والضرائب، وكذلك عن بلاد الشام ومصر، وقد
عاث الفرنج في غيبته في الأرض فسادا، فأرسل إلى عساكره فاجتمعوا
إليه، وَكَانَ قَدْ بُشِّرَ بِفَتْحِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ حِينَ
فَتَحَ حَلَبَ، وَذَلِكَ أَنَّ الْفَقِيهَ مَجْدَ الدِّينِ بْنَ
جَهْبَلٍ الشَّافِعِيَّ رَأَى فِي تَفْسِيرِ أَبِي الحكم العربيّ
عند قَوْلِهِ: (الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ) 30:
1- 3 الْآيَةَ، الْبِشَارَةَ بِفَتْحِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فِي
سَنَةِ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى
ذَلِكَ بِأَشْيَاءَ، فَكَتَبَ ذَلِكَ فِي وَرَقَةٍ وَأَعْطَاهَا
لِلْفَقِيهِ عِيسَى الْهَكَّارِيِّ، لِيُبَشِّرَ بِهَا
السُّلْطَانَ، فَلَمْ يَتَجَاسَرْ عَلَى ذَلِكَ خَوْفًا مِنْ
عَدَمِ الْمُطَابَقَةِ، فَأَعْلَمَ بِذَلِكَ الْقَاضِي مُحْيِي
الدِّينِ بْنَ الزَّكِيِّ، فَنَظَمَ مَعْنَاهَا فِي قَصِيدَةٍ
يَقُولُ فِيهَا:
وَفَتْحُكُمْ حَلَبَ الشَّهْبَاءِ فِي صَفَرٍ ... قَضَى لَكُمْ
بِافْتِتَاحِ الْقُدْسِ فِي رجب
[1] وقدمها إلى السلطان فتاقت نفسه إِلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا
افْتَتَحَهَا كَمَا سَيَأْتِي أَمَرَ ابن الزكي فخطب يومئذ وكان
يوم الجمعة، ثم بلغه بعد ذلك أن [ابن] جهبل هو الّذي قال ذلك أولا،
فأمره فدرس على نفس الصخرة درسا عظيما، فأجزل لَهُ الْعَطَاءَ،
وَأَحْسَنَ عَلَيْهِ الثَّنَاءَ.
فَصْلٌ
ثُمَّ رحل من حلب في أواخر ربيع الآخر واستخلف على حلب ولده الظاهر
غازى، وولى قضاءها لابن الزكي، فاستناب له فيها نائبا، وسار مع
السلطان، فدخلوا دمشق في ثالث جمادى الأولى وكان ذلك يوما مشهودا،
ثم برز منها خارجا إلى قتال الفرنج في أول جمادى الآخرة قاصدا نحو
بيت المقدس، فَانْتَهَى إِلَى بَيْسَانَ فَنَهَبَهَا، وَنَزَلَ
عَلَى عَيْنِ جَالُوتَ، وَأَرْسَلَ بَيْنَ يَدَيْهِ سَرِيَّةً
هَائِلَةً فِيهَا بردويل وطائفة من النورية، وجاء مملوك عمه أسد
الدين فوجدوا جيش الفرنج قاصدين إلى أصحابهم نجدة، فالتقوا معهم
فقتلوا من الفرنج خلقا وَأَسَرُوا مِائَةَ أَسِيرٍ، وَلَمْ
يُفْقَدْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ سِوَى شَخْصٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ عَادَ
فِي آخِرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَبَلَغَ السُّلْطَانَ أَنَّ
الْفِرِنْجَ قَدِ اجْتَمَعُوا لِقِتَالِهِ، فَقَصَدَهُمْ
وَتَصَدَّى لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يُصَافُّونَهُ، فالتقى معهم فقتل
منهم خلقا كثيرا، وَجَرَحَ مِثْلَهُمْ فَرَجَعُوا نَاكِصِينَ عَلَى
أَعْقَابِهِمْ خَائِفِينَ منه غاية المخافة، ولا زال جيشه خلفهم
يقتل ويأسر حتى غزوا في بلادهم فرجعوا عنهم، وَكَتَبَ الْقَاضِي
الْفَاضِلُ إِلَى الْخَلِيفَةِ يُعْلِمُهُ بِمَا من الله عليه وعلى
المسلمين من نصرة الدين، وَكَانَ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا وَلَا
يُرِيدُ أَنْ يفعله إلا أطلع عليه الْخَلِيفَةِ أَدَبًا
وَاحْتِرَامًا وَطَاعَةً وَاحْتِشَامًا.
فَصْلٌ
وَفِي رَجَبٍ سَارَ السُّلْطَانُ إِلَى الْكَرَكِ فَحَاصَرَهَا
وَفِي صحبته تقى الدين عمر بن أخيه، وقد كتب لأخيه العادل ليحضر
عنده لِيُوَلِّيَهُ حَلَبَ وَأَعْمَالَهَا وَفْقَ مَا كَانَ
طَلَبَ، واستمر الحصار على الكرك
__________
[1] وفي النجوم الزاهرة: وفتحه حلبا بالسيف في صفر مبشر بفتوح
القدس في رجب.
(12/314)
مدة شهر رجب، ولم يَظْفَرْ مِنْهَا
بِطَلَبٍ، وَبَلَغَهُ أَنَّ الْفِرِنْجَ قَدِ اجْتَمَعُوا
كُلُّهُمْ لِيَمْنَعُوا مِنْهُ الْكَرَكَ فَكَرَّ رَاجِعًا إلى
دمشق- وذلك من أكبر همته- وأرسل ابن أخيه تقى الدين إِلَى مِصْرَ
نَائِبًا، وَفِي صُحْبَتِهِ الْقَاضِي الْفَاضِلُ، وَبَعَثَ
أَخَاهُ عَلَى مَمْلَكَةِ حَلَبَ وَأَعْمَالِهَا، وَاسْتَقَدْمَ
وَلَدَهُ الظَّاهِرَ إِلَيْهِ، وَكَذَلِكَ نُوَّابَهُ وَمَنْ
يَعِزُّ عليه، وإنما أعطى أخاه حَلَبَ لِيَكُونَ قَرِيبًا مِنْهُ،
فَإِنَّهُ كَانَ لَا يقطع أمرا دونه، واقترض السلطان من أخيه
الْعَادِلِ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَتَأَلَّمَ الظَّاهِرُ بْنُ
الناصر على مفارقة حلب، وكانت إقامته بها ستة أشهر، ولكن لا يقدر
أن يظهر ما في نفسه لوالده، لكن ظهر ذلك على صفحات وجهه ولفظات
لسانه
ثم دخلت سنة ثمانين وخمسمائة هجرية
فيها أرسل الناصر إلى العساكر الحلبية والجزيرية والمصرية والشامية
أن يقدموا عليه لقتال الفرنج، فَقَدِمَ عَلَيْهِ تَقِيُّ الدِّينِ
عُمَرُ مِنْ مِصْرَ ومعه الفاضل، ومن حلب العادل، وقدمت ملوك
الجزيرة وسنجار وغيرها، فأخذ الجميع وسار نحو الْكَرَكَ
فَأَحْدَقُوا بِهَا فِي رَابِعَ عَشَرَ جُمَادَى الأولى، وركب
عليها المنجنيقات، وكانت تسعة، وأخذ في حصارها، وذلك أنه رأى أن
فتحها أنفع للمسلمين من غيرها، فان أهلها يقطعون الطريق على
الحجاج، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ بَلَغَهُ أَنَّ
الْفِرِنْجَ قَدِ اجْتَمَعُوا لَهُ كُلُّهُمْ فَارِسُهُمْ
وَرَاجِلُهُمْ، لِيَمْنَعُوا مِنْهُ الْكَرَكَ، فَانْشَمَرَ
عَنْهَا وَقَصَدَهُمْ فَنَزَلَ عَلَى حسان تجاههم، ثم صار إلى ما
عر، فَانْهَزَمَتِ الْفِرِنْجُ قَاصِدِينَ الْكَرَكَ، فَأَرْسَلَ
وَرَاءَهُمْ مَنْ قتل منهم مقتلة عظيمة، وأمر السلطان
بِالْإِغَارَةِ عَلَى السَّوَاحِلِ لِخُلُوِّهَا مِنَ
الْمُقَاتِلَةِ، فَنَهَبَتْ نابلس وما حولها من القرى
وَالرَّسَاتِيقِ، ثُمَّ عَادَ السُّلْطَانُ إِلَى دِمَشْقَ
فَأَذِنَ للعساكر في الانصراف إلى بلادهم، وأمر ابن أخيه عُمَرَ
الْمَلِكَ الْمُظَفَّرَ أَنْ يَعُودَ إِلَى مِصْرَ، وأقام هو بدمشق
ليؤدى فرض الصيام، وليجل الخيل ويحد الحسام، وقدم عَلَى
السُّلْطَانِ خِلَعُ الْخَلِيفَةِ فَلَبِسَهَا، وَأَلْبَسَ أَخَاهُ
الْعَادِلَ، وَابْنَ عَمِّهِ نَاصِرَ الدِّينِ مُحَمَّدَ بْنَ
شيركوه، ثم خلع خِلْعَتَهُ عَلَى نَاصِرِ الدِّينِ بْنِ قَرَا
أَرْسَلَانَ، صاحب حصن كيفا وآمد التي أطلقها له السلطان.
وفيها مات
صاحب المغرب
يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ بْنِ عَلِيٍّ
وَقَامَ في الملك بعده ولده يعقوب. وفي أواخرها بلغ صَلَاحُ
الدِّينِ أَنَّ صَاحِبَ الْمَوْصِلِ نَازِلٌ إِرْبِلَ فبعث صاحبها
يستصرخ به، فركب من فوره إليه، فسار إلى بعلبكّ ثُمَّ إِلَى
حَمَاةَ، فَأَقَامَ بِهَا أَيَّامًا يَنْتَظِرُ وصول العماد
إِلَيْهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ حَصَلَ لَهُ ضَعْفٌ فَأَقَامَ
ببعلبكّ، وقد أرسل إليه الفاضل من دمشق طبيبا يقال له أسعد بن
المطران، فعالجه مداواة مَنْ طَبَّ لِمَنْ حَبَّ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إحدى وثمانين وخمسمائة
استهلت والسلطان مخيم بظاهر حماه، ثم سار إلى حلب، ثم خرج منها في
صفر قاصدا الموصل فجاء إِلَى حَرَّانَ فَقَبَضَ عَلَى صَاحِبِهَا
مُظَفَّرِ الدِّينِ، وَهُوَ أَخُو زَيْنِ الدِّينِ صَاحِبِ
إِرْبِلَ، ثُمَّ رضى عنه
(12/315)
وأعاده إلى مملكته حتى يتبين خبث طويته، ثم
سار إِلَى الْمَوْصِلِ فَتَلَقَّاهُ الْمُلُوكُ مِنْ كُلِّ
نَاحِيَةٍ، وَجَاءَ إِلَى خِدْمَتِهِ عِمَادُ الدِّينِ أَبُو
بَكْرِ بن قرا أرسلان، وَسَارَ السُّلْطَانُ فَنَزَلَ عَلَى
الْإِسْمَاعِيلِيَّاتِ قَرِيبًا مِنَ الموصل، وجاءه صاحب إربل نور
الدين الّذي خضعت له ملوك تلك الناحية، ثم أرسل صلاح الدين ضياء
الدِّينِ الشَّهْرُزُورِيَّ إِلَى الْخَلِيفَةِ يُعْلِمُهُ بِمَا
عَزَمَ عَلَيْهِ مِنْ حِصَارِ الْمَوْصِلِ، وَإِنَّمَا مَقْصُودُهُ
رَدُّهُمْ إلى طاعة الخليفة، ونصرة الإسلام، فحاصرها مدة ثم رحل
عنها وَلَمْ يَفْتَحْهَا، وَسَارَ إِلَى خِلَاطَ وَاسْتَحْوَذَ
عَلَى بُلْدَانٍ كَثِيرَةٍ، وَأَقَالِيمَ جَمَّةٍ بِبِلَادِ
الْجَزِيرَةِ وَدِيَارِ بكر، وجرت أمور استقصاها ابن الأثير في
كامله، وَصَاحِبُ الرَّوْضَتَيْنِ، ثُمَّ وَقَعَ الصُّلْحُ
بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَوَاصِلَةِ، عَلَى أَنْ يَكُونُوا مَنْ
جُنْدِهِ إِذَا نَدَبَهُمْ لِقِتَالِ الْفِرِنْجِ، وَعَلَى أَنْ
يَخْطُبَ لَهُ وتضرب له السكة، ففعلوا ذَلِكَ فِي تِلْكَ
الْبِلَادِ كُلِّهَا، وَانْقَطَعَتْ خُطْبَةُ السلاجقة والازيقية
بتلك البلاد كلها، ثم اتفق مرض السلطان بعد ذلك مرضا شديدا، فكان
يتجلد ولا يظهر شيئا من الألم حَتَّى قَوِيَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ
وَتَزَايَدَ الْحَالُ، حَتَّى وَصَلَ إِلَى حَرَّانَ فَخَيَّمَ
هُنَالِكَ مِنْ شِدَّةِ ألمه، وشاع ذلك في البلاد، وخاف الناس عليه
وأرجف الكفرة والملحدون بموته، وقصده أخوه الْعَادِلُ مِنْ حَلَبَ
بِالْأَطِبَّاءِ وَالْأَدْوِيَةِ، فَوَجَدَهُ فِي غاية الضعف،
وأشار عليه بأن يوصى، فَقَالَ:
مَا أُبَالِي وَأَنَا أَتْرُكُ مِنْ بَعْدِي أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ
وَعُثْمَانَ وَعَلِيًّا- يَعْنِي أَخَاهُ العادل وَتَقِيَّ
الدِّينِ عُمَرَ صَاحِبَ حَمَاةَ وَهُوَ إِذْ ذَاكَ نَائِبُ
مِصْرَ، وَهُوَ بِهَا مُقِيمٌ، وَابْنَيْهِ العزيز عثمان والأفضل
عليا- ثم نذر لَئِنْ شَفَاهُ اللَّهُ مِنْ مَرَضِهِ هَذَا
لَيَصْرِفَنَّ همته كلها إلى قتال الفرنج، ولا يقاتل بعد ذلك
مسلما، وليجعل أَكْبَرَ هَمِّهِ فَتْحَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَلَوْ
صَرَفَ في سبيل الله جَمِيعَ مَا يَمْلِكُهُ مِنَ الْأَمْوَالِ
وَالذَّخَائِرِ، وَلَيَقْتُلَنَّ البرنس صاحب الكرك بيده، لأنه نقض
العهد وتنقبص الرسول صلى الله عليه وسلّم، وذلك أنه أخذ قافلة
ذاهبة من مصر إلى الشام، فأخذ أموالهم وضرب رقابهم، وهو يقول: أين
محمدكم؟ دعوه يَنْصُرُكُمْ، وَكَانَ هَذَا النَّذْرُ كُلُّهُ
بِإِشَارَةِ الْقَاضِي الفاضل، وهو أرشده إليه وَحَثَّهُ عَلَيْهِ،
حَتَّى عَقَدَهُ مَعَ اللَّهِ عَزَّ وجل، فعند ذلك شفاه الله
وعافاه مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ الَّذِي كَانَ فِيهِ، كَفَّارَةٌ
لذنوبه، وجاءت البشارات بذلك من كل ناحية، فدقت البشائر وزينت
البلاد، وكتب الْفَاضِلُ مِنْ دِمَشْقَ وَهُوَ مُقِيمٌ بِهَا إِلَى
المظفر عمر أن العافية الناصرية قد استقامت واستفاضت أخبارها،
وطلعت بعد الظلمة أنوارها، وظهرت بعد الاختفاء آثارها، وولت العلة
وللَّه الحمد والمنة، وطفئت نَارُهَا، وَانْجَلَى غُبَارُهَا،
وَخَمَدَ شَرَارُهَا، وَمَا كَانَتْ إلا فلتة وقى الله شرها
وشنارها، وعظمية كفى الله الإسلام عارها، وتوبة امْتَحَنَ اللَّهُ
بِهَا نُفُوسَنَا، فَرَأَى أَقَلَّ مَا عندها صبرنا، وَمَا كَانَ
اللَّهُ لِيُضِيعَ الدُّعَاءَ وَقَدْ أَخْلَصَتْهُ القلوب، ولا
تتوقف الْإِجَابَةَ وَإِنْ سَدَّتْ طَرِيقَهَا الذُّنُوبُ، وَلَا
لِيُخْلِفَ وَعْدَ فَرَجٍ وَقَدْ أَيِسَ الصَّاحِبُ
وَالْمَصْحُوبُ:
نَعِيٌّ زَادَ فِيهِ الدَّهْرُ مِيمَا ... فَأَصْبَحَ بَعْدَ
بُؤْسَاهُ نعيما
(12/316)
وما صدق النذير به لانى ... رأيت الشَّمْسَ
تَطْلُعُ وَالنُّجُومَا
وَقَدِ اسْتَقْبَلَ مَوْلَانَا السُّلْطَانُ الملك الناصر غَضَّةً
جَدِيدَةً، وَالْعُزْمَةَ مَاضِيَةً حَدِيدَةً، وَالنَّشَاطَ إِلَى
الجهاد، والتوبة لرب العباد، وَالْجَنَّةَ مَبْسُوطَةَ الْبِسَاطِ،
وَقَدِ انْقَضَى الْحِسَابُ وَجُزْنَا الصِّرَاطَ، وَعُرِضْنَا
نَحْنُ عَلَى الْأَهْوَالِ الَّتِي مِنْ خوفها كاد الجمل يلج بسم
الْخِيَاطِ. ثُمَّ رَكِبَ السُّلْطَانُ مِنْ حَرَّانَ بَعْدَ
العافية فدخل حلب، ثم ركب فدخل دمشق، وقد تكاملت عافيته، وقد كان
يوما مشهودا.
وفيها توفى من الأعيان
الْفَقِيهُ مُهَذِّبُ الدِّينِ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَسْعَدَ الْمَوْصِلِيُّ
مُدَرِّسُ حِمْصَ، وَكَانَ بَارِعًا فِي فُنُونٍ، وَلَا سِيَّمَا
فِي الشِّعْرِ وَالْأَدَبِ، وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ الْعِمَادُ،
وَالشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو شَامَةَ.
الأمير ناصر الدين محمد بن شِيرَكُوهْ
صَاحِبُ حِمْصَ وَالرَّحْبَةِ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ صَلَاحِ
الدِّينِ، وَزَوْجِ أُخْتِهِ سِتِّ الشَّامِ بِنْتِ أيوب، توفى
بحمص فنقلته زوجته إلى تربتها بالشامية البرانية، وقبره الأوسط
بينها وبين أخيها المعظم توران شاه صاحب اليمن، وقد خلف مِنَ
الْأَمْوَالِ وَالذَّخَائِرِ شَيْئًا كَثِيرًا، يُنَيِّفُ عَلَى
ألف ألف دينار توفى يوم عرفة فجأة فولى بَعْدِهِ مَمْلَكَةَ حِمْصَ
وَلَدُهُ أَسَدُ الدِّينِ شِيرَكُوهْ بأمر صلاح الدين.
المحمودي بن محمد بْنِ عَلِيِّ بْنِ إِسْمَاعِيلَ
ابْنِ عَبْدِ الرَّحِيمِ الشيخ جمال الدين أبو الثناء محمودي بن
الصابوني، كان أحد الأئمة المشهورين، وَإِنَّمَا يُقَالُ لَهُ
الْمَحْمُودِيُّ لِصُحْبَةِ جَدِّهِ السُّلْطَانَ محمود بن زنكي،
فأكرمه ثُمَّ سَارَ إِلَى مِصْرَ فَنَزَلَهَا، وَكَانَ صَلَاحُ
الدين يكرمه، وأوقف عَلَيْهِ وَعَلَى ذُرِّيَّتِهِ أَرْضًا، فَهِيَ
لَهُمْ إِلَى الآن.
الأمير الكبير سعد الدين مسعود
ابن معين الدين، كان من كبار الأمراء أَيَّامَ نُورِ الدِّينِ
وَصَلَاحِ الدِّينِ، وَهُوَ أَخُو السِّتِّ خَاتُونَ وَحِينَ
تَزَوَّجَهَا صَلَاحُ الدِّينِ زَوَّجَهُ بأخته السِّتَّ رَبِيعَةَ
خَاتُونَ بِنْتَ أَيُّوبَ، الَّتِي تُنْسَبُ إليها المدرسة
الصاحبية بسفح قيسون عَلَى الْحَنَابِلَةِ، وَقَدْ تَأَخَّرَتْ
مُدَّتُهَا فَتُوُفِّيَتْ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ
وَسِتِّمِائَةٍ، وَكَانَتْ آخِرَ مَنْ بَقِيَ مِنْ أَوْلَادِ
أَيُّوبَ لِصُلْبِهِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِدِمَشْقَ فِي جُمَادَى
الْآخِرَةِ مِنْ جُرْحٍ أَصَابَهُ وهو في حصار ميافارقين.
الست خاتون عصمت الدِّينِ
بِنْتُ مُعِينِ الدِّينِ، نَائِبِ دِمَشْقَ، وَأَتَابِكِ عساكرها
قَبْلَ نُورِ الدِّينِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ كَانَتْ زوجة نور
الدين ثُمَّ خَلَفَ عَلَيْهَا مِنْ بَعْدِهِ صَلَاحُ الدِّينِ في
سنة اثنتين وَسَبْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَكَانَتْ مِنْ أَحْسَنِ
النِّسَاءِ وَأَعَفِّهِنَّ وأكبرهن صَدَقَةً، وَهِيَ وَاقِفَةُ
الْخَاتُونِيَّةِ الْجُوَانِيَّةِ بِمَحَلَّةِ حَجَرِ الذهب،
(12/317)
وخانقات خَاتُونَ ظَاهِرَ بَابِ النَّصْرِ
فِي أَوَّلِ الشَّرَفِ الْقِبْلِيِّ عَلَى بَانِيَاسَ، وَدُفِنَتْ
بِتُرْبَتِهَا فِي سَفْحِ قائسون قريبا من قباب السركسية، وَإِلَى
جَنْبِهَا دَارُ الْحَدِيثِ الْأَشْرَفِيَّةُ وَالْأَتَابِكِيَّةُ،
وَلَهَا أَوْقَافٌ كَثِيرَةٌ غَيْرُ ذَلِكَ، وَأمَّا
الْخَاتُونِيَّةُ الْبَرَّانِيَّةُ الَّتِي عَلَى الْقَنَوَاتِ
بِمَحَلَّةِ صَنْعَاءِ الشَّامِ، وَيُعْرَفُ ذَلِكَ الْمَكَانُ
الَّتِي هِيَ فِيهِ بِتَلِّ الثَّعَالِبِ، فَهِيَ مِنْ إِنْشَاءِ
السِّتِّ زُمُرُّدَ خَاتُونَ بِنْتِ جاولى، وهي أخت الملك دقماق
لِأُمِّهِ، وَكَانَتْ زَوْجَةَ زَنْكِيٍّ وَالِدِ نُورِ الدِّينِ
مَحْمُودٍ، صَاحِبِ حَلَبَ، وَقَدْ مَاتَتْ قَبْلَ هَذَا الحين كما
تقدمت وفاتها
الْحَافِظُ الْكَبِيرُ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيُّ
مُحَمَّدُ بْنُ عمر بن محمد الأصبهاني الحافظ الموسوي
الْمَدِينِيُّ، أَحَدُ حُفَّاظِ الدُّنْيَا الرِّحَالِينَ
الْجَوَّالِينَ لَهُ مُصَنَّفَاتٌ عَدِيدَةٌ، وَشَرَحَ أَحَادِيثَ
كَثِيرَةً رَحِمَهُ اللَّهُ.
السهيليّ أَبُو الْقَاسِمِ
وَأَبُو زَيْدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْخَطِيبِ أَبِي
مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْخَطِيبِ أَبِي عُمَرَ أَحْمَدَ
بْنِ أَبِي الْحَسَنِ أَصْبَغَ بْنِ حُسَيْنِ بْنِ سَعْدُونَ بْنِ
رِضْوَانَ بْنِ فَتُّوحٍ- هُوَ الدَّاخِلُ إِلَى الْأَنْدَلُسِ-
الْخَثْعَمِيُّ السُّهَيْلِيُّ، حكى القاضي ابن خلكان أنه أملى
عليه نسبه كذلك، قال وَالسُّهَيْلِيُّ نِسْبَةً إِلَى قَرْيَةٍ
بِالْقُرْبِ مِنْ مَالِقَةَ اسْمُهَا سُهَيْلٌ، لِأَنَّهُ لَا
يُرَى سُهَيْلٌ النَّجْمُ في شيء من تلك البلاد إلا منها من رأس
جبل شاهق عندها، وهي من قرى المغرب، وُلِدَ السُّهَيْلِيُّ سَنَةَ
ثَمَانٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَقَرَأَ الْقِرَاءَاتِ وَاشْتَغَلَ
وَحَصَّلَ حَتَّى بَرَعَ وَسَادَ أَهْلَ زَمَانِهِ بقوة القريحة
وجودة الذهن وحسن التصنيف، وذلك من فضل الله تعالى ورحمته، وكان
ضريرا مع ذلك، له الرَّوْضِ الْأُنُفِ يَذْكُرُ فِيهِ نُكَتًا
حَسَنَةً عَلَى السيرة لم يسبق إلى شيء منها أو إلى أكثرها، وَلَهُ
كِتَابُ الْإِعْلَامِ فِيمَا أُبْهِمَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ
الْأَسْمَاءِ الْأَعْلَامِ، وَكِتَابُ نَتَائِجِ الْفِكْرِ،
وَمَسْأَلَةٌ في الفرائض بديعة، ومسألة في سر كون الدجال أعور،
وأشياء فريدة كثيرة بَدِيعَةٌ مُفِيدَةٌ، وَلَهُ أَشْعَارٌ
حَسَنَةٌ، وَكَانَ عَفِيفًا فَقِيرًا، وَقَدْ حَصَلَ لَهُ مَالٌ
كَثِيرٌ فِي آخر عمره من صاحب مراكش، مات يوم الخميس السادس
والعشرين من شعبان من هذه السنة، وَلَهُ قَصِيدَةٌ كَانَ يَدْعُو
اللَّهَ بِهَا وَيَرْتَجِي الاجابة فيها وهي:
يَا مَنْ يَرَى مَا فِي الضَّمِيرِ وَيَسْمَعُ ... أَنْتَ
الْمُعَدُّ لِكُلِّ مَا يُتَوَقَّعُ
يَا مَنْ يُرَجَّى لِلشَّدَائِدِ كُلِّهَا ... يَا مَنْ إِلَيْهِ
الْمُشْتَكَى وَالْمَفْزَعُ
يَا مَنْ خَزَائِنُ رِزْقِهِ فِي قَوْلِ كُنْ ... امْنُنْ فَإِنَّ
الْخَيْرَ عِنْدَكَ أَجْمَعُ
مَا لِي سِوَى فَقْرِي إِلَيْكَ وَسِيلَةٌ ... فَبِالِافْتِقَارِ
إِلَيْكَ فَقْرِيَ أَدْفَعُ
مَا لِي سِوَى قَرْعِي لِبَابِكَ حِيلَةٌ ... فَلَئِنْ رُدِدْتُ
فَأَيَّ بَابٍ أَقْرَعُ؟
وَمَنِ الّذي أرجو وَأَهْتِفُ بِاسْمِهِ ... إِنْ كَانَ فَضْلُكَ
عَنْ فَقِيرِكَ يمنع؟
(12/318)
حاشا لمجدك أن تقنط عَاصِيًا ... الْفَضْلُ
أَجْزَلُ وَالْمَوَاهِبُ أَوْسَعُ
ثُمَّ دَخَلَتْ سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة
فِي ثَانِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا كَانَ دُخُولُ الناصر دمشق
بعد عافيته، وزار القاضي الفاضل، واستشاره، وكان لا يقطع أمرا
دونه، وقرر في نيابة دمشق ولده الأفضل على، ونزل أبو بكر العادل
عَنْ حَلَبَ لِصِهْرِهِ زَوْجِ ابْنَتِهِ الْمَلِكِ الظَّاهِرِ
غازى بن الناصر، وَأَرْسَلَ السُّلْطَانُ أَخَاهُ الْعَادِلَ
صُحْبَةَ وَلَدِهِ عِمَادِ الدِّينِ عُثْمَانَ الْمَلِكِ
الْعَزِيزِ عَلَى مُلْكِ مِصْرَ، ويكون الملك العادل أنابكه، وله
إقطاع كبيرة جدا، وعزل عن نيابتها تَقِيَّ الدِّينِ عُمَرَ،
فَعَزَمَ عَلَى الدُّخُولِ إِلَى إفريقية، فلم يزل الناصر يتلطف
بِهِ وَيَتَرَفَّقُ لَهُ حَتَّى أَقْبَلَ بِجُنُودِهِ نَحْوَهُ،
فأكرمه واحترمه وَأَقْطَعُهُ حَمَاةَ وَبِلَادًا كَثِيرَةً
مَعَهَا، وَقَدْ كَانَتْ له قبل ذلك، وزاد له على ذلك مدينة
ميافارقين، وامتدحه العماد بقصيدة ذكرها في الروضتين.
وفيها هادن قومس طَرَابُلُسَ السُّلْطَانَ وَصَالَحَهُ وَصَافَاهُ،
حَتَّى كَانَ يُقَاتِلُ ملوك الفرنج أشد القتال وسبى منهم النساء
والصبيان، وكاد أن يسلم ولكن صده السلطان فمات على الكفر والطغيان،
وكانت مصالحته من أقوى أسباب النصر عَلَى الْفِرِنْجِ، وَمِنْ
أَشَدِّ مَا دَخَلَ عَلَيْهِمْ في دينهم. قال العماد الكاتب: وأجمع
المنجمون على خراب العالم في شعبان، لأن الكواكب الستة تجتمع فيه
في الميزان، فيكون طوفان الرِّيحِ فِي سَائِرِ الْبُلْدَانِ،
وَذَكَرَ أَنَّ نَاسًا من الجهلة تأهبوا لذلك بحفر مغارات في
الجبال ومدّ خلات وَأَسْرَابٍ فِي الْأَرْضِ خَوْفًا مِنْ ذَلِكَ،
قَالَ: فَلَمَّا كَانَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةُ الَّتِي أَشَارُوا
إِلَيْهَا وَأَجْمَعُوا عَلَيْهَا لَمْ يُرَ لَيْلَةٌ مِثْلُهَا
فِي سكونها وركودها وهدوئها، وقد ذكر ذلك غير واحد من الناس في
سائر أقطار الأرض، وَقَدْ نَظَمَ الشُّعَرَاءُ فِي تَكْذِيبِ
الْمُنَجِّمِينَ فِي هذه الواقعة وغريبها أشعارا كثيرة حسنة منها:
مزق التقويم والزيج فقد بان الخطا ... إنما التقويم والزيج هباء
وهوا
قلت للسبعة إبرام ومنع وعطا ... ومتى ينزلن في الميزان يستولى
الهوا
ويثور الرمل حتى يمتلى منه الصفا ... ويعم الأرض رجف وخراب وبلى
ويصير القاع كالقف وكالطود العدا ... وحكمتم فأبى الحاكم إلا ما
يشا
ما أتى الشرع ولا جاءت بهذا الأنبيا ... فبقيتم ضحكة يضحك منها
العلما
حسبكم خزيا وعارا ما يقول الشعرا ... ما أطمعكم في الحكم إلا
الأمرا
ليت إذ لم يحسنوا في الدين طغاما أسا ... فعلى اصطرلاب بطليموس
والزيج العفا
وعليه الخزي ما جاءت على الأرض السما
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ.
أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الْوَحْشِ
بَرِّيُّ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ بَرِّيٍّ الْمَقْدِسِيُّ
ثُمَّ الْمِصْرِيُّ، أحد أئمة اللغة والنحو في زمانه، وكان عليه
(12/319)
تُعْرَضُ الرَّسَائِلُ بَعْدَ ابْنِ
بَابَشَاذَ، وَكَانَ كَثِيرَ الاطلاع عالما بهذا الشأن، مطرحا
للتكليف فِي كَلَامِهِ، لَا يَلْتَفِتُ وَلَا يُعَرِّجُ عَلَى
الْإِعْرَابِ فِيهِ إِذَا خَاطَبَ النَّاسَ، وَلَهُ التَّصَانِيفُ
المفيدة، توفى وَقَدْ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ بِثَلَاثِ سِنِينَ
رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثلاث وثمانين وخمسمائة
فِيهَا كَانَتْ وَقْعَةُ حِطِّينَ الَّتِي كَانَتْ أَمَارَةً
وتقدمة وإشارة لفتح بيت المقدس، واستنقاذه من أيدي الكفرة. قال ابن
الأثير: كَانَ أَوَّلُ يَوْمٍ مِنْهَا يَوْمَ السَّبْتِ، وَكَانَ
يَوْمَ النَّيْرُوزِ، وَذَلِكَ أَوَّلُ سَنَةِ الْفُرْسِ،
وَاتَّفَقَ أن ذلك كان أول سنة الروم، وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي
نَزَلَتْ فِيهِ الشَّمْسُ بُرْجَ الْحَمَلِ، وَكَذَلِكَ كَانَ
الْقَمَرُ فِي بُرْجِ الْحَمَلِ أيضا، وَهَذَا شَيْءٌ يَبْعُدُ
وُقُوعُ مِثْلِهِ، وَبَرَزَ السُّلْطَانُ من دمشق يوم السبت مستهل
محرم في جيشه، فَسَارَ إِلَى رَأْسِ الْمَاءِ فَنَزَلَ وَلَدُهُ
الْأَفْضَلُ هُنَاكَ فِي طَائِفَةٍ مِنَ الْجَيْشِ وَتَقَدَّمَ
السُّلْطَانُ بِبَقِيَّةِ الْجَيْشِ إِلَى بُصْرَى فَخَيَّمَ عَلَى
قَصْرِ أبى سلام، يَنْتَظِرُ قُدُومَ الْحُجَّاجِ، وَفِيهِمْ
أُخْتُهُ سِتُّ الشَّامِ وَابْنُهَا حُسَامُ الدِّينِ مُحَمَّدُ
بْنُ عُمَرَ بْنِ لاشين، ليسلموا من معرة برنس الكرك، فلما جاز
الحجيج سالمين سار السلطان فنزل على الْكَرَكَ وَقَطَعَ مَا
حَوْلَهُ مِنَ الْأَشْجَارِ، وَرَعَى الزرع وأكلوا الثمار، وجاءت
العساكر المصرية وتوافت الجيوش الْمَشْرِقِيَّةِ، فَنَزَلُوا
عِنْدَ ابْنِ السُّلْطَانِ عَلَى رَأْسِ الْمَاءِ، وَبَعَثَ
الْأَفْضَلُ سَرِيَّةً نَحْوَ بِلَادِ الْفِرِنْجِ فقتلت وغنمت
وسلمت ورجعت، فبشر بمقدمات الفتح والنصر، وجاء السلطان بجحافله
فالتفت عليه جميع العساكر، فرتب الجيوش وَسَارَ قَاصِدًا بِلَادَ
السَّاحِلِ، وَكَانَ جُمْلَةُ مَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ
اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا غَيْرَ المتطوعة، فتسامعت الفرنج بقدومه
فاجتمعوا كلهم وتصالحوا فيما بينهم، وصالح قومس طرابلس وبرنس الكرك
الفاجر، وجاءوا بحدهم وحديدهم وَاسْتَصْحَبُوا مَعَهُمْ صَلِيبَ
الصَّلَبُوتِ يَحْمِلُهُ مِنْهُمْ عُبَّادُ الطاغوت، وضلال
الناسوت، في خلق لَا يَعْلَمُ عِدَّتَهُمْ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ، يُقَالُ كَانُوا خَمْسِينَ أَلْفًا وَقِيلَ ثَلَاثًا
وَسِتِّينَ ألفا، وقد خوفهم صاحب طرابلس من المسلمين فاعترض عليه
البرنس صَاحِبُ الْكَرَكِ فَقَالَ لَهُ لَا أَشُكُّ أَنَّكَ تحب
المسلمين وتخوفنا كثرتهم، وسترى غب ما أقول لك، فتقدموا نحو
المسلمين وَأَقْبَلَ السُّلْطَانُ فَفَتَحَ طَبَرِيَّةَ وَتَقَوَّى
بِمَا فِيهَا من الأطعمة والأمتعة وغير ذلك، وتحصنت منه القلعة فلم
يعبأ بها، وحاز البحيرة في حوزته ومنع الله الكفرة أن يصلوا منها
إلى قطرة، حتى صاروا في عطش عظيم، فبرز السُّلْطَانُ إِلَى سَطْحِ
الْجَبَلِ الْغَرْبِيِّ مِنْ طَبَرِيَّةَ عِنْدَ قَرْيَةٍ يُقَالُ
لَهَا حِطِّينُ، الَّتِي يُقَالُ إن فيها قبر شعيب عليه الصلاة
والسلام، وجاء العدو المخذول، وكان فيهم صاحب عكا وكفرنكا وصاحب
الناصرة وصاحب صور وغير ذلك من جميع ملوكهم، فتواجه الفريقان
وتقابل الجيشان، وأسفر وجه الايمان واغبر وأفتم وأظلم وجه الكفر
والطغيان، ودارت دائرة السوء على عبدة الصلبان، وذلك عشية يوم
(12/320)
الجمعة، فبات الناس على مصافهم وأصبح صباح
يَوْمِ السَّبْتِ الَّذِي كَانَ يَوْمًا عَسِيرًا عَلَى أهل
الْأَحَدِ وَذَلِكَ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ، فطلعت
الشمس على وجوه الفرنج واشتد الحر وقوى بهم العطش، وكان تحت أقدام
خيولهم حشيش قد صار هشيما، وكان ذلك عليهم مشئوما، فأمر السلطان
النفاطة أن يرموه بالنفط، فرموه فتأجج نارا تحت سنابك خيولهم،
فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ حَرُّ الشَّمْسِ وَحَرُّ الْعَطَشِ وَحَرُّ
النار وحر السلاح وحر رشق النبال، وتبارز الشجعان، ثم أمر السلطان
بالتكبير والحملة الصادقة فحملوا وكان النَّصْرُ مِنَ اللَّهِ
عَزَّ وَجَلَّ، فَمَنَحَهُمُ اللَّهُ أكتافهم فَقُتِلَ مِنْهُمْ
ثَلَاثُونَ أَلْفًا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَأُسِرَ ثَلَاثُونَ
أَلْفًا مِنْ شُجْعَانِهِمْ وَفُرْسَانِهِمْ، وَكَانَ في جملة من
أسر جميع ملوكهم سوى قومس طرابلس فإنه انهزم في أول المعركة،
واستلبهم السلطان صليبهم الأعظم، وهو الذين يزعمون أنه صُلِبَ
عَلَيْهِ الْمَصْلُوبُ، وَقَدْ غَلَّفُوهُ بِالذَّهَبِ
وَاللَّآلِئِ والجواهر النفيسة، وَلَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِ هَذَا
الْيَوْمِ فِي عِزِّ الإسلام وأهله، ودمغ الباطل وأهله، حتى ذكر أن
بعض الفلاحين رآه بعضهم يَقُودُ نَيِّفًا وَثَلَاثِينَ أَسِيرًا
مِنَ الْفِرِنْجِ، قَدْ رَبَطَهُمْ بِطُنُبِ خَيْمَةٍ، وَبَاعَ
بَعْضَهُمْ أَسِيرًا بِنَعْلٍ ليلبسها فِي رِجْلِهِ، وَجَرَتْ
أُمُورٌ لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهَا إلا في زمن الصحابة والتابعين،
فلله الحمد دائما كثيرا طيبا مباركا.
فلما تمت هذه الوقعة ووضعت الحرب أوزارها أَمَرَ السُّلْطَانُ
بِضَرْبِ مُخَيَّمٍ عَظِيمٍ، وَجَلَسَ فِيهِ عَلَى سَرِيرِ
الْمَمْلَكَةِ وَعَنْ يَمِينِهِ أَسِرَّةٌ وَعَنْ يساره مثلها،
وجيء بالأسارى تتهادى بقيودها، فأمر بضرب أعناق جماعة من مقدمي
الداوية- والأسارى بين يديه- صبرا، ولم يترك أحدا منهم ممن كان
يذكر الناس عنه شرا، ثم جيء بملوكهم فَأُجْلِسُوا عَنْ يَمِينِهِ
وَيَسَارِهِ عَلَى مَرَاتِبِهِمْ، فَأُجْلِسَ ملكهم الكبير عن
يمينه، وأجلس أرياط برنس الكرك وبقيتهم عن شماله، ثم جيء إلى
السلطان بشراب من الجلاب مثلوجا، فَشَرِبَ ثُمَّ نَاوَلَ الْمَلِكَ
فَشَرِبَ، ثُمَّ نَاوَلَ أرياط صاحب الكرك فغضب السلطان وقال له:
إنما ناولتك ولم آذن لك أَنْ تَسْقِيَهُ، هَذَا لَا عَهْدَ لَهُ
عِنْدِي، ثم تحول السلطان إلى خيمة داخل تلك الخيمة واستدعى بارياط
صاحب الكرك، فَلَمَّا أُوقِفَ بَيْنَ يَدَيْهِ قَامَ إِلَيْهِ
بِالسَّيْفِ ودعاه إلى الإسلام فامتنع، فقال له: نَعَمْ أَنَا
أَنُوبُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي الِانْتِصَارِ لِأُمَّتِهِ، ثُمَّ قتله وأرسل برأسه إلى الملوك
وهم في الخيمة، وَقَالَ: إِنَّ هَذَا تَعَرَّضَ لِسَبِّ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَتَلَ
السُّلْطَانُ جَمِيعَ مَنْ كَانَ مِنَ الأسارى من الداوية
والاستثارية صبرا وأراح الْمُسْلِمِينَ مِنْ هَذَيْنَ
الْجِنْسَيْنِ الْخَبِيثَيْنِ، وَلَمْ يُسْلِمْ مِمَّنْ عُرِضَ
عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ إِلَّا الْقَلِيلُ، فَيُقَالُ إنه بلغت
القتلى ثلاثين ألفا، والأسارى كذلك كانوا ثلاثين ألفا، وكان جملة
جيشهم ثلاثة وستين ألفا، وكان من سلم مع قلتهم وهرب أكثرهم جرحى
فماتوا ببلادهم، وممن مات كذلك قومس طرابلس، فإنه انهزم جريحا فمات
بها بعد مرجعه، ثم أرسل السلطان برءوس أعيان الفرنج ومن لم يقتل من
رءوسهم، وبصليب
(12/321)
الصَّلَبُوتِ صُحْبَةَ الْقَاضِي ابْنِ
أَبِي عَصْرُونَ إِلَى دِمَشْقَ لِيُودَعُوا فِي قَلْعَتِهَا،
فَدَخَلَ بِالصَّلِيبِ مَنْكُوسًا وكان يوما مشهودا.
ثم سار السلطان إلى قلعة طبرية فأخذها، وَقَدْ كَانَتْ طَبَرِيَّةُ
تُقَاسِمُ بِلَادَ حَوْرَانَ وَالْبَلْقَاءَ وَمَا حَوْلَهَا مِنَ
الْجُولَانِ وَتِلْكَ الْأَرَاضِي كُلَّهَا بِالنِّصْفِ، فَأَرَاحَ
اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ تِلْكَ الْمُقَاسَمَةِ، ثم سار
السلطان إلى حطين فزار قبر شعيب، ثم ارتفع منه إلى إقليم الأردن،
فتسلم تلك البلاد كلها، وهي قرى كثيرة كبار وصغار، ثُمَّ سَارَ
إِلَى عَكًّا فَنَزَلَ عَلَيْهَا يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ سَلْخَ
رَبِيعٍ الْآخَرِ، فَافْتَتَحَهَا صُلْحًا يَوْمَ الْجُمُعَةِ،
وَأَخَذَ مَا كَانَ بِهَا مِنْ حَوَاصِلَ الملوك وأموالهم وذخائرهم
ومتاجر وغيرها، وَاسْتَنْقَذَ مَنْ كَانَ بِهَا مِنْ أَسْرَى
الْمُسْلِمِينَ، فوجد فيها أربعة آلاف أسير، ففرج الله عنهم، وأمر
بإقامة الجمعة بها، وكانت أول جمعة أقيمت بالساحل بعد أخذه الفرنج،
نحوا من سبعين سنة. ثم سار مِنْهَا إِلَى صَيْدَا وَبَيْرُوتَ
وَتِلْكَ النَّوَاحِي مِنَ السواحل يأخذها بلدا بلدا، لخلوها من
المقاتلة والملوك، ثم رجع سائرا نَحْوَ غَزَّةَ وَعَسْقَلَانَ
وَنَابُلُسَ وَبَيْسَانَ وَأَرَاضِي الْغُورِ، فملك ذلك كله،
واستناب عَلَى نَابُلُسَ ابْنَ أَخِيهِ حُسَامَ الدِّينِ عُمَرَ بن
محمد بن لاشين، وَهُوَ الَّذِي افْتَتَحَهَا، وَكَانَ جُمْلَةُ مَا
افْتَتَحَهُ السلطان في هذه المدة القريبة خمسين بلدا كبارا كل بلد
له مقاتلة وقلعة ومنعة، وَغَنِمَ الْجَيْشُ وَالْمُسْلِمُونَ مِنْ
هَذِهِ الْأَمَاكِنِ شَيْئًا كثيرا، وسبوا خلقا.
ثم إن السلطان أمر جيوشه أن ترتع في هذه الأماكن مدة شهور
ليستريحوا وتحمو أنفسهم وخيولهم لفتح بيت المقدس، وَطَارَ فِي
النَّاسِ أَنَّ السُّلْطَانَ عَزَمَ عَلَى فتح بيت المقدس، فقصده
العلماء والصالحون تطوعا، وجاءوا إليه، ووصل أَخُوهُ الْعَادِلُ
بَعْدَ وَقْعَةِ حِطِّينَ وَفَتَحَ عَكَّا ففتح بنفسه حصونا كثيرة،
فاجتمع من عبّاد الله ومن الجيوش شيء كثير جدا، فعند ذلك قصد
السلطان القدس بمن معه كما سيأتي. وقد امتدحه الشعراء بسبب وقعة
حطين فقالوا وأكثروا، وكتب إليه الْقَاضِي الْفَاضِلُ مِنْ
دِمَشْقَ- وَهُوَ مُقِيمٌ بِهَا لمرض اعتراه- «ليهن المولى أن الله
أقام به الدين، وكتب المملوك هذه الخدمة والرءوس لَمْ تُرْفَعْ
مِنْ سُجُودِهَا، وَالدُّمُوعُ لَمْ تُمْسَحْ من خدودها، وكلما ذكر
المملوك أن البيع تعود مَسَاجِدُ، وَالْمَكَانُ الَّذِي كَانَ
يُقَالُ فِيهِ إِنَّ الله ثالث ثلاثة يقال فيه اليوم إِنَّهُ
الْوَاحِدُ، جَدَّدَ للَّه شُكْرًا تَارَةً يَفِيضُ من لسانه،
وتارة يفيض من جفنه سرورا بتوحيد الله، تعالى الملك الحق المبين،
وأن يقال محمد رسول الله الصادق الأمين، وجزى الله يوسف خيرا من
إخراجه من سجنه، والمماليك ينتظرون المولى وكل مَنْ أَرَادَ أَنْ
يَدْخُلَ الْحَمَّامَ بِدِمَشْقَ قَدْ عزم عَلَى دُخُولِ حَمَّامِ
طَبَرِيَّةَ.
تِلْكَ الْمَكَارِمُ لَا قعبان من لبن ... وَذَلِكَ السَّيْفُ لَا
سَيْفُ ابْنِ ذِي يَزَنِ
ثُمَّ قَالَ: وَلِلْأَلْسِنَةِ بَعْدُ فِي هَذَا الْفَتْحِ تسبيح
طويل وقول جميل جليل» .
(12/322)
ذِكْرُ فَتْحِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فِي
هَذِهِ السَّنَةِ «واستنقاذه من أيدي النصارى بعد أن استحوذوا عليه
مدة ثنتين وتسعين سنة»
لما افتتح السلطان تلك الأماكن المذكورة فيما تقدم، أمر العساكر
فاجتمعت ثم سار نحو بيت المقدس، فنزل غربي بيت المقدس فِي
الْخَامِسَ عَشَرَ مِنْ رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ- أَعْنِي
سَنَةَ ثلاث وثمانين وخمسمائة- فوجد البلد قد حصنت غاية التحصين،
وَكَانُوا سِتِّينَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ، دُونَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ أو
يزيدون، وكان صاحب القدس يومئذ رجلا يقال له بالبان بْنُ
بَازِرَانَ، وَمَعَهُ مَنْ سَلِمَ مِنْ وَقْعَةِ حطين يوم التقى
الجمعان، من الداوية والاستثارية أتباع الشيطان، وعبدة الصلبان،
فَأَقَامَ السُّلْطَانُ بِمَنْزِلِهِ الْمَذْكُورِ خَمْسَةَ
أَيَّامٍ، وَسَلَّمَ إلى كل طائفة من الجيش ناحية من السور
وأبراجه، ثم تحول السلطان إلى ناحية الشام لأنه رآها أوسع
لِلْمَجَالِ، وَالْجِلَادِ وَالنِّزَالِ، وَقَاتَلَ الْفِرِنْجَ
دُونَ الْبَلَدِ قتالا هائلا، وبذلوا أنفسهم وأموالهم في نصرة
دينهم وقمامتهم، واستشهد في الحصار بعض أمراء المسلمين، فحنق عند
ذلك كثير من الأمراء والصالحين، واجتهدوا في القتال ونصب المناجنيق
والعرادات على البلد، وغنت السيوف والرماح الخطيات، والعيون تنظر
إلى الصلبان منصوبة فوق الجدران، وفوق قبة الصخرة صليب كبير، فزاد
ذلك أهل الايمان حنقا وشدة التشمير، وكان ذلك يوما عسيرا على
الكافرين غير يسير، فبادر السلطان بِأَصْحَابِهِ إِلَى
الزَّاوِيَةِ الشَّرْقِيَّةِ الشَّمَالِيَّةِ مِنَ السُّورِ فنقبها
وعلقها وحشاها وَأَحْرَقَهَا، فَسَقَطَ ذَلِكَ الْجَانِبُ وَخَرَّ
الْبُرْجُ بِرُمَّتِهِ فَإِذَا هُوَ وَاجِبٌ، فَلَمَّا شَاهَدَ
الْفِرِنْجُ ذَلِكَ الحادث الفظيع، والخطب المؤلم الوجيع، قصد
أكابرهم السلطان وتشفعوا إليه أن يعطيهم الأمان، فامتنع من ذلك
وقال: لا أفتحها إلا عنوة، كما افتتحتموها أنتم عَنْوَةً، وَلَا
أَتْرُكُ بِهَا أَحَدًا مِنَ النَّصَارَى إِلَّا قَتَلْتُهُ كَمَا
قَتَلْتُمْ أَنْتُمْ مَنْ كَانَ بها من المسلمين، فطلب صاحبها
بالبان بن بازران الْأَمَانَ لِيَحْضُرَ عِنْدَهُ فَأَمَّنَهُ،
فَلَمَّا حَضَرَ تَرَقَّقَ للسلطان وذل ذلا عظيما، وَتَشَفَّعَ
إِلَيْهِ بِكُلِّ مَا أَمْكَنَهُ فَلَمْ يُجِبْهُ إلى الأمان لهم،
فقالوا إن لَمْ تُعْطِنَا الْأَمَانَ رَجَعْنَا فَقَتَلْنَا كُلَّ
أَسِيرٍ بأيدينا- وكانوا قريبا من أربعة آلاف- وقتلنا ذرارينا
وأولادنا ونساءنا، وخربنا الدور والأماكن الحسنة، وأحرقنا المتاع
وأتلفنا ما بأيدينا من الأموال، وهدمنا قبة الصخرة وحرقنا ما نقدر
عليه، وَلَا نُبْقِي مُمْكِنًا فِي إِتْلَافِ مَا نَقْدِرُ عليه،
وبعد ذلك نخرج فنقاتل قتال الموت، ولا خير في حياتنا بعد ذلك،
فَلَا يُقْتَلُ وَاحِدٌ مِنَّا حَتَّى يَقْتُلَ أَعْدَادًا
مِنْكُمْ، فَمَاذَا تَرْتَجِي بَعْدَ هَذَا مِنَ الْخَيْرِ؟
فَلَمَّا سَمِعَ السُّلْطَانُ ذَلِكَ أَجَابَ إِلَى الصُّلْحِ
وأناب، عَلَى أَنْ يَبْذُلَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ عَنْ نَفْسِهِ
عَشْرَةَ دَنَانِيرَ، وَعَنِ الْمَرْأَةِ خَمْسَةَ دَنَانِيرَ،
وَعَنْ كُلِّ صَغِيرٍ وَصَغِيرَةٍ دِينَارَيْنِ، وَمَنْ عَجَزَ
عَنْ ذَلِكَ كَانَ أَسِيرًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ تَكُونَ
الغلات والأسلحة والدور للمسلمين، وأنهم يتحولون مِنْهَا إِلَى
مَأْمَنِهِمْ
(12/323)
وهي مدينة صور. فكتب الصلح بذلك، وأن من لم
يَبْذُلُ مَا شُرِطَ عَلَيْهِ إِلَى أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَهُوَ
أَسِيرٌ، فَكَانَ جُمْلَةُ مَنْ أُسِرَ بِهَذَا الشرط ستة عشر ألف
أسير مِنْ رِجَالٍ وَنِسَاءٍ وَوِلْدَانٍ، وَدَخَلَ السُّلْطَانُ
وَالْمُسْلِمُونَ البلد يوم الجمعة قبل وَقْتِ الصَّلَاةِ
بِقَلِيلٍ، وَذَلِكَ يَوْمَ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ
رَجَبٍ. قَالَ الْعِمَادُ: وَهِيَ لَيْلَةُ الْإِسْرَاءِ بِرَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ المسجد الحرام إلى
المسجد الأقصى. قال أَبُو شَامَةَ:
وَهُوَ أَحَدُ الْأَقْوَالِ فِي الْإِسْرَاءِ، وَلَمْ يَتَّفِقْ
لِلْمُسْلِمِينَ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ يَوْمَئِذٍ خِلَافًا لِمَنْ
زَعَمَ أَنَّهَا أُقِيمَتْ يَوْمَئِذٍ، وَأَنَّ السُّلْطَانَ خطب
بنفسه بالسواد، والصحيح أن الجمعة لم يتمكنوا من إِقَامَتُهَا
يَوْمَئِذٍ لِضِيقِ الْوَقْتِ، وَإِنَّمَا أُقِيمَتْ فِي الجمعة
المقبلة، وكان الخطيب محيي الدين بن محمد بن على القرشي ابن الزكي
كما سيأتي قريبا.
ولكن نظفوا المسجد الأقصى مِمَّا كَانَ فِيهِ مِنَ الصُّلْبَانِ
وَالرُّهْبَانِ وَالْخَنَازِيرِ، وخربت دور الداوية وَكَانُوا قَدْ
بَنَوْهَا غَرْبِيَّ الْمِحْرَابِ الْكَبِيرِ، وَاتَّخَذُوا
المحراب مشتا لعنهم الله، فنظف مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَأُعِيدَ
إِلَى مَا كَانَ عليه في الأيام الإسلامية، وَغُسِلَتِ الصَّخْرَةُ
بِالْمَاءِ الطَّاهِرِ، وَأُعِيدَ غَسْلُهَا بِمَاءِ الورد والمسك
الفاخر، وأبرزت للناظرين، وقد كانت مستورة مخبوءة عن الزائرين،
ووضع الصليب عَنْ قُبَّتِهَا، وَعَادَتْ إِلَى حُرْمَتِهَا، وَقَدْ
كَانَ الفرنج قلعوا منها قطعا فباعوها من أهل البحور الجوانية
بزنتها ذهبا، فتعذر استعادة ما قطع منها.
ثم قبض مِنَ الْفِرِنْجِ مَا كَانُوا بَذَلُوهُ عَنْ أَنْفُسِهِمْ
من الأموال، وأطلق السلطان خلقا منهم بنات الملوك بمن معهن من
النساء والصبيان وَالرِّجَالِ، وَوَقَعَتِ الْمُسَامَحَةُ فِي
كَثِيرٍ مِنْهُمْ، وَشُفِعَ في أناس كثير فعفا عَنْهُمْ، وَفَرَّقَ
السُّلْطَانُ جَمِيعَ مَا قَبَضَ مِنْهُمْ من الذهب في العسكر، ولم
يأخذ مِنْهُ شَيْئًا مِمَّا يُقْتَنَى وَيُدَّخَرُ، وَكَانَ
رَحِمَهُ الله حليما كريما مقداما شجاعا رحيما.
ذِكْرُ أَوَّلِ جُمُعَةٍ أُقِيمَتْ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ بَعْدَ
فتحه في الدولة الصلاحية
لما تطهر بيت الْمُقَدَّسُ مِمَّا كَانَ فِيهِ مِنَ الصُّلْبَانِ
وَالنَّوَاقِيسِ والرهبان والقساقس، ودخله أهل الايمان، ونودي
بالأذان وقرئ القرآن، ووحد الرحمن، كان أول جمعة أقيمت فِي
الْيَوْمِ الرَّابِعِ مِنْ شَعْبَانَ، بَعْدَ يَوْمِ الْفَتْحِ
بِثَمَانٍ، فَنُصِبَ الْمِنْبَرُ إِلَى جَانِبِ الْمِحْرَابِ،
وبسطت البسط وعلقت القناديل وتلى التنزيل، وجاء الحق وبطلت
الْأَبَاطِيلُ، وَصُفَّتِ السَّجَّادَاتُ وَكَثُرَتِ السَّجَدَاتُ،
وَتَنَوَّعَتِ الْعِبَادَاتُ، وارتفعت الدَّعَوَاتُ، وَنَزَلَتِ
الْبَرَكَاتُ، وَانْجَلَتِ الْكُرُبَاتُ، وَأُقِيمَتِ
الصَّلَوَاتُ، وأذن المؤذنون، وخرس القسيسون، وزال البوس وطابت
النفوس، وأقبلت السعود وأدبرت النحوس، وعبد الله الْأَحَدُ
الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ
كفوا أحد، وكبره الرَّاكِعُ وَالسَّاجِدُ، وَالْقَائِمُ
وَالْقَاعِدُ، وَامْتَلَأَ الْجَامِعُ وَسَالَتْ لرقة القلوب
المدامع، ولما أذن المؤذنون للصلاة قبل الزوال كادت
(12/324)
القلوب تطير من الفرح في ذلك الحال، ولم
يكن عين خطيب فبرز من السلطان المرسوم الصلاحى وهو في قبة الصخرة
أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي مُحْيِي الدِّينِ بْنُ الزَّكِيِّ اليوم
خطيبا، فلبس الخلعة السوداء وخطب للناس خطبة سَنِيَّةً فَصِيحَةً
بَلِيغَةً، ذَكَرَ فِيهَا شَرَفَ الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ، وَمَا
وَرَدَ فِيهِ مِنَ الْفَضَائِلِ وَالتَّرْغِيبَاتِ، وما فيه من
الدلائل والأمارات. وقد أورد الشيخ أبو شامة الخطبة في الروضتين
بطولها وكان أول ما قَالَ (فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ
ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) 6: 45.
ثُمَّ أَوْرَدَ تَحْمِيدَاتِ الْقُرْآنِ كُلَّهَا، ثُمَّ قَالَ:
«الْحَمْدُ للَّه مُعِزِّ الْإِسْلَامِ بِنَصْرِهِ، وَمُذِلِّ
الشِّرْكِ بقهره، ومصرف الأمور بأمره، ومزيد النِّعَمِ بِشُكْرِهِ،
وَمُسْتَدْرِجِ الْكَافِرِينَ بِمَكْرِهِ، الَّذِي قَدَّرَ
الْأَيَّامَ دُوَلًا بِعَدْلِهِ، وَجَعَلَ الْعَاقِبَةَ
لِلْمُتَّقِينَ بِفَضْلِهِ، وأفاض على العباد من طله وهطله،
[الّذي] أظهر دِينَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، الْقَاهِرِ فَوْقَ
عِبَادِهِ فَلَا يُمَانَعُ، وَالظَّاهِرِ عَلَى خَلِيقَتِهِ فَلَا
يُنَازَعُ، وَالْآمِرِ بِمَا يَشَاءُ فَلَا يُرَاجَعُ،
وَالْحَاكِمِ بِمَا يُرِيدُ فَلَا يُدَافَعُ، أَحْمَدُهُ عَلَى
إِظْفَارِهِ وَإِظْهَارِهِ، وإعزازه لأوليائه ونصرة أنصاره، ومطهر
بيت الْمُقَدَّسَ مِنْ أَدْنَاسِ الشِّرْكِ وَأَوْضَارِهِ، حَمْدَ
مَنِ استشعر الحمد باطن سره وظاهر أجهاره، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا
إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ الْأَحَدُ
الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ
لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ، شَهَادَةَ مَنْ طَهَّرَ بِالتَّوْحِيدِ
قَلْبَهُ، وَأَرْضَى بِهِ رَبَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا
عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ رافع الشكر وداحض الشرك، ورافض الْإِفْكِ،
الَّذِي أُسْرِيَ بِهِ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى هَذَا
الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَعُرِجَ بِهِ مِنْهُ إلى السموات العلى،
إلى سدرة المنتهى عندها جنة المأوى، ما زاغ البصر وما طغى، صلى
الله عليه وسلّم وَعَلَى خَلِيفَتِهِ الصِّدِّيقِ السَّابِقِ إِلَى
الْإِيمَانِ، وَعَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ أَوَّلِ مَنْ رَفَعَ عَنْ هَذَا الْبَيْتِ شِعَارَ
الصُّلْبَانِ، وَعَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ
عَفَّانَ ذِي النُّورَيْنِ جَامِعِ الْقُرْآنِ، وَعَلَى أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أبى طالب مزلزل الشرك، ومكسر الأصنام،
وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَالتَّابِعَيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ»
.
ثُمَّ ذَكَرَ الْمَوْعِظَةَ وَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى تَغْبِيطِ
الْحَاضِرِينَ بما يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَى أَيْدِيهِمْ مِنْ
فَتْحِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ كَذَا وَكَذَا،
فَذَكَرَ فَضَائِلَهُ وَمَآثِرَهُ، وَأَنَّهُ أَوَّلُ
الْقِبْلَتَيْنِ، وَثَانِي الْمَسْجِدَيْنِ، وَثَالِثُ
الْحَرَمَيْنِ، لَا تُشَدُّ الرَّحَالُ بَعْدَ الْمَسْجِدَيْنِ
إِلَّا إِلَيْهِ، وَلَا تُعْقَدُ الْخَنَاصِرُ بَعْدَ
الْمَوْطِنَيْنِ إِلَّا عَلَيْهِ، وَإِلَيْهِ أُسْرِيَ بِرَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ، وَصَلَّى فيه بالأنبياء والرسل الكرام، ومنه كان
المعراج إلى السموات، ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِ ثُمَّ سَارَ مِنْهُ
إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عَلَى الْبُرَاقِ، وَهُوَ أَرْضُ
الْمَحْشَرِ وَالْمَنْشَرِ يَوْمَ التَّلَاقِ، وَهُوَ مَقَرُّ
الْأَنْبِيَاءِ وَمَقْصِدُ الْأَوْلِيَاءِ، وَقَدْ أُسِّسَ عَلَى
التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يوم.
قلت: ويقال إن أول من أسسه يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ
أَنْ بَنَى الْخَلِيلُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بِأَرْبَعِينَ
سَنَةً، كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، ثُمَّ جَدَّدَ بِنَاءَهُ
سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ عليهما السلام، كما ثبت فيه الحديث
(12/325)
بالمسند والسنن، وصحيح ابْنِ خُزَيْمَةَ
وَابْنِ حِبَّانَ وَالْحَاكِمِ وَغَيْرِهِمْ، وَسَأَلَ سُلَيْمَانُ
عَلَيْهِ السَّلَامُ اللَّهَ عِنْدَ فَرَاغِهِ مِنْهُ خِلَالًا
ثَلَاثًا، حُكْمًا يُصَادِفُ حُكْمَهُ، وَمُلْكًا لَا يَنْبَغِي
لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَأْتِي أَحَدٌ هَذَا
الْمَسْجِدَ لَا يَنْهَزُهُ إِلَّا الصَّلَاةُ فِيهِ إِلَّا خَرَجَ
مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ.
ثم ذكر تمام الخطبتين، ثم دعا للخليفة الناصر العباسي، ثم دعا
للسلطان الناصر صلاح الدين. وَبَعْدَ الصَّلَاةِ جَلَسَ الشَّيْخُ
زَيْنُ الدِّينِ أَبُو الحسن بن على نَجَا الْمِصْرِيُّ عَلَى
كُرْسِيِّ الْوَعْظِ بِإِذْنِ السُّلْطَانِ، فوعظ الناس، واستمر
القاضي ابن الزَّكِيِّ يَخْطُبُ بِالنَّاسِ فِي أَيَّامِ الْجُمَعِ
أَرْبَعَ جُمُعَاتٍ، ثُمَّ قَرَّرَ السُّلْطَانُ لِلْقُدْسِ
خَطِيبًا مُسْتَقِرًّا، وَأَرْسَلَ إِلَى حَلَبَ فَاسْتَحْضَرَ
الْمِنْبَرَ الَّذِي كَانَ الملك العادل نور الدين الشهيد قَدِ
اسْتَعْمَلَهُ لِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَقَدْ كَانَ يُؤَمِّلُ أَنْ
يَكُونَ فَتْحُهُ عَلَى يَدَيْهِ، فَمَا كَانَ إلا على يدي بعض
أتباعه صلاح الدين بعد وفاته
نكتة غريبة
قال أَبُو شَامَةَ فِي الرَّوْضَتَيْنِ: وَقَدْ تَكَلَّمَ
شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّخَاوِيُّ
فِي تَفْسِيرِهِ الْأَوَّلِ فَقَالَ: وَقَعَ فِي تَفْسِيرِ أَبِي
الْحَكَمِ الْأَنْدَلُسِيِّ- يَعْنِي ابْنَ بَرَّجَانَ- فِي
أَوَّلِ سُورَةِ الرُّومِ إِخْبَارٌ عَنْ فَتْحِ بَيْتِ
الْمَقْدِسِ، وَأَنَّهُ يُنْزَعُ مِنْ أَيْدِي النَّصَارَى سَنَةَ
ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ. قَالَ السَّخَاوِيُّ:
وَلَمْ أَرَهُ أَخَذَ ذَلِكَ مِنْ عِلْمِ الْحُرُوفِ، وَإِنَّمَا
أَخَذَهُ فِيمَا زعم مِنْ قَوْلِهِ (الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي
أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ
فِي بِضْعِ سِنِينَ) 30: 1- 4 فَبَنَى الْأَمْرَ عَلَى التَّارِيخِ
كَمَا يَفْعَلُ الْمُنَجِّمُونَ، فذكر أنهم يغلبون في سنة كذا
وكذا، ويغلبون في سنة كذا كَذَا، عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ دَوَائِرُ
التَّقَدْيرِ، ثُمَّ قال:
وهذه نجابة وافقت إصابة، إن صح، قَالَ ذَلِكَ قَبْلَ وُقُوعِهِ،
وَكَانَ فِي كِتَابِهِ قَبْلَ حُدُوثِهِ، قَالَ: وَلَيْسَ هَذَا
مِنْ قَبِيلِ علم الحروف، ولا من باب الكرامات والمكاشفات، ولا
ينال في حساب، قَالَ: وَقَدْ ذَكَرَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ
الْقَدْرِ أَنَّهُ لَوْ عَلِمَ الْوَقْتَ الَّذِي نَزَلَ فِيهِ
الْقُرْآنُ لَعَلِمَ الْوَقْتَ الَّذِي يُرْفَعُ فِيهِ.
قُلْتُ: ابْنُ بَرَّجَانَ ذَكَرَ هَذَا فِي تَفْسِيرِهِ فِي
حُدُودِ سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَيُقَالُ
إِنَّ الْمَلِكَ نُورَ الدِّينِ أُوقِفَ عَلَى ذَلِكَ فَطَمِعَ أن
يعيش إلى سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، لأن مولده في سنة إحدى عشر
وَخَمْسِمِائَةِ، فَتَهَيَّأَ لِأَسْبَابِ ذَلِكَ حَتَّى إِنَّهُ
أَعَدَّ منبرا عظيما لبيت المقدس إذا فتحه والله أعلم.
وأما الصخرة المعظمة فان السلطان أزال ما حولها من المنكرات والصور
والصلبان، وطهرها بعد ما كانت جيفة، وأظهرها بعد ما كَانَتْ
خَفِيَّةً مَسْتُورَةً غَيْرَ مَرْئِيَّةٍ، وَأَمَرَ الْفَقِيهَ
عِيسَى الْهَكَّارِيَّ أَنْ يَعْمَلَ حَوْلَهَا شَبَابِيكَ مِنْ
حديد، ورتب لها إماما راتبا، وقف عليه رزقا جيدا، وكذلك إمام
الأقصى، وعمل للشافعية مدرسة يقال لها الصلاحية والناصرية أيضا،
وكان موضعها كنيسة على قبر حنة أم مريم، ووقف على الصوفية رباطا
كان للبترك إِلَى جَنْبِ الْقُمَامَةِ، وَأَجْرَى عَلَى
الْفُقَهَاءِ وَالْفُقَرَاءِ الجوامك، وأرصد الختم والربعات في
أرجاء المسجد الأقصى والصخرة، ليقرأ فيها المقيمون والزائرون
(12/326)
وتنافس بنو أيوب فيما يفعلونه ببيت المقدس
وغيره من الخيرات إلى كل أحد، وعزم السلطان على هدم القمامة وأن
يجعلها دَكًّا لِتَنْحَسِمَ مَادَّةُ النَّصَارَى مِنْ بَيْتِ
الْمَقْدِسِ، فقيل [له] إنهم لَا يَتْرُكُونَ الْحَجَّ إِلَى
هَذِهِ الْبُقْعَةِ، وَلَوْ كانت قاعا صفصفا، وقد فتح هذه البلد
قبلك أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَتَرَكَ
هَذِهِ الكنيسة بأيديهم، ولك فِي ذَلِكَ أُسْوَةٌ. فَأَعْرَضَ
عَنْهَا وَتَرَكَهَا عَلَى حالتها تأسيا بعمر رضى الله عنه، ولم
يترك من النصارى فيها سِوَى أَرْبَعَةٍ يَخْدُمُونَهَا، وَحَالَ
بَيْنَ النَّصَارَى وَبَيْنَهَا، وَهَدَمَ الْمَقَابِرَ الَّتِي
كَانَتْ لَهُمْ عِنْدَ بَابِ الرحمة، وعفا آثَارَهَا، وَهَدَمَ مَا
كَانَ هُنَاكَ مِنَ الْقِبَابِ.
وأما أسارى المسلمين الذين كانوا بالقدس فإنه أطلقهم جميعهم، وأحسن
إليهم، وأطلق لهم إعطاءات سنية، وكساهم وَانْطَلَقَ كُلٌّ مِنْهُمْ
إِلَى وَطَنِهِ: وَعَادَ إِلَى أهله ومسكنه، فلله الحمد على نعمه
ومننه
فصل
فلما فرغ السلطان صلاح الدين من القدس الشريف انْفَصَلَ عَنْهَا
فِي الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ قاصدا مدينة صور
بالساحل، وكان فتحها قد تأخر، وَقَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهَا بَعْدَ
وَقْعَةِ حِطِّينَ رَجُلٌ من تجار الفرنج يُقَالُ لَهُ
الْمَرْكِيسُ، فَحَصَّنَهَا وَضَبَطَ أَمَرَهَا وَحَفَرَ حولها
خندقا من البحر إلى البحر، فجاء السلطان فحاصرها مدة، ودعا
بالأسطول من الديار المصرية في البحر، فأحاط بِهَا بَرًّا
وَبَحْرًا، فَعَدَتِ الْفِرِنْجُ فِي بَعْضِ الليالي على خمس شوانى
من أسطول المسلمين فملكتها، فأصبح المسلمون وأجمعين حزنا وتأسفا،
وقد دخل عليهم فصل الْبَرْدُ وَقَلَّتِ الْأَزْوَادُ، وَكَثُرَتِ
الْجِرَاحَاتُ وَكَلَّ الْأُمَرَاءُ مِنَ الْمُحَاصَرَاتِ،
فَسَأَلُوا السُّلْطَانَ أَنْ يَنْصَرِفَ بِهِمْ إلى دمشق حَتَّى
يَسْتَرِيحُوا ثُمَّ يَعُودُوا إِلَيْهَا بَعْدَ هَذَا الحين،
فأجابهم إلى ذلك على تمنع منه، ثم توجه بهم نحو دِمَشْقَ
وَاجْتَازَ فِي طَرِيقِهِ عَلَى عَكَّا، وَتَفَرَّقَتِ العساكر إلى
بلادها. وَأَمَّا السُّلْطَانُ فَإِنَّهُ لَمَّا وَصَلَ إِلَى
عَكَّا نَزَلَ بِقَلْعَتِهَا وَأَسْكَنَ وَلَدَهُ الْأَفْضَلَ
بُرْجُ الدَّاوِيَّةِ، وولى نيابتها عز الدين حردبيل، وَقَدْ
أَشَارَ بَعْضُهُمْ عَلَى السُّلْطَانِ بِتَخْرِيبِ مَدِينَةِ
عَكَّا خَوْفًا مِنْ عَوْدِ الْفِرِنْجِ إِلَيْهَا، فَكَادَ وَلَمْ
يَفْعَلْ وَلَيْتَهُ فَعَلَ، بَلْ وَكَّلَ بِعِمَارَتِهَا
وَتَجْدِيدِ مَحَاسِنِهَا بَهَاءَ الدِّينِ قَرَاقُوشَ
التَّقَوِيَّ، وَوَقَفَ دار الاستثارية بصفين عَلَى الْفُقَهَاءِ
وَالْفُقَرَاءِ، وَجَعَلَ دَارَ الْأَسْقُفِ مَارَسْتَانًا
وَوَقَفَ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ أَوْقَافًا دَارَّةً، وَوَلَّى نظر
ذلك إلى قاضيها جمال الدين ابن الشيخ أبى النجيب.
ولما فرغ من هذه الأشياء عاد إلى دمشق مؤيدا منصورا، وأرسل إليه
الملوك بالتهانى والتحف والهدايا من سائر الأقطار والأمصار، وكتب
الخليفة إلى السلطان يَعْتِبُ عَلَيْهِ فِي أَشْيَاءَ، مِنْهَا
أَنَّهُ بَعَثَ إليه في بشارة الفتح بوقعة حطين شابا بغداديا كَانَ
وَضِيعًا عِنْدَهُمْ، لَا قَدْرَ لَهُ وَلَا قيمة، وأرسل بفتح
القدس مع نجاب، ولقب نفسه بالناصر مضاهاة للخليفة. فتلقى ذلك
بالبشر واللطف والسمع
(12/327)
والطاعة، وأرسل يعتذر مما وقع. وقال: الحرب
كانت شغلته عن التروي في كثير من ذلك، وَأَمَّا لَقَبُهُ
بِالنَّاصِرِ فَهُوَ مِنْ أَيَّامِ الْخَلِيفَةِ المستضيء، ومع هذا
فمهما لقبني أمير المؤمنين فلا أعدل عنه، وتأدب مع الخليفة غاية
الأدب مع غناه عنه.
وفيها كَانَتْ وَقْعَةٌ عَظِيمَةٌ بِبِلَادِ الْهِنْدِ بَيْنَ
الْمَلِكِ شِهَابِ الدِّينِ الْغُورِيِّ صَاحِبِ غَزْنَةَ،
وَبَيْنَ مَلِكِ الهند الكبير، فأقبلت الهنود في عدد كَثِيرٍ مِنَ
الْجُنُودِ، وَمَعَهُمْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ فِيلًا، فالتقوا
واقتتلوا قتالا شديدا، فَانْهَزَمَتْ مَيْمَنَةُ الْمُسْلِمِينَ
وَمَيْسَرَتُهُمْ، وَقِيلَ لِلْمَلِكِ انْجُ بنفسك، فما زاده ذلك
إِلَّا إِقَدْامًا، فَحَمَلَ عَلَى الْفِيَلَةِ فَجَرَحَ
بَعْضَهَا- وَجُرْحُ الْفِيلِ لَا يَنْدَمِلُ- فَرَمَاهُ بَعْضُ
الْفَيَّالَةِ بِحَرْبَةٍ فِي سَاعِدِهِ فَخَرَجَتْ مِنَ
الْجَانِبِ الْآخَرِ فخر صريعا، فحملت عليه الهنود ليأخذوه فجاحف
عنه أصحابه فاقتتلوا عنده قتالا شديدا، وجرت حرب عظيمة لم يسمع
بمثلها بموقف، فغلب المسلمون الهنود وخلصوا صاحبهم وحملوه عَلَى
كَوَاهِلِهِمْ فِي مَحَفَّةٍ عِشْرِينَ فَرْسَخًا، وَقَدْ نَزَفَهُ
الدَّمُ، فَلَمَّا تَرَاجَعَ إِلَيْهِ جَيْشُهُ أَخَذَ فِي
تَأْنِيبِ الْأُمَرَاءِ، وَحَلَفَ لِيَأْكُلَنَّ كُلُّ أَمِيرٍ
عليق فرسه، وما أدخلهم غزنة إلا مشاة.
وفيها وَلَدَتِ امْرَأَةٌ مِنْ سَوَادِ بَغْدَادَ بِنْتًا لَهَا
أَسْنَانٌ. وَفِيهَا قَتَلَ الْخَلِيفَةُ النَّاصِرُ أُسْتَاذَ
دَارِهِ أَبَا الْفَضْلِ بْنَ الصَّاحِبِ، وَكَانَ قَدِ
اسْتَحْوَذَ عَلَى الْأُمُورِ وَلَمْ يَبْقَ لِلْخَلِيفَةِ مَعَهُ
كَلِمَةٌ تطاع، وَمَعَ هَذَا كَانَ عَفِيفًا عَنِ الْأَمْوَالِ،
جَيِّدَ السيرة، فأخذ الخليفة منه شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ
الْحَوَاصِلِ وَالْأَمْوَالِ. وَفِيهَا اسْتَوْزَرَ الخليفة أبا
المظفر جَلَالَ الدِّينِ، وَمَشَى أَهْلُ الدَّوْلَةِ فِي
رِكَابِهِ حتى قاضى القضاة ابن الدَّامَغَانِيِّ وَقَدْ كَانَ
ابْنُ يُونُسَ هَذَا شَاهِدًا عند القاضي، وكان يقول وهو يمشى في
ركابه لَعَنَ اللَّهُ طُولَ الْعُمْرِ، فَمَاتَ الْقَاضِي فِي آخر
هذه السنة.
وفيها توفى مِنَ الْأَعْيَانِ.
الشَّيْخُ عَبْدُ الْمُغِيثِ بْنُ زُهَيْرٍ الْحَرْبِيُّ
كَانَ مِنْ صُلَحَاءِ الْحَنَابِلَةِ، وَكَانَ يُزَارُ، وَلَهُ
مُصَنَّفٌ فِي فَضْلِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، أتى فيه بالغرائب
والعجائب، وقد رد عليه أبو الفرج ابن الجوزي فَأَجَادَ وَأَصَابَ،
وَمِنْ أَحْسَنِ مَا اتَّفَقَ لِعَبْدِ الْمُغِيثِ هَذَا أَنَّ
بَعْضَ الْخُلَفَاءِ- وَأَظُنُّهُ النَّاصِرَ- جاءه زائرا مستخفيا،
فعرفه الشيخ عبد المغيث ولم يعلمه بأنه قَدْ عَرَفَهُ، فَسَأَلَهُ
الْخَلِيفَةُ عَنْ يَزِيدَ أَيُلْعَنُ أَمْ لَا؟ فَقَالَ لَا
أُسَوِّغُ لَعْنَهُ لِأَنِّي لو فتحت هذا الباب لأفضى الناس إلى
لعن خليفتنا. فقال الخليفة: وَلِمَ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ يَفْعَلُ
أَشْيَاءَ مُنْكَرَةً كَثِيرَةً، مِنْهَا كَذَا وَكَذَا، ثُمَّ
شَرَعَ يُعَدِّدُ عَلَى الخليفة أفعاله القبيحة، وما يقع منه من
المنكر لِيَنْزَجِرَ عَنْهَا، فَتَرَكَهُ الْخَلِيفَةُ وَخَرَجَ
مِنْ عِنْدِهِ وقد أثر كلامه فيه، وانتفع به. مات في المحرم من هذه
السنة. وَفِيهَا تُوُفِّيَ الشَّيْخُ
عَلِيُّ بْنُ خَطَّابِ بْنِ خلف
الْعَابِدُ النَّاسِكُ، أَحَدُ الزُّهَّادِ، وَذَوِي
الْكَرَامَاتِ، وَكَانَ مُقَامُهُ بِجَزِيرَةِ ابْنِ عُمَرَ. قَالَ
ابْنُ الْأَثِيرِ
(12/328)
فِي الْكَامِلِ: وَلَمْ أَرَ مِثْلَهُ فِي
حُسْنِ خلقه وسمته وكراماته وعبادته.
الْأَمِيرُ شَمْسُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بن
مقدم
أحد نواب صَلَاحِ الدِّينِ، لَمَّا افْتَتَحَ النَّاصِرُ بَيْتَ
الْمَقْدِسِ أَحْرَمَ جَمَاعَةٌ فِي زَمَنِ الْحَجِّ مِنْهُ إِلَى
المسجد الحرام، وكان ابن مقدم أمير الحاج في تلك السنة، فلما وقف
بِعَرَفَةَ ضَرَبَ الدَّبَادِبَ وَنَشَرَ الْأَلْوِيَةَ،
وَأَظْهَرَ عِزَّ السلطان صلاح الدين وعظمته، فَغَضِبَ
طَاشْتِكِينُ أَمِيرُ الْحَاجِّ مِنْ جِهَةِ الْخَلِيفَةِ،
فَزَجَرَهُ عَنْ ذَلِكَ فَلَمْ يَسْمَعْ، فَاقْتَتَلَا فَجُرِحَ
ابْنُ مُقَدَّمٍ وَمَاتَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي بِمِنًى،
وَدُفِنَ هُنَالِكَ، وَجَرَتْ خُطُوبٌ كَثِيرَةٌ، وَلِيمَ
طَاشْتِكِينُ على ما فعل، وخاف معرة ذلك من جهة صلاح الدين
والخليفة، وعزله الخليفة عن منصبه.
محمد بن عبيد الله
ابن عبد الله سبط بن التعاويذي الشاعر، ثم أضر في آخر عمره وجاز
الستين توفى في شوال
نصر بن فتيان بن مطر
الفقيه الحنبلي المعروف بابن المنى، كان زَاهِدًا عَابِدًا،
مَوْلِدُهُ سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِمِائَةٍ، وَمِمَّنْ تَفَقَّهَ
عَلَيْهِ مِنَ الْمَشَاهِيرِ الشَّيْخُ مُوَفَّقُ الدِّينِ بْنُ
قُدْامَةَ، وَالْحَافِظُ عَبْدُ الْغَنِيِّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ خلف
بن راجح، والناصر عبد الرحمن بن المنجم بن عبد الوهاب، وعبد الرزاق
بن الشيخ عبد القادر الجيلي وغيرهم توفى خامس رمضان. وفيها توفى
قاضى القضاة.
أبو الحسن الدامغانيّ ببغداد
وَقَدْ حَكَمَ فِي أَيَّامِ الْمُقْتَفِي ثُمَّ الْمُسْتَنْجِدِ
ثُمَّ عُزِلَ وَأُعِيدَ فِي أَيَّامِ الْمُسْتَضِيءِ، وَحَكَمَ
للناصر حتى تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وثمانين وخمسمائة
فِي مُحَرَّمِهَا حَاصَرَ السُّلْطَانُ صَلَاحُ الدِّينِ حِصْنَ
كوكب فرآه منيعا صعبا، فَوَكَّلَ بِهِ الْأَمِيرَ قَايْمَازَ
النَّجْمِيَّ فِي خَمْسِمِائَةِ فارس يضيقون عليهم المسالك، وكذلك
وكل لصفت [الصغد] وكانت للداوية خمسمائة فارس مع طغرلبك الجامدار
يمنعون الميرة والتقاوى أن تصل إليهم، وبعث إلى الكرك الشوبك
يضيقون على أهلها ويحاصرونهم، ليفرغ من أموره لقتال هذه الأماكن،
ولما رجع السلطان من هذه الغزوة إلى دمشق وجد الصفي بن الفايض وكيل
الخزانة قد بنى له دَارًا بِالْقَلْعَةِ هَائِلَةً مُطِلَّةً عَلَى
الشَّرَفِ الْقِبْلِيِّ، فغضب عليه وعزله وقال: إنا لم نخلق للمقام
بدمشق ولا بغيرها من البلاد، وإنما خلقنا لعبادة الله عز وجل
والجهاد في سبيله، وهذا الّذي عملته مما يثبط النفوس ويقعدها عما
خلقت له.
وجلس السلطان بدار العدل فحضرت عِنْدَهُ الْقُضَاةُ وَأَهْلُ
الْفَضْلِ، وَزَارَ الْقَاضِيَ الْفَاضِلَ فِي بُسْتَانِهِ عَلَى
الشَّرَفِ فِي جَوْسَقِ ابْنِ الفراش، وحكى له ما جرى من الأمور،
واستشاره فيما يفعل فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنَ الْمُهِمَّاتِ
وَالْغَزَوَاتِ، ثُمَّ خَرَجَ من دمشق فسلك على بيوس وقصد البقاع،
وسار إلى حمص وحماه
(12/329)
وجاءت الجيوش من الْجَزِيرَةِ وَهُوَ عَلَى
الْعَاصِي، فَسَارَ إِلَى السَّوَاحِلِ الشمالية ففتح أنطرطوس
وغيرها من الحصون، وجبلة واللاذقية، وكانتا من أحصن المدن عمارة
ورخاما ومحالا، وَفَتَحَ صُهْيُونَ وَبَكَاسَ وَالشُّغْرَ وَهُمَا
قَلْعَتَانِ عَلَى العاصي حصينتان، فتحهما عنوة، وفتح حصن بدرية
وهي قلعة عظيمة على جبل شاهق منيع، تحتها أودية عميقة يضرب بها
المثل فِي سَائِرِ بِلَادِ الْفِرِنْجِ وَالْمُسْلِمِينَ،
فَحَاصَرَهَا أَشَدَّ حِصَارٍ وَرَكَّبَ عَلَيْهَا الْمَجَانِيقَ
الْكِبَارَ، وَفَرَّقَ الْجَيْشَ ثلاث فرق، كل فريق يقاتل، فإذا
كلوا وتعبوا خلفهم الفريق الآخر، حَتَّى لَا يَزَالَ الْقِتَالُ
مُسْتَمِرًّا لَيْلًا وَنَهَارًا، فكان فتحها في نوبة السلطان
أخذها عَنْوَةً فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ، وَنَهَبَ جَمِيعَ مَا
فيها، واستولى على حواصلها وأموالها، وقتل حملتها ورجالها، واستخدم
نساءها وَأَطْفَالَهَا، ثُمَّ عَدَلَ عَنْهَا فَفَتَحَ حِصْنَ
دَرَبْسَاكَ وَحِصْنَ بَغْرَاسَ، كُلُّ ذَلِكَ يَفْتَحُهُ عَنْوَةً
فَيَغْنَمُ ويسلم، ثم سمت به هِمَّتُهُ الْعَالِيَةُ إِلَى فَتْحِ
أَنْطَاكِيَةَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أخذ جميع ما حولها من القرى
والمدن، وَاسْتَظْهَرَ عَلَيْهَا بِكَثْرَةِ الْجُنُودِ،
فَرَاسَلَهُ صَاحِبُ أَنْطَاكِيَةَ يَطْلُبُ مِنْهُ الْهُدْنَةَ
عَلَى أَنْ يُطْلِقَ مَنْ عنده من أسرى المسلمين، فأجابه إلى ذلك
لعلمه بتضجر من معه من الجيش، فَوُقِّعَتِ الْهُدْنَةُ عَلَى
سَبْعَةِ أَشْهُرٍ، وَمَقْصُودُ السُّلْطَانِ أن يستريح من تعبها،
وأرسل السلطان مَنْ تَسَلَّمَ مِنْهُ الْأُسَارَى وَقَدْ ذُلَّتْ
دَوْلَةُ النصارى، ثم سار فَسَأَلَهُ وَلَدُهُ الظَّاهِرُ أَنْ
يَجْتَازَ بِحَلَبَ فَأَجَابَهُ إلى ذلك، فنزل بقلعتها ثلاثة أيام،
ثم استقدمه ابن أخيه تقى الدين إليه إلى حماه فنزل عنده ليلة
واحدة، وأقطعه جَبَلَةَ وَاللَّاذِقِيَّةَ، ثُمَّ سَارَ فَنَزَلَ
بِقَلْعَةِ بَعْلَبَكَّ، ودخل حمامها، ثم عاد إلى دمشق في أوائل
رمضان، وكان يوما مشهودا، وجاءته البشائر بفتح الكرك وإنقاذه من
أيدي الفرنج، وأراح الله منهم تِلْكَ النَّاحِيَةَ، وَسَهَّلَ
حَزْنَهَا عَلَى السَّالِكِينَ مِنَ التجار والغزاة والحجاج
(فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) 6: 45.
فصل في فتح صغد وَحِصْنِ كَوْكَبَ
لَمْ يُقِمِ السُّلْطَانُ بِدِمَشْقَ إِلَّا أياما حتى خرج قاصدا
صغد فَنَازَلَهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوْسَطِ مِنْ رَمَضَانَ،
وَحَاصَرَهَا بالمجانيق، وَكَانَ الْبَرْدُ شَدِيدًا يُصْبِحُ
الْمَاءُ فِيهِ جَلِيدًا، فَمَا زَالَ حَتَّى فَتَحَهَا صُلْحًا
فِي ثَامِنِ شوال، ثُمَّ سَارَ إِلَى صُورَ فَأَلْقَتْ إِلَيْهِ
بِقِيَادِهَا، وتبرأت من أنصارها وأجنادها وقوادها، وتحققت لما
فتحت صغد أنها مقرونة معها في أصفادها، ثُمَّ سَارَ مِنْهَا إِلَى
حِصْنِ كَوْكَبَ- وَهِيَ معقل الاستثارية كما أن صغد كَانَتْ
مَعْقِلَ الدَّاوِيَّةِ- وَكَانُوا أَبْغَضَ أَجْنَاسِ الْفِرِنْجِ
إلى السلطان، لَا يَكَادُ يَتْرُكُ مِنْهُمْ أَحَدًا إِلَّا
قَتْلَهُ إِذَا وَقَعَ فِي الْمَأْسُورِينَ، فَحَاصَرَ قَلْعَةَ
كَوْكَبَ حتى أخذها، وقتل من بها وَأَرَاحَ الْمَارَّةَ مِنْ شَرِّ
سَاكِنِيهَا، وَتَمَهَّدَتْ تِلْكَ السَّوَاحِلُ وَاسْتَقَرَّ
بِهَا مَنَازِلُ قَاطِنِيهَا. هَذَا وَالسَّمَاءُ تَصُبُّ،
وَالرِّيَاحُ تَهُبُّ، وَالسُّيُولُ تَعُبُّ، وَالْأَرْجُلُ فِي
الأوحال تخب، وهو في كل ذلك صابر مصابر، وكان القاضي
(12/330)
الفاضل معه في هذه الغزوة، وكتب القاضي
الفاضل إلى أخى السلطان صاحب اليمن يستدعيه إلى الشام لنصرة
الإسلام، وأنه قَدْ عَزَمَ عَلَى حِصَارِ أَنْطَاكِيَةَ، وَيَكُونُ
تَقِيُّ الدين عمر محاصرا طرابلس إِذَا انْسَلْخَ هَذَا الْعَامُ،
ثُمَّ عَزَمَ الْقَاضِي الفاضل على الدخول إلى مصر، فودعه السلطان
فدخل القدس فصلى به الجمعة وعيد فيه عيد الأضحى، ثم سار ومعه أخوه
السلطان الْعَادِلُ إِلَى عَسْقَلَانَ، ثُمَّ أَقْطَعَ أَخَاهُ
الْكَرَكَ عِوَضًا عَنْ عَسْقَلَانَ، وَأَمَرَهُ بِالِانْصِرَافِ
لِيَكُونَ عَوْنًا لابنه العزيز على حوادث مصر، وَعَادَ
السُّلْطَانُ فَأَقَامَ بِمَدِينَةِ عَكَّا حَتَّى انْسَلَخَتْ هذه
السنة.
وفيها خرجت طائفة بمصر من الرافضة ليعيدوا دَوْلَةَ
الْفَاطِمِيِّينَ، وَاغْتَنَمُوا غَيْبَةَ الْعَادِلِ عَنْ مِصْرَ،
وَاسْتَخَفُّوا أَمْرَ الْعَزِيزِ عُثْمَانَ بْنِ صَلَاحِ
الدِّينِ، فَبَعَثُوا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا يُنَادُونَ فِي
اللَّيْلِ يا آل على، يا آل على، بنياتهم على أن العامة تجيبهم فلم
يجبهم أحد، ولا التفت إليهم، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ انْهَزَمُوا
فَأُدْرِكُوا وَأُخِذُوا وَقُيِّدُوا وحبسوا، ولما بلغ أمرهم
السُّلْطَانِ صَلَاحِ الدِّينِ سَاءَهُ ذَلِكَ وَاهْتَمَّ لَهُ،
وكان القاضي الْفَاضِلُ عِنْدَهُ بَعْدُ لَمْ يُفَارِقْهُ، فَقَالَ
لَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ يَنْبَغِي أَنْ تَفْرَحَ وَلَا تَحْزَنَ،
حيث لم يصغ إلى هؤلاء الجهلة أحد من رعيتك، ولو أنك بعثت جواسيس من
قبلك يختبرون الناس لسرّك ما بلغك عنهم، فسرى عنه ما كان يجد، ورجع
إلى قوله وأرسله إلى مصر ليكون له عينا وعونا.
وفيها توفى مِنَ الْأَعْيَانِ.
الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ سُلَالَةُ الْمُلُوكِ وَالسَّلَاطِينِ
الشَّيْزَرِيُّ مُؤَيَّدُ الدَّوْلَةِ أَبُو الْحَارِثِ وَأَبُو
الْمُظَفَّرِ أُسَامَةُ بْنُ مُرْشِدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ
[مُقَلَّدِ بن نصر بن] منقد أحد الشعراء المشهورين،
الْمَشْكُورِينَ، بَلَغَ مِنَ الْعُمْرِ سِتًّا وَتِسْعِينَ
سَنَةً، وَكَانَ عُمْرُهُ تَارِيخًا مُسْتَقِلًّا وَحْدَهُ،
وَكَانَتْ دَارُهُ بدمشق، مكان العزيزية، وكانت معقلا للفضلاء،
ومنزلا للعلماء وله أشعار رائقة، ومعان فائقة، ولديه علم غزير،
وعنده جود وفضل كثير، وكان من أولاد ملوك شيزر، ثم أقام بمصر
مُدَّةً فِي أَيَّامِ الْفَاطِمِيِّينَ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الشام
فقدم عَلَى الْمَلِكِ صَلَاحِ الدِّينِ فِي سَنَةِ سَبْعِينَ
وَأَنْشَدَهُ:
حَمِدْتُ عَلَى طُولِ عُمْرِي الْمَشِيبَا ... وَإِنْ كُنْتُ
أَكْثَرْتُ فِيهِ الذُّنُوبَا
لِأَنِّي حَيِيتُ إِلَى أن لقيت ... بَعْدَ الْعَدُوِّ صَدِيقًا
حَبِيبَا
وَلَهُ فِي سِنٍّ قلعها وفقد نَفْعَهَا:
وَصَاحِبٍ لَا أَمَلُّ الدُّهْرَ صُحْبَتَهُ ... يَشْقَى لِنَفْعِي
وَيَسْعَى سَعْيَ مُجْتَهِدِ
لَمْ أَلْقَهُ مُذْ تَصَاحَبْنَا فَحِينَ بَدَا ... لِنَاظِرَيَّ
افْتَرَقْنَا فُرْقَةَ الْأَبَدِ
وَلَهُ دِيوَانُ شِعْرٍ كَبِيرٌ، وَكَانَ صَلَاحُ الدِّينِ
يُفَضِّلُهُ عَلَى سَائِرِ الدَّوَاوِينِ، وَقَدْ كَانَ مَوْلِدُهُ
فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَكَانَ فِي
شبيبته شهما شجاعا، قتل الأسد وحده مواجهة، ثُمَّ عُمِّرَ إِلَى
أَنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السنة لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ
الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ، وَدُفِنَ شرقى جبل
قائسون. قال وزرت قبره
(12/331)
وأنشدت له:
لَا تَسْتَعِرْ جَلَدًا عَلَى هُجْرَانِهِمْ ... فَقُوَاكَ
تَضْعُفُ عَنْ صُدُودٍ دَائِمِ
وَاعْلَمْ بِأَنَّكَ إِنْ رَجَعْتَ إليهم ... طوعا وإلا عدت عودة
نادم
وله أيضا
واعجب لِضَعْفِ يَدِي عَنْ حَمْلِهَا قَلَمًا ... مِنْ بَعْدِ
حَطْمِ الْقَنَا فِي لَبَّةِ الْأَسَدِ
وَقُلْ لِمَنْ يَتَمَنَّى طُولَ مُدَّتِهِ ... هَذِي عَوَاقِبُ
طُولِ الْعُمْرِ والمدد
قال ابن الأثير: وفيها توفى شيخه.
أبو محمد عبد الله بن على
ابن عبد الله بن سويد التَّكْرِيتِيُّ، كَانَ عَالِمًا
بِالْحَدِيثِ وَلَهُ تَصَانِيفُ حَسَنَةٌ.
الحازمي الحافظ
قال أبو شامة: وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ
مُحَمَّدُ بْنُ موسى بن عثمان بن حازم الحازمي الهمدانيّ
بِبَغْدَادَ، صَاحِبُ التَّصَانِيفِ، عَلَى، صِغَرِ سِنِّهِ،
مِنْهَا العجالة في النسب، والناسخ والمنسوخ وغيرها ومولدها سَنَةَ
ثَمَانٍ أَوْ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَتُوُفِّيَ
فِي الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ وخمسمائة
فِيهَا قَدِمَ مِنْ جِهَةِ الْخَلِيفَةِ رُسُلٌ إِلَى السلطان
يعلمونه بولاية العهد لأبى نصر الْمُلَقَّبِ بِالظَّاهِرِ بْنِ
الْخَلِيفَةِ النَّاصِرِ، فَأَمَرَ السُّلْطَانُ خَطِيبَ دِمَشْقَ
أَبَا الْقَاسِمِ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ زيد الدولعى أن يذكره على
المنبر، ثم جهز السلطان مع الرسل تحفا كثيرة، وَهَدَايَا
سَنِيَّةً، وَأَرْسَلَ بِأُسَارَى مِنَ الْفِرِنْجِ عَلَى
هَيْئَتِهِمْ فِي حَالِ حَرْبِهِمْ، وَأَرْسَلَ بِصَلِيبِ
الصَّلَبُوتِ فَدُفِنَ تَحْتَ عَتَبَةِ بَابِ النَّوَى، مِنْ دَارِ
الخليفة، فكان بالأقدام يداس، بعد ما كان يعظم ويباس، والصحيح أن
هذا الصليب كان منصوبا على الصخرة وكان من نحاس مطليا بالذهب، فحطه
الله إلى أسفل العتب.
قِصَّةُ عَكَّا وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهَا
لَمَّا كَانَ شَهْرُ رَجَبٍ اجْتَمَعَ مَنْ كَانَ بِصُورَ مِنَ
الْفِرِنْجِ وَسَارُوا إِلَى مَدِينَةِ عَكَّا، فَأَحَاطُوا بِهَا
يُحَاصِرُونَهَا فَتَحَصَّنَ مَنْ فِيهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ،
وَأَعَدُّوا لِلْحِصَارِ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، وَبَلَغَ
السُّلْطَانَ خَبَرُهُمْ فَسَارَ إِلَيْهِمْ مِنْ دِمَشْقَ
مُسْرِعًا، فَوَجَدَهُمْ قد أحاطوا بها إحاطة الْخَاتَمِ
بِالْخِنْصَرِ، فَلَمْ يَزَلْ يُدَافِعُهُمْ عَنْهَا
وَيُمَانِعُهُمْ مِنْهَا، حَتَّى جَعَلَ طَرِيقًا إِلَى بَابِ
الْقَلْعَةِ يَصِلُ إِلَيْهِ كُلٌّ مَنْ أَرَادَهُ، مِنْ جُنْدِيٍّ
وسوقي، وامرأة وصبي، ثم أدخل إليها ما أراد من الآلات والأمتعة،
ودخل هو بنفسه، فعلا على سُورَهَا وَنَظَرَ إِلَى الْفِرِنْجِ
وَجَيْشِهِمْ وَكَثْرَةِ عَدَدِهِمْ وعددهم، والميرة تفد إليهم في
الْبَحْرِ، فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَكُلُّ مَا لَهُمْ فِي ازْدِيَادٍ،
وَفِي كُلِّ حِينٍ تَصِلُ إِلَيْهِمُ الأمداد، ثم عاد إلى مخيمه
والجنود تفد إِلَيْهِ، وَتُقْدِمُ عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ
وَمَكَانٍ، منهم رجال وفرسان، فلما كان في العشر الأخير من شعبان
برزت الفرنج من مراكبها إلى
(12/332)
مواكبها، فِي نَحْوٍ مِنْ أَلْفَيْ فَارِسٍ
وَثَلَاثِينَ أَلْفَ راجل، فبرز إليهم السلطان فيمن معه من
الشُّجْعَانِ فَاقْتَتَلُوا بِمَرْجِ عَكَّا قِتَالًا عَظِيمًا،
وَهُزِمَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ،
ثُمَّ كانت الدائرة على الفرنج فكانت القتلى بينهم أزيد من سبعة
آلاف قتيل، ولما تناهت هذه الوقعة تحول السلطان عن مَكَانِهِ
الْأَوَّلِ إِلَى مَوْضِعٍ بَعِيدٍ مِنْ رَائِحَةِ القتلى، خوفا من
الوخم والأذى، وليستريح الْخَيَّالَةُ وَالْخَيْلُ، وَلَمْ
يَعْلَمْ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ من أكبر مصالح العدو المخذول، فإنهم
اغتنموا هذه الفرصة فحفروا حول مخيمهم خندقا من البحر محدقا
بجيشهم، وَاتَّخَذُوا مِنْ تُرَابِهِ سُورًا شَاهِقًا، وَجَعَلُوا
لَهُ أَبْوَابًا يَخْرُجُونَ مِنْهَا إِذَا أَرَادُوا
وَتَمَكَّنُوا فِي منزلهم ذلك الّذي اختاروا وارتادوا، وتفارط
الأمر على المسلمين، وَقَوِيَ الْخَطْبُ وَصَارَ الدَّاءُ
عُضَالًا، وَازْدَادَ الْحَالُ وبالا، اختبارا من الله وامتحانا،
وَكَانَ رَأْيُ السُّلْطَانِ أَنْ يُنَاجَزُوا بَعْدَ الْكَرَّةِ
سريعا، ولا يتركوا حتى يطيب البحر فتأتيهم الأمداد من كل صوب،
فتعذر عليه الأمر باملال الجيش والضجر، وكل منهم لِأَمْرِ
الْفِرِنْجِ قَدِ احْتَقَرَ، وَلَمْ يَدْرِ مَا قَدْ حُتِّمَ فِي
الْقَدَرِ، فَأَرْسَلَ السُّلْطَانُ إِلَى جَمِيعِ الْمُلُوكِ
يَسْتَنْفِرُ وَيَسْتَنْصِرُ، وَكَتَبَ إِلَى الْخَلِيفَةِ بالبث،
وبث الكتب بالتحضيض والحث السريع، فَجَاءَتْهُ الْأَمْدَادُ
جَمَاعَاتٍ وَآحَادًا، وَأَرْسَلَ إِلَى مِصْرَ يطلب أخاه العادل
ويستعجل الأسطول، فقدم عليه فوصل إليه خمسون قِطْعَةً فِي
الْبَحْرِ مَعَ الْأَمِيرِ حُسَامِ الدِّينِ لؤلؤ، وقدم العادل في
عسكر المصريين، فلما وصل الاسطول حادت مراكب الفرنج عنه يمنة
ويسرة، وخافوا منه، واتصل بالبلد الميرة والعدد والعدد، وانشرحت
الصدور بذلك، وانسلخت هذه السنة والحال ما حال بل هو عَلَى مَا
هُوَ عَلَيْهِ وَلَا مَلْجَأَ مِنَ الله إلا إليه.
وفيها توفى مِنَ الْأَعْيَانِ.
الْقَاضِي شَرَفُ الدِّينِ أَبُو سَعْدٍ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ هِبَةِ اللَّهِ بْنِ أَبِي
عَصْرُونَ أَحَدُ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ، لَهُ كتاب الانتصاف،
وَقَدْ وَلِيَ قَضَاءَ الْقُضَاةِ بِدِمَشْقَ، ثُمَّ أَضَرَّ قبل
موته بعشر سنين، فجعل ولده نجم الدين مكانه بطيب قلبه وقد بلغ من
العمر ثَلَاثًا وَتِسْعِينَ سَنَةً وَنِصْفًا، وَدُفِنَ
بِالْمَدْرَسَةِ الْعَصْرُونِيَّةِ، التي أنشأها عند سَوِيقَةِ
بَابِ الْبَرِيدِ، قُبَالَةَ دَارِهِ، بَيْنَهُمَا عَرْضُ الطريق،
وكان من الصالحين والعلماء العاملين. وقد ذكره ابن خلكان فقال: كان
أصله من حديثة عانة الْمَوصِلِ، وَرَحَلَ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ
إِلَى بُلْدَانٍ شَتَّى، وَأَخَذَ عَنْ أَسْعَدَ الْمِيهَنِيِّ
وَأَبِي عَلِيٍّ الْفَارِقِيِّ وَجَمَاعَةٍ، وَوَلِيَ قَضَاءَ
سِنْجَارَ وَحَرَّانَ، وَبَاشَرَ فِي أَيَّامِ نُورِ الدِّينِ
تَدْرِيسَ الْغَزَّالِيَّةِ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى حَلَبَ فَبَنَى
لَهُ نُورُ الدِّينِ بحلب مدرسة وبحمص أخرى، ثُمَّ قَدِمَ دِمَشْقَ
فِي أَيَّامِ صَلَاحِ الدِّينِ، فَوَلِيَ قَضَاءَهَا فِي سَنَةِ
ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ وَخَمْسِمِائَةِ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ فِي
هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ جَمَعَ جُزْءًا فِي قَضَاءِ الْأَعْمَى،
وَأَنَّهُ جَائِزٌ، وهو خلاف المذهب، وقد حَكَاهُ صَاحِبُ
الْبَيَانِ وَجْهًا لِبَعْضِ الْأَصْحَابِ. قَالَ: ولم أره في
غيره، ولكن حبك الشيء يعمى ويصم، وَقَدْ صَنَّفَ كُتُبًا
كَثِيرَةً،
(12/333)
مِنْهَا صَفْوَةُ الْمَذْهَبِ فِي
نِهَايَةِ الْمَطْلَبِ، فِي سبع مجلدات، والانتصاف في أربعة،
والخلاف في أربعة، والذريعة [في معرفة الشريعة] والمرشد وغير ذلك،
و [كتابا سماه مأخذ النظر، ومختصرا] في الفرائض، وَقَدْ ذَكَرَهُ
ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ وَالْعِمَادُ فَأَثْنَى عَلَيْهِ،
وَكَذَلِكَ الْقَاضِي الْفَاضِلُ. وَأَوْرَدَ لَهُ العماد أشعارا
كثيرة وابن خلكان، منها:
أُؤَمِّلُ أَنْ أَحْيَا وَفِي كُلِّ سَاعَةٍ ... تَمُرُّ بى الموتى
يهز نُعُوشُهَا
وَهَلْ أَنَا إِلَّا مِثْلُهُمْ غَيْرَ أَنَّ لِي ... بَقَايَا
لَيَالٍ فِي الزَّمَانِ أَعِيشُهَا
أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ وَهْبَانَ
أَبُو الْعَبَّاسِ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ أَفْضَلِ الزَّمَانِ،
قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: كَانَ عَالِمًا مُتَبَحِّرًا فِي عُلُومٍ
كَثِيرَةٍ مِنَ الْفِقْهِ، وَالْأُصُولِ وَالْحِسَابِ
وَالْفَرَائِضِ وَالنُّجُومِ وَالْهَيْئَةِ وَالْمَنْطِقِ وَغَيْرِ
ذَلِكَ، وَقَدْ جَاوَرَ بِمَكَّةَ وَأَقَامَ بِهَا إِلَى أَنْ
مَاتَ بِهَا، وَكَانَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ صُحْبَةً وَخُلُقًا.
الْفَقِيهُ الْأَمِيرُ ضِيَاءُ الدِّينِ عِيسَى الْهَكَّارِيُّ
كَانَ مِنْ أَصْحَابِ أَسَدِ الدِّينِ شِيرَكُوهْ، دَخَلَ مَعَهُ
إِلَى مِصْرَ، وَحَظِيَ عِنْدَهُ، ثُمَّ كَانَ مُلَازِمًا
لِلسُّلْطَانِ صَلَاحِ الدِّينِ حَتَّى مات فِي رِكَابِهِ
بِمَنْزِلَةِ الْخَرُّوبَةِ قَرِيبًا مِنْ عَكَّا، فنقل إلى القدس
فدفن به، كان مِمَّنْ تَفَقَّهَ عَلَى الشَّيْخِ أَبِي الْقَاسِمِ
بْنِ البرزي الجزري، وكان من الفضلاء والأمراء الكبار.
الْمُبَارَكُ بْنُ الْمُبَارَكِ الْكَرْخِيُّ
مُدَرِّسُ النِّظَامِيَّةِ، تَفَقَّهَ بابن الخل [وحظي] بمكانة
عِنْدَ الْخَلِيفَةِ وَالْعَامَّةِ، وَكَانَ يُضْرَبُ بِحُسْنِ
خَطِّهِ المثل. ذكرته في الطبقات.
ثم دخلت سنة ست وثمانين وخمسمائة
استهلت والسلطان محاصر لحصن عكا، وأمداد الفرنج تَفِدُ إِلَيْهِمْ
مِنَ الْبَحْرِ فِي كُلِّ وَقْتٍ، حتى أن نساء الفرنج لِيَخْرُجْنَ
بِنِيَّةِ الْقِتَالِ، وَمِنْهُنَّ مَنْ تَأْتِي بِنِيَّةِ راحة
الغرباء لينكحوها في الغربة، فيجدون راحة وخدمة وقضاء وطر، قدم
إليهم مركب فيه ثلاثمائة امرأة من أحسن النساء وأجملهن بهذه النية،
فإذا وجدوا ذلك ثبتوا على الحرب والغربة، حَتَّى إِنَّ كَثِيرًا
مِنْ فَسَقَةِ الْمُسْلِمِينَ تَحَيَّزُوا إليهم من أجل هذه
النسوة، واشتهر الخبر بذلك. وشاع بين المسلمين والفرنج بأن ملك
الألمان قد أقبل بثلاثمائة أَلْفِ مُقَاتِلٍ، مِنْ نَاحِيَةِ
الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، يُرِيدُ أَخْذَ الشام وقتل أهله، انتصارا
لبيت المقدس فعند ذلك حمل السلطان والمسلمون هما عظيما، وخافوا
غاية الخوف، مع ما هم فيه من الشغل والحصار الهائل، وقويت قلوب
الفرنج بذلك، واشتدوا للحصار والقتال، ولكن لطف الله وأهلك عامة
جنده فِي الطُّرُقَاتِ بِالْبَرْدِ وَالْجُوعِ وَالضَّلَالِ فِي
الْمَهَالِكِ، على ما سيأتي بيانه. وكان سبب قتال الفرنج وخروجهم
(12/334)
من بلادهم ونفيرهم مَا ذَكَرَهُ ابْنُ
الْأَثِيرِ فِي كَامِلِهِ أَنَّ جماعة من الرهبان والقسيسين الذين
كانوا ببيت المقدس وغيره، ركبوا من صور في أربعة مراكب، وخرجوا
يطوفون ببلدان النصارى البحرية، وما هو قاطع البحر من الناحية
الأخرى، يحرضون الفرنج ويحثونهم على الانتصار لبيت المقدس، ويذكرون
لهم ما جرى على أهل القدس، وأهل السَّوَاحِلِ مِنَ الْقَتْلِ
وَالسَّبْيِ وَخَرَابِ الدِّيَارِ، وَقَدْ صوروا صورة المسيح وصورة
عربي آخر يضربه ويؤذيه، فَإِذَا سَأَلُوهُمْ مَنْ هَذَا الَّذِي
يَضْرِبُ الْمَسِيحَ؟ قَالُوا هَذَا نَبِيُّ الْعَرَبِ يَضْرِبُهُ
وَقَدْ جَرَحَهُ ومات، فينزعجون لذلك ويحمون ويبكون ويحزنون فعند
ذلك خرجوا مِنْ بِلَادِهِمْ لِنُصْرَةِ دِينِهِمْ وَنَبِيِّهِمْ،
وَمَوْضِعِ حَجِّهِمْ على الصعب والذلول، حتى النساء المخدرات
والزواني والزانيات الَّذِينَ هُمْ عِنْدَ أَهْلِيهِمْ مِنْ
أَعْزِّ الثَّمَرَاتِ.
وفي نصف ربيع الأول تسلم السلطان شعيف أربون بِالْأَمَانِ، وَكَانَ
صَاحِبُهُ مَأْسُورًا فِي الذُّلِّ وَالْهَوَانِ، وَكَانَ مِنْ
أَدْهَى الْفِرِنْجِ وَأَخْبَرِهِمْ بِأَيَّامِ النَّاسِ،
وَرُبَّمَا قَرَأَ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَتَفْسِيرِ الْقُرْآنِ،
وكان مع هذا غليظ الجلد قاسي القلب، كافر النفس. وَلَمَّا
انْفَصَلَ فَصْلُ الشِّتَاءِ وَأَقْبَلَ الرَّبِيعُ جَاءَتِ ملوك
الإسلام مِنْ بُلْدَانِهَا بِخُيُولِهَا وَشُجْعَانِهَا،
وَرِجَالِهَا وَفُرْسَانِهَا، وَأَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ إِلَى
الْمَلِكِ صَلَاحِ الدِّينِ أَحْمَالًا مِنَ النِّفْطِ
وَالرِّمَاحِ، وَنَفَّاطَةً وَنَقَّابِينَ، كُلٌّ مِنْهُمْ
مُتْقِنٌ فِي صَنْعَتِهِ غَايَةَ الْإِتْقَانِ، وَمَرْسُومًا
بِعِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَانْفَتَحَ الْبَحْرُ وَتَوَاتَرَتْ
مَرَاكِبُ الْفِرِنْجِ مِنْ كل جزيرة، لأجل نصرة أصحابهم، يمدونهم
بِالْقُوَّةِ وَالْمِيرَةِ، وَعَمِلَتِ الْفِرِنْجُ ثَلَاثَةَ
أَبْرِجَةٍ مِنْ خَشَبٍ وَحَدِيدٍ، عَلَيْهَا جُلُودٌ مُسْقَاةٌ
بِالْخَلِّ، لِئَلَّا يَعْمَلَ فِيهَا النِّفْطُ، يَسَعُ الْبُرْجُ
مِنْهَا خَمْسَمِائَةِ مقاتل، وهي أعلا مِنْ أَبْرِجَةِ الْبَلَدِ،
وَهِيَ مُرَكَّبَةٌ عَلَى عَجَلٍ بِحَيْثُ يُدِيرُونَهَا كَيْفَ
شَاءُوا، وَعَلَى ظَهْرِ كُلِّ منها منجنيق كبير، فلما رأى
المسلمون ذلك أهمهم أمرها وخافوا على البلد ومن فيه من المسلمين أن
يؤخذوا، وحصل لهم ضيق منها، فأعمل السلطان فكره بإحراقها، وأحضر
النفاطين ووعدهم بالأموال الجزيلة إن هم أحرقوها، فانتدب لذلك
شَابٌّ نَحَّاسٌ مِنْ دِمَشْقَ يُعْرَفُ بِعَلِيِّ بْنِ عريف
النحاسين، والتزم بإحراقها، فأخذ النفط الأبيض وخلطه بأدوية
يعرفها، وعلى ذَلِكَ فِي ثَلَاثَةِ قُدُورٍ مِنْ نُحَاسٍ حَتَّى
صَارَ نَارًا تَأَجَّجُ، وَرَمَى كُلَّ بُرْجٍ مِنْهَا بِقَدْرٍ
مِنْ تِلْكَ الْقُدُورِ بِالْمَنْجَنِيقِ مِنْ دَاخِلِ عكا،
فاحترقت الأبرجة الثلاثة حتى صارت نارا باذن الله، لها ألسنة في
الجو متصاعدة، واحترق من كان فيها، فَصَرَخَ الْمُسْلِمُونَ
صَرْخَةً وَاحِدَةً بِالتَّهْلِيلِ، وَاحْتَرَقَ فِي كُلِّ بُرْجٍ
مِنْهَا سَبْعُونَ كَفُورًا، وَكَانَ يَوْمًا على الكافرين عسيرا،
وذلك يوم الاثنين الثاني وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وكان الفرنج قد تعبوا في عملها سَبْعَةَ
أَشْهُرٍ، فَاحْتَرَقَتْ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ (وَقَدِمْنا إِلى مَا
عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) 25: 23 ثم
أمر السلطان لذلك الشاب النحاس بعطية سنية، وأموال كثيرة فامتنع أن
يقبل شيئا من ذلك، وقال: إنما عملت ذلك ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ،
وَرَجَاءَ
(12/335)
مَا عِنْدَهُ سُبْحَانَهُ، فَلَا أُرِيدُ
مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا.
وَأَقْبَلَ الْأُسْطُولُ الْمِصْرِيُّ وَفِيهِ الْمِيرَةُ الكثيرة
لأهل البلد، فعبى الفرنج أسطولهم ليقاتلوا أسطول المسلمين، نهض
السلطان بجيشه ليشغلهم عنهم، وَقَاتَلَهُمْ أَهْلُ الْبَلَدِ
أَيْضًا وَاقْتَتَلَ الْأُسْطُولَانِ فِي البحر، وكان يوما عسيرا،
وحربا في البر والبحر، فظفرت الفرنج بشبينى وَاحِدٍ مِنَ
الْأُسْطُولِ الَّذِي لِلْمُسْلِمِينَ، وَسَلَّمَ اللَّهُ
الْبَاقِيَ فَوَصَلَ إِلَى الْبَلَدِ بِمَا فِيهِ مِنَ الميرة،
وكانت حاجتهم قد اشتدت إليها جدا، بل إلى بعضها.
وَأَمَّا مَلِكُ الْأَلْمَانِ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُ فَإِنَّهُ
أَقْبَلَ في عدد وعدد كثير جدا، قَرِيبٍ مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ
أَلْفِ مُقَاتِلٍ، مِنْ نِيَّتِهِ خراب البلد وقتل أهلها من
المسلمين، والانتصار لبيت المقدس، وأن يأخذ البلاد إقليما بعد
إقليم، حتى مكة والمدينة، فما نال من ذلك شيئا بعون الله وقوته، بل
أهلكهم الله عز وجل في كل مكان وزمان، فكانوا يتخطفون كما يتخطف
الْحَيَوَانُ، حَتَّى اجْتَازَ مَلِكُهُمْ بِنَهْرٍ شَدِيدِ
الْجَرْيَةِ فَدَعَتْهُ نَفْسُهُ أَنْ يَسْبَحَ فِيهِ، فَلَمَّا
صَارَ فيه حمله الماء إلى شَجَرَةٍ فَشَجَّتْ رَأْسَهُ،
وَأَخْمَدَتْ أَنْفَاسَهُ، وَأَرَاحَ اللَّهُ منه العباد والبلاد،
فأقيم ولده الأصغر في الملك، وَقَدْ تَمَزَّقَ شَمْلُهُمْ،
وَقَلَّتْ مِنْهُمُ الْعُدَّةُ، ثُمَّ أَقْبَلُوا لَا يَجْتَازُونَ
بِبَلَدٍ إِلَّا قُتِلُوا فِيهِ، فما وصلوا إلى أصحابهم الذين على
عكا إلا في ألف فارس، فلم يرفعوا بهم رأسا ولا لهم قدرا ولا قيمة
بينهم، ولا عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ مِلَّتِهِمْ وَلَا
غَيْرِهِمْ، وهكذا شأن من أراد إطفاء نور الله وإذ لال دين
الإسلام. وَزَعَمَ الْعِمَادُ فِي سِيَاقِهِ أَنَّ الْأَلْمَانَ
وَصَلُوا في خمسة آلاف، وأن ملوك الافرنج كُلَّهُمْ كَرِهُوا
قُدُومَهُمْ عَلَيْهِمْ، لِمَا يَخَافُونَ مِنْ سطوة ملكهم،
وَزَوَالِ دَوْلَتِهِمْ بِدَوْلَتِهِ، وَلَمْ يَفْرَحْ بِهِ إِلَّا
الْمَرْكِيسُ صَاحِبُ صُورَ، الَّذِي أَنْشَأَ هَذِهِ الْفِتْنَةَ
وأثار هذه المحنة، فإنه تقوى به وبكيده، فإنه كان خبيرا بالحروب،
وقد قدم بأشياء كَثِيرَةً مِنْ آلَاتِ الْحَرْبِ لَمْ تَخْطُرْ
لِأَحَدٍ بِبَالٍ نَصَبَ دَبَّابَاتٍ أَمْثَالَ الْجِبَالِ،
تَسِيرُ بِعَجَلٍ ولها زلوم من حديد، تنطح السور فتخرقه، وتثلم
جوانبه، فمنّ الله العظيم بإحراقها، وأراح الله المسلمين منها،
ونهض صاحب الألمان بالعسكر الفرنجى فصادم به جيش المسلمين [فجاءت
جيوش المسلمين] بِرُمَّتِهَا إِلَيْهِ، فَقَتَلُوا مِنَ
الْكَفَرَةِ خَلْقًا كَثِيرًا وجما غفيرا، وهجموا مرة على مخيم
السلطان بغتة فتهبوا بعض الأمتعة، فنهض الْمَلِكُ الْعَادِلُ أَبُو
بَكْرٍ- وَكَانَ رَأْسَ الْمَيْمَنَةِ- فَرَكِبَ، فِي أَصْحَابِهِ
وَأَمْهَلَ الْفِرِنْجَ حَتَّى تَوَغَّلُوا بَيْنَ الْخِيَامِ،
ثُمَّ حَمَلَ عَلَيْهِمْ بِالرِّمَاحِ وَالْحُسَامِ، فهربوا بَيْنَ
يَدَيْهِ فَمَا زَالَ يَقْتُلُ مِنْهُمْ جَمَاعَةً بعد جماعة،
وفرقة بعد فرقة، حتى كسوا وَجْهَ الْأَرْضِ مِنْهُمْ حُلَلًا
أَزْهَى مِنَ الرِّيَاضِ الباسمة، وأحب إلى النفوس من الخدود
الناعمة، وأقل ما قيل إنه قتل منهم خمسة آلاف، وزعم العماد أَنَّهُ
قَتَلَ مِنْهُمْ فِيمَا بَيْنُ الظُّهْرِ إِلَى العصر عشرة آلاف
والله أعلم.
هَذَا وَطَرَفُ الْمَيْسَرَةِ لَمْ يَشْعُرْ بِمَا جَرَى ولا درى،
بل نائمون وقت القائلة في خيامهم، وكان
(12/336)
الذين ساقوا وراءهم أَقَلَّ مِنْ أَلْفٍ،
وَإِنَّمَا قُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عشرة أو دونهم، وهذه نعمة
عظيمة، وقد أوهن هذا جيش الفرنج وأضعفهم، وَكَادُوا يَطْلُبُونَ
الصُّلْحَ وَيَنْصَرِفُونَ عَنِ الْبَلَدِ، فَاتَّفَقَ قدوم مدد
عظيم إِلَيْهِمْ مِنَ الْبَحْرِ مَعَ مَلِكٍ يُقَالُ لَهُ كيدهري،
ومعه أموال كثيرة فأنفق فيهم وغرم عليهم وأمرهم أن يبرزوا معه
لقتال المسلمين، وَنَصَبَ عَلَى عَكَّا مَنْجَنِيقَيْنِ، غَرِمَ
عَلَى كُلِّ واحد منهما ألفا وخمسمائة دينار، فأحرقهما المسلمون من
داخل الْبَلَدِ، وَجَاءَتْ كُتُبُ صَاحِبِ الرُّومِ مِنَ
الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ يعتذر لصلاح الدِّينِ مِنْ جِهَةِ مَلِكِ
الْأَلْمَانِ، وَأَنَّهُ لَمْ يتجاوز بلده باختياره، وأنه تجاوزه
لكثرة جنوده، ولكن ليبشر السُّلْطَانَ بِأَنَّ اللَّهَ
سَيُهْلِكُهُمْ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وكذلك وقع، وأرسل إلى السلطان
يخبره بأنه يقيم للمسلمين عنده جمعة وخطبا، فأرسل السلطان مع رسله
خطيبا ومنبرا، وكان يَوْمُ دُخُولِهِمْ إِلَيْهِ يَوْمًا
مَشْهُودًا، وَمَشْهَدًا مَحْمُودًا، فأقيمت الخطبة بالقسطنطينية،
وَدَعَا لِلْخَلِيفَةِ الْعَبَّاسِيِّ، وَاجْتَمَعَ فِيهَا مَنْ
هُنَاكَ من المسلمين من التجار والمسلمين الأسرى والمسافرين إليها
والحمد للَّه رَبِّ الْعَالَمِينَ.
فَصْلٌ
وَكَتَبَ مُتَوَلِّي عَكَّا مِنْ جِهَةِ السُّلْطَانِ صَلَاحِ
الدِّينِ وَهُوَ الْأَمِيرُ بَهَاءُ الدِّينِ قَرَاقُوشُ، فِي
الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ شَعْبَانَ إِلَى السُّلْطَانِ: إِنَّهُ
لَمْ يَبْقَ عِنْدَهُمْ فِي الْمَدِينَةِ مِنَ الْأَقْوَاتِ إِلَّا
مَا يُبَلِّغُهُمْ إِلَى لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ،
فَلَمَّا وَصَلَ الْكِتَابُ إِلَى السُّلْطَانِ أَسَرَّهَا يُوسُفُ
فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يبدها لهم، خوفا من إشاعة ذلك فيبلغ العدو
فيقدموا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَتَضْعُفَ الْقُلُوبُ، وَكَانَ
قَدْ كَتَبَ إِلَى أَمِيرِ الْأُسْطُولِ بِالدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ أَنْ يَقَدَمَ بِالْمِيرَةِ إِلَى عَكَّا،
فَتَأَخَّرَ سَيْرُهُ، ثُمَّ وَصَلَتْ ثلاث بطش لَيْلَةَ
النِّصْفِ، فِيهَا مِنَ الْمِيرَةِ مَا يَكْفِي أهل البلد طول
الشتاء، وهي صحبة الْحَاجِبِ لُؤْلُؤٍ، فَلَمَّا أَشْرَفَتْ عَلَى
الْبَلَدِ نَهَضَ إِلَيْهَا أُسْطُولُ الْفِرِنْجِ لِيَحُولَ
بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْبَلَدِ، وَيُتْلِفَ مَا فِيهَا،
فَاقْتَتَلُوا فِي الْبَحْرِ قِتَالًا شديدا، وَالْمُسْلِمُونَ فِي
الْبَرِّ يَبْتَهِلُونَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي
سَلَامَتِهَا، وَالْفِرِنْجُ أَيْضًا تَصْرُخُ بَرًّا وَبَحْرًا،
وَقَدِ ارْتَفَعَ الضَّجِيجُ، فَنَصَرَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ
وسلم مراكبهم، وطابت الريح للبطش فسارت فأحرقت الْمَرَاكِبَ
الْفِرِنْجيَّةَ الْمُحِيطَةَ بِالْمِينَاءِ، وَدَخَلَتِ الْبَلَدَ
سَالِمَةً، فَفَرِحَ بِهَا أَهْلُ الْبَلَدِ وَالْجَيْشُ فَرَحًا
شَدِيدًا، وكان السلطان قد جهز قبل هذه البطش الثلاث بطشة كبيرة من
بيروت، فيها أربعمائة غرارة، وفيها من الجبن والشحم والقديد
والنشاب والنفط شيء كثير، وكانت هذه البطشة من بطش الفرنج
المغنومة، وأمر من فيها من التجار أن يلبسوا زي الفرنج حتى أنهم
خلقوا لحاهم، وشدوا الزنانير، واستصحبوا في البطشة معهم شَيْئًا
مِنَ الْخَنَازِيرِ، وَقَدِمُوا بِهَا عَلَى مَرَاكِبِ الْفِرِنْجِ
فَاعْتَقَدْوا أَنَّهُمْ مِنْهُمْ وَهِيَ سَائِرَةٌ كَأَنَّهَا
السهم إذا خرج من كبد القوس، فحذرهم الفرنج غائلة الميناء من ناحية
البلد، فاعتذروا
(12/337)
بأنهم مغلوبون عنها، ولا يمكنهم حبسها من
قوة الريح، وما زالوا كذلك حتى ولجوا الميناء فأفرغوا مَا كَانَ
مَعَهُمْ مِنَ الْمِيرَةِ، وَالْحَرْبُ خُدْعَةٌ، فعبرت المنياء
فامتلأ الثغر بها خيرا، فكفتهم إلى أن قدمت عليهم تلك البطش الثلاث
المصرية. وكانت البلد يكتنفها برجان يقال لأحدهما برج الديان،
فاتخذت الفرنج بطشة عظيمة لها خرطوم وفيه محركات إِذَا أَرَادُوا
أَنْ يَضَعُوهُ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْأَسْوَارِ وَالْأَبْرِجَةِ
قَلَبُوهُ فَوَصَلَ إِلَى مَا أَرَادُوا، فعظم أمر هذه البطشة
عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَزَالُوا فِي أَمْرِهَا
مُحْتَالِينَ، حَتَّى أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهَا شُوَاظًا مِنْ
نَارٍ فَأَحْرَقَهَا وَأَغْرَقَهَا، وَذَلِكَ أَنَّ الْفِرِنْجَ
أَعَدُّوا فِيهَا نِفْطًا كَثِيرًا وَحَطَبًا جَزْلًا، وَأُخْرَى
خَلْفَهَا فِيهَا حطب محض، فلما أراد المسلمون المحافظة على
الميناء أرسلوا النفط على بطشة الحطب فاحترقت وهي سائرة بين بطش
المسلمين، واحترقت الأخرى، وكان في بطشة أُخْرَى لَهُمْ
مُقَاتِلَةٌ تَحْتَ قَبْوٍ قَدْ أَحْكَمُوهُ فيها، فلما أرسلوا
النفط على برج الديان انْعَكَسَ الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ بِقُدْرَةِ
اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ لِشِدَّةِ الْهَوَاءِ تِلْكَ
اللَّيْلَةَ، فَمَا تَعَدَّتِ النَّارُ بطشتهم فَاحْتَرَقَتْ،
وَتَعَدَّى الْحَرِيقُ إِلَى الْأُخْرَى فَغَرِقَتْ، وَوَصَلَ إلى
بطشة المقاتلة فتلفت، وهلك من فيها، فاشبهوا من سلف من أهل الكتاب
من الكافرين، في قوله تعالى (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ
بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) 59: 2.
فَصْلٌ
وَفِي ثَالِثِ رَمَضَانَ اشْتَدَّ حِصَارُ الْفِرِنْجِ للمدينة
حَتَّى نَزَلُوا إِلَى الْخَنْدَقِ، فَبَرَزَ إِلَيْهِمْ أَهْلُ
الْبَلَدِ فَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَتَمَكَّنُوا
مِنْ حريق الكيس والأسوار، وسرى حريقه إلى السقوف، وَارْتَفَعَتْ
لَهُ لَهَبَةٌ عَظِيمَةٌ فِي عَنَانِ السَّمَاءِ، ثُمَّ
اجْتَذَبَهُ الْمُسْلِمُونَ إِلَيْهِمْ بِكَلَالِيبَ مِنْ حَدِيدٍ
في سلاسل، فحصل عِنْدَهُمْ وَأَلْقَوْا عَلَيْهِ الْمَاءَ
الْبَارِدَ فَبَرُدَ بَعْدَ أَيَّامٍ، فَكَانَ فِيهِ مِنَ
الْحَدِيدِ مِائَةُ قِنْطَارٍ بالدمشقي، وللَّه الحمد والمنة.
وفي الثامن والعشرين من رمضان توفى الملك زين الدين صاحب أربل في
حصار عكا مع السلطان، فَتَأَسَّفَ النَّاسُ عَلَيْهِ لِشَبَابِهِ
وَغُرْبَتِهِ وَجَوْدَتِهِ، وَعُزِّيَ أخاه مظفر الدين فيه، وقام
بالملك من بعده وسأل من صلاح الدين أن يضيف إليه شهرزور وحران
وَالرُّهَا وَسُمَيْسَاطَ وَغَيْرَهَا، وَتَحَمَّلَ مَعَ ذَلِكَ
خَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ نَقْدًا، فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ،
وَكَتَبَ لَهُ تَقْلِيدًا، وَعَقَدَ لَهُ لِوَاءً، وَأُضِيفُ مَا
تَرَكَهُ إِلَى الْمَلِكِ الْمُظَفَّرِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ
أَخِي السُّلْطَانِ صَلَاحِ الدِّينِ.
فَصْلٌ
وَكَانَ الْقَاضِي الفاضل بمصر يُدَبِّرُ الْمَمَالِكَ بِهَا،
وَيُجَهِّزُ إِلَى السُّلْطَانِ مَا يحتاج إليه من الأموال،
(12/338)
وعمل الأسطول والكتب السلطانية، فمنها
كِتَابٌ يَذْكُرُ فِيهِ أَنَّ سَبَبَ هَذَا التَّطْوِيلِ في الحصار
كثرة الذنوب، وارتكاب المحارم بين الناس، فان اللَّهَ لَا يُنَالُ
مَا عِنْدَهُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ، ولا يفرج الشدائد إلا بالرجوع
إليه، وامتثال أمره، فكيف لا يطول الحصار والمعاصي في كل مكان
فاشية، وقد صعد إلى الله منها ما يتوقع بعده الاستعاذة مِنْهُ،
وَفِيهِ أَنَّهُ قَدْ بَلَغَهُ أَنَّ بَيْتَ المقدس قد ظهر فيه
الْمُنْكَرَاتِ وَالْفَوَاحِشِ وَالظُّلْمِ فِي بِلَادِهِ مَا لَا
يمكن تلافيه إلا بكلفة كثيرة. ومنها كِتَابٌ يَقُولُ فِيهِ
إِنَّمَا أُتِينَا مِنْ قِبَلِ أنفسنا، ولو صدقنا لعجل الله لَنَا
عَوَاقِبَ صِدْقِنَا، وَلَوْ أَطَعْنَاهُ لَمَّا عَاقَبَنَا
بِعَدُوِّنَا، وَلَوْ فَعَلْنَا مَا نَقَدِرُ عَلَيْهِ مِنْ
أَمْرِهِ لَفَعَلَ لَنَا مَا لَا نَقَدِرُ عَلَيْهِ إلا به، فلا
يختصم أحد إلا نفسه وعمله، ولا يرج إلا ربه ولا يغتر بكثرة العساكر
والأعوان، وَلَا فُلَانٌ الَّذِي يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ أَنْ
يُقَاتِلَ ولا فلان، فَكُلُّ هَذِهِ مَشَاغِلُ عَنِ اللَّهِ لَيْسَ
النَّصْرُ بها، وإنما النصر من عند الله، وَلَا نَأْمَنُ أَنْ
يَكِلَنَا اللَّهُ إِلَيْهَا، وَالنَّصْرُ به واللطف منه،
وَنَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تَعَالَى مِنْ ذُنُوبِنَا، فَلَوْلَا
أَنَّهَا تَسُدُّ طَرِيقَ دُعَائِنَا لَكَانَ جَوَابُ دُعَائِنَا
قَدْ نَزَلَ، وَفَيْضُ دُمُوعِ الْخَاشِعِينَ قَدْ غَسَلَ،
وَلَكِنْ فِي الطَّرِيقِ عَائِقٌ، خَارَ اللَّهُ لِمَوْلَانَا فِي
القضاء السابق واللاحق. ومن كِتَابٍ آخَرَ يَتَأَلَّمُ فِيهِ لِمَا
عِنْدَ السُّلْطَانِ مِنَ الضَّعْفِ فِي جِسْمِهِ بِسَبَبِ مَا
حَمَلَ عَلَى قَلْبِهِ مِمَّا هُوَ فِيهِ مِنَ الشَّدَائِدِ، أثابه
الله بقوله: وما في نفس المملوك شائنة إلا بقية هذا الضعف الّذي في
جسم مولانا فإنه بقلوبنا، ونفديه بأسماعنا وأبصارنا ثم قال:
بِنَا مَعْشَرَ الْخُدَّامِ مَا بِكَ مِنْ أَذًى ... وَإِنْ
أَشْفَقُوا مِمَّا أَقُولُ فَبِي وَحْدِي
وَقَدْ أَوْرَدَ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ صَاحِبُ
الرَّوْضَتَيْنِ هَاهُنَا كُتُبًا عِدَّةً مِنَ الْفَاضِلِ إِلَى
السُّلْطَانِ، فِيهَا فصاحة وبلاغة ومواعظ وتحضيض على الجهاد،
فَرَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ إِنْسَانٍ مَا أَفْصَحَهُ، وَمِنْ وَزِيرٍ
مَا كَانَ أَنْصَحَهُ، وَمِنْ عَقْلٍ مَا كان أرجحه.
فصل
وكتب الفاضل كتابا على لسان السُّلْطَانِ إِلَى مَلِكِ الْغَرْبِ
أَمِيرِ الْمُسْلِمِينَ، وَسُلْطَانِ جَيْشِ الْمُوَحِّدِينَ،
يَعْقُوبَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ المؤمن، يستنجده فِي إِرْسَالِ
مَرَاكِبَ فِي الْبَحْرِ تَكُونُ عَوْنًا للمسلمين على المراكب
الفرنجية في عبارة طويلة فصيحة بليغة مليحة، حكاها أبو شامة
بطولها.
وبعث السلطان صلاح الدين مع الكتاب سنية من التحف والألطاف،
صُحْبَةَ الْأَمِيرِ الْكَبِيرِ شَمْسِ الدِّينِ أَبِي الْحَزْمِ
عبد الرحمن بن منقذ، وسار في البحر في ثامن ذي القعدة، فَدَخَلَ
عَلَى سُلْطَانِ الْمَغْرِبِ فِي الْعِشْرِينَ مِنْ ذِي
الْحِجَّةِ، فَأَقَامَ عِنْدَهُ إِلَى عَاشُورَاءَ مِنَ
الْمُحَرَّمِ مِنْ سَنَةِ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ، وَلَمْ يُفِدْ هذا
الإرسال شيئا، لأنه تَغَضَّبَ إِذْ لَمْ يُلَقَّبْ بِأَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ، وَكَانَتْ إشارة الفاضل إلى عدم الإرسال إليه،
ولكن وقع ما وقع بمشيئة الله.
(12/339)
فصل
وفيها حصل للناصر صلاح الدين سُوءُ مِزَاجٍ مِنْ كَثْرَةِ مَا
يُكَابِدُهُ مِنَ الأمور، فطمع العدو المخذول في حوزة
الْإِسْلَامِ، فَتَجَرَّدَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ لِلْقِتَالِ،
وَثَبَتَ آخَرُونَ على الحصار، فأقبلوا فِي عَدَدٍ كَثِيرٍ
وَعُدَدٍ، فَرَتَّبَ السُّلْطَانُ الْجُيُوشَ يمنة ويسرة، وقلبا
وجناحين، فلما رأى العدو الجيش الكثيف فروا فقتلوا منهم خلقا كثيرا
وجما غفيرا.
فَصْلٌ
وَلَمَّا دَخَلَ فَصْلُ الشِّتَاءِ وَانْشَمَرَتْ مَرَاكِبُ الفرنج
عَنِ الْبَلَدِ خَوْفًا مِنَ الْهَلَاكِ بِسَبَبِ اغْتِلَامِ
البحر، سأل من بالبلد من المسلمين من السلطان أين يُرِيحَهُمْ
مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الْحَصْرِ الْعَظِيمِ، والقتال ليلا
ونهارا، وَأَنْ يُرْسِلَ إِلَى الْبَلَدِ بَدَلَهُمْ، فَرَقَّ
لَهُمُ السُّلْطَانُ، وَعَزَمَ عَلَى ذَلِكَ، وَكَانُوا قَرِيبًا
مِنْ عِشْرِينَ أَلْفَ مُسْلِمٍ مَا بَيْنَ أَمِيرٍ وَمَأْمُورٍ،
فَجَهَّزَ جَيْشًا آخَرَ غَيْرَهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ
بِرَأْيٍ جَيِّدٍ، وَلَكِنْ مَا قَصَدَ السُّلْطَانُ إِلَّا خيرا،
وأن هؤلاء يدخلون البلد بهمم حدة شديدة، وَلَهُمْ عَزْمٌ قَوِيٌّ،
وَهُمْ فِي رَاحَةٍ بِالنِّسْبَةِ إلى ما أولئك ولكن أولئك الذين
كانوا بالبلد وخرجوا منه كَانَتْ لَهُمْ خِبْرَةٌ بِالْبَلَدِ
وَبِالْقِتَالِ وَكَانَ لَهُمْ صبر، وجلد وقد تمونوا فيها مؤنة
تكفيهم سنة، فانمحقت بسبب ذلك، وقدم بطش من مصر فيه ميرة تكفى أهل
البلد سنة كاملة، فقدر الله العظيم- وَلَهُ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ
وَمِنْ بَعْدُ- أَنَّهَا لما توسطت البحر واقتربت من المينا هاجت
عليها ريح عظيمة فانقلبت تلك البطش وتغلبت عَلَى عِظَمِهَا
فَاخْتَبَطَتْ وَاضْطَرَبَتْ وَتَصَادَمَتْ فَتَكَسَّرَتْ
وَغَرِقَتْ، وغرق ما كان فيها من الميرة والبحارة، فَدَخَلَ
بِسَبَبِ ذَلِكَ وَهْنٌ عَظِيمٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَاشْتَدَّ
الْأَمْرُ جِدًّا، وَمَرِضَ السُّلْطَانُ وَازْدَادَ مَرَضًا إلى
مرضه، ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156.
وَكَانَ ذَلِكَ عَوْنًا لِلْعَدُوِّ الْمَخْذُولِ عَلَى أَخْذِ
الْبَلَدِ، وَلَا قُوَّةَ إِلَّا باللَّه، وَذَلِكَ فِي ذِي
الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَ الْمُقَدَّمَ عَلَى
الدَّاخِلِينَ إِلَى عَكَّا الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ على بن
أحمد بن المشطوب.
وَفِي الْيَوْمِ السَّابِعِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سَقَطَتْ ثُلْمَةٌ
عَظِيمَةٌ مِنْ سُورِ عَكَّا، فَبَادَرَ الْفِرِنْجُ إِلَيْهَا
فَسَبَقَهُمُ الْمُسْلِمُونَ إِلَى سَدِّهَا بِصُدُورِهِمْ،
وَقَاتَلُوا دونها بِنُحُورِهِمْ، وَمَا زَالُوا يُمَانِعُونَ
عَنْهَا حَتَّى بَنَوْهَا أشد مما كانت، وأقوى وأحسن. وَوَقَعَ فِي
هَذِهِ السَّنَةِ وَبَاءٌ عَظِيمٌ فِي المسلمين والكافرين، فَكَانَ
السُّلْطَانُ يَقُولُ فِي ذَلِكَ:
اقْتُلُونِي وَمَالِكًا ... وَاقْتُلُوا مَالِكًا مَعِي
(12/340)
واتفق موت ابن ملك الألمان لعنه الله فِي
ثَانِي ذِي الْحِجَّةِ، وَجَمَاعَةٍ مِنْ كُبَرَاءِ
الْكُنْدَهِرِيَّةِ، وِسَادَاتِ الْفِرِنْجِ لَعَنَهُمُ اللَّهُ،
فَحَزِنَ الْفِرِنْجُ على ابن ملك الألمان وَأَوْقَدُوا نَارًا
عَظِيمَةً فِي كُلِّ خَيْمَةٍ، وَصَارَ كُلِّ يَوْمٍ يَهْلِكُ مِنَ
الْفِرِنْجِ الْمِائَةُ وَالْمِائَتَانِ، واستأمن السُّلْطَانِ
جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ مِنْ شِدَّةِ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْجُوعِ
وَالضِّيقِ وَالْحَصْرِ، وَأَسْلَمَ خَلْقٌ كثير منهم. وفيها قدم
القاضي الفاضل من مصر عَلَى السُّلْطَانِ، وَكَانَ قَدْ طَالَ
شَوْقُ كُلِّ مِنْهُمَا إِلَى صَاحِبِهِ، فَأَفْضَى كُلٌّ
مِنْهُمَا إِلَى صاحبه مَا كَانَ يُسِرُّهُ وَيَكْتُمُهُ مِنَ
الْآرَاءِ الَّتِي فيها مصالح المسلمين.
وفيها توفى من الأعيان.
ملك الألمان
وقد تقدم أنه قدم في ثلاثمائة ألف مقاتل، فهلكوا في الطرقات، فلم
يصل إلى الفرنج إلا في خمسة آلاف وقيل في ألفى مقاتل، وكان قد عزم
على دمار الإسلام، واستنقاذ البلاد بِكَمَالِهَا مِنْ أَيْدِي
الْمُسْلِمِينَ، انْتِصَارًا فِي زَعْمِهِ إلى بيت المقدس، فأهلكه
الله بالغرق كما أهلك فرعون، ثم ملك بعده ولده الأصغر فأقبل بمن
بقي معه من الجيش إلى الفرنج، وهم في حصار عكا، ثم مات في هذه
السنة فلله الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الله
أبو حامد قاضى القضاة بالموصل، كَمَالِ الدِّينِ الشَّهْرُزُورِيُّ
الشَّافِعِيُّ، أَثْنَى عَلَيْهِ الْعِمَادُ وَأَنْشَدَ لَهُ مِنْ
شِعْرِهِ قَوْلَهُ:
قَامَتْ بِإِثْبَاتِ الصِّفَاتِ أَدِلَّةٌ ... قَصَمَتْ ظُهُورَ
أَئِمَّةِ التَّعْطِيلِ
وَطَلَائِعُ التَّنْزِيهِ لَمَّا أَقْبَلَتْ ... هَزَمَتْ ذَوِي
التَّشْبِيهِ وَالتَّمُثِيلِ
فَالْحَقُّ مَا صِرْنَا إِلَيْهِ جَمِيعُنَا ... بِأَدِلَّةِ
الْأَخْبَارِ وَالتَّنْزِيلِ
مَنْ لَمْ يَكُنْ بِالشَّرْعِ مُقْتَدِيًا فَقَدْ ... أَلْقَاهُ
فَرْطُ الْجَهْلِ فِي التَّضْلِيلِ
ثُمَّ دَخَلَتْ سنة سبع وثمانين وخمسمائة
فيها قدم ملك الفرنسيس وملك انكلترا وغيرهما من ملوك البحر الفرنج،
على أصحابهم الفرنج إلى عكا، وتمالئوا على أخذ عَكَّا فِي هَذِهِ
السَّنَةِ كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ، وقد استهلت هذه السنة
والحصار الشديد على عكا من الجانبين، وقد استكمل دخول العدو إِلَى
الْبَلَدِ وَالْمَلِكُ الْعَادِلُ مُخَيِّمٌ إِلَى جَانِبِ البحر،
ليتكامل دخولهم ودخول ميرتهم، وفي ليلة مستهل ربيع الأول منها
خَرَجَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ عَكَّا فَهَجَمُوا عَلَى مُخَيَّمِ
الفرنج فقتلوا منهم خلقا كثيرا، وسبوا وغنموا شيئا كثيرا، سبوا
اثنى عشرا مرأة، وانكسر مركب عظيم للفرنج فغرق ما فيه مِنْهُمْ
وَأُسِرَ بَاقِيهِمْ، وَأَغَارَ صَاحِبُ حِمْصَ أَسَدُ الدين بن
شير كوه عَلَى سَرْحَ الْفِرِنْجِ بِأَرَاضِي طَرَابُلُسَ،
فَاسْتَاقَ مِنْهُمْ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الْخُيُولِ
وَالْأَبْقَارِ وَالْأَغْنَامِ، وَظَفِرَ الترك بِخَلْقٍ كَثِيرٍ
مِنَ الْفِرِنْجِ فَقَتَلُوهُمْ، وَلَمْ يُقْتَلْ من المسلمين سوى
طواش
(12/341)
صَغِيرٍ عَثَرَ بِهِ فَرَسُهُ. وَفِي
ثَانِي عَشَرَ ربيع الأول وصل إلى الفرنج ملك الفرنسيين في قريب من
ستين بطش ملعونة مشحونة بعبدة الصليب، فحين وَصَلَ إِلَيْهِمْ
وَقَدِمَ عَلَيْهِمْ لَمْ يَبْقَ لِأَحَدٍ مِنْ مُلُوكِهِمْ مَعَهُ
كَلَامٌ وَلَا حُكْمٌ، لِعَظَمَتِهِ عِنْدَهُمْ، وَقَدِمَ مَعَهُ
بَازٌ عَظِيمٌ أَبْيَضُ وَهُوَ الأشهب، هائل، فطار من يده فوقع على
سور عكا فأخذه أهلها وبعثوه إلى السلطان صلاح الدين، فبذل الفرنجى
فيه ألف دينار فلم يجبه إلى ذلك، وقدم بعده كيد فرير وَهُوَ مِنْ
أَكَابِرِ مُلُوكِهِمْ أَيْضًا، وَوَصَلَتْ سُفُنُ ملك الانكليز،
ولم يجيء ملكهم لاشتغاله بجزيرة قبرص وَأَخْذِهَا مِنْ يَدِ
صَاحِبِهَا، وَتَوَاصَلَتْ مُلُوكُ الْإِسْلَامِ أيضا من بلدانها
في أول فصل الربيع، لخدمة الملك الناصر. قَالَ الْعِمَادُ: وَقَدْ
كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ لُصُوصٌ يَدْخُلُونَ إلى خيام الفرنج
فيسرقون، حتى أنهم كانوا يَسْرِقُونَ الرِّجَالَ، فَاتَّفَقَ أَنَّ
بَعْضَهَمْ أَخَذَ صَبِيًّا رَضِيعًا مِنْ مَهْدِهِ ابْنَ
ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، فَوَجَدَتْ عليه أمه وجدا شديدا، وَاشْتَكَتْ
إِلَى مُلُوكِهِمْ فَقَالُوا لَهَا:
إِنَّ سُلْطَانَ الْمُسْلِمِينَ رَحِيمُ الْقَلْبِ، وَقَدْ
أَذِنَّا لَكِ أَنْ تَذْهَبِي إِلَيْهِ فَتَشْتَكِي أَمْرَكِ
إِلَيْهِ، قَالَ الْعِمَادُ فجاءت إلى السلطان فَأَنْهَتْ إِلَيْهِ
حَالَهَا، فَرَقَّ لَهَا رِقَّةً شَدِيدَةً حتى دمعت عينه. ثم أمر
بِإِحْضَارِ وَلَدِهَا فَإِذَا هُوَ قَدْ بِيعَ فِي السُّوقِ،
فَرَسَمَ بِدَفْعِ ثَمَنِهِ إِلَى الْمُشْتَرِي، وَلَمْ يَزَلْ
وَاقِفًا حَتَّى جِيءَ بِالْغُلَامِ فَأَخَذَتْهُ أُمُّهُ
وَأَرْضَعَتْهُ سَاعَةً وَهِيَ تَبْكِي مِنْ شِدَّةِ فَرَحِهَا
وشوقها إليه، ثم أمر بحملها إلى خيمتها على فرس مكرمة رحمه الله
تعالى وعفا عنه.
فصل في كيفية أخذ العدو المخذول عكا من يدي السُّلْطَانِ قَسْرًا
لَمَّا كَانَ شَهْرُ جُمَادَى الْأُولَى اشتد حصار الفرنج لعنهم
الله لمدينة عكا، وَتَمَالَئُوا عَلَيْهَا مِنْ كُلِّ فَجٍّ
عَمِيقٍ، وَقَدِمَ عليهم ملك الانكليز في جم غفير، وجمع كثير، في
خمسة وعشرين قطعة مشحونة بالمقاتلة وابتلى أهل الثفر منهم
بِبَلَاءٍ لَا يُشْبِهُ مَا قَبْلَهُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ حركت
الكئوسات فِي الْبَلَدِ، وَكَانَتْ عَلَامَةَ مَا بَيْنَهُمْ
وَبَيْنَ السلطان، فحرك السلطان كوساته فاقترب من البلد وتحول إلى
قريب منه، لِيَشْغَلَهُمْ عَنِ الْبَلَدِ، وَقَدْ أَحَاطُوا بِهِ
مِنْ كل جانب، ونصبوا عليه سبعة منجانيق، وَهَى تَضْرِبُ فِي
الْبَلَدِ لَيْلًا وَنَهَارًا، وَلَا سِيَّمَا عَلَى بُرْجِ عَيْنِ
الْبَقَرِ، حَتَّى أَثَّرَتْ بِهِ أَثَرًا بَيِّنًا، وَشَرَعُوا
فِي رَدْمِ الْخَنْدَقِ بِمَا أَمْكَنَهُمْ مِنْ دَوَابَّ
مَيْتَةٍ، وَمَنْ قُتِلَ منهم، ومن مات أيضا ردموا به، وكان أهل
البلد يلقون ما ألقوه فيه إلى البحر. وتلقى ملك الانكليز بطشة
عَظِيمَةٍ لِلْمُسْلِمِينَ قَدْ أَقْبَلَتْ مِنْ بَيْرُوتَ
مَشْحُونَةً بِالْأَمْتِعَةِ وَالْأَسْلِحَةِ فَأَخَذَهَا، وَكَانَ
وَاقِفًا فِي الْبَحْرِ فِي أَرْبَعِينَ مَرْكِبًا لَا يَتْرُكُ
شَيْئًا يَصِلُ إلى البلد بالكلية، وكان بالبطشة ستمائة من
المقاتلين الصَّنَادِيدِ الْأَبْطَالِ، فَهَلَكُوا عَنْ آخِرِهِمْ
رَحِمَهُمُ اللَّهُ. فإنه لما أحيط
(12/342)
بهم وتحققوا إما الغرق أو القتل، خرقوا
جَوَانِبِهَا كُلِّهَا فَغَرِقَتْ، وَلَمْ يَقَدْرِ الْفِرِنْجُ
عَلَى أَخْذِ شَىْءٍ مِنْهَا لَا مِنَ الْمِيرَةِ وَلَا مِنَ
الْأَسْلِحَةِ، وَحَزِنَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى هَذَا الْمُصَابِ
حزنا عظيما، ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156،
وَلَكِنْ جَبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ هَذَا الْبَلَاءَ بِأَنْ
أَحْرَقَ الْمُسْلِمُونَ فِي هذا اليوم دبابة كانت أربع طبقات،
الأولى من الخشب، وَالثَّانِيَةُ مِنْ رَصَاصٍ، وَالثَّالِثَةُ
مِنْ حَدِيدٍ، وَالرَّابِعَةُ مِنْ نُحَاسٍ، وَهِيَ مُشْرِفَةٌ
عَلَى السُّورِ وَالْمُقَاتِلَةُ فِيهَا، وَقَدْ قَلِقَ أَهْلُ
الْبَلَدِ مِنْهَا بِحَيْثُ حَدَّثَتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ مِنْ
خَوْفِهِمْ مِنْ شَرِّهَا بِأَنْ يَطْلُبُوا الْأَمَانَ مِنَ
الْفِرِنْجِ، وَيُسَلِّمُوا الْبَلَدَ، فَفَرَّجَ الله عن المسلمين
وأمكنهم من حريقها، اتفق لهم ذَلِكَ فِي هَذَا الْيَوْمِ الَّذِي
غَرِقَتْ فِيهِ البطشة المذكورة، فأرسل أهل البلد يشكون إلى
السلطان شدة الحصار وقوته عليهم، منذ قام ملك الانكليز لعنه الله،
ومع هذا قد مرض هو وجرح ملك الافرنسيين أَيْضًا وَلَا يَزِيدُهُمْ
ذَلِكَ إِلَّا شِدَّةً وَغِلْظَةً، وعتوا وبغيا، وَفَارَقَهُمُ
الْمَرْكِيسُ وَسَارَ إِلَى بَلَدِهِ صُورَ خَوْفًا مِنْهُمْ أَنْ
يُخْرِجُوا مُلْكَهَا مِنْ يَدِهِ. وَبَعَثَ ملك الانكليز إلى
السلطان صلاح الدين يذكر له أَنَّ عِنْدَهُ جَوَارِحَ قَدْ جَاءَ
بِهَا مِنَ الْبَحْرِ، وَهُوَ عَلَى نِيَّةِ إِرْسَالِهَا
إِلَيْهِ، وَلَكِنَّهَا قد ضعفت وهو يطلب دجاجا وطيرا لتقوى بِهِ،
فَعَرَفَ أَنَّهُ إِنَّمَا يَطْلُبُ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ يلطفها به،
فأرسل إليه شيئا كثيرا من ذلك كرما، ثُمَّ أَرْسَلَ يَطْلُبُ،
فَاكِهَةً وَثَلْجًا فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَيْضًا، فَلَمْ يُفِدْ
مَعَهُ الْإِحْسَانُ، بَلْ لَمَّا عُوفِيَ عَادَ إِلَى شَرٍّ
مِمَّا كَانَ، وَاشْتَدَّ الحصار ليلا ونهارا، فأرسل أهل البلد
يقولون للسلطان إما إِنْ تَعْمَلُوا مَعَنَا شَيْئًا غَدًا
وَإِلَّا طَلَبْنَا من الفرنج الصلح والأمان، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى
السُّلْطَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ قد بعث إِلَيْهَا
أَسْلِحَةَ الشَّامِ وَالدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ وَسَائِرَ
السَّوَاحِلِ، وَمَا كَانَ غَنِمَهُ مِنْ وَقْعَةِ حِطِّينَ وَمِنْ
القدس، فهي مشحونة بذلك، فعند ذلك عزم السلطان على الهجوم على
الْعَدُوِّ، فَلَمَّا أَصْبَحَ رَكِبَ فِي جَيْشِهِ فَرَأَى
الْفِرِنْجَ قَدْ رَكِبُوا مِنْ وَرَاءِ خَنْدَقِهِمْ،
وَالرَّجَّالَةُ مِنْهُمْ قَدْ ضَرَبُوا سُورًا حَوْلَ
الْفُرْسَانِ، وَهُمْ قطعة من حديد صماء لا ينفذ فيهم شَيْءٌ،
فَأَحْجَمَ عَنْهُمْ لِمَا يَعْلَمُ مِنْ نُكُولِ جَيْشِهِ عَمَّا
يُرِيدُهُ، وَتَحْدُوهُ عَلَيْهِ شَجَاعَتُهُ رَحِمَهُ الله.
هذا وقد اشتد الحصار على البلد وَدَخَلَتِ الرَّجَّالَةُ مِنْهُمْ
إِلَى الْخَنْدَقِ وَعَلَّقُوا بَدَنَةً في السُّورِ وَحَشَوْهَا
وَأَحْرَقُوهَا، فَسَقَطَتْ وَدَخَلَتِ الْفِرِنْجُ إِلَى
الْبَلَدِ، فَمَانَعَهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَقَاتَلُوهُمْ أَشَدَّ
الْقِتَالِ، وَقَتَلُوا مِنْ رُءُوسِهِمْ سِتَّةَ أَنْفُسٍ،
فَاشْتَدَّ حَنَقُ الْفِرِنْجِ على المسلمين جِدًّا بِسَبَبِ
ذَلِكَ، وَجَاءَ اللَّيْلُ فَحَالَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ،
فَلَمَّا أَصْبَحَ الصَّبَاحُ خَرَجَ أَمِيرُ الْمُسْلِمِينَ
بالبلد أحمد بن المشطوب فاجتمع بملك الافرنسيين وَطَلَبَ مِنْهُمُ
الْأَمَانَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَيَتَسَلَّمُونَ مِنْهُ البلد،
فلم يجبهم إلى ذلك، وقال له: بعد ما سَقَطَ السُّورُ جِئْتَ
تَطْلُبُ الْأَمَانَ؟ فَأَغْلَظَ لَهُ ابن الْمَشْطُوبُ فِي
الْكَلَامِ، وَرَجَعَ إِلَى الْبَلَدِ فِي حالة الله بها عليم،
فلما أخبر أهل البلد بما وقع خافوا خوفا شديدا، وَأَرْسَلُوا إِلَى
السُّلْطَانِ يُعْلِمُونَهُ بِمَا وَقَعَ، فَأَرْسَلَ
(12/343)
إِلَيْهِمْ أَنْ يُسْرِعُوا الْخُرُوجَ
مِنَ الْبَلَدِ فِي البحر ولا يتأخروا عن هذه الليلة، ولا يَبْقَى
بِهَا مُسْلِمٌ، فَتَشَاغَلَ كَثِيرٌ مِمَّنْ كَانَ بها لجمع
الأمتعة والأسلحة، وتأخروا عن الخروج تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَمَا
أَصْبَحَ الْخَبَرُ إِلَّا عِنْدَ الْفِرِنْجِ مِنْ مَمْلُوكَيْنِ
صَغِيرَيْنِ سَمِعَا بِمَا رَسَمَ بِهِ السُّلْطَانُ، فَهَرَبَا
إِلَى قَوْمِهِمَا فَأَخْبَرُوهُمْ بِذَلِكَ، فَاحْتَفَظُوا عَلَى
الْبَحْرِ احْتِفَاظًا عَظِيمًا، فَلَمْ يَتَمَكَّنْ أَحَدٌ مِنْ
أَهْلِ الْبَلَدِ أَنْ يَتَحَرَّكَ بِحَرَكَةٍ، ولا خرج منها شيء
بالكلية، وهذان المملوكان كانا أسيرين قد أسرهما السلطان من أولاد
الفرنج، وَعَزَمَ السُّلْطَانُ عَلَى كَبْسِ الْعَدُوِّ فِي هَذِهِ
اللَّيْلَةِ، فَلَمْ يُوَافِقْهُ الْجَيْشُ عَلَى ذَلِكَ،
وَقَالُوا لا نخاطر بعسكر المسلمين، فَلَمَّا أَصْبَحَ بَعَثَ
إِلَى مُلُوكِ الْفِرِنْجِ يَطْلُبُ مِنْهُمُ الْأَمَانَ لِأَهْلِ
الْبَلَدِ عَلَى أَنْ يُطْلِقَ عِدَّتَهُمْ مِنَ الْأَسْرَى
الَّذِينَ تَحْتَ يَدِهِ مِنَ الفرنج، ويزيدهم صليب الصلبوت، فأبوا
إلا أن يطلق لهم كُلَّ أَسِيرٍ تَحْتَ يَدِهِ، وَيُطْلِقَ لَهُمْ
جَمِيعَ الْبِلَادِ السَّاحِلِيَّةِ الَّتِي أُخِذَتْ مِنْهُمْ،
وَبَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَأَبَى ذَلِكَ، وَتَرَدَّدَتِ
الْمُرَاسَلَاتُ فِي ذَلِكَ، وَالْحِصَارُ يتزايد على أسوار البلد.
وقد تهدمت منه ثُلَمٌ كَثِيرَةٌ، وَأَعَادَ الْمُسْلِمُونَ
كَثِيرًا مِنْهَا، وَسَدُّوا ثَغْرَ تِلْكَ الْأَمَاكِنِ
بِنُحُورِهِمْ رَحِمَهُمُ اللَّهُ، وَصَبَرُوا صبرا عظيما، وصابروا
العدو، ثم كان آخر الأمر وصولهم إلى درجة الشهادة، وَقَدْ كَتَبُوا
إِلَى السُّلْطَانِ فِي آخِرِ أَمْرِهِمْ يقولون له:
يَا مَوْلَانَا لَا تَخْضَعْ لِهَؤُلَاءِ الْمَلَاعِينِ، الَّذِينَ
قد أبوا عليك الاجابة إلى ما دعوتهم فينا، فانا قد بايعنا الله
عَلَى الْجِهَادِ حَتَّى نُقْتَلَ عَنْ آخِرِنَا، وباللَّه
الْمُسْتَعَانُ.
فَلَمَّا كَانَ وَقْتُ الظُّهْرِ فِي الْيَوْمِ السابع مِنْ
جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، مَا شعر الناس إلا
وأعلام الكفار قد ارتفعت، وصلبانهم ونارهم عَلَى أَسْوَارِ
الْبَلَدِ، وَصَاحَ الْفِرِنْجُ صَيْحَةً وَاحِدَةً، فعظمت عند ذلك
الْمُصِيبَةُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَاشْتَدَّ حُزْنُ
الْمُوَحِّدِينَ، وَانْحَصَرَ كلام النَّاسِ فِي إِنَّا لِلَّهِ
وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156، وَغَشِيَ النَّاسَ بَهْتَةٌ
عَظِيمَةٌ، وَحَيْرَةٌ شَدِيدَةٌ، وَوَقَعَ في عسكر السلطان الصياح
والعويل، وَدَخَلَ الْمَرْكِيسُ لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَدْ عَادَ
إِلَيْهِمْ من صور بهدايا فأهداها إلى الملوك، فدخل في هذا اليوم
عكا بأربعة أعلام الملوك فَنَصَبَهَا فِي الْبَلَدِ، وَاحِدًا
عَلَى الْمِئْذَنَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَآخَرَ عَلَى
الْقَلْعَةِ، وَآخَرَ عَلَى بُرْجِ الدَّاوِيَّةِ، وَآخَرَ عَلَى
بُرْجِ الْقِتَالِ، عِوَضًا عَنْ أَعْلَامِ السُّلْطَانِ،
وَتَحَيَّزَ الْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ بِهَا إِلَى نَاحِيَةٍ مِنَ
الْبَلَدِ مُعْتَقَلِينَ، مُحْتَاطٌ بِهِمْ مُضَيَّقٌ عليهم، وقد
أسروا النِّسَاءُ وَالْأَبْنَاءُ، وَغُنِمَتْ أَمْوَالُهُمْ،
وَقُيِّدَتِ الْأَبْطَالُ وَأُهِينَ الرِّجَالُ، وَالْحَرْبُ
سِجَالٌ، وَالْحَمْدُ للَّه عَلَى كُلِّ حال.
فعند ذلك أمر السلطان الناس بالتأخر عن هذه المنزلة، وثبت هو مكانه
لينظر ماذا يصنعون وما عليه يعولون، والفرنج في البلد مشغولون
مَدْهُوشُونَ، ثُمَّ سَارَ السُّلْطَانُ إِلَى الْعَسْكَرِ
وَعِنْدَهُ من الهم ما لا يعلمه إلا الله، وَجَاءَتِ الْمُلُوكُ
الْإِسْلَامِيَّةُ، وَالْأُمَرَاءُ وَكُبَرَاءُ الدَّوْلَةِ
يُعَزُّونَهُ فيما وقع، ويسلونه على ذلك، ثُمَّ رَاسَلَ مُلُوكَ
الْفِرِنْجِ فِي خَلَاصِ مَنْ بأيديهم من الأسارى فطلبوا منه عدتهم
من أسراهم
(12/344)
وَمِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَصَلِيبَ
الصَّلَبُوتِ إِنْ كَانَ بَاقِيًا، فَأَرْسَلَ فَأَحْضَرَ الْمَالَ
وَالصَّلِيبَ، وَلَمْ يَتَهَيَّأْ لَهُ مِنَ الْأُسَارَى إِلَّا
سِتُّمِائَةِ أَسِيرٍ، فَطَلَبَ الْفِرِنْجُ مِنْهُ أَنْ
يُرِيَهُمُ الصَّلِيبَ مِنْ بَعِيدٍ، فلما رفع سَجَدُوا لَهُ
وَأَلْقَوْا أَنْفُسَهُمْ إِلَى الْأَرْضِ، وَبَعَثُوا يَطْلُبُونَ
مِنْهُ مَا أَحْضَرَهُ مِنَ الْمَالِ وَالْأُسَارَى، فامتنع إلا أن
يرسلوا إليه الأسارى أو يبعثوا له برهائن على ذلك، فقالوا: لا ولكن
أرسل لنا ذلك وارض بأمانتنا، فعرف أنهم يريدون الغدر والمكر، فلم
يرسل إليهم شيئا من ذلك، وأمر برد الأسارى إلى أهليهم بدمشق، ورد
الصليب إِلَى دِمَشْقَ مُهَانًا، وَأَبْرَزَتِ الْفِرِنْجُ
خِيَامَهُمْ إِلَى ظَاهِرِ الْبَلَدِ وَأَحْضَرُوا ثَلَاثَةَ
آلَافٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَأَوْقَفُوهُمْ بَعْدَ الْعَصْرِ
وَحَمَلُوا عَلَيْهِمْ حَمْلَةَ رَجُلٍ واحد فقتلوهم عن آخرهم في
صعيد واحد، رحمهم الله وأكرم مثواهم، وَلَمْ يَسْتَبْقُوا
بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا أَمِيرًا أو صبيا، أَوْ
مَنْ يَرَوْنَهُ فِي عَمَلِهِمْ قَوِيًّا أَوِ امرأة. وجرى الّذي
كَانَ، وَقُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ. وَكَانَ
مدة إقامة صلاح الدين عَلَى عَكَّا صَابِرًا مُصَابِرًا مُرَابِطًا
سَبْعَةً وَثَلَاثِينَ شَهْرًا، وَجُمْلَةُ مَنْ قُتِلَ مِنَ
الْفِرِنْجِ خَمْسِينَ ألفا.
فصل فيما حدث بَعْدَ أَخْذِ الْفِرِنْجِ عَكَّا
سَارُوا بَرُمَّتِهِمْ قَاصِدِينَ عَسْقَلَانَ، وَالسُّلْطَانُ
بِجَيْشِهِ يُسَايِرُهُمْ وَيُعَارِضُهُمْ مَنْزِلَةً مَنْزِلَةً،
وَالْمُسْلِمُونَ يَتَخَطَّفُونَهُمْ وَيَسْلُبُونَهُمْ فِي كُلِّ
مَكَانٍ، وَكُلُّ أَسِيرٍ أُتِيَ بِهِ إِلَى السُّلْطَانِ يَأْمُرُ
بِقَتْلِهِ في مكانه، وجرت خطوب بين الجيشين، ووقعات متعددات، ثم
طلب ملك الانكليز أَنْ يَجْتَمِعَ بِالْمَلِكِ الْعَادِلِ أَخِي
السُّلْطَانِ يَطْلُبُ منه الصلح والأمان، على أن يعاد لأهلها بلاد
السواحل، فَقَالَ لَهُ الْعَادِلُ: إِنَّ دُونَ ذَلِكَ قَتْلُ
كُلِّ فَارِسٍ مِنْكُمْ وَرَاجِلٍ، فَغَضِبَ اللَّعِينُ وَنَهَضَ
من عنده غضبان، ثُمَّ اجْتَمَعَتِ الْفِرِنْجُ عَلَى حَرْبِ
السُّلْطَانِ عِنْدَ غَابَةِ أَرْسُوفَ، فَكَانَتِ النُّصْرَةُ
لِلْمُسْلِمِينَ، فَقُتِلَ مِنَ الْفِرِنْجِ عِنْدَ غَابَةِ
أَرْسُوفَ أُلُوفٌ بَعْدَ أُلُوفٍ، وَقُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ
خَلْقٌ كَثِيرٌ أَيْضًا، وَقَدْ كَانَ الْجَيْشُ فَرَّ عَنِ
السُّلْطَانِ فِي أَوَّلِ الوقعة، وَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ سِوَى
سَبْعَةَ عَشَرَ مُقَاتِلًا، وهو ثابت صابر، والكئوسات لَا
تَفْتُرُ، وَالْأَعْلَامُ مَنْشُورَةٌ، ثُمَّ تَرَاجَعَ النَّاسُ
فكانت النصرة للمسلمين، ثُمَّ تَقَدَمَّ السُّلْطَانُ
بِعَسَاكِرِهِ فَنَزَلَ ظَاهِرَ عَسْقَلَانَ، فأشار ذو والرأى
عَلَى السُّلْطَانِ بِتَخْرِيبِ عَسْقَلَانَ خَشْيَةَ أَنْ
يَتَمَلَّكَهَا الكفار، ويجعلونها وسيلة إلى أخذ بيت المقدس، أَوْ
يَجْرِي عِنْدَهَا مِنَ الْحَرْبِ وَالْقِتَالِ نَظِيرُ مَا كَانَ
عِنْدَ عَكَّا، أَوْ أَشَدُّ، فَبَاتَ السلطان ليلته مفكرا في ذلك،
فلما أَصْبَحَ وَقَدْ أَوْقَعَ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ أَنَّ
خَرَابَهَا هُوَ الْمَصْلَحَةُ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِمَنْ حَضَرَهُ،
وَقَالَ لَهُمْ وَاللَّهِ لَمَوْتُ جَمِيعِ أَوْلَادِي أَهْوَنُ
عَلَيَّ مِنْ تَخْرِيبِ حَجَرٍ وَاحِدٍ مِنْهَا،
(12/345)
ولكن إذا كان خرابها فِيهِ مُصْلِحَةٌ
لِلْمُسْلِمِينَ فَلَا بَأْسَ بِهِ، ثُمَّ طَلَبَ الْوُلَاةَ
وَأَمَرَهُمْ بِتَخْرِيبِ الْبَلَدِ سَرِيعًا، قَبْلَ وصول العدو
إليها، فَشَرَعَ النَّاسُ فِي خَرَابِهِ، وَأَهْلُهُ وَمَنْ
حَضَرَهُ يَتَبَاكُونَ عَلَى حُسْنِهِ وَطِيبِ مَقِيلِهِ،
وَكَثْرَةِ زُرُوعِهِ وثماره، ونضارة أنهاره وأزهاره، وكثرة رخامه
وحسن بنائه.
وألقيت النار في سقوفه وَأُتْلِفَ مَا فِيهِ مِنَ الْغَلَّاتِ
الَّتِي لَا يُمْكِنُ تَحْوِيلُهَا، وَلَا نَقْلُهَا، وَلَمْ
يَزَلِ الْخَرَابُ والحريق فيه من جمادى الآخرة إِلَى سَلْخِ
شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
ثُمَّ رَحَلَ السُّلْطَانُ مِنْهَا فِي ثَانِي رَمَضَانَ وَقَدْ
تركها قاعا صفصفا ليس فيها معلمة لِأَحَدٍ، ثُمَّ اجْتَازَ
بِالرَّمْلَةِ فَخَرَّبَ حِصْنَهَا وَخَرَّبَ كَنِيسَةَ لُدَّ،
وَزَارَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَعَادَ إِلَى المخيم سريعا، وبعث ملك
الانكليز إلى السلطان إِنَّ الْأَمْرَ قَدْ طَالَ وَهَلَكَ
الْفِرِنْجُ وَالْمُسْلِمُونَ، وَإِنَّمَا مَقْصُودُنَا ثَلَاثَةُ
أَشْيَاءَ لَا سِوَاهَا، رَدُّ الصَّلِيبِ وَبِلَادِ السَّاحِلِ
وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ، لَا نَرْجِعُ عَنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ
وَمِنَّا عَيْنٌ تَطْرِفُ، فَأَرْسَلَ إليه السلطان أشد جواب، وأسد
مقال، فعزمت الْفِرِنْجُ عَلَى قَصْدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ،
فَتَقَدَّمَ السُّلْطَانُ بجيشه إلى القدس، وَسَكَنَ فِي دَارِ
الْقَسَاقِسِ قَرِيبًا مِنْ قُمَامَةُ، فِي ذِي الْقَعْدَةِ،
وَشَرَعَ فِي تَحْصِينِ الْبَلَدِ وَتَعْمِيقِ خَنَادِقِهِ،
وَعَمِلَ فِيهِ بِنَفْسِهِ وَأَوْلَادِهِ، وَعَمِلَ فيه الأمراء
والقضاة والعلماء والصالحون، وَكَانَ وَقْتًا مَشْهُودًا،
وَالْيَزَكُ حَوْلَ الْبَلَدِ مِنْ نَاحِيَةِ الْفِرِنْجِ وَفِي
كُلِّ وَقْتٍ يَسْتَظْهِرُونَ عَلَى الفرنج ويقتلون ويأسرون
ويغنمون، وللَّه الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَانْقَضَتْ هَذِهِ
السَّنَةُ وَالْأَمْرُ على ذلك.
وفيها على ما ذكره العماد تولى القضاء محيي الدين محمد بن الزكي
بدمشق. وفيها عدي أَمِيرُ مَكَّةَ دَاوُدُ بْنُ عِيسَى بْنِ
فُلَيْتَةَ بن هاشم بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي هَاشِمٍ
الْحَسَنِيُّ، فَأَخَذَ أَمْوَالَ الْكَعْبَةِ حَتَّى انْتَزَعَ
طَوْقًا مِنْ فِضَّةٍ كَانَ عَلَى دَائِرَةِ الْحَجَرِ
الْأَسْوَدِ، كَانَ قَدْ لُمَّ شَعَثُهُ حِينَ ضَرَبَهُ ذَلِكَ
الْقِرْمِطِيُّ بِالدَّبُّوسِ، فلما بلغ السلطان خبره من الحجيج
عزله وولى أخاه بكيرا، وَنَقَضَ الْقَلْعَةَ الَّتِي كَانَ
بَنَاهَا أَخُوهُ عَلَى أَبِي قُبَيْسٍ، وَأَقَامَ دَاوُدُ
بِنَخْلَةَ حَتَّى تُوُفِّيَ بها سنة سبع وثمانين.
وفيها توفى مِنَ الْأَعْيَانِ
الْمَلِكُ الْمُظَفَّرُ
تَقِيُّ الدِّينِ عُمَرُ بن شاهنشاه بن أيوب، كان عزيزا على عمه
صَلَاحِ الدِّينِ، اسْتَنَابَهُ بِمِصْرَ وَغَيْرِهَا مِنَ
الْبِلَادِ، ثم أقطعه حماه ومدنا كثيرة حولها في بِلَادِ
الْجَزِيرَةِ، وَكَانَ مَعَ عَمِّهِ السُّلْطَانِ عَلَى عكا، ثم
استأذنه أن يذهب ليشرف على بلاده المجاورة للجزيرة والفرات،
فَلَمَّا صَارَ إِلَيْهَا اشْتَغَلَ بِهَا وَامْتَدَّتْ عَيْنُهُ
إِلَى أَخْذِ غَيْرِهَا مِنْ أَيْدِي الْمُلُوكِ الْمُجَاوِرِينَ
له، فقاتلهم فاتفق موته وهو كذلك، والسلطان عمه غضبان عَلَيْهِ
بِسَبَبِ اشْتِغَالِهِ بِذَلِكَ عَنْهُ، وَحُمِلَتْ جِنَازَتُهُ
حَتَّى دُفِنَتْ بِحَمَاةَ، وَلَهُ مَدْرَسَةٌ هُنَاكَ هَائِلَةٌ
كبيرة، وَكَذَلِكَ لَهُ بِدِمَشْقَ مَدْرَسَةٌ مَشْهُورَةٌ،
وَعَلَيْهَا أَوْقَافٌ كثيرة، وقد أقام بِالْمُلْكِ بَعْدَهُ
وَلَدُهُ الْمَنْصُورُ نَاصِرُ الدِّينِ مُحَمَّدٌ، فأقره صَلَاحُ
الدِّينِ عَلَى ذَلِكَ بَعْدَ جُهْدٍ جَهِيدٍ، ووعد ووعيد، ولولا
(12/346)
السلطان العادل أخو صلاح الدين تشفع فيه
لما أقره في مكان أبيه، ولكن سلم الله، توفى يَوْمَ الْجُمُعَةِ
تَاسِعَ عَشَرَ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السنة، وكان شجاعا فاتكا.
الْأَمِيرُ حُسَامُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ لاشين
أُمُّهُ سِتُّ الشَّامِ بِنْتُ أَيُّوبَ، وَاقِفَةُ
الشَّامِيَّتَيْنِ بدمشق، توفى ليلة الجمعة تاسع عشر رمضان أيضا
ففجع السُّلْطَانُ بِابْنِ أَخِيهِ وَابْنِ أُخْتِهِ فِي لَيْلَةٍ
واحدة، وقد كانا من أكبر أعوانه، ودفن بالتربة الحسامية، وهي التي
أنشأتها أمه بمحلة العونية، وهي الشامية البرانية.
الأمير علم الدين سليمان بن حيدر
الحلبي
كان من أكابر الدَّوْلَةِ الصَّلَاحِيَّةِ، وَفِي خِدْمَةِ
السُّلْطَانِ حَيْثُ كَانَ، وهو الذى أَشَارَ عَلَى السُّلْطَانِ
بِتَخْرِيبِ عَسْقَلَانَ، وَاتَّفَقَ مَرَضُهُ بِالْقُدْسِ
فَاسْتَأْذَنَ فِي أَنْ يُمَرَّضَ بِدِمَشْقَ، فأذن له، فسار منها
فلما وصل إلى غباغب مات بِهَا فِي أَوَاخِرِ ذِي الْحِجَّةِ. وَفِي
رَجَبٍ منها توفى الأمير الكبير نائب دمشق.
الصَّفِيُّ بْنُ الْفَائِضِ
وَكَانَ مِنْ أَكْبَرِ أَصْحَابِ السُّلْطَانِ قَبْلَ الْمُلْكِ،
ثُمَّ اسْتَنَابَهُ عَلَى دِمَشْقَ حتى توفى بها في هذه السنة.
وفي ربيع الأول توفى
الطبيب الماهر أَسْعَدُ بْنُ الْمُطْرَانِ
وَقَدْ شَرُفَ بِالْإِسْلَامِ، وَشَكَرَهُ على طبه الخاص والعام.
الجيوشاتى الشيخ نجم الدين
الَّذِي بَنَى تُرْبَةَ الشَّافِعِيِّ بِمِصْرَ بِأَمْرِ
السُّلْطَانِ صلاح الدين، ووقف عليها أوقافا سنية، وَوَلَّاهُ
تَدْرِيسَهَا وَنَظَرَهَا، وَقَدْ كَانَ السُّلْطَانُ يَحْتَرِمُهُ
وَيُكْرِمُهُ، وَقَدْ ذَكَرْتُهُ فِي طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ،
وَمَا صَنَّفَهُ فِي الْمَذْهَبِ مِنْ شَرْحِ الْوَسِيطِ
وَغَيْرِهِ، ولما توفى الجيوشاتى طَلَبَ التَّدْرِيسَ جَمَاعَةٌ
فَشَفَعَ الْمَلِكُ الْعَادِلُ عِنْدَ أخيه في شيخ الشُّيُوخِ
أَبِي الْحَسَنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَمُّوَيْهِ، فَوَلَّاهُ إياه،
ثُمَّ عَزَلَهُ عَنْهَا بَعْدَ مَوْتِ السُّلْطَانِ،
وَاسْتَمَرَّتْ عليه أَيْدِي بَنِي السُّلْطَانِ وَاحِدًا بَعْدَ
وَاحِدٍ، ثُمَّ عادت إليها الفقهاء والمدرسون بعد ذلك.
ثم دخلت سنة ثمان وثمانين وخمسمائة
استهلت والسلطان صلاح الدين مخيم بالقدس، وَقَدْ قَسَّمَ السُّورَ
بَيْنَ أَوْلَادِهِ وَأُمَرَائِهِ، وَهُوَ يعمل فيه بنفسه، ويحمل
الحجر بين القربوسيين وبينه، والناس يقتدون بهم، والفقهاء والقراء
يعملون، وَالْفِرِنْجُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ حَوْلَ الْبَلَدِ مِنْ
نَاحِيَةِ عسقلان وما والاها، لا يتجاسرون أن يقربوا البلد من
الحرس واليزك الذين حول القدس، إِلَّا أَنَّهُمْ عَلَى نِيَّةِ
مُحَاصَرَةِ الْقُدْسِ مُصَمِّمُونَ، وَلِكَيْدِ الْإِسْلَامِ
مُجْمِعُونَ، وَهُمْ وَالْحَرَسُ تَارَةً يَغْلِبُونَ وَتَارَةً
يُغْلَبُونَ، وَتَارَةً يَنْهَبُونَ وَتَارَةً يُنْهَبُونَ. وَفِي
ربيع الآخر
(12/347)
وصل إلى السلطان الأمير سيف الدين المشطوب
مِنَ الْأَسْرِ، وَكَانَ نَائِبًا عَلَى عَكَّا حِينَ أُخِذَتْ،
فَافْتَدَى نَفْسَهُ مِنْهُمْ بِخَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ،
فَأَعْطَاهُ السُّلْطَانُ شَيْئًا كَثِيرًا مِنْهَا،
وَاسْتَنَابَهُ عَلَى مدينة نابلس، فتوفى بها في شوال من هذه
السنة. وَفِي رَبِيعٍ الْآخَرِ قُتِلَ الْمَرْكِيسُ صَاحِبُ صُورَ
لعنه الله، أرسل إليه ملك الانكليز اثنين من الفداوية فقتلوه:
أظهرا التنصر ولزما الكنيسة حتى ظفرا به فقتلاه وقتلا أيضا،
فاستناب ملك الانكليز عليها ابن أخيه بلام الكندهر، وهو ابن أخت
ملك الأفرنسيين نسيين لأبيه، فهما خالاه، ولما صار إلى صور بنى
بِزَوْجَةِ الْمَرْكِيسِ بَعْدَ مَوْتِهِ بِلَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ،
وَهِيَ حُبْلَى أَيْضًا، وَذَلِكَ لِشِدَّةِ الْعَدَاوَةِ الَّتِي
كَانَتْ بين الانكليز وَبَيْنَهُ، وَقَدْ كَانَ السُّلْطَانُ
صَلَاحُ الدِّينِ يُبْغِضُهُمَا، ولكن المركيس كان قد صانعه بعض
شيء، فلم يهن عليه قتله.
وَفِي تَاسِعِ جُمَادَى الْأُولَى اسْتَوْلَى الْفِرِنْجُ
لَعَنَهُمُ اللَّهُ عَلَى قَلْعَةِ الدَّارُومِ فَخَرَّبُوهَا،
وَقَتَلُوا خَلْقًا كَثِيرًا مِنْ أَهْلِهَا، وَأَسَرُوا طَائِفَةً
مِنَ الذُّرِّيَّةِ، ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ
2: 156، ثم أقبلوا جملة نحو القدس فبرز إليهم السلطان في حزب
الايمان، فلما تراءى الجمعان نكص حزب الشيطان راجعين، فرارا من
القتال والنزال، وعاد السلطان إلى القدس. (وَرَدَّ اللَّهُ
الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً، وَكَفَى
اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا
عَزِيزاً) 33: 25 ثم إن ملك الانكليز لَعَنَهُ اللَّهُ- وَهُوَ
أَكْبَرُ مُلُوكِ الْفِرِنْجِ ذَلِكَ الحين- ظفر ببعض فلول
الْمُسْلِمِينَ فَكَبَسَهُمْ لَيْلًا فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا
كَثِيرًا، وَأَسَرَ مِنْهُمْ خَمْسَمِائَةِ أَسِيرٍ، وَغَنِمَ
مِنْهُمْ شَيْئًا كثيرا من الأموال والجمال، والخيل والبغال، وكان
جُمْلَةُ الْجِمَالِ ثَلَاثَةَ آلَافِ بَعِيرٍ، فَتَقَوَّى
الْفِرِنْجُ بذلك، وَسَاءَ ذَلِكَ السُّلْطَانَ مَسَاءَةً
عَظِيمَةً جِدًّا، وَخَافَ من غائلة ذلك، واستخدم الانكليز الجمالة
على الجمال، والخربندية على البغال، والسياس عَلَى الْخَيْلِ،
وَأَقْبَلَ وَقَدْ قَوِيَتْ نَفْسُهُ جِدًّا، وَصَمَّمَ عَلَى
مُحَاصَرَةِ الْقُدْسِ، وَأَرْسَلَ إِلَى مُلُوكِ الْفِرِنْجِ
الَّذِينَ بِالسَّاحِلِ، فَاسْتَحْضَرَهُمْ وَمَنْ مَعَهُمْ مِنَ
الْمُقَاتِلَةِ، فَتَعَبَّأَ السُّلْطَانُ لَهُمْ وَتَهَيَّأَ،
وَأَكْمَلَ السُّورَ وعمر الخنادق، ونصب المنجانيق، وَأَمَرَ
بِتَغْوِيرِ مَا حَوْلَ الْقُدْسِ مِنَ الْمِيَاهِ، وَأَحْضَرَ
السُّلْطَانُ أُمَرَاءَهُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ تَاسِعَ عَشَرَ
جمادى الآخرة: أبا الهيجاء السمين، والمشطوب، والأسدية، فاستشارهم
فِيمَا قَدْ دَهَمَهُ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ الْفَظِيعِ، الْمُوجِعِ
الْمُؤْلِمِ، فَأَفَاضُوا فِي ذَلِكَ، وَأَشَارُوا كُلٌّ
بِرَأْيهِ، وَأَشَارَ الْعِمَادُ الْكَاتِبُ بِأَنْ يَتَحَالَفُوا
عَلَى الْمَوْتِ عِنْدَ الصَّخْرَةِ، كَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ
يَفْعَلُونَ، فَأَجَابُوا إِلَى ذَلِكَ. هَذَا كُلُّهُ
وَالسُّلْطَانُ سَاكِتٌ وَاجِمٌ مُفَكِّرٌ، فَسَكَتَ الْقَوْمُ
كَأَنَّمَا عَلَى رُءُوسِهِمُ الطَّيْرُ، ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ
للَّه وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ: اعْلَمُوا
أَنَّكُمْ جُنْدُ الْإِسْلَامِ الْيَوْمَ وَمَنَعَتُهُ، وَأَنْتُمْ
تَعْلَمُونَ أَنَّ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ وأموالهم وذراريهم في
ذممكم معلقة، والله عز وجل سائلكم يوم القيامة عنهم، وأن هذا العدو
ليس له من المسلمين من يلقاه عن العباد والبلاد غيركم،
(12/348)
فان وليتم والعياذ باللَّه طوى البلاد
وأهلك العباد، وأخذ الأموال والأطفال والنساء، وعبد الصليب في
المساجد، وعزل القرآن منها والصلاة، وكان ذلك كله في ذممكم، فإنكم
أنتم الذين تصديتم لهذا كله، وأكلتم بيت مال المسلمين لتدفعوا عنهم
عدوهم، وتنصروا ضعيفهم، فَالْمُسْلِمُونَ فِي سَائِرِ الْبِلَادِ
مُتَعَلِّقُونَ بِكُمْ وَالسَّلَامُ.
فَانْتَدَبَ لِجَوَابِهِ سَيْفُ الدِّينِ الْمَشْطُوبُ وَقَالَ:
يَا مَوْلَانَا نَحْنُ مَمَالِيكُكَ وَعَبِيدُكَ، وَأَنْتَ الَّذِي
أَعْطَيْتَنَا وَكَبَّرْتَنَا وَعَظَّمْتَنَا، وَلَيْسَ لَنَا
إِلَّا رِقَابُنَا وَنَحْنُ بَيْنُ يَدَيْكَ، وَاللَّهِ مَا
يَرْجِعُ أَحَدٌ مِنَّا عن نصرك حتى يَمُوتَ. فَقَالَ الْجَمَاعَةُ
مِثْلَ مَا قَالَ، فَفَرِحَ السلطان بذلك وطلب قَلْبُهُ، وَمَدَّ
لَهُمْ سِمَاطًا حَافِلًا، وَانْصَرَفُوا مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ
عَلَى ذَلِكَ. ثُمَّ بَلَغَهُ بَعْدَ ذلك أن بعض الأمراء قَالَ:
إِنَّا نَخَافُ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْنَا فِي هذا البلد مثل ما
جَرَى عَلَى أَهْلِ عَكَّا، ثُمَّ يَأْخُذُونَ بِلَادَ
الْإِسْلَامِ بَلَدًا بَلَدًا، وَالْمَصْلَحَةُ أَنْ
نَلْتَقِيَهُمْ بِظَاهِرِ الْبَلَدِ، فَإِنْ هَزَمْنَاهُمْ
أَخَذْنَا بَقِيَّةَ بِلَادِهِمْ، وَإِنْ تكن الأخرى سلم العسكر
ومضى بحاله، ويأخذون القدس ونحفظ بقية بِلَادُ الْإِسْلَامِ
بِدُونِ الْقُدْسِ مُدَّةً طَوِيلَةً، وَبَعَثُوا إِلَى
السُّلْطَانِ يَقُولُونَ لَهُ: إِنْ كُنْتَ تُرِيدُنَا نُقِيمُ
بِالْقُدْسِ تَحْتَ حِصَارِ الْفِرِنْجِ، فَكُنْ أَنْتَ مَعَنَا
أَوْ بَعْضُ أَهْلِكَ، حَتَّى يَكُونَ الْجَيْشُ تَحْتَ أَمْرِكَ،
فَإِنَّ الْأَكْرَادَ لَا تُطِيعُ التُّرْكَ، وَالتُّرْكُ لَا
تُطِيعُ الْأَكْرَادَ. فَلَمَّا بَلَغَهُ ذَلِكَ شَقَّ عَلَيْهِ
مَشَقَّةً عَظِيمَةً، وَبَاتَ لَيْلَتَهُ أَجْمَعَ مَهْمُومًا
كَئِيبًا يُفَكِّرُ فِيمَا قَالُوا، ثُمَّ انْجَلَى الْأَمْرُ
وَاتَّفَقَ الْحَالُ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمَلِكُ الْأَمْجَدُ
صَاحِبُ بَعْلَبَكَّ مُقِيمًا عِنْدَهُمْ نَائِبًا عَنْهُ
بِالْقُدْسِ، وَكَانَ ذَلِكَ نَهَارَ الْجُمُعَةِ، فَلَمَّا حَضَرَ
إِلَى صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَأَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ لِلظُّهْرِ
قَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ بَيْنَ الْأَذَانَيْنِ، وَسَجَدَ
وَابْتَهَلَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى ابْتِهَالًا عَظِيمًا،
وَتَضَرَّعَ إِلَى رَبِّهِ، وَتَمَسْكَنَ وَسَأَلَهُ فِيمَا
بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ كَشْفَ هَذِهِ الضَّائِقَةِ الْعَظِيمَةِ.
فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ السَّبْتِ مِنَ الغد جاءت الكتب من الحرس
الذين حَوْلَ الْبَلَدِ بِأَنَّ الْفِرِنْجَ قَدِ اخْتَلَفُوا
فِيمَا بينهم، فقال ملك الافرنسيين إِنَّا إِنَّمَا جِئْنَا مِنَ
الْبِلَادِ الْبَعِيدَةِ وَأَنْفَقْنَا الْأَمْوَالَ الْعَدِيدَةَ
فِي تَخْلِيصِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَرَدِّهِ إلينا، وقد بقي بيننا
وبينه مرحلة، فقال الانكليز إن هذا البلد شق عَلَيْنَا حِصَارُهُ،
لِأَنَّ الْمِيَاهَ حَوْلَهُ قَدْ عُدِمَتْ، وإلى أن يأتينا الماء
من المشقة البعيدة يعطل الحصار، ويتلف الْجَيْشُ، ثُمَّ اتَّفَقَ
الْحَالُ بَيْنَهُمْ عَلَى أَنْ حكموا منهم عَلَيْهِمْ
ثَلَاثَمِائَةٍ مِنْهُمْ، فَرَدُّوا أَمْرَهُمْ إِلَى اثْنَيْ
عَشَرَ مِنْهُمْ، فَرَدُّوا أَمْرَهُمْ إِلَى ثَلَاثَةٍ مِنْهُمْ،
فَبَاتُوا لَيْلَتَهُمْ يَنْظُرُونَ ثُمَّ أَصْبَحُوا وَقَدْ
حَكَمُوا عَلَيْهِمْ بِالرَّحِيلِ، فَلَمْ يُمْكِنْهُمْ
مُخَالَفَتُهُمْ فَسَحَبُوا رَاجِعِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ
أَجْمَعِينَ، فَسَارُوا حَتَّى نَزَلُوا عَلَى الرملة وقد طالت
عليهم الغربة والزملة، وَذَلِكَ فِي بُكْرَةِ الْحَادِيَ
وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَبَرَزَ السُّلْطَانُ
بِجَيْشِهِ إِلَى خَارِجِ الْقُدْسِ، وَسَارَ نَحْوَهُمْ خَوْفًا
أَنْ يَسِيرُوا إِلَى مِصْرَ، لِكَثْرَةِ مَا مَعَهُمْ مِنَ
الظَّهْرِ وَالْأَمْوَالِ، وَكَانَ الانكليز يَلْهَجُ بِذَلِكَ
كَثِيرًا، فَخَذَلَهُمُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ، وترددت الرسل من
الانكليز إلى السلطان
(12/349)
في طلب الأمان وَوَضْعِ الْحَرْبِ بَيْنَهُ
وَبَيْنَهُمْ ثَلَاثَ سِنِينَ، وَعَلَى أن يعيد لهم عسقلان ويهب له
كَنِيسَةَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَهِيَ الْقُمَامَةُ، وَأَنْ
يُمَكِّنَ النَّصَارَى مِنْ زِيَارَتِهَا وَحَجِّهَا بِلَا شَيْءٍ،
فَامْتَنَعَ السلطان من إعادة عسقلان وأطلق لهم قمامة، وَفَرَضَ
عَلَى الزُّوَّارِ مَالًا يُؤْخَذُ مِنْ كُلٍّ منهم، فامتنع
الانكليز إلا أن تعادلهم عَسْقَلَانُ، وَيُعَمَّرَ سُورُهَا كَمَا
كَانَتْ، فَصَمَّمَ السُّلْطَانُ عَلَى عَدَمِ الْإِجَابَةِ. ثُمَّ
رَكِبَ السُّلْطَانُ حَتَّى وافى يافا فحاصرها حصارا شديدا،
فافتتحها وأخذوا الْأَمَانَ لِكَبِيرِهَا وَصَغِيرِهَا،
فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ أشرفت عليهم مراكب الانكليز عَلَى
وَجْهِ الْبَحْرِ، فَقَوِيَتْ رُءُوسُهُمْ وَاسْتَعْصَتْ
نُفُوسُهُمْ، فهجم اللعين فاستعاد الْبَلَدَ وَقَتَلَ مَنْ
تَأَخَّرَ بِهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ صَبْرًا بَيْنَ يَدَيْهِ،
وَتَقَهْقَرَ السُّلْطَانُ عَنْ مَنْزِلَةِ الْحِصَارِ إِلَى مَا
وَرَاءَهَا خَوْفًا عَلَى الْجَيْشِ من معرة الفرنج، فجعل ملك
الانكليز يتعجب من شدة سطوة السلطان، وكيف فَتَحَ مِثْلَ هَذَا
الْبَلَدِ الْعَظِيمِ فِي يَوْمَيْنِ، وَغَيْرُهُ لَا يُمْكِنُهُ
فَتْحُهُ فِي عَامَيْنِ، وَلَكِنْ مَا ظَنَنْتُ أَنَّهُ مَعَ
شَهَامَتِهِ وَصَرَامَتِهِ يَتَأَخَّرُ مِنْ مَنْزِلَتِهِ
بِمُجَرَّدِ قُدُومِي، وَأَنَا وَمَنْ مَعِي لم تخرج مِنَ
الْبَحْرِ إِلَّا جَرَائِدَ بِلَا سِلَاحٍ، ثُمَّ أَلَحَّ فِي
طَلَبِ الصُّلْحِ وَأَنْ تَكُونَ عَسْقَلَانُ داخلة في صلحهم،
فامتنع السلطان، ثُمَّ إِنَّ السُّلْطَانَ كَبَسَ فِي تِلْكَ
اللَّيَالِي الانكليز وهو في سبعة عشر مقاتلا، وحوله قليل من
الرجالة فأكب بجيشه حوله وحصره حصرا لم يبق مَعَهُ نَجَاةٌ، لَوْ
صَمَّمَ مَعَهُ الْجَيْشُ، وَلَكِنَّهُمْ نكلوا كلهم عن الحملة،
فَلَا قُوَّةَ إِلَّا باللَّه، وَجَعَلَ السُّلْطَانُ
يُحَرِّضُهُمْ غَايَةَ التَّحْرِيضِ، فَكُلُّهُمْ يَمْتَنِعُ كَمَا
يَمْتَنِعُ الْمَرِيضُ من شرب الدواء.
هذا وملك الانكليز قَدْ رَكِبَ فِي أَصْحَابِهِ وَأَخَذَ عُدَّةَ
قِتَالِهِ، وأهبة نزاله، واستعرض الميمنة إِلَى آخِرِ
الْمَيْسَرَةِ، يَعْنِي مَيْمَنَةَ الْمُسْلِمِينَ
وَمَيْسَرَتَهُمْ، فَلَمْ يَتَقَدَّمْ إِلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ
الْفُرْسَانِ، وَلَا نهره بَطَلٌ مِنَ الشُّجْعَانِ، فَعِنْدَ
ذَلِكَ كَرَّ السُّلْطَانُ رَاجِعًا، وَقَدْ أَحْزَنَهُ أَنَّهُ
لَمْ يَرَ مِنَ الجيش مطيعا، ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
راجِعُونَ 2: 156. ولو أن له بهم قوة لما ترك أحدا منهم يتناول من
بيت المال فلسا. ثم حصل لملك الانكليز بعد ذلك مرض شديد، فبعث إلى
السلطان يطلب فاكهة وثلجا فأمده بذلك من باب الكرم، ثُمَّ عُوفِيَ
لَعَنَهُ اللَّهُ وَتَكَرَّرَتِ الرُّسُلُ مِنْهُ يطلب من السلطان
المصالحة لكثرة شوقه إلى أولاده وبلاده، وطاوع السلطان على ما يقول
وترك طَلَبِ عَسْقَلَانَ، وَرَضِيَ بِمَا رَسَمَ بِهِ
السُّلْطَانُ، وكتب كتاب الصلح بينهما في سابع عَشَرَ شَعْبَانَ،
وَأُكِّدَتِ الْعُهُودُ وَالْمَوَاثِيقُ مِنْ كُلِّ ملك من ملوكهم،
وَحَلَفَ الْأُمَرَاءُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَكَتَبُوا
خُطُوطَهُمْ، وَاكْتُفِيَ مِنَ السُّلْطَانِ بِالْقَوْلِ
الْمُجَرَّدِ كَمَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ السَّلَاطِينَ، وَفَرِحَ
كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ فَرَحًا شديدا، وأظهروا سرورا كثيرا،
ووقعت الهدنة على وضع الحرب ثلاثين سنة وستة أشهر، وعلى أن يقرهم
على مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الْبِلَادِ السَّاحِلِيَّةِ،
وَلِلْمُسْلِمِينَ مَا يُقَابِلُهَا مِنَ الْبِلَادِ
الْجَبَلِيَّةِ، وَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ المعاملات تقسم عَلَى
الْمُنَاصَفَةِ، وَأَرْسَلَ السُّلْطَانُ مِائَةَ نِقَابٍ صُحْبَةَ
(12/350)
أَمِيرٍ لِتَخْرِيبِ سُورِ عَسْقَلَانَ
وَإِخْرَاجِ مَنْ بِهَا من الفرنج.
وعاد السلطان إلى القدس فَرَتَّبَ أَحْوَالَهُ وَوَطَّدَهَا،
وَسَدَّدَ أُمُورَهُ وَأَكَّدَهَا، وَزَادَ وَقْفَ الْمَدْرَسَةِ
سُوقًا بِدَكَاكِينِهَا وَأَرْضًا بِبَسَاتِينِهَا، وَزَادَ وقف
الصوفية، وَعَزَمَ عَلَى الْحَجِّ عَامَهُ ذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَى
الحجاز واليمن ومصر والشام ليعلموا بذلك، ويتأهبوا له، فكتب إليه
الْقَاضِي الْفَاضِلُ يَنْهَاهُ عَنْ ذَلِكَ خَوْفًا عَلَى البلاد
من استيلاء الفرنج عليها، ومن كثرة المظالم بها، وفساد الناس
والعسكر وقلة نصحهم وأن النظر في أحوال المسلمين خير لك عامك هذا،
والعدو مخيم بعد بالشام، وأنت تعلم أنهم يُهَادِنُونَ
لِيَتَقَوَّوْا وَيَكْثُرُوا، ثُمَّ يَمْكُرُوا وَيَغْدِرُوا،
فَسَمِعَ السلطان منه وشكر نصحه وترك ما عزم عليه وكتب به إلى سائر
الممالك، واستمر مُقِيمًا بِالْقُدْسِ جَمِيعَ شَهْرِ رَمَضَانَ
فِي صِيَامٍ وَصَلَاةٍ وَقُرْآنٍ، وَكُلَّمَا وَفَدَ أَحَدٌ مِنْ
رُؤَسَاءِ الفرنج للزيارة فعل معه غاية الإكرام، تأليفا لقلوبهم،
وَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنْ مُلُوكِهِمْ إِلَّا جَاءَ لِزِيَارَةِ
الْقُمَامَةِ مُتَنَكِّرًا، وَيَحْضُرُ سِمَاطَ السُّلْطَانِ
فِيمَنْ حضر مِنْ جُمْهُورِهِمْ، بِحَيْثُ لَا يُرَى.
وَالسُّلْطَانُ لَا يعلم ذلك جملة ولا تفصيلا، ولهذا كان
يُعَامِلُهُمْ بِالْإِكْرَامِ، وَيُرِيهِمْ صَفْحًا جَمِيلًا،
وَبِرًّا جَزِيلًا.
فلما كان في خامس شوال ركب السلطان في العساكر فبرز من القدس قاصدا
دمشق، واستناب على القدس عز الدين جوردبك، وعلى قضائها بهاء الدين
بن يوسف بن رافع بن تميم الشافعيّ، فاجتاز عَلَى وَادِي الْجِيبِ
وَبَاتَ عَلَى بِرْكَةِ الدَّاوِيَّةِ، ثُمَّ أَصْبَحَ فِي
نَابُلُسَ فَنَظَرَ فِي أَحْوَالِهَا، ثم ترحل عنها، فجعل يمر
بالقلاع والحصون والبلدان فينظر في أحوالها ويكشف المظالم عنها،
وَفِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ جَاءَ إِلَى خِدْمَتِهِ بَيْمُنْدُ
صَاحِبُ أَنْطَاكِيَةَ فَأَكْرَمَهُ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ،
وَأَطْلَقَ لَهُ أموالا جزيلة وخلعا، وَكَانَ الْعِمَادُ
الْكَاتِبُ فِي صُحْبَتِهِ، فَأَخْبَرَ عَنْ منازله منزلة منزلة
إِلَى أَنْ قَالَ: وَعَبَرَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ عَيْنَ الحر إلى
مرج بيوس، وقد زال البوس، وهناك وفد عليه أعيان دمشق وأماثلها،
ونزل يوم الثلاثاء على العرادة، وجاءه هناك التحف والمتلقون على
العادة، وأصبحنا يوم الأربعاء سادس عشر شوال بكرة بجنة دمشق
داخلين، بسلام آمنين، وكانت غيبة السلطان عنها أَرْبَعَ سِنِينَ،
فَأَخْرَجَتْ دِمَشْقُ أَثْقَالَهَا، وَأَبْرَزَتْ نِسَاءَهَا
وأطفالها ورجالها، وكان يوم الزينة، وخرج أكثر أهل المدينة، واجتمع
أولاده الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ، وِقَدِمَ عَلَيْهِ رُسُلُ
الْمُلُوكِ مِنْ سَائِرِ الْأَمْصَارِ، وَأَقَامَ بَقِيَّةَ
عَامِهِ فِي اقْتِنَاصِ الصيد وحضور دار العدل، وَالْعَمَلِ
بِالْإِحْسَانِ وَالْفَضْلِ. وَلَمَّا كَانَ عِيدُ الْأَضْحَى
امْتَدَحَهُ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ بِقَصِيدَةٍ يَقُولُ فِيهَا:
وَأَبِيهَا لولا تغزل عينها ... لَمَا قُلْتُ فِي التِّغَزُّلِ
شِعْرًا
وَلَكَانَتْ مَدَائِحُ الملك الناصر ... وإلى مَا فِيهِ أُعْمِلُ
فِكْرَا
مَلِكٌ طَبَّقَ الْمَمَالِكَ بالعدل ... مثلما أوسع البرية برا
(12/351)
فيحل الأعياد صوما وفطرا ... ويلقى الهنا
برا وبحرا
يأمر بالطاعات للَّه إن ... أضحى مليك على المناهي مصرا
نلت ما تسعى من الدين والدنيا ... فَتِيهًا عَلَى الْمُلُوكِ
وَفَخْرَا
قَدْ جَمَعْتَ الْمَجْدَيْنِ أَصْلًا وَفَرْعًا ... وَمَلَكْتَ
الدَّارَيْنِ دُنْيَا وَأُخْرَى
وَمِمَّا وَقَعَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْحَوَادِثِ غَزْوَةٌ
عظيمة بين صاحب غزنة شهاب الدين ملكها السُّبُكْتِكِينِيِّ
وَبَيْنُ مَلِكِ الْهِنْدِ وَأَصْحَابِهِ الَّذِينَ كَانُوا قَدْ
كَسَرُوهُ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ، فَأَظْفَرَهُ الله بهم
هَذِهِ السَّنَةِ، فَكَسَرَهُمْ وَقَتَلَ خَلْقًا مِنْهُمْ
وَأَسَرَ خَلْقًا، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ أَسَرَهُ مَلِكُهُمُ
الْأَعْظَمُ، وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ فِيلًا، مِنْ جُمْلَتِهَا
الَّذِي كان جرحه، ثم أحضر الْمَلِكُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَأَهَانَهُ
وَلَمْ يُكْرِمْهُ، وَاسْتَحْوَذَ على حصنه وأخبر بما فِيهِ مِنْ
كُلِّ جَلِيلٍ وَحَقِيرٍ، ثُمَّ قَتَلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَعَادَ
إِلَى غَزْنَةَ مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا، مسرورا محبورا.
وفيها اتُّهِمَ أَمِيرُ الْحَجِّ بِبَغْدَادَ وَهُوَ طَاشْتِكِينُ،
وَقَدْ كان على إمرة الحج مِنْ مُدَّةِ عِشْرِينَ سَنَةً، وَكَانَ
فِي غَايَةِ حسن السيرة، واتهم بأنه يكاتب صلاح الدين بن أيوب في
أخذ بغداد، فإنه ليس بينه وبينها أحد يمانعه عنها، وقد كان مكذوبا
عليه، ومع هذا أهين وحبس وصودر.
فَصْلٌ وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
الْقَاضِي شَمْسُ الدِّينِ.
مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى
الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْفَرَّاشِ، كَانَ قَاضِيَ الْعَسَاكِرِ
بِدِمَشْقَ، ويرسله السلطان إلى ملوك الآفاق، ومات بملطية.
سَيْفُ الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الْمَشْطُوبُ
كَانَ مِنْ أَصْحَابِ أَسَدِ الدِّينِ شِيرَكُوهْ، حَضَرَ مَعَهُ
الْوَقَعَاتِ الثَّلَاثَ بِمِصْرَ، ثُمَّ صَارَ مِنْ كُبَرَاءِ
أُمَرَاءِ صَلَاحِ الدِّينِ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ نَائِبًا على
عكا لما أخذوها الْفِرِنْجُ، فَأَسَرُوهُ فِي جُمْلَةِ مَنْ
أَسَرُوا فَافْتَدَى نفسه بخمسين ألف دينار، وجاء إِلَى
السُّلْطَانِ وَهُوَ بِالْقُدْسِ فَأَعْطَاهُ أَكْثَرَهَا،
وَوَلَّاهُ نابلس. توفى يوم الأحد ثالث وعشرين شوال بالقدس،
وَدُفِنَ فِي دَارِهِ.
صَاحِبُ بِلَادِ الرُّومِ عِزُّ الدين قلج أرسلان بن مسعود
ابن قِلْجِ أَرَسْلَانَ، وَكَانَ قَدْ قَسَّمَ جَمِيعَ بِلَادِهِ
بَيْنَ أَوْلَادِهِ، طَمَعًا فِي طَاعَتِهِمْ لَهُ، فَخَالَفُوهُ
وَتَجَبَّرُوا وَعَتَوْا عَلَيْهِ، وَخَفَّضُوا قَدْرَهُ
وَارْتَفَعُوا، وَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى تُوَفِّيَ فِي
عَامِهِ هَذَا. وفي ربيع الآخر توفى الشَّاعِرُ أَبُو الْمُرْهَفِ.
(12/352)
نَصْرُ بْنُ مَنْصُورٍ النُّمَيْرِيُّ
سَمِعَ الْحَدِيثَ وَاشْتَغَلَ بالأدب، أصابه جدري وهو ابن أربعة
عَشْرَةَ سَنَةً فَنَقَصَ بَصَرُهُ جِدًّا، وَكَانَ لَا يُبْصِرُ
الْأَشْيَاءَ الْبَعِيدَةَ، وَيَرَى الْقَرِيبَ مِنْهُ، وَلَكِنْ
كان لَا يَحْتَاجُ إِلَى قَائِدٍ، فَارْتَحَلَ إِلَى الْعِرَاقِ
لِمُدَاوَاةِ عَيْنَيْهِ فَآيِسَتْهُ الْأَطِبَّاءُ مِنْ ذَلِكَ،
فَاشْتَغَلَ بحفظ القرآن ومصاحبة الصالحين فَأَفْلَحَ، وَلَهُ
دِيوَانُ شِعْرٍ كَبِيرٌ حَسَنٌ، وَقَدْ سُئِلَ مَرَّةً عَنْ
مَذْهَبِهِ وَاعْتِقَادِهِ فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
أُحِبُّ عَلِيًّا وَالْبَتُولَ وَوُلْدَهَا ... وَلَا أَجْحَدُ
الشَّيْخَيْنِ فَضْلَ التَّقَدُّمِ
وَأَبْرَأُ مِمَّنْ نَالَ عُثْمَانَ بِالْأَذَى ... كَمَا
أَتَبَرَّا مِنْ وَلَاءِ ابْنِ مُلْجِمِ
وَيُعْجِبُنِي أَهْلُ الْحَدِيثِ لِصِدْقِهِمْ ... فَلَسْتُ إِلَى
قَوْمٍ سِوَاهُمْ بمنتمى
توفى بِبَغْدَادَ وَدُفِنَ بِمَقَابِرِ الشُّهَدَاءِ بِبَابِ
حَرْبٍ رَحِمَهُ الله تعالى.
بحمد الله تعالى قد تم طبع الجزء الثاني عشر من البداية والنهاية
للعلامة ابن كثير ويليه الجزء الثالث عشر وأوله سنة تسع وثمانين
وخمسمائة هجرية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التحية
(12/353)