البداية والنهاية، ط. دار الفكر

ثم دخلت سنة إحدى وخمسين وخمسمائة
في المحرم دَخَلَ السُّلْطَانُ سُلَيْمَانُ شَاهْ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ ملك شاه إِلَى بَغْدَادَ وَعَلَى رَأْسِهِ الشَّمْسِيَّةُ، فَتَلَقَّاهُ الْوَزِيرُ ابْنُ هُبَيْرَةَ وَأَدْخَلَهُ عَلَى الْخَلِيفَةِ، فَقَبَّلَ الْأَرْضَ وَحَلَّفَهُ عَلَى الطَّاعَةِ وَصَفَاءِ النِّيَّةِ وَالْمُنَاصَحَةِ وَالْمَوَدَّةِ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ خُلَعَ الْمُلُوكِ، وَتَقَرَّرَ أَنَّ لِلْخَلِيفَةِ الْعِرَاقَ وَلِسُلَيْمَانَ شَاهْ مَا يَفْتَحُهُ مِنْ خُرَاسَانَ، ثُمَّ خُطِبَ لَهُ بِبَغْدَادَ بَعْدَ الْمَلِكِ سَنْجَرَ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ فَاقْتَتَلَ هو والسلطان محمد بن محمود بن ملك شاه، فهزمه محمد وهزم عسكره، فذهب مهزوما فَتَلَقَّاهُ نَائِبُ قُطْبِ الدِّينِ مَوْدُودُ بْنُ زَنْكِيٍّ، صَاحِبُ الْمَوْصِلِ، فَأَسَرَهُ وَحَبَسَهُ بِقَلْعَةِ الْمَوْصِلِ، وَأَكْرَمَهُ مُدَّةَ حَبْسِهِ وَخَدَمَهُ، وَهَذَا مِنْ أَغْرَبِ

(12/233)


الِاتِّفَاقَاتِ. وَفِيهَا مَلَكَتِ الْفِرِنْجُ الْمَهْدِيَّةَ مِنْ بِلَادِ الْمَغْرِبِ بَعْدَ حِصَارٍ شَدِيدٍ. وَفِيهَا فَتَحَ نُورُ الدين محمود بن زنكي قلعة تل حازم وَاقْتَلَعَهَا مِنْ أَيْدِي الْفِرِنْجِ، وَكَانَتْ مِنْ أَحْصَنِ الْقِلَاعِ وَأَمْنَعِ الْبِقَاعِ، وَذَلِكَ بَعْدَ قِتَالٍ عَظِيمٍ ووقعة هائلة كانت من أكبر الفتوحات، وامتدحه الشُّعَرَاءُ عِنْدَ ذَلِكَ. وَفِيهَا هَرَبَ الْمَلِكُ سَنْجَرُ مِنَ الْأَسْرِ وَعَادَ إِلَى مُلْكِهِ بِمَرْوَ، وَكَانَ له في يد أعدائه نحو من خمس سنين.
وفيها ولى عبد المؤمن ملك الغرب أولاده على بلاده، استناب كل واحد منهم على بلد كبير، وإقليم متسع.
ذِكْرُ حِصَارِ بَغْدَادَ
وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ السُّلْطَانَ محمد بن محمود بن ملك شاه أرسل إلى المقتفى يطلب منه أن يخطب له في بغداد، فَلَمْ يُجِبْهُ إِلَى ذَلِكَ، فَسَارَ مِنْ هَمَذَانَ إِلَى بَغْدَادَ لِيُحَاصِرَهَا، فَانْجَفَلَ النَّاسُ وَحَصَّنَ الْخَلِيفَةُ الْبَلَدَ، وَجَاءَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ فَحَصَرَ بَغْدَادَ، وَوَقَفَ تُجَاهَ التَّاجِ مِنْ دَارِ الْخِلَافَةِ فِي جَحْفَلٍ عظيم، ورموا نحوه النشاب، وقاتلت العامة مع الخليفة قتالا شديدا بالنفط وغيره، واستمر القتال مدة، فبينما هم كذلك إذ جاءه الخبر أَنَّ أَخَاهُ قَدْ خَلَفَهُ فِي هَمَذَانَ، فَانْشَمَرَ عن بغداد إليها فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ، وتفرقت عنه الْعَسَاكِرُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ فِي الْبِلَادِ، وَأَصَابَ الناس بعد ذلك الْقِتَالِ مَرَضٌ شَدِيدٌ، وَمَوْتٌ ذَرِيعٌ، وَاحْتَرَقَتْ مَحَالُّ كَثِيرَةٌ مِنْ بَغْدَادَ، وَاسْتَمَرَّ ذَلِكَ فِيهَا مُدَّةَ شهرين.
وفيها أطلق أبو الوليد الْبَدْرِ بْنُ الْوَزِيرِ بْنِ هُبَيْرَةَ مِنْ قَلْعَةِ تكريت، وكان معتقلا فيها من مدة ثَلَاثَ سِنِينَ، فَتَلَقَّاهُ النَّاسُ إِلَى أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ، وامتدحه الشعراء، وكان مِنْ جُمْلَتِهِمُ الْأَبْلَهُ الشَّاعِرُ، أَنْشَدَ الْوَزِيرَ قَصِيدَةً يَقُولُ فِي أَوَّلِهَا:
بِأَيِّ لِسَانٍ لِلْوُشَاةِ أُلَامُ ... وَقَدْ عَلِمُوا أَنِّي سَهِرْتُ وَنَامُوا؟
إِلَى أَنْ قال:
ويستكثرون الوصل لي لَيْلَةً ... وَقَدْ مَرَّ عَامٌ بِالصُّدُودِ وَعَامُ
فَطَرِبَ الوزير عِنْدَ ذَلِكَ. وَخَلَعَ عَلَيْهِ ثِيَابَهُ وَأَطْلَقَ لَهُ خمسين دينارا، وحج بالناس قيماز.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ.
عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ
أَبُو الْحَسَنِ الْغَزْنَوِيُّ الْوَاعِظُ، كَانَ لَهُ قَبُولٌ كَثِيرٌ مِنَ الْعَامَّةِ، وَبَنَتْ لَهُ الْخَاتُونُ زَوْجَةُ الْمُسْتَظْهِرِ رِبَاطًا بِبَابِ الْأَزَجِّ، وَوَقَفَتْ عَلَيْهِ أوقافا كثيرة، وحصل لَهُ جَاهٌ عَرِيضٌ وَزَارَهُ السُّلْطَانُ. وَكَانَ حَسَنَ الْإِيرَادِ مَلِيحَ الْوَعْظِ، يَحْضُرُ مَجْلِسَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ وجم غفير من أصناف الناس. وقد ذكر ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَشْيَاءَ مِنْ وَعْظِهِ، قَالَ وَسَمِعْتُهُ يَوْمًا يَقُولُ: حُزْمَةُ حُزْنٍ خَيْرٌ مِنْ أَعْدَالِ أَعْمَالِ. ثُمَّ أَنْشَدَ:
كَمْ حَسْرَةٍ لِي فِي الْحَشَا ... مِنْ وَلَدٍ إِذَا نَشَا
أَمَّلْتُ فِيهِ رشده ... فما يشاء كما نشا
قَالَ وَسَمِعْتُهُ يَوْمًا يُنْشِدُ:

(12/234)


يَحْسُدُنِي قَوْمِي عَلَى صَنْعَتِي ... لِأَنَّنِي فِي صَنْعَتِي فَارِسُ
سَهِرْتُ فِي لَيْلِي وَاسْتَنْعَسُوا ... وَهَلْ يَسْتَوِي السَّاهِرُ وَالنَّاعِسُ؟
قَالَ: وَكَانَ يَقُولُ: تُوَلُّونَ الْيَهُودَ والنصارى فيسبون نبيكم في يوم عيدكم، ثم يصبحون يَجْلِسُونَ إِلَى جَانِبِكُمْ؟ ثُمَّ يَقُولُ: أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ؟ قَالَ: وَكَانَ يَتَشَيَّعُ، ثُمَّ سُعِيَ فِي مَنْعِهِ مِنَ الْوَعْظِ ثُمَّ أُذِنَ لَهُ، وَلَكِنْ ظهر للناس أمر العبادي، وكان كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَمِيلُونَ إِلَيْهِ، وَقَدْ كَانَ السلطان يُعَظِّمُهُ وَيَحْضُرُ مَجْلِسَهُ، فَلَمَّا مَاتَ السُّلْطَانُ مَسْعُودٌ ولى الْغَزْنَوِيُّ بَعْدَهُ، وَأُهِينَ إِهَانَةً بَالِغَةً، فَمَرِضَ وَمَاتَ في هَذِهِ السَّنَةِ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَبَلَغَنِي أَنَّهُ كَانَ يَعْرَقُ فِي نَزْعِهِ ثُمَّ يَفِيقُ وَهُوَ يَقُولُ: رِضًى وَتَسْلِيمٌ، وَلَمَّا مَاتَ دُفِنَ فِي رِبَاطِهِ الَّذِي كَانَ فِيهِ.
مَحْمُودُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ قَادُوسَ
أَبُو الْفَتْحِ الدِّمْيَاطِيُّ، كَاتِبُ الْإِنْشَاءِ بالديار المصرية، وهو شيخ القاضي الفاضل، كان يُسَمِّيهِ ذَا الْبَلَاغَتَيْنِ، وَذَكَرَهُ الْعِمَادُ الْكَاتِبُ فِي الجريدة. ومن شعره فيمن يكرر التكبير ويوسوس في نية الصلاة في أولها:
وفاتر النية عنينها ... مع كثرة الرعدة والهمزة
يكبر التسعين في مرة ... كأنه يصلى على حمزة
الشيخ أبو البيان
بنا بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْحَوْرَانِيِّ، الْفَقِيهُ الزَّاهِدُ العابد الفاضل الخاشع، قَرَأَ الْقُرْآنَ وَكِتَابَ التَّنْبِيهِ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَكَانَ حَسَنَ الْمَعْرِفَةِ بِاللُّغَةِ، كَثِيرَ الْمُطَالَعَةِ، وَلَهُ كَلَامٌ يُؤْثَرُ عَنْهُ، وَرَأَيْتُ لَهُ كِتَابًا بِخَطِّهِ فيه النظائم التي يَقُولُهَا أَصْحَابُهُ وَأَتْبَاعُهُ بِلَهْجَةٍ غَرِيبَةٍ، وَقَدْ كَانَ مِنْ نَشْأَتِهِ إِلَى أَنْ تُوَفِّيَ عَلَى طَرِيقَةٍ صالحة، وقد زاره الملك نور الدين محمود فِي رِبَاطِهِ دَاخِلَ دَرْبِ الْحَجَرِ، وَوَقَفَ عَلَيْهِ شيئا، وكانت وفاته يوم الثلاثاء ثالث رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ بِمَقَابِرِ الباب الصغير، وكان يوم جنازته يَوْمًا مَشْهُودًا. وَقَدْ ذَكَرْتُهُ فِي طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ رحمه الله.
عبد الغافر بن إسماعيل
ابن عبد القادر بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْغَافِرِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ سَعِيدٍ، الْفَارِسِيُّ الْحَافِظُ، تَفَقَّهَ بِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَسَمِعَ الْكَثِيرَ عَلَى جَدِّهِ لِأُمِّهِ أَبِي الْقَاسِمِ القشيري، ورحل إلى البلاد وأسمع، وَصَنَّفَ الْمُفْهِمَ فِي غَرِيبِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ، وَوَلِيَ خطابة نيسابور، وكان فاضلا ديِّنًا حَافِظًا.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَخَمْسِينَ وخمسمائة
اسْتُهِلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَمُحَمَّدُ شَاهْ بْنُ مَحْمُودٍ مُحَاصِرٌ بَغْدَادَ وَالْعَامَّةُ وَالْجُنْدُ مِنْ جِهَةِ الْخَلِيفَةِ المقتفى

(12/235)


يُقَاتِلُونَ أَشَدَّ الْقِتَالِ، وَالْجُمُعَةُ لَا تُقَامُ لِعُذْرِ القتال، والفتنة منتشرة، ثُمَّ يَسَّرَ اللَّهُ بِذَهَابِ السُّلْطَانِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي السَّنَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَقَدْ بَسَطَ ذَلِكَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فَطَوَّلَ. وَفِيهَا كَانَتْ زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ بِالشَّامِ، هَلَكَ بِسَبَبِهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ، وَتَهَدَّمَ أَكْثَرُ حَلَبَ وَحَمَاةُ وَشَيْزَرُ وَحِمْصُ وَكَفْرُ طَابَ وَحِصْنُ الأكراد واللاذقية والمعرة وفامية وَأَنْطَاكِيَةُ وَطَرَابُلُسُ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَأَمَّا شَيْزَرُ فَلَمْ يَسْلَمْ مِنْهَا إِلَّا امْرَأَةٌ وَخَادِمٌ لَهَا، وَهَلَكَ الْبَاقُونَ، وَأَمَّا كَفْرُ طَابَ فَلَمْ يَسْلَمْ من أهلها أحد، وأما فاميه فساخت قلعتها، وتل حران انْقَسَمَ نِصْفَيْنِ فَأَبْدَى نَوَاوِيسَ وَبُيُوتًا كَثِيرَةً فِي وسطه. قال: وهلك من مدائن الفرنج شَيْءٌ كَثِيرٌ، وَتَهَدَّمَ أَسْوَارُ أَكْثَرِ مُدُنِ الشَّامِ، حتى أن مكتبا من مدينة حماه انهدم على من فيه من الصغار فهلكوا عن آخرهم، فلم يأت أَحَدٌ يَسْأَلُ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا الْفَصْلَ الشَّيْخُ أَبُو شَامَةَ فِي كِتَابِ الروضتين مستقصى، وذكر ما قاله الشعراء من القصائد فِي ذَلِكَ. وَفِيهَا مَلَكَ السُّلْطَانُ مَحْمُودُ بْنُ محمد بعد خاله سنجر جميع بلاده. وفيها فتح السُّلْطَانُ مَحْمُودُ بْنُ زَنْكِيٍّ حِصْنَ شَيْزَرَ بَعْدَ حِصَارٍ، وَأَخَذَ مَدِينَةَ بَعْلَبَكَّ، وَكَانَ بِهَا الضَّحَّاكُ الْبِقَاعِيُّ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي سنة خمسين كما تقدم فاللَّه أعلم، وقد تقدم ذلك. وَفِيهَا مَرِضَ نُورُ الدِّينِ فَمَرِضَ الشَّامُ بِمَرَضِهِ ثم عوفي ففرح المسلمون فَرَحًا شَدِيدًا، وَاسْتَوْلَى أَخُوهُ قُطْبُ الدِّينِ مَوْدُودٌ صاحب الموصل عَلَى جَزِيرَةِ ابْنِ عُمَرَ. وَفِيهَا عَمِلَ الْخَلِيفَةُ بَابًا لِلْكَعْبَةِ مُصَفَّحًا بِالذَّهَبِ، وَأَخَذَ بَابَهَا الْأَوَّلَ فَجَعْلَهُ لِنَفْسِهِ تَابُوتًا. وَفِيهَا أَغَارَتِ الْإِسْمَاعِيلِيَّةُ عَلَى حجاج خراسان فلم يبقوا منهم أحدا، لا زاهدا ولا عالما. وَفِيهَا كَانَ غَلَاءٌ شَدِيدٌ بِخُرَاسَانَ حَتَّى أَكَلُوا الحشرات، وذبح إنسان منهم رَجُلًا عَلَوِيًّا فَطَبَخَهُ وَبَاعَهُ فِي السُّوقِ، فَحِينَ ظَهَرَ عَلَيْهِ قُتِلَ.
[وَذَكَرَ أَبُو شَامَةَ أَنَّ فَتْحَ بَانِيَاسَ كَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَلَى يد نُورِ الدِّينِ بِنَفْسِهِ، وَقَدْ كَانَ مُعِينُ الدِّينِ سلمها إلى الفرنج حين حاصروا دمشق، فعوضهم بها، وقيل ملكها وغنم شيئا كثيرا] . وَفِيهَا قَدِمَ الشَّيْخُ أَبُو الْوَقْتِ عَبْدُ الْأَوَّلِ بن عيسى بن شعيب السنجري، فسمعوا عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ فِي دَارِ الْوَزِيرِ بِبَغْدَادَ، وَحَجَّ بالناس قيماز.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ.
أَحْمَدُ بْنُ محمد
ابن عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، أَبُو اللَّيْثِ النَّسَفِيُّ مِنْ أَهْلِ سَمَرْقَنْدَ، سَمِعَ الْحَدِيثَ وَتَفَقَّهَ وَوَعَظَ، وَكَانَ حَسَنَ السَّمْتِ، قَدِمَ بغداد فوعظ الناس، ثُمَّ عَادَ إِلَى بَلَدِهِ فَقَتَلَهُ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ رحمه الله تعالى
أحمد بن بختيار
ابن على بن محمد، أبو العباس المارداني الْوَاسِطِيُّ قَاضِيهَا، سَمِعَ الْحَدِيثَ وَكَانَتْ لَهُ مَعْرِفَةٌ تامة في الأدب وَاللُّغَةِ، وَصَنَّفَ كُتُبًا فِي التَّارِيخِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَكَانَ ثِقَةً صَدُوقًا تُوُفِّيَ بِبَغْدَادَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بالنظاميّة

(12/236)


السلطان سنجر
ابن الملك شاه بن ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل بْنِ سَلْجُوقَ، أَبُو الْحَارِثِ وَاسْمُهُ أَحْمَدُ، وَلُقِّبَ بِسَنْجَرَ، مَوْلِدُهُ فِي رَجَبٍ سَنَةَ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَأَقَامَ فِي الْمُلْكِ نَيِّفًا وَسِتِّينَ سَنَةً، مِنْ ذَلِكَ اسْتِقْلَالًا إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَقَدْ أَسَرَهُ الْغُزُّ نَحْوًا مِنْ خَمْسِ سِنِينَ، ثُمَّ هرب منهم وعاد إلى ملكه بمرو، ثم تُوُفِّيَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَدُفِنَ فِي قُبَّةٍ بَنَاهَا سَمَّاهَا دَارَ الْآخِرَةِ رحمه الله.
محمد بن عبد اللطيف
ابن مُحَمَّدِ بْنِ ثَابِتٍ، أَبُو بَكْرٍ الْخُجَنْدِيُّ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، وَلِيَ تَدْرِيسَ النِّظَامِيَّةِ بِبَغْدَادَ، وَكَانَ يُنَاظِرُ حَسَنًا وَيَعِظُ النَّاسَ وَحَوْلَهُ السُّيُوفُ مُسَلَّلَةٌ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَلَمْ يَكُنْ مَاهِرًا فِي الْوَعْظِ، وكانت حَالُهُ أَشْبَهُ بِالْوُزَرَاءِ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ السَّلَاطِينَ حَتَّى كَانُوا يُصْدِرُونَ عَنْ رَأْيِهِ، تُوُفِّيَ بأصبهان فجأة فيها.
محمد بن المبارك
ابن مُحَمَّدِ بْنِ الْخَلِّ أَبُو الْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْبَقَاءِ، سَمِعَ الْحَدِيثَ وَتَفَقَّهَ عَلَى الشَّاشِيِّ، وَدَرَّسَ وَأَفْتَى، وَتُوُفِّيَ فِي مُحَرَّمِ هَذِهِ السَّنَةِ، وَتُوُفِّيَ أَخُوهُ الشَّيْخُ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْخَلِّ الشَّاعِرُ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْهَا.
يَحْيَى بْنُ عِيسَى
ابن إِدْرِيسَ أَبُو الْبَرَكَاتِ الْأَنْبَارِيُّ الْوَاعِظُ، قَرَأَ الْقُرْآنَ وَسَمِعَ الْحَدِيثَ وَتَفَقَّهَ وَوَعَظَ النَّاسَ عَلَى طَرِيقَةِ الصَّالِحِينَ، وَكَانَ يَبْكِي مِنْ أَوَّلِ صُعُودِهِ إِلَى حين نزوله، وكان زاهدا عابدا وَرِعًا آمِرًا بِالْمَعْرُوفِ نَاهِيًا عَنِ الْمُنْكَرِ، وَرُزِقَ أَوْلَادًا صَالِحِينَ سَمَّاهُمْ بِأَسْمَاءِ الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ، أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيُّ.
وَحَفَّظَهُمُ الْقُرْآنَ كُلَّهُمْ بنفسه، وَخَتَّمَ خَلْقًا كَثِيرًا، وَكَانَ هُوَ وَزَوْجَتُهُ يَصُومَانِ الدَّهْرَ، وَيَقُومَانِ اللَّيْلَ، وَلَا يُفْطِرَانِ إِلَّا بَعْدَ الْعَشَاءِ، وَكَانَتْ لَهُ كَرَامَاتٌ وَمَنَامَاتٌ صَالِحَةٌ، وَلَمَّا مَاتَ قَالَتْ زَوْجَتُهُ: اللَّهمّ لَا تُحْيِنِي بَعْدَهُ، فَمَاتَتْ بَعْدَهُ بِخَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَكَانَتْ مِنَ الصَّالِحَاتِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثلاث وخمسين وخمسمائة
فيها كثر فساد التركمان من أصحاب ابن برجم الايوانى، فجهز إليهم الخليفة مَنْكُورُسُ [1] الْمُسْتَرْشِدِيُّ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ، فَالْتَقَوْا مَعَهُمْ فَهَزَمَهُمْ أَقْبَحَ هَزِيمَةٍ، وَجَاءُوا بِالْأُسَارَى وَالرُّءُوسِ إِلَى بغداد. وفيها كانت وقعة عظيمة بين السلطان محمود وبين الغز، فكسروه ونهبوا البلاد، وأقاموا بمرو ثم طَلَبُوهُ إِلَيْهِمْ فَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ فَأَرْسَلَ وَلَدَهُ بين يديه فأكرموه، ثم قدم السلطان عَلَيْهِمْ فَاجْتَمَعُوا عَلَيْهِ وَعَظَّمُوهُ.
وَفِيهَا وَقَعَتْ فِتْنَةٌ كَبِيرَةٌ بِمَرْوَ بَيْنَ فَقِيهِ الشَّافِعِيَّةِ الْمُؤَيَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَبَيْنَ نَقِيبِ الْعَلَوِيِّينَ بِهَا أَبِي الْقَاسِمِ زيد بن الحسن، فقتل منهم خلق كثير، وأحرقت المدارس والمساجد والأسواق، وانهزم المؤيد
__________
[1] كذا في الأصل وفي ابن الأثير «خطلوبرس» .

(12/237)


الشَّافِعِيُّ إِلَى بَعْضِ الْقِلَاعِ. وَفِيهَا وُلِدَ النَّاصِرُ لِدِينِ اللَّهِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ الْمُسْتَضِيءِ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَفِيهَا خَرَجَ الْمُقْتَفِي نَحْوَ الْأَنْبَارِ مُتَصَيِّدًا وَعَبَرَ الْفُرَاتَ وَزَارَ الْحُسَيْنَ وَمَضَى إِلَى وَاسِطٍ وَعَادَ إِلَى بَغْدَادَ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ الوزير. وحج بالناس فيها قيماز الأرجواني. وَفِيهَا كَسَرَ جَيْشُ مِصْرَ الْفِرِنْجَ بِأَرْضِ عَسْقَلَانَ كسر وهم كسرة فجيعة صحبة الملك صالح أبو الْغَارَاتِ، فَارِسِ الدِّينِ طَلَائِعِ بْنِ رُزِّيكَ، وَامْتَدَحَهُ الشُّعَرَاءُ. وَفِيهَا قَدِمَ الْمَلِكُ نُورُ الدِّينِ مِنْ حَلَبَ إِلَى دِمَشْقَ وَقَدْ شُفِيَ مِنَ الْمَرَضِ فَفَرِحَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ، وَخَرَجَ إِلَى قِتَالِ الْفِرِنْجِ، فانهزم جيشه وبقي هو في شرذمة قليلة من أصحابه في نحر العدو، فرموهم بالسهام الكثيرة، ثم خاف الفرنج أَنْ يَكُونَ وُقُوفُهُ فِي هَذِهِ الشِّرْذِمَةِ الْقَلِيلَةِ خَدِيعَةً لِمَجِيءِ كَمِينٍ إِلَيْهِمْ، فَفَرُّوا مُنْهَزِمِينَ وللَّه الْحَمْدُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
عَبْدُ الْأَوَّلِ بن عيسى
ابن شُعَيْبِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ، أَبُو الْوَقْتِ السجزى الصوفي الهروي، راوي البخاري ومسند الدارميّ، والمنتخب مِنْ مُسْنَدِ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، قَدِمَ بَغْدَادَ فَسَمِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ هَذِهِ الْكُتُبَ، وَكَانَ مِنْ خِيَارِ الْمَشَايِخِ وَأَحْسَنِهِمْ سَمْتًا وَأَصْبَرِهِمْ عَلَى قِرَاءَةِ الْحَدِيثِ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: أَخْبَرَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ التَّكْرِيتِيُّ الصُّوفِيُّ قَالَ أسندته إلى فمات، وَكَانَ آخَرَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ قَالَ (يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي من الْمُكْرَمِينَ) 36: 26- 27.
نصر بن منصور
ابن الْحُسَيْنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْخَالِقِ الْعَطَّارُ، أَبُو الْقَاسِمِ الْحَرَّانِيُّ كَانَ كَثِيرَ الْمَالِ، يَعْمَلُ مِنْ صَدَقَاتِهِ الْمَعْرُوفَ الْكَثِيرَ مِنْ أَنْوَاعِ الْقُرُبَاتِ الْحَسَنَةِ، وَيُكْثِرُ تِلَاوَةَ الْقُرْآنِ، وَيُحَافِظُ عَلَى الصَّلَوَاتِ في الجماعة، ورئيت له منامات صالحة، وقارب الثمانين رحمه الله.
يحيى بن سلامة
ابن الحسين أَبُو الْفَضْلِ الشَّافِعِيُّ، الْحَصْكَفِيُّ نِسْبَةً إِلَى حِصْنِ كَيْفَا، كَانَ إِمَامًا فِي عُلُومٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الفقه والآداب، نَاظِمًا نَاثِرًا، غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ يُنْسَبُ إِلَى الْغُلُوِّ فِي التَّشَيُّعِ، وَقَدْ أَوْرَدَ لَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ قِطْعَةً مِنْ نَظْمِهِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي جُمْلَةِ قَصِيدَةٍ لَهُ:
تَقَاسَمُوا يَوْمَ الْوَدَاعِ كَبِدِي ... فَلَيْسَ لِي مُنْذُ تَوَلَّوْا كَبِدُ
عَلَى الجفون رحلوا وفي الحشا ... نزلوا وماء عيني وردوا
وأدمعى مسفوحة وكبدي ... مقروحة وعلتي ما قد بدوا
وَصَبْوَتِي دَائِمُةٌ وَمُقْلَتِي ... دَامِيَةٌ وَنَوْمُهَا مُشَرَّدُ
تَيَّمَنِي مِنْهُمْ غَزَالٌ أَغْيَدُ ... يَا حَبَّذَا ذَاكَ الْغَزَالُ الأغيد

(12/238)


حُسَامُهُ مُجَرَّدٌ وَصَرْحُهُ ... مُمَرَّدٌ وَخَدُّهُ مُوَرَّدُ
وَصُدْغُهُ فَوْقَ احْمِرَارِ خَدِّهِ ... مُبَلْبَلٌ مُعَقْرَبٌ مُجَعَّدُ
كَأَنَّمَا نَكْهَتُهُ وَرِيقُهُ ... مِسْكٌ وَخَمْرٌ وَالثَّنَايَا بَرَدُ
يُقْعِدُهُ عِنْدَ الْقِيَامِ رِدْفُهُ ... وَفِي الْحَشَا مِنْهُ الْمُقِيمُ الْمُقْعِدُ
لَهُ قِوَامٌ كَقَضِيبِ بَانَةٍ ... يَهْتَزُّ قَصْدًا لَيْسَ فِيهِ أَوَدُ
وَهِيَ طَوِيلَةٌ جِدًّا، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ هَذَا التَّغَزُّلِ إِلَى مَدْحِ أَهْلِ البيت والأئمة الاثني عشر رحمهم الله
وَسَائِلِي عَنْ حُبِّ أَهْلِ الْبَيْتِ ... هَلْ أُقِرُّ إِعْلَانًا بِهِ أَمْ أَجْحَدُ؟
هَيْهَاتَ مَمْزُوجٌ بِلَحْمِي وَدَمِي ... حُبُّهُمْ وَهْوَ الْهُدَى وَالرَّشَدُ
حَيْدَرَةُ وَالْحَسَنَانِ بَعْدَهُ ... ثُمَّ عَلِيٌّ وَابْنُهُ مُحَمَّدُ
وَجَعْفَرُ الصَّادِقُ وَابْنُ جَعْفَرٍ ... مُوسَى وَيَتْلُوهُ عَلِيُّ السَّيِّدُ
أَعْنِي الرضى ثُمَّ ابْنُهُ مُحَمَّدٌ ... ثُمَّ عَلِيٌّ وَابْنُهُ الْمُسَدَّدُ
والحسن الثاني وَيَتْلُو تِلْوَهُ ... مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْمُفْتَقَدُ
فَإِنَّهُمْ أَئِمَّتِي وَسَادَتِي ... وَإِنْ لَحَانِي مَعْشَرٌ وَفَنَّدُوا
أَئِمَّةٌ أَكْرِمْ بِهِمْ أَئِمَّةً ... أَسْمَاؤُهُمْ مَسْرُودَةٌ تَطَّرِدُ
هُمْ حُجَجُ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ ... وَهُمْ إِلَيْهِ مَنْهَجٌ وَمَقْصِدُ
قَوْمٌ لَهُمْ فَضْلٌ وَمَجْدٌ بَاذِخٌ ... يَعْرِفُهُ الْمُشْرِكُ وَالْمُوَحِّدُ
قَوْمٌ لَهُمْ فِي كُلِّ أَرْضٍ مَشْهَدُ ... لَا بَلْ لَهُمْ فِي كُلِّ قَلْبٍ مَشْهَدُ
قَوْمٌ مِنًى وَالْمَشْعَرَانِ لَهُمْ ... وَالْمَرْوَتَانِ لَهُمْ والمسجد
قوم لهم مكة والأبطح والخيف ... وجمع والبقيع الغرقد
ثم ذكر بلطف مقتل الحسين بألطف عبارة إِلَى أَنْ قَالَ:
يَا أَهْلَ بَيْتِ الْمُصْطَفَى يَا ... عِدَّتِي وَمَنْ عَلَى حُبِّهِمْ أَعْتَمِدُ
أَنْتُمْ إِلَى اللَّهِ غَدًا وَسِيْلَتِي ... وَكَيْفَ أَخْشَى وَبِكُمْ أَعْتَضِدُ
وَلِيُّكُمْ فِي الْخُلْدِ حَيٌّ خَالِدُ ... وَالضِّدُّ فِي نَارٍ لَظًى مُخَلَّدُ
وَلَسْتُ أَهْوَاكُمْ بِبُغْضِ غَيْرِكُمْ ... إِنِّي إِذًا أَشْقَى بِكُمْ لَا أَسْعَدُ
فَلَا يَظُنُّ رَافِضِيُّ أَنَّنِي ... وَافَقْتُهُ أَوْ خَارِجِيٌّ مُفْسِدُ
مُحَمَّدٌ وَالْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ ... أَفْضَلُ خَلْقِ اللَّهِ فِيمَا أَجِدُ
هُمْ أَسَّسُوا قَوَاعِدَ الدِّينِ لَنَا ... وَهُمْ بَنَوا أَرْكَانَهُ وَشَيَّدوُا

(12/239)


وَمَنْ يَخُنْ أَحْمَدَ فِي أَصْحَابِهِ ... فَخَصْمُهُ يَوْمَ الْمَعَادِ أَحْمَدُ
هَذَا اعْتِقَادِي فَالْزَمُوهُ تَفْلَحُوا ... هَذَا طَرِيقِي فَاسْلُكُوهُ تَهْتَدُوا
وَالشَّافِعِيُّ مَذْهَبِي مَذْهَبُهُ ... لِأَنَّهُ في قوله مؤيد
اتبعته في الأصل والفرع معا ... فليتبعني الطالب المرشد
إني باذن الله تاج سابق ... إذا ونى الظالم ثم المفسد
ومن شعره أيضا:
إذا قل مالي لم تجدني جازعا ... كثير الأسى معرى بِعَضِّ الْأَنَامِلِ
وَلَا بَطِرًا إِنْ جَدَّدَ اللَّهُ نعمة ... ولو أن ما أوتى جميع الناس لي
ثم دخلت سنة أربع وخمسين وخمسمائة
فِيهَا مَرِضَ الْخَلِيفَةُ الْمُقْتَفِي مَرَضًا شَدِيدًا، ثُمَّ عوفي منه فزينت بغداد أياما، وتصدق بصدقات كَثِيرَةٍ. وَفِيهَا اسْتَعَادَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ مَدِينَةَ الْمَهْدِيَّةِ مِنْ أَيْدِي الْفِرِنْجِ، وَقَدْ كَانُوا أَخَذُوهَا مِنَ المسلمين في سنة ثلاث وأربعين. وفيها قاتل عبد المؤمن خلقا كثيرا من الغرب حَتَّى صَارَتْ عِظَامُ الْقَتْلَى هُنَاكَ كَالتَّلِّ الْعَظِيمِ، وفي صفر منها سَقَطَ بَرَدٌ بِالْعِرَاقِ كِبَارٌ، زِنَةُ الْبَرَدَةِ قَرِيبٌ مِنْ خَمْسَةِ أَرْطَالٍ، وَمِنْهَا مَا هُوَ تِسْعَةُ أَرْطَالٍ بِالْبَغْدَادِيِّ، فَهَلَكَ بِذَلِكَ شَيْءٌ كَثِيرٌ مِنَ الْغَلَّاتِ، وَخَرَجَ الْخَلِيفَةُ إِلَى وَاسِطٍ فَاجْتَازَ بِسُوقِهَا وَرَأَى جَامِعَهَا، وَسَقَطَ عَنْ فَرَسِهِ فَشُجَّ جَبِينُهُ، ثُمَّ عُوفِيَ. وَفِي رَبِيعٍ الْآخَرِ زَادَتْ دِجْلَةُ زيادة عظيمة، فغرق بِسَبَبِ ذَلِكَ مَحَالُّ كَثِيرَةٌ مِنْ بَغْدَادَ، حَتَّى صَارَ أَكْثَرُ الدُّورِ بِهَا تُلُولًا، وَغَرِقَتْ تُرْبَةُ أحمد، وخسفت هناك الْقُبُورُ، وَطَفَتِ الْمَوْتَى عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ. قَالَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَثُرَ الْمَرَضُ وَالْمَوْتُ، وَفِيهَا أَقْبَلَ مَلِكُ الرُّومِ فِي جَحَافِلَ كثيرة قاصدا بلاد الشام فرده الله خائبا خاسئا، وَذَلِكَ لِضِيقِ حَالِهِمْ مِنَ الْمِيرَةِ، وَأَسَرَ الْمُسْلِمُونَ ابن أخته وللَّه الحمد. وحج بالناس فيها قيماز الأرجواني.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
أَحْمَدُ بْنُ معالي
ابن بركة الحربي، تفقه بأبي الخطاب الكلوذاني الحنبلي، وبرع وناظر ودرس وأفتى، ثم صار بعد ذلك شَافِعِيًّا، ثُمَّ عَادَ حَنْبَلِيًّا، وَوَعَظَ بِبَغْدَادَ وَتُوُفِّيَ في هذه السنة، وذلك أنه دخلت به راحلته فِي مَكَانٍ ضَيِّقٍ فَدَخَلَ قَرَبُوسُ سَرْجِهِ فِي صدره فمات.
السلطان محمد بن محمود بن محمد بن ملك شاه
لَمَّا رَجَعَ مِنْ مُحَاصَرَةِ بَغْدَادَ إِلَى هَمَذَانَ أصابه مرض السل فلم ينجح منه، بل توفى في ذي الحجة منها، وَقَبْلَ وَفَاتِهِ بِأَيَّامٍ أَمَرَ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ جَمِيعُ مَا يَمْلِكُهُ وَيَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَهُوَ جَالِسٌ في المنظرة،

(12/240)


فَرَكِبَ الْجَيْشُ بِكَمَالِهِ وَأُحْضِرَتْ أَمْوَالُهُ كُلُّهَا، وَمَمَالِيكُهُ حَتَّى جَوَارِيِهِ وَحَظَايَاهُ، فَجَعَلَ يَبْكِي وَيَقُولُ:
هَذِهِ العساكر لا يدفعون عنى مثقال ذرة من أمر ربى، ولا يزيدون في عمري لحظة، ثم ندم وتأسف عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ إِلَى الْخَلِيفَةِ الْمُقْتَفِي، وأهل بغداد وحصارهم وأذيتهم، ثم قال: وهذه الخزائن والأموال والجواهر لو قبلهم ملك الموت منى فداء لجدت بذلك جميعه له، وهذه الحظايا والجواري الحسان والمماليك لو قبلهم فداء منى لكنت بذلك سمحا له. ثم قال (مَا أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ) 69: 28- 29 ثم فرق شيئا كثيرا من ذلك مِنْ تِلْكَ الْحَوَاصِلِ وَالْأَمْوَالِ، وَتُوُفِّيَ عَنْ وَلَدٍ صَغِيرٍ، وَاجْتَمَعَتِ الْعَسَاكِرُ وَالْأُمَرَاءُ عَلَى عَمِّهِ سُلَيْمَانَ شاه بن محمد بن ملك شاه، وكان مسجونا بالموصل فأفرج عنه وانعقدت له السلطنة، وخطب له على منابر تلك البلاد سوى بغداد والعراق. والله سبحانه أعلم.
ثم دخلت سنة خمس وخمسين وخمسمائة
فيها كانت وفاة الخليفة المقتفى بأمر الله.
أبو عبد الله محمد بن المستظهر باللَّه
مرض بالتراقي وقيل بدمل خرج بحلقة، فمات ليلة الأحد ثانى ربيع الأول منها عَنْ سِتٍّ وَسِتِّينَ سَنَةً، إِلَّا ثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَدُفِنَ بِدَارِ الْخِلَافَةِ، ثُمَّ نُقِلَ إِلَى الترب، وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ وستة وعشرين يوما، وكان شَهْمًا شُجَاعًا مِقْدَامًا، يُبَاشِرُ الْأُمُورَ بِنَفْسِهِ، وَيُشَاهِدُ الحروب ويبذل الأموال الكثيرة لأصحاب الأخبار، وَهُوَ أَوَّلُ مَنِ اسْتَبَدَّ بِالْعِرَاقِ مُنْفَرِدًا عَنِ السلطان، مِنْ أَوَّلِ أَيَّامِ الدَّيْلَمِ إِلَى أَيَّامِهِ، وَتَمَكَّنَ فِي الْخِلَافَةِ وَحَكَمَ عَلَى الْعَسْكَرِ وَالْأُمَرَاءِ، وَقَدْ وَافَقَ أَبَاهُ فِي أَشْيَاءَ: مِنْ ذَلِكَ مَرَضُهُ بِالتَّرَاقِي، وَمَوْتُهُ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَتَقَدَّمَ مَوْتُ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ شَاهْ قَبْلَهُ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، وَكَذَلِكَ أبوه المستظهر مات قبله السلطان محمود بثلاثة أشهر، وبعد غرق بغداد بسنة مات أبوه، وَكَذَلِكَ هَذَا. قَالَ عَفِيفٌ النَّاسِخُ: رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ قَائِلًا يَقُولُ: إِذَا اجْتَمَعَتْ ثَلَاثُ خَاءَاتٍ مَاتَ الْمُقْتَفِي- يَعْنِي خَمْسًا وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ.
خِلَافَةُ المستنجد باللَّه أبو الْمُظَفَّرِ يُوسُفَ بْنِ الْمُقْتَفِي
لَمَّا تُوُفِّيَ أَبُوهُ كما ذكرنا بويع بالخلافة فِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الْأَحَدِ ثَانِيَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، بَايَعَهُ أَشْرَافُ بَنِي الْعَبَّاسِ، ثُمَّ الْوَزِيرُ وَالْقُضَاةُ وَالْعُلَمَاءُ وَالْأُمَرَاءُ وَعُمْرُهُ يَوْمَئِذٍ خَمْسٌ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً، وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا، وَكَانَ وَلِيَّ عَهْدِ أَبِيهِ مِنْ مُدَّةٍ مُتَطَاوِلَةٍ، ثُمَّ عمل عزاء أبيه، ولما ذكر اسمه يوم الجمعة في الخطبة نُثِرَتِ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ عَلَى النَّاسِ، وَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِهِ بَعْدَ أَبِيهِ، وَأَقَرَّ الْوَزِيرَ ابْنَ هُبَيْرَةَ عَلَى مَنْصِبِهِ وَوَعَدَهُ بِذَلِكَ إِلَى الْمَمَاتِ، وَعَزَلَ قَاضِيَ الْقُضَاةِ ابْنَ الدَّامَغَانِيِّ وَوَلَّى مَكَانَهُ أَبَا جعفر بن عبد الواحد، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا، لَهُ سَمَاعٌ بِالْحَدِيثِ، وَبَاشَرَ الحكم بالكوفة، ثم توفى في

(12/241)


ذي الحجة منها. وَفِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ اتَّفَقَ الْأَتْرَاكُ بباب همذان على سليمان شاه، وخطبوا لأرسلان شاه بن طغرل،
وفيها توفى.
الفائز خليفة مصر الفاطمي
وَهُوَ أَبُو الْقَاسِمِ عِيسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ الظَّافِرُ، توفى في صفر منها وَعُمْرُهُ يَوْمَئِذٍ إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً، وَمُدَّةُ وِلَايَتِهِ مِنْ ذَلِكَ سِتُّ سِنِينَ وَشَهْرَانِ، وَكَانَ مُدَبِّرَ دَوْلَتِهِ أَبُو الْغَارَاتِ. ثُمَّ قَامَ بَعْدَهُ الْعَاضِدُ آخِرُ خُلَفَائِهِمْ، وَهُوَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ بْنِ الْحَافِظِ، وَلَمْ يَكُنْ أَبُوهُ خَلِيفَةً، وَكَانَ يَوْمَئِذٍ قَدْ نَاهَزَ الِاحْتِلَامَ، فَقَامَ بِتَدْبِيرِ مَمْلَكَتِهِ الْمَلِكُ الصَّالِحُ طَلَائِعُ بْنُ رُزِّيكَ الْوَزِيرُ، أَخَذَ لَهُ الْبَيْعَةَ وَزَوَّجَهُ بِابْنَتِهِ، وَجَهَّزَهَا بجهاز عظيم يعجز عنه الوصف، وَقَدْ عُمِّرَتْ بَعْدَ زَوْجِهَا الْعَاضِدِ وَرَأَتْ زَوَالَ دَوْلَةِ الْفَاطِمِيِّينَ عَلَى يَدِ الْمَلِكِ صَلَاحِ الدِّينِ بن يوسف، في سنة أربع وستين كما سيأتي. وَفِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ السُّلْطَانِ الْكَبِيرِ صَاحِبِ غَزْنَةَ.
خسرو شاه بن ملك شاه
ابن بَهْرَامْ شَاهْ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتُكِينَ، مِنْ بَيْتِ مُلْكٍ وَرِيَاسَةٍ بَاذِخَةٍ، يَرِثُونَهَا كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ، وَكَانَ مِنْ سَادَاتِ الْمُلُوكِ وَأَحْسَنِهِمْ سِيرَةً، يُحِبُّ الْعِلْمَ وَأَهْلَهُ، توفى في رجب منها، وقام بعده ولده ملك شاه، فسار إليه علاء الدين الحسين بن الغور فحاصر غزنة فلم يقدر عليها، ورجع خائبا. وفيها مات.
ملك شاه بن السلطان محمود بن محمد بن ملك شاه
السلجوقي بأصبهان مسموما، فيقال إِنَّ الْوَزِيرَ عَوْنَ الدِّينِ بْنَ هُبَيْرَةَ دَسَّ إِلَيْهِ مَنْ سَقَاهُ إِيَّاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِيهَا مات أمير الحاج.
قيماز بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأُرْجُوَانِيُّ
سَقَطَ عَنْ فَرَسِهِ وَهُوَ يَلْعَبُ بِالْكُرَةِ بِمَيْدَانِ الْخَلِيفَةِ، فَسَالَ دِمَاغُهُ من أذنه فمات من ساعته، وَقَدْ كَانَ مِنْ خِيَارِ الْأُمَرَاءِ، فَتَأَسَّفَ النَّاسُ عَلَيْهِ، وَحَضَرَ جِنَازَتَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، مَاتَ فِي شعبان منها، فحج بالناس فيها الأمير برغش مقطع الكوفة. وحج الأمير الكبير شير كوه بْنُ شَاذِيٍّ، مُقَدَّمُ عَسَاكِرِ الْمَلِكِ نُورِ الدِّينِ، وَتَصَدَّقَ بِأَمْوَالٍ كَثِيرَةٍ. وَفِيهَا اسْتَعْفَى الْقَاضِي زَكِيُّ الدين أبو الحسن على بن محمد ابن يحيى أبو الحسن القرشي من القضاء بدمشق، فأعفاه نُورُ الدِّينِ، وَوَلَّى مَكَانَهُ الْقَاضِي كَمَالَ الدَّيْنِ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الشَّهْرُزُورِيَّ، وَكَانَ مِنْ خِيَارِ الْقُضَاةِ وَأَكْثَرِهِمْ صَدَقَةً، وَلَهُ صَدَقَاتٌ جَارِيَةٌ بعده، وكان عالما، وَإِلَيْهِ يُنْسَبُ الشُّبَّاكُ الْكَمَالِيُّ الَّذِي يَجْلِسُ فِيهِ الحكام بعد صلاة الجمعة من المشهد الغربي بالجامع الأموي، والله أعلم.

(12/242)


وممن توفي فيها من الأعيان.
الأمير مجاهد الدين
نرار بْنُ مَامِينَ الْكُرْدِيُّ، أَحَدُ مُقَدَّمِي جَيْشِ الشَّامِ، قبل نُورِ الدِّينِ وَبَعْدَهُ، وَقَدْ نَابَ فِي مَدِينَةِ صرخد، وكان شهما شجاعا كثير البر والصدقات، وهو واقف المدرسة المجاهدية بالقرب من الغورية جوار الخيميين، وله أيضا المدرسة المجاهدية دَاخِلَ بَابِ الْفَرَادِيسِ الْبَرَّانِيِّ، وَبِهَا قَبْرُهُ. وَلَهُ السَّبْعُ الْمُجَاهِدِيُّ دَاخِلَ بَابِ الزِّيَادَةِ مِنَ الْجَامِعِ بمقصورة الخضر، توفى بداره في صفر منها، فَحُمِلَ إِلَى الْجَامِعِ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ ثُمَّ أُعِيدَ إِلَى مَدْرَسَتِهِ وَدُفِنَ بِهَا دَاخِلَ بَابِ الْفَرَادِيسِ، وتأسف الناس عليه.
الشيخ عدي بن مسافر
ابن إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُوسَى بْنِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ مَرْوَانَ الْهَكَّارِيُّ، شَيْخُ الطَّائِفَةِ الْعَدَوِيَّةِ، أَصْلُهُ مِنَ الْبِقَاعِ غَرْبِيَّ دِمَشْقَ، مِنْ قَرْيَةِ بَيْتِ نار، ثم دخل إِلَى بَغْدَادَ فَاجْتَمَعَ فِيهَا بِالشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ وَالشَّيْخِ حَمَّادٍ الدَّبَّاسِ، وَالشَّيْخِ عَقِيلٍ الْمَنْبِجِيِّ، وَأَبِي ألوفا الْحُلْوَانِيِّ، وَأَبِي النَّجِيبِ السُّهْرَوَرْدِيِّ وَغَيْرِهِمْ، ثُمَّ انْفَرَدَ عن الناس وتخلى بجبل هكار وبنى له هناك زاوية وأعتقده أَهْلُ تِلْكَ النَّاحِيَةِ اعْتِقَادًا بَلِيغًا، حَتَّى إِنَّ منهم من يغلو غلوا كثيرا منكرا ومنهم من يجعله إلها أو شريكا، وهذا اعتقاد فاحش يؤدى إلى الخروج من الدين جملة. مات فِي هَذِهِ السَّنَةِ بِزَاوِيَتِهِ وَلَهُ سَبْعُونَ سَنَةً رحمه الله.
عبد الواحد بن أحمد
ابن مُحَمَّدِ بْنِ حَمْزَةَ، أَبُو جَعْفَرٍ الثَّقَفِيُّ، قَاضِي قُضَاةِ بَغْدَادَ، وَلِيَهَا بَعْدَ أَبِي الْحَسَنِ الدَّامَغَانِيِّ في أول هذه السنة، وكان قاضيا بالكوفة قبل ذلك، توفى في ذي الحجة منها وَقَدْ نَاهَزَ الثَّمَانِينَ، وَوَلِيَ بَعْدَهُ ابْنُهُ جَعْفَرٌ. والفائز صاحب مصر، وقيماز تقدما في الحوادث.
محمد بن يحيى
ابن عَلِيِّ بْنِ مُسْلِمٍ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْدِيُّ، ولد بمدينة زبيد باليمن سنة ثمانين تقريبا، وَقِدَمَ بَغْدَادَ سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَوَعَظَ وَكَانَتْ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِالنَّحْوِ وَالْأَدَبِ، وَكَانَ صَبُورًا عَلَى الْفَقْرِ لَا يَشْكُو حَالَهُ إِلَى أَحَدٍ، وَكَانَتْ له أحوال صالحة رحمه الله، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وخمسين وخمسمائة
فِيهَا قُتِلَ السُّلْطَانُ سُلَيْمَانُ شَاهْ بْنُ مُحَمَّدِ بن ملك شاه، وكان عنده استهزاء وقلة مبالاة بالدين، مدمن شرب الخمر في رمضان، فثار عليه مدبر مملكته يزديار الْخَادِمُ فَقَتَلَهُ، وَبَايَعَ بَعْدَهُ السُّلْطَانَ أَرْسَلَانَ شَاهْ بن طغرل بن محمد بن ملك شاه. وَفِيهَا قُتِلَ الْمَلِكُ الصَّالِحُ فَارِسُ الدِّينِ أَبُو الغارات طلائع ابن رُزِّيكَ الْأَرْمَنِيُّ، وَزِيرُ الْعَاضِدِ صَاحِبِ مِصْرَ، وَوَالِدِ زَوْجَتِهِ، وَكَانَ قَدْ حَجَرَ عَلَى الْعَاضِدِ لِصِغَرِهِ واستحوذ على الأمور والحاشية، وَوَزَرَ بَعْدَهُ وَلَدُهُ رُزِّيكُ، وَلُقِّبَ بِالْعَادِلِ، وَقَدْ كَانَ أَبُوهُ الصَّالِحُ

(12/243)


كَرِيمًا أَدِيبًا، يُحِبُّ أَهْلَ الْعِلْمِ وَيُحْسِنُ إِلَيْهِمْ، كَانَ مِنْ خِيَارِ الْمُلُوكِ وَالْوُزَرَاءِ، وَقَدِ امْتَدَحَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الشُّعَرَاءِ. قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: كان أولا متوليا بمنية بنى الخصيب، ثم آل به الحال إلى أن صار وزير العاضد والفائز قبله، ثم قَامَ فِي الْوِزَارَةِ بَعْدَهُ وَلَدُهُ الْعَادِلُ رُزِّيكُ بْنُ طَلَائِعَ، فَلَمْ يَزَلْ فِيهَا حَتَّى انْتَزَعَهَا منه شَاوَرُ كَمَا سَيَأْتِي. قَالَ: وَالصَّالِحُ هَذَا هُوَ بَانِي الْجَامِعِ عِنْدَ بَابِ زُوَيْلَةَ ظَاهِرَ الْقَاهِرَةِ، قَالَ: وَمِنَ الْعَجَائِبِ أَنَّهُ وَلِيَ الْوِزَارَةَ فِي تَاسِعَ عَشَرَ شَهْرٍ وَنُقِلَ مِنْ دَارِ الْوِزَارَةِ إلى القرافة في تاسع عشر شهر، وَزَالَتْ دَوْلَتُهُمْ فِي تَاسِعَ عَشَرَ شَهْرٍ آخَرَ. قال ومن شعره ما رواه عنه زين الدين على بن نجا الحنبلي
مشيبك قد محى صنع الشَّبَابِ ... وَحَلَّ الْبَازُ فِي وَكْرِ الْغُرَابِ
تَنَامُ ومقلة الحدثان يقظى ... وما ناب النوائب عنك ناب
وكيف نفاد عمرك وهو كنز ... وقد أنفقت منه بلا حساب
وله
كَمْ ذَا يُرِينَا الدَّهْرُ مِنْ أَحْدَاثِهِ ... عِبَرًا وَفِينَا الصَّدُّ وَالْإِعْرَاضُ
نَنْسَى الْمَمَاتَ وَلَيْسَ يَجْرِي ذِكْرُهُ ... فِينَا فَتُذْكِرُنَا بِهِ الْأَمْرَاضُ
وَمِنْ شِعْرِهِ أَيْضًا قَوْلُهُ:
أَبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يَدُومَ لَنَا الدَّهْرُ ... وَيَخْدِمُنَا فِي مُلْكِنَا الْعِزُّ وَالنَّصْرُ
عَلِمْنَا بِأَنَّ الْمَالَ تَفْنَى أُلُوفُهُ ... وَيَبْقَى لَنَا مِنْ بَعْدِهِ الْأَجْرُ وَالذِّكْرُ
خَلَطْنَا النَّدَى بِالْبَأْسِ حَتَّى كَأَنَّنَا ... سَحَابٌ لَدَيْهِ الْبَرْقُ وَالرَّعْدُ وَالْقَطْرُ
وَلَهُ أَيْضًا وَهُوَ مِمَّا نَظَمَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ بثلاث ليال:
[نحن في غفلة ونوم وللموت ... عُيُونٌ يَقْظَانَةٌ لَا تَنَامُ
]
قَدْ رَحَلْنَا إِلَى الْحِمَامِ سِنِينًا ... لَيْتَ شِعْرِي مَتَى يَكُونُ الْحِمَامُ؟
ثُمَّ قَتَلَهُ غِلْمَانُ الْعَاضِدِ فِي النَّهَارِ غِيلَةً وَلَهُ إِحْدَى وَسِتُّونَ سَنَةً، وَخَلَعَ عَلَى وَلَدِهِ العادل بالوزارة ورثاه عمارة التميمي بقصائد حسان، ولما نُقِلَ إِلَى تُرْبَتِهِ بِالْقَرَافَةِ سَارَ الْعَاضِدُ مَعَهُ حتى وصل إلى قبره فدفنه في التابوت. قال ابن خلكان: فعمل الفقيه عمارة في التابوت قصيدة فجار فيها في قَوْلُهُ:
وَكَأَنَّهُ تَابُوتُ مُوسى أُودِعَتْ ... فِي جَانِبَيْهِ سكينة ووقار
وفيها كانت وقعة عظيمة بين بنى خفاجة وأهل الكوفة، فقتلوا من أهل الكوفة خَلْقًا، مِنْهُمُ الْأَمِيرُ قَيْصَرُ وَجَرَحُوا أَمِيرَ الْحَاجِّ برغش جِرَاحَاتٍ، فَنَهَضَ إِلَيْهِمْ وَزِيرُ الْخِلَافَةِ عَوْنُ الدِّينِ بن هبيرة، فتبعهم حتى أوغل خلفهم في البرية في جيش كثيف، فَبَعَثُوا يَطْلُبُونَ الْعَفْوَ. وَفِيهَا وَلِيَ مَكَّةَ الشَّرِيفُ عِيسَى بْنُ قَاسِمِ بْنِ أَبِي هَاشِمٍ، وَقِيلَ قاسم، بن أبى فُلَيْتَةَ بْنِ قَاسِمِ بْنِ أَبِي هَاشِمٍ. وَفِيهَا أمر الخليفة بِإِزَالَةِ الدَّكَاكِينِ الَّتِي تُضَيِّقُ الطُّرُقَاتِ، وَأَنْ لَا يجلس أحد من الباعة في عرض الطريق،

(12/244)


لِئَلَّا يَضُرَّ ذَلِكَ بِالْمَارَّةِ. وَفِيهَا وَقَعَ رُخْصٌ عَظِيمٌ بِبَغْدَادَ جِدًّا. وَفِيهَا فُتِحَتِ الْمَدْرَسَةُ الَّتِي بَنَاهَا ابْنُ الشَّمْحَلِ فِي الْمَأْمُونِيَّةِ وَدَرَّسَ فِيهَا أَبُو حَكِيمٍ إِبْرَاهِيمُ بْنُ دِينَارٍ النَّهْرَوَانِيُّ الْحَنْبَلِيُّ، وَقَدْ تُوُفِّيَ مِنْ آخِرِ هَذِهِ السَّنَةِ، وَدَرَّسَ بعده فيها أبو الفرج ابن الجوزي، وقد كان عنده معيدا، ونزل عَنْ تَدْرِيسٍ آخَرَ بِبَابِ الْأَزَجِّ عِنْدَ مَوْتِهِ.
وممن توفى في فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ.
حَمْزَةُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ طَلْحَةَ
أَبُو الْفُتُوحِ الْحَاجِبُ، كَانَ خِصِّيصًا عِنْدَ المسترشد والمقتفى، وَقَدْ بَنَى مَدْرَسَةً إِلَى جَانِبِ دَارِهِ، وَحَجَّ فرجع متزهدا ولزم بيته معظما نحوا من عشرين سنة، وقد امتدحه الشعراء فقال فيه بعضهم:
يَا عَضُدَ الْإِسْلَامِ يَا مَنْ سَمَتْ ... إِلَى الْعُلَا هِمَّتُهُ الْفَاخِرهْ
كَانَتْ لَكَ الدُّنْيَا فَلَمْ تَرْضَهَا ... مُلْكًا فَأَخْلَدْتَ إِلَى الْآَخِرَهْ
ثُمَّ دَخَلَتْ سنة سبع وخمسين وخمسمائة
فِيهَا دَخَلَتِ الْكُرْجُ بِلَادَ الْمُسْلِمِينَ فَقَتَلُوا خَلْقًا من الرجال وأسروا من الذراري، فاجتمع مُلُوكُ تِلْكَ النَّاحِيَةِ: إِيلْدِكْزُ صَاحِبُ أَذْرَبِيجَانَ وَابْنُ سكمان صاحب خلاط، وابن آقسنقر صَاحِبُ مَرَاغَةَ، وَسَارُوا إِلَى بِلَادِهِمْ فِي السَّنَةِ الْآتِيَةِ فَنَهَبُوهَا، وَأَسَرُوا ذَرَارِيَهِمْ، وَالْتَقَوْا مَعَهُمْ فَكَسَرُوهُمْ كسرة فَظِيعَةً مُنْكَرَةً، مَكَثُوا يَقْتُلُونَ فِيهِمْ وَيَأْسِرُونَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. وَفِي رَجَبٍ أُعِيدَ يُوسُفُ الدِّمَشْقِيُّ إِلَى تَدْرِيسِ النِّظَامِيَّةِ بَعْدَ عَزْلِ ابْنِ نِظَامِ الْمُلْكِ بِسَبَبِ أَنَّ امْرَأَةً ادَّعَتْ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا فَأَنْكَرَ ثُمَّ اعْتَرَفَ، فَعُزِلَ عَنِ التَّدْرِيسِ. وَفِيهَا كَمَلَتِ الْمَدْرَسَةُ الَّتِي بَنَاهَا الْوَزِيرُ ابْنُ هُبَيْرَةَ بِبَابِ الْبَصْرَةِ، وَرَتَّبَ فِيهَا مُدَرِّسًا وَفَقِيهًا، وَحَجَّ بِالنَّاسِ أمير الكوفة برغش.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ.
شُجَاعٌ شَيْخُ الحنفية
ودفن عند المشهد، وكان شَيْخُ الْحَنَفِيَّةِ بِمَشْهَدِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَكَانَ جَيِّدَ الكلام في النظر، أخذ عنه الحنفية.
صدقة بن وزير الواعظ
دَخَلَ بَغْدَادَ وَوَعَظَ بِهَا وَأَظْهَرَ تَقَشُّفًا، وَكَانَ يَمِيلُ إِلَى التَّشَيُّعِ وَعِلْمِ الْكَلَامِ، وَمَعَ هَذَا كله راج عند العوام وبعض الأمراء، وحصل له فتوح كثير، ابْتَنَى مِنْهُ رِبَاطًا وَدُفِنَ فِيهِ سَامَحَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
زُمُرُّدُ خَاتُونَ
بِنْتُ جَاوْلِي أُخْتُ الْمَلِكِ دقماق بْنِ تُتُشَ لِأُمِّهِ، وَهِيَ بَانِيَةُ الْخَاتُونِيَّةِ ظَاهِرَ دِمَشْقَ عِنْدَ قَرْيَةِ صَنْعَاءَ بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ تَلُّ الثَّعَالِبِ، غَرْبِيَّ دِمَشْقَ، عَلَى جَانِبِ الشَّرْقِ الْقِبْلِيِّ بِصَنْعَاءِ الشَّامِ، وَهِيَ قَرْيَةٌ مَعْرُوفَةٌ قَدِيمًا، وَأَوْقَفَتْهَا عَلَى الشَّيْخِ بُرْهَانِ الدِّينِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الْبَلْخِيِّ الْحَنَفِيِّ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ، وَكَانَتْ زَوْجَةَ الْمَلِكِ بُورِي بْنِ طُغْتِكِينَ، فَوَلَدَتْ لَهُ ابْنَيْهِ شَمْسَ الْمُلُوكِ إِسْمَاعِيلَ الْمَذْكُورَ، وَقَدْ مَلَكَ بَعْدَ

(12/245)


أَبِيهِ وَسَارَ سِيرَتَهُ، وَمَالَأَ الْفِرِنْجَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَهَمَّ بِتَسْلِيمِ الْبَلَدِ وَالْأَمْوَالِ إِلَيْهِمْ فَقَتَلُوهُ، وَتَمَلَّكَ أَخُوهُ وَذَلِكَ بَعْدَ مُرَاجَعَتِهَا وَمُسَاعَدَتِهَا، وَقَدْ كَانَتْ قَرَأَتِ الْقُرْآنَ، وَسَمِعَتِ الْحَدِيثَ، وَكَانَتْ حَنَفِيَّةَ الْمَذْهَبِ تُحِبُّ الْعُلَمَاءَ وَالصَّالِحِينَ، وَقَدْ تَزَوَّجَهَا الْأَتَابِكِيُّ زَنْكِيٌّ صَاحِبُ حَلَبَ طَمَعًا فِي أَنْ يَأْخُذَ بِسَبَبِهَا دِمَشْقَ فَلَمْ يَظْفَرْ بِذَلِكَ، بَلْ ذَهَبَتْ إِلَيْهِ إِلَى حَلَبَ ثُمَّ عَادَتْ إِلَى دِمَشْقَ بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَقَدْ دَخَلَتْ بَغْدَادَ وَسَارَتْ مِنْ هُنَاكَ إِلَى الْحِجَازِ، وَجَاوَرَتْ بِمَكَّةَ سَنَةً، ثُمَّ جَاءَتْ فَأَقَامَتْ بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ حَتَّى مَاتَتْ بِهَا وَدُفِنَتْ بِالْبَقِيعِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ كَانَتْ كَثِيرَةَ الْبِرِّ وَالصَّدَقَاتِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، قَالَ السِّبْطُ وَلَمْ تمت حتى قل ما بيدها، وكانت تُغَرْبِلُ الْقَمْحَ وَالشَّعِيرَ وَتَتَقَوَّتُ بِأُجْرَتِهِ، وَهَذَا مِنْ تَمَامِ الْخَيْرِ وَالسَّعَادَةِ وَحُسْنِ الْخَاتِمَةِ رَحِمَهَا اللَّهُ تَعَالَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ وخمسمائة
فِيهَا مَاتَ صَاحِبُ الْمَغْرِبِ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ بْنُ على التومرتي، وخلفه في الملك من بعده ابنه يوسف وحمل أباه إلى مراكش على صِفَةِ أَنَّهُ مَرِيضٌ، فَلَمَّا وَصَلَهَا أَظْهَرَ مَوْتَهُ فعزاه الناس وبايعوه على الملك من بعد أبيه، وَلَقَّبُوهُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ كَانَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ هَذَا حَازِمًا شُجَاعًا، جَوَادًا مُعَظِّمًا لِلشَّرِيعَةِ، وَكَانَ مَنْ لَا يُحَافِظُ عَلَى الصَّلَوَاتِ فِي زَمَانِهِ يقتل، وكان إذا أذن المؤذن وقبل الأذان يزدحم الخلق في المساجد، وكان حسن الصلاة ذا طمأنينة فيها، كثير الخشوع، وَلَكِنْ كَانَ سَفَّاكًا لِلدِّمَاءِ، حَتَّى عَلَى الذَّنْبِ الصغير، فأمره إلى الله يحكم فيه بما يشاء. وفيها قتل سيف الدين محمد بن علاء الدين الغزى، قَتَلَهُ الْغُزُّ، وَكَانَ عَادِلًا. وَفِيهَا كَبَسَتِ الْفِرِنْجُ نُورَ الدِّينِ وَجَيْشَهُ فَانْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ لَا يَلْوِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَنَهَضَ الْمَلِكُ نُورُ الدِّينِ فَرَكِبَ فَرَسَهُ وَالشِّبْحَةُ فِي رِجْلِهِ فَنَزَلَ رَجُلٌ كردى فقطعها فسار نور الدين فنجا، وأدركت الفرنج ذلك الْكُرْدِيَّ فَقَتَلُوهُ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَأَحْسَنَ نُورُ الدِّينِ إِلَى ذُرِّيَّتِهِ، وَكَانَ لَا يَنْسَى ذَلِكَ لَهُ. وَفِيهَا أَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِإِجْلَاءِ بَنِي أَسَدٍ عَنِ الْحِلَّةِ وَقَتَلَ مَنْ تَخَلَّفَ مِنْهُمْ، وَذَلِكَ لِإِفْسَادِهِمْ وَمُكَاتَبَتِهِمُ السُّلْطَانَ مُحَمَّدَ شَاهْ، وَتَحْرِيضِهِمْ لَهُ عَلَى حِصَارِ بَغْدَادَ، فَقَتَلَ مِنْ بَنِي أَسَدٍ أَرْبَعَةَ آلَافٍ، وَخَرَجَ الْبَاقُونَ مِنْهَا، وَتَسَلَّمَ نُوَّابُ الْخَلِيفَةِ الحلة. وحج بالناس فيها الأمير برغش الكبير.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
السُّلْطَانُ الْكَبِيرُ.
أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ بْنُ عَلِيٍّ
الْقَيْسِيُّ الْكُوفِيُّ تِلْمِيذُ ابْنِ التُّومَرْتِ، كَانَ أَبُوهُ يَعْمَلُ فِي الطِّينِ فَاعِلًا، فَحِينَ وَقَعَ نَظَرُ ابْنِ التومرت عليه أحبه وتفرس فيه أنه شجاع سَعِيدٌ، فَاسْتَصْحَبَهُ فَعَظُمَ شَأْنُهُ، وَالْتَفَّتْ عَلَيْهِ الْعَسَاكِرُ الَّتِي جَمَعَهَا ابْنُ التُّومَرْتِ مِنَ الْمَصَامِدَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَحَارَبُوا صَاحِبَ مُرَّاكِشَ عَلِيَّ بْنَ يُوسُفَ بْنِ تاشفين، ملك الملثمين، واستحوذ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ عَلَى وَهْرَانَ وَتِلِمْسَانَ وَفَاسَ وَسَلَا وَسَبْتَةَ، ثُمَّ حَاصَرَ مُرَّاكِشَ أَحَدَ

(12/246)


عشر شهرا فافتتحها في سنة ثنتين وأربعين وخمسمائة، وتمهدت له الممالك هنالك، وصفا له الوقت وكان عاقلا وقورا شكلا حسنا محبا للخير، توفى في هذه السنة ومكث في الملك ثلاثا وثلاثين سنة، وكان يسمى نفسه أمير المؤمنين رحمه الله.
طلحة بن على
ابن طراد، أبو أحمد الزينبي، نقيب النقباء، مات فجأة وولى النقابة بَعْدِهِ وَلَدُهُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيٌّ وَكَانَ أَمْرَدَ فَعُزِلَ وَصُودِرَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
مُحَمَّدُ بْنُ عبد الكريم
ابن إبراهيم، أبو عبد الله المعروف بابن الْأَنْبَارِيِّ كَاتِبُ الْإِنْشَاءِ بِبَغْدَادَ، كَانَ شَيْخًا حَسَنًا ظَرِيفًا وَانْفَرَدَ بِصَنَاعَةِ الْإِنْشَاءِ، وَبَعَثَ رَسُولًا إِلَى الْمَلِكِ سَنْجَرَ وَغَيْرِهِ، وَخَدَمَ الْمُلُوكَ وَالْخُلَفَاءَ، وَقَارَبَ التسعين. ومن شعره في محبي الدنيا والصور:
يا من هجرت ولا تبالي ... هل ترجع دولة الوصال
هل أَطْمَعُ يَا عَذَابَ قَلْبِي ... أَنْ يَنْعَمَ فِي هواك بالي
مَا ضَرَّكِ أَنْ تُعَلِّلِينِي ... فِي الْوَصْلِ بِمَوْعِدٍ المحال
أَهْوَاكِ وَأَنْتِ حَظُّ غَيْرِي ... يَا قَاتِلَتِي فَمَا احتيالى
أيام عنائي قبل سُودٌ ... مَا أَشْبَهَهُنَّ بِاللَّيَالِي
الْعُذَّلُ فِيكِ يَعْذِلُونِي ... عن حبك مالهم ومالي
يَا مُلْزِمِي السُّلُوَّ عَنْهَا ... الصَّبُّ أَنَا وَأَنْتَ سَالِي
وَالْقَوْلُ بِتَرْكِهَا صَوَابٌ ... مَا أَحْسَنَهُ لَوِ اسْتَوَى لِي
طَلَّقْتُ تَجَلُّدِي ثَلَاثًا ... وَالصَّبْوَةُ بَعْدُ فِي خَيَالِي
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ وخمسمائة
فِيهَا قَدِمَ شَاوَرُ بْنُ مُجِيرِ الدِّينِ أَبُو شُجَاعٍ السَّعْدِيُّ الْمُلَقَّبُ بِأَمِيرِ الْجُيُوشِ، وَهُوَ إِذْ ذَاكَ وَزِيرُ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ بَعْدَ آلِ رُزِّيكَ، لما قتل الناصر رُزِّيكَ لَمَّا قُتِلَ النَّاصِرُ رُزِّيكُ بْنُ طَلَائِعَ، وَقَامَ فِي الْوِزَارَةِ بَعْدَهُ، وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُهُ فِيهَا، ثار عَلَيْهِ أَمِيرٌ يُقَالُ لَهُ الضِّرْغَامُ بْنُ سَوَّارٍ، وَجَمَعَ لَهُ جُمُوعًا كَثِيرَةً، وَاسْتَظْهَرَ عَلَيْهِ وَقَتَلَ ولديه طيبا وَسُلَيْمَانَ، وَأَسَرَ الثَّالِثَ وَهُوَ الْكَامِلُ بْنُ شَاوَرَ، فَسَجَنَهُ وَلَمْ يَقْتُلْهُ، لِيَدٍ كَانَتْ لِأَبِيهِ عِنْدَهُ، واستوزر ضرغام وَلُقَّبَ بِالْمَنْصُورِ، فَخَرَجَ شَاوَرُ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ هاربا من العاضد ومن ضرغام، ملتجئا إلى نور الدين محمود، وهو نازل بجوسق الميدان الأخضر، فأحسن ضيافته وأنزله بالجوسق المذكور، وطلب شاور منه عسكرا ليكونوا معه ليفتح بهم الديار المصرية، وليكون لنور الدين

(12/247)


ثُلُثُ مُغَلِّهَا، فَأَرْسَلَ مَعَهُ جَيْشًا عَلَيْهِ أَسَدُ الدين شيركوه بن شادى، فَلَمَّا دَخَلُوا بِلَادَ مِصْرَ خَرَجَ إِلَيْهِمُ الْجَيْشُ الَّذِينَ بِهَا فَاقْتَتَلُوا أَشَدَّ الْقِتَالِ، فَهَزَمَهُمْ أَسَدُ الدِّينِ وَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا، وَقَتَلَ ضِرْغَامَ بْنَ سَوَّارٍ وَطِيفَ بِرَأْسِهِ فِي الْبِلَادِ، وَاسْتَقَرَّ أَمْرُ شَاوَرَ فِي الْوِزَارَةِ، وَتَمَهَّدَ حَالُهُ، ثُمَّ اصْطَلَحَ العاضد وشاور على أسد الدين، ورجع عَمًّا كَانَ عَاهَدَ عَلَيْهِ نُورَ الدِّينِ، وَأَمَرَ أَسَدَ الدِّينِ بِالرُّجُوعِ فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ، وَعَاثَ فِي الْبِلَادِ، وَأَخَذَ أَمْوَالًا كَثِيرَةً، وَافْتَتَحَ بُلْدَانًا كَثِيرَةً مِنَ الشَّرْقِيَّةِ وَغَيْرِهَا، فَاسْتَغَاثَ شَاوَرُ عَلَيْهِمْ بِمَلِكِ الْفِرِنْجِ الَّذِي بِعَسْقَلَانَ، وَاسْمُهُ مُرِّيٌّ، فَأَقْبَلَ فِي خَلْقٍ كَثِيرٍ فَتَحَوَّلَ أَسَدُ الدِّينِ إِلَى بِلْبِيسَ وَقَدْ حَصَّنَهَا وَشَحَنَهَا بِالْعُدَدِ وَالْآلَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَحَصَرُوهُ فِيهَا ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ، وَامْتَنَعَ أَسَدُ الدِّينِ وَأَصْحَابُهُ أَشَدَّ الِامْتِنَاعِ، فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ إِذْ جَاءَتِ الْأَخْبَارُ بِأَنَّ الْمَلِكَ نُورَ الدين قدم اغتنم غيبة الفرنج فَسَارَ إِلَى بِلَادِهِمْ فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وفتح حارم وقتل من الفرنج بها خلقا، وسار إلى بانياس، فضعف صاحب عسقلان الفرنجى، وطلبوا من أسد الدين الصلح فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، وَقَبَضَ مِنْ شَاوَرَ سِتِّينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَخَرَجَ أَسَدُ الدِّينِ وَجَيْشُهُ فَسَارُوا إلى الشام في ذي الحجة.
وقعة حارم
فتحت فِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ نور الدين استغاث بعساكر المسلمين فجاءوه من كل فج ليأخذ ثأره من الفرنج، فالتقى معهم على حارم فكسرهم كسرة فظيعة، وأسر البرنس بيمند صاحب أنطاكية، والقومص صاحب طرابلس، والدوك صاحب الروم، وابن جوسليق، وَقَتَلَ مِنْهُمْ عَشَرَةَ آلَافٍ، وَقِيلَ عِشْرِينَ أَلْفًا. وَفِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْهَا فَتَحَ نُورُ الدِّينِ مدينة بانياس، وقيل إنه إنما فتحها فِي سَنَةِ سِتِّينَ فاللَّه أَعْلَمُ. وَكَانَ مَعَهُ أَخُوهُ نَصْرُ الدِّينِ أَمِيرُ أَمِيرَانَ، فَأَصَابَهُ سَهْمٌ فِي إِحْدَى عَيْنَيْهِ فَأَذْهَبَهَا، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ نور الدين: لو نظرت لما أَعَدَّ اللَّهُ لَكَ مِنَ الْأَجْرِ فِي الْآخِرَةِ لَأَحْبَبْتَ أَنْ تَذْهَبَ الْأُخْرَى. وَقَالَ لِابْنِ مُعِينِ الدين: إنه اليوم بَرَدَتْ جَلْدَةُ وَالِدِكَ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ، لِأَنَّهُ كان سلمها للفرنج، فصالحه عن دمشق. وفي شهر ذي الحجة احْتَرَقَ قَصْرُ جَيْرُونَ حَرِيقًا عَظِيمًا، فَحَضَرَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ الْأُمَرَاءُ مِنْهُمْ أَسَدُ الدِّينِ شِيرَكُوهْ، بعد رجوعه من مصر، وَسَعَى سَعْيًا عَظِيمًا فِي إِطْفَاءِ هَذِهِ النَّارِ وصون حوزة الجامع منها.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ.
جَمَالُ الدِّينِ
وزير صاحب الموصل، قُطْبِ الدِّينِ مَوْدُودِ بْنِ زَنْكِيٍّ، كَانَ كَثِيرَ المعروف، واسمه محمد بن على ابن أبى منصور، أبو جعفر الأصبهاني، الملقب بالجمال، كان كثير الصدقة والبر، وَقَدْ أَثَّرَ آثَارًا حَسَنَةً بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ سَاقَ عَيْنًا إِلَى عَرَفَاتٍ، وَعَمِلَ هناك مصانع، وبنى مسجد الخيف ودرجه، وَعَمِلَهَا بِالرُّخَامِ، وَبَنَى عَلَى الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ سُورًا، وَبَنَى جِسْرًا عَلَى دِجْلَةَ عِنْدَ جَزِيرَةِ ابْنِ

(12/248)


عُمَرَ بِالْحَجَرِ الْمَنْحُوتِ، وَالْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ، وَبَنَى الرُّبُطَ الكثيرة، وكان يتصدق في كل يوم في بَابِهِ بِمِائَةِ دِينَارٍ، وَيَفْتَدِي مِنَ الْأُسَارَى فِي كل سنة بعشرة آلاف دينار، وكان لا تَزَالُ صَدَقَاتُهُ وَافِدَةً إِلَى الْفُقَهَاءِ وَالْفُقَرَاءِ، حَيْثُ كَانُوا مِنْ بَغْدَادَ وَغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ، وَقَدْ حُبِسَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ، فَذَكَرَ ابْنُ السَّاعِي فِي تَارِيخِهِ عَنْ شَخْصٍ كَانَ مَعَهُ فِي السِّجْنِ أَنَّهُ نَزَلَ إِلَيْهِ طَائِرٌ أَبْيَضُ قَبْلَ مَوْتِهِ فَلَمْ يَزَلْ عِنْدَهُ وَهُوَ يَذْكُرُ الله حَتَّى تُوُفِّيَ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، ثُمَّ طَارَ عَنْهُ وَدُفِنَ فِي رِبَاطٍ بَنَاهُ لِنَفْسِهِ بِالْمَوْصِلِ، وَقَدْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَسَدِ الدين شيركوه بن شادى مواخاة وَعَهْدٌ أَيُّهُمَا مَاتَ قَبْلَ الْآخَرِ أَنْ يَحْمِلَهُ إلى المدينة النبويّة، فحمل إليها من الموصل على أعناق الرجال، فَمَا مَرُّوا بِهِ عَلَى بَلْدَةٍ إِلَّا صَلَّوْا عَلَيْهِ وَتَرَحَّمُوا عَلَيْهِ، وَأَثْنَوْا خَيْرًا، فَصَلَّوا عَلَيْهِ بالموصل وتكريت وبغداد والحلة والكوفة وقيدو مكة وطيف به حول الكعبة، ثم حمل إلى المدينة النبويّة فدفن بها في رباط بناه شرقى مسجد النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَابْنُ السَّاعِي: لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَرَمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَبَرِهِ سِوَى خَمْسَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا.
قَالَ ابْنُ الساعي: ولما صلى عليه بالحلة صعد شاب نشزا فأنشد:
سرى نعشه على الرِّقَابِ وَطَالَمَا ... سَرَى جُودُهُ فَوْقَ الرِّكَابِ وَنَائِلُهْ
يَمُرُّ عَلَى الْوَادِي فَتُثْنِي رِمَالُهُ ... عَلَيْهِ وَبِالنَّادِي فتثنى أرامله
وممن توفى بَعْدَ الْخَمْسِينَ
ابْنُ الْخَازِنِ الْكَاتِبُ
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ بْنِ عَبْدِ الْخَالِقِ أَبُو الْفَضْلِ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْخَازِنِ الْكَاتِبُ الْبَغْدَادِيُّ الشَّاعِرُ. كَانَ يَكْتُبُ جَيِّدًا فَائِقًا، اعْتَنَى بِكِتَابَةِ الْخَتَمَاتِ، وأكثر ابنه نصر الله من كتابة المقامات، وجمع لابنه دِيوَانَ شِعْرٍ أَوْرَدَ مِنْهُ ابْنُ خَلِّكَانَ قِطْعَةً كبيرة.
ثم دخلت سنة ستين وخمسمائة
فِي صَفَرٍ مِنْهَا وَقَعَتْ بِأَصْبَهَانَ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ بِسَبَبِ الْمَذَاهِبِ دَامَتْ أَيَّامًا، وَقُتِلَ فِيهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ. وَفِيهَا كَانَ حَرِيقٌ عَظِيمٌ بِبَغْدَادَ فَاحْتَرَقَتْ مَحَالُّ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَنَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَلَدَتِ امْرَأَةٌ بِبَغْدَادَ أَرْبَعَ بَنَاتٍ فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ، وَحَجَّ بالناس فيها الأمير برغش الكبير
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
عُمَرُ بْنُ بَهْلَيْقَا
الطَّحَّانُ الَّذِي جَدَّدَ جَامِعَ الْعُقَيْبَةِ بِبَغْدَادَ، وَاسْتَأْذَنَ الْخَلِيفَةَ فِي إِقَامَةِ الْجُمُعَةِ فِيهِ، فَأَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَكَانَ قَدِ اشْتَرَى مَا حَوْلَهُ مِنَ الْقُبُورِ فَأَضَافَ ذَلِكَ إِلَيْهِ، وَنَبَشَ الْمَوْتَى مِنْهَا، فَقَيَّضَ اللَّهُ لَهُ مَنْ نَبَشَهُ مَنْ قبره بعد دفنه، جزاء وفاقا.
مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَرَّانِيُّ، كَانَ آخِرَ مَنْ بَقِيَ مِنَ الشُّهُودِ الْمَقْبُولِينَ عِنْدَ أَبِي الْحَسَنِ الدَّامَغَانِيِّ، وَقَدْ

(12/249)


سَمِعَ الْحَدِيثَ، وَكَانَ لَطِيفًا ظَرِيفًا، جَمَعَ كِتَابًا سماه روضة الأدباء، فيها نُتَفٌ حَسَنَةٌ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ زُرْتُهُ يَوْمًا فَأَطَلْتُ الْجُلُوسَ عِنْدَهُ فَقُلْتُ: أَقْوَمُ فَقَدْ ثَقَّلْتُ، فأنشدنى:
لئن سئمت إِبْرَامًا وَثُقْلًا ... زِيَارَاتٍ رَفَعْتَ بِهِنَّ قَدْرِي
فَمَا أَبْرَمْتَ إِلَّا حَبْلَ وُدِّي ... وَلَا ثَقَّلْتَ إِلَّا ظَهْرَ شُكْرِي
مَرْجَانُ الْخَادِمُ
كَانَ يَقْرَأُ الْقِرَاءَاتِ، وَتَفَقَّهَ لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَكَانَ يَتَعَصَّبُ عَلَى الْحَنَابِلَةِ وَيَكْرَهُهُمْ، وَيُعَادِي الْوَزِيرَ ابْنَ هُبَيْرَةَ وَابْنَ الْجَوْزِيِّ مُعَادَاةً شَدِيدَةً، وَيَقُولُ لِابْنِ الْجَوْزِيِّ: مَقْصُودِي قَلْعُ مذهبكم، وقطع ذكركم. ولما توفى ابْنُ هُبَيْرَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَوِيَ عَلَى بن الْجَوْزِيِّ وَخَافَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فَرِحَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فَرَحًا شَدِيدًا، توفى [فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْهَا.
ابْنُ التِّلْمِيذِ
الطَّبِيبُ الْحَاذِقُ الْمَاهِرُ، اسْمُهُ هِبَةُ اللَّهِ بْنُ صَاعِدٍ توفى] عَنْ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَكَانَ مُوَسَّعًا عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، وَلَهُ عِنْدَ النَّاسِ وَجَاهَةٌ كَبِيرَةٌ، وَقَدْ تُوُفِّيَ قَبَّحَهُ اللَّهُ عَلَى دِينِهِ، وَدُفِنَ بِالْبَيْعَةِ الْعَتِيقَةِ، لَا رَحِمَهُ اللَّهُ إِنْ كَانَ مَاتَ نَصْرَانِيًّا، فَإِنَّهُ كَانَ يَزْعُمُ أَنَّهُ مُسْلِمٌ، ثُمَّ مَاتَ عَلَى دِينِهِ.
الْوَزِيرُ ابْنُ هُبَيْرَةَ
يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ هُبَيْرَةَ، أَبُو الْمُظَفَّرِ الوزير للخلافة عون الدين، مصنف كتاب الإفصاح، وقد قرأ القرآن وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَكَانَتْ لَهُ مَعْرِفَةٌ جَيِّدَةٌ بِالنَّحْوِ وَاللُّغَةِ وَالْعَرُوضِ، وَتَفَقَّهَ عَلَى مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَصَنَّفَ كُتُبًا جَيِّدَةً مُفِيدَةً، مِنْ ذَلِكَ الْإِفْصَاحُ في مجلدات، شرح فيه الحديث وتكلم على مذاهب الْعُلَمَاءِ، وَكَانَ عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ فِي الِاعْتِقَادِ، وَقَدْ كَانَ فَقِيرًا لَا مَالَ لَهُ، ثُمَّ تَعَرَّضَ لِلْخِدْمَةِ إِلَى أَنْ وَزَرَ لِلْمُقْتَفِي ثُمَّ لِابْنِهِ الْمُسْتَنْجِدِ، وَكَانَ مِنْ خِيَارِ الْوُزَرَاءِ وَأَحْسَنِهِمْ سِيرَةً، وَأَبْعَدِهِمْ عَنِ الظُّلْمِ، وَكَانَ لَا يَلْبَسُ الْحَرِيرَ، وَكَانَ الْمُقْتَفِي يَقُولُ مَا وَزَرَ لِبَنِي العباس مثله، وكذلك ابنه المستنجد، وكان المستنجد مُعْجَبًا بِهِ، قَالَ مَرْجَانُ الْخَادِمُ سَمِعْتُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُسْتَنْجِدَ يُنْشِدُ لِابْنِ هُبَيْرَةَ وَهُوَ بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ شِعْرِهِ.
صَفَتْ نِعْمَتَانِ خَصَّتَاكَ وَعَمَّتَا ... فَذِكْرُهُمَا حَتَّى الْقِيَامَةِ يُذْكَرُ
وُجُودُكَ وَالدُّنْيَا إِلَيْكَ فَقِيْرَةٌ ... وَجُودُكَ وُالْمَعْرُوفُ فِي النَّاسِ يُنْكَرُ
فَلَوْ رَامَ يَا يَحْيَى مَكَانَكَ جَعْفَرٌ ... وَيَحْيَى لَكَفَّا عَنْهُ يَحْيَى وَجَعْفَرُ
وَلَمْ أَرَ مَنْ يَنْوِي لك السوء يا أبا ... المظفر إِلَّا كُنْتَ أَنْتَ الْمُظَفَّرُ
وَقَدْ كَانَ يُبَالِغُ فِي إِقَامَةِ الدَّوْلَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ، وَحَسْمِ مَادَّةِ الْمُلُوكِ السَّلْجُوقِيَّةِ عَنْهُمْ بِكُلِّ مُمْكِنٍ،

(12/250)


حَتَّى اسْتَقَرَّتِ الْخِلَافَةُ فِي الْعِرَاقِ كُلِّهِ، لَيْسَ للملوك معهم حكم بالكلية وللَّه الحمد. وَكَانَ يَعْقِدُ فِي دَارِهِ لِلْعُلَمَاءِ مَجْلِسًا لِلْمُنَاظَرَةِ يبحثون فيه ويناظرون عنده، يستفيد مِنْهُمْ وَيَسْتَفِيدُونَ مِنْهُ، فَاتَّفَقَ يَوْمًا أَنَّهُ كَلَّمَ رَجُلًا مِنَ الْفُقَهَاءِ كَلِمَةً فِيهَا بَشَاعَةٌ قَالَ لَهُ: يَا حِمَارُ، ثُمَّ نَدِمَ فَقَالَ: أُرِيدُ أن تقول لي كما قلت لك، فامتنع ذلك الرجل، فَصَالَحَهُ عَلَى مِائَتَيْ دِينَارٍ. مَاتَ فَجْأَةً، وَيُقَالُ إِنَّهُ سَمَّهُ طَبِيبٌ فَسُمَّ ذَلِكَ الطَّبِيبُ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَكَانَ الطَّبِيبُ يَقُولُ سَمَمْتُهُ فَسُمِمْتُ. مَاتَ يَوْمَ الْأَحَدِ الثَّانِي عَشَرَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، عَنْ إِحْدَى وَسِتِّينَ سَنَةً، وَغَسَّلَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ، وَحَضَرَ جِنَازَتَهُ خَلْقٌ كثير وجم غفير جِدًّا، وَغُلِّقَتِ الْأَسْوَاقُ، وَتَبَاكَى النَّاسُ عَلَيْهِ، وَدُفِنَ بِالْمَدْرَسَةِ الَّتِي أَنْشَأَهَا بِبَابِ الْبَصْرَةِ رَحِمَهُ اللَّهُ. وقد رثاه الشعراء بمراثي كثيرة.
ثم دخلت سنة إحدى وستين وخمسمائة
فيها فتح نور الدين محمود حصن المنيطرة [من الشام] وقتل عنده خلق كثير مِنَ الْفِرِنْجِ، وَغَنِمَ أَمْوَالًا جَزِيلَةً. وَفِيهَا هَرَبَ عِزُّ الدِّينِ بْنُ الْوَزِيرِ ابْنِ هُبَيْرَةَ مِنَ السِّجْنِ، وَمَعَهُ مَمْلُوكٌ تُرْكِيٌّ، فَنُودِيَ عَلَيْهِ فِي الْبَلَدِ مَنْ رَدَّهُ فَلَهُ مِائَةُ دِينَارٍ، وَمَنْ وُجِدَ عِنْدَهُ هُدِمَتْ دَارُهُ وَصُلِبَ عَلَى بَابِهَا، وَذُبِحَتْ أَوْلَادُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَدَلَّهُمْ رَجُلٌ مِنَ الْأَعْرَابِ عَلَيْهِ فَأُخِذَ مِنْ بُسْتَانٍ فَضُرِبَ ضَرْبًا شديدا وَأُعِيدَ إِلَى السِّجْنِ وَضُيِّقَ عَلَيْهِ. وَفِيهَا أَظْهَرَ الرَّوَافِضُ سَبَّ الصَّحَابَةِ وَتَظَاهَرُوا بِأَشْيَاءَ مُنْكَرَةٍ، وَلَمْ يَكُونُوا يَتَمَكَّنُونَ مِنْهَا فِي هَذِهِ الْأَعْصَارِ الْمُتَقَدِّمَةِ، خَوْفًا مِنِ ابْنِ هُبَيْرَةَ، وَوَقَعَ بَيْنَ الْعَوَامِّ كَلَامٌ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ برغش.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
الْحَسَنُ بْنُ الْعَبَّاسِ
ابْنِ أَبِي الطَّيِّبِ بْنِ رُسْتُمَ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْأَصْبَهَانِيُّ، كَانَ مِنْ كِبَارِ الصَّالِحِينَ البكاءين، قال:
حضرت يوما مجلس ما شاده وَهُوَ يَتَكَلَّمُ عَلَى النَّاسِ فَرَأَيْتُ رَبَّ الْعِزَّةِ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ وَهُوَ يَقُولُ لِي:
وَقَفْتَ على مبتدع وسمعت كلامه؟ لأحرمنك منك النَّظَرَ فِي الدُّنْيَا، فَأَصْبَحَ لَا يُبْصِرُ وَعَيْنَاهُ مفتوحتان كأنه بصير
عبد العزيز بن الحسن
ابن الحباب الْأَغْلَبِيُّ السَّعْدِيُّ الْقَاضِي، أَبُو الْمَعَالِي الْبَصْرِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْجَلِيسِ، لِأَنَّهُ كَانَ يُجَالِسُ صَاحِبَ مِصْرَ، وقد ذكره العماد في الجريدة، وَقَالَ: كَانَ لَهُ فَضْلٌ مَشْهُورٌ وَشِعْرٌ مَأْثُورٌ فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
وَمِنْ عَجَبٍ أَنَّ السُّيُوفَ لديهم ... تحيض دما وَالسُّيُوفُ ذُكُورُ
وَأَعْجَبُ مِنْ ذَا أَنَّهَا فِي أَكُفِّهِمْ ... تَأَجَّجُ نَارًا وَالْأَكُفُّ بُحُورُ

(12/251)


الشيخ عبد القادر الجليلى
ابن أَبِي صَالِحٍ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجِيلِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ سَبْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَدَخَلَ بَغْدَادَ فَسَمِعَ الْحَدِيثَ وَتَفَقَّهَ عَلَى أَبِي سَعِيدٍ الْمُخَرِّمِيِّ الْحَنْبَلِيِّ، وَقَدْ كَانَ بَنَى مَدْرَسَةً فَفَوَّضَهَا إِلَى الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ، فَكَانَ يَتَكَلَّمُ عَلَى النَّاسِ بِهَا، وَيَعِظُهُمْ، وَانْتَفَعَ بِهِ النَّاسُ انْتِفَاعًا كَثِيرًا، وَكَانَ لَهُ سَمْتٌ حسن، وصمت غير الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وكان فيه تزهد كَثِيرٌ وَلَهُ أَحْوَالٌ صَالِحَةٌ وَمُكَاشَفَاتٌ، وَلِأَتْبَاعِهِ وَأَصْحَابِهِ فِيهِ مَقَالَاتٌ، وَيَذْكُرُونَ عَنْهُ أَقْوَالًا وَأَفْعَالًا وَمُكَاشَفَاتٍ أَكْثَرُهَا مُغَالَاةٌ، وَقَدْ كَانَ صَالِحًا وَرِعًا، وَقَدْ صَنَّفَ كِتَابَ الْغَنِيَّةِ وَفُتُوحِ الْغَيْبِ، وَفِيهِمَا أَشْيَاءُ حَسَنَةٌ، وَذَكَرَ فِيهِمَا أَحَادِيثَ ضَعِيفَةً وَمَوْضُوعَةً، وَبِالْجُمْلَةِ كان من سادات المشايخ، [توفى] وَلَهُ تِسْعُونَ سَنَةً وَدُفِنَ بِالْمَدْرَسَةِ الَّتِي كَانَتْ لَهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَسِتِّينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا أَقْبَلَتِ الْفِرِنْجُ فِي جَحَافِلَ كَثِيرَةٍ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَسَاعَدَهُمُ الْمِصْرِيُّونَ فَتَصَرَّفُوا فِي بَعْضِ البلاد، فبلغ ذلك أسد الدين شير كوه فَاسْتَأْذَنَ الْمَلِكَ نُورَ الدِّينِ فِي الْعَوْدِ إِلَيْهَا، وَكَانَ كَثِيرَ الْحَنَقِ عَلَى الْوَزِيرِ شَاوَرَ، فَأَذِنَ لَهُ فَسَارَ إِلَيْهَا فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ وَمَعَهُ ابْنُ أَخِيهِ صَلَاحُ الدِّينِ يُوسُفُ بْنُ أَيُّوبَ وَقَدْ وَقَعَ فِي النُّفُوسِ أَنَّهُ سَيَمْلِكُ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ عَرْقَلَةُ الْمُسَمَّى بِحَسَّانَ الشاعر:
وَالْأَتْرَاكُ قَدْ أَزْمَعَتْ ... مِصْرَ إِلَى حَرْبِ الْأَعَارِيبِ
رب كما ملكها يوسف ... الصديق من أولاد يعقوب
فملكها في عصرنا يوسف ... الصادق مِنْ أَوْلَادِ أَيُّوبِ
مَنْ لَمْ يَزَلْ ضَرَّابَ هَامِ الْعِدَا ... حَقًّا وَضَرَّابَ الْعَرَاقِيبِ
وَلَمَّا بَلَغَ الْوَزِيرَ شَاوَرَ قَدُومُ أَسَدِ الدِّينِ وَالْجَيْشُ مَعَهُ بَعَثَ إِلَى الْفِرِنْجِ فَجَاءُوا مِنْ كُلِّ فَجٍّ إِلَيْهِ، وَبَلَغَ أَسَدَ الدِّينِ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِهِمْ، وإنما معه ألف فَارِسٍ، فَاسْتَشَارَ مَنْ مَعَهُ مِنَ الْأُمَرَاءِ فَكُلُّهُمْ أَشَارَ عَلَيْهِ بِالرُّجُوعِ إِلَى نُورِ الدِّينِ، لِكَثْرَةِ الْفِرِنْجِ، إِلَّا أَمِيرًا وَاحِدًا يُقَالُ لَهُ شَرَفُ الدين برغش، فَإِنَّهُ قَالَ: مَنْ خَافَ الْقَتْلَ وَالْأَسْرَ فَلْيَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ عِنْدَ زَوْجَتِهِ، وَمَنْ أَكَلَ أَمْوَالَ الناس فَلَا يُسَلِّمْ بِلَادَهُمْ إِلَى الْعَدُوِّ، وَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ ابْنُ أَخِيهِ صَلَاحُ الدِّينِ يُوسُفُ بْنُ أَيُّوبَ، فَعَزَمَ اللَّهُ لَهُمْ فَسَارُوا نَحْوَ الْفِرِنْجِ فَاقْتَتَلُوا هُمْ وَإِيَّاهُمْ قِتَالًا عَظِيمًا، فَقَتَلُوا مِنَ الفرنج مقتلة عظيمة، وهزموهم، ثم قتلوا مِنْهُمْ خَلْقًا لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وللَّه الحمد.
فتح الاسكندرية على يدي أسد الدين شير كوه
ثم أشار أسد الدين بالمسير [إِلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ] فَمَلَكَهَا وَجَبَى أَمْوَالَهَا، وَاسْتَنَابَ عَلَيْهَا ابْنَ أَخِيهِ صَلَاحَ الدِّينِ يُوسُفَ وَعَادَ إِلَى الصَّعِيدِ فَمَلَكَهُ، وَجَمَعَ مِنْهُ أَمْوَالًا جَزِيلَةً جِدًّا، ثُمَّ إِنَّ الْفِرِنْجَ

(12/252)


وَالْمِصْرِيِّينَ اجْتَمَعُوا عَلَى حِصَارِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ لِيَنْتَزِعُوهَا مِنْ يَدِ صَلَاحِ الدِّينِ، وَذَلِكَ فِي غيبة عمه في الصعيد، وامتنع فيها صلاح الدين أَشَدَّ الِامْتِنَاعِ، وَلَكِنْ ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَقْوَاتُ وَضَاقَ عَلَيْهِمُ الْحَالُ جِدًّا، فَسَارَ إِلَيْهِمْ أَسَدُ الدِّينِ فَصَالَحَهُ شَاوَرُ الْوَزِيرُ عَنِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ بِخَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَخَرَجَ صَلَاحُ الدِّينِ مِنْهَا وَسَلَّمَهَا إِلَى الْمِصْرِيِّينَ، وَعَادَ إِلَى الشَّامِ في منتصف شوال، وَقَرَّرَ شَاوَرُ للْفِرِنْجِ عَلَى مِصْرَ فِي كُلِّ سَنَةٍ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَأَنْ يَكُونَ لَهُمْ شحنة بالقاهرة، وعادوا إِلَى بِلَادِهِمْ بَعْدَ أَنْ كَانَ الْمَلِكُ نُورُ الدين أعقبهم في بلادهم، وفتح من بلادهم حصونا كثيرة، وقتل منهم خلقا من الرجال، وأسر جما غفيرا من النساء والأطفال، وغنم شيئا كثيرا من الأمتعة والأموال وللَّه الْحَمْدُ. وَكَانَ مَعَهُ أَخُوهُ قُطْبُ الدِّينِ مودود فأطلق له الرقة فسار فتسلمها. وفيها فِي شَعْبَانَ مِنْهَا كَانَ قُدُومُ الْعِمَادِ الْكَاتِبِ مِنْ بَغْدَادَ إِلَى دِمَشْقَ، وَهُوَ أَبُو حَامِدٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَصْبَهَانِيُّ، صَاحِبُ الْفَتْحِ الْقُدْسِيِّ، والبرق الشامي، والجريدة، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمُصَنَّفَاتِ، فَأَنْزَلَهُ قَاضِي الْقُضَاةِ كَمَالُ الدَّيْنِ الشَّهْرُزُورِيُّ بِالْمَدْرَسَةِ النُّورِيَّةِ الشَّافِعِيَّةِ دَاخِلَ بَابِ الْفَرَجِ، فَنُسِبَتْ إِلَيْهِ لِسُكْنَاهُ بِهَا، فَيُقَالُ لَهَا الْعِمَادِيَّةُ، ثُمَّ وَلِيَ تَدْرِيسَهَا فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَسِتِّينَ بَعْدَ الشَّيْخِ الْفَقِيهِ ابْنِ عَبْدٍ [1] وَأَوَّلُ مَنْ جَاءَ لِلسَّلَامِ عَلَيْهِ نَجْمُ الدِّينِ أيوب كانت له وبه مَعْرِفَةٌ مِنْ تَكْرِيتَ، فَامْتَدَحَهُ الْعِمَادُ بِقَصِيدَةٍ ذَكَرَهَا أبو شامة، وكان أسد الدين وصلاح الدين بِمِصْرَ فَبَشَّرَهُ فِيهَا بِوِلَايَةِ صَلَاحِ الدِّينِ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ حَيْثُ يَقُولُ:
وَيَسْتَقِرُّ بِمِصْرَ يُوسُفٌ وَبِهِ ... تَقَرُّ بَعْدَ التَّنَائِي عَيْنُ يَعْقُوبِ
وَيَلْتَقِي يُوسُفٌ بها بِإِخْوَتِهِ ... وَاللَّهُ يَجْمَعُهُمْ مِنْ غَيرْ تَثْرِيبِ
ثُمَّ تولى عماد الدين كتابة الإنشاء للملك نور الدين محمود.
وممن توفى فيها من الأعيان.
برغش أَمِيرُ الْحَاجِّ سِنِينَ مُتَعَدِّدَةً
كَانَ مُقَدَّمًا عَلَى الْعَسَاكِرِ، خَرَجَ مِنْ بَغْدَادَ لِقِتَالِ شُمْلَةَ التُّرْكُمَانِيِّ فَسَقَطَ عَنْ فَرَسِهِ فَمَاتَ.
أَبُو الْمَعَالِي الْكَاتِبُ
محمد بْنُ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ حمدون، صاحب التذكرة الحمد ونية، وَقَدْ وَلِيَ دِيوَانَ الزِّمَامِ مُدَّةً، تُوُفِّيَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَدُفِنَ بِمَقَابِرِ قُرَيْشٍ.
الرَّشِيدُ الصَّدَفِيُّ
كَانَ يَجْلِسُ بَيْنَ يَدَيِ الْعَبَّادِيِّ عَلَى الْكُرْسِيِّ، كَانَتْ لَهُ شَيْبَةٌ وَسَمْتٌ وَوَقَارٌ، وَكَانَ يُدْمِنُ حضور السماعات، ويرقص، فَاتَّفَقَ أَنَّهُ مَاتَ وَهُوَ يَرْقُصُ فِي بَعْضِ السماعات.
__________
[1] بياض بنسخة الاستانة ولم يكن بالمصرية بياض.

(12/253)


ثم دخلت سنة ثلاث وستين وخمسمائة
فِي صَفَرٍ مِنْهَا وَصَلَ شَرَفُ الدِّينِ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الْبَلَدِيِّ مِنْ وَاسِطٍ إِلَى بَغْدَادَ، فَخَرَجَ الْجَيْشُ لِتَلَقِّيهِ وَالنَّقِيبَانِ وَالْقَاضِي، وَمَشَى النَّاسُ بَيْنَ يَدَيْهِ إِلَى الدِّيوَانِ فَجَلَسَ فِي دَسْتِ الْوِزَارةِ، وَقُرِئَ عُهْدُهُ وَلُقِّبَ بِالْوَزِيرِ شَرَفِ الدِّينِ جلال الإسلام معز الدولة سيد الوزارء صَدْرِ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ. وَفِيهَا أَفْسَدَتْ خَفَاجَةُ فِي الْبِلَادِ وَنَهَبُوا الْقُرَى، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ جَيْشٌ مِنْ بَغْدَادَ فَهَرَبُوا فِي الْبَرَارِي فَانْحَسَرَ الْجَيْشُ عَنْهُمْ خَوْفًا مِنَ الْعَطَشِ، فَكَرُّوا عَلَى الْجَيْشِ فَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا وَأَسَرُوا آخَرِينَ، وَكَانَ قَدْ أَسَرَ الْجَيْشُ مِنْهُمْ خَلْقًا فَصُلِبُوا عَلَى الْأَسْوَارِ. وَفِي شوال منها وصلت امرأة الملك نور الدين محمود ابن زَنْكِيٍّ إِلَى بَغْدَادَ تُرِيدُ الْحَجَّ مِنْ هُنَاكَ، وَهِيَ السِّتُّ عِصْمَتُ الدِّينِ خَاتُونُ بِنْتُ مُعِينِ الدين، ومعها الخدم والخدام، وفيهم صندل الخادم، وحملت لها الامامات وَأُكْرِمَتْ غَايَةَ الْإِكْرَامِ. وَفِيهَا مَاتَ قَاضِي قُضَاةِ بغداد جعفر، فشغر البلد عن حاكم ثلاثا وعشرين يوما، حتى ألزموا روح بن الحدثنى قاضى القضاة في رابع رجب.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
جَعْفَرُ بْنُ عبد الواحد
أبو البركات الثقفي، قاضى قضاة بغداد بعد أبيه، ولد سنة تسع وعشرين وخمسمائة، وَسَبَبُ وَفَاتِهِ أَنَّهُ طُلِبَ مِنْهُ مَالٌ وَكَلَّمَهُ الْوَزِيرُ ابْنُ الْبَلَدِيِّ كَلَامًا خَشِنًا فَخَافَ فَرَمَى الدم ومات.
أَبُو سَعْدٍ السَّمْعَانِيُّ
عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَنْصُورٍ، أَبُو سَعْدٍ السَّمْعَانِيُّ، رَحَلَ إِلَى بَغْدَادَ فَسَمِعَ بِهَا وَذَيَّلَ عَلَى تَارِيخِهَا لِلْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ، وَقَدْ نَاقَشَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمُنْتَظَمِ، وَذَكَرَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَتَعَصَّبُ عَلَى أَهْلِ مَذْهَبِهِ، وَيَطْعَنُ فِي جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ، وَأَنَّهُ يُتَرْجِمُ بِعِبَارَةٍ عَامِّيَّةٍ، مِثْلَ قَوْلِهِ عَنْ بَعْضِ الشِّيخَاتِ إِنَّهَا كَانَتْ عَفِيفَةً. وَعَنِ الشَّاعِرِ الْمَشْهُورِ بِحَيْصَ بَيْصَ إِنَّهُ كَانَتْ لَهُ أُخْتٌ يُقَالُ لَهَا دَخَلَ خَرَجَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
عَبْدُ الْقَاهِرِ بْنُ محمد
ابن عبد الله أَبُو النَّجِيبِ السُّهْرَوَرْدِيُّ، كَانَ يَذْكُرُ أَنَّهُ مِنْ سلالة أبى بكر الصديق رضى الله عنه سَمِعَ الْحَدِيثَ وَتَفَقَّهَ وَأَفْتَى وَدَرَّسَ بِالنِّظَامِيَّةِ وَابْتَنَى لِنَفْسِهِ مَدْرَسَةً وَرِبَاطًا، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ مُتَصَوِّفًا يَعِظُ النَّاسَ، وَدُفِنَ بِمَدْرَسَتِهِ.
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الحميد
ابن أَبِي الْحُسَيْنِ أَبُو الْفَتْحِ الرَّازِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِالْعَلَاءِ الْعَالِمِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ سَمَرْقَنْدَ، وَكَانَ مِنَ الْفُحُولِ فِي الْمُنَاظَرَةِ، وَلَهُ طَرِيقَةٌ فِي الْخِلَافِ وَالْجَدَلِ، يُقَالُ لَهَا التَّعْلِيقَةُ الْعَالَمِيَّةُ. قَالَ ابْنُ الجوزي وقد قدم بَغْدَادَ وَحَضَرَ مَجْلِسِي، وَقَالَ أَبُو سَعْدٍ السَّمْعَانِيُّ: كان يد من شرب الخمر. قال وَكَانَ يَقُولُ لَيْسَ فِي الدُّنْيَا أَطْيَبُ مِنْ كتاب المناظرة وباطية من خمر أَشْرَبُ مِنْهَا. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: ثُمَّ بَلَغَنِي عنه

(12/254)


أَنَّهُ أَقْلَعَ عَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ وَالْمُنَاظَرَةِ وَأَقْبَلَ على النسك والخير.
يوسف بن عبد الله
ابن بُنْدَارٍ الدِّمَشْقِيُّ، مُدَرِّسُ النِّظَامِيَّةِ بِبَغْدَادَ، تَفَقَّهَ عَلَى أَسْعَدَ الْمِيهَنِيِّ، وَبَرَعَ فِي الْمُنَاظَرَةِ وَكَانَ يَتَعَصَّبُ لِلْأَشْعَرِيَّةِ، وَقَدْ بَعَثَ رَسُولًا فِي هَذِهِ السَّنَةِ إِلَى شُمْلَةَ التُّرْكُمَانِيِّ فَمَاتَ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ.
ثم دخلت سنة أربع وستين وخمسمائة
فِيهَا كَانَ فَتْحُ مِصْرَ عَلَى يَدَيِ الْأَمِيرِ أَسَدِ الدِّينِ شِيرَكُوهْ وَفِيهَا طَغَتِ الْفِرِنْجُ بِالدِّيَارِ المصرية، وذلك أنهم جعلوا شاور شحنة لهم بها، وتحكموا في أموالها ومساكنها أفواجا أفواجا، وَلَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْ أَنْ يَسْتَحْوِذُوا عَلَيْهَا ويخرجوا منها أهلها من المسلمين، وقد سكنها أكثر شجعانهم، فلما سمع الفرنج بذلك جاءوا إليها من كل فج وناحية صحبة مَلِكِ عَسْقَلَانَ فِي جَحَافِلَ هَائِلَةٍ، فَأَوَّلُ مَا أخذوا مدينة بلبيس وقتلوا من أهلها خلقا وأسروا آخرين، ونزلوا بها وتزكوا بها أثقالهم، وجعلوها موئلا ومعقلا لهم، ثم ساروا فَنَزَلُوا عَلَى الْقَاهِرَةِ مِنْ نَاحِيَةِ بَابِ الْبَرْقِيَّةِ، فَأَمَرَ الْوَزِيرُ شَاوَرُ النَّاسَ أَنْ يَحْرِقُوا مِصْرَ، وأن ينتقل الناس منها إلى القاهرة، فنهبوا الْبَلَدُ وَذَهَبَ لِلنَّاسِ أَمْوَالٌ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَبَقِيَتِ النَّارُ تَعْمَلُ فِي مِصْرَ أَرْبَعَةً وَخَمْسِينَ يَوْمًا، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَرْسَلَ صَاحِبُهَا الْعَاضِدُ يَسْتَغِيثُ بِنُورِ الدِّينِ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ بِشُعُورِ نِسَائِهِ يَقُولُ أَدْرِكْنِي وَاسْتَنْقِذْ نِسَائِيَ مِنْ أَيْدِي الْفِرِنْجِ، وَالْتَزَمَ لَهُ بِثُلُثِ خَرَاجِ مِصْرَ عَلَى أَنْ يَكُونَ أَسَدُ الدين مقيما بها عندهم، والتزم له بأقطاعات زَائِدَةٌ عَلَى الثُّلُثِ، فَشَرَعَ نُورُ الدِّينِ فِي تجهيز الجيوش إلى مصر، فَلَمَّا اسْتَشْعَرَ الْوَزِيرُ شَاوَرُ بِوُصُولِ الْمُسْلِمِينَ أَرْسَلَ إلى ملك الفرنج يقول قد عرفت محبتي ومودتي لكم، وَلَكِنَّ الْعَاضِدَ وَالْمُسْلِمِينَ لَا يُوَافِقُونِي عَلَى تَسْلِيمِ الْبَلَدِ، وَصَالَحَهُمْ لِيَرْجِعُوا عَنِ الْبَلَدِ بِأَلْفِ أَلْفِ دينار، وعجل لهم من ذلك ثمانمائة ألف دينار، فانشمروا راجعين إلى بلادهم خوفا من عساكر نُورِ الدِّينِ، وَطَمَعًا فِي الْعَوْدَةِ إِلَيْهَا مَرَّةً ثَانِيَةً، وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَالله خَيْرُ الْماكِرِينَ 3: 54. ثُمَّ شَرَعَ الْوَزِيرُ شَاوَرُ فِي مُطَالَبَةِ النَّاسِ بالذهب الّذي صالح به الفرنج وتحصيله، وَضَيَّقَ عَلَى النَّاسِ مَعَ مَا نَالَهُمْ مِنَ الضيق والحريق والخوف، فجبر الله مصابهم بقدوم عساكر المسلمين عليهم وهلاك الوزير على يديهم، وذلك أن نور الدين استدعى الأمير أسد الدين من حمص إلى حلب فساق إليه هذه المسافة وقطعها في يوم واحد، فإنه قام من حمص بعد أن صلى الصبح ثم دخل منزله فأصاب فيه شيئا من الزاد، ثم ركب وقت طلوع الشمس فدخل حلب على السلطان نور الدين من آخر ذلك اليوم، ويقال إن هذا لم يتفق لغيره إلا للصحابة، فسر بذلك نور الدين فقدمه على العساكر وَأَنْعَمَ عَلَيْهِ بِمِائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ وَأَضَافَ إِلَيْهِ من الأمراء الأعيان، كل منهم يبتغى بمسيره رضى الله والجهاد في سبيله، وكان من جملة الأمراء ابْنُ أَخِيهِ صَلَاحُ الدِّينِ يُوسُفُ بْنُ أَيُّوبَ، وَلَمْ يَكُنْ مُنْشَرِحًا لِخُرُوجِهِ هَذَا بَلْ كَانَ كارها

(12/255)


له، وقد قال الله تعالى (قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ) 3: 26 الآية، وأضاف إليه ستة آلاف من التركمان، وجعل أسد الدين مقدما على هذه العساكر كلها، فسار بهم من حلب إلى دمشق ونور الدين معهم، فجهزه من دمشق إلى الديار المصرية، وأقام نور الدين بدمشق، وَلَمَّا وَصَلَتِ الْجُيُوشُ النُّورِيَّةُ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَجَدُوا الْفِرِنْجَ قَدِ انْشَمَرُوا عَنِ الْقَاهِرَةِ رَاجِعِينَ إِلَى بِلَادِهِمْ بِالصَّفْقَةِ الْخَاسِرَةِ، وَكَانَ وُصُولُهُ إِلَيْهَا فِي سَابِعِ رَبِيعٍ الْآخَرِ، فَدَخَلَ الْأَمِيرُ أَسَدُ الدِّينِ عَلَى الْعَاضِدِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فَخَلَعَ عَلَيْهِ خِلْعَةً سَنِيَّةً فَلَبِسَهَا وَعَادَ إِلَى مُخَيَّمِهِ بِظَاهِرِ الْبَلَدِ، وَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِقُدُومِهِ، وَأُجْرِيَتْ عَلَيْهِمُ الجرايات، وَحُمِلَتْ إِلَيْهِمُ التُّحَفُ وَالْكَرَامَاتُ، وَخَرَجَ وُجُوهُ النَّاسِ إلى المخيم خدمة لأسد الدين، وَكَانَ فِيمَنْ جَاءَ إِلَيْهِ الْمُخَيَّمَ الْخَلِيفَةُ الْعَاضِدُ مُتَنَكِّرًا، فَأَسَرَّ إِلَيْهِ أُمُورًا مُهِمَّةً مِنْهَا قَتْلُ الوزير شاور، وقرر ذلك معه وأعظم أمر الأمير أَسَدِ الدِّينِ، وَلَكِنْ شَرَعَ يُمَاطِلُ بِمَا كَانَ التزمه للملك نور الدين، وهو مع ذلك يتردد إلى أَسَدِ الدِّينِ، وَيَرْكَبُ مَعَهُ، وَعَزَمَ عَلَى عَمَلِ ضِيَافَةٍ لَهُ فَنَهَاهُ أَصْحَابُهُ عَنِ الْحُضُورِ خَوْفًا عَلَيْهِ مِنْ غَائِلَتِهِ، وَشَاوَرُوهُ فِي قَتْلِ شَاوَرَ فَلَمْ يُمَكِّنْهُمُ الْأَمِيرُ أَسَدُ الدِّينِ مِنْ ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ جَاءَ شَاوَرُ إلى منزل أَسَدِ الدِّينِ فَوَجَدَهُ قَدْ ذَهَبَ لِزِيَارَةِ قَبْرِ الشافعيّ، وإذا ابن أخيه يوسف هنالك فأمر صلاح الدين يوسف بالقبض على الوزير شاور، وَلَمْ يُمْكِنْهُ قَتْلُهُ إِلَّا بَعْدَ مُشَاوَرَةِ عَمِّهِ أسد الدين وَانْهَزَمَ أَصْحَابُهُ فَأَعْلَمُوا الْعَاضِدَ لَعَلَّهُ يَبْعَثُ يُنْقِذُهُ، فأرسل العاضد إِلَى الْأَمِيرِ أَسَدِ الدِّينِ يَطْلُبُ مِنْهُ رَأْسَهُ، فَقُتِلَ شَاوَرُ وَأَرْسَلُوا بِرَأْسِهِ إِلَى الْعَاضِدِ فِي سَابِعَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْآخَرِ، فَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ وَأَمَرَ أَسَدُ الدِّينِ بِنَهْبِ دَارِ شَاوَرَ، فَنُهِبَتْ، وَدَخَلَ أَسَدُ الدِّينِ عَلَى الْعَاضِدِ فَاسْتَوْزَرَهُ وَخَلَعَ عَلَيْهِ خِلْعَةً عَظِيمَةً، وَلَقَّبَهُ الْمَلِكَ الْمَنْصُورَ، فَسَكَنَ دَارَ شَاوَرَ وَعَظُمَ شَأْنُهُ هُنَالِكَ، وَلَمَّا بَلَغَ نُورَ الدِّينِ خَبَرُ فَتْحِ مِصْرَ فَرِحَ بِذَلِكَ وَقَصَدَتْهُ الشُّعَرَاءُ بِالتَّهْنِئَةِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَنْشَرِحْ لكون أسد الدين صار وزيرا للعاضد، وَكَذَلِكَ لَمَّا انْتَهَتِ الْوِزَارَةُ إِلَى ابْنِ أَخِيهِ صلاح الدين، فشرع نور الدين فِي إِعْمَالِ الْحِيلَةِ فِي إِزَالَةِ ذَلِكَ فَلَمْ يَتَمَكَّنْ، وَلَا قَدَرَ عَلَيْهِ، وَلَا سِيَّمَا أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ صَلَاحَ الدِّينِ اسْتَحْوَذَ عَلَى خَزَائِنِ العاضد كما سيأتي بيانه إن شاء الله، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَرْسَلَ أَسَدُ الدِّينِ إِلَى الْقَصْرِ يَطْلُبُ كَاتِبًا فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ الْقَاضِيَ الْفَاضِلَ رَجَاءَ أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ إِذَا قَالَ وَأَفَاضَ فِيمَا كَانُوا يُؤَمِّلُونَ، وَبَعَثَ أَسَدُ الدِّينِ الْعُمَّالَ فِي الْأَعْمَالِ وَأَقْطَعَ الْإِقْطَاعَاتِ، وَوَلَّى الْوِلَايَاتِ، وَفَرِحَ بِنَفْسِهِ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ، فَأَدْرَكَهُ حِمَامُهُ فِي يَوْمِ السَّبْتِ الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ شَهْرَيْنِ وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ أَسَدُ الدِّينِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَشَارَ الْأُمَرَاءُ الشَّامِيُّونَ عَلَى الْعَاضِدِ بِتَوْلِيَةِ صَلَاحِ الدِّينِ يُوسُفَ الوزارة بعد عمه، فولاه العاضد الْوِزَارَةَ وَخَلَعَ عَلَيْهِ خِلْعَةً سَنِيَّةً، وَلَقَّبَهُ الْمَلِكَ الناصر.

(12/256)


صِفَةُ الْخِلْعَةِ الَّتِي لَبِسَهَا صَلَاحُ الدِّينِ يَوْمَئِذٍ
مما ذكره أَبُو شَامَةَ فِي الرَّوْضَتَيْنِ عِمَامَةٌ بَيْضَاءُ تِنِّيسِيٌّ بطرف ذهب، وثوب ديبقي بِطِرَازِ ذَهَبٍ وَجُبَّةٌ بِطِرَازِ ذَهَبٍ، وَطَيْلَسَانُ بِطِرَازٍ مُذَهَّبَةٍ، وَعَقْدُ جَوْهَرٍ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِينَارٍ، وَسَيْفٌ محلى بخمسة آلاف دينار، وحجزة بثمانية آلاف دينار، وعليها طوق ذهب وسر فسار ذَهَبٍ مُجَوْهَرٌ، وَفِي رَأْسِهَا مِائَتَا حَبَّةِ جَوْهَرٍ، وَفِي قَوَائِمِهَا أَرْبَعَةُ عُقُودِ جَوْهَرٍ، وَفِي رَأْسِهَا قصبة ذهب فيها تندة بَيْضَاءُ بِأَعْلَامٍ بِيضٍ وَمَعَ الْخِلْعَةِ عِدَّةُ بُقَجٍ، وَخَيْلٌ وَأَشْيَاءُ أُخَرُ، وَمَنْشُورُ الْوِزَارَةِ مَلْفُوفٌ بِثَوْبٍ أَطْلَسَ أَبْيَضَ، وَذَلِكَ فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ، مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا، وَسَارَ الْجَيْشُ بِكَمَالِهِ فِي خِدْمَتِهِ، لَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْهُ سِوَى عَيْنِ الدَّوْلَةِ الياروقى، وقال: لَا أَخْدِمُ يُوسُفَ بَعْدَ نُورِ الدِّينِ، ثُمَّ سَارَ بِجَيْشِهِ إِلَى الشَّامِ فَلَامَهُ نُورُ الدِّينِ عَلَى ذَلِكَ، وَأَقَامَ الْمَلِكُ صَلَاحُ الدِّينِ بِمِصْرَ بِصِفَةِ نَائِبٍ لِلْمَلِكِ نُورِ الدِّينِ، يَخْطُبُ لَهُ على المنابر بالديار المصرية، ويكاتبه بالأمير الاسفهلار صَلَاحِ الدِّينِ وَيَتَوَاضَعُ لَهُ صَلَاحُ الدِّينِ فِي الْكُتُبِ وَالْعَلَامَةِ، لَكِنْ قَدِ الْتَفَّتْ عَلَيْهِ الْقُلُوبُ، وَخَضَعَتْ لَهُ النُّفُوسُ، وَاضْطُهِدَ الْعَاضِدُ فِي أَيَّامِهِ غَايَةَ الِاضْطِهَادِ، وَارْتَفَعَ قَدْرُ صَلَاحِ الدِّينِ بَيْنَ الْعِبَادِ بِتِلْكَ الْبِلَادِ، وَزَادَ فِي إِقْطَاعَاتِ الَّذِينَ مَعَهُ فَأَحَبُّوهُ وَاحْتَرَمُوهُ وَخَدَمُوهُ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ نُورُ الدِّينِ يُعَنِّفُهُ عَلَى قَبُولِ الْوِزَارَةِ بِدُونِ مَرْسُومِهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُقَيِّمَ حِسَابَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَى ذَلِكَ وَجَعَلَ نُورُ الدين يقول في غضون ذلك: ملك ابن أيوب. وأرسل [صلاح الدين] إلى نُورِ الدِّينِ يَطْلُبُ مِنْهُ أَهْلَهُ وَإِخْوَتَهُ وَقَرَابَتَهُ، فَأَرْسَلَهُمْ إِلَيْهِ وَشَرَطَ عَلَيْهِمُ السَّمْعَ وَالطَّاعَةَ لَهُ، فاستقر أمره بمصر وتوطأت دَوْلَتَهُ بِذَلِكَ، وَكَمَلَ أَمْرُهُ وَتَمَكَّنَ سُلْطَانُهُ وَقَوِيَتْ أَرْكَانُهُ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فِي قَتْلِ صلاح الدين لشاور الوزير
هيا لمصر حور يُوسُفَ مُلْكَهَا ... بِأَمْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ كَانَ مَوْقُوتَا
وَمَا كَانَ فِيهَا قَتْلُ يُوسُفَ شَاوَرًا ... يُمَاثِلُ إِلَّا قَتْلَ دَاوُدَ جَالُوتَا
قَالَ أَبُو شَامَةَ: وَقَتَلَ الْعَاضِدُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَوْلَادَ شَاوَرَ وَهُمْ شُجَاعٌ الْمُلَقَّبُ بِالْكَامِلِ وَالطَّارِيُّ الْمُلَقَّبُ بِالْمُعَظَّمِ، وَأَخُوهُمَا الْآخَرُ الْمُلَقَّبُ بِفَارِسِ الْمُسْلِمِينَ، وَطِيفَ بِرُءُوسِهِمْ بِبِلَادِ مِصْرَ.
ذِكْرُ قَتْلِ الطَّوَاشِيِّ
مُؤْتَمَنِ الْخِلَافَةِ وَأَصْحَابِهِ عَلَى يَدَيْ صَلَاحِ الدِّينِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَتَبَ مِنْ دَارِ الْخِلَافَةِ بِمِصْرَ إِلَى الْفِرِنْجِ لِيَقْدَمُوا إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ لِيُخْرِجُوا مِنْهَا الْجُيُوشَ الإسلامية الشامية، وكان الّذي يفد بالكتاب إليهم الطواشى مُؤْتَمَنُ الْخِلَافَةِ، مُقَدَّمُ الْعَسَاكِرِ بِالْقَصْرِ، وَكَانَ حَبَشِيًّا، وأرسل الكتاب مَعَ إِنْسَانٍ أَمِنَ إِلَيْهِ، فَصَادَفَهُ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ مَنْ أَنْكَرَ حَالَهُ، فَحَمَلَهُ إِلَى الْمَلِكِ صَلَاحِ الدِّينِ فَقَرَّرَهُ، فَأَخْرَجَ الْكِتَابَ فَفَهِمَ صَلَاحُ الدين الحال فكتمه، واستشعر الطواشى مؤتمن الدولة أن صَلَاحَ الدِّينِ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى الْأَمْرِ

(12/257)


فَلَازَمَ الْقَصْرَ مُدَّةً طَوِيلَةً خَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ، ثُمَّ عَنَّ لَهُ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ أَنْ خرج إلى الصيد، فأرسل صَلَاحُ الدِّينِ إِلَيْهِ مَنْ قَبَضَ عَلَيْهِ وَقَتْلَهُ وَحَمَلَ رَأْسَهُ إِلَيْهِ، ثُمَّ عَزَلَ جَمِيعَ الْخُدَّامِ الَّذِينَ يَلُونَ خِدْمَةَ الْقَصْرِ، وَاسْتَنَابَ عَلَى الْقَصْرِ عِوَضَهُمْ بَهَاءَ الدِّينِ قَرَاقُوشَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُطَالِعَهُ بِجَمِيعِ الْأُمُورِ، صِغَارِهَا وَكِبَارِهَا
وَقْعَةُ السُّودَانِ
وَذَلِكَ أنه لما قتل الطواشى مؤتمن الخلافة الْحَبَشِيُّ، وَعُزِلَ بَقِيَّةُ الْخُدَّامِ غَضِبُوا لِذَلِكَ، وَاجْتَمَعُوا قَرِيبًا مِنْ خَمْسِينَ أَلْفًا، فَاقْتَتَلُوا هُمْ وَجَيْشُ صَلَاحِ الدِّينِ بَيْنَ الْقَصْرَيْنِ، فَقُتِلَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَكَانَ الْعَاضِدُ يَنْظُرُ مِنَ الْقَصْرِ إِلَى الْمَعْرَكَةِ، وَقَدْ قُذِفَ الْجَيْشُ الشَّامِيُّ مِنَ الْقَصْرِ بِحِجَارَةٍ، وَجَاءَهُمْ مِنْهُ سِهَامٌ فَقِيلَ كَانَ ذلك بأمر العاضد، وَقِيلَ لَمْ يَكُنْ بِأَمْرِهِ. ثُمَّ إِنَّ أَخَا الناصر نور شاه شمس الدولة- وَكَانَ حَاضِرًا لِلْحَرْبِ قَدْ بَعَثَهُ نُورُ الدِّينِ لِأَخِيهِ لِيَشُدَّ أَزْرَهُ- أَمَرَ بِإِحْرَاقِ مَنْظَرَةِ الْعَاضِدِ، فَفُتِحَ الْبَابُ وَنُودِيَ إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُخْرِجُوا هَؤُلَاءِ السُّودَانَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِكُمْ، وَمِنْ بِلَادِكُمْ، فَقَوِيَ الشَّامِيُّونَ وَضَعُفَ جَأْشُ السُّودَانِ جدا، وأرسل السلطان إلى محلة السودان الْمَعْرُوفَةِ بِالْمَنْصُورَةِ، الَّتِي فِيهَا دُورُهُمْ وَأَهْلُوهُمْ بِبَابِ زُوَيْلَةَ فَأَحْرَقَهَا، فَوَلَّوْا عِنْدَ ذَلِكَ مُدْبِرِينَ، وَرَكِبَهُمُ السَّيْفُ فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، ثُمَّ طَلَبُوا الأمان فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، وَأَخْرَجَهُمْ إِلَى الْجِيزَةِ، ثُمَّ خرج لهم شمس الدولة نور شاه أَخُو الْمَلِكِ صَلَاحِ الدِّينِ فَقَتَلَ أَكْثَرَهُمْ أَيْضًا، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا الْقَلِيلُ، فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوية بما ظلموا.
وفيها افتتح نور الدين قَلْعَةَ جَعْبَرَ وَانْتَزَعَهَا مِنْ يَدِ صَاحِبِهَا شِهَابِ الدين مالك بن على الْعَقِيلِيِّ وَكَانَتْ فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ أَيَّامِ السُّلْطَانِ ملك شاه. وَفِيهَا احْتَرَقَ جَامِعُ حَلَبَ فَجَدَّدَهُ نُورُ الدِّينِ. وفيها مات ما روق الّذي تنسب إليه المحلة بظاهر حلب.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ.
سَعْدُ اللَّهِ بْنُ نَصْرِ بْنِ سَعِيدٍ الدَّجَاجِيُّ
أَبُو الْحَسَنِ الواعظ الحنبلي، ولد سَنَةِ ثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ وَتَفَقَّهَ وَوَعَظَ، وَكَانَ لَطِيفَ الْوَعْظِ، وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي ذَلِكَ، وَذَكَرَ أَنَّهُ سُئِلَ مَرَّةً عَنْ أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ فَنَهَى عَنِ التَّعَرُّضِ لِذَلِكَ وأنشد:
أبى الغائب الغضبان يا نفس أن ترضى ... وَأَنْتِ الَّذِي صَيَّرْتِ طَاعَتَهُ فَرْضَا
فَلَا تَهْجُرِي مَنْ لَا تُطِيقِينَ هَجْرَهُ ... وَإِنْ هَمَّ بِالْهُجْرَانِ خَدَّيْكِ وَالْأَرْضَا
وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: خِفْتُ مَرَّةً مِنَ الْخَلِيفَةِ فَهَتَفَ بِي هَاتِفٌ فِي الْمَنَامِ وَقَالَ لِي اكْتُبْ
ادْفَعْ بِصَبْرِكَ حَادِثَ الْأَيَّامِ ... وَتَرَجَّ لُطْفَ الْوَاحِدِ الْعَلَّامِ
لَا تَيْأَسَنَّ وَإِنْ تَضَايَقَ كَرْبُهَا ... وَرَمَاكَ رَيْبُ صروفها بسهام

(12/258)


فَلَهُ تَعَالَى بَيْنَ ذَلِكَ فَرْجَةٌ ... تَخْفَى عَلَى الافهام وَالْأَوْهَامِ
كَمْ مَنْ نَجَا مِنْ بَيْنِ أَطْرَافِ الْقَنَا ... وَفَرِيسَةٍ سَلِمَتْ مِنَ الضِّرْغَامِ
تُوُفِّيَ فِي شَعْبَانَ مِنْهَا عَنْ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَدُفِنَ عند رباط الزورى ثُمَّ نُقِلَ إِلَى مَقْبَرَةِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ
شَاوَرُ بْنُ مُجِيرِ الدِّينِ
أَبُو شُجَاعٍ السَّعْدِيُّ، الْمُلَقَّبُ أَمِيرَ الْجُيُوشِ، وَزِيرُ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ أَيَّامَ الْعَاضِدِ، وَهُوَ الَّذِي انْتَزَعَ الْوِزَارَةَ مِنْ يَدَيْ رُزِّيكَ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنِ اسْتَكْتَبَ الْقَاضِيَ الْفَاضِلَ، اسْتَدْعَى بِهِ مِنْ إِسْكَنْدَرِيَّةَ مِنْ بَابِ السِّدْرَةِ فَحَظِيَ عِنْدَهُ وَانْحَصَرَ مِنْهُ الْكُتَّابُ بِالْقَصْرِ، لَمَّا رَأَوْا مِنْ فَضْلِهِ وَفَضِيلَتِهِ. وَقَدِ امْتَدَحَهُ الشُّعَرَاءُ مِنْهُمْ عُمَارَةُ الْيَمَنِيُّ حَيْثُ يَقُولُ:
ضَجِرَ الْحَدِيدُ مِنَ الحديد وشاور ... من نَصْرِ دِينِ مُحَمَّدٍ لَمْ يَضْجَرِ
حَلَفَ الزَّمَانُ ليأتين بمثله ... حنثت بمينك يَا زَمَانُ فَكَفِّرِ
وَلَمْ يَزَلْ أَمْرُهُ قَائِمًا إِلَى أَنْ ثَارَ عَلَيْهِ الْأَمِيرُ ضِرْغَامُ بْنُ سوار فالتجأ إلى نُورِ الدِّينِ فَأَرْسَلَ مَعَهُ الْأَمِيرَ أَسَدَ الدِّينِ شير كوه فَنَصَرُوهُ عَلَى عَدُوِّهِ، فَنَكَثَ عَهْدَهُ فَلَمْ يَزَلْ أسد الدين حنقا عليه حتى قَتْلُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، عَلَى يَدَيِ ابْنِ أخيه صلاح الدين، ضرب عنقه بين يدي الأمير جردنك فِي السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ، وَاسْتُوزِرَ بعده أسد الدين، فَلَمْ تَطُلْ مُدَّتُهُ بَعْدَهُ إِلَّا شَهْرَيْنِ وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ. قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: هُوَ أَبُو شُجَاعٍ شَاوَرُ بْنُ مُجِيرِ الدِّينِ بْنِ نِزَارِ بْنِ عشائر بن شاس بن مغيث ابن حبيب بن الحارث بن ربيعة بن مخيس بْنِ أَبِي ذُؤَيْبٍ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ وَالِدُ حَلِيمَةَ السَّعْدِيَّةِ، كَذَا قَالَ، وَفِيمَا قَالَ نَظَرٌ لقصر هذا النسب لبعد المدة والله أعلم.
شير كوه بن شادى
أسد الدين الكردي الزرزارى وَهُمْ أَشْرَفُ شُعُوبِ الْأَكْرَادِ، وَهُوَ مِنْ قَرْيَةٍ يقال لها درين مِنْ أَعْمَالِ أَذْرَبِيجَانَ، خَدَمَ هُوَ وَأَخُوهُ نَجْمُ الدِّينِ أَيُّوبُ- وَكَانَ الْأَكْبَرَ- الْأَمِيرَ مُجَاهِدَ الدِّينِ نهروز الْخَادِمَ شِحْنَةَ الْعِرَاقِ، فَاسْتَنَابَ نَجْمَ الدِّينِ أَيُّوبَ على قلعة تكريت، فاتفق أن دخلها عِمَادُ الدِّينِ زَنْكِيٌّ هَارِبًا مِنْ قَرَاجَا السَّاقِي، فأحسنا إليه وخدماه، ثم اتفق أنه قتل رجلا من العامة فأخرجهما نهروز مِنَ الْقَلْعَةِ فَصَارَا إِلَى زَنْكِيٍّ بِحَلَبَ فَأَحْسَنَ إِلَيْهِمَا، ثُمَّ حَظِيَا عِنْدَ وَلَدِهِ نُورِ الدِّينِ مَحْمُودٍ، فَاسْتَنَابَ أَيُّوبَ عَلَى بَعْلَبَكَّ، وَأَقَرَّهُ وَلَدُهُ نُورُ الدِّينِ، وَصَارَ أَسَدُ الدِّينِ عِنْدَ نُورِ الدِّينِ أَكْبَرَ أُمَرَائِهِ، وَأَخَصَّهُمْ عِنْدَهُ وَأَقْطَعَهُ الرَّحْبَةَ وحمص مع ماله عِنْدَهُ مِنَ الْإِقْطَاعَاتِ، وَذَلِكَ لِشَهَامَتِهِ وَشَجَاعَتِهِ وَصَرَامَتِهِ وجهاده في الفرنج، في أيام معدودات ووقعات معتبرات، ولا سيما يَوْمَ فَتْحِ دِمَشْقَ، وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ مَا فَعَلَهُ بِدِيَارِ مِصْرَ، بَلَّ اللَّهُ بِالرَّحْمَةِ ثَرَاهُ وجعل الجنة مأواه، وكانت وَفَاتُهُ يَوْمَ السَّبْتِ فَجْأَةً بِخَانُوقٍ حَصَلَ لَهُ، وذلك

(12/259)


فِي الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ رَحِمَهُ اللَّهُ. قَالَ أَبُو شَامَةَ: وإليه تنسب الخانقاه الأسدية بالشرق الْقِبْلِيِّ، ثُمَّ آلَ الْأَمْرُ مِنْ بَعْدِهِ إِلَى ابْنِ أَخِيهِ صَلَاحِ الدِّينِ يُوسُفَ، ثُمَّ اسْتَوْسَقَ له الملك والممالك هنالك.
محمد بن عبد الله بن عبد الواحد
ابن سُلَيْمَانَ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْبَطِّيِّ، سَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ، وأسمع ورحل إليه وقارب التسعين.
مُحَمَّدٌ الْفَارِقِيُّ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْوَاعِظُ، يُقَالُ إنه كان يحفظ نهج البلاغة ويعبر أَلْفَاظَهُ، وَكَانَ فَصِيحًا بَلِيغًا يُكْتَبُ كَلَامُهُ وَيُرْوَى عنه كتاب يعرف بالحكم الفارقية.
المعمر بن عبد الواحد
ابن رجار أَبُو أَحْمَدَ الْأَصْبَهَانِيُّ أَحَدُ الْحُفَّاظِ الْوُعَّاظِ، رَوَى عَنْ أَصْحَابِ أَبِي نُعَيْمٍ، وَكَانَتْ لَهُ مَعْرِفَةٌ جَيِّدَةٌ بِالْحَدِيثِ، تُوُفِّيَ وَهُوَ ذَاهِبٌ إِلَى الْحَجِّ بِالْبَادِيَةِ رَحِمَهُ اللَّهُ.