَقَّبُ بِالْحَاكِمِ، حَكَمَ اللَّهُ عليه بالبوار والخزي
والدمار، ابن معد بن إسماعيل بن عبد الله بْنِ سَعِيدٍ، لَا أَسْعَدَهُ
اللَّهُ، فَإِنَّهُ لَمَّا صَارَ إِلَى بِلَادِ الْمَغْرِبِ تَسَمَّى
بِعُبَيْدِ اللَّهِ، وتلقب بالمهديّ، وأن من تقدم من سلفه أَدْعِيَاءُ
خَوَارِجُ، لَا نَسَبَ لَهُمْ فِي وَلَدِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالَبٍ،
وَلَا يَتَعَلَّقُونَ بِسَبَبٍ وَأَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ بَاطِلِهِمْ،
وَأَنَّ الَّذِي ادَّعَوْهُ إِلَيْهِ بَاطِلٌ وَزُورٌ، وَأَنَّهُمْ لَا
يَعْلَمُونَ أَحَدًا من أهل بيوتات
(11/345)
على بن أبى طالب توقف عن إطلاق القول في
أنهم خوارج كذبة، وَقَدْ كَانَ هَذَا الْإِنْكَارُ لِبَاطِلِهِمْ
شَائِعًا فِي الْحَرَمَيْنِ، وَفِي أَوَّلِ أَمْرِهِمْ بِالْمَغْرِبِ
مُنْتَشِرًا انْتِشَارًا يمنع أن يدلس أمرهم على أحد، أَوْ يَذْهَبَ
وَهْمٌ إِلَى تَصْدِيقِهِمْ فِيمَا ادَّعَوْهُ، وأن هذا الحاكم
بِمِصْرَ هُوَ وَسَلَفُهُ كَفَّارٌ فُسَّاقٌ فُجَّارٌ، مُلْحِدُونَ
زنادقة، معطلون، وللإسلام جاحدون، ولمذهب المجوسية والثنوية
مُعْتَقِدُونَ، قَدْ عَطَّلُوا الْحُدُودَ وَأَبَاحُوا الْفُرُوجَ،
وَأَحَلُّوا الخمر وَسَفَكُوا الدِّمَاءَ، وَسَبُّوا الْأَنْبِيَاءَ،
وَلَعَنُوا السَّلَفَ، وَادَّعَوُا الربوبية. وكتب في سَنَةَ
اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَقَدْ كَتَبَ خَطَّهُ فِي الْمَحْضَرِ
خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَمِنَ الْعَلَوِيِّينَ: الْمُرْتَضَى وَالرَّضِيُّ
وَابْنُ الْأَزْرَقِ الْمُوسَوِيُّ، وَأَبُو طَاهِرِ بْنُ أَبِي الطيب،
ومحمد بن محمد بن عمرو بن أَبِي يَعْلَى. وَمِنَ الْقُضَاةِ أَبُو
مُحَمَّدِ بْنُ الأكفاني وأبو القاسم الجزري، وأبو العباس بن الشيورى.
وَمِنَ الْفُقَهَاءِ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ وَأَبُو
مُحَمَّدِ بن الكسفلى، وأبو الحسن الْقُدُورِيُّ، وَأَبُو عَبْدِ
اللَّهِ الصَّيْمَرِيُّ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَيْضَاوِيُّ،
وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ حَمَكَانَ. وَمِنَ الشهود أبو القاسم التنوخي في
كثير منهم، وَكَتَبَ فِيهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ. هَذِهِ عِبَارَةُ أَبِي
الْفَرَجِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ.
قُلْتُ: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أن هؤلاء أدعياء كذبة، كَمَا ذَكَرَ
هَؤُلَاءِ السَّادَةُ الْعُلَمَاءُ وَالْأَئِمَّةُ الْفُضَلَاءُ، وأنهم
لا نسب لهم إلى على بن أبى طالب، ولا إلى فاطمة كما يزعمون، قول ابن
عمر للحسين بن على حين أراد الذهاب إلى العراق، وذلك حين كتب عوام أهل
الكوفة بالبيعة إليه فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ:
لَا تَذْهَبُ إِلَيْهِمْ فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكَ أَنْ تُقْتَلَ،
وَإِنَّ جَدَّكَ قَدْ خُيِّرَ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ
فَاخْتَارَ الْآخِرَةَ عَلَى الدُّنْيَا، وَأَنْتَ بُضْعَةٌ مِنْهُ،
وَإِنَّهُ وَاللَّهِ لَا تَنَالُهَا لَا أَنْتَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ خلفك
ولا مِنْ أَهْلِ بَيْتِكَ.
فَهَذَا الْكَلَامُ الْحَسَنُ الصَّحِيحُ الْمُتَوَجِّهُ الْمَعْقُولُ،
مِنْ هَذَا الصَّحَابِيِّ الْجَلِيلِ، يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَلِي
الْخِلَافَةَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ إِلَّا مُحَمَّدَ بْنَ
عَبْدِ اللَّهِ الْمَهْدِيَّ الّذي يكون في آخر الزمان عند نزول عيسى
بن مريم، رغبة بهم عن الدنيا، وأن لا يدنسوا بها. وَمَعْلُومٌ أَنَّ
هَؤُلَاءِ قَدْ مَلَكُوا دِيَارَ مِصْرَ مُدَّةً طَوِيلَةً، فَدَلَّ
ذَلِكَ دَلَالَةً قَوِيَّةً ظَاهِرَةً على أنهم ليسوا من أهل البيت،
كما نص عليه سادة الفقهاء. وَقَدْ صَنَّفَ الْقَاضِي الْبَاقِلَّانِيُّ
كِتَابًا فِي الرَّدِّ على هؤلاء وسماه «كشف الأسرار وهتك الأستار» بين
فِيهِ فَضَائِحَهُمْ وَقَبَائِحَهُمْ، وَوَضَّحَ أَمْرَهُمْ لِكُلِّ
أَحَدٍ، ووضوح أمرهم ينبئ عن مطاوى أفعالهم، وأقوالهم، وقد كان
الباقلاني يقول في عبارته عنهم: هم قوم يظهرون الرفض ويبطنون الكفر
المحض. والله سبحانه أعلم.
وفي رجب وشعبان ورمضان أجرى الْوَزِيرُ فَخْرُ الْمُلْكِ صَدَقَاتٍ
كَثِيرَةٍ عَلَى الْفُقَرَاءِ والمساكين والمقيمين بالمشاهد والمساجد
وغير ذلك، وَزَارَ بِنَفْسِهِ الْمَسَاجِدَ وَالْمَشَاهِدَ، وَأَخْرَجَ
خَلْقًا مِنَ المحبوسين وَأَظْهَرَ نُسُكًا كَثِيرًا، وَعَمَّرَ دَارًا
عَظِيمَةً عِنْدَ سوق الدقيق. وفي شوال عصفت ريح شديدة فقصفت كثيرا من
النخل وغيره، أكثر من عشرة آلاف نخلة، وَوَرَدَ كِتَابٌ مِنْ يَمِينِ
الدَّوْلَةِ مَحْمُودِ بْنِ
(11/346)
سبكتكين صاحب غزنة بأنه ركب بجيشه إلى أرض
العدو فجازوا بمفازة فأعوزهم الماء حتى كادوا يهلكون عن آخرهم عَطَشًا،
فَبَعَثَ اللَّهُ لَهُمْ سَحَابَةً فَأَمْطَرَتْ عَلَيْهِمْ حتى شربوا
وسقوا واستقوا، ثم تواقفوا هم وعدوهم، ومع عدوهم نحو من ستمائة فيل،
فهزموا العدو وَغَنِمُوا شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الْأَمْوَالِ وللَّه
الْحَمْدُ. وفيها عملت الشيعة بدعتهم التي كانوا يعملونها يَوْمَ
غَدِيرِ خُمٍّ، وَهُوَ الْيَوْمُ الثَّامِنَ عَشَرَ من ذي الحجة،
وَزُيِّنَتِ الْحَوَانِيتُ وَتَمَكَّنُوا بِسَبَبِ الْوَزِيرِ
وَكَثِيرٍ مِنَ الأتراك تمكنا كثيرا.
وفيها توفى مِنَ الْأَعْيَانِ
الْحَسَنُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بن العباس
ابن نوبخت أبو محمد النوبختيّ، وُلِدَ سَنَةَ عِشْرِينَ
وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَرَوَى عَنْ الْمَحَامِلِيِّ وَغَيْرِهِ، وَعَنْهُ
الْبَرْقَانِيُّ وَقَالَ كَانَ شِيعِيًّا مُعْتَزِلِيًّا، إِلَّا
أَنَّهُ تَبَيَّنَ لِي أَنَّهُ كَانَ صَدُوقًا، وروى عنه الأزهري وقال:
كان رافضيا، رديء المذهب. وقال العقيقي: كان فقيرا في الحديث، ويذهب
إلى الاعتزال والله أعلم.
عثمان بن عيسى أبو عمر والباقلاني
أَحَدُ الزُّهَّادِ الْكِبَارِ الْمَشْهُورِينَ، كَانَتْ لَهُ
نَخَلَاتٌ يأكل منها وَيَعْمَلُ بِيَدِهِ فِي الْبَوَارِيِّ،
وَيَأْكُلُ مِنْ ذَلِكَ، وَكَانَ فِي غَايَةِ الزَّهَادَةِ
وَالْعِبَادَةِ الْكَثِيرَةِ، وَكَانَ لا يخرج من مسجده إلا من يوم
الجمعة إلى يوم الجمعة، لأجل صلاة الجمعة ثم يعود إلى مسجده، وكان لا
يجد شيئا يشعله في مسجده، فسأله بعض الأمراء أن يقبل شيئا ولو زيتا
يشعله في قناديل مسجده، فأبى الشيخ ذلك، ولهذا وأمثاله لما مات رأى
بعضهم بعض الأموات من جيرانه في القبور فَسَأَلَهُ عَنْ جِوَارِهِ
فَقَالَ: وَأَيْنَ هُوَ، لَمَّا مات ووضع في قبره سمعنا قائلا يقول:
إلى الفردوس الأعلى، إلى الفردوس الأعلى. أو كما قال: توفى في رجب منها
عَنْ سِتَّةٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً
مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بن محمد
ابن هَارُونَ بْنِ فَرْوَةَ بْنِ نَاجِيَةَ، أَبُو الْحَسَنِ النحويّ،
والمعروف بِابْنِ النَّجَّارِ التَّمِيمِيُّ الْكُوفِيُّ، قَدِمَ
بَغْدَادَ وَرَوَى عن ابن دريد والصولي ونفطويه وغيرهم، تُوُفِّيَ فِي
جُمَادَى الْأُولَى مِنْهَا عَنْ سَبْعٍ وسبعين سَنَةً
أَبُو الطِّيِّبِ سَهْلُ بْنُ مُحَمَّدٍ
الصُّعْلُوكِيُّ النَّيْسَابُورِيُّ، قَالَ أَبُو يَعْلَى
الْخَلِيلِيُّ: تُوُفِّيَ فِيهَا، وقد ترجمناه فِي سَنَةِ سَبْعٍ
وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
ثُمَّ دَخَلَتْ سنة ثلاث وأربعمائة
في سادس عشر محرمها قُلِّدَ الشَّرِيفُ الرَّضِيُّ أَبُو الْحَسَنِ
الْمُوسَوِيُّ نِقَابَةَ الطالبيين في سائر الممالك وَقُرِئَ
تَقْلِيدُهُ فِي دَارِ الْوَزِيرِ فَخْرِ الْمُلْكِ، بمحضر الأعيان،
وَخُلِعَ عَلَيْهِ السَّوَادُ، وَهُوَ أَوَّلُ طَالِبِيٍّ خُلِعَ
عَلَيْهِ السَّوَادُ. وَفِيهَا جِيءَ بِأَمِيرِ بَنِي خَفَاجَةَ أبو
قلنبة قَبَّحَهُ اللَّهُ وَجَمَاعَةٍ مِنْ رُءُوسِ قَوْمِهِ أُسَارَى،
وكانوا قد اعترضوا للحجاج في السنة التي قبلها وَهُمْ رَاجِعُونَ،
وَغَوَّرُوا الْمَنَاهِلَ الَّتِي يَرِدُهَا الْحُجَّاجُ، وَوَضَعُوا
فِيهَا الْحَنْظَلَ بِحَيْثُ إِنَّهُ مَاتَ مِنَ الحجاج مِنَ الْعَطَشِ
نَحْوٌ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا، وأخذوا
(11/347)
بقيتهم فجعلوهم رعاة لدوابهم فِي أَسْوَإِ
حَالٍ، وَأَخَذُوا جَمِيعَ مَا كَانَ معهم، فحين حضروا عند دار الوزير
سجنهم ومنعهم الماء، ثم صلبهم يَرَوْنَ صَفَاءَ الْمَاءِ وَلَا
يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ منه، حتى ماتوا عطشا جزاء وفاقا، وقد أحسن في
هذا الصنع اقتداء بحديث أنس فِي الصَّحِيحَيْنِ. ثُمَّ بَعَثَ إِلَى
أُولَئِكَ الَّذِينَ اعْتُقِلُوا فِي بِلَادِ بَنِي خَفَاجَةَ مِنَ
الْحُجَّاجِ فَجِيءَ بِهِمْ، وَقَدْ تَزَوَّجَتْ نِسَاؤُهُمْ
وَقُسِمَتْ أَمْوَالُهُمْ، فردوا إلى أهاليهم وأموالهم. قال ابن
الجوزي: وفي رمضان منها انقضّ كوكب من المشرق إلى المغرب عليه ضوء
عَلَى ضَوْءِ الْقَمَرِ، وَتَقَطَّعَ قِطَعًا وَبَقِيَ سَاعَةً
طَوِيلَةً. قَالَ: وَفِي شَوَّالٍ تُوُفِّيَتْ زَوْجَةُ بَعْضِ رؤساء
النصارى، فخرجت النوائح والصلبان معها جهارا، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ بَعْضُ
الْهَاشِمِيِّينَ فَضَرَبَهُ بَعْضُ غِلْمَانِ ذَلِكَ الرَّئِيسِ
النَّصْرَانِيِّ بِدَبُّوسٍ فِي رَأْسِهِ فَشَجَّهُ، فثار المسلمون بهم
فانهزموا حتى لجئوا إِلَى كَنِيسَةٍ لَهُمْ هُنَاكَ، فَدَخَلَتِ
الْعَامَّةُ إِلَيْهَا فَنَهَبُوا مَا فِيهَا، وَمَا قَرُبَ مِنْهَا
مِنْ دُورِ النَّصَارَى، وَتَتَبَّعُوا النَّصَارَى فِي الْبَلَدِ،
وَقَصَدُوا الناصح وَابْنِ أَبِي إِسْرَائِيلَ فَقَاتَلَهُمْ
غِلْمَانُهُمْ، وَانْتَشَرَتِ الْفِتْنَةُ بِبَغْدَادَ، وَرَفَعَ
الْمُسْلِمُونَ الْمَصَاحِفَ فِي الْأَسْوَاقِ، وَعُطِّلَتِ الجمع فِي
بَعْضِ الْأَيَّامِ، وَاسْتَعَانُوا بِالْخَلِيفَةِ، فَأَمَرَ
بِإِحْضَارِ ابْنِ أَبِي إِسْرَائِيلَ فَامْتَنَعَ، فَعَزَمَ
الْخَلِيفَةُ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ بَغْدَادَ، وَقَوِيَتِ الْفِتْنَةُ
جِدًّا وَنُهِبَتْ دور كثير مِنَ النَّصَارَى، ثُمَّ أُحْضِرَ ابْنُ
أَبِي إِسْرَائِيلَ فَبَذَلَ أَمْوَالًا جَزِيلَةً، فَعُفِيَ عَنْهُ
وَسَكَنَتِ الْفِتْنَةُ. وفي ذي القعدة ورد كتاب يمين الدولة محمود
إِلَى الْخَلِيفَةِ يَذْكُرُ أَنَّهُ وَرَدَ إِلَيْهِ رَسُولٌ من
الحاكم صاحب مصر ومعه كتاب يَدْعُوهُ إِلَى طَاعَتِهِ فَبَصَقَ فِيهِ
وَأَمَرَ بِتَحْرِيقِهِ، وَأَسْمَعَ رَسُولَهُ غَلِيظَ مَا يُقَالُ.
وَفِيهَا قُلِّدَ أبو نصر بن مروان الكردي آمد وميافارقين وديار بكر،
وخلع عليه طوق وسواران، ولقب بناصر الدولة، ولم يتمكن ركب العراق
وخراسان مِنَ الذَّهَابِ إِلَى الْحَجِّ لِفَسَادِ الطَّرِيقِ،
وَغَيْبَةِ فخر الملك في إصلاح الأراضي.
وفيها عادت مملكة الأمويين ببلاد الأندلس فَتَوَلَّى فِيهَا
سُلَيْمَانُ بْنُ الْحَكَمِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
النَّاصِرِ الْأُمَوِيُّ، وَلُقِّبَ بِالْمُسْتَعِينِ باللَّه،
وَبَايَعَهُ النَّاسُ بِقُرْطُبَةَ. وَفِيهَا مَاتَ بَهَاءُ
الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ الدَّيْلَمِيِّ صَاحِبُ بَغْدَادَ
وَغَيْرِهَا، وَقَامَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ سُلْطَانُ
الدَّوْلَةِ أَبُو شُجَاعٍ. وَفِيهَا مَاتَ مَلِكُ التُّرْكِ
الْأَعْظَمُ واسمه إيلك الخان، وتولى مكانه أَخُوهُ طُغَانُ خَانَ.
وَفِيهَا هَلَكَ شَمْسُ الْمَعَالِي قَابُوسُ بْنُ وُشْمَكِيرَ،
أُدْخِلَ بَيْتًا بَارِدًا فِي الشتاء وليس عليه ثياب حَتَّى مَاتَ
كَذَلِكَ، وَوَلِيَ الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ مِنُوجِهْرُ، وَلُقِّبَ
فَلَكَ الْمَعَالِي، وَخُطِبَ لِمَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ، وَقَدْ
كَانَ شَمْسُ الْمَعَالِي قَابُوسُ عَالِمًا فَاضِلًا أَدِيبًا
شَاعِرًا، فَمِنْ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
قُلْ لِلَّذِي بِصُرُوفِ الدَّهْرِ عَيَّرَنَا ... هَلْ عَانَدَ
الدَّهْرُ إِلَّا مَنْ لَهُ خَطَرُ
أَمَا تَرَى الْبَحْرَ يَطْفُو فَوْقَهُ جِيَفٌ ... وَيَسْتَقِرُّ
بِأَقْصَى قَعْرِهِ الدُّرَرُ
(11/348)
فَإِنْ تَكُنْ نَشِبَتْ أَيْدِي الْخُطُوبِ
بِنَا ... وَمَسَّنَا مِنْ تَوَالِي صَرْفِهَا ضَرَرُ
فَفِي السَّمَاءِ نُجُومٌ غَيْرُ ذِي عَدَدِ ... وَلَيْسَ يَكْسِفُ
إِلَّا الشَّمْسُ والقمر
ومن مستجاد شعره قَوْلُهُ:
خَطِرَاتُ ذِكْرِكَ تَسْتَثِيرُ مَوَدَّتِي ... فَأُحِسُّ مِنْهَا فِي
الْفُؤَادِ دَبِيبًا
لَا عُضْوَ لِي إِلَّا وفيه صبابة ... وكأن أعضائى خلقن قلوبا
وفيها توفى مِنَ الْأَعْيَانِ
أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ أَبُو الْحَسَنِ الليثي
كَانَ يَكْتُبُ لِلْقَادِرِ وَهُوَ بِالْبَطِيحَةِ، ثُمَّ كَتَبَ له
على ديوان الخراج وَالْبَرِيدِ، وَكَانَ يَحْفَظُ الْقُرْآنَ حِفْظًا
حَسَنًا، مَلِيحَ الصوت والتلاوة، حسن المجالسة، ظريف المعاني، كثير
الضحك وَالْمَجَانَةِ، خَرَجَ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ هُوَ
وَالشَّرِيفَانِ الرضى والمرتضى وجماعة من الأكابر لتلقى بعض الملوك،
فخرج بعض اللصوص فجعلوا يرمونهم بالحرّاقات ويقولون: يا أزواج القحاب،
فقال الليثي: مَا خَرَجَ هَؤُلَاءِ عَلَيْنَا إِلَّا بِعَيْنٍ،
فَقَالُوا: وَمِنْ أَيْنَ عَلِمْتَ هَذَا؟ فَقَالَ. وَإِلَّا مِنْ أين
علموا أنا أَزْوَاجُ قِحَابٍ.
الْحَسَنُ بْنُ حَامِدِ بْنِ عَلِيِّ بن مروان
الْوَرَّاقُ الْحَنْبَلِيُّ، كَانَ مُدَرِّسَ أَصْحَابِ أَحْمَدَ
وَفَقِيهَهُمْ فِي زَمَانِهِ، وَلَهُ الْمُصَنَّفَاتُ الْمَشْهُورَةُ،
مِنْهَا كِتَابُ الْجَامِعِ فِي اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي
أَرْبَعِمِائَةِ جُزْءٍ، وله في أصول الفقه والدين، وعليه اشتغل أَبُو
يَعْلَى بْنُ الْفَرَّاءِ، وَكَانَ مُعَظَّمًا فِي النفوس، مقدما عند
السلطان، وكان لا يأكل إلا من كسب يديه من النسخ، وَرَوَى الْحَدِيثَ
عَنْ أَبِي بَكْرٍ الشَّافِعِيِّ، وَابْنِ مَالِكٍ الْقَطِيعِيِّ،
وَغَيْرِهِمَا، وَخَرَجَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ إِلَى الْحَجِّ فَلَمَّا
عَطِشَ النَّاسُ فِي الطَّرِيقِ اسْتَنَدَ هُوَ إِلَى حَجَرٍ هُنَاكَ
فِي الْحَرِّ الشَّدِيدِ، فَجَاءَهُ رَجُلٌ بِقَلِيلٍ مِنْ مَاءٍ
فَقَالَ له ابن حامد: من أين لك؟ فقال: ما هذا وقت سؤالك اشْرَبْ،
فَقَالَ: بَلَى هَذَا وَقْتُهُ عِنْدَ لِقَاءِ الله عز وجل، فَلَمْ
يَشْرَبْ وَمَاتَ مِنْ فَوْرِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ.
الحسين بن الحسن
ابن مُحَمَّدِ بْنِ حَلِيمٍ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَلِيمِيُّ،
صَاحِبُ الْمِنْهَاجِ فِي أُصُولِ الدِّيَانَةِ، كَانَ أَحَدَ
مَشَايِخِ الشَّافِعِيَّةِ، وُلِدَ بِجُرْجَانَ وَحُمِلَ إِلَى
بُخَارَى، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ حَتَّى انْتَهَتْ إِلَيْهِ
رِيَاسَةُ الْمُحَدِّثِينَ فِي عَصْرِهِ، وَوَلِيَ الْقَضَاءَ
بِبُخَارَى. قَالَ ابن خلكان: انتهت إليه الرئاسة فِيمَا وَرَاءَ
النَّهْرِ، وَلَهُ وُجُوهٌ حَسَنَةٌ فِي الْمَذْهَبِ، وَرَوَى عَنْهُ
الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ.
فيروز أبو نصر
الملقب ببهاء الدَّوْلَةِ بْنُ عَضُدِ الدَّوْلَةِ الدَّيْلَمِيُّ،
صَاحِبُ بَغْدَادَ وغيرها، وَهُوَ الَّذِي قَبَضَ عَلَى الطَّائِعِ
وَوَلَّى الْقَادِرَ، وَكَانَ يُحِبُّ الْمُصَادَرَاتِ فَجَمَعَ مِنَ
الْأَمْوَالِ مَا لَمْ يَجْمَعْهُ أَحَدٌ قَبْلَهُ مِنْ بَنِي
بُوَيْهِ،
(11/349)
وَكَانَ بَخِيلًا جِدًّا، تُوُفِّيَ
بِأَرَّجَانَ فِي جُمَادَى الآخرة منها عن ثنتين وأربعين سنة وثلاثة
أشهر، وكان مرضه بالصرع، ودفن بالمشهد إِلَى جَانِبِ أَبِيهِ.
قَابُوسُ بْنُ وُشْمَكِيرَ
كَانَ أهل دولته قد تغيروا عليه فبايعوا ابنه منوجهر وقتلوه كما ذكرنا،
وَكَانَ قَدْ نَظَرَ فِي النُّجُومِ فَرَأَى أَنَّ وَلَدَهُ
يَقْتُلُهُ، وَكَانَ يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ وَلَدَهُ دَارَا، لِمَا يَرَى
مِنْ مُخَالَفَتِهِ لَهُ، وَلَا يَخْطِرُ بِبَالِهِ مِنُوجِهْرُ لِمَا
يَرَى مِنْ طَاعَتِهِ لَهُ، فكان هلاكه على يد منوجهر، وقد قدمنا شيئا
من شعره فِي الْحَوَادِثِ.
الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ
مُحَمَّدُ بن الطيب أبو بكر الباقلاني، رأس المتكلمين على مذهب
الشافعيّ، وهو من أَكْثَرِ النَّاسِ كَلَامًا وَتَصْنِيفًا فِي
الْكَلَامِ، يُقَالُ إِنَّهُ كَانَ لَا يَنَامُ كُلَّ لَيْلَةٍ حَتَّى
يكتب عشرين ورقة من مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ مِنْ عُمُرِهِ، فَانْتَشَرَتْ
عَنْهُ تَصَانِيفُ كثيرة، منها التبصرة، ودقائق الحقائق، والتمهيد في
أصول الفقه، وشرح الْإِبَانَةِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْمَجَامِيعِ
الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ، ومن أحسنها كِتَابُهُ فِي الرَّدِّ عَلَى
الْبَاطِنِيَّةِ، الَّذِي سَمَّاهُ كَشْفَ الْأَسْرَارِ وَهَتْكَ
الْأَسْتَارِ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي مَذْهَبِهِ فِي الْفُرُوعِ:
فَقِيلَ شَافِعِيٌّ وَقِيلَ مَالِكِيٌّ، حكى ذلك عنه أبو ذر الهروي،
وقيل إِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ عَلَى الْفَتَاوَى: كَتَبَهُ مُحَمَّدُ
بْنُ الطَّيِّبِ الْحَنْبَلِيُّ، وَهَذَا غَرِيبٌ جِدًّا، وَقَدْ كَانَ
فِي غَايَةِ الذَّكَاءِ وَالْفِطْنَةِ، ذَكَرَ الْخَطِيبُ وَغَيْرُهُ
عَنْهُ أَنَّ عَضُدَ الدَّوْلَةِ بَعْثَهُ فِي رِسَالَةٍ إِلَى مَلِكِ
الرُّومِ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهِ إذ هو لا يدخل عليه أحد إلا من
باب قصير كهيئة الراكع، ففهم الباقلاني أن مراده أن ينحنى الداخل عليه
له كهيئة الراكع للَّه عز وجل، فدار استه إلى الملك ودخل الباب بظهره
يمشى إليه القهقرى، فلما وصل إليه انفتل فسلم عليه، فعرف الملك ذكاءه
ومكانه من العلم والفهم، فعظمه. ويقال إن الملك أحضر بَيْنِ يَدَيْهِ
آلَةَ الطَّرَبِ الْمُسَمَّاةِ بِالْأُرْغُلِ، لِيَسْتَفِزَّ عقله بها،
فلما سمعها الباقلاني خاف على نفسه أن يظهر مِنْهُ حَرَكَةٌ نَاقِصَةٌ
بِحَضْرَةِ الْمَلِكِ، فَجَعَلَ لَا يَأْلُو جَهْدًا أَنْ جَرَحَ
رِجْلَهُ حَتَّى خَرَجَ مِنْهَا الدَّمُ الْكَثِيرُ، فَاشْتَغَلَ
بِالْأَلَمِ عَنِ الطَّرَبِ، وَلَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ
النَّقْصِ وَالْخِفَّةِ، فعجب الملك من ذلك، ثم إن الملك استكشف الأمر
فَإِذَا هُوَ قَدْ جَرَحَ نَفْسَهُ بِمَا أَشْغَلَهُ عن الطرب، فتحقق
الملك وفور همته وعلو عزيمته، فأن هذه الآلة لا يسمعها أحد إلا طرب شاء
أم أبى. وَقَدْ سَأَلَهُ بَعْضُ الْأَسَاقِفَةِ بِحَضْرَةِ مَلِكِهِمْ
فَقَالَ: مَا فَعَلَتْ زَوْجَةُ نَبِيِّكُمْ؟
وَمَا كَانَ مِنْ أمرها بما رميت به من الافك؟ فقال الباقلاني مجيبا له
على البديهة: هما امرأتان ذكرنا بِسُوءٍ: مَرْيَمُ وَعَائِشَةُ،
فَبَرَّأَهُمَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَكَانَتْ عَائِشَةُ ذَاتَ
زَوْجٍ وَلَمْ تَأْتِ بِوَلَدٍ، وَأَتَتْ مَرْيَمُ بِوَلَدٍ وَلَمْ
يَكُنْ لَهَا زَوْجٌ- يَعْنِي أَنَّ عَائِشَةَ أَوْلَى بِالْبَرَاءَةِ
مِنْ مَرْيَمَ- وكلاهما بريئة مما قيل فيها، فان تطرق في الذهن الفاسد
احتمال ريبة إِلَى هَذِهِ فَهُوَ إِلَى تِلْكَ أَسْرَعُ، وَهُمَا بحمد
الله منزهتان مبرأتان من السماء بوحي الله عز وجل، عليهما السلام.
(11/350)
وَقَدْ سَمِعَ الْبَاقِلَّانِيُّ
الْحَدِيثَ مِنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مَالِكٍ الْقَطِيعِيِّ وَأَبِي
مُحَمَّدِ بْنِ مَاسِيِّ وغيرهما، وقد قبله الدار قطنى يوما وَقَالَ:
هَذَا يَرُدُّ عَلَى أَهْلِ الْأَهْوَاءِ بَاطِلَهُمْ، ودعا له. وكانت
وفاته يَوْمَ السَّبْتَ لِسَبْعٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ،
وَدُفِنَ بِدَارِهِ ثُمَّ نُقِلَ إِلَى مَقْبَرَةِ بَابِ حَرْبٍ.
مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ مُحَمَّدٍ
أَبُو بكر الخوارزمي شيخ الحنفية وفقيههم، أخذ العلم عن أَحْمَدَ بْنِ
عَلِيٍّ الرَّازِيِّ، وَانْتَهَتْ إِلَيْهِ رِيَاسَةُ الْحَنَفِيَّةِ
بِبَغْدَادَ، وَكَانَ مُعَظَّمًا عِنْدَ الْمُلُوكِ، وَمِنْ تلامذة
الرَّضِيُّ وَالصَّيْمَرِيُّ، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ أَبِي بكر
الشافعيّ وغيره، وكان ثقة دينا حسن الصلاة على طريقة السلف، ويقول في
الاعتقاد: دِينُنَا دِينُ الْعَجَائِزِ، لَسْنَا مِنَ الْكَلَامِ فِي
شَيْءٍ، وَكَانَ فَصِيحًا حَسَنَ التَّدْرِيسِ، دُعِيَ إِلَى ولاية
القضاء غير مرة فلم يقبل، توفى لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ الثَّامِنَ عَشَرَ
مِنْ جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَدُفِنَ
بِدَارِهِ مِنْ دَرْبِ عَبْدَةَ.
الْحَافِظُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بن خلف
العامري القابسي مصنف التلخيص، أصله قزويني وَإِنَّمَا غَلَبَ عَلَيْهِ
الْقَابِسَيُّ لِأَنَّ عَمَّهُ كَانَ يَتَعَمَّمُ قَابِسِيَّةً،
فَقِيلَ لَهُمْ ذَلِكَ، وَقَدْ كَانَ حَافِظًا بَارِعًا فِي عِلْمِ
الْحَدِيثِ، رَجُلًا صَالِحًا جَلِيلَ الْقَدْرِ، وَلَمَّا تُوُفِّيَ
فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَكَفَ النَّاسُ عَلَى
قَبْرِهِ لَيَالِيَ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَيَدْعُونَ لَهُ، وَجَاءَ
الشُّعَرَاءُ مِنْ كُلِّ أَوْبٍ يَرْثُونَ وَيَتَرَحَّمُونَ، وَلَمَّا
أُجْلِسَ للمنظرة أَنْشَدَ لِغَيْرِهِ:
لَعَمْرُ أَبِيكَ مَا نُسِبَ الْمُعَلَّى ... إِلَى كَرَمٍ وَفِي
الدُّنْيَا كَرِيمُ
وَلَكِنَّ الْبِلَادَ إِذَا اقْشَعَرَّتْ ... وَصَوَّحَ نَبْتُهَا
رُعِيَ الْهَشِيمُ
ثُمَّ بَكَى وَأَبْكَى، وَجَعَلَ يَقُولُ: أَنَا الْهَشِيمُ أَنَا
الهشيم. رحمه الله.
الْحَافِظُ بْنُ الْفَرْضِيِّ
أَبُو الْوَلِيدِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ بْنِ
نَصْرٍ الْأَزْدِيُّ الفرضيّ، قاضى بكنسية، سمع الكثير وجمع وَصَنَّفَ
التَّارِيخَ، وَفِي الْمُؤْتَلِفِ وَالْمُخْتَلِفِ، وَمُشْتَبَهِ
النِّسْبَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَكَانَ عَلَّامَةَ زَمَانِهِ، قُتِلَ
شَهِيدًا على يد البربر فسمعوه وَهُوَ جَرِيحٌ طَرِيحٌ يَقْرَأُ عَلَى
نَفْسِهِ الْحَدِيثَ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ «مَا يُكْلَمُ أَحَدٌ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ
إِلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَكَلْمُهُ يَدْمَى، اللَّوْنُ
لَوْنُ الدَّمِ، وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ» . وَقَدْ كان سأل الله
الشهادة عند أستار الكعبة فأعطاه إياها، وَمِنْ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
أَسِيرُ الْخَطَايَا عِنْدَ بَابِكَ وَاقِفُ ... عَلَى وَجَلٍ مِمَّا
بِهِ أَنْتَ عَارِفُ
يخاف ذنوبا لم يغب عنك غيها ... ويرجوك فيها وهو رَاجٍ وَخَائِفُ
وَمَنْ ذَا الَّذِي يُرْجَى سِوَاكَ ويتقى ... ومالك فِي فَصْلِ
الْقَضَاءِ مُخَالِفُ
فَيَا سَيِّدِي لَا تُخْزِنِي فِي صَحِيفَتِي ... إِذَا نُشِرَتْ
يَوْمَ الْحِسَابِ الصحائب
وَكُنْ مُؤْنِسِي فِي ظُلْمَةِ الْقَبْرِ عِنْدَ مَا ... يصد ذو
والقربى ويجفو الموالف
(11/351)
لَئِنْ ضَاقَ عَنِّي عَفْوُكَ الْوَاسِعُ
الَّذِي ... أَرَجِّي لِإِسْرَافِي فَإِنِّي تَالِفُ
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وأربعمائة
فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ غُرَّةِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا جلس الخليفة
القادر في أبهة الخلافة وأحضر بين يديه سلطان الدولة والحجبة، فخلع
عليه سبع خلع على العادة، وعممه بعمامة سوداء، وقلد سيفا وتاجا مرصعا،
وسوارين وطوقا، وعقد له لواءين بِيَدِهِ، ثُمَّ أَعْطَاهُ سَيْفًا
وَقَالَ لِلْخَادِمِ: قَلِّدْهُ به، فهو شرف له ولعقبه، يفتح شَرْقَ
الْأَرْضِ وَغَرْبَهَا، وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمًا مَشْهُودًا، حضره
القضاة والأمراء والوزراء.
وَفِيهَا غَزَا مَحْمُودُ بْنُ سُبُكْتِكِينَ بِلَادَ الْهِنْدِ
فَفَتَحَ وَقَتَلَ وَسَبَى وَغَنِمَ، وَسَلِمَ، وَكَتَبَ إِلَى الخليفة
أَنْ يُوَلِّيَهُ مَا بِيَدِهِ مِنْ مَمْلَكَةِ خُرَاسَانَ وغيرها من
البلاد، فأجابه إلى ما سأل. وَفِيهَا عَاثَتْ بَنُو خَفَاجَةَ
بِبِلَادِ الْكُوفَةِ فَبَرَزَ إليهم نائبها أبو الحسن بن مزيد فقتل
منهم خلقا وأسر محمد بن يمان وَجَمَاعَةً مِنْ رُءُوسِهِمْ،
وَانْهَزَمَ الْبَاقُونَ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ عليهم ريحا حارة فأهلك
منهم خمسمائة إنسان. وحج بالناس أبو الحسن محمد بن الحسن الأفساسى.
وفيها توفى من الأعيان
الحسن بن أحمد
ابن جَعْفَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ
الْبَغْدَادِيِّ، سَمِعَ الْحَدِيثَ، وَكَانَ زَاهِدًا عَابِدًا
كَثِيرَ الْمُجَاهَدَةِ، لَا يَنَامُ إِلَّا عَنْ غَلَبَةٍ، وَكَانَ
لَا يدخل الحمام ولا يغسل ثيابه إلا بماء، وجده الْحُسَيْنُ بْنُ
عُثْمَانَ بْنِ عَلِيٍّ أَبُو عَبْدِ الله المقري الضَّرِيرُ
الْمُجَاهِدِيُّ، قَرَأَ عَلَى ابْنِ مُجَاهِدٍ الْقُرْآنَ وَهُوَ
صَغِيرٌ، وَكَانَ آخِرَ مَنْ بَقِيَ مِنْ أصحابه، توفى في جمادى الأولى
منها، وَقَدْ جَاوَزَ الْمِائَةَ سَنَةٍ، وَدُفِنَ فِي مَقَابِرِ
الزرادين.
عَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ
أَحَدُ شُيُوخِ الْمُعْتَزِلَةِ، صَنَّفَ لِلْقَادِرِ باللَّه الرَّدَّ
عَلَى الْبَاطِنِيَّةِ فَأَجْرَى عَلَيْهِ جِرَايَةً سَنِيَّةً،
وَكَانَ يَسْكُنُ دَرْبَ رَبَاحٍ، تُوُفِّيَ فِي شَوَّالٍ وَقَدْ
جَاوَزَ الثَّمَانِينَ.
ثُمَّ دخلت سنة خمس وأربعمائة
فِيهَا مَنَعَ الْحَاكِمُ صَاحِبُ مِصْرَ النِّسَاءَ مِنَ الخروج من
منازلهم، أو أن يطلعن من الأسطحة أو من الطاقات، ومنع الخفافين من عمل
الخفاف لَهُنَّ، وَمَنَعَهُنَّ مِنْ الْخُرُوجِ إِلَى الْحَمَّامَاتِ،
وَقَتَلَ خَلْقًا مِنَ النِّسَاءِ عَلَى مُخَالَفَتِهِ فِي ذَلِكَ،
وعدم بعض الحمامات عليهنّ، وجهز نساء عجائز كثيرة يستعلمن أحوال النساء
لمن يعشقن أو يعشقهن، بِأَسْمَائِهِنَّ وَأَسْمَاءِ مَنْ يَتَعَرَّضُ
لَهُنَّ، فَمَنْ وُجِدَ منهن كذلك أطفأها وأهلكها، ثم إنه أكثر من
الدوران بنفسه ليلا ونهارا فِي الْبَلَدِ، فِي طَلَبِ ذَلِكَ،
وَغَرَّقَ خَلْقًا من الرجال والنساء والصبيان ممن يطلع على فسقهم،
فضاق الحال واشتد على النساء، وعلى الفساق ذلك، ولم يتمكن أحد منهن
أَنْ يَصِلَ إِلَى أَحَدٍ إِلَّا نَادِرًا، حَتَّى أن امرأة كانت عاشقة
لرجل عشقا قويا كادت أن تهلك بسببه، لما حيل بينهما وبينه، فوقفت لقاضى
القضاة وهو مالك بن سعد الفارقيّ وحلفته بحق
(11/352)
الحاكم لما وقف لها واستمع كلامها،، فرحمها
فوقف لها فبكت إليه بكاء شديدا مكرا وحيلة وخداعا، وقالت له: أيها
القاضي إِنَّ لِي أَخًا لَيْسَ لِي غَيْرُهُ، وَهُوَ في السياق وإني
أسألك بحق الحاكم عليك لما أوصلتنى إلى منزله، لأنظر إليه قبل أن يفارق
الدنيا، وأجرك على الله. فَرَقَّ لَهَا الْقَاضِي رِقَّةً شَدِيدَةً
وَأَمَرَ رَجُلَيْنِ كانا معه يكونان معها حتى يبلغانها إِلَى
الْمَنْزِلِ الَّذِي تُرِيدُهُ، فَأَغْلَقَتْ بَابَهَا وَأَعْطَتِ
المفتاح لجارتها، وذهبت معهما حتى وصلت إلى منزل معشوقها، فطرقت الباب
ودخلت وقالت لهما: اذهبا هذا منزله فإذا رجل كانت تهواه ونحبه ويهواها
ويحبها، فقال لها: كيف قدرت على الوصول إليّ؟
فَأَخْبَرَتْهُ بِمَا احْتَالَتْ بِهِ مِنَ الْحِيلَةِ عَلَى القاضي،
فأعجبه ذلك من مكرها وحيلتها، وَجَاءَ زَوْجُهَا مِنْ آخِرِ النَّهَارِ
فَوَجَدَ بَابَهُ مغلقا وليس في بيته أحد، فسأل الجيران عن أمرها فذكرت
له جارتها مَا صَنَعَتْ فَاسْتَغَاثَ عَلَى الْقَاضِي وَذَهَبَ
إِلَيْهِ وَقَالَ لَهُ: مَا أُرِيدُ امْرَأَتِي إِلَّا مِنْكَ الساعة،
وإلا عرّفت الحاكم، فان امرأتي لَيْسَ لَهَا أَخٌ بِالْكُلِّيَّةِ،
وَإِنَّمَا ذَهَبَتْ إِلَى معشوقها، فَخَافَ الْقَاضِي مِنْ مَعَرَّةِ
هَذَا الْأَمْرِ، فَرَكِبَ إلى الحاكم وبكى بين يديه، فَسَأَلَهُ عَنْ
شَأْنِهِ فَأَخْبَرَهُ بِمَا اتَّفَقَ لَهُ من الأمر مع المرأة، فأرسل
الحاكم مع ذينك الرجلين من يحضر المرأة والرجل جَمِيعًا، عَلَى أَيِّ
حَالٍ كَانَا عَلَيْهِ، فَوَجَدَهُمَا مُتَعَانِقَيْنِ سُكَارَى،
فَسَأَلَهُمَا الْحَاكِمُ عَنْ أَمْرِهِمَا فَأَخَذَا يَعْتَذِرَانِ
بِمَا لَا يُجْدِي شَيْئًا، فَأَمَرَ بِتَحْرِيقِ المرأة في بادية وضرب
الرجل ضربا مبرحا حتى أتلفه، ثم ازداد احتياطا وشدة على النساء حتى
جعلهن في أضيق من جحر ضب، ولا زال هذا دأبه حَتَّى مَاتَ. ذَكَرَهُ
ابْنُ الْجَوْزِيِّ.
وَفِي رَجَبٍ منها ولى أبو الحسن أحمد بْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ قَضَاءَ
الْحَضْرَةِ بَعْدَ مَوْتِ أبى محمد الأكفاني. وفيها عمّر فخر الدولة
مسجد الشرقية ونصب عليه الشبابيك من الحديد.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
بَكْرُ بْنُ شاذان بن بكر
أبو القاسم المقري الواعظ، سمع أبا بكر الشافعيّ، وجعفر الْخُلْدِيَّ،
وَعَنْهُ الْأَزْهَرِيُّ وَالْخَلَّالُ، وَكَانَ ثِقَةً أَمِينًا
صَالِحًا عَابِدًا زَاهِدًا، لَهُ قِيَامُ لَيْلٍ، وَكَرِيمُ أخلاق.
مات فيها عن نيف وثمانين سنة، وَدُفِنَ بِبَابِ حَرْبٍ
بَدْرُ بْنُ حَسْنَوَيْهِ بْنِ الْحُسَيْنِ
أَبُو النَّجْمِ الْكُرْدِيُّ، كَانَ مِنْ خِيَارِ الملوك بناحية
الدينور وهمدان، وله سياسة وصدقة كثيرة، كنّاه القادر بأبي النَّجْمِ،
وَلَقَّبَهُ نَاصِرَ الدَّوْلَةِ، وَعَقَدَ لَهُ لِوَاءً وأنفذه إليه،
وكانت معاملاته وبلاده في غاية الأمن والطيبة، بحيث إذا أعيى جمل أحد
من المسافرين أو دابته عن حمله يتركها بما عليها في البرية فيرد عليه،
ولو بعد حين لَا يُنْقَصُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَلَمَّا عَاثَتْ أُمَرَاؤُهُ
في الأرض فَسَادًا عَمِلَ لَهُمْ ضِيَافَةً حَسَنَةً، فَقَدَّمَهَا
إِلَيْهِمْ وَلَمْ يَأْتِهِمْ بِخُبْزٍ، فَجَلَسُوا يَنْتَظِرُونَ
الْخُبْزَ، فَلَمَّا استبطاؤه سألوا عنه فقال لهم:
إذا كنتم تهلكون الحرث وتظلمون الزراع، فمن أين تؤتون بخبز؟ ثم قال
لهم: لا أسمع بأحد أفسد في الأرض بعد اليوم إِلَّا أَرَقْتَ دَمَهُ.
وَاجْتَازَ مَرَّةً فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ بِرَجُلٍ قَدْ حَمَلَ
حُزْمَةَ حَطَبٍ وَهُوَ
(11/353)
يبكى فقال له: مالك تبكى؟ فَقَالَ: إِنِّي
كَانَ مَعِي رَغِيفَانِ أُرِيدُ أَنْ أتقوتهما فَأَخَذَهُمَا مِنِّي
بَعْضُ الْجُنْدِ، فَقَالَ: لَهُ أَتَعْرِفُهُ إِذَا رَأَيْتَهُ؟
قَالَ: نَعَمْ، فَوَقَفَ بِهِ فِي موضع مضيق حتى مر عليه ذلك الرجل
الّذي أخذ رغيفيه، قَالَ: هَذَا هُوَ، فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يَنْزِلَ عن
فرسه وأن بحمل حزمته التي احتطبها حَتَّى يَبْلُغَ بِهَا إِلَى
الْمَدِينَةِ، فَأَرَادَ أَنْ يَفْتَدِيَ مِنْ ذَلِكَ بِمَالٍ جَزِيلٍ
فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ، حَتَّى تَأَدَّبَ بِهِ الْجَيْشُ كُلُّهُمْ.
وَكَانَ يصرف كل جمعة عشرين ألف درهم على الفقراء والأرامل، وَفِي
كُلِّ شَهْرٍ عِشْرِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فِي تَكْفِينِ الْمَوْتَى،
وَيَصْرِفُ فِي كُلِّ سَنَةٍ أَلْفَ دينار إلى عشرين نفسا يحجون عن
والدته، وَعَنْ عَضُدِ الدَّوْلَةِ، لِأَنَّهُ كَانَ السَّبَبَ فِي
تَمْلِيكِهِ، وَثَلَاثَةَ آلَافِ دِينَارٍ فِي كُلِّ سَنَةٍ إلى
الحدادين والحذّائين لأجل المنقطعين من همذان وبغداد، يصلحون
الْأَحْذِيَةَ وَنِعَالَ دَوَابِّهِمْ، وَيَصْرِفُ فِي كُلِّ سَنَةٍ
مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ إِلَى الْحَرَمَيْنِ صَدَقَةً عَلَى
الْمُجَاوِرِينَ، وَعِمَارَةِ الْمَصَانِعِ، وَإِصْلَاحِ الْمِيَاهِ
فِي طَرِيقِ الحجاز، وحفر الآبار. وما اجتاز في طريقه وأسفاره بما
إِلَّا بَنَي عِنْدَهُ قَرْيَةً، وَعُمِّرَ فِي أَيَّامِهِ مِنَ
الْمَسَاجِدِ وَالْخَانَاتِ مَا يُنَيِّفُ عَلَى أَلْفَيْ مَسْجِدٍ
وَخَانٍ، هَذَا كُلُّهُ خَارِجًا عَمَّا يَصْرِفُ مِنْ دِيوَانِهِ مِنَ
الْجِرَايَاتِ، وَالنَّفَقَاتِ وَالصَّدَقَاتِ، وَالْبِرِّ
وَالصِّلَاتِ، عَلَى أَصْنَافِ النَّاسِ، مِنَ الْفُقَهَاءِ
وَالْقُضَاةِ، والمؤذنين والأشراف، والشهود والفقراء، والمساكين
والأيتام والأرامل. وكان مع هذا كَثِيرَ الصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ
وَكَانَ لَهُ مِنَ الدَّوَابِّ المربوطة في سبيل الله وفي الحشر ما
ينيف على عشرين ألف دابة. توفى في هذه السنة رحمه الله عن نيف وثمانين
سنة، ودفن في مشهد عَلَيٍّ، وَتَرَكَ مِنَ الْأَمْوَالِ أَرْبَعَةَ
عَشَرَ أَلْفَ بَدْرَةٍ، وَنَيِّفًا وَأَرْبَعِينَ بَدْرَةً،
الْبَدْرَةُ عَشَرَةُ آلَافٍ، رحمه الله.
الْحَسَنُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ حَمَكَانَ
أَبُو عَلِيٍّ الهمدانيّ، أَحَدُ الْفُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ
بِبَغْدَادَ، عُنِيَ أَوَّلًا بِالْحَدِيثِ فسمع منه أبو حامد المروزي
وَرَوَى عَنْهُ الْأَزْهَرِيُّ، وَقَالَ: كَانَ ضَعِيفًا لَيْسَ
بِشَيْءٍ فِي الْحَدِيثِ.
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ
أَبُو مُحَمَّدٍ الْأَسَدِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْأَكْفَانِيِّ،
قَاضِي قُضَاةِ بَغْدَادَ، وُلِدَ سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ
وَثَلَاثِمِائَةٍ وَرَوَى عَنِ القاضي المحاملي، ومحمد بن خلف، وَابْنِ
عُقْدَةَ وَغَيْرِهِمْ، وَعَنْهُ الْبَرْقَانِيُّ وَالتَّنُوخِيُّ،
يُقَالُ إِنَّهُ أَنْفَقَ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ مِائَةَ أَلْفِ
دينار، وكان عفيفا نزها، صين العرض. توفى فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ
خَمْسٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَلِيَ الْحُكْمَ مِنْهَا أَرْبَعِينَ
سَنَةً نِيَابَةً وَاسْتِقْلَالًا، رحمه الله.
عبد الرحمن بن محمد
ابن محمد بن عبد الله بن إدريس بن سَعْدٍ، الْحَافِظُ
الْإِسْتَرَابَاذِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالْإِدْرِيسِيِّ، رَحَلَ فِي طلب
العلم والحديث، وَعُنِيَ بِهِ وَسَمِعَ الْأَصَمَّ وَغَيْرَهُ،
وَسَكَنَ سَمَرْقَنْدَ، وصنف لها تاريخا وعرضه على الدار قطنى
فَاسْتَحْسَنَهُ، وَحَدَّثَ بِبَغْدَادَ فَسَمِعَ مِنْهُ
الْأَزْهَرِيُّ وَالتَّنُوخِيُّ، وكان ثقة حافظا.
(11/354)
أبو نصر عبد العزيز
بن عمر
ابن أحمد بن نباتة الشاعر المشهور، امتدح سيف الدولة بن حمدان، أظنه
أخو الخطيب ابن نباتة أو غيره، وَهُوَ الْقَائِلُ الْبَيْتَ
الْمَطْرُوقَ الْمَشْهُورَ:
وَمَنْ لَمْ يمت بالسيف مات بغيره ... تنوعت الأسباب والموت واحد
عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ نباتة
أبو نصر السعدي الشاعر وشعره موقوف ومن شعره قوله:
وإذا عجزت عن العدو فداره ... وامزج له إن المزاج وفاق
كالماء بالنار الّذي هو ضدها ... يعطى النضاج وطبعها الإحراق
توفى فيها
عَبْدُ الْغَفَّارِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
أَبُو بَكْرٍ الدينَوَريّ الْفَقِيهُ السُّفْيَانِيُّ، وَهُوَ آخِرُ
مَنْ كَانَ يفتى بمذهب سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ بِبَغْدَادَ، فِي
جَامِعِ الْمَنْصُورِ، وَكَانَ إليه النظر في الجامع والقيام بأمره.
توفى فيها ودفن خلف جامع الحاكم.
الْحَاكِمُ النَّيْسَابُورِيُّ
صَاحِبُ الْمُسْتَدْرَكِ، مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ حمدويه، بن نعيم بْنِ الْحَكَمِ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
الْحَاكِمُ الضَّبِّيُّ الْحَافِظُ، وَيُعْرَفُ بِابْنِ الْبَيِّعِ،
مِنْ أَهْلِ نَيْسَابُورَ، وكان من أهل العلم والحفظ والحديث، وُلِدَ
سَنَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَأَوَّلُ سَمَاعِهِ من
سنة ثلاثين، وثلاثمائة، سمع الكثير وطاف الآفاق، وصنف الكتب الكبار
والصغار، فمنها المستدرك على الصحيحين، وعلوم الحديث والإكليل وتاريخ
نيسابور، وقد روى عن خلق، ومن مشايخه الدار قطنى وَابْنُ أَبِي
الْفَوَارِسِ وَغَيْرُهُمَا، وَقَدْ كَانَ مِنْ أهل الدين والأمانة
والصيانة، والضبط، والتجرد، والورع، لَكِنْ قَالَ الْخَطِيبُ
الْبَغْدَادِيُّ: كَانَ ابْنُ الْبَيِّعِ يَمِيلُ إِلَى التَّشَيُّعِ،
فَحَدَّثَنِي أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ
الْأُرْمَوِيُّ، قَالَ: جَمَعَ الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
أَحَادِيثَ زَعَمَ أَنَّهَا صِحَاحٌ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ
وَمُسْلِمٍ، يُلْزِمُهُمَا إِخْرَاجَهَا فِي صَحِيحَيْهِمَا، فمنها
حديث الطير، «ومن كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ» ، فَأَنْكَرَ
عَلَيْهِ أَصْحَابُ الحديث ذلك ولم يلتفتوا إلى قوله ولاموه فِي
فِعْلِهِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ طَاهِرٍ الْمَقْدِسِيُّ: قَالَ
الْحَاكِمُ: حَدِيثُ الطَّيْرِ لَمْ يُخَرَّجْ فِي الصَّحِيحِ وَهُوَ
صَحِيحٌ، قَالَ ابْنُ طَاهِرٍ: بَلْ موضوع لا يروى إلا عن أسقاط أَهْلِ
الْكُوفَةِ مِنَ الْمَجَاهِيلِ، عَنْ أَنَسٍ. فَإِنْ كَانَ الْحَاكِمُ
لَا يَعْرِفُ هَذَا فَهُوَ جَاهِلٌ، وَإِلَّا فَهُوَ مُعَانِدٌ
كَذَّابٌ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ: دَخَلْتُ
عَلَى الْحَاكِمِ وَهُوَ مُخْتَفٍ مِنَ الْكَرَّامِيَّةِ لَا
يَسْتَطِيعُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُمْ، فقلت له: لو خرجت حَدِيثًا فِي
فَضَائِلِ مُعَاوِيَةَ لَاسْتَرَحْتَ مِمَّا أَنْتَ فيه، فقال: لا يجيء
من قبلي، لا يجيء من قبلي. توفى فيها عن أربع وثمانين سنة.
ابن كج
هو يُوسُفُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ كَجٍّ أَبُو الْقَاسِمِ القاضي، أحد
أئمة الشافعية، وله في المذهب وجوه غريبة وَكَانَتْ لَهُ نِعْمَةٌ
عَظِيمَةٌ جِدًّا، وَوَلِيَ الْقَضَاءَ بِالدِّينَوَرِ لِبَدْرِ بْنِ
حَسْنَوَيْهِ فَلَمَّا تَغَيَّرَتِ الْبِلَادُ بَعْدَ مَوْتِ بَدْرٍ
وَثَبَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعَيَّارِينَ فَقَتَلُوهُ لَيْلَةَ
سَبْعٍ وَعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ من هذه السنة.
(تم الجزء الحادي عشر من البداية والنهاية ويليه الجزء الثاني عشر
وأوله سنة ست وأربعمائة وباللَّه التوفيق)
(11/355)
[المجلد الثاني
عشر]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ست وأربعمائة
في يوم الثلاثاء مستهل المحرم منها وقعت فتنة بين أهل السنة والروافض،
ثم سكّن الْفِتْنَةَ الْوَزِيرُ فَخْرُ الْمُلْكِ عَلَى أَنْ تَعْمَلَ
الرَّوَافِضُ بِدْعَتَهُمْ يَوْمَ عَاشُورَاءَ مِنْ تَعْلِيقِ
الْمُسُوحِ وَالنَّوْحِ. وَفِي هَذَا الشَّهْرِ وَرَدَ الْخَبَرُ
بِوُقُوعِ وَبَاءٍ شَدِيدٍ فِي الْبَصْرَةِ أَعْجَزَ الْحَفَّارِينَ،
وَالنَّاسَ عَنْ دَفْنِ مَوْتَاهُمْ، وَأَنَّهُ أَظَلَّتِ الْبَلَدَ
سَحَابَةٌ في حزيران. فأمطرتهم مطرا شديدا. وفي يوم السبت ثالث صفر
تولى المرتضى نِقَابَةَ الطَّالِبِيِّينَ وَالْمَظَالِمَ وَالْحَجَّ،
وَجَمِيعَ مَا كَانَ يتولاه أخوه الرضى، وقرئ تقليده بحضرة الأعيان،
وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا. وَفِيهَا وَرَدَ الْخَبَرُ عَنِ الحجاج
بِأَنَّهُ هَلَكَ مِنْهُمْ بِسَبَبِ الْعَطَشِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ ألفا،
وسلم ستة آلاف، وأنهم شربوا بول الإبل من العطش. وَفِيهَا غَزَا
مَحْمُودُ بْنُ سُبُكْتِكِينَ بِلَادَ الْهِنْدِ فأخذه الأدلاء فسلكوا
به عَلَى بِلَادٍ غَرِيبَةٍ فَانْتَهَوْا إِلَى أَرْضٍ قَدْ غَمَرَهَا
الْمَاءُ مِنَ الْبَحْرِ فَخَاضَ بِنَفْسِهِ الْمَاءَ أياما وخاض الجيش
حَتَّى خَلَصُوا بَعْدَ مَا غَرِقَ كَثِيرٌ مِنْ جَيْشِهِ، وَعَادَ
إِلَى خُرَاسَانَ بَعْدَ جَهْدٍ جَهِيدٍ. ولم يحج فيها من العراق ركب
لفساد البلاد من الاعراب.
وفيها توفى من الأعيان
الشيخ أبو حامد الأسفراييني
إمام الشافعية، أحمد بن محمد بن أحمد إمام الشافعية في زمانه، ولد في
سنة أربع وأربعين وثلاثمائة وقدم بَغْدَادَ وَهُوَ صَغِيرٌ سَنَةَ
ثَلَاثٍ أَوْ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، فَدَرَسَ
الْفِقْهَ عَلَى أَبِي الْحَسَنِ ابن الْمَرْزُبَانِ، ثُمَّ عَلَى
أَبِي الْقَاسِمِ الدَّارَكِيِّ، وَلَمْ يزل تترقى به الأحوال حَتَّى
صَارَتْ إِلَيْهِ رِيَاسَةُ
(12/2)
الشَّافِعِيَّةِ، وَعَظُمَ جَاهُهُ عِنْدَ
السُّلْطَانِ وَالْعَوَامِّ، وَكَانَ فقيها إماما، جَلِيلًا نَبِيلًا،
شَرَحَ الْمُزَنِيَّ فِي تَعْلِيقَةٍ حَافِلَةٍ نحوا مِنْ خَمْسِينَ
مُجَلَّدًا، وَلَهُ تَعْلِيقَةٌ أُخْرَى فِي أصول الفقه، وروى عن
الإسماعيلي وغيره.
قال الخطيب: وَرَأَيْتُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ وَحَضَرْتُ تَدْرِيسَهُ
بِمَسْجِدِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، فِي صَدْرِ قَطِيعَةِ
الرَّبِيعِ، وَحَدَّثَنَا عَنْهُ الْأَزَجِيُّ وَالْخَلَّالُ،
وَسَمِعْتُ مَنْ يَذْكُرُ أَنَّهُ كَانَ يَحْضُرُ تَدْرِيسَهُ
سَبْعُمِائَةِ مُتَفَقِّهٍ، وَكَانَ النَّاسُ يَقُولُونَ: لَوْ رَآهُ
الشَّافِعِيُّ لِفَرَحِ بِهِ. وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْقُدُورِيُّ:
مَا رَأَيْتُ فِي الشافعية أفقه من أبى حامد، وَقَدْ ذَكَرْتُ
تَرْجَمَتَهُ مُسْتَقْصَاةً فِي طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ: وذكر ابن
خلكان أَنَّ الْقُدُورِيَّ قَالَ: هُوَ أَفْقَهُ وَأَنْظَرُ مِنَ
الشافعيّ. قال الشيخ أبو إسحاق: ليس هَذَا مُسَلَّمًا إِلَى
الْقُدُورِيِّ فَإِنَّ أَبَا حَامِدٍ وَأَمْثَالَهُ بِالنِّسْبَةِ
إِلَى الشَّافِعِيِّ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
نَزَلُوا بِمَكَّةَ فِي قَبَائِلِ نَوْفَلٍ ... وَنَزَلْتُ
بِالْبَيْدَاءِ أبعد منزل
قال ابن خلكان: وله مصنفات: التَّعْلِيقَةُ الْكُبْرَى، وَلَهُ كِتَابُ
الْبُسْتَانِ، وَهُوَ صَغِيرٌ فيه غرائب قال وقد اعترض عليه بَعْضُ
الْفُقَهَاءِ فِي بَعْضِ الْمُنَاظَرَاتِ فَأَنْشَأَ الشَّيْخُ أَبُو
حَامِدٍ يَقُولُ:
جَفَاءٌ جَرَى جَهْرًا لَدَى النَّاسِ وَانْبَسَطْ ... وَعُذْرٌ أَتَى
سِرًّا فَأَكَّدَ مَا فَرَطْ
وَمَنْ ظَنَّ أَنْ يَمْحُو جَلِيَّ جَفَائِهِ ... خفي اعتذار فهو في
أعظم الغلط
توفى ليلة السبت لإحدى عشرة بقيت من شوال منها، ودفن بداره بعد ما
صُلِّيَ عَلَيْهِ بِالصَّحْرَاءِ وَكَانَ الْجَمْعُ كَثِيرًا
وَالْبُكَاءُ غَزِيرًا، ثُمَّ نُقِلَ إِلَى مَقْبَرَةِ بَابِ حَرْبٍ
فِي سَنَةِ عَشْرٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ:
وَبَلَغَ مِنَ الْعُمُرِ إِحْدَى وَسِتِّينَ سَنَةً وَأَشْهُرًا.
أَبُو أَحْمَدَ الْفَرْضِيُّ
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ
مِهْرَانَ، أَبُو مسلم الفرضيّ المقري. سمع المحاملي ويوسف ابن
يَعْقُوبَ، وَحَضَرَ مَجْلِسَ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْأَنْبَارِيِّ،
وَكَانَ إِمَامًا ثِقَةً، وَرِعًا وَقُورًا، كَثِيرَ الْخَيْرِ، يقرأ
القرآن كثيرا، ثم سمع الحديث، وكان إِذَا قَدِمَ عَلَى الشَّيْخِ أَبِي
حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ، نَهَضَ إِلَيْهِ حَافِيًا فَتَلَقَّاهُ
إِلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، توفى وقد جاوز الثمانين.
الشريف الرضى
محمد بن الطاهر أبو أحمد الحسين بن موسى أَبُو الْحَسَنِ الْعَلَوِيُّ
لَقَّبَهُ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ بِالرَّضِيِّ، ذي الحسبتين، ولقب أخاه
المرتضى ذي المجدين، ولى نقابة الطالبيين ببغداد بعد أبيه، وكان شاعرا
مطبقا، سخيا جوادا. وقال بعضهم: كان الشريف في كثرة أشعاره أَشْعَرَ
قُرَيْشٍ فَمِنْ شِعْرِهِ الْمُسْتَجَادِ قَوْلُهُ:
اشْتَرِ العز بما شئت ... فما العز بغال
بالقصار إن شئت ... أو بالسمر الطوال
(12/3)
لَيْسَ بِالْمَغْبُونِ عَقْلًا ... مَنْ
شَرَى عِزًّا بِمَالِ
إنما يذخر المال ... لحاجات الرجال
والفتى من جعل الأموال ... أثمان المعالي
وله أيضا
يَا طَائِرَ الْبَانِ غِرِّيدًا عَلَى فَنَنٍ ... مَا هَاجَ نَوْحُكَ
لِي يَا طَائِرَ الْبَانِ
هَلْ أَنْتَ مُبْلِغُ مَنْ هَامَ الْفُؤَادُ بِهِ ... إِنَّ الطَّلِيقَ
يُؤَدِّي حَاجَةَ الْعَانِي
جِنَايَةً مَا جَنَاهَا غير متلفنا ... يوم الوداع ووا شوقى إلى الجاني
لولا تذكر أيام بِذِي سَلَمٍ ... وَعِنْدَ رَامَةَ أَوَطَارِي
وَأَوْطَانِي
لَمَّا قَدَحْتُ بِنَارِ الْوَجْدِ فِي كَبِدِي ... وَلَا بَلَلْتُ
بِمَاءِ الدَّمْعِ أَجْفَانِي
وَقَدْ نُسِبَ إِلَى الرَّضِيِّ قصيدة يتمنى فيها أن يكون عند الحاكم
العبيدي، ويذكر فيها أباه ويا ليته كان عنده، حين يرى حاله ومنزلته
عنده، وأن الخليفة لما بلغه ذلك أراد أن يسيره إليه ليقضى أربه ويعلم
الناس كيف حاله. قال في هذه القصيدة:
أليس الذُّلَّ فِي بِلَادِ الْأَعَادِي ... وَبِمِصْرَ الْخَلِيفَةُ
الْعَلَوِيُّ
وأبوه أبى ومولاه مولاى ... إذا ضامنى البعيد القصي
إلى آخرها، فَلَمَّا سَمِعَ الْخَلِيفَةُ الْقَادِرُ بِأَمْرِ هَذِهِ
الْقَصِيدَةِ انزعج وبعث إلى أبيه الْمُوسَوِيِّ يُعَاتِبُهُ،
فَأَرْسَلَ إِلَى ابْنِهِ الرَّضِيِّ فَأَنْكَرَ أن يكون قالها بالمرة،
والروافض من شأنهم التزوير. فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ: فَإِذَا لَمْ تَكُنْ
قُلْتَهَا فَقُلْ أَبْيَاتًا تَذْكُرُ فِيهَا أَنَّ الْحَاكِمَ
بِمِصْرَ دَعِيٌّ لَا نَسَبَ لَهُ، فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ غَائِلَةِ
ذَلِكَ، وَأَصَرَّ عَلَى أَنْ لَا يَقُولَ ما أمره به أبوه، وترددت
الرسائل مِنَ الْخَلِيفَةِ إِلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ، وَهُمْ يُنْكِرُونَ
ذلك حَتَّى بَعَثَ الشَّيْخَ أَبَا حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيَّ
وَالْقَاضِيَ أبا بكر إليهما، فحلف لهما بالايمان الْمُؤَكَّدَةِ
أَنَّهُ مَا قَالَهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الحال. توفى في
خامس المحرم منها عَنْ سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَحَضَرَ
جِنَازَتَهُ الْوَزِيرُ والقضاة، وصلى عليه الوزير ودفن بداره بمسجد
الأنباري، وولى أخوه الْمُرْتَضَى مَا كَانَ يَلِيهِ، وَزِيدَ عَلَى
ذَلِكَ أشياء ومناصب أخرى، وقد رثى الرضى أخاه بمرثاة حسنة.
باديس بن منصور الحميري
أبو المعز مناذر بْنِ بَادِيسَ [1] نَائِبُ الْحَاكِمِ عَلَى بِلَادِ
إِفْرِيقِيَّةَ وابن نائبها، لقبه الحاكم بنصير الدولة، كان ذا همة
وَسَطْوَةٍ وَحُرْمَةٍ وَافِرَةٍ، كَانَ إِذَا هَزَّ رُمْحًا كسره،
توفى فجأة ليلة الأربعاء سلخ ذي القعدة منها، ويقال إن بعض الصالحين
دعي عليه تلك الليلة، وقام في الأمر بعده ولده المعز مناذر.
ثم دخلت سنة سبع وأربعمائة
فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا، احْتَرَقَ مَشْهَدُ الْحُسَيْنِ بن
على [بكر بلاء] وأروقته، وكان سبب ذلك
__________
[1] في النجوم الزاهرة: المعز بن باديس بن منصور بن بلكين الحميري.
(12/4)
أَنَّ الْقَوْمَةَ أَشْعَلُوا شَمْعَتَيْنِ
كَبِيرَتَيْنِ فَمَالَتَا فِي الليل على التأزير، وَنَفَذَتِ النَّارُ
مِنْهُ إِلَى غَيْرِهِ حَتَّى كَانَ مَا كَانَ. وَفِي هَذَا الشَّهْرِ
أَيْضًا احْتَرَقَتْ دَارُ الْقُطْنِ بِبَغْدَادَ وَأَمَاكِنُ
كَثِيرَةٌ بِبَابِ الْبَصْرَةِ، واحترق جامع سامرا. وفيها وَرَدَ
الْخَبَرُ بِتَشْعِيثِ الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ مِنَ الْمَسْجِدِ
الحرام، وسقوط جدار بين يدي قبر الرسول صلى الله عليه وسلّم بالمدينة،
وَأَنَّهُ سَقَطَتِ الْقُبَّةُ الْكَبِيرَةُ عَلَى صَخْرَةِ بَيْتِ
الْمَقْدِسِ، وَهَذَا مِنْ أَغْرَبِ الِاتِّفَاقَاتِ وَأَعْجَبِهَا.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَتِ الشِّيعَةُ الَّذِينَ بِبِلَادِ
إِفْرِيقِيَّةَ وَنُهِبَتْ أَمْوَالُهُمْ، وَلَمْ يُتْرَكْ مِنْهُمْ
إِلَّا مَنْ لا يعرف. وفيها كان ابتداء دولة العلويين ببلاد الأندلس،
وليها على بن حمود بن أبى العيس العلويّ، فدخل قرطبة في المحرم منها،
وَقَتَلَ سُلَيْمَانَ بْنَ الْحَكَمِ الْأُمَوِيَّ، وَقَتَلَ أَبَاهُ
أَيْضًا، وَكَانَ شَيْخًا صَالِحًا، وَبَايَعَهُ النَّاسُ وَتَلَقَّبَ
بِالْمُتَوَكِّلِ عَلَى اللَّهِ، ثُمَّ قُتِلَ فِي الْحَمَّامِ في ثامن
ذي القعدة منها عَنْ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَقَامَ
بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ أَخُوهُ الْقَاسِمُ بْنُ حَمُّودٍ،
وَتَلَقَّبَ بِالْمَأْمُونِ، فأقام في الملك ست سنين، ثم قام ابن أخيه
يحيى بن إدريس، ثم ملك الأمويون حتى ملك أمر المسلمين على بن يوسف ابن
تاشفين. وفيها ملك محمود بن سبكتكين بِلَادَ خُوَارِزْمَ بَعْدَ
مَلِكِهَا خُوَارِزْمَ شَاهْ مَأْمُونٍ بن مأمون وفيها استوزر سلطان
الدولة أَبَا الْحَسَنِ عَلِيَّ بْنَ الْفَضْلِ الرَّامَهُرْمُزِيَّ،
عِوَضًا عن فخر الملك، وخلع عليه. وَلَمْ يَحُجَّ أَحَدٌ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ مِنْ بلاد المغرب لفساد البلاد والطرقات.
وفيها توفى من الأعيان
أحمد بْنِ يُوسُفَ بْنِ دُوسْتَ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ البزار، أحد حفاظ الحديث، وأحد الفقهاء على مذهب
مالك، كان يذكر بحضرة الدار قطنى ويتكلم على علم الحديث، فيقال إن
الدار قطنى تكلم فيه لذلك السَّبَبِ، وَقَدْ تَكَلَّمَ فِي غَيْرِهِ
بِمَا لَا يَقْدَحُ فِيهِ كَبِيرَ شَيْءٍ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ:
رَأَيْتُ كتبه طَرِيَّةً، وَكَانَ يَذْكُرُ أَنَّ أُصُولَهُ الْعُتُقَ
غَرِقَتْ، وَقَدْ أَمْلَى الْحَدِيثَ مِنْ حَفِظِهِ، وَالْمُخَلِّصُ
وَابْنُ شاهين حيان موجودان. توفى فِي رَمَضَانَ عَنْ أَرْبَعٍ
وَثَمَانِينَ سَنَةً.
الْوَزِيرُ فَخْرُ الْمُلْكِ
مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ خَلَفٍ أبو غالب الوزير، كَانَ مِنْ
أَهْلِ وَاسِطٍ، وَكَانَ أَبُوهُ صَيْرَفِيًّا، فَتَنَقَّلَتْ بِهِ
الْأَحْوَالُ إِلَى أَنْ وَزَرَ لِبَهَاءِ الدولة، وقد اقتنى
أَمْوَالًا جَزِيلَةً، وَبَنَى دَارًا عَظِيمَةً، تُعْرَفُ
بِالْفَخْرِيَّةِ، وَكَانَتْ أَوَّلًا لِلْخَلِيفَةِ الْمُتَّقِي
للَّه، فَأَنْفَقَ عَلَيْهَا أموالا كثيرة، وكان كريما جواد، كثير
الصدقة، كسى في يوم واحد أَلْفَ فَقِيرٍ، وَكَانَ كَثِيرَ الصَّلَاةِ
أَيْضًا، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ فَرَّقَ الْحَلَاوَةَ لَيْلَةَ النِّصْفِ
مِنْ شَعْبَانَ، وَكَانَ فِيهِ مَيْلٌ إِلَى التَّشَيُّعِ، وَقَدْ
صادره سلطان الدولة بالأهواز، وأخذ منه شيئا أَزْيَدُ مِنْ
سِتِّمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، خَارِجًا عَنِ الاملاك والجواهر
والمتاع، قتله سلطان الدولة، وَكَانَ عُمُرُهُ يَوْمَ قُتِلَ
ثِنْتَيْنِ وَخَمْسِينَ سَنَةً وأشهرا وقيل إِنَّ سَبَبَ هَلَاكِهِ
أَنَّ رَجُلًا قَتَلَهُ بَعْضُ غلمانه، فاستعدت امرأة الرجل على الوزير
هذا، ورفعت إليه قصصتها، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا،
فَقَالَتْ لَهُ ذات يوم: أيها الوزير
(12/5)
أرأيت القصص التي رفعتها إليك، فلم تلتفت
إليها قد رفعتها إلى الله عز وجل، وأنا أنتظر التوقيع عليها، فلما مسك
قَالَ قَدْ وَاللَّهِ خَرَجَ تَوْقِيعُ الْمَرْأَةِ، فَكَانَ مِنْ
أَمْرِهِ مَا كَانَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثمان وأربعمائة
فيها وقعت فتنة عظيمة بين أهل السُّنَّةِ وَالرَّوَافِضِ بِبَغْدَادَ،
قُتِلَ فِيهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ.
وَفِيهَا مَلَكَ أَبُو المظفر بن خاقان بِلَادَ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ
وَغَيْرَهَا، وَتَلَقَّبَ بِشَرَفِ الدَّوْلَةِ، وَذَلِكَ بَعْدَ
وَفَاةِ أَخِيهِ طُغَانَ خَانَ، وَقَدْ كَانَ طُغَانُ خَانَ هَذَا
دَيِّنًا فَاضِلًا، يُحِبُّ أَهْلَ الْعِلْمِ وَالدِّينِ، وَقَدْ غَزَا
التُّرْكَ مَرَّةً فَقَتَلَ مِنْهُمْ مِائَتَيْ أَلْفِ مُقَاتِلٍ،
وَأَسَرَ مِنْهُمْ مِائَةَ أَلْفٍ، وَغَنِمَ مِنْ أَوَانِي الذَّهَبِ
والفضة، وأواني الصين شيئا لا يُعْهَدُ لِأَحَدٍ مِثْلُهُ، فَلَمَّا
مَاتَ ظَهَرَتْ مُلُوكُ الترك على الْبِلَادِ الشَّرْقِيَّةِ. وَفِي
جُمَادَى الْأُولَى مِنْهَا وَلِيَ أبو الحسين أحمد بن مهذب الدولة
عَلِيِّ بْنِ نَصْرٍ بِلَادَ الْبَطَائِحِ بَعْدَ أَبِيهِ، فقاتله ابن
عمه فغلبه وقتله، ثُمَّ لَمْ تَطُلْ مُدَّتُهُ فِيهَا حَتَّى قُتِلَ،
ثم آلت تلك البلاد بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى سُلْطَانِ الدَّوْلَةِ صَاحِبِ
بَغْدَادَ، وطمع فيهم العامة، فنزلوا إلى واسط فقاتلوهم مع الترك.
وَفِيهَا وَلِيَ نُورُ الدَّوْلَةِ أَبُو الْأَغَرِّ دُبَيْسُ ابن
أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ مَزْيَدٍ بَعْدَ وَفَاةِ أَبِيهِ.
وَفِيهَا قَدِمَ سُلْطَانُ الدَّوْلَةِ إِلَى بَغْدَادَ، وضرب الطبل في
أَوْقَاتَ الصَّلَوَاتِ، وَلَمْ تَجْرِ بِذَلِكَ عَادَةٌ، وَعَقَدَ
عقده على بنت قرواش على صداق خمسين أَلْفَ دِينَارٍ. وَلَمْ يَحُجَّ
أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ لِفَسَادِ الْبِلَادِ، وَعَيْثِ
الْأَعْرَابِ وَضَعْفِ الدَّوْلَةِ. قال ابن الْجَوْزِيِّ فِي
الْمُنْتَظَمِ: أَخْبَرَنَا سَعْدُ اللَّهِ بْنُ على البزار أنبأ أبو
بكر الطريثيثى أنبأ هِبَةُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الطَّبَرِيُّ.
قَالَ: وَفِي سنة ثمان وأربعمائة استتاب القادر باللَّه الخليفة فقهاء
المعتزلة، فَأَظْهَرُوا الرُّجُوعَ وَتَبَرَّءُوا مِنَ الِاعْتِزَالِ
وَالرَّفْضِ وَالْمَقَالَاتِ المخالفة للإسلام، وأخذت خطوطهم بذلك،
وأنهم متى خالفوا أحل فيهم مِنَ النَّكَالِ وَالْعُقُوبَةِ مَا
يَتَّعِظُ بِهِ أَمْثَالُهُمْ، وامتثل محمود بن سبكتكين أمر أمير
المؤمنين في ذلك وَاسْتَنَّ بِسُنَّتِهِ فِي أَعْمَالِهِ الَّتِي
اسْتَخْلَفَهُ عَلَيْهَا من بلاد خُرَاسَانَ وَغَيْرِهَا، فِي قَتْلِ
الْمُعْتَزِلَةِ وَالرَّافِضَةِ وَالْإِسْمَاعِيلِيَّةِ
وَالْقَرَامِطَةِ وَالْجَهْمِيةِ وَالْمُشَبِّهَةِ، وَصَلَبَهُمْ
وَحَبَسَهُمْ وَنَفَاهُمْ، وَأَمَرَ بلعنهم على المنابر، وأبعد جميع
طوائف أهل البدع، ونفاهم عَنْ دِيَارِهِمْ، وَصَارَ ذَلِكَ سُنَّةً فِي
الْإِسْلَامِ.
وفيها توفى من الأعيان
الحاجب الكبير.
شباشى أبو نصر
مَوْلَى شَرَفِ الدَّوْلَةِ، وَلَقَّبَهُ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ
بِالسَّعِيدِ، وَكَانَ كَثِيرَ الصَّدَقَةِ وَالْأَوْقَافِ عَلَى
وُجُوهِ الْقُرُبَاتِ فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ وَقَفَ دَبَاهَا عَلَى
الْمَارَسْتَانِ وَكَانَتْ تُغِلُّ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الزُّرُوعِ
وَالثِّمَارِ والخراج وبنى قنطرة الخندق والمارستان والناصرية وغير
ذلك، ولما مات دفن بمقبرة الإمام أحمد وأوصى أن لا يبنى عليه فخالفوه،
فعقدوا قبة عليه فَسَقَطَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ بِنَحْوٍ مَنْ سَبْعِينَ
سَنَةً واجتمع نسوة عند قبره ينحن يبكين، فَلَمَّا رَجَعْنَ رَأَتْ
عَجُوزٌ مِنْهُنَّ- كَانَتْ هِيَ الْمُقَدَّمَةَ فِيهِنَّ- فِي
الْمَنَامِ كَأَنَّ تُرْكِيًّا خَرَجَ إليهن من
(12/6)
قبره ومعه دبوس فحمل عليهنّ وزجرهن عن ذلك،
وإذا هُوَ الْحَاجِبُ السَّعِيدُ، فَانْتَبَهَتْ مَذْعُورَةً.
ثُمَّ دَخَلَتْ سنة تسع وأربعمائة
فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنَ الْمُحَرَّمِ قُرِئَ
بِدَارِ الْخِلَافَةِ فِي الْمَوْكِبِ كِتَابٌ فِي مَذْهَبِ أَهْلِ
السُّنَّةِ وَفِيهِ أَنَّ مَنْ قَالَ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ فَهُوَ
كَافِرٌ حَلَالُ الدَّمِ. وَفِي النصف من جمادى الأولى منها فاض البحر
المالح وتدانى إلى الْأُبُلَّةَ، وَدَخَلَ الْبَصْرَةَ بَعْدَ
يَوْمَيْنِ. وَفِيهَا غَزَا مَحْمُودُ بْنُ سُبُكْتِكِينَ بِلَادَ
الْهِنْدِ وَتَوَاقَعَ هُوَ وملك الْهِنْدِ فَاقْتَتَلَ النَّاسُ
قِتَالًا عَظِيمًا، ثُمَّ انْجَلَتْ عن هزيمة عظيمة على الهند، وأخذ
المسلمون يقتلون فيهم كيف شاءوا، وأخذوا مِنْهُمْ أَمْوَالًا عَظِيمَةً
مِنَ الْجَوَاهِرِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وأخذوا منهم مائتي فيل،
واقتصوا آثار المنهزمين منهم، وهدموا معامل كثيرة. ثم عاد إلى غزنة
مؤيدا منصورا. ولم يحج أحد من درب العراق فيها لفساد البلاد وعيث
الأعراب.
وفيها توفى مِنَ الْأَعْيَانِ
رَجَاءُ بْنُ عِيسَى بْنِ مُحَمَّدٍ
أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَنْصِنَاوِيُّ، نِسْبَةً إِلَى قَرْيَةٍ مِنْ
قُرَى مِصْرَ يُقَالُ لَهَا أَنْصِنَا، قَدِمَ بَغْدَادَ فَحَدَّثَ
بِهَا وَسَمِعَ مِنْهُ الْحُفَّاظُ، وَكَانَ ثِقَةً فقيها مالكيا عدلا
عند الحكام، مرضيا. ثم عاد إلى بلده وتوفى فيها، وقد جاوز الثمانين.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَلَّانَ
أبو أحمد قاضى الأهواز، كان ذا مال، وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ مِنْهَا
كِتَابٌ فِي مُعْجِزَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، جَمَعَ فِيهِ أَلْفَ مُعْجِزَةٍ، وَكَانَ مِنْ كِبَارِ
شُيُوخِ الْمُعْتَزِلَةِ، تُوَفِّي فيها عَنْ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ
سَنَةً.
عَلِيُّ بْنُ نَصْرٍ
ابن أبى الحسن، مهذب الدولة، صاحب بلاد البطيحة، له مكارم كثيرة، وكان
الناس يلجئون إلى بلاده فِي الشَّدَائِدِ فَيُؤْوِيهِمْ، وَيُحْسِنُ
إِلَيْهِمْ، وَمِنْ أَكْبَرِ مناقبه إحسانه إلى أمير المؤمنين القادر
لما اسْتَجَارَ بِهِ وَنَزَلَ عِنْدَهُ بِالْبَطَائِحِ فَارًّا مِنَ
الطائع، فَآوَاهُ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَكَانَ فِي خِدْمَتِهِ حَتَّى
ولى إمرة المؤمنين، وكان له بذلك عِنْدَهُ الْيَدُ الْبَيْضَاءُ،
وَقَدْ وَلِيَ الْبَطَائِحَ ثِنْتَيْنِ وثلاثين سنة وشهورا، وتوفى فيها
عَنْ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَكَانَ سَبَبَ مَوْتِهِ أنه
اقتصد فانتفخ ذراعه فمات.
عبد الغنى بن سعيد
ابن على بْنِ بِشْرِ بْنِ مَرْوَانَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، أَبُو
مُحَمَّدٍ الْأَزْدِيُّ الْمِصْرِيُّ، الْحَافِظُ، كَانَ عَالِمًا
بِالْحَدِيثِ وَفُنُونِهِ، وَلَهُ فِيهِ الْمُصَنَّفَاتُ الْكَثِيرَةُ
الشَّهِيرَةُ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الصُّورِيُّ الْحَافِظُ: مَا
رأت عيناي مثله في معناه، وقال الدار قطنى: مَا رَأَيْتُ بِمِصْرَ
مِثْلَ شَابٍّ يُقَالُ لَهُ عَبْدُ الْغَنِيِّ، كَأَنَّهُ شُعْلَةُ
نَارٍ، وَجَعَلَ يُفَخِّمُ أَمْرَهُ وَيَرْفَعُ ذِكْرَهُ. وَقَدْ
صَنَّفَ الْحَافِظُ عَبْدُ الْغَنِيِّ هَذَا كِتَابًا فِيهِ أَوْهَامُ
الْحَاكِمِ، فَلَمَّا وقف الحاكم عليه جَعَلَ يَقْرَؤُهُ عَلَى
النَّاسِ وَيَعْتَرِفُ لِعَبْدِ الْغَنِيِّ بالفضل، ويشكره ويرجع فيه
إِلَى مَا أَصَابَ
(12/7)
فِيهِ مِنَ الرَّدِّ عَلَيْهِ، رَحِمَهُمَا
اللَّهُ، وُلِدَ عَبْدُ الْغَنِيِّ لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ ذِي
الْقَعْدَةِ سنة ثنتين وَثَلَاثِمِائَةٍ وَتُوُفِّيَ فِي صَفَرٍ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ رحمه الله.
محمد بن أمير المؤمنين
ويكنى بابي الفضل، كان قَدْ جَعَلَهُ وَلِيَّ عَهْدِهِ مِنْ بَعْدِهِ،
وَضُرِبَتِ السِّكَّةُ بِاسْمِهِ وَخَطَبَ لَهُ الْخُطَبَاءُ عَلَى
الْمَنَابِرِ، ولقب بالغالب باللَّه، فلم يقدر ذلك. توفى فيها عَنْ
سَبْعٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً.
مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بن محمد بن يزيد
أبو الفتح البزار الطرسوسي، ويعرف بابن البصري، سمع الكثير من
الْمَشَايِخِ، وَسَمِعَ مِنْهُ الصُّورِيُّ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ،
حِينَ أقام بها، وكان ثقة مأمونا.
ثم دخلت سنة عشر وأربعمائة
فيها ورد كتاب يَمِينِ الدَّوْلَةِ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ،
يَذْكُرُ فِيهِ مَا افْتَتَحَهُ مِنْ بِلَادِ الْهِنْدِ فِي السَّنَةِ
الخالية، وفيه أنه دخل مدينة فيها ألف قصر مشيد، وألف بيت للأصنام.
وفيها من الأصنام شيء كثير، ومبلغ ما على الصنم من الذهب ما يُقَارِبُ
مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَمَبْلَغُ الْأَصْنَامِ الْفِضَّةِ
زِيَادَةٌ عَلَى أَلْفِ صَنَمٍ، وَعِنْدَهُمْ صَنَمٌ مُعْظَّمٌ، يؤرخون
له وبه بجهالتهم ثلاثمائة ألف عام، وقد سلبنا ذلك كله وغيره مما لا
يحصى ولا يعد، وقد غنم المجاهدون في هذه الغزوة شيئا كثيرا، وقد عمموا
المدينة بالإحراق، فلم يتركوا منها إلا الرسوم، وبلغ عدد القتلى من
الهنود خَمْسِينَ أَلْفًا، وَأَسْلَمَ مِنْهُمْ نَحْوٌ مِنْ عِشْرِينَ
أَلْفًا، وَأُفْرِدَ خُمْسُ الرَّقِيقِ فَبَلَغَ ثَلَاثًا وَخَمْسِينَ
ألفا، واعترض من الأفيال ثلاثمائة وست وخمسين فِيلًا، وَحُصِّلَ مِنَ
الْأَمْوَالِ عِشْرُونَ أَلْفَ أَلْفِ درهم، ومن الذهب شيء كثير. وفي
ربيع الآخر منها قرئ عهد أَبِي الْفَوَارِسِ وَلُقِّبَ قِوَامَ
الدَّوْلَةِ، وَخُلِعَ عَلَيْهِ خلعا حملت إليه بولاية كرمان، وَلَمْ
يَحُجَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَحَدٌ مِنْ العراق.
وممن توفى فيها من الأعيان
الاصيفر الّذي كان يخفر الحجاج.
أحمد بن موسى بن مردويه
ابن فُورَكَ، أَبُو بَكْرٍ الْحَافِظُ الْأَصْبَهَانِيُّ، تُوَفِّي فِي
رمضان منها.
هِبَةُ اللَّهِ بْنُ سَلَامَةَ
أَبُو الْقَاسِمِ الضَّرِيرُ الْمُقْرِئُ الْمُفَسِّرُ، كَانَ مِنْ
أَعْلَمِ النَّاسِ وَأَحْفَظِهِمْ لِلتَّفْسِيرِ، وَكَانَتْ لَهُ
حَلْقَةٌ فِي جَامِعِ الْمَنْصُورِ، رَوَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ
بِسَنَدِهِ إِلَيْهِ قَالَ: كَانَ لَنَا شَيْخٌ نَقْرَأُ عَلَيْهِ
فَمَاتَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ فرآه فِي الْمَنَامِ فَقَالَ لَهُ: مَا
فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟ قَالَ: غَفَرَ لِي. قَالَ: فَمَا كَانَ حَالُكَ
مَعَ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ؟ قَالَ: لَمَّا أَجْلَسَانِي وسألاني ألهمنى
الله أَنْ قُلْتُ: بِحَقِّ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ دَعَانِي، فقال
أحدهما للآخر: قد أقسم بعظيمين فَدَعْهُ، فَتَرَكَانِي وَذَهَبَا.
(12/8)
ثم دخلت سنة إحدى
عشرة وأربعمائة
فيها عدم الحاكم بمصر، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَيْلَةُ
الثُّلَاثَاءِ لِلَيْلَتَيْنِ بقيتا من شوال فقد الحاكم بْنِ
الْمُعِزِّ الْفَاطِمِيُّ صَاحِبُ مِصْرَ، فَاسْتَبْشَرَ
الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ
جَبَّارًا عَنِيدًا، وَشَيْطَانًا مَرِيدًا. وَلْنَذْكُرْ شَيْئًا مِنْ
صِفَاتِهِ الْقَبِيحَةِ، وسيرته الملعونة، أخزاه الله.
كان كثير التلون في أفعاله وأحكامه وأقواله، جائرا، وقد كَانَ يَرُومُ
أَنْ يَدَّعِيَ الْأُلُوهِيَّةَ كَمَا ادَّعَاهَا فرعون، فكان قد أمر
الرعية إذا ذكر الخطيب على المنبر اسمه أَنَّ يَقُومَ النَّاسُ عَلَى
أَقْدَامِهِمْ صُفُوفًا، إِعْظَامًا لذكره واحتراما لاسمه، فعل ذلك فِي
سَائِرِ مَمَالِكِهِ حَتَّى فِي الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ، وكان قد
أمر أهل مصر على الخصوص إذا قاموا عند ذكره خروا سجدا له، حَتَّى
إِنَّهُ لَيَسْجُدُ بِسُجُودِهِمْ مَنْ فِي الْأَسْوَاقِ من الرعاع
وغيرهم، ممن كان لا يصلى الجمعة، وكانوا يتركون السجود للَّه في يوم
الجمعة وغيره ويسجدون للحاكم، وأمر في وقت لأهل الْكِتَابَيْنِ
بِالدُّخُولِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ كُرْهًا، ثُمَّ أذن لهم في العود
إلى دينهم، وخرب كنائسهم ثم عمرها، وخرب القمامة ثُمَّ أَعَادَهَا،
وَابْتَنَى الْمَدَارِسَ. وَجَعَلَ فِيهَا الْفُقَهَاءَ والمشايخ، ثم
قتلهم وأخربها، وألزم الناس بغلق الْأَسْوَاقِ نَهَارًا، وَفَتْحِهَا
لَيْلًا، فَامْتَثَلُوا ذَلِكَ دَهْرًا طويلا، حتى اجتاز مرة برجل
يَعْمَلُ النِّجَارَةَ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ. فَوَقَفَ عَلَيْهِ
فقال: ألم أنهكم؟ فقال:
يا سيدي لما كان الناس يتعيشون بالنهار كانوا يسهرون. بالليل، ولما
كانوا يتعيشون بالليل سهروا بِالنَّهَارِ فَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ
السَّهَرِ، فَتَبَسَّمَ وَتَرَكَهُ. وَأَعَادَ النَّاسَ إِلَى
أَمْرِهِمُ الْأَوَّلِ، وَكُلُّ هَذَا تغيير للرسوم، واختبار لطاعة
العامة له، ليرقى في ذلك إلى ما هو أشر وأعظم منه. وقد كان يعمل الحسبة
بنفسه فكان يدور بنفسه فِي الْأَسْوَاقِ عَلَى حِمَارٍ لَهُ- وَكَانَ
لَا يَرْكَبُ إِلَّا حِمَارًا- فَمَنْ وَجَدَهُ قَدْ غَشَّ في معيشة
أَمَرَ عَبْدًا أَسْوَدَ مَعَهُ يُقَالُ لَهُ مَسْعُودٌ، أن يفعل به
الفاحشة العظمى، وَهَذَا أَمْرٌ مُنْكَرٌ مَلْعُونٌ، لَمْ يُسْبَقْ
إِلَيْهِ، وَكَانَ قَدْ مَنَعَ النِّسَاءَ مِنَ الْخُرُوجِ مِنْ
منازلهن وقطع شجر الأعناب حتى لا يتخذ الناس منها خَمْرًا،
وَمَنَعَهُمْ مِنْ طَبْخِ الْمُلُوخِيَّةٍ، وَأَشْيَاءَ مِنَ الرعونات
التي من أحسنها منع النساء من الخروج، وكراهة الخمر، وكانت العامة
تبغضه كثيرا، ويكتبون له الأوراق بالشتيمة البالغة له ولأسلافه، في
صورة قصص، فإذا قرأها ازداد غيظا وحنقا عَلَيْهِمْ، حَتَّى إِنَّ
أَهْلَ مِصْرَ عَمِلُوا صُورَةَ امْرَأَةٍ مِنْ وَرَقٍ بِخُفَّيْهَا
وَإِزَارِهَا. وَفِي يَدِهَا قصة من الشتم واللعن والمخالفة شَيْءٌ
كَثِيرٌ، فَلَمَّا رَآهَا ظَنَّهَا امْرَأَةً، فَذَهَبَ مِنْ
نَاحِيَتِهَا وَأَخَذَ الْقِصَّةَ مِنْ يَدِهَا فَقَرَأَهَا فرأى ما
فيها، فأغضبه ذلك جدا، فأمر بقتل المرأة، فلما تحققها من ورق ازداد
غيظا إلى غيظه، ثم لما وصل إلى القاهرة أمر السُّودَانِ أَنْ
يَذْهَبُوا إِلَى مِصْرَ فَيُحَرِّقُوهَا وَيَنْهَبُوا ما فيها من
الأموال والمتاع والحريم، فذهبوا فَامْتَثَلُوا مَا أَمَرَهُمْ بِهِ،
فَقَاتَلَهُمْ أَهْلُ مِصْرَ قتالا شديدا، ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ،
وَالنَّارُ تَعْمَلُ فِي الدُورِ وَالْحَرِيمِ، وهو في كل يوم قبحه
الله، يخرج فيقف من بعيد وينظر وَيَبْكِي وَيَقُولُ: مَنْ أَمَرَ
(12/9)
هَؤُلَاءِ الْعُبَيْدَ بِهَذَا؟ ثُمَّ
اجْتَمَعَ النَّاسُ فِي الجوامع ورفعوا المصاحف وصاروا إِلَى اللَّهِ
عَزَّ وَجَلَّ، وَاسْتَغَاثُوا بِهِ، فَرَقَّ لهم الترك والمشارقة
وانحازوا إليهم، وقاتلوا مَعَهُمْ عَنْ حَرِيمِهِمْ وَدُورِهِمْ،
وَتَفَاقَمَ الْحَالُ جِدًّا، ثم ركب الحاكم لعنه الله ففصل بين
الفريقين، وكف العبيد عنهم، وكان يظهر التنصل مما فعله العبيد وأنهم
ارْتَكَبُوا ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ عِلْمِهِ وَإِذْنِهِ، وَكَانَ ينفذ
إليهم السلاح ويحثهم على ذلك في الباطن، وما انجلى الأمر حتى احترق من
مصر نحو ثلثها، ونهب قريب من نصفها، وسبيت نساء وبنات كثيرة وفعل معهن
الْفَوَاحِشُ وَالْمُنْكَرَاتُ، حَتَّى إِنَّ مِنْهُنَّ مَنْ قَتَلَتْ
نَفْسَهَا خَوْفًا مِنَ الْعَارِ وَالْفَضِيحَةِ، وَاشْتَرَى
الرِّجَالُ مِنْهُمْ مَنْ سُبِيَ لَهُمْ مِنَ النِّسَاءِ وَالْحَرِيمِ.
قال ابن الجوزي: ثم ازداد ظلم الحاكم حتى عنّ لَهُ أَنْ يَدَّعِيَ
الرُّبُوبِيَّةَ، فَصَارَ قَوْمٌ مِنَ الْجُهَّالِ إِذَا رَأَوْهُ
يَقُولُونَ: يَا وَاحِدُ يَا أحد يا محيي يا مميت قبحهم الله جميعا.
صِفَةُ مَقْتَلِهِ لَعَنَهُ اللَّهُ
كَانَ قَدْ تَعَدَّى شره إلى الناس كلهم حتى إلى أخته، وكان
يَتَّهِمُهَا بِالْفَاحِشَةِ، وَيُسْمِعُهَا أَغْلَظَ الْكَلَامِ،
فَتَبَرَّمَتْ مِنْهُ، وعملت على قتله، فراسلت أكبر الأمراء، أميرا
يُقَالُ لَهُ ابْنُ دَوَّاسٍ، فَتَوَافَقَتْ هِيَ وَهُوَ على قتله
ودماره، وتواطئا عَلَى ذَلِكَ، فَجَهَّزَ مِنْ عِنْدِهِ عَبْدَيْنِ،
أَسْوَدَيْنِ شهمين، وقال لهما: إذا كانت الليلة الفلانية فكونا في جبل
الْمُقَطَّمِ، فَفِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ يَكُونُ الْحَاكِمُ هُنَاكَ
فِي اللَّيْلِ لِيَنْظُرَ فِي النُّجُومِ، وَلَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ
إِلَّا رِكَابِيٌّ وَصَبِيٌّ، فَاقْتُلَاهُ وَاقْتُلَاهُمَا مَعَهُ،
واتفق الحال على ذلك.
فَلَمَّا كَانَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةُ قَالَ الْحَاكِمُ لِأُمِّهِ:
عَلَيَّ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ قَطْعٌ عَظِيمٌ، فَإِنْ نَجَوْتُ
مِنْهُ عَمَّرْتُ نَحْوًا مِنْ ثَمَانِينَ سَنَةً، وَمَعَ هَذَا
فَانْقُلِي حَوَاصِلِي إِلَيْكِ، فَإِنَّ أَخْوَفَ ما أخاف عليك من
أختى، وأخوف ما أخاف على نفسي منها، فَنَقَلَ حَوَاصِلَهُ إِلَى
أُمِّهِ، وَكَانَ لَهُ فِي صَنَادِيقَ قَرِيبٌ مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ
أَلْفِ دِينَارٍ، وَجَوَاهِرُ أخر، فَقَالَتْ لَهُ أُمُّهُ: يَا
مَوْلَانَا إِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَمَا تَقُولُ فَارْحَمْنِي وَلَا
تَرْكَبْ فِي لَيْلَتِكَ هَذِهِ إِلَى مَوْضِعٍ وَكَانَ يُحِبُّهَا.
فَقَالَ: أَفْعَلُ، وَكَانَ مِنْ عَادَتِهِ أَنْ يَدُورَ حَوْلَ
الْقَصْرِ كُلَّ لَيْلَةٍ، فَدَارَ ثُمَّ عَادَ إِلَى الْقَصْرِ،
فَنَامَ إِلَى قَرِيبٍ مِنْ ثُلُثِ اللَّيْلِ الْأَخِيرِ،
فَاسْتَيْقَظَ وَقَالَ: إِنْ لَمْ أَرْكَبِ اللَّيْلَةَ فاضت نفسي،
فثار فركب فرسا وصحبه صبي وركابي، وَصَعِدَ الْجَبَلَ الْمُقَطَّمَ
فَاسْتَقْبَلَهُ ذَانِكَ الْعَبْدَانِ فَأَنْزَلَاهُ عن مركوبة، وقطعا
يديه ورجليه، وبقرا بطنه، فَأَتَيَا بِهِ مَوْلَاهُمَا ابْنَ دَوَّاسٍ،
فَحَمَلَهُ إِلَى أُخْتِهِ فَدَفَنَتْهُ فِي مَجْلِسِ دَارِهَا،
وَاسْتَدْعَتِ الْأُمَرَاءَ والأكابر والوزير وقد أطلعته على الجلية،
فبايعوا لِوَلَدِ الْحَاكِمِ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيٍّ، وَلُقِّبَ
بِالظَّاهِرِ لِإِعْزَازِ دِينِ اللَّهِ، وَكَانَ بِدِمَشْقَ،
فَاسْتَدْعَتْ بِهِ وَجَعَلَتْ تَقُولُ لِلنَّاسِ: إِنَّ الْحَاكِمَ
قَالَ لِي: إنه يغيب عنكم سَبْعَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ يَعُودُ،
فَاطْمَأَنَّ النَّاسُ، وَجَعَلَتْ ترسل ركابيين إلى الجبل فيصعدونه،
ثم يرجعون فيقولون تركناه في الموضع الفلاني، ويقول الذين بعدهم لأمه:
تركناه في موضع كذا وكذا. حتى اطمأن الناس وقدم ابن أخيها واستصحب معه
من دمشق أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَأَلْفَيْ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَحِينَ
وصل ألبسته
(12/10)
تاج جد أبيه المعز، وَحُلَّةً عَظِيمَةً،
وَأَجْلَسَتْهُ عَلَى السَّرِيرِ، وَبَايَعَهُ الْأُمَرَاءُ والرؤساء،
وأطلق لهم الأموال، وَخَلَعَتْ عَلَى ابْنِ دَوَّاسٍ خِلْعَةً
سَنِيَّةً هَائِلَةً، وَعَمِلَتْ عَزَاءَ أَخِيهَا الْحَاكِمِ
ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ أَرْسَلَتْ إِلَى ابْنِ دَوَّاسٍ طَائِفَةً
مِنَ الْجُنْدِ لِيَكُونُوا بَيْنَ يَدَيْهِ بِسُيُوفِهِمْ وُقُوفًا
فِي خِدْمَتِهِ، ثم يقولوا له في بعض الأيام: أَنْتَ قَاتِلُ
مَوْلَانَا، ثُمَّ يَهْبُرُونَهُ بِسُيُوفِهِمْ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ،
وَقَتَلَتْ كُلَّ مَنِ اطَّلَعَ عَلَى سِرِّهَا فِي قَتْلِ أَخِيهَا،
فَعَظُمَتْ هَيْبَتُهَا وَقَوِيَتْ حُرْمَتُهَا وثبتت دولتها. وقد كان
عمر الحاكم يوم قتل سبعا وثلاثين سنة، ومدة ملكه من ذلك خمسا وعشرين
سنة.
ثم دخلت سنة اثنتي عشرة وأربعمائة
فِيهَا تَوَلَّى الْقَاضِي أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ
السَّمَنَانِيُّ الْحِسْبَةَ وَالْمَوَارِيثَ بِبَغْدَادَ، وَخُلِعَ
عَلَيْهِ السواد وفيها قالت جماعة من العلماء والمسلمين لِلْمَلِكِ
الْكَبِيرِ يَمِينِ الدَّوْلَةِ، مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ: أَنْتَ
أَكْبَرُ مُلُوكِ الْأَرْضِ، وَفِي كُلِّ سَنَةٍ تَفْتَحُ طَائِفَةً
مِنْ بِلَادِ الْكُفْرِ، وَهَذِهِ طَرِيقُ الحج، قد تعطلت من مدة ستين
وَفَتْحُكَ لَهَا أَوْجَبُ مِنْ غَيْرِهَا. فَتَقَدَّمَ إِلَى قاضى
القضاة أَبِي مُحَمَّدٍ النَّاصِحِيِّ أَنْ يَكُونَ أَمِيرَ الْحَجِّ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَبَعَثَ مَعَهُ بِثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ
لِلْأَعْرَابِ، غَيْرَ مَا جَهَّزَ مِنَ الصَّدَقَاتِ، فسار الناس
بصحبته، فَلَمَّا كَانُوا بِفَيْدَ اعْتَرَضَهُمُ الْأَعْرَابُ
فَصَالَحَهُمُ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ النَّاصِحِيُّ بِخَمْسَةِ
آلَافِ دِينَارٍ، فَامْتَنَعُوا وَصَمَّمَ كَبِيرُهُمْ- وَهُوَ
جَمَّازُ بْنُ عَدِيٍّ- عَلَى أَخْذِ الْحَجِيجِ، وَرَكِبَ فَرَسَهُ
وَجَالَ جَوْلَةً وَاسْتَنْهَضَ شياطين العرب، فتقدم إليه غلام من
سمرقند [يقال له ابن عفان] فَرَمَاهُ بِسَهْمٍ فَوَصَلَ إِلَى قَلْبِهِ
فَسَقَطَ مَيِّتًا، وانهزمت الأعراب، وسلك الناس الطريق فحجوا ورجعوا
سالمين وللَّه الحمد والمنة.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
أَبُو سَعْدٍ الماليني
أحمد بن محمد بن أحمد بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ حَفْصٍ، أَبُو سَعْدٍ
الْمَالِينِيُّ، وَمَالِينُ قَرْيَةٌ مِنْ قُرَى هَرَاةَ، كَانَ مِنَ
الحفاظ المكثرين الراحلين فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ إِلَى الْآفَاقِ،
وَكَتَبَ كَثِيرًا، وَكَانَ ثِقَةً صَدُوقًا صَالِحًا، مَاتَ بِمِصْرَ
فِي شوال منها.
الحسن بن الحسين
ابن مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ رَامِينَ الْقَاضِي، أَبُو
مُحَمَّدٍ الْإِسْتِرَابَاذِيُّ، نَزَلَ بَغْدَادَ وَحَدَّثَ بِهَا
عَنِ الإسماعيلي وغيره، كان شافعيا كبيرا، فاضلا صالحا.
الحسن بن منصور بن غَالِبٍ
الْوَزِيرُ الْمُلَقَّبُ ذَا السَّعَادَتَيْنِ، وُلِدَ بِسِيرَافَ سنة
ثلاث وخمسين وثلاثمائة، ثم صار وزيرا ببغداد ثم قتل وصودر أبوه على
ثمانين ألف دينار.
(12/11)
الحسين بن عمرو
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْغَزَّالُ، سَمِعَ النَّجَّادَ وَالْخُلْدِيَّ
وَابْنَ السَّمَّاكِ وَغَيْرَهُمْ. قَالَ الْخَطِيبُ: كَتَبْتُ عَنْهُ
وكان ثِقَةً صَالِحًا كَثِيرَ الْبُكَاءِ عِنْدَ الذِّكْرِ.
مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ
أَبُو بَكْرٍ الْعَنْبَرِيُّ الشَّاعِرُ، كَانَ أَدِيبًا ظَرِيفًا،
حَسَنَ الشِّعْرِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
إني نظرت إلى الزمان ... وَأَهْلِهِ نَظَرًا كَفَانِي
فَعَرَفْتُهُ وَعَرَفْتُهُمْ ... وَعَرَفْتُ عِزِّيَ من هواني
فلذلك اطّرح الصديق ... فَلَا أَرَاهُ وَلَا يَرَانِي
وَزَهِدْتُ فِيمَا فِي يديه ... وَدُونَهُ نَيْلُ الْأَمَانِي
فَتَعَجَّبُوا لِمُغَالِبٍ ... وَهَبَ الْأَقَاصِيَ لِلْأَدَانِي
وَانْسَلَّ مِنْ بَيْنِ الزِّحَا ... مِ فَمَا له في الغلب ثَانِي
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَكَانَ مُتَصَوِّفًا ثُمَّ خَرَجَ عَنْهُمْ
وَذَمَّهُمْ بِقَصَائِدَ ذَكَرْتُهَا فِي تَلْبِيسِ إِبْلِيسَ
تُوُفِّيَ يَوْمَ الْخَمِيسِ ثَانِيَ عَشَرَ جُمَادَى الأولى مِنْهَا.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ
ابن روق بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ خَالِدٍ، أبو الحسن
البزار، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ رَزْقَوَيْهِ. قَالَ الْخَطِيبُ: هُوَ
أَوَّلُ شَيْخٍ كَتَبْتُ عَنْهُ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ،
وَكَانَ يَذْكُرُ أَنَّهُ دَرَسَ الْقُرْآنَ وَدَرَسَ الْفِقْهَ عَلَى
مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَكَانَ ثِقَةً صَدُوقًا كَثِيرَ السَّمَاعِ
وَالْكِتَابَةِ، حَسَنَ الِاعْتِقَادِ، جَمِيلَ الْمَذْهَبِ، مُدِيمًا
لتلاوة القرآن، شديدا على أهل البدع، وأكب دَهْرًا عَلَى الْحَدِيثِ،
وَكَانَ يَقُولُ: لَا أَحَبُّ الدُّنْيَا إِلَّا لِذِكْرِ اللَّهِ
وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وَقِرَاءَتِي عَلَيْكُمُ الْحَدِيثَ، وَقَدْ
بَعَثَ بَعْضُ الْأُمَرَاءِ إِلَى الْعُلَمَاءِ بِذَهَبٍ فَقَبِلُوا
كُلُّهُمْ غَيْرَهُ، فَإِنَّهُ لَمْ يقبل شَيْئًا، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ
يَوْمَ الِاثْنَيْنِ السَّادِسَ عَشَرَ من جمادى الأولى منها، عَنْ
سَبْعٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَدُفِنَ بِالْقُرْبِ مِنْ مقبرة معروف
الكرخي.
أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ
مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بن محمد بن موسى،
أبو عبد الرحمن السلمي
النَّيْسَابُورِيُّ، رَوَى عَنِ الْأَصَمِّ وَغَيْرِهِ، وَعَنْهُ
مَشَايِخُ البغداديين، كَالْأَزْهَرِيِّ وَالْعُشَارِيِّ
وَغَيْرِهِمَا، وَرَوَى عَنْهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ. قَالَ ابْنُ
الْجَوْزِيِّ: كَانَتْ لَهُ عِنَايَةٌ بِأَخْبَارِ الصوفية، فصنف لهم
تفسيرا على طريقتهم، وَسُنَنًا وَتَارِيخًا، وَجَمَعَ شُيُوخًا
وَتَرَاجِمَ وَأَبْوَابًا، لَهُ بِنَيْسَابُورَ دَارٌ مَعْرُوفَةٌ،
وَفِيهَا صُوفِيَّةٌ وَبِهَا قَبْرُهُ، ثُمَّ ذَكَرَ كَلَامَ النَّاسِ
فِي تَضْعِيفِهِ فِي الرِّوَايَةِ، فَحَكَى عَنِ الْخَطِيبِ عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ الْقَطَّانِ أَنَّهُ قَالَ: لَمْ يَكُنْ
بِثِقَةٍ، ولم يكن سمع
(12/12)
من الأصم شيئا كَثِيرًا، فَلَمَّا مَاتَ
الْحَاكِمُ رَوَى عَنْهُ أَشْيَاءَ كثيرة جدا، وَكَانَ يَضَعُ
لِلصُّوفِيَّةِ الْأَحَادِيثَ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وكانت وفاته
في ثالث شعبان منها.
أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الدَّقَّاقُ النَّيْسَابُورِيُّ
كَانَ يَعِظُ النَّاسَ وَيَتَكَلَّمُ عَلَى الْأَحْوَالِ
وَالْمَعْرِفَةِ، فَمِنْ كَلَامِهِ: مَنْ تَوَاضَعَ لِأَحَدٍ لِأَجْلِ
دُنْيَاهُ ذَهَبَ ثُلُثَا دِينِهِ، لِأَنَّهُ خَضَعَ لَهُ بِلِسَانِهِ
وأركانه، فان اعتقد تعظيمه بقلبه أو خضع له به ذَهَبَ دِينُهُ كُلُّهُ.
وَقَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) 2: 152
اذكروني وأنتم أحياء أذكركم وأنتم أموات تحت التراب، وقد تخلى عنكم
الأقارب والأصحاب والأحباب. وَقَالَ: الْبَلَاءُ الْأَكْبَرُ أَنْ
تُرِيدَ وَلَا تُرَادُ، وتدنو فترد إلى الطرد والإبعاد، وَأَنْشَدَ
عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقال يَا أَسَفى عَلى
يُوسُفَ) 12: 84
جُنِنَّا بِلَيْلَى وَهِيَ جُنَّتْ بِغَيْرِنَا ... وَأُخْرَى بِنَا
مَجْنُونَةٌ لَا نُرِيدُهَا
وَقَالَ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «حُفَّتِ
الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ» : إذا كان هذا المخلوق لا وصل إليه إلا
بتحمل المشاق فما الظن بمن لم يزل؟ وقال في قوله عليه السلام «جُبِلَتِ
الْقُلُوبُ عَلَى حُبِّ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهَا» . يَا عَجَبًا لِمَنْ
لَمْ يَرَ مُحْسِنًا غَيْرَ الله كيف لا يميل بكليته إليه؟ قلت: كلامه
على هذا الحديث جيد والحديث لا يصح بالكلية
صريع الدلال الشاعر
أبو الحسن على بن عبيد الْوَاحِدِ، الْفَقِيهُ الْبَغْدَادِيُّ،
الشَّاعِرُ الْمَاجِنُ، الْمَعْرُوفُ بِصَرِيعِ الدلال، قتيل الغواني
ذي الرقاعتين، له قصيدة مقصورة عارض بها مقصورة ابن دُرَيْدٍ يَقُولُ
فِيهَا:
وَأَلْفُ حِمْلٍ مِنْ مَتَاعِ تُسْتَرٍ ... أَنْفَعُ لِلْمِسْكِينِ
مَنْ لَقَطِ النَّوَى
مَنْ طَبَخَ الدِّيكَ وَلَا يَذْبَحُهُ ... طَارَ مِنَ الْقِدْرِ إِلَى
حَيْثُ انْتَهَى
مَنْ دَخَلَتْ فِي عَيْنِهِ مِسَلَّةٌ ... فَسَلْهُ مِنْ سَاعَتِهِ
كَيْفَ الْعَمَى
وَالذَّقَنُ شَعْرٌ فِي الْوُجُوهِ طَالِعٌ ... كَذَلِكَ الْعِقْصَةُ
مِنْ خلف القفا
إِلَى أَنْ خَتْمَهَا بِالْبَيْتِ الَّذِي حُسِدَ عَلَيْهِ وَهُوَ
قَوْلُهُ:
مَنْ فَاتَهُ الْعِلْمُ وَأَخْطَاهُ الْغِنَى ... فذاك والكلب على حد
سوى
قَدِمَ مِصْرَ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
وَامْتَدَحَ فِيهَا خَلِيفَتَهَا الظَّاهِرَ لِإِعْزَازِ دِينِ اللَّهِ
بن الحاكم واتفقت وفاته بها في رجبها.
ثم دخلت سنة ثلاث عشرة وأربعمائة
فيها جرت كائنة غريبة عظيمة، ومصيبة عامة، وَهِيَ أَنَّ رَجُلًا مِنَ
الْمِصْرِيِّينَ مِنْ أَصْحَابِ الْحَاكِمِ اتَّفَقَ مَعَ جَمَاعَةٍ
مِنَ الْحُجَّاجِ الْمِصْرِيِّينَ عَلَى أَمْرِ سَوْءٍ، وَذَلِكَ
أَنَّهُ لَمَّا كَانَ يَوْمُ النَّفْرِ الْأَوَّلِ طَافَ هَذَا
الرَّجُلُ بِالْبَيْتِ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ
جَاءَ لِيُقَبِّلَهُ فَضَرَبَهُ بِدَبُّوسٍ كَانَ مَعَهُ ثَلَاثَ
ضَرَبَاتٍ
(12/13)
متواليات، وقال: إلى متى نعبد هَذَا
الْحَجَرَ؟ وَلَا مُحَمَّدٌ وَلَا عَلَيٌّ يَمْنَعُنِي مِمَّا
أَفْعَلُهُ، فَإِنِّي أَهْدِمُ الْيَوْمَ هَذَا الْبَيْتَ، وَجَعَلَ
يَرْتَعِدُ، فَاتَّقَاهُ أَكْثَرُ الْحَاضِرِينَ وَتَأَخَّرُوا عَنْهُ،
وذلك لأنه كَانَ رَجُلًا طِوَالًا جَسِيمًا أَحْمَرَ اللَّوْنِ
أَشْقَرَ الشعر، وعلى باب الجامع جماعة من الفرسان، وقوف ليمنعوه ممن
يريد منعه من هذا الفعل، وأراده بِسُوءٍ، فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ رَجُلٌ
مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ معه خنجر فوجأه بها، وتكاثر الناس عليه فقتلوه
وقطعوه قطعا، وحرقوه بالنار، وتتبعوا أصحابه فقتلوا منهم جماعة، ونهبت
أهل مكة الركب المصري، وتعدى النهب إلى غيرهم، وَجَرَتْ خَبْطَةٌ
عَظِيمَةٌ، وَفِتْنَةٌ كَبِيرَةٌ جِدًّا، ثُمَّ سَكَنَ الْحَالُ بَعْدَ
أَنْ تُتُبِّعَ أُولَئِكَ النَّفَرُ الَّذِينَ تَمَالَئُوا عَلَى
الْإِلْحَادِ فِي أَشْرَفِ الْبِلَادِ غير أنه قد سَقَطَ مِنَ
الْحَجَرِ ثَلَاثُ فِلَقٍ مِثْلُ الْأَظْفَارِ، وَبَدَا مَا تَحْتَهَا
أَسْمَرَ يَضْرِبُ إِلَى صُفْرَةٍ، مُحَبَّبًا مِثْلَ الْخَشْخَاشِ،
فَأَخَذَ بَنُو شَيْبَةَ تِلْكَ الفلق فعجنوها بالمسك والك وَحَشَوْا
بِهَا تِلْكَ الشُّقُوقَ الَّتِي بَدَتْ، فَاسْتَمْسَكَ الْحَجْرُ
وَاسْتَمَرَّ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ الْآنَ، وهو ظاهر لمن تأمله.
وفيها فُتِحَ الْمَارَسْتَانُ الَّذِي بَنَاهُ الْوَزِيرُ مُؤَيِّدُ
الْمُلْكِ، أبو على الحسن، وَزِيرُ شَرَفِ الْمُلْكِ بِوَاسِطٍ،
وَرَتَّبَ لَهُ الْخُزَّانَ والأشربة والأدوية والعقاقير، وغير ذلك مما
يحتاج إليه.
وفيها توفى من الأعيان
ابن البواب الكاتب
صاحب الخط المنسوب، على بن هلال أبو الحسن ابن البواب، صاحب أبى الحسين
بن سمعون الواعظ، وَقَدْ أَثْنَى عَلَى ابْنِ الْبَوَّابِ غَيْرُ
وَاحِدٍ في دينه وأمانته، وأما خطه وطريقته فيه فأشهر من أن ننبه
عليها، وَخَطُّهُ أَوْضَحُ تَعْرِيبًا مَنْ خَطِّ أَبِي عَلِيِّ بن
مقلة، ولم يكن بعد ابن مقلة أَكْتَبُ مِنْهُ، وَعَلَى طَرِيقَتِهِ
النَّاسُ الْيَوْمَ فِي سَائِرِ الْأَقَالِيمِ إِلَّا الْقَلِيلَ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: توفى يوم السبت ثانى جمادى الآخرة منها،
وَدُفِنَ بِمَقْبَرَةِ بَابِ حَرْبٍ، وَقَدْ رَثَاهُ بَعْضُهُمْ بأبيات
منها قوله:
فللقلوب التي أبهجتها حرق ... وَلِلْعُيُونِ الَّتِي أَقْرَرْتَهَا
سَهَرُ
فَمَا لِعَيْشٍ وَقَدْ وَدَّعْتَهُ أَرَجٌ ... وَمَا لِلَيْلٍ وَقَدْ
فَارَقْتَهُ سَحَرُ
قال ابن خلكان: ويقال له السِّتْرِيِّ، لِأَنَّ أَبَاهُ كَانَ
مُلَازِمًا لِسِتْرِ الْبَابِ، وَيُقَالُ لَهُ ابْنُ الْبَوَّابِ
وَكَانَ قَدْ أَخَذَ الخط عن عبد الله بن مُحَمَّدِ بْنِ أَسَدِ بْنِ
عَلِيِّ بْنِ سَعِيدٍ البزار، وقد سمع أسد هذا على النجاد وغيره، وتوفى
سَنَةِ عَشْرٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَأَمَّا ابْنُ الْبَوَّابِ
فَإِنَّهُ تُوُفِّيَ فِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ،
وقبل فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَقَدْ
رَثَاهُ بعضهم فقال:
استشعرت الْكُتَّابُ فَقْدَكَ سَالِفًا ... وَقَضَتْ بِصِحَّةِ ذَلِكَ
الْأَيَّامُ
فَلِذَاكَ سُوِّدَتِ الدَّوِيُّ كَآَبَةً ... أَسَفًا عَلَيْكَ
وَشُقَّتِ الْأَقْلَامُ
ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ خَلِّكَانَ أَوَّلَ مَنْ كَتَبَ بِالْعَرَبِيَّةِ،
فَقِيلَ إِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقِيلَ أول من
(12/14)
كَتَبَ بِالْعَرَبِيَّةِ مِنْ قُرَيْشٍ
حَرْبُ بْنُ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، أَخَذَهَا مِنْ بِلَادِ
الْحِيرَةِ عَنْ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ أَسْلَمُ بْنُ سِدْرَةَ، وسأله
ممن اقتبستها؟ فَقَالَ: مِنْ وَاضِعِهَا رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ مُرَامِرُ
بن مروة، وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْأَنْبَارِ. فَأَصْلُ
الْكِتَابَةِ فِي الْعَرَبِ مِنَ الْأَنْبَارِ. وَقَالَ الْهَيْثَمُ
بْنُ عَدِيٍّ: وَقَدْ كَانَ لِحِمْيَرَ كِتَابَةٌ يُسَمُّونَهَا
الْمُسْنَدَ، وَهِيَ حُرُوفٌ مُتَّصِلَةٌ غَيْرُ مُنْفَصِلَةٍ،
وَكَانُوا يَمْنَعُونَ الْعَامَّةَ مِنْ تَعَلُّمِهَا، وَجَمِيعُ
كِتَابَاتِ النَّاسِ تَنْتَهِي إِلَى اثْنَيْ عَشَرَ صِنْفًا وَهِيَ
الْعَرَبِيَّةُ وَالْحِمْيَرِيَّةُ، واليونانية، والفارسية،
والرومانية، وَالْعِبْرَانِيَّةُ، وَالرُّومِيَّةُ، وَالْقِبْطِيَّةُ،
وَالْبَرْبَرِيَّةُ، وَالْهِنْدِيَّةُ وَالْأَنْدَلُسِيَّةُ،
وَالصِّينِيَّةُ. وَقَدِ انْدَرَسَ كَثِيرٌ مِنْهَا فَقَلَّ مَنْ
يَعْرِفُ شيئا منها.
وفيها توفى من الأعيان
على بن عيسى
ابن سُلَيْمَانَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبَانٍ، أَبُو الْحَسَنِ
الْفَارِسِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالسُّكَّرِيِّ الشَّاعِرُ، وَكَانَ
يَحْفَظُ الْقُرْآنَ ويعرف القراءات، وصحب أَبَا بَكْرٍ
الْبَاقِلَّانِيَّ، وَأَكْثَرُ شَعْرِهِ فِي مَدِيحِ الصحابة وذم
الرافضة. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ ودفن
بالقرب من قبر معروف، وقد كان أَوْصَى أَنْ يُكْتَبَ عَلَى قَبْرِهِ
هَذِهِ الْأَبْيَاتُ الَّتِي عَمِلَهَا وَهِيَ قَوْلُهُ:
نَفْسُ، يَا نَفْسُ كم تمادين في تلفى ... وتمشين فِي الْفِعَالِ
الْمَعِيبِ
رَاقِبِي اللَّهَ وَاحْذَرِي مَوْقِفَ العرض ... وَخَافِي يَوْمَ
الْحِسَابِ الْعَصِيبِ
لَا تَغُرَّنَّكِ السَّلَامَةُ في العيش ... فَإِنَّ السَّلِيمَ رَهْنُ
الْخُطُوبِ
كُلُّ حَيٍّ فَلِلْمَنُونِ ولا يدفع ... كأس المنون كيد الأديب
وَاعْلَمِي أَنْ لِلْمَنِيَّةِ وَقْتًا ... سَوْفَ يَأْتِي عَجْلَانَ
غَيْرَ هَيُوبِ
إِنَّ حُبَّ الصَّدِيقِ فِي مَوْقِفِ ... الحشر أَمَانٌ لِلْخَائِفِ
الْمَطْلُوبِ
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَنْصُورٍ
أَبُو جَعْفَرٍ الْبَيِّعُ، وَيُعْرَفُ بِالْعَتِيقِيِّ، وُلِدَ سَنَةَ
إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَأَقَامَ بِطَرَسُوسَ
مُدَّةً، وَسَمِعَ بِهَا وَبِغَيْرِهَا، وَحَدَّثَ بِشَيْءٍ يسير.
ابن النعمان
شيخ الإمامية الروافض، وَالْمُصَنِّفُ لَهُمْ، وَالْمُحَامِي عَنْ
حَوْزَتِهِمْ، كَانَتْ لَهُ وجاهة عند ملوك الأطراف، لميل كثير من أهل
ذلك الزمان إلى التشيع، وكان مجلسه يحضره خلق كَثِيرٌ مِنَ
الْعُلَمَاءِ مِنْ سَائِرِ الطَّوَائِفِ، وَكَانَ من جملة تلاميذه
الشريف الرضى والمرتضى، وقد رثاه بقصيدة بعد وفاته في هذه السنة، منها
قوله:
من لعضل أَخْرَجْتَ مِنْهُ حُسَامَا ... وَمَعَانٍ فَضَضْتَ عَنْهَا
خِتَامَا؟
مَنْ يُثِيرُ الْعُقُولَ مِنْ بَعْدِ مَا ... كُنَّ هُمُودًا
وَيَفْتَحُ الْأَفْهَامَا؟
(12/15)
من يعير الصديق رأيا ... إذا ما سل في
الخطوب حُسَامًا؟
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فيها قدم الملك شرف الدولة إلى بغداد فخرج الخليفة في الطيارة
لِتَلَقِّيهِ، وَصَحِبَتْهُ الْأُمَرَاءُ وَالْقُضَاةُ وَالْفُقَهَاءُ
وَالْوُزَرَاءُ وَالرُّؤَسَاءُ، فلما واجهه شرف الدولة قبل الأرض بين
يديه مَرَّاتٍ وَالْجَيْشُ وَاقِفٌ بِرُمَّتِهِ، وَالْعَامَّةُ فِي
الْجَانِبَيْنِ. وَفِيهَا وَرَدَ كِتَابٌ مِنْ يَمِينِ الدَّوْلَةِ
مَحْمُودِ بن سبكتكين إلى الخليفة يذكر أَنَّهُ دَخَلَ بِلَادَ
الْهِنْدِ أَيْضًا، وَأَنَّهُ فَتَحَ بِلَادًا، وَقَتَلَ خَلْقًا
مِنْهُمْ، وَأَنَّهُ صَالَحَهُ بَعْضُ ملوكهم وحمل إليه هدايا سنية،
منها فيول كثيرة، وَمِنْهَا طَائِرٌ عَلَى هَيْئَةِ الْقُمْرِيِّ،
إِذَا وُضِعَ عِنْدَ الْخِوَانِ وَفِيهِ سُمٌّ دَمَعَتْ عَيْنَاهُ
وَجَرَى منهما ماء، ومنها حجر يحك ويؤخذ منه ما تحصل منه فيطلي بها
الجراحات ذات الأفواه الواسعة فيلحمها، وغير ذلك. وحج الناس من أهل
العراق وَلَكِنْ رَجَعُوا عَلَى طَرِيقِ الشَّامِ لِاحْتِيَاجِهِمْ
إِلَى ذلك.
وفيها توفى مِنَ الْأَعْيَانِ
الْحَسَنُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ سَهْلَانَ
أَبُو مُحَمَّدٍ الرَّامَهُرْمُزِيُّ، وَزِيرُ سُلْطَانِ الدَّوْلَةِ،
وَهُوَ الَّذِي بَنَى سُورَ الْحَائِرِ عِنْدَ مَشْهَدِ الْحُسَيْنِ،
قتل في شعبان منها
الحسن بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
أَبُو عَبْدِ الله الكشغلي الطَّبَرِيُّ، الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ،
تَفَقَّهَ عَلَى أَبِي الْقَاسِمِ الدَّارَكِيِّ، وَكَانَ فَهْمًا
فَاضِلًا صَالِحًا زَاهِدًا، وَهُوَ الَّذِي دَرَّسَ بَعْدَ الشَّيْخِ
أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ فِي مَسْجِدِهِ، مَسْجِدِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ. فِي قَطِيعَةِ الرَّبِيعِ، وَكَانَ
الطَّلَبَةُ عِنْدَهُ مُكَرَّمِينَ، اشْتَكَى بَعْضُهُمْ إِلَيْهِ
حَاجَةً وَأَنَّهُ قَدْ تَأَخَرَّتْ عَنْهُ نَفَقَتُهُ الَّتِي تَرِدُ
إِلَيْهِ مِنْ أَبِيهِ، فأخذه بيده وذهب إلى بعض التجار فَاسْتَقْرَضَ
لَهُ مِنْهُ خَمْسِينَ دِينَارًا. فَقَالَ التَّاجِرُ: حتى تأكل شيئا،
فمد السماط فأكلوا وقال: يَا جَارِيَةُ هَاتِي الْمَالَ، فَأَحْضَرَتْ
شَيْئًا مِنَ المال فوزن منها خَمْسِينَ دِينَارًا وَدَفَعَهَا إِلَى
الشَّيْخِ، فَلَمَّا قَامَا إذا بوجه ذلك الطالب قد تغير، فقال له
الكشغلي: مالك؟ فَقَالَ: يَا سَيِّدِي قَدْ سَكَنَ قَلْبِي حُبُّ
هَذِهِ الْجَارِيَةِ، فَرَجَعَ بِهِ إِلَى التَّاجِرِ، فَقَالَ له:
قد وقعنا في فتنة أخرى، فقال: وما هي؟ فقال: إن هذا الفقيه قد هوى
الجارية فأمر التاجر الجارية أن تخرج فتسلمها الفقيه، وقال ربما أن
يَكُونُ قَدْ وَقَعَ فِي قَلْبِهَا مِنْهُ مِثْلُ الَّذِي قَدْ وَقَعَ
فِي قَلْبِهِ مِنْهَا، فَلَمَّا كان عن قريب قدم على ذلك الطالب نفقته
من أبيه ستمائة دينار، فوفى ذلك التَّاجِرَ مَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ
مِنْ ثَمَنِ الجارية والقرض، وذلك بسفارة الشيخ. توفى في ربيع الآخر
منها ودفن بباب حَرْبٍ.
عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَهْضَمٍ
أبو الحسن الجهضمي الصُّوفِيُّ الْمَكِّيُّ، صَاحِبُ بَهْجَةِ
الْأَسْرَارِ، كَانَ شَيْخَ الصوفية بمكة، وبها توفى قال ابن الحوزى:
وقد ذكر أَنَّهُ كَانَ كَذَّابًا، وَيُقَالُ إِنَّهُ الَّذِي وَضَعَ
حَدِيثَ صَلَاةِ الرَّغَائِبِ.
(12/16)
الْقَاسِمُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ عَبْدِ
الْوَاحِدِ
أَبُو عمر الهاشمي البصري، قاضيها، سَمِعَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ ثِقَةً
أَمِينًا، وَهُوَ رَاوِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ
اللُّؤْلُؤِيِّ، توفى فيها وقد جاوز التسعين.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ
الْجَبَّارِ
أَبُو الْفَرَجِ الْقَاضِي الشَّافِعِيُّ، يعرف بِابْنِ سُمَيْكَةَ،
رَوَى عَنِ النَّجَّادِ وَغَيْرِهِ، وَكَانَ ثِقَةً، تُوُفِّيَ فِي
رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا وَدُفِنَ بباب حَرْبٍ.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ
أَبُو جَعْفَرٍ النَّسَفِيُّ، عَالِمُ الْحَنَفِيَّةِ فِي زَمَانِهِ،
وَلَهُ طَرِيقَةٌ فِي الْخِلَافِ، وَكَانَ فَقِيرًا مُتَزَهِّدًا،
بَاتَ لَيْلَةً قَلِقًا لِمَا عِنْدَهُ مِنَ الْفَقْرِ وَالْحَاجَةِ،
فَعَرَضَ لَهُ فِكْرٌ فِي فَرْعٍ مِنَ الْفُرُوعِ كَانَ أَشْكَلَ
عَلَيْهِ، فَانْفَتَحَ لَهُ فَقَامَ يَرْقُصُ وَيَقُولُ: أَيْنَ
الْمُلُوكِ؟ فَسَأَلَتْهُ امْرَأَتُهُ عَنْ خَبَرِهِ فَأَعْلَمَهَا
بِمَا حَصَلَ لَهُ، فَتَعَجَّبَتْ مِنْ شَأْنِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ،
وكانت وفاته في شعبان منها.
هلال بن محمد
ابن جَعْفَرِ بْنِ سَعْدَانَ، أَبُو الْفَتْحِ الْحَفَّارُ، سَمِعَ
إسماعيل الصفار والنجاد وَابْنَ الصَّوَّافِ، وَكَانَ ثِقَةً تُوُفِّيَ
فِي صَفَرٍ منها عن اثنتين وتسعين سنة.
ثم دخلت سنة خمس عشرة وأربعمائة
فيها ألزم الوزير جماعة الْأَتْرَاكِ وَالْمُوَلَّدِينَ وَالشَّرِيفَ
الْمُرْتَضَى وَنِظَامَ الْحَضْرَةِ أَبَا الْحَسَنِ الزَّيْنَبِيَّ
وَقَاضِيَ الْقُضَاةِ أَبَا الْحَسَنِ بْنَ أبى الشوارب، والشهود،
بالحضور لتجديد البيعة لشرف الدَّوْلَةِ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ
الْخَلِيفَةَ تَوَهَّمَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْبَيْعَةُ لِنِيَّةٍ
فَاسِدَةٍ مِنْ أَجْلِهِ، فَبَعَثَ إِلَى الْقَاضِي وَالرُّؤَسَاءِ
يَنْهَاهُمْ عَنِ الْحُضُورِ، فاختلفت الكلمة بين الخليفة وشرف الدولة،
واصطلحا وَتَصَافَيَا، وَجُدِّدَتِ الْبَيْعَةُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا مِنَ
الْآخَرِ. ولم يحج فيها من ركب العراق ولا خُرَاسَانَ أَحَدٌ،
وَاتَّفَقَ أَنَّ بَعْضَ الْأُمَرَاءِ مِنْ جِهَةِ مَحْمُودِ بْنِ
سُبُكْتِكِينَ شَهِدَ الْمَوْسِمِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فَبَعَثَ
إِلَيْهِ صَاحِبُ مِصْرَ بِخِلَعٍ عظيمة ليحملها للملك محمود، فلما رجع
بها إلى الملك أرسل بها إلى بغداد إلى الخليفة القادر فحرقت بالنار.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
أَحْمَدُ بْنُ محمد بن عمر بن الحسن
أَبُو الْفَرَجِ الْمُعَدَّلُ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْمُسْلِمَةِ،
وُلِدَ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَسَمِعَ أَبَاهُ
وَأَحْمَدَ بن كامل والنجاد والجهضمي ودعلج وغيرهم، وكان ثقة. سكن
الجانب الشرقي من بغداد، وكان يملى فِي أَوَّلِ كُلِّ سَنَةٍ مَجْلِسًا
فِي الْمُحَرَّمِ، وَكَانَ عَاقِلًا فَاضِلًا، كَثِيرَ الْمَعْرُوفِ،
دَارُهُ مَأْلَفٌ لأهل العلم، وتفقه بِأَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ،
وَكَانَ يَصُومُ الدَّهْرَ، وَيَقْرَأُ فِي كُلِّ يَوْمٍ سَبْعًا،
وَيُعِيدُهُ بِعَيْنِهِ فِي التهجد، توفى في ذي القعدة منها
(12/17)
أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أحمد
ابن الْقَاسِمِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ
بْنِ سَعِيدِ بْنِ أَبَانٍ الضَّبِّيُّ، أَبُو الْحَسَنِ المحاملي،
نسبة إلى المحامل التي يحمل عليها الناس في السفر، تفقه على أبى حامد
الأسفراييني، وبرع فيه، حتى إن الشيخ كان يَقُولُ: هُوَ أَحْفَظُ
لِلْفِقْهِ مِنِّي، وَلَهُ الْمُصَنَّفَاتُ المشهورة، منها اللباب،
والأوسط والمقنع وله في الخلاف، وعلق على أبى حامد تعليقة كبيرة. قال
ابْنُ خَلِّكَانَ: وُلِدَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ،
وتوفى في يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لِتِسْعٍ بَقِينَ مِنْ رَبِيعٍ
الْآخَرِ منها، وهو شاب.
عبيد الله بن عبد الله
ابن الْحُسَيْنِ أَبُو الْقَاسِمِ الْخَفَّافُ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ
النَّقِيبِ، كَانَ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ، وَحِينَ بَلَغَهُ مَوْتُ
بن المعلم فقيه الشيعة سجد للَّه شكرا. وجلس لِلتَّهْنِئَةِ وَقَالَ:
مَا أُبَالِي أَيَّ وَقْتٍ مِتُّ بَعْدَ أَنْ شَاهَدْتُ مَوْتَ ابْنِ
الْمُعَلِّمِ، وَمَكَثَ دَهْرًا طَوِيلًا يُصَلِّي الْفَجْرَ بِوُضُوءِ
الْعَشَاءِ. قَالَ الْخَطِيبُ: وَسَأَلْتُهُ عَنْ مَوْلِدِهِ فَقَالَ
فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَأَذْكُرُ مِنَ الْخُلَفَاءِ
الْمُقْتَدِرَ وَالْقَاهِرَ والرضى والمتقى للَّه والمستكفي والمطيع
والطائع والقادر والغالب باللَّه، الّذي خطب له بولاية العهد، توفى في
سلخ شعبان منها عَنْ مِائَةٍ وَعَشْرِ سِنِينَ.
عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الله بن عمر
أَبُو حَفْصٍ الدَّلَّالُ، قَالَ سَمِعْتُ الشِّبْلِيَّ يُنْشِدُ قوله:
وقد كان شيء سمى السُّرُورَ ... قَدِيمًا سَمِعْنَا بِهِ مَا فَعَلْ
خَلِيلَيَّ، إِنْ دَامَ هَمُّ النُّفُوسِ ... قَلِيلًا عَلَى مَا
نَرَاهُ قَتَلْ
يُؤَمِّلُ دُنْيَا لِتَبْقَى لَهُ ... فَمَاتَ الْمُؤَمِّلُ قَبْلَ
الْأَمَلْ
مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ أَبُو الْحَسَنِ
الْأَقْسَاسِيُّ الْعَلَوِيُّ، نَائِبُ الشَّرِيفِ الْمُرْتَضَى فِي
إمرة الحجيج، حج بالناس سنين متعددة، وله فصاحة وشعر، وَهُوَ مِنْ
سُلَالَةِ زَيْدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتَّ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا قَوِيَ أَمْرُ الْعَيَّارِينَ بِبَغْدَادَ وَنَهَبُوا الدُّورَ
جَهْرَةً، وَاسْتَهَانُوا بِأَمْرِ السُّلْطَانِ، وَفِي رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ منها توفى شرف الدولة بن بويه الديلمي صاحب بغداد والعراق
وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَكَثُرَتِ الشُّرُورُ بِبَغْدَادَ وَنُهِبَتِ
الْخَزَائِنُ، ثم سكن الْأَمْرُ عَلَى تَوْلِيَةِ جَلَالِ الدَّوْلَةِ
أَبِي الطَّاهِرِ، وخطب له على المنابر، وهو إذ ذاك عَلَى الْبَصْرَةِ،
وَخَلَعَ عَلَى شَرَفِ الْمُلْكِ أَبِي سَعِيدِ بْنِ مَاكُولَا
وَزِيرِهِ، وَلُقِّبَ عَلَمَ الدِّينِ سَعْدَ الدَّوْلَةِ أَمِينَ
الْمِلَّةِ شَرَفَ الْمُلْكِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ لُقِّبَ
بِالْأَلْقَابِ الْكَثِيرَةِ، ثُمَّ طَلَبَ من الخليفة أن يبايع لأبى
كاليجار وَلِيَّ عَهْدِ أَبِيهِ سُلْطَانِ الدَّوْلَةِ، الَّذِي
اسْتَخْلَفَهُ بهاء الدولة عليهم، فتوقف في الجواب ثم
(12/18)
وافقهم على ما أرادوا، وَأُقِيمَتِ
الْخُطْبَةُ لِلْمَلِكِ أَبِي كَالِيجَارَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ سادس عشر
شوال منها، ثم تفاقم الأمر ببغداد من جهة العيارين، وَكَبَسُوا
الدُّورَ لَيْلًا وَنَهَارًا، وَضَرَبُوا أَهْلَهَا كَمَا يُضْرَبُ
الْمُصَادَرُونَ وَيَسْتَغِيثُ أَحَدُهُمْ فَلَا يُغَاثُ، وَاشْتَدَّ
الحال وهربت الشرطة مِنْ بَغْدَادَ وَلَمْ تُغْنِ الْأَتْرَاكُ
شَيْئًا، وَعَمِلَتِ السرايج عَلَى أَفْوَاهِ السِّكَكِ فَلَمْ يَفِدْ
ذَلِكَ شَيْئًا، وَأُحْرِقَتْ دَارُ الشَّرِيفِ الْمُرْتَضَى
فَانْتَقَلَ مِنْهَا، وَغَلَتِ الأسعار جَدًّا. وَلَمْ يَحُجَّ أَحَدٌ
مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ وخراسان.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
سَابُورُ بْنُ ازدشير
وزر لبهاء الدولة ثلاث مرات، ووزر لشرف الدولة، وكان كاتبا شديدا عفيفا
عن الأموال، كثير الخير، سليم الخاطر، وكان إذا سمع المؤذن لا يشغله
شيء عَنِ الصَّلَاةِ، وَقَدْ وَقَفَ دَارًا لِلْعِلْمِ فِي سِنَةِ
إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَجَعَلِ فِيهَا كُتُبًا كثيرة
جدا، ووقف عليها غلة كبيرة، فَبَقِيَتْ سَبْعِينَ سَنَةً ثُمَّ
أُحْرِقَتْ عِنْدَ مَجِيءِ الْمَلِكِ طُغْرُلْبَكَ فِي سَنَةِ
خَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَكَانَتْ محلتها بين السورين، وقد كان
حسن الْمُعَاشَرَةِ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ يَعْزِلُ عُمَّالَهُ سَرِيعًا
خوفا عليهم من الأشر والبطر، توفى فيها وقد قارب التسعين.
عثمان النيسابورىّ
الجداوى الواعظ. قال ابن الجوزي: صنف كتبا فِي الْوَعْظِ مِنْ أَبْرَدِ
الْأَشْيَاءِ، وَفِيهِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مَوْضُوعَةٌ، وَكَلِمَاتٌ
مَرْذُولَةٌ، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ خَيِّرًا صَالِحًا، وَكَانَتْ لَهُ
وَجَاهَةٌ عِنْدَ الْخُلَفَاءِ وَالْمُلُوكِ، وَكَانَ الْمَلِكُ
مَحْمُودُ بْنُ سُبُكْتِكِينَ إِذَا رَآهُ قَامَ لَهُ، وَكَانَتْ
مَحَلَّتُهُ حِمَى يَحْتَمِي بها من الظلمة، وقد وقع في بلده
نَيْسَابُورَ مَوْتٌ، وَكَانَ يُغَسِّلُ الْمَوْتَى مُحْتَسِبًا،
فَغَسَّلَ نحوا من عشرة آلاف ميتا، رحمه الله.
مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحَانِ
أَبُو مَنْصُورٍ الوزير لشرف الدولة ولبهاء الدولة، كَانَ وَزِيرَ
صِدْقٍ جَيِّدَ الْمُبَاشَرَةِ حَسَنَ الصَّلَاةِ، مُحَافِظًا عَلَى
أَوْقَاتِهَا، وَكَانَ مُحْسِنًا إِلَى الشُّعَرَاءِ والعلماء، توفى
فيها عن ست وسبعين سنة.
الملك شرف الدَّوْلَةِ
أَبُو عَلِيِّ بْنُ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ، أَبِي نصر بن عضد الدولة بن
بويه، أصابه مرض حار فَتُوُفِّيَ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ رَبِيعٍ
الْآخَرِ عَنْ ثلاث وعشرين سنة، وثلاثة أشهر وعشرين يوما.
التهامي الشاعر
عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ التِّهَامِيُّ أَبُو الْحَسَنِ، لَهُ دِيوَانٌ
مَشْهُورٌ، وَلَهُ مَرْثَاةٌ فِي وَلَدِهِ وَكَانَ قَدْ مَاتَ صَغِيرًا
أَوَّلُهَا:
حُكْمُ الْمَنِيَّةِ فِي الْبَرِيَّةِ جَارِي ... مَا هَذِهِ
الدُّنْيَا بِدَارِ قَرَارِ
وَمِنْهَا: -
إِنِّي لَأَرْحَمُ حَاسِدِيَّ لِحَرِّ مَا ... ضَمَّتْ صُدُورُهُمُ
مِنَ الْأَوْغَارِ
نَظَرُوا صَنِيعَ اللَّهِ بِي فَعُيُونُهُمْ ... فِي جَنَّةٍ
وَقُلُوبُهُمْ فِي نَارِ
(12/19)
ومنها في ذم الدنيا:
جبلت على كدر وأنت ترومها ... صَفْوًا مِنَ الْأَقْذَارِ
وَالْأَكْدَارِ
وَمُكَلِّفُ الْأَيَّامِ ضِدَّ طِبَاعِهَا ... مُتَطَلِّبٌ فِي
الْمَاءِ جَذْوَةَ نَارِ
وَإِذَا رَجَوْتَ الْمُسْتَحِيلَ فَإِنَّمَا ... تَبْنِي الرَّجَاءَ
عَلَى شَفِيرٍ هَارِ
وَمِنْهَا قَوْلُهُ فِي وَلَدِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ:
جَاوَرْتُ أَعْدَائِي وَجَاوَرَ رَبَّهُ ... شَتَّانَ بَيْنَ جِوَارِهِ
وجواري
وقد ذكر ابن خلكان أنه رآه بعضهم في المنام في هيئة حسنة فقال له بعض
أصحابه: بم نلت هذا؟
فقال: بهذا البيت
شتان بين جواره وجواري
ثم دخلت سنة سبع عشرة وأربعمائة
في العشرين من محرمها وقعت فتنة بين الاسفهلارية وبين العيارين، وركبت
لهم الأتراك بالدبابات، كما يفعل في الحرب، وأحرقت دور كَثِيرَةٌ مِنَ
الدُّورِ الَّتِي احْتَمَى فِيهَا الْعَيَّارُونَ، وَأُحْرِقَ مِنَ
الْكَرْخِ جَانِبٌ كَبِيرٌ، وَنُهِبَ أَهْلُهُ، وتعدى بالنهب إلى
غيرهم، وقامت فتنة عظيمة ثم خمدت الفتنة فِي الْيَوْمِ الثَّانِي،
وَقُرِّرَ عَلَى أَهْلِ الْكَرْخِ مِائَةُ أَلْفِ دِينَارٍ،
مُصَادَرَةً، لِإِثَارَتِهِمُ الْفِتَنَ وَالشُّرُورَ.
وفي شهر ربيع الآخر منها شَهِدَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ
عَلِيِّ، الصَّيْمَرِيُّ عِنْدَ قَاضِي الْقُضَاةِ ابْنِ أَبِي
الشَّوَارِبِ بعد ما كَانَ اسْتَتَابَهُ عَمَّا ذُكِرَ عَنْهُ مِنَ
الِاعْتِزَالِ. وَفِي رَمَضَانَ مِنْهَا انْقَضَّ كَوْكَبٌ سُمِعَ لَهُ
دَوِيٌّ كَدَوِيِّ الرَّعْدِ، وَوَقَعَ فِي سَلْخِ شَوَّالٍ بَرَدٌ
لَمْ يُعْهَدْ مِثْلُهُ، وَاسْتَمَرَّ ذَلِكَ إِلَى الْعِشْرِينَ مِنْ
ذِي الْحِجَّةِ، وَجَمَدَ الْمَاءُ طُولَ هذه المدة، وَقَاسَى النَّاسُ
شِدَّةً عَظِيمَةً، وَتَأَخَّرَ الْمَطَرُ وَزِيَادَةُ دِجْلَةَ،
وَقَلَّتِ الزِّرَاعَةُ، وَامْتَنَعَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ عن التصرف.
وَلَمْ يَحُجَّ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ في هذه
السنة لفساد البلاد وضعف الدولة.
وفيها توفى مِنَ الْأَعْيَانِ
قَاضِي الْقُضَاةِ ابْنُ أَبِي الشَّوَارِبِ.
أحمد بن محمد بن عبد الله
ابن الْعَبَّاسِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي
الشَّوَارِبِ، أَبُو الْحَسَنِ الْقُرَشِيُّ الْأُمَوِيُّ، قَاضِي
قُضَاةِ بَغْدَادَ بَعْدَ ابْنِ الْأَكْفَانِيِّ بِثِنْتَيْ عَشْرَةَ
سَنَةً، وَكَانَ عَفِيفًا نَزِهًا، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ
أَبِي عُمَرَ الزَّاهِدِ وَعَبْدِ الْبَاقِي بْنِ قَانِعٍ، إِلَّا
أَنَّهُ لَمْ يُحَدِّثْ. قَالَهُ ابْنُ الجوزي: وحكى الخطيب عَنْ
شَيْخِهِ أَبِي الْعَلَاءِ الْوَاسِطِيِّ: أَنَّ أَبَا الْحَسَنِ هَذَا
آخِرُ مَنْ وَلِيَ الْحُكْمَ بِبَغْدَادَ، مِنْ سُلَالَةِ مُحَمَّدِ
بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ وَقَدْ وَلِيَ
الْحُكْمَ مِنْ سُلَالَتِهِ أربعة وعشرون، منهم وُلُّوا قَضَاءَ
قُضَاةِ بَغْدَادَ. قَالَ أَبُو الْعَلَاءِ: مَا رَأَيْنَا مِثْلَ
أَبِي الْحَسَنِ هَذَا، جَلَالَةً وَنَزَاهَةً وَصِيَانَةً وَشَرَفًا.
وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّهُ كَانَ لَهُ صَدِيقًا
(12/20)
وَصَاحِبًا، وَأَنَّ رَجُلًا مِنْ خِيَارِ
النَّاسِ أَوْصَى لَهُ بِمِائَتَيْ دِينَارٍ، فَحَمَلَهَا إِلَيْهِ
الْمَاوَرْدِيُّ فَأَبَى القاضي أن يقبلها، وجهد عليه كل الجهد فلم
يفعل، وقال له: سألتك باللَّه لا تذكرن هذا لأحد ما دمت حيا، ففعل
الماوردي، فَلَمْ يُخْبِرْ عَنْهُ إِلَّا بَعْدَ مَوْتِهِ، وَكَانَ
ابْنُ أَبِي الشَّوَارِبِ فَقِيرًا إِلَيْهَا، وَإِلَى مَا هو دونها
فلم يقبلها رحمه الله. توفى في شوال منها.
جعفر بن أبان
أبو مسلم الختّليّ سَمِعَ ابْنَ بَطَّةَ وَدَرَسَ فِقْهَ الشَّافِعِيِّ
عَلَى الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ، وَكَانَ ثِقَةً
دَيِّنًا، توفى في رمضان منها
عمر بن أحمد بْنِ عَبْدَوَيْهِ
أَبُو حَازِمٍ الْهُذَلِيُّ النَّيْسَابُورِيُّ، سَمِعَ ابْنَ نُجَيْدٍ
وَالْإِسْمَاعِيلِيَّ، وَخَلْقًا، وَسَمِعَ مِنْهُ الْخَطِيبُ وغيره،
وكان الناس ينتفعون بِإِفَادَتِهِ وَانْتِخَابِهِ، تُوُفِّيَ يَوْمَ
عِيدِ الْفِطْرِ مِنْهَا.
عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ
أبو الحسن المقري الْمَعْرُوفُ بِالْحَمَّامِيِّ، سَمِعَ النَّجَّادَ
وَالْخُلْدِيَّ وَابْنَ السَّمَّاكِ وَغَيْرَهُمْ، وَكَانَ صَدُوقًا
فَاضِلًا، حَسَنَ الِاعْتِقَادِ، وَتَفَرَّدَ بأسانيد القراءات وعلوها،
توفى في شعبان منها عَنْ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً.
صَاعِدُ بْنُ الْحَسَنِ
ابن عيسى الربعي البغدادي، صَاحِبُ كِتَابِ الْفُصُوصِ فِي اللُّغَةِ
عَلَى طَرِيقَةِ الْقَالِي فِي الْأَمَالِي، صَنَّفَهُ لِلْمَنْصُورِ
بْنِ أَبِي عَامِرٍ، فَأَجَازَهُ عَلَيْهِ خَمْسَةَ آلَافِ دِينَارٍ،
ثُمَّ قيل له إنه كذاب متهم، فَقَالَ فِي ذَلِكَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
قَدْ غَاصَ فِي الْمَاءِ كِتَابُ الْفُصُوصْ ... وَهَكَذَا كُلُّ
ثَقِيلٍ يَغُوصْ
فَلَمَّا بَلَغَ صَاعِدًا هَذَا الْبَيْتُ أَنْشَدَ:
عَادَ إِلَى عُنْصُرِهِ إِنَّمَا ... يَخْرُجُ مِنْ قَعْرِ الْبُحُورِ
الْفُصُوصْ
قُلْتُ: كَأَنَّهُ سَمَّى هَذَا الْكِتَابَ بِهَذَا الِاسْمِ
لِيُشَاكِلَ بِهِ الصِّحَاحَ لِلْجَوْهَرِيِّ، لَكِنَّهُ كَانَ مَعَ
فَصَاحَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ وَعِلْمِهِ مُتَّهَمًا بِالْكَذِبِ، فلهذا
رفض الناس كتابه، ولم يشتهر، وكان ظريفا ما جنا سَرِيعَ الْجَوَابِ،
سَأَلَهُ رَجُلٌ أَعْمَى عَلَى سَبِيلِ التهكم فقال له: ما الحر تقل؟
فأطرق ساعة وعرف أنه افتعل هذا من عند نفسه ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ
إِلَيْهِ فَقَالَ: هُوَ الَّذِي يَأْتِي نِسَاءَ الْعُمْيَانِ، وَلَا
يَتَعَدَّاهُنَّ إِلَى غَيْرِهِنَّ، فاستحى ذلك الأعمى وضحك الحاضرون.
توفى في هذه السنة سامحه الله.
القفال المروزي
أحد أئمة الشافعية الكبار، علما وزهدا وحفظا وتصنيفا، وَإِلَيْهِ
تُنْسَبُ الطَّرِيقَةُ الْخُرَاسَانِيَّةُ، وَمِنْ أَصْحَابِهِ
الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ، وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ،
وَأَبُو عَلِيٍّ السبخى، قال ابن خلكان:
(12/21)
وَأَخَذَ عَنْهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ،
وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ. لِأَنَّ سِنَّ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ لَا
يَحْتَمِلُ ذَلِكَ، فان القفال هذا مات فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَلَهُ
تِسْعُونَ سَنَةً، وَدُفِنَ بِسِجِسْتَانَ، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ
وُلِدَ سَنَةَ تِسْعَ عَشْرَةَ وأربعمائة كَمَا سَيَأْتِي، وَإِنَّمَا
قِيلَ لَهُ الْقَفَّالُ لِأَنَّهُ كَانَ أَوَّلًا يَعْمَلُ
الْأَقْفَالَ، وَلَمْ يَشْتَغِلْ إِلَّا وهو ابن ثلاثين سَنَةً،
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثمان عشرة وأربعمائة
في ربيع الأول منها وَقَعَ بَرَدٌ أَهْلَكَ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ
الزُّرُوعِ والثمار، وقتل خلقا كثيرا من الدواب. قَالَ ابْنُ
الْجَوْزِيِّ: وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ كَانَ في برده كُلِّ بَرَدَةٍ
رِطْلَانِ وَأَكْثَرُ، وَفِي وَاسِطٍ بَلَغَتِ البردة أرطالا، وفي
بغداد بلغت قدر البيض. وفي ربيع الآخر سألت الاسفهلارية الغلمان
الْخَلِيفَةَ أَنْ يَعْزِلَ عَنْهُمْ أَبَا كَالِيجَارَ، لِتَهَاوُنِهِ
بِأَمْرِهِمْ، وَفَسَادِهِ وَفَسَادِ الْأُمُورِ فِي أَيَّامِهِ،
وَيُوَلِّيَ عليهم جلال الدولة، الّذي كانوا قد عزلوه عنهم،
فَمَاطَلَهُمُ الْخَلِيفَةُ فِي ذَلِكَ وَكَتَبَ إِلَى أَبِي
كَالِيجَارَ أَنْ يَتَدَارَكَ أَمْرَهُ، وَأَنْ يُسْرِعَ الْأَوْبَةَ
إِلَى بَغْدَادَ، قَبْلَ أَنْ يَفُوتَ الْأَمْرُ، وَأَلَحَّ أُولَئِكَ
عَلَى الْخَلِيفَةِ فِي تَوْلِيَةِ جَلَالِ الدَّوْلَةِ، وَأَقَامُوا
لَهُ الْخُطْبَةَ بِبَغْدَادَ، وَتَفَاقَمَ الْحَالُ، وَفَسَدَ النظام.
وفيها ورد كتاب من محمود بن سبكتكين يذكر أَنَّهُ دَخَلَ بِلَادَ
الْهِنْدِ أَيْضًا، وَأَنَّهُ كَسَرَ الصَّنَمَ الْأَعْظَمَ الَّذِي
لَهُمُ الْمُسَمَّى بِسُومَنَاتَ، وَقَدْ كَانُوا يَفِدُونَ إِلَيْهِ
مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، كما يفد الناس إلى الكعبة البيت الحرام
وأعظم، وينفقون عنده النفقات والأموال الكثيرة، التي لا توصف ولا تعد،
وَكَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَوْقَافِ عَشَرَةُ آلَافِ قَرْيَةٍ، ومدينة
مَشْهُورَةٍ، وَقَدِ امْتَلَأَتْ خَزَائِنُهُ أَمْوَالًا، وَعِنْدَهُ
أَلْفُ رجل يخدمونه، وثلاثمائة رجل يحلقون رءوس حجيجه، وثلاثمائة رجل
يغنون ويرقصون على بابه، لما يضرب على بابه الطبول والبوقات، وكان عنده
من المجاورين ألوف يأكلون من أوقافه، وقد كان البعيد من الهنود يتمنى
لو بلغ هذا الصنم، وكان يعوقه طول المفاوز وكثرة الموانع والآفات، ثم
استخار الله السلطان محمود لما بلغه خبر هذا الصنم وعباده، وكثرة
الهنود في طريقه، والمفاوز المهلكة، والأرض الخطرة، في تجشم ذلك في
جيشه، وأن يقطع تلك الأهوال إليه، فندب جيشه لذلك فانتدب معه ثلاثون
ألفا من المقاتلة، ممن اختارهم لذلك، سوى المتطوعة، فسلمهم الله حتى
انتهوا إلى بلد هذا الوثن، ونزلوا بساحة عباده، فإذا هو بمكان بقدر
المدينة العظيمة، قال: فما كان بأسرع من أن ملكناه وَقَتَلْنَا مِنْ
أَهْلِهِ خَمْسِينَ أَلْفًا وَقَلَعْنَا هَذَا الْوَثَنَ وَأَوْقَدْنَا
تَحْتَهُ النَّارَ. وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُ واحد أن الهنود بذلوا للسلطان
محمود أموالا جزيلة لِيَتْرُكَ لَهُمْ هَذَا الصَّنَمَ الْأَعْظَمَ،
فَأَشَارَ مَنْ أشار من الأمراء على السلطان محمود بأخذ الأموال وإبقاء
هذا الصنم لهم، فقال: حتى أستخير الله عز وجل، فَلَمَّا أَصْبَحَ
قَالَ: إِنِّي فَكَّرْتُ فِي الْأَمْرِ الّذي ذكر فرأيت أنه إذا نوديت
يوم القيامة أَيْنَ مَحْمُودٌ الَّذِي كَسَرَ الصَّنَمَ؟ أَحَبُّ
إِلَيَّ من أن يقال الّذي ترك الصنم لأجل ما يناله من الدنيا، ثم عزم
فكسره رحمه الله، فوجد عليه وفيه من الجواهر واللآلي والذهب والجواهر
(12/22)
النفيسة ما ينيف على ما بذلوه له بأضعاف
مضاعفة، ونرجو من الله له في الآخرة الثواب الجزيل الّذي مثقال دانق
منه خير من الدنيا وما فيها، مع ما حصل له من الثناء الجميل الدنيوي،
فَرَحِمَهُ اللَّهُ وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ. وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ
ثَالِثِ رَمَضَانَ دَخَلَ جَلَالُ الدَّوْلَةِ إِلَى بَغْدَادَ فتلقاه
الخليفة في دجلة في طيارة، ومعه الأكابر والأمراء، فلما واجه جلال
الدولة الخليفة قَبَّلَ الْأَرْضَ دَفَعَاتٍ، ثُمَّ سَارَ إِلَى دَارِ
الْمُلْكِ، وَعَادَ الْخَلِيفَةُ إِلَى دَارِهِ، وَأَمَرَ جَلَالُ
الدَّوْلَةِ أَنْ يُضْرَبَ لَهُ الطَّبْلُ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ
الثَّلَاثِ، كَمَا كَانَ الْأَمْرُ فِي زَمَنِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ،
وَصَمْصَامِهَا وَشَرَفِهَا وَبَهَائِهَا، وَكَانَ الْخَلِيفَةُ يضرب
له الطبل في أوقات الخمس، فأراد جلال الدولة ذلك فقيل له يحمل هذه
المساواة الخليفة في ذلك، ثم صمم على ذلك في أوقات الْخَمْسِ. قَالَ
ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِيهَا وَقَعَ بَرَدٌ شديد حتى جمد الماء
وَالنَّبِيذُ وَأَبْوَالُ الدَّوَابِّ وَالْمِيَاهُ الْكِبَارُ،
وَحَافَّاتُ دِجْلَةَ. ولم يحج أحد من أهل العراق.
وفيها توفى مِنَ الْأَعْيَانِ
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الله
ابن عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ الْمُهْتَدِي باللَّه، أَبُو عَبْدِ الله
الشاهد، خطب له فِي جَامِعِ الْمَنْصُورِ فِي سَنَةِ سِتٍّ
وَثَمَانِينَ وثلاثمائة، ولم يخطب له إلا بخطبة واحدة جمعات كثيرة
متعددة، فكان إذا سَمِعَهَا النَّاسُ مِنْهُ ضَجُّوا بِالْبُكَاءِ
وَخَشَعُوا لِصَوْتِهِ.
الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ
أَبُو الْقَاسِمِ المغربي الوزير، ولد بمصر في ذي الحجة سنة تسعين
وثلاثمائة، وهرب منها حين قتل صاحبها الحاكم أباه وعمه محمدا، وَقَصَدَ
مَكَّةَ ثُمَّ الشَّامَ، وَوَزَرَ فِي عِدَّةِ أماكن، وَكَانَ يَقُولُ
الشِّعْرَ الْحَسَنَ، وَقَدْ تَذَاكَرَ هُوَ وبعض الصالحين فأنشده ذلك
الصَّالِحُ شِعْرًا:
إِذَا شِئْتَ أَنْ تَحْيَا غَنِيًّا فَلَا تَكُنْ ... عَلَى حَالَةٍ
إِلَّا رَضِيتَ بِدُونِهَا
فَاعْتَزَلَ الْمَنَاصِبَ وَالسُّلْطَانَ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ
أَصْحَابِهِ: تركت المنازل والسلطان فِي عُنْفُوَانِ شَبَابِكَ؟
فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
كُنْتُ فِي سفر الجهل والبطالة ... حينا فَحَانَ مِنِّي الْقُدُومُ
تُبْتُ مِنْ كُلِّ مَأْثَمٍ فعسى ... يمحى بِهَذَا الْحَدِيثِ ذَاكَ
الْقَدِيمُ
بَعْدَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ تعد ... ألا إن الآله القديم كريم
توفى بميافارقين في رمضان منها عَنْ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً،
وَدُفِنَ بِمَشْهَدِ عَلِيٍّ.
محمد بن الحسن بْنِ إِبْرَاهِيمَ
أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْخَفَّافِ، رَوَى
عَنِ الْقَطِيعِيِّ وَغَيْرِهِ، وَقَدِ اتَّهَمُوهُ بوضع الحديث
والأسانيد، قاله الخطيب وغيره.
(12/23)
أبو القاسم
اللالكائي
هِبَةُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ مَنْصُورٍ: الرَّازِيُّ، وَهُوَ
طَبَرِيُّ الْأَصْلِ، أَحَدُ تَلَامِذَةِ الشَّيْخِ أَبِي حامد
الأسفراييني، كان يَفْهَمُ وَيَحْفَظُ، وَعُنِيَ بِالْحَدِيثِ
فَصَنَّفَ فِيهِ أَشْيَاءَ كثيرة، ولكن عاجلته المنية قبل أن تشتهر
كتبه، وله كتاب في السنة وشرفها، وَذَكَرَ طَرِيقَةَ السَّلَفِ
الصَّالِحِ فِي ذَلِكَ، وَقَعَ لنا سماعه على الحجار عاليا عنه، توفى
بالدينور في رمضان منها، وَرَآهُ بَعْضُهُمْ فِي الْمَنَامِ فَقَالَ:
مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟
قَالَ: غَفَرَ لِي، قال بم؟ قال بشيء قليل من السنة أحييته:
أبو القاسم بن أمير المؤمنين القادر
توفى ليلة الأحد في جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ غَيْرَ
مَرَّةٍ، وَمَشَى النَّاسُ فِي جِنَازَتِهِ، وَحَزِنَ عَلَيْهِ أَبُوهُ
حُزْنًا شَدِيدًا، وَقُطِعَ الطَّبْلُ أَيَّامًا.
ابْنُ طَبَاطَبَا الشَّرِيفُ
كان شاعرا، وله شعر حسن.
أبو إسحاق
وهو الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيُّ إِبْرَاهِيمُ
بْنُ مُحَمَّدِ بن مهران. الشيخ أبو إسحاق الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ،
رُكْنُ الدِّينِ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، الْمُتَكَلِّمُ الأصولي،
صاحب التصانيف في الأصلين، جامع الحلي في مجلدات، والتعليقة النافعة
فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَقَدْ سَمِعَ الكثير من
الحديث مِنْ أَبِي بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيِّ وَدَعْلَجٍ
وَغَيْرِهِمَا، وَأَخَذَ عَنْهُ الْبَيْهَقِيُّ وَالشَّيْخُ أَبُو
الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ، وَالْحَاكِمُ النيسابورىّ، وأثنى عليه، توفى
يوم عاشوراء منها بنيسابور، ثم نقل إلى بلده ودفن بمشهده.
القدوري
صاحب الكتاب المشهور في مذهب أبى حنيفة، أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
أَحْمَدَ بْنِ جَعْفَرِ بن حمدان، أبو الحسن القدوري الْحَنَفِيُّ،
صَاحِبُ الْمُصَنَّفِ الْمُخْتَصَرِ، الَّذِي يُحْفَظُ، كَانَ إماما
بارعا عالما، وثبتا مناظرا، وهو الَّذِي تَوَلَّى مُنَاظَرَةَ
الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ من الحنفية، وكان
القدوري يطريه ويقول: هو أعلم من الشافعيّ، وانظر منه، توفى يوم الأحد
الخامس من رجب منها، عن ست وخمسين سَنَةً، وَدُفِنَ إِلَى جَانِبِ
الْفَقِيهِ أَبِي بَكْرٍ الْخُوَارِزْمِيِّ الْحَنَفِيِّ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعَ عَشْرَةَ وأربعمائة
فِيهَا وَقَعَ بَيْنَ الْجَيْشِ وَبَيْنَ جَلَالِ الدَّوْلَةِ ونهبوا
دار وزيره، وجرت له أمور طويلة، آل الحال فيها إلى اتفاقهم على إخراجه
من البلد، فهيّئ له برذون رث، فخرج وفي يده طير نَهَارًا، فَجَعَلُوا
لَا يَلْتَفِتُونَ إِلَيْهِ وَلَا يُفَكِّرُونَ فيه، فلما عزم على
الركوب على ذلك البرذون الرث رثوا له ورقوا له ولهيئته وَقَبَّلُوا
الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَانْصَلَحَتْ قَضِيَّتُهُ بَعْدَ فسادها.
وفيها قَلَّ الرُّطَبُ جِدًّا بِسَبَبِ هَلَاكِ النَّخْلِ فِي
(12/24)
السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ بِالْبَرَدِ،
فَبِيعَ الرَّطْبُ كُلُّ ثَلَاثَةِ أَرْطَالٍ بِدِينَارٍ جَلَالِيٍّ،
وَوَقَعَ بَرَدٌ شَدِيدٌ أَيْضًا فأهلك شيئا كثيرا من النخيل أيضا.
وَلَمْ يَحُجَّ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْمَشْرِقِ وَلَا من أهل الديار
المصرية فيها، إِلَّا أَنَّ قَوْمًا مِنْ خُرَاسَانَ رَكِبُوا فِي
الْبَحْرِ مِنْ مَدِينَةِ مُكْرَانَ فَانْتَهَوْا إِلَى جَدَّةَ فحجوا.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
حَمْزَةُ بْنُ إبراهيم بن عبد الله
أَبُو الْخَطَّابِ الْمُنَجِّمُ، حَظِيَ عِنْدَ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ
وعلماء النجوم، وكان له بذلك وجاهة عنده، حتى أن الوزراء كانوا يخافونه
ويتوسلون به إليه، ثم صار أمره طريدا بعيدا حَتَّى مَاتَ يَوْمَ مَاتَ
بِالْكَرْخِ مِنْ سَامَرَّا غَرِيبًا، فَقِيرًا مَفْلُوجًا، قَدْ
ذَهَبَ مَالُهُ وَجَاهُهُ وعقله.
مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَخْلَدٍ
أَبُو الْحَسَنِ التَّاجِرُ، سَمِعَ الْكَثِيرَ عَلَى الْمَشَايِخِ
الْمُتَقَدِّمِينَ، وَتَفَرَّدَ بِعُلُوِّ الْإِسْنَادِ، وَكَانَ ذَا
مَالٍ جَزِيلٍ فَخَافَ مِنَ الْمُصَادَرَةِ بِبَغْدَادَ فَانْتَقَلَ
إِلَى مِصْرَ فَأَقَامَ بِهَا سَنَةً، ثُمَّ عَادَ إِلَى بَغْدَادَ،
فَاتَّفَقَ مُصَادَرَةُ أَهْلِ مَحَلَّتِهِ فَقُسِّطَ عَلَيْهِ مَا
أَفْقَرَهُ، وَمَاتَ حِينَ مَاتَ وَلَمْ يُوجَدْ له كفن ولم يترك شيئا
فأرسل له القادر باللَّه ما كفن فيه.
مبارك الأنماطي
كان ذا مال جزيل نحو ثلاثمائة ألف دينار، مات وَلَمْ يَتْرُكْ وَارِثًا
سِوَى ابْنَةٍ وَاحِدَةٍ بِبَغْدَادَ، وتوفى هو بِمِصْرَ.
أَبُو الْفَوَارِسِ بْنُ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ
كَانَ ظَالِمًا، وَكَانَ إِذَا سَكِرَ يَضْرِبُ الرَّجُلَ مِنْ
أَصْحَابِهِ أَوْ وَزِيرِهِ مِائَتَيْ مِقْرَعَةٍ، بَعْدَ أَنْ
يُحَلِّفَهُ بِالطَّلَاقِ أَنَّهُ لَا يَتَأَوَّهُ، وَلَا يُخْبِرُ
بذلك أحدا. فيقال إن حاشيته سموه، فلما مات نادوا بشعار أخيه كاليجار.
أبو محمد بن الساد
وزير كاليجار، ولقبه معز الدولة، فلك الدولة، رشيد الْأُمَّةِ، وَزِيرَ
الْوُزَرَاءِ، عِمَادَ الْمُلْكِ، ثُمَّ سُلِّمَ بعد ذلك إلى جلال
الدولة فاعتقله ومات فيها.
أبو عبد الله المتكلم
توفى فيها، هَكَذَا رَأَيْتُ ابْنَ الْجَوْزِيِّ تَرْجَمَهُ
مُخْتَصَرًا.
ابْنُ غلبون الشاعر
عَبْدُ الْمُحْسِنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ غالب أبو محمد
الشَّامِيُّ ثُمَّ الصُّورِيُّ، الشَّاعِرُ الْمُطَبِّقُ، لَهُ
دِيوَانُ مليح، كَانَ قَدْ نَظَمَ قَصِيدَةً بَلِيغَةً فِي بَعْضِ
الرُّؤَسَاءِ، ثُمَّ أَنْشَدَهَا لِرَئِيسٍ آخَرَ يُقَالُ لَهُ ذو
النعمتين، وَزَادَ فِيهَا بَيْتًا وَاحِدًا يَقُولُ فِيهِ:
وَلَكَ الْمَنَاقِبُ كَلُّهَا ... فَلِمَ اقْتَصَرْتَ عَلَى
اثْنَتَيْنِ
فَأَجَازَهُ جائزة سنية، فقيل له: إنه لم يقلها فِيكَ، فَقَالَ: إِنَّ
هَذَا الْبَيْتَ وَحْدَهُ بِقَصِيدَةٍ، وَلَهُ أَيْضًا فِي بَخِيلٍ
نَزَلَ عِنْدَهُ:
(12/25)
وأخ مسه تزولى بقرح ... مثل ما مسنى من
الجرح
بت ضيفا له كما حكم الدهر ... وفي حكمه على الحر فتح
فابتدأني يقول وهو من ... السكر بِالْهَمِّ طَافِحٌ لَيْسَ يَصْحُو
لِمْ تَغَرَّبْتَ؟ قَلْتُ قال رسول الله ... وَالْقَوْلُ مِنْهُ نُصْحٌ
وَنُجْحُ
«سَافَرُوا تَغْنَمُوا» فَقَالَ وقد ... قال تَمَامَ الْحَدِيثِ
«صُومُوا تَصِحُّوَا»
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ عشرين وأربعمائة
فِيهَا سَقَطَ بِنَاحِيَةِ الْمَشْرِقِ مَطَرٌ شَدِيدٌ، مَعَهُ بَرَدٌ
كِبَارٌ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: حُزِرَتِ الْبَرَدَةُ الواحدة منه
مائة وخمسون رِطْلًا، وَغَاصَتْ فِي الْأَرْضِ نَحْوًا مِنْ ذِرَاعٍ.
وفيها ورد كتاب من محمود ابن سُبُكْتِكِينَ أَنَّهُ أَحَلَّ
بِطَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الرَّيِّ مِنَ الْبَاطِنِيَّةِ وَالرَّوَافِضِ
قَتْلًا ذَرِيعًا، وَصَلْبًا شَنِيعًا، وَأَنَّهُ انْتَهَبَ أَمْوَالَ
رَئِيسِهِمْ رُسْتُمَ بْنِ عَلِيٍّ الديلميّ، فحصل منها مَا يُقَارِبُ
أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَقَدْ كَانَ في حيازته نَحْوٌ مَنْ خَمْسِينَ
امْرَأَةً حُرَّةً، وَقَدْ وَلَدْنَ له ثلاثا وثلاثين ولدا بين ذَكَرٍ
وَأُنْثَى، وَكَانُوا يَرَوْنَ إِبَاحَةَ ذَلِكَ. وَفِي رجب منها انقض
كواكب كثيرة شديدة الضوء شديدة الصوت. وفي شعبان منها كَثُرَتِ
الْعَمَلَاتُ وَضَعُفَتْ رِجَالُ الْمَعُونَةِ عَنْ مُقَاوَمَةِ
العيارين. وفي يوم الاثنين منها ثامن عشر رجب غَارَ مَاءُ دِجْلَةَ
حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهُ إلا القليل، ووقفت الأرحاء عن الطحن، وتعذر
ذلك. وَفِي هَذَا الْيَوْمِ جُمِعَ الْقُضَاةُ وَالْعُلَمَاءُ فِي دار
الخلافة، وقرئ عليهم كتاب جمعه الْقَادِرُ باللَّه، فِيهِ مَوَاعِظُ
وَتَفَاصِيلُ مَذَاهِبِ أَهْلِ البصرة، وفيه الرد عَلَى أَهْلِ
الْبِدَعِ، وَتَفْسِيقُ مَنْ قَالَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، وَصِفَةُ مَا
وَقَعَ بَيْنَ بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ وعبد العزيز بن يحيى الكتاني من
المناظرة، ثم ختم القول بالمواعظ، والقول بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ
عَنِ الْمُنْكَرِ. وَأَخَذَ خُطُوطَ الْحَاضِرِينَ بالموافقة على ما
سَمِعُوهُ. وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ غُرَّةِ ذِي الْقَعْدَةِ
جُمِعُوا أَيْضًا كُلُّهُمْ وَقُرِئَ عَلَيْهِمْ كِتَابٌ آخَرُ طَوِيلٌ
يَتَضَمَّنُ بَيَانَ السُّنَّةِ وَالرَّدَّ عَلَى أَهْلِ البدع ومناظرة
بشر المريسي والكتاني أيضا، وَالْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ
عَنِ الْمُنْكَرِ، وَفَضْلَ الصَّحَابَةِ، وذكر فضائل أبى بكر الصديق
وعمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَلَمْ يَفْرَغُوا مِنْهُ
إِلَّا بَعْدَ الْعَتَمَةِ، وَأُخِذَتْ خُطُوطُهُمْ بِمُوَافَقَةِ مَا
سَمِعُوهُ. وعزل خطباء الشيعة، وولى خطباء السنة وللَّه الحمد والمنة
على ذلك وغيره.
وجرت فتنة بِمَسْجِدِ بَرَاثَا، وَضَرَبُوا الْخَطِيبَ السُّنِّيَّ
بِالْآجُرِّ، حَتَّى كسروا أنفه وخلعوا كتفه، فانتصر لهم الْخَلِيفَةُ
وَأَهَانَ الشِّيعَةَ وَأَذَلَّهُمْ، حَتَّى جَاءُوا يَعْتَذِرُونَ مما
صنعوا، وأن ذلك إنما تعاطاه السفهاء منهم. وَلَمْ يَتَمَكَّنْ أَحَدٌ
مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ في هذه السنة من الحج.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
الْحَسَنُ بْنُ أبى القين
أَبُو عَلِيٍّ الزَّاهِدُ، أَحَدُ الْعُبَّادِ وَالزُّهَّادِ
وَأَصْحَابِ الْأَحْوَالِ، دَخَلَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْوُزَرَاءِ
فَقَبَّلَ يَدَهُ،
(12/26)
فعوتب الوزير بذلك فَقَالَ: كَيْفَ لَا أُقَبِّلُ يَدًا مَا امْتَدَّتْ
إلا إلى الله عز وجل.
عَلِيُّ بْنُ عِيسَى بْنِ الْفَرَجِ بْنِ صَالِحٍ
أَبُو الْحَسَنِ الرَّبَعِيُّ النَّحْوِيُّ، أَخَذَ الْعَرَبِيَّةَ
أَوَّلًا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ السِّيرَافِيِّ، ثُمَّ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ
الْفَارِسِيِّ وَلَازَمَهُ عِشْرِينَ سَنَةً حَتَّى كَانَ يَقُولُ:
قُولُوا لَهُ لَوْ سَارَ مِنَ الْمَشْرِقِ إلى المغرب لم يجد أحدا أتحى
منه، كان يَوْمًا يَمْشِي عَلَى شَاطِئِ دِجْلَةَ إِذْ نَظَرَ إِلَى
الشَّرِيفَيْنِ الرَّضِيِّ وَالْمُرْتَضَى فِي سَفِينَةٍ، وَمَعَهُمَا
عُثْمَانُ بْنُ جِنِّيٍّ، فَقَالَ لَهُمَا: مِنْ أَعْجَبِ الأشياء
عثمان معكما، وعلى بعيد عنكما، يمشى على شاطئ الفرات.
[فضحكا وقالا: باسم الله] توفى في المحرم منها عَنْ ثِنْتَيْنِ
وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَدُفِنَ بِبَابِ الدَّيْرِ، ويقال إنه لم يتبع
جنازته إلا ثَلَاثَةِ أَنْفُسٍ
أَسَدُ الدَّوْلَةِ
أَبُو عَلِيٍّ صَالِحُ بْنُ مِرْدَاسِ بْنِ إِدْرِيسَ الْكِلَابِيُّ،
أَوَّلُ مُلُوكِ بَنِي مِرْدَاسٍ بِحَلَبَ، انْتَزَعَهَا مِنْ يَدَيْ
نَائِبِهَا عن الظَّاهِرِ بْنِ الْحَاكِمِ الْعُبَيْدِيِّ، فِي ذِي
الْحِجَّةِ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، ثُمَّ جَاءَهُ
جَيْشٌ كثيف من مصر قاقتتلوا فَقُتِلَ أَسَدُ الدَّوْلَةِ هَذَا فِي
سَنَةِ تِسْعَ عَشْرَةَ، وَقَامَ حَفِيدُهُ نَصْرٌ. |