البداية والنهاية، ط. دار الفكر

ثم دخلت سنة خمس وثلاثين وستمائة
فيها كانت وفاة الأشرف ثم أخوه الْكَامِلِ، أَمَّا الْأَشْرَفُ مُوسَى بْنُ الْعَادِلِ بَانِي دَارِ الْحَدِيثِ الْأَشْرَفِيَّةِ وَجَامِعِ التَّوْبَةِ وَجَامِعِ جَرَّاحٍ، فَإِنَّهُ تُوُفِّيَ فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ رَابِعِ الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، بِالْقَلْعَةِ الْمَنْصُورَةِ، وَدُفِنَ بِهَا حَتَّى نَجِزَتْ تُرْبَتُهُ الَّتِي بُنِيَتْ لَهُ شَمَالِيَّ الْكَلَّاسَةِ، ثُمَّ حُوِّلَ إِلَيْهَا رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فِي جُمَادَى الْأُولَى، وَقَدْ كَانَ ابْتِدَاءُ مَرَضِهِ فِي رَجَبٍ مِنَ السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ، وَاخْتَلَفَتْ عَلَيْهِ الْأَدْوَاءُ حَتَّى كَانَ الْجَرَائِحِيُّ يُخْرِجُ الْعِظَامَ مِنْ رَأْسِهِ وَهُوَ يُسَبِّحُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، فَلَمَّا كَانَ آخِرُ السَّنَةِ تَزَايَدَ بِهِ الْمَرَضُ

(13/146)


وَاعْتَرَاهُ إِسْهَالٌ مُفْرِطٌ فَخَارَتْ قُوَّتُهُ فَشَرَعَ فِي التهيؤ للقاء الله عز وجل، فأعتق مائتي غلام وجارية، ووقف دار فروخ شاه الَّتِي يُقَالُ لَهَا دَارُ السَّعَادَةِ، وَبُسْتَانَهُ بِالنَّيْرَبِ على ابنيه، وَتَصَدَّقَ بِأَمْوَالٍ جَزِيلَةٍ، وَأَحْضَرَ لَهُ كَفَنًا كَانَ قَدْ أَعَدَّهُ مِنْ مَلَابِسِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَشَايِخِ الَّذِينَ لَقِيَهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَقَدْ كَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى شهما شجاعا كريما جوادا لأهل العلم، لا سيما أهل الحديث، ومقاربيته الصالحة، وَقَدْ بَنَى لَهُمْ دَارَ حَدِيثٍ بِالسَّفْحِ وَبِالْمَدِينَةِ لِلشَّافِعِيَّةِ أُخْرَى، وَجَعَلَ فِيهَا نَعْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي مَا زَالَ حَرِيصًا على طلبه مِنَ النَّظَّامِ ابْنِ أَبِي الْحَدِيدِ التَّاجِرِ، وَقَدْ كان النظام ضنينا به فعزم الأشرف أن يأخذ منه قطعة، ثم ترك ذلك خَوْفًا مِنْ أَنْ يَذْهَبَ بِالْكُلِّيَّةِ، فَقَدَّرَ اللَّهُ مَوْتَ ابْنِ أَبِي الْحَدِيدِ بِدِمَشْقَ فَأَوْصَى لِلْمَلِكِ الْأَشْرَفِ بِهِ، فَجَعَلَهُ الْأَشْرَفُ بِدَارِ الْحَدِيثِ، وَنَقَلَ إِلَيْهَا كُتُبًا سَنِيَّةً نَفِيسَةً، وَبَنَى جَامِعَ التَّوْبَةِ بالعقبية، وَقَدْ كَانَ خَانًا لِلزِّنْجَارِيِّ فِيهِ مِنَ الْمُنْكَرَاتِ شَيْءٌ كَثِيرٌ، وَبَنَى مَسْجِدَ الْقَصَبِ وَجَامِعَ جَرَّاحٍ وَمَسْجِدَ دَارِ السَّعَادَةِ، وَقَدْ كَانَ مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَسَبْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَنَشَأَ بِالْقُدْسِ الشَّرِيفِ بِكَفَالَةِ الْأَمِيرِ فَخْرِ الدِّينِ عُثْمَانَ الزِّنْجَارِيِّ، وَكَانَ أَبُوهُ يُحِبُّهُ، وَكَذَلِكَ أَخُوهُ الْمُعَظَّمُ ثُمَّ اسْتَنَابَهُ أَبُوهُ عَلَى مُدُنٍ كَثِيرَةٍ بِالْجَزِيرَةِ مِنْهَا الرُّهَا وَحَرَّانَ، ثُمَّ اتَّسَعَتْ مَمْلَكَتُهُ حِينَ مَلَكَ خِلَاطَ، وَكَانَ مِنْ أَعَفِّ النَّاسِ وَأَحْسَنِهِمْ سِيرَةً وَسَرِيرَةً، لا يعرف غير نسائه وسراريه، مَعَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ يُعَانِي الشَّرَابَ، وَهَذَا مِنْ أَعْجَبِ الْأُمُورِ. حَكَى السِّبْطُ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ يَوْمًا بِهَذِهِ الْمَنْظَرَةِ مِنْ خِلَاطَ إِذْ دَخَلَ الْخَادِمُ فَقَالَ: بِالْبَابِ امْرَأَةٌ تَسْتَأْذِنُ، فَدَخَلَتْ فَإِذَا صُورَةٌ لَمْ أَرَ أَحْسَنَ مِنْهَا، وَإِذَا هِيَ ابْنَةُ الْمَلِكِ الَّذِي كَانَ بِخِلَاطَ قَبْلِي، فذكرت أن الحاجب عليّ قَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَى قَرْيَةٍ لَهَا، وَأَنَّهَا قَدِ احتاجت إلى بيوت الكرى، وَأَنَّهَا إِنَّمَا تَتَقَوَّتُ مِنْ عَمَلِ النُّقُوشِ لِلنِّسَاءِ، فَأَمَرْتُ بِرَدِّ ضَيْعَتِهَا إِلَيْهَا وَأَمَرْتُ لَهَا بِدَارٍ تَسْكُنُهَا، وَقَدْ كُنْتُ قُمْتُ لَهَا حِينَ دَخَلَتْ وَأَجْلَسْتُهَا بَيْنَ يَدِيَّ وَأَمَرْتُهَا بِسَتْرِ وَجْهِهَا حِينَ أَسْفَرَتْ عَنْهُ، وَمَعَهَا عَجُوزٌ، فَحِينَ قَضَتْ شُغْلَهَا قُلْتُ لَهَا انْهَضِي عَلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَالَتِ الْعَجُوزُ: يَا خُوَنْدُ إِنَّمَا جَاءَتْ لِتَحْظَى بِخِدْمَتِكَ هَذِهِ اللَّيْلَةَ، فَقُلْتُ: مَعَاذَ اللَّهِ لَا يَكُونُ هَذَا، وَاسْتَحْضَرْتُ فِي ذِهْنِي ابْنَتِي رُبَّمَا يُصِيبُهَا نَظِيرُ مَا أَصَابَ هَذِهِ، فَقَامَتْ وَهِيَ تقول بالأرمني: سَتَرَكَ اللَّهُ مِثْلَ مَا سَتَرْتَنِي، وَقُلْتُ لَهَا:
مهما كان مِنْ حَاجَةٍ فَأَنْهِيهَا إِلَيَّ أَقْضِهَا لَكِ، فَدَعَتْ لي وانصرفت، فقالت لي نفسي: في الحلال مندوحة عن الحرام، فتزوجها، فقلت: لا وَاللَّهِ لَا كَانَ هَذَا أَبَدًا، أَيْنَ الْحَيَاءُ وَالْكَرَمُ وَالْمُرُوءَةُ؟ قَالَ:
وَمَاتَ مَمْلُوكٌ مِنْ مَمَالِيكِي وَتَرَكَ وَلَدًا لَيْسَ يَكُونُ فِي النَّاسِ بِتِلْكَ الْبِلَادِ أَحْسَنُ شَبَابًا، وَلَا أَحْلَى شَكْلًا مِنْهُ، فَأَحْبَبْتُهُ وَقَرَّبْتُهُ، وَكَانَ مَنْ لَا يَفْهَمُ أَمْرِي يَتَّهِمُنِي بِهِ، فَاتَّفَقَ أَنَّهُ عَدَا عَلَى إِنْسَانٍ فَضَرَبَهُ حَتَّى قَتَلَهُ، فَاشْتَكَى عَلَيْهِ إِلَيَّ أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ، فَقُلْتُ أَثْبِتُوا أَنَّهُ قَتَلَهُ، فَأَثْبَتُوا ذَلِكَ فحاجفت عَنْهُ مَمَالِيكِي وَأَرَادُوا إِرْضَاءَهُمْ بِعَشْرِ دِيَاتٍ فَلَمْ يَقْبَلُوا، وَوَقَفُوا لِي فِي الطَّرِيقِ وَقَالُوا قَدْ أَثْبَتْنَا أَنَّهُ قَتَلَهُ، فَقُلْتُ

(13/147)


خُذُوهُ فَتَسَلَّمُوهُ فَقَتَلُوهُ، وَلَوْ طَلَبُوا مِنِّي مُلْكِي فداء له لدفعته إليهم، ولكن استحيت مِنَ اللَّهِ أَنْ أُعَارِضَ شَرْعَهُ بِحَظِّ نَفْسِي رحمه الله تعالى وعفا عنه.
وَلَمَّا مَلَكَ دِمَشْقَ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَعِشْرِينَ وستمائة نادى مناديه فيها أَنْ لَا يَشْتَغِلَ أَحَدٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ بِشَيْءٍ مِنَ الْعُلُومِ سِوَى التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ، وَمَنِ اشْتَغَلَ بِالْمَنْطِقِ وَعُلُومِ الْأَوَائِلِ نُفِيَ مِنَ الْبَلَدِ.
وَكَانَ الْبَلَدُ بِهِ فِي غَايَةِ الْأَمْنِ وَالْعَدْلِ، وَكَثْرَةِ الصَّدَقَاتِ وَالْخَيْرَاتِ، كَانَتِ الْقَلْعَةُ لَا تُغْلَقُ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ كُلِّهَا، وَصُحُونُ الْحَلَاوَاتِ خَارِجَةٌ منها إلى الجامع والخوانق والربط، والصالحية وإلى الصَّالِحِينَ وَالْفُقَرَاءِ وَالرُّؤَسَاءِ وَغَيْرِهِمْ، وَكَانَ أَكْثَرُ جُلُوسِهِ بِمَسْجِدِ أَبِي الدَّرْدَاءِ الَّذِي جَدَّدَهُ وَزَخْرَفَهُ بِالْقَلْعَةِ، وكان ميمون النقيبة ما كسرت لَهُ رَايَةٌ قَطُّ، وَقَدِ اسْتَدْعَى الزَّبِيدِيَّ مِنْ بَغْدَادَ حَتَّى سَمِعَ هُوَ وَالنَّاسُ عَلَيْهِ صَحِيحَ البخاري وغيره، وكان له ميل إِلَى الْحَدِيثِ وَأَهْلِهِ، وَلَمَّا تُوُفِّيَ رَحِمَهُ اللَّهُ رآه بعض الناس وَعَلَيْهِ ثِيَابٌ خُضْرٌ وَهُوَ يَطِيرُ مَعَ جَمَاعَةٍ من الصالحين، فقال: مَا هَذَا وَقَدْ كُنْتَ تُعَانِي الشَّرَابَ فِي الدُّنْيَا؟
فَقَالَ ذَاكَ الْبَدَنُ الَّذِي كُنَّا نَفْعَلُ به ذاك عندكم، وَهَذِهِ الرُّوحُ الَّتِي كُنَّا نُحِبُّ بِهَا هَؤُلَاءِ فَهِيَ مَعَهُمْ، وَلَقَدْ صَدَقَ رَحِمَهُ اللَّهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ» وَقَدْ كَانَ أَوْصَى بِالْمُلْكِ مِنْ بَعْدِهِ لِأَخِيهِ الصَّالِحِ إِسْمَاعِيلَ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ أَخُوهُ رَكِبَ فِي أُبَّهَةِ الْمُلْكِ وَمَشَى النَّاسُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَرَكِبَ إِلَى جَانِبِهِ صَاحِبُ حِمْصَ وَعِزُّ الدِّينِ أَيْبَكُ الْمُعَظَّمِيُّ حَامِلٌ الْغَاشِيَةَ عَلَى رَأْسِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ صَادَرَ جَمَاعَةً مِنَ الدَّمَاشِقَةِ الَّذِينَ قِيلَ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ مَعَ الْكَامِلِ، مِنْهُمُ العالم تَعَاسِيفُ وَأَوْلَادُ ابْنِ مُزْهِرٍ وَحَبَسَهُمْ بِبُصْرَى، وَأَطْلَقَ الحريري من قلعة عزاز، وَشَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَدْخُلَ دِمَشْقَ، ثُمَّ قَدِمَ الْكَامِلُ مِنْ مِصْرَ وَانْضَافَ إِلَيْهِ النَّاصِرُ دَاوُدُ صَاحِبُ الْكَرَكِ وَنَابُلُسَ وَالْقُدْسِ، فَحَاصَرُوا دِمَشْقَ حصارا شديدا، وقد حصنها الصالح إسماعيل، وقطع الْمِيَاهُ وَرَدَّ الْكَامِلُ مَاءَ بَرَدَى إِلَى ثَوْرَا، وأحرقت العقبية وَقَصْرُ حَجَّاجٍ، فَافْتَقَرَ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَاحْتَرَقَ آخَرُونَ، وجرت خطوب طويلة، ثُمَّ آلَ الْحَالُ فِي آخِرِ جُمَادَى الْأُولَى إِلَى أَنْ سَلَّمَ الصَّالِحُ إِسْمَاعِيلُ دِمَشْقَ إِلَى أَخِيهِ الْكَامِلِ، عَلَى أَنَّ لَهُ بَعْلَبَكَّ وَبُصْرَى، وَسَكَنَ الْأَمْرُ، وَكَانَ الصُّلْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى يَدَيِ الْقَاضِي مُحْيِي الدِّينِ يُوسُفَ بْنِ الشَّيْخِ أَبِي الْفَرَجِ بْنِ الْجَوْزِيِّ، اتَّفَقَ أَنَّهُ كَانَ بِدِمَشْقَ قَدْ قَدِمَ فِي رَسْلِيَّةٍ مِنْ جِهَةِ الْخَلِيفَةِ إِلَى دِمَشْقَ فَجَزَاهُ اللَّهُ تَعَالَى خَيْرًا. وَدَخَلَ الْكَامِلُ دِمَشْقَ وَأَطْلَقَ الْفَلَكَ بْنَ الْمَسِيرِيِّ مِنْ سِجْنِ الْحَيَّاتِ بِالْقَلْعَةِ الَّذِي كَانَ أَوْدَعَهُ فِيهِ الْأَشْرَفُ، وَنُقِلَ الْأَشْرَفُ إِلَى تُرْبَتِهِ، وَأَمَرَ الْكَامِلُ فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ سَادِسِ جُمَادَى الْآخِرَةِ أَئِمَّةَ الْجَامِعِ أَنْ لَا يُصَلِّيَ أَحَدٌ مِنْهُمُ الْمَغْرِبَ سِوَى الْإِمَامِ الْكَبِيرِ، لِمَا كَانَ يَقَعُ مِنَ التَّشْوِيشِ وَالِاخْتِلَافِ بِسَبَبِ اجْتِمَاعِهِمْ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، ولنعم ما فعل رحمه الله. وَقَدْ فُعِلَ هَذَا فِي زَمَانِنَا فِي صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ، اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْإِمَامُ الْكَبِيرُ فِي الْمِحْرَابِ الْمُقَدَّمِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، ولم يبق به إمام يومئذ سِوَى الَّذِي بِالْحَلَبَيَّةِ عِنْدَ مَشْهَدِ عَلَيٍّ

(13/148)


وَلَوْ تُرِكَ لَكَانَ حَسَنًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ذِكْرُ وفاة الملك الكامل
محمد بن العادل رحمه الله تعالى. تملك الكامل مدة شهرين ثم أخذه أَمْرَاضٌ مُخْتَلِفَةٌ، مِنْ ذَلِكَ سُعَالٌ وَإِسْهَالٌ وَنَزْلَةٌ فِي حَلْقِهِ، وَنِقْرِسٌ فِي رِجْلَيْهِ، فَاتَّفَقَ مَوْتُهُ فِي بَيْتٍ صَغِيرٍ مِنْ دَارِ الْقَصَبَةِ، وَهُوَ الْبَيْتُ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ عَمُّهُ الْمَلِكُ النَّاصِرُ صَلَاحُ الدِّينِ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْكَامِلِ أَحَدٌ عِنْدَ مَوْتِهِ مِنْ شِدَّةِ هَيْبَتِهِ، بَلْ دَخَلُوا فَوَجَدُوهُ مَيِّتًا رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ كَانَ مولده في سنة ست وَسَبْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَكَانَ أَكْبَرَ أَوْلَادِ الْعَادِلِ بَعْدَ مودود، وإليه أوصى العادل لعلمه بشأنه وكمال عقله، وتوفر مَعْرِفَتِهِ، وَقَدْ كَانَ جَيِّدَ الْفَهْمِ يُحِبُّ الْعُلَمَاءَ، وَيَسْأَلُهُمْ أَسْئِلَةً مُشْكِلَةً، وَلَهُ كَلَامٌ جَيِّدٌ عَلَى صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَكَانَ ذَكِيًّا مَهِيبًا ذَا بَأْسٍ شديد، عادل منصف لَهُ حُرْمَةٌ وَافِرَةٌ، وَسَطْوَةٌ قَوِيَّةٌ، مَلَكَ مِصْرَ ثلاثين سنة، وَكَانَتِ الطُّرُقَاتُ فِي زَمَانِهِ آمِنَةً، وَالرَّعَايَا مُتَنَاصِفَةً، لَا يَتَجَاسَرُ أَحَدٌ أَنْ يَظْلِمَ أَحَدًا، شَنَقَ جَمَاعَةً مِنَ الْأَجْنَادِ أَخَذُوا شَعِيرًا لِبَعْضِ الْفَلَّاحِينَ بِأَرْضِ آمِدَ، وَاشْتَكَى إِلَيْهِ بَعْضُ الرَّكْبَدَارِيَةِ أَنَّ أُسْتَاذَهُ اسْتَعْمَلَهُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ بِلَا أُجْرَةٍ، فَأَحْضَرَ الجندي وألبسه قباب الركبدارية، وألبس الركبدارى ثِيَابَ الْجُنْدِيِّ، وَأَمَرَ الْجُنْدِيَّ أَنْ يَخْدُمَ الرَّكْبَدَارَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَةِ، وَيَحْضُرَ الرَّكْبَدَارُ الْمَوْكِبَ وَالْخِدْمَةَ حَتَّى يَنْقَضِيَ الْأَجَلُ فَتَأَدَّبَ النَّاسُ بذلك غاية الأدب. وَكَانَتْ لَهُ الْيَدُ الْبَيْضَاءُ فِي رَدِّ ثَغْرِ دِمْيَاطَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ أَنِ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِ الْفِرِنْجُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ، فَرَابَطَهُمْ أَرْبَعَ سِنِينَ حَتَّى اسْتَنْقَذَهُ مِنْهُمْ، وَكَانَ يَوْمُ أَخْذِهِ لَهُ وَاسْتِرْجَاعِهِ إياه يوما مشهودا، كما ذكرنا مفصلا رحمه الله تعالى. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي لَيْلَةِ الْخَمِيسِ الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ بِالْقَلْعَةِ حَتَّى كَمَلَتْ تُرْبَتُهُ الَّتِي بِالْحَائِطِ الشَّمَالِيِّ مِنَ الْجَامِعِ ذَاتُ الشُّبَّاكِ الَّذِي هُنَاكَ قَرِيبًا مِنْ مَقْصُورَةِ ابْنِ سِنَانَ، وَهِيَ الْكِنْدِيَّةُ الَّتِي عِنْدَ الْحَلَبِيَّةِ، نُقِلَ إِلَيْهَا لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَمِنْ شِعْرِهِ يستحث أخاه الْأَشْرَفَ مِنْ بِلَادِ الْجَزِيرَةِ حِينَ كَانَ مُحَاصَرًا بِدِمْيَاطَ:
يَا مُسْعِفِي إِنْ كُنْتَ حَقًّا مُسْعِفِي ... فَارْحَلْ بِغَيْرِ تَقَيُّدٍ وَتَوَقُّفِ
وَاطْوِ الْمَنَازِلَ وَالدِّيَارَ وَلَا تُنِخْ ... إِلَّا عَلَى بَابِ الْمَلِيكِ الْأَشْرَفِ
قَبِّلْ يَدَيْهِ لَا عُدِمْتَ وَقُلْ لَهُ ... عَنِّي بحسن تعطف وتلطف
إن مات صِنْوَكَ عَنْ قَرِيبٍ تَلْقَهُ ... مَا بَيْنَ حَدِّ مُهَنَّدٍ وَمُثَقَّفِ
أَوْ تُبْطِ عَنْ إِنْجَادِهِ فَلِقَاؤُهُ ... يوم القيامة في عراص الموقف
ذكر ما جرى بعده
كَانَ قَدْ عَهِدَ لِوَلَدِهِ الْعَادِلِ وَكَانَ صَغِيرًا بالديار المصرية، وبالبلاد الدمشقية، وَلِوَلَدِهِ الصَّالِحِ أَيُّوبَ بِبِلَادِ الْجَزِيرَةِ، فَأَمْضَى الْأُمَرَاءُ ذَلِكَ، فَأَمَّا دِمَشْقُ فَاخْتَلَفَ الْأُمَرَاءُ بِهَا فِي الْمَلِكِ النَّاصِرِ دَاوُدَ بْنِ

(13/149)


الْمُعَظَّمِ، وَالْمَلِكِ الْجَوَادِ مُظَفَّرِ الدِّينِ يُونُسَ بْنِ مَوْدُودِ بْنِ الْمَلِكِ الْعَادِلِ، فَكَانَ مَيْلُ عِمَادِ الدين ابن الشَّيْخِ إِلَى الْجَوَادِ، وَآخَرُونَ إِلَى النَّاصِرِ، وَكَانَ نَازِلًا بِدَارِ أُسَامَةَ، فَانْتَظَمَ أَمْرُ الْجَوَادِ وَجَاءَتِ الرِّسَالَةُ إِلَى النَّاصِرِ أَنِ اخْرُجْ مِنَ الْبَلَدِ، فركب من دار أسامة والعامة وراءه إِلَى الْقَلْعَةِ لَا يَشُكُّونَ فِي وِلَايَتِهِ الْمُلْكَ، فَسَلَكَ نَحْوَ الْقَلْعَةِ فَلَمَّا جَاوَزَ الْعِمَادِيَّةَ عَطَفَ بِرَأْسِ فَرَسِهِ نَحْوَ بَابِ الْفَرَجِ، فَصَرَخَتِ الْعَامَّةُ: لَا لَا لَا، فَسَارَ حَتَّى نَزَلَ الْقَابُونَ عِنْدَ وَطْأَةِ بَرْزَةَ. فَعَزَمَ بَعْضُ الْأُمَرَاءِ الْأَشْرَفِيَّةِ عَلَى مَسْكِهِ، فَسَاقَ فَبَاتَ بِقَصْرِ أُمِّ حَكِيمٍ، وَسَاقُوا وَرَاءَهُ فَتَقَدَّمَ إِلَى عَجْلُونَ فَتَحَصَّنَ بِهَا وَأَمِنَ.
وَأَمَّا الْجَوَادُ
فَإِنَّهُ رَكِبَ فِي أُبَّهَةِ الْمُلْكِ وَأَنْفَقَ الْأَمْوَالَ وَالْخِلَعَ عَلَى الْأُمَرَاءِ قَالَ السِّبْطُ: فَرَّقَ سِتَّةَ آلَافِ أَلْفِ دِينَارٍ وَخَمْسَةَ آلَافِ خِلْعَةٍ، وَأَبْطَلَ الْمُكُوسَ وَالْخُمُورَ، وَنَفَى الْخَوَاطِئَ وَاسْتَقَرَّ مُلْكُهُ بِدِمَشْقَ، وَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ الْأُمَرَاءُ الشَّامِيُّونَ وَالْمِصْرِيُّونَ، وَرَحَلَ النَّاصِرُ دَاوُدُ مِنْ عَجْلُونَ نَحْوَ غَزَّةَ وَبِلَادِ السَّاحِلِ فَاسْتَحْوَذَ عَلَيْهَا، فَرَكِبَ الْجَوَادُ فِي طَلَبِهِ وَمَعَهُ الْعَسَاكِرُ الشَّامِيَّةُ وَالْمِصْرِيَّةُ، وَقَالَ لِلْأَشْرَفِيَّةِ كَاتِبُوهُ وَأَطْمِعُوهُ، فَلَمَّا وَصَلَتْ إِلَيْهِ كُتُبُهُمْ طَمِعَ فِي مُوَافَقَتِهِمْ، فَرَجَعَ فِي سَبْعِمِائَةِ رَاكِبٍ إِلَى نَابُلُسَ، فَقَصَدَهُ الْجَوَادُ وَهُوَ نَازِلٌ عَلَى جيتين، وَالنَّاصِرُ عَلَى سَبَسْطِيَةَ، فَهَرَبَ مِنْهُ النَّاصِرُ فَاسْتَحْوَذُوا عَلَى حَوَاصِلِهِ وَأَثْقَالِهِ، فَاسْتَغْنَوْا بِهَا وَافْتَقَرَ بِسَبَبِهَا فَقْرًا مُدْقِعًا، وَرَجَعَ النَّاصِرُ إِلَى الْكَرَكِ جَرِيدَةً قَدْ سُلِبَ أَمْوَالَهُ وَأَثْقَالَهُ، وَعَادَ الْجَوَادُ إِلَى دِمَشْقَ مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا.
وَفِيهَا اخْتَلَفَتِ الْخُوَارَزْمِيَّةُ عَلَى الْمَلِكِ الصَّالِحِ نَجْمِ الدِّينِ أَيُّوبَ بْنِ الْكَامِلِ صَاحِبِ كَيْفَا، وَتِلْكَ النَّوَاحِي، وَعَزَمُوا عَلَى الْقَبْضِ عَلَيْهِ، فَهَرَبَ مِنْهُمْ وَنَهَبُوا أَمْوَالَهُ وَأَثْقَالَهُ، وَلَجَأَ إِلَى سِنْجَارَ فَقَصَدَهُ بَدْرُ الدِّينِ لُؤْلُؤٌ صَاحِبُ الْمَوْصِلِ لِيُحَاصِرَهُ وَيَأْخُذَهُ فِي قَفَصٍ إِلَى الْخَلِيفَةِ، وكان أهل تلك الناحية يكرهون مجاورته لتكبره وَقُوَّةِ سَطْوَتِهِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَى أَخْذِهِ إِلَّا القليل، فكاتب الخوارزمية واستنجد بهم وَوَعَدَهُمْ بِأَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ، فَقَدِمُوا إِلَيْهِ جَرَائِدَ لِيَمْنَعُوهُ مِنَ الْبَدْرِ لُؤْلُؤٍ، فَلَمَّا أَحَسَّ بِهِمْ لُؤْلُؤٌ هَرَبَ مِنْهُمْ فَاسْتَحْوَذُوا عَلَى أَمْوَالِهِ وَأَثْقَالِهِ، فَوَجَدُوا فِيهَا شَيْئًا كَثِيرًا لَا يُحَدُّ وَلَا يُوصَفُ، وَرَجَعَ إِلَى بَلَدِهِ الْمَوْصِلِ جَرِيدَةً خَائِبًا، وَسَلِمَ الصَّالِحُ أَيُّوبُ مِمَّا كَانَ فِيهِ مِنَ الشِّدَّةِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
مُحَمَّدُ بْنُ زيد
ابن يَاسِينَ الْخَطِيبُ جَمَالُ الدِّينِ الدَّوْلَعِيُّ، نِسْبَةً إِلَى قرية بأصل الْمَوْصِلِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ عِنْدَ تَرْجَمَةِ عَمِّهِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ يَاسِينَ الْخَطِيبِ بِدِمَشْقَ أَيْضًا، وَكَانَ مُدَرِّسًا بِالْغَزَّالِيَّةِ مَعَ الْخَطَابَةِ، وَقَدْ مَنَعَهُ المعظم في وقت عن الإفتاء، فَعَاتَبَهُ السِّبْطُ فِي ذَلِكَ، فَاعْتَذَرَ بِأَنَّ شُيُوخَ بَلَدِهِ هُمُ الَّذِينَ أَشَارُوا عَلَيْهِ بِذَلِكَ، لِكَثْرَةِ خطئه فِي فَتَاوِيهِ، وَقَدْ كَانَ شَدِيدَ الْمُوَاظَبَةِ عَلَى الوظيفة حتى كاد أن لا يفارق بيت

(13/150)


الْخَطَابَةِ، وَلَمْ يَحُجَّ قَطُّ مَعَ أَنَّهُ كَانَتْ له أموال جزيلة، وقف مدرسة بجيرون وسبعا في الجامع. ولما توفى ودفن بمدرسته التي بجيرون وَلِيَ الْخَطَابَةَ بَعْدَهُ أَخٌ لَهُ وَكَانَ جَاهِلًا، وَلَمْ يَسْتَقِرَّ فِيهَا وَتَوَلَّاهَا الْكَمَالُ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ هِبَةِ اللَّهِ بْنِ طَلْحَةَ النصيبي، وولى تدريس الغزالية الشيخ عبد العزيز بن عبد السلام
محمد بن هبة الله بن جميل
الشَّيْخُ أَبُو نَصْرِ بْنُ الشِّيرَازِيِّ، وُلِدَ سَنَةَ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْكَثِيرَ عَلَى الْحَافِظِ ابن عَسَاكِرَ وَغَيْرِهِ، وَاشْتَغَلَ فِي الْفِقْهِ وَأَفْتَى وَدَرَّسَ بِالشَّامِيَّةِ الْبَرَّانِيَّةِ، وَنَابَ فِي الْحُكْمِ عِدَّةَ سِنِينَ، وكان فقيها عالما فاضلا ذكيا حَسَنَ الْأَخْلَاقِ عَارِفًا بِالْأَخْبَارِ وَأَيَّامِ الْعَرَبِ وَالْأَشْعَارِ، كريم الطباع حميد الآثار، وكانت وفاته يوم الخميس الثالث من جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَدُفِنَ بِقَاسِيُونَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
القاضي شمس الدين يحيى بن بركات
ابن هبة الله بن الحسن الدمشقيّ قاضيها بن سنا الدولة، كَانَ عَالِمًا عَفِيفًا فَاضِلًا عَادِلًا مُنْصِفًا نَزِهًا كَانَ الْمَلِكُ الْأَشْرَفُ يَقُولُ: مَا وَلِيَ دِمَشْقَ مثله، وقد ولى الحكم ببلده المقدس وَنَابَ بِدِمَشْقَ عَنِ الْقُضَاةِ، ثُمَّ اسْتَقَلَّ بِالْحُكْمِ، وكانت وفاته يوم الأحد السادس ذِي الْقِعْدَةِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِالْجَامِعِ وَدُفِنَ بِقَاسِيُونَ، وتأسف الناس عليه رحمه الله تعالى. وتوفى بعده.
الشيخ شمس الدين بن الحوبى
الْقَاضِي زَيْنُ الدِّينِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُلْوَانَ الْأَسَدِيُّ، عُرِفَ بِابْنِ الْأُسْتَاذِ الْحَلَبِيِّ قَاضِيهَا بَعْدَ بَهَاءِ الدين بن شداد، وكان رئيسا عالما عارفا فَاضِلًا، حَسَنَ الْخُلُقِ وَالسَّمْتِ، وَكَانَ أَبُوهُ مِنَ الصَّالِحِينَ الْكِبَارِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى.
الشَّيْخُ الصَّالِحُ الْمُعَمِّرُ
أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْعُودِ بْنِ بَهْرُوزٍ الْبَغْدَادِيُّ، ظَهَرَ سَمَاعُهُ مِنْ أَبِي الْوَقْتِ فِي سَنَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ فَانْثَالَ النَّاسُ عَلَيْهِ يَسْمَعُونَ مِنْهُ، وَتَفَرَّدَ بِالرِّوَايَةِ عَنْهُ فِي الدُّنْيَا بَعْدَ الزَّبِيدِيِّ وَغَيْرِهِ، تُوُفِّيَ لَيْلَةَ السَّبْتِ التَّاسِعَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ الْمُجَاهِدُ الْمُرَابِطُ صَارِمُ الدِّينِ
خَطْلَبَا بن عبد الله مملوك شركس ونائبة بعده مع ولده على تنين وتلك الحصون، وكان كثير الصدقات، ودفن مع استاذه بقباب شركس، وَهُوَ الَّذِي بَنَاهَا بَعْدَ أُسْتَاذِهِ، وَكَانَ خَيِّرًا قَلِيلَ الْكَلَامِ كَثِيرَ الْغَزْوِ مُرَابِطًا مُدَّةَ سِنِينَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَعَفَا عَنْهُ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ
ثم دخلت سنة ست وثلاثين وستمائة
فيها قضى الْمَلِكُ الْجَوَادُ عَلَى الصَفِيِّ بْنِ مَرْزُوقٍ وَصَادَرَهُ بِأَرْبَعِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَحَبَسَهُ بِقَلْعَةِ

(13/151)


حِمْصَ، فَمَكَثَ ثَلَاثَ سِنِينَ لَا يَرَى الضَّوْءَ. وكان ابن مرزوق محسنا إلى الجواد قبل ذلك إِحْسَانًا كَثِيرًا. وَسَلَّطَ الْجَوَادُ خَادِمًا لِزَوْجَتِهِ يُقَالُ لَهُ النَّاصِحُ فَصَادَرَ الدَّمَاشِقَةَ وَأَخَذَ مِنْهُمْ نَحْوًا مِنْ سِتِّمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَمَسَكَ الْأَمِيرَ عِمَادَ الدِّينِ بْنَ الشَّيْخِ الَّذِي كَانَ سَبَبَ تَمْلِيكِهِ دِمَشْقَ، ثُمَّ خَافَ مِنْ أَخِيهِ فَخْرِ الدِّينِ بْنِ الشَّيْخِ الَّذِي بِدِيَارِ مِصْرَ، وَقَلِقَ مِنْ مُلْكِ دِمَشْقَ، وَقَالَ أَيْشِ أَعْمَلُ بِالْمُلْكِ؟ بَازٌ وَكَلْبٌ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ هَذَا. ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّيْدِ وَكَاتَبَ الصَّالِحَ نَجْمَ الدِّينِ أَيُّوبَ بْنَ الْكَامِلِ، فَتَقَايَضَا مِنْ حِصْنِ كَيْفَا وَسِنْجَارَ وما تبع ذَلِكَ إِلَى دِمَشْقَ، فَمَلَكَ الصَّالِحُ دِمَشْقَ وَدَخَلَهَا فِي مُسْتَهَلِّ جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، والجواد بين يديه بالغاشية، وَنَدِمَ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ، فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَدْرِكَ الْفًائِتَ فَلَمْ يَتَّفِقْ لَهُ، وَخَرَجَ مِنْ دمشق والناس يلعنونه بوجهه، بِسَبَبِ مَا أَسْدَاهُ إِلَيْهِمْ مِنَ الْمُصَادَرَاتِ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الصَّالِحُ أَيُّوبُ لِيَرُدَّ إِلَى النَّاسِ أَمْوَالَهُمْ فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ، وَسَارَ وَبَقِيَتْ فِي ذِمَّتِهِ. ولما استقر الصالح أيوب فِي مُلْكِ مِصْرَ كَمَا سَيَأْتِي حَبَسَ النَّاصِحَ الْخَادِمَ، فَمَاتَ فِي أَسْوَأِ حَالَةٍ، مِنَ الْقِلَّةِ وَالْقَمْلِ، جَزَاءً وِفَاقًا وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ 41: 46 وَفِيهَا رَكِبَ الصَّالِحُ أَيُّوبُ مِنْ دِمَشْقَ فِي رَمَضَانَ قَاصِدًا الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ لِيَأْخُذَهَا مِنْ أَخِيهِ الْعَادِلِ لِصِغَرِهِ، فَنَزَلَ بِنَابُلُسَ وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا وَأَخْرَجَهَا مِنْ يَدِ النَّاصِرِ دَاوُدَ، وَأَرْسَلَ إِلَى عَمِّهِ الصَّالِحِ إِسْمَاعِيلَ صَاحِبِ بَعْلَبَكَّ لِيَقْدَمَ عَلَيْهِ لِيَكُونَ فِي صُحْبَتِهِ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَكَانَ قَدْ جَاءَ إِلَيْهِ إِلَى دِمَشْقَ لِيُبَايِعَهُ فَجَعَلَ يُسَوِّفُ بِهِ وَيَعْمَلُ عَلَيْهِ وَيُحَالِفُ الْأُمَرَاءَ بِدِمَشْقَ لِيَكُونَ مَلِكَهُمْ، وَلَا يَتَجَاسَرُ أَحَدٌ مِنَ الصَّالِحِ أَيُّوبَ لِجَبَرُوتِهِ أَنْ يُخْبِرَهُ بِذَلِكَ، وَانْقَضَتِ السَّنَةُ وَهُوَ مقيم بنابلس يستدعى إليه وهو يماطله.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
جَمَالُ الدِّينِ الحصيري الحنفي
محمود بن أحمد العلامة شَيْخُ الْحَنَفِيَّةِ بِدِمَشْقَ، وَمُدَرِّسُ النُّورِيَّةِ، أَصْلُهُ مِنْ قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا حَصِيرُ مِنْ مُعَامَلَةِ بُخَارَى، تَفَقَّهَ بِهَا وَسَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ، وَصَارَ إِلَى دمشق فانتهت إليه رياسة الحنفية بها، لا سيما فِي أَيَّامِ الْمُعَظَّمِ، كَانَ يَقْرَأُ عَلَيْهِ الْجَامِعَ الْكَبِيرَ، وَلَهُ عَلَيْهِ شَرْحٌ، وَكَانَ يَحْتَرِمُهُ وَيُعَظِّمُهُ ويكرمه، وكان رحمه الله غَزِيرَ الدَّمْعَةِ كَثِيرَ الصَّدَقَاتِ، عَاقِلًا نَزِهًا عَفِيفًا، تُوُفِّيَ يَوْمَ الْأَحَدِ ثَامِنَ صَفَرٍ وَدُفِنَ بِمَقَابِرِ الصوفية تغمده الله برحمته. تُوُفِّيَ وَلَهُ تِسْعُونَ سَنَةً، وَأَوَّلُ دَرْسِهِ بِالنُّورِيَّةِ فِي سَنَةِ إِحْدَى عَشْرَ وَسِتِّمِائَةٍ، بَعْدَ الشَّرَفِ داود الّذي تولاها بعد البرهان مسعود، وأول مُدَرِّسِيهَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى الْأَمِيرُ عِمَادُ الدِّينِ عُمَرُ بْنُ شَيْخِ الشُّيُوخِ صَدْرِ الدِّينِ عَلِيِّ بْنِ حَمُّوَيْهِ، كَانَ سَبَبًا فِي وِلَايَةِ الْجَوَادِ دِمَشْقَ ثُمَّ سَارَ إِلَى مِصْرَ فَلَامَهُ صَاحِبُهَا العادل بن الكامل بن الْعَادِلُ، فَقَالَ الْآنَ أَرْجِعُ إِلَى دِمَشْقَ وَآمُرُ الْجَوَادَ بِالْمَسِيرِ إِلَيْكَ، عَلَى أَنْ تَكُونَ لَهُ إِسْكَنْدَرِيَّةُ عِوَضَ دِمَشْقَ، فَإِنِ امْتَنَعَ عَزَلْتُهُ عَنْهَا وَكُنْتُ أَنَا نَائِبَكَ فِيهَا، فَنَهَاهُ أَخُوهُ فَخْرُ الدِّينِ بْنُ الشَّيْخِ عَنْ تَعَاطِي ذَلِكَ فَلَمْ يَقْبَلْ، وَرَجَعَ إِلَى دِمَشْقَ فَتَلَقَّاهُ

(13/152)


الْجَوَادُ إِلَى الْمُصَلَّى وَأَنْزَلَهُ عِنْدَهُ بِالْقَلْعَةِ بِدَارِ الْمَسَرَّةِ، وَخَادَعَهُ عَنْ نَفْسِهِ ثُمَّ دَسَّ إِلَيْهِ مَنْ قَتَلَهُ جَهْرَةً فِي صُورَةِ مُسْتَغِيثٍ بِهِ، وَاسْتَحْوَذَ عَلَى أَمْوَالِهِ وَحَوَاصِلِهِ، وَكَانَتْ لَهُ جَنَازَةٌ حَافِلَةٌ، وَدُفِنَ بِقَاسِيُونَ
الْوَزِيرُ جَمَالُ الدِّينِ عَلِيُّ بن حديد
وَزَرَ لِلْأَشْرَفِ وَاسْتَوْزَرَهُ الصَّالِحُ أَيُّوبُ أَيَّامًا، ثُمَّ مَاتَ عَقِبَ ذَلِكَ، كَانَ أَصْلُهُ مِنَ الرَّقَّةِ، وَكَانَ لَهُ أَمْلَاكٌ يَسِيرَةٌ يَعِيشُ مِنْهَا، ثُمَّ آلَ أَمْرُهُ أَنْ وَزَرَ لِلْأَشْرَفِ بِدِمَشْقَ، وَقَدْ هجاه بعضهم، وكانت وفاته بالجواليق فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَدُفِنَ بِمَقَابِرِ الصُّوفِيَّةِ.
جَعْفَرُ بن على
ابن أَبِي الْبَرَكَاتِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ يَحْيَى الْهَمْدَانِيُّ، رَاوِيَةُ السِّلَفِيِّ، قَدِمَ إِلَى دِمَشْقَ صُحْبَةَ النَّاصِرِ دَاوُدَ، وَسَمِعَ عَلَيْهِ أَهْلُهَا، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِهَا وَدُفِنَ بِمَقَابِرِ الصُّوفِيَّةِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَهُ تِسْعُونَ سَنَةً.
الْحَافِظُ الْكَبِيرُ زَكِّيُّ الدِّينِ
أَبُو عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ بْنِ مُحَمَّدِ الْبِرْزَالِيُّ الْإِشْبِيلِيُّ، أَحَدُ مَنِ اعْتَنَى بِصِنَاعَةِ الْحَدِيثِ وَبَرَزَ فِيهِ، وَأَفَادَ الطَّلَبَةَ، وَكَانَ شَيْخَ الْحَدِيثِ بِمَشْهَدِ ابْنِ عُرْوَةَ، ثُمَّ سَافَرَ إِلَى حَلَبَ، فَتُوُفِّيَ بِحَمَاةَ فِي رَابِعَ عَشَرَ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَهُوَ جَدُّ شَيْخِنَا الْحَافِظِ عَلَمِ الدِّينِ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْبِرْزَالِيِّ، مُؤَرِّخِ دِمَشْقَ الَّذِي ذَيَّلَ عَلَى الشَّيْخِ شِهَابِ الدِّينِ أَبِي شَامَةَ، وَقَدْ ذَيَّلْتُ أَنَا عَلَى تَارِيخِهِ بِعَوْنِ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ وستمائة
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَسُلْطَانُ دِمَشْقَ نَجْمُ الدِّينِ الصَّالِحُ أَيُّوبُ بْنُ الْكَامِلِ مُخَيِّمٌ عِنْدَ نَابُلُسَ، يَسْتَدْعِي عَمَّهُ الصَّالِحَ إِسْمَاعِيلَ لِيَسِيرَ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، بِسَبَبِ أَخْذِهَا مِنْ صَاحِبِهَا الْعَادِلِ بْنِ الْكَامِلِ، وَقَدْ أَرْسَلَ الصَّالِحُ إِسْمَاعِيلُ وَلَدَهُ وَابْنَ يغمور إلى صحبة الصالح أيوب، فَهُمَا يُنْفِقَانِ الْأَمْوَالَ فِي الْأُمَرَاءِ وَيُحْلِفَانِهِمْ عَلَى الصَّالِحِ أَيُّوبَ لِلصَّالِحِ إِسْمَاعِيلَ، فَلَمَّا تَمَّ الْأَمْرُ وَتَمَكَّنَ الصَّالِحُ إِسْمَاعِيلُ مِنْ مُرَادِهِ أَرْسَلَ إِلَى الصَّالِحِ أَيُّوبَ يَطْلُبُ مِنْهُ وَلَدَهُ لِيَكُونَ عِوَضَهُ بِبَعْلَبَكَّ، وَيَسِيرُ هُوَ إِلَى خِدْمَتِهِ، فَأَرْسَلَهُ إِلَيْهِ وهو لا يشعر بشيء مما وقع، وَكُلُّ ذَلِكَ عَنْ تَرْتِيبِ أَبِي الْحَسَنِ غَزَّالٍ المتطبب وزير الصالح- وهو الأمين واقف أمينية بعلبكّ- فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الثُّلَاثَاءِ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ صَفَرٍ هَجَمَ الْمَلِكُ الصَّالِحُ إِسْمَاعِيلُ وَفِي صُحْبَتِهِ أَسَدُ الدِّينِ شِيرْكُوهْ صَاحِبُ حِمْصَ إِلَى دِمَشْقَ، فَدَخَلَاهَا بَغْتَةً مِنْ بَابِ الْفَرَادِيسِ، فَنَزَلَ الصَّالِحُ إِسْمَاعِيلُ بِدَارِهِ مِنْ دَرْبِ الشَّعَّارِينَ، وَنَزَلَ صَاحِبُ حمص بداره، وجاء نجم الدين بن سلامة فَهَنَّأَ الصَّالِحَ إِسْمَاعِيلَ وَرَقَصَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ: إِلَى بَيْتِكَ جِئْتُ. وَأَصْبَحُوا فَحَاصَرُوا الْقَلْعَةَ وَبِهَا الْمُغِيثُ عُمَرُ بْنُ الصَّالِحِ نَجْمِ الدِّينِ، ونقبو الْقَلْعَةَ مِنْ نَاحِيَةِ بَابِ الْفَرَجِ، وَهَتَكُوا حُرْمَتَهَا وَدَخَلُوهَا وَتَسَلَّمُوهَا وَاعْتَقَلُوا الْمُغِيثَ فِي بُرْجٍ هُنَالِكَ. قَالَ أَبُو شَامَةَ: وَاحْتَرَقَتْ دَارُ الْحَدِيثِ وَمَا هُنَالِكَ مِنَ الْحَوَانِيتِ

(13/153)


وَالدُّورِ حَوْلَ الْقَلْعَةِ. وَلَمَّا وَصَلَ الْخَبَرُ بِمَا وَقَعَ إِلَى الصَّالِحِ أَيُّوبَ تَفَرَّقَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ وَالْأُمَرَاءُ خَوْفًا عَلَى أَهَالِيهِمْ مِنَ الصَّالِحِ إِسْمَاعِيلَ، وبقي الصالح أيوب وحده بمماليكه وجاريته أم ولده خليل، وطمع فيه الفلاحون والفوارنة، وَأَرْسَلَ النَّاصِرُ دَاوُدُ صَاحِبُ الْكَرَكِ إِلَيْهِ مَنْ أَخَذَهُ مِنْ نَابُلُسَ مُهَانًا عَلَى بَغْلَةٍ بِلَا مهماز ولا مقدمة، فَاعْتَقَلَهُ عِنْدَهُ سَبْعَةَ أَشْهُرٍ، وَأَرْسَلَ الْعَادِلُ مِنْ مِصْرَ إِلَى النَّاصِرِ يَطْلُبُ مِنْهُ أَخَاهُ الصَّالِحَ أَيُّوبَ وَيُعْطِيهِ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ، فَمَا أَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، بَلْ عَكَسَ مَا طُلِبَ مِنْهُ بِإِخْرَاجِ الصَّالِحِ مِنْ سَجْنِهِ وَالْإِفْرَاجِ عَنْهُ وَإِطْلَاقِهِ من الحبس يَرْكَبُ وَيَنْزِلُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ حَارَبَتِ الْمُلُوكُ مِنْ دِمَشْقَ وَمِصْرَ وَغَيْرِهِمَا النَّاصِرَ دَاوُدَ، وَبَرَزَ الْعَادِلُ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ إِلَى بُلْبَيْسَ قَاصِدًا قِتَالَ النَّاصِرِ دَاوُدَ، فَاضْطَرَبَ الْجَيْشُ عَلَيْهِ وَاخْتَلَفَتِ الْأُمَرَاءُ، وَقَيَّدُوا الْعَادِلَ وَاعْتَقَلُوهُ فِي خَرْكَاهْ، وَأَرْسَلُوا إِلَى الصَّالِحِ أَيُّوبَ يَسْتَدْعُونَهُ إِلَيْهِمْ، فَامْتَنَعَ النَّاصِرُ دَاوُدُ من إرساله حتى اشترط عليه أن يأخذ له دمشق وحمص وحلب بلاد الجزيرة وبلاد ديار بَكْرٍ وَنِصْفَ مَمْلَكَةِ مِصْرَ، وَنِصْفَ مَا فِي الْخَزَائِنِ مِنَ الْحَوَاصِلِ وَالْأَمْوَالِ وَالْجَوَاهِرِ. قَالَ الصَّالِحُ أيوب: فأجبت إلى ذلك مكرها، ولا تقدر على ما اشترط جميع ملوك الأرض، وسرنا فأخذته معى خائفا أن تكون هذه الكائنة مِنَ الْمِصْرِيِّينَ مَكِيدَةً، وَلَمْ يَكُنْ لِي بِهِ حاجة، وذكر أنه كان يسكر ويخبط في الْأُمُورَ وَيُخَالِفُ فِي الْآرَاءِ السَّدِيدَةِ. فَلَمَّا وَصَلَ الصَّالِحُ إِلَى الْمِصْرِيِّينَ مَلَّكُوهُ عَلَيْهِمْ وَدَخَلَ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ سَالِمًا مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا مُظَفَّرًا مَحْبُورًا مَسْرُورًا، فَأَرْسَلَ إِلَى النَّاصِرِ دَاوُدَ عِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ فَرَدَّهَا عَلَيْهِ وَلَمْ يَقْبَلْهَا مِنْهُ. وَاسْتَقَرَّ مُلْكُهُ بمصر. وأما الملك الجواد فإنه أساء السيرة في سنجار وصادر أهلها وعسفهم، فكاتبوا بدر الدين لؤلؤ صَاحِبَ الْمَوْصِلِ فَقَصَدَهُمْ- وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَادُ لِلصَّيْدِ- فَأَخَذَ الْبَلَدَ بِغَيْرِ شَيْءٍ وَصَارَ الْجَوَادُ إِلَى غانة، ثُمَّ بَاعَهَا مِنَ الْخَلِيفَةِ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ دَرَّسَ الْقَاضِي الرَّفِيعُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ الْجِيلِيُّ بِالشَّامِيَّةِ الْبَرَّانِيَّةِ.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ ثَالِثِ رَبِيعٍ الْآخِرِ وَلِيَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ السُّلَمِيُّ خَطَابَةَ جَامِعِ دِمَشْقَ، وخطب الصالح إسماعيل لصاحب الروم ببلد دِمَشْقَ وَغَيْرِهَا، لِأَنَّهُ حَالَفَهُ عَلَى الصَّالِحِ أَيُّوبَ. قَالَ أَبُو شَامَةَ: وَفِي حَزِيرَانَ أَيَّامَ الْمِشْمِشِ جَاءَ مَطَرٌ عَظِيمٌ هَدَمَ كَثِيرًا مِنَ الْحِيطَانِ وغيرها، وكنت يومئذ بالمزة.
وممن تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ.
صَاحِبُ حِمْصَ
الْمَلِكُ الْمُجَاهِدُ أَسَدُ الدِّينِ شِيرْكُوهْ بْنُ نَاصِرِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ أَسَدِ الدِّينِ شِيرْكُوهْ بْنِ شَادِي، وَلَّاهُ إِيَّاهَا الْمَلِكُ النَّاصِرُ صَلَاحُ الدِّينِ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ سَنَةَ إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَمَكَثَ فِيهَا سَبْعًا وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَكَانَ مِنْ أَحْسَنِ الْمُلُوكِ سِيرَةً، طَهَّرَ بِلَادَهُ مِنَ الْخُمُورِ وَالْمُكُوسِ وَالْمُنْكَرَاتِ، وَهِيَ فِي غَايَةِ الْأَمْنِ وَالْعَدْلِ، لَا يَتَجَاسَرُ أَحَدٌ مِنَ الْفِرِنْجِ وَلَا الْعَرَبِ يَدْخُلُ بِلَادَهُ إِلَّا أَهَانَهُ غَايَةَ الْإِهَانَةِ،

(13/154)


وكانت ملوك بنى أيوب يتقونه لأنه يَرَى أَنَّهُ أَحَقُّ بِالْأَمْرِ مِنْهُمْ، لِأَنَّ جَدَّهُ هُوَ الَّذِي فَتَحَ مِصْرَ، وَأَوَّلُ مَنْ مَلَكَ مِنْهُمْ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ بِحِمْصَ، وَعُمِلَ عزاءه بِجَامِعِ دِمَشْقَ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ بِمَنِّهِ.
الْقَاضِي الحوبى شمس الدين أحمد بن خليل
ابن سعادة بن جعفر الحوبى قَاضِي الْقُضَاةِ بِدِمَشْقَ يَوْمَئِذٍ، وَكَانَ عَالِمًا بِفُنُونٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ السَّبْتِ بَعْدَ الظُّهْرِ السَّابِعِ مِنْ شَعْبَانَ، وَلَهُ خَمْسٌ وَخَمْسُونَ سَنَةً بِالْمَدْرَسَةِ الْعَادِلِيَّةِ، وَكَانَ حَسَنَ الْأَخْلَاقِ جَمِيلَ الْمُعَاشَرَةِ، وَكَانَ يَقُولُ لَا أَقْدِرُ عَلَى إِيصَالِ الْمَنَاصِبِ إِلَى مُسْتَحِقِّيهَا، لَهُ مُصَنَّفَاتٌ مِنْهَا عَرُوضٌ قَالَ فِيهِ أَبُو شامة:
أحمد بن الخليل أرشده ... الله لِمَا أَرْشَدَ الْخَلِيلَ بْنَ أَحْمَدْ
ذَاكَ مُسْتَخْرِجُ العروض وهـ ... ذا مُظْهِرُ السِّرِّ مِنْهُ وَالْعَوْدُ أَحْمَدْ
وَقَدْ وَلِيَ الْقَضَاءَ بَعْدَ رَفِيعِ الدِّينِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ الْهَادِي الحنبلي مَعَ تَدْرِيسِ الْعَادِلِيَّةِ، وَكَانَ قَاضِيًا بِبَعْلَبَكَّ. فَأَحْضَرَهُ إِلَى دِمَشْقَ الْوَزِيرُ أَمِينُ الدِّينِ الَّذِي كَانَ سَامِرِيًّا فَأَسْلَمَ، وَزَرَ لِلصَّالِحِ إِسْمَاعِيلَ، وَاتَّفَقَ هُوَ وَهَذَا الْقَاضِي عَلَى أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ. قَالَ أَبُو شَامَةَ: ظَهَرَ مِنْهُ سُوءُ سِيرَةٍ وَعَسْفٌ وَفِسْقٌ وَجَوْرٌ وَمُصَادَرَةٌ فِي الْأَمْوَالِ. قُلْتُ: وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُهُ عَنْهُ أَنَّهُ رُبَّمَا حَضَرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي الْمَشْهَدِ الْكَمَالِيِّ بِالشُّبَّاكِ وَهُوَ سكران، وَأَنَّ قَنَانِيَّ الْخَمْرِ كَانَتْ تَكُونُ عَلَى بِرْكَةِ الْعَادِلِيَّةِ يَوْمَ السَّبْتِ، وَكَانَ يَعْتَمِدُ فِي التَّرِكَاتِ اعْتِمَادًا سَيِّئًا جِدًّا، وَقَدْ عَامَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِنَقِيضِ مَقْصُودِهِ، وَأَهْلَكَهُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْ مَنْ كَانَ سَبَبَ سَعَادَتِهِ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثمان وثلاثين وستمائة
فِيهَا سَلَّمَ الصَّالِحُ إِسْمَاعِيلُ صَاحِبُ دِمَشْقَ حِصْنَ سعيف أربون لِصَاحِبِ صَيْدَا الْفِرِنْجِيِّ، فَاشْتَدَّ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ مِنَ الشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ خَطِيبِ الْبَلَدِ، وَالشَّيْخِ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْحَاجِبِ شَيْخِ الْمَالِكِيَّةِ، فَاعْتَقَلَهُمَا مُدَّةً ثُمَّ أَطْلَقَهُمَا وَأَلْزَمَهُمَا مَنَازِلَهُمَا، وَوَلِيَ الْخَطَابَةَ وَتَدْرِيسَ الْغَزَّالِيَّةِ لِعِمَادِ الدِّينِ دَاوُدَ بْنِ عُمَرَ بْنِ يُوسُفَ الْمَقْدِسِيِّ خَطِيبِ بَيْتِ الْآبَارِ، ثُمَّ خَرَجَ الشَّيْخَانِ مِنْ دِمَشْقَ فَقَصَدَ أَبُو عَمْرٍو النَّاصِرَ دَاوُدَ بِالْكَرَكِ، وَدَخَلَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ، فَتَلَقَّاهُ صَاحِبُهَا أَيُّوبُ بِالِاحْتِرَامِ وَالْإِكْرَامِ، وَوَلَّاهُ خَطَابَةَ الْقَاهِرَةِ وَقَضَاءَ مِصْرَ، وَاشْتَغَلَ عَلَيْهِ أَهْلُهَا فَكَانَ مِمَّنْ أخذ عنه الشيخ تقى الدين ابن دَقِيقِ الْعِيدِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى.
وَفِيهَا قَدِمَ رسول من ملك التتار تولى بن جنكيزخان إِلَى مُلُوكِ الْإِسْلَامِ يَدْعُوهُمْ إِلَى طَاعَتِهِ

(13/155)


وَيَأْمُرُهُمْ بِتَخْرِيبِ أَسْوَارِ بُلْدَانِهِمْ. وَعُنْوَانُ الْكِتَابِ: مِنْ نَائِبِ رَبِّ السَّمَاءِ مَاسِحِ وَجْهِ الْأَرْضِ مَلِكِ الشرق والغرب قان قان. وَكَانَ الْكِتَابُ مَعَ رَجُلٍ مُسْلِمٍ مِنْ أَهْلِ أَصْبَهَانَ لَطِيفِ الْأَخْلَاقِ، فَأَوَّلُ مَا وَرَدَ عَلَى شهاب الدين غازى بن العادل بميافارقين، وَقَدْ أَخْبَرَ بِعَجَائِبَ فِي أَرْضِهِمْ غَرِيبَةٍ، مِنْهَا أَنَّ فِي الْبِلَادِ الْمُتَاخِمَةِ لِلسَّدِّ أُنَاسًا أَعْيُنُهُمْ فِي مَنَاكِبِهِمْ، وَأَفْوَاهُهُمْ فِي صُدُورِهِمْ، يَأْكُلُونَ السَّمَكَ وَإِذَا رَأَوْا أَحَدًا مِنَ النَّاسِ هَرَبُوا. وَذَكَرَ أن عندهم بزرا ينبت الْغَنَمُ يَعِيشُ الْخَرُوفُ مِنْهَا شَهْرَيْنِ وَثَلَاثَةً، وَلَا يَتَنَاسَلُ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ بِمَازَنْدَرَانَ عَيْنًا يَطْلُعُ فِيهَا كُلَّ ثَلَاثِينَ سَنَةً خَشَبَةٌ عَظِيمَةٌ مِثْلُ الْمَنَارَةِ، فَتُقِيمُ طُولَ النَّهَارِ فَإِذَا غَابَتِ الشَّمْسُ غابت فِي الْعَيْنِ فَلَا تُرَى إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَأَنَّ بَعْضَ الْمُلُوكِ احْتَالَ لِيُمْسِكُوهَا بِسَلَاسِلَ رُبِطَتْ فِيهَا فَغَارَتْ وَقَطَعَتْ تِلْكَ السَّلَاسِلَ، ثُمَّ كَانَتْ إِذَا طَلَعَتْ تُرَى فِيهَا تِلْكَ السَّلَاسِلُ وَهِيَ إِلَى الْآنَ كَذَلِكَ. قَالَ أَبُو شَامَةَ: وَفِيهَا قَلَّتِ الْمِيَاهُ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَفَسَدَ كثير من الزرع والثمار وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
وَالْمَشَاهِيرِ.
مُحْيِي الدين بن عربي
صاحب الفصوص وغيره، محمد بن على بن محمد ابن عربي أبو عبد الله الطائي الْأَنْدَلُسِيُّ، طَافَ الْبِلَادَ وَأَقَامَ بِمَكَّةَ مُدَّةً، وَصَنَّفَ فِيهَا كِتَابَهُ الْمُسَمَّى بِالْفُتُوحَاتِ الْمَكِّيَّةِ فِي نَحْوِ عِشْرِينَ مُجَلَّدًا، فِيهَا مَا يُعْقَلُ وَمَا لَا يُعْقَلُ، وَمَا يُنْكَرُ وَمَا لَا يُنْكَرُ، وَمَا يعرف وما لا يعرف، وله كتابه المسمى بفصوص الْحِكَمِ فِيهِ أَشْيَاءٌ كَثِيرَةٌ ظَاهِرُهَا كُفْرٌ صَرِيحٌ، وله كتاب العبادلة وَدِيوَانُ شِعْرٍ رَائِقٍ، وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ أُخَرُ كَثِيرَةٌ جدا، وَأَقَامَ بِدِمَشْقَ مُدَّةً طَوِيلَةً قَبْلَ وَفَاتِهِ، وَكَانَ بَنُو الزَّكِيِّ لَهُمْ عَلَيْهِ اشْتِمَالٌ وَبِهِ احْتِفَالٌ وَلِجَمِيعِ مَا يَقُولُهُ احْتِمَالٌ. قَالَ أَبُو شَامَةَ: وله تصانيف كثيرة وعليه التصنيف سهل، وَلَهُ شِعْرٌ حَسَنٌ وَكَلَامٌ طَوِيلٌ عَلَى طَرِيقِ التَّصَوُّفِ، وَكَانَتْ لَهُ جَنَازَةٌ حَسَنَةٌ، وَدُفِنَ بِمَقْبَرَةِ الْقَاضِي مُحْيِي الدِّينِ بْنِ الزَّكِيِّ بِقَاسِيُونَ، وَكَانَتْ جَنَازَتُهُ فِي الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. وَقَالَ ابْنُ السِّبْطِ كَانَ يَقُولُ إِنَّهُ يَحْفَظُ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ وَيَقُولُ إِنَّهُ يَعْرِفُ الْكِيمْيَاءَ بِطَرِيقِ الْمُنَازَلَةِ لَا بِطْرِيقِ الْكَسْبِ، وَكَانَ فَاضِلًا فِي عِلْمِ التَّصَوُّفِ، وَلَهُ تَصَانِيفُ كَثِيرَةٌ.
الْقَاضِي نَجْمُ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ خَلَفِ بْنِ رَاجِحٍ الْمَقْدِسِيُّ الْحَنْبَلِيُّ الشَّافِعِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْحَنْبَلِيِّ، كَانَ شَيْخًا فَاضِلًا دَيِّنًا بَارِعًا فِي عِلْمِ الْخِلَافِ، وَيَحْفَظُ الْجَمْعَ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ لِلْحُمَيْدِيِّ، وَكَانَ مُتَوَاضِعًا حَسَنَ الأخلاق، قد طاف البلدان يطلب العلم ثم استقر بدمشق ودرس بالفداوية والصارمية والشامية الجوانية وَأُمِّ الصَّالِحِ، وَنَابَ فِي الْحُكْمِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْقُضَاةِ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ بِهَا، وَهُوَ نَائِبُ الرَّفِيعِ الْجِيلِيِّ، وَكَانَتْ

(13/156)


وَفَاتُهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ سَادِسَ شَوَّالٍ وَدُفِنَ بِقَاسِيُونَ.
يَاقُوتُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَمِينُ الدِّينِ الرُّومِيُّ
منسوب إلى بيت أَتَابَكَ، قَدِمَ بَغْدَادَ مَعَ رَسُولِ صَاحِبِ الْمَوْصِلِ لُؤْلُؤٍ. قَالَ ابْنُ السَّاعِي، اجْتَمَعْتُ بِهِ وَهُوَ شَابٌّ أَدِيبٌ فَاضِلٌ، يَكْتُبُ خَطًّا حَسَنًا فِي غَايَةِ الْجَوْدَةِ، وَيَنْظِمُ شِعْرًا جَيِّدًا، ثُمَّ رَوَى عنه شيئا من شعره. قَالَ وَتُوُفِّيَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مَحْبُوسًا.
ثُمَّ دخلت سنة تسع وثلاثين وستمائة
فِيهَا قَصَدَ الْمَلِكُ الْجَوَادُ أَنْ يَدْخُلَ مِصْرَ لِيَكُونَ فِي خِدْمَةِ الصَّالِحِ أَيُّوبَ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى الرَّمْلِ تَوَهَّمَ مِنْهُ الصَّالِحُ أَيُّوبُ وَأَرْسَلَ إليه كمال الدين ابن الشَّيْخِ لِيَقْبِضَ عَلَيْهِ، فَرَجَعَ الْجَوَادُ فَاسْتَجَارَ بِالنَّاصِرِ دَاوُدَ، وَكَانَ إِذْ ذَاكَ بِالْقُدْسِ الشَّرِيفِ، وَبَعَثَ منه جَيْشًا فَالْتَقَوْا مَعَ ابْنِ الشَّيْخِ فَكَسَرُوهُ وَأَسَرُوهُ فَوَبَّخَهُ النَّاصِرُ دَاوُدُ ثُمَّ أَطْلَقَهُ، وَأَقَامَ الْجَوَادُ فِي خِدْمَةِ النَّاصِرِ حَتَّى تَوَهَّمَ مِنْهُ فَقَيَّدَهُ وَأَرْسَلَهُ تَحْتَ الْحَوْطَةِ إِلَى بَغْدَادَ، فَأَطْلَقَهُ بَطْنٌ مِنَ الْعَرَبِ عَنْ قُوَّةٍ فَلَجَأَ إِلَى صَاحِبِ دِمَشْقَ مُدَّةً، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى الْفِرِنْجِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى دِمَشْقَ فَحَبَسَهُ الصَّالِحُ إِسْمَاعِيلُ بِعَزَّتَا إِلَى أَنْ مَاتَ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ كَمَا سَيَأْتِي.
وَفِيهَا شَرَعَ الصَّالِحُ أَيُّوبُ فِي بِنَاءِ الْمَدَارِسِ بِمِصْرَ، وَبَنَى قَلْعَةً بِالْجَزِيرَةِ غَرِمَ عَلَيْهَا شَيْئًا كَثِيرًا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَأَخَذَ أَمْلَاكَ النَّاسِ وَخَرَّبَ نَيِّفًا وَثَلَاثِينَ مَسْجِدًا، وَقَطَعَ أَلْفَ نَخْلَةٍ. ثُمَّ أَخْرَبَهَا التُّرْكُ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَخَمْسِينَ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ. وَفِيهَا رَكِبَ الْمَلِكُ الْمَنْصُورُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمَلِكِ الْمُجَاهِدِ صَاحِبِ حِمْصَ وَمَعَهُ الْحَلَبِيُّونَ، فَاقْتَتَلُوا مَعَ الْخُوَارَزْمِيَّةِ بِأَرْضِ حَرَّانَ، فَكَسَرُوهُمْ وَمَزَّقُوهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ، وَعَادُوا مَنْصُورِينَ إِلَى بِلَادِهِمْ، فَاصْطَلَحَ شِهَابُ الدِّينِ غَازِيٌّ صَاحِبُ مَيَّافَارِقِينَ مَعَ الْخُوَارَزْمِيَّةِ وَآوَاهُمْ إِلَى بَلَدِهِ لِيَكُونُوا مِنْ حِزْبِهِ. قَالَ أَبُو شَامَةَ: وَفِيهَا كَانَ دُخُولُ الشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فَأَكْرَمَهُ صَاحِبُهَا وَوَلَّاهُ الْخَطَابَةَ بِالْقَاهِرَةِ وَقَضَاءَ الْقُضَاةِ بِمِصْرَ، بَعْدَ وَفَاةِ الْقَاضِي شَرَفِ الدِّينِ المرقع ثُمَّ عَزَلَ نَفْسَهُ مَرَّتَيْنِ وَانْقَطَعَ فِي بَيْتِهِ رحمه الله تعالى.
قال:
وفيها توفى
الشَّمْسُ بْنُ الْخَبَّازِ النَّحْوِيُّ الضَّرِيرُ فِي سَابِعِ رَجَبٍ. وَالْكَمَالُ بْنُ يُونُسَ الْفَقِيهُ فِي النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، وَكَانَا فَاضِلَيْ بَلَدِهِمَا فِي فَنِّهِمَا. قلت. أما:
الشمس ابن الْخَبَّازِ
فَهُوَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مَعَالِي بْنِ مَنْصُورِ بْنِ عَلِيٍّ، الضَّرِيرُ النَّحْوِيُّ الْمَوْصِلِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الخباز، اشتغل بعلم العربية وحفظ المفصل والإيضاح وَالتَّكْمِلَةَ وَالْعَرُوضَ وَالْحِسَابَ، وَكَانَ يَحْفَظُ الْمُجْمَلَ فِي اللُّغَةِ وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَكَانَ شَافِعِيَّ الْمَذْهَبِ كَثِيرَ النَّوَادِرِ وَالْمُلَحِ، وَلَهُ أَشْعَارٌ جَيِّدَةٌ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ عاشر رَجَبٍ وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ خَمْسُونَ سَنَةً رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا:

(13/157)


الْكَمَالُ بْنُ يُونُسَ
فَهُوَ مُوسَى بْنُ يُونُسَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَنَعَةَ بْنِ مَالِكٍ الْعُقَيْلِيُّ، أَبُو الْفَتْحِ الْمَوْصِلِيُّ شَيْخُ الشَّافِعِيَّةِ بِهَا، وَمُدَرِّسٌ بِعِدَّةِ مَدَارِسَ فِيهَا، وَكَانَتْ لَهُ مَعْرِفَةٌ تَامَّةٌ بِالْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ وَالْمَعْقُولَاتِ وَالْمَنْطِقِ وَالْحِكْمَةِ، وَرَحَلَ إِلَيْهِ الطلبة من البلدان، وبلغ ثمانيا وَثَمَانِينَ عَامًا، وَلَهُ شِعْرٌ حَسَنٌ. فَمِنْ ذَلِكَ ما امتدح به البدر لؤلؤ صاحب الموصل وهو قوله:
لئن زينت الدنيا بمالك أمرها ... فَمَمْلَكَةُ الدُّنْيَا بِكُمْ تَتَشَرَّفُ
بَقِيتَ بَقَاءَ الدَّهْرِ أمرك نافذ ... وسعيك مشكور وحكمك ينصف
كَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَتُوُفِّيَ لِلنِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ هَذِهِ السَّنَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
قَالَ أَبُو شَامَةَ: وَفِيهَا تُوُفِّيَ بِدِمَشْقَ: عَبْدُ الْوَاحِدِ الصُّوفِيُّ
الَّذِي كَانَ قَسًّا رَاهِبًا في كنيسة مَرْيَمَ سَبْعِينَ سَنَةً، أَسْلَمَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِأَيَّامٍ، ثُمَّ تُوُفِّيَ شَيْخًا كَبِيرًا بَعْدَ أَنْ أَقَامَ بِخَانْقَاهِ السُّمَيْسَاطِيَّةِ أَيَّامًا، وَدُفِنَ بِمَقَابِرِ الصُّوفِيَّةِ، وَكَانَتْ لَهُ جَنَازَةٌ حَافِلَةٌ، حَضَرْتُ دَفْنَهُ وَالصَّلَاةَ عَلَيْهِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
أَبُو الْفَضْلِ أَحْمَدُ بْنُ إسفنديار
ابن الموفق بن أبى على البوسنجي الْوَاعِظُ، شَيْخُ رِبَاطِ الْأُرْجُوَانِيَّةِ. قَالَ ابْنُ السَّاعِي: كَانَ جَمِيلَ الصُّورَةِ حَسَنَ الْأَخْلَاقِ كَثِيرَ التَّوَدُّدِ والتواضع، متكلما متفوها مَنْطِقِيًّا حَسَنَ الْعِبَارَةِ جِيِّدَ الْوَعْظَ طَيِّبَ الْإِنْشَادِ عَذْبَ الْإِيرَادِ، لَهُ نَظْمٌ حَسَنٌ، ثُمَّ سَاقَ عَنْهُ قَصِيدَةً يَمْدَحُ بِهَا الْخَلِيفَةَ الْمُسْتَنْصِرَ.
أَبُو بكر محمد بن يحيى
ابن المظفر بن علم بن نعيم المعروف بابن الحسر السَّلَامِيِّ، شَيْخٌ عَالِمٌ فَاضِلٌ، كَانَ حَنْبَلِيًّا ثُمَّ صَارَ شَافِعِيًّا، وَدَرَّسَ بِعِدَّةِ مَدَارِسَ بِبَغْدَادَ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَكَانَ أَحَدَ الْمُعَدِّلِينَ بِهَا، تَوَلَّى مُبَاشَرَاتٍ كَثِيرَةً، وَكَانَ فَقِيهًا أُصُولِيًّا عَالِمًا بِالْخِلَافِ، وَتَقَدَّمَ بِبَلَدِهِ وَعَظُمَ كَثِيرًا، ثُمَّ اسْتَنَابَهُ ابْنُ فَضْلَانَ بِدَارِ الْحَرِيمِ، ثُمَّ صَارَ مِنْ أَمْرِهِ أَنْ دَرَّسَ بِالنِّظَامِيَّةِ وَخُلِعَ عَلَيْهِ بِبَغْلَةٍ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ الْأَعْيَانُ، وَمَا زَالَ بِهَا حَتَّى تُوُفِّيَ عَنْ ثَمَانِينَ سَنَةً، وَدُفِنَ بِبَابِ حَرْبٍ.
قَاضِي الْقُضَاةِ بِبَغْدَادَ
أَبُو الْمَعَالِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُقْبِلِ بْنِ عَلِيٍّ الْوَاسِطِيُّ الشَّافِعِيُّ، اشْتَغَلَ بِبَغْدَادَ وَحَصَّلَ وَأَعَادَ فِي بَعْضِ الْمَدَارِسِ، ثُمَّ اسْتَنَابَهُ قَاضِي الْقُضَاةِ عِمَادُ الدِّينِ أَبُو صَالِحٍ نَصْرُ بْنُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بْنِ عَبْدِ الْقَادِرِ فِي أَيَّامِ الْخَلِيفَةِ الظَّاهِرِ بْنِ النَّاصِرِ، ثُمَّ وَلِيَ قَضَاءَ الْقُضَاةِ مُسْتَقِلًّا، ثُمَّ وَلِيَ تَدْرِيسَ الْمُسْتَنْصِرِيَّةِ بَعْدَ

(13/158)


مَوْتِ أَوَّلِ مَنْ دَرَّسَ بِهَا مُحْيِي الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ فَضْلَانَ، ثُمَّ عُزِلَ عَنْ ذَلِكَ كله وعن مشيخة بَعْضِ الرُّبُطِ.
ثُمَّ كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذَا الْعَامِ، وَكَانَ فَاضِلًا دَيِّنًا مُتَوَاضِعًا رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَعَفَا عَنْهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعِينَ وستمائة
فيها توفى الخليفة المستنصر باللَّه وخلافة ولده المستعصم باللَّه، فكانت وفاة الخليفة أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بُكْرَةَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ عَاشِرَ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ إِحْدَى وَخَمْسُونَ سَنَةً، وَأَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَسَبْعَةُ أَيَّامٍ، وَكُتِمَ مَوْتُهُ حَتَّى كَانَ الدُّعَاءُ لَهُ عَلَى الْمَنَابِرِ ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَكَانَتْ مُدَّةُ وِلَايَتِهِ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً وَعَشَرَةَ أَشْهُرٍ وَسَبْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَدُفِنَ بِدَارِ الْخِلَافَةِ، ثُمَّ نُقِلَ إِلَى التُّرَبِ مِنَ الرُّصَافَةِ. وَكَانَ جَمِيلَ الصُّورَةِ حَسَنَ السَّرِيرَةِ جَيِّدَ السِّيرَةِ، كَثِيرَ الصَّدَقَاتِ وَالْبِرِّ وَالصِّلَاتِ، مُحْسِنًا إِلَى الرَّعِيَّةِ بِكُلِّ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، كَانَ جَدُّهُ النَّاصِرُ قَدْ جَمَعَ مَا يَتَحَصَّلُ مِنَ الذَّهَبِ فِي بِرْكَةٍ في دار الْخِلَافَةِ، فَكَانَ يَقِفُ عَلَى حَافَّتِهَا وَيَقُولُ: أَتُرَى أَعِيشُ حَتَّى أَمْلَأَهَا، وَكَانَ الْمُسْتَنْصِرُ يَقِفُ عَلَى حَافَّتِهَا وَيَقُولُ أَتُرَى أَعِيشُ حَتَّى أُنْفِقَهَا كُلَّهَا. فكان يَبْنِي الرُّبُطَ وَالْخَانَاتِ وَالْقَنَاطِرَ فِي الطُّرُقَاتِ مِنْ سَائِرِ الْجِهَاتِ، وَقَدْ عَمِلَ بِكُلِّ مَحَلَّةٍ مِنْ محال بغداد دار ضيافة للفقراء، لا سيما في شهر رمضان، وكان يتقصد الجواري اللائي قَدْ بَلَغْنَ الْأَرْبَعِينَ فَيُشْتَرَيْنَ لَهُ فَيُعْتِقُهُنَّ وَيُجَهِّزُهُنَّ وَيُزَوِّجُهُنَّ، وَفِي كُلِّ وَقْتٍ يُبْرِزُ صِلَاتِهِ أُلُوفٌ مُتَعَدِّدَةٌ مِنَ الذَّهَبِ، تُفَرَّقُ فِي الْمَحَالِّ بِبَغْدَادَ عَلَى ذَوِي الْحَاجَاتِ وَالْأَرَامِلِ وَالْأَيْتَامِ وَغَيْرِهِمْ، تَقَبَّلَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ وَجَزَاهُ خَيْرًا، وَقَدْ وَضَعَ بِبَغْدَادَ الْمَدْرَسَةَ الْمُسْتَنْصِرِيَّةَ لِلْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ، وَجَعَلَ فِيهَا دار حديث وَحَمَّامًا وَدَارَ طِبٍّ، وَجَعَلَ لِمُسْتَحِقِّيهَا مِنَ الْجَوَامِكِ والأطعمة والحلاوات والفاكهة مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي أَوْقَاتِهِ، وَوَقَفَ عَلَيْهَا أَوْقَافًا عَظِيمَةً حَتَّى قِيلَ إِنَّ ثَمَنَ التِّبْنِ مِنْ غَلَّاتِ رِيعِهَا يَكْفِي الْمَدْرَسَةَ وَأَهْلَهَا.
وَوَقَفَ فيها كتبا نفيسة ليس في الدنيا لها نظير، فكانت هذه المدرسة جمالا لبغداد وسائر البلاد، وقد احترق في أول هذه السنة المشهد الّذي بسامراء الْمَنْسُوبُ إِلَى عَلِيٍّ الْهَادِي وَالْحَسَنِ الْعَسْكَرِيِّ، وَقَدْ كَانَ بَنَاهُ أَرْسَلَانُ الْبَسَاسِيرِيُّ فِي أَيَّامِ تَغَلُّبِهِ عَلَى تِلْكَ النَّوَاحِي، فِي حُدُودِ سَنَةِ خَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، فَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ الْمُسْتَنْصِرُ بِإِعَادَتِهِ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَقَدْ تَكَلَّمَتِ الرَّوَافِضُ فِي الِاعْتِذَارِ عَنْ حَرِيقِ هَذَا الْمَشْهَدِ بِكَلَامٍ طَوِيلٍ بَارِدٍ لَا حَاصِلَ لَهُ، وَصَنَّفُوا فِيهِ أَخْبَارًا وَأَنْشَدُوا أَشْعَارًا كَثِيرَةً لَا مَعْنَى لَهَا، وَهُوَ الْمَشْهَدُ الَّذِي يَزْعُمُونَ أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْهُ الْمُنْتَظَرُ الَّذِي لا حقيقة له، فلا عَيْنَ وَلَا أَثَرَ، وَلَوْ لَمْ يُبْنَ لَكَانَ أجدر، وَهُوَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الْجَوَادِ بْنِ عَلِيٍّ الرِّضَا بْنِ مُوسَى الْكَاظِمِ بْنِ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ بن على ابن مُحَمَّدِ بْنِ الْبَاقِرِ بْنِ عَلِيٍّ زَيْنِ الْعَابِدِينَ بْنِ الْحُسَيْنِ الشهيد بكربلاء بْنِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، وَقَبَّحَ مَنْ يَغْلُو فِيهِمْ وَيُبْغِضُ بِسَبَبِهِمْ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُمْ.
وَكَانَ الْمُسْتَنْصِرُ رَحِمَهُ اللَّهُ كَرِيمًا حَلِيمًا رَئِيسًا مُتَوَدِّدًا إِلَى النَّاسِ، وَكَانَ جَمِيلَ الصُّورَةِ حَسَنَ الْأَخْلَاقِ

(13/159)


بَهِيَّ الْمَنْظَرِ، عَلَيْهِ نُورُ بَيْتِ النُّبُوَّةِ رَضِيَ الله عَنْهُ وَأَرْضَاهُ. وَحُكِيَ أَنَّهُ اجْتَازَ رَاكِبًا فِي بعض أزفة بَغْدَادَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ رَمَضَانَ، فَرَأَى شَيْخًا كَبِيرًا وَمَعَهُ إِنَاءٌ فِيهِ طَعَامٌ قَدْ حَمَلَهُ مِنْ مَحَلَّةٍ إِلَى مَحَلَّةٍ أُخْرَى، فَقَالَ: أَيُّهَا الشَّيْخُ لِمَ لَا أَخَذْتَ الطَّعَامَ مِنْ محلتك؟ أو أنت محتاج تأخذ مِنَ الْمَحَلَّتَيْنِ؟
فَقَالَ لَا وَاللَّهِ يَا سَيِّدِي- وَلَمْ يَعْرِفْ أَنَّهُ الْخَلِيفَةُ- وَلَكِنِّي شَيْخٌ كَبِيرٌ، وقد نزل بى الوقت وأنا أستحى مِنْ أَهْلِ مَحَلَّتِي أَنْ أُزَاحِمَهُمْ وَقْتَ الطَّعَامِ، فيشمت بى من كان يبغضني، فأنا أذهب إلى غير محلتي فآخذ الطَّعَامِ وَأَتَحَيَّنُ وَقْتَ كَوْنِ النَّاسِ فِي صَلَاةِ المغرب فأدخل بالطعام إلى منزلي بحيث لَا يَرَانِي أَحَدٌ.
فَبَكَى الْخَلِيفَةُ رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَمَرَ لَهُ بِأَلْفِ دِينَارٍ، فَلَمَّا دُفِعَتْ إِلَيْهِ فَرِحَ الشَّيْخُ فَرَحًا شَدِيدًا حَتَّى قِيلَ إِنَّهُ انْشَقَّ قَلْبُهُ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ، وَلَمْ يَعِشْ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا عِشْرِينَ يَوْمًا، ثُمَّ مَاتَ فخلف الألف دينار إلى الخليفة، لأنه لم يترك وَارِثًا. وَقَدْ أَنْفَقَ مِنْهَا دِينَارًا وَاحِدًا، فَتَعَجَّبَ الْخَلِيفَةُ مِنْ ذَلِكَ وَقَالَ: شَيْءٌ قَدْ خَرَجْنَا عَنْهُ لَا يَعُودُ إِلَيْنَا، تَصَدَّقُوا بِهَا عَلَى فقراء محلته، فرحمه الله تعالى.
وَقَدْ خَلَّفَ مِنَ الْأَوْلَادِ ثَلَاثَةً، اثْنَانِ شَقِيقَانِ وَهُمَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُسْتَعْصِمُ باللَّه الَّذِي وَلِيَ الخلافة يعده وَأَبُو أَحْمَدَ عَبْدُ اللَّهِ، وَالْأَمِيرُ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الْعَزِيزِ وَأُخْتُهُمَا مِنْ أُمٍّ أُخْرَى كَرِيمَةُ صَانَ اللَّهُ حِجَابَهَا.
وَقَدْ رَثَاهُ النَّاسُ بِأَشْعَارٍ كَثِيرَةٍ أَوْرَدَ مِنْهَا ابْنُ السَّاعِي قِطْعَةً صَالِحَةً، وَلَمْ يَسْتَوْزِرْ أَحَدًا بَلْ أَقَرَّ أَبَا الْحَسَنِ مُحَمَّدَ بْنَ مُحَمَّدٍ الْقُمِّيَّ عَلَى نِيَابَةِ الْوِزَارَةِ، ثُمَّ كَانَ بَعْدَهُ نَصْرُ الدِّينِ أَبُو الْأَزْهَرِ أحمد بن محمد النَّاقِدِ الَّذِي كَانَ أُسْتَاذَ دَارِ الْخِلَافَةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
خِلَافَةُ الْمُسْتَعْصِمِ باللَّه
أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ آخِرُ خُلَفَاءِ بَنِي الْعَبَّاسِ بِبَغْدَادَ، وَهُوَ الْخَلِيفَةُ الشَّهِيدُ الَّذِي قَتَلَهُ التَّتَارُ بِأَمْرِ هلاكو ابن تولى ملك التتار بن جنكيزخان لعنهم اللَّهُ، فِي سَنَةِ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ أمير المؤمنين المستعصم باللَّه أَبُو أَحْمَدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُسْتَنْصِرِ باللَّه أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ بْنِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الظَّاهِرِ باللَّه أَبِي نَصْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ النَّاصِرِ لِدِينِ اللَّهِ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنِ أَمِيرِ المؤمنين المستضيء باللَّه أَبِي مُحَمَّدٍ الْحَسَنِ بْنِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُسْتَنْجِدِ باللَّه أَبِي الْمُظَفَّرِ يُوسُفَ بْنِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُقْتَفِي لِأَمْرِ اللَّهِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُسْتَظْهِرِ باللَّه أَبِي الْعَبَّاسِ أحمد بن الْخَلِيفَةِ الْمُقْتَدِي بِأَمْرِ اللَّهِ أَبِي الْقَاسِمِ عَبْدِ اللَّهِ وَبَقِيَّةُ نَسَبِهِ إِلَى الْعَبَّاسِ فِي تَرْجَمَةِ جَدِّهِ النَّاصِرِ، وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ ذَكَرْنَاهُمْ كُلُّهُمْ وَلِيَ الْخِلَافَةَ يَتْلُو بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلَمْ يَتَّفِقْ هَذَا لِأَحَدٍ قَبْلَ الْمُسْتَعْصِمِ، أَنَّ فِي نَسَبِهِ ثَمَانِيَةً نسقا ولوا الخلافة لَمْ يَتَخَلَّلْهُمْ أَحَدٌ، وَهُوَ التَّاسِعُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى بمنه.
لَمَّا تُوُفِّيَ أَبُوهُ بُكْرَةَ الْجُمُعَةِ عَاشِرَ جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ سَنَةِ أَرْبَعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ اسْتُدْعِيَ هُوَ مِنَ التَّاجِ يَوْمَئِذٍ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَبُويِعَ بِالْخِلَافَةِ، ولقب بالمستعصم، وله من العمر يَوْمَئِذٍ ثَلَاثُونَ سَنَةً وَشُهُورٌ، وَقَدْ

(13/160)


أَتْقَنَ فِي شَبِيبَتِهِ تِلَاوَةَ الْقُرْآنِ حِفْظًا وَتَجْوِيدًا، وَأَتْقَنَ الْعَرَبِيَّةَ وَالْخَطَّ الْحَسَنَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْفَضَائِلِ عَلَى الشَّيْخِ شَمْسِ الدِّينِ أَبِي الْمُظَفَّرِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ النَّيَّارِ أَحَدِ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ فِي زَمَانِهِ، وَقَدْ أَكْرَمَهُ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ فِي خِلَافَتِهِ، وَكَانَ الْمُسْتَعْصِمُ عَلَى مَا ذُكِرَ كَثِيرَ التِّلَاوَةِ حَسَنَ الْأَدَاءِ طَيِّبَ الصَّوْتِ، يَظْهَرُ عَلَيْهِ خُشُوعٌ وَإِنَابَةٌ، وَقَدْ نَظَرَ فِي شَيْءٍ مِنَ التَّفْسِيرِ وَحَلِّ الْمُشْكِلَاتِ، وَكَانَ مَشْهُورًا بِالْخَيْرِ مَشْكُورًا مُقْتَدِيًا بِأَبِيهِ الْمُسْتَنْصِرِ جُهْدَهُ وَطَاقَتَهُ، وَقَدْ مَشَتِ الْأُمُورُ فِي أَيَّامِهِ عَلَى السَّدَادِ وَالِاسْتِقَامَةِ بحمد الله، وَكَانَ الْقَائِمُ بِهَذِهِ الْبَيْعَةِ الْمُسْتَعْصِمِيَّةِ شَرَفُ الدِّينِ أَبُو الْفَضَائِلِ إِقْبَالٌ الْمُسْتَنْصِرِيُّ، فَبَايَعَهُ أَوَّلًا بَنُو عَمِّهِ وَأَهْلُهُ مِنْ بَنِي الْعَبَّاسِ، ثُمَّ أَعْيَانُ الدَّوْلَةِ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَالْوُزَرَاءِ وَالْقُضَاةِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْفُقَهَاءِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أُولِي الْحَلِّ وَالْعَقْدِ وَالْعَامَّةِ وَغَيْرِهِمْ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا وَمَجْمَعًا مَحْمُودًا وَرَأَيًا سَعِيدًا، وَأَمْرًا حَمِيدًا، وَجَاءَتِ الْبَيْعَةُ مِنْ سَائِرِ الْجِهَاتِ وَالْأَقْطَارِ وَالْبُلْدَانِ وَالْأَمْصَارِ، وَخُطِبَ لَهُ فِي سَائِرِ الْبُلْدَانِ، وَالْأَقَالِيمِ وَالرَّسَاتِيقِ، وَعَلَى سَائِرِ الْمَنَابِرِ شَرْقًا وَغَرْبًا، بُعْدًا وَقُرْبًا، كَمَا كَانَ أَبُوهُ وأجداده، رحمهم الله أجمعين.
وفيها وقع من الحوادث أَنَّهُ كَانَ بِالْعِرَاقِ وَبَاءٌ شَدِيدٌ فِي آخِرِ أَيَّامِ الْمُسْتَنْصِرِ وَغَلَا السُّكَّرُ وَالْأَدْوِيَةُ فَتَصَدَّقَ الْخَلِيفَةُ المستنصر باللَّه رحمه الله بِسُكَّرٍ كَثِيرٍ عَلَى الْمَرْضَى، تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنْهُ. وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ رَابِعَ عَشَرَ شَعْبَانَ أَذِنَ الْخَلِيفَةُ الْمُسْتَعْصِمُ باللَّه لِأَبِي الْفَرَجِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن محيي الدين يوسف ابن الشَّيْخِ أَبِي الْفَرَجِ بْنِ الْجَوْزِيِّ- وَكَانَ شَابًّا ظَرِيفًا فَاضِلًا- فِي الْوَعْظِ بِبَابِ الْبَدْرِيَّةِ، فَتَكَلَّمَ وأجاد وأفاد وامتدح الخليفة المستعصم بقصيدة طويلة فصيحة، سَرَدَهَا ابْنُ السَّاعِي بِكَمَالِهَا، وَمَنْ يُشَابِهْ أَبَاهُ فَمَا ظَلَمَ، وَالشِّبْلُ فِي الْمَخْبَرِ مِثْلُ الْأَسَدِ. وَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ الْحَلَبِيِّينَ وَبَيْنَ الْخُوَارَزْمِيَّةِ، وَمَعَ الْخُوَارَزْمِيَّةِ شِهَابُ الدِّينِ غَازِيٌّ صَاحِبُ مَيَّافَارِقِينَ، فَكَسَرَهُمُ الْحَلَبِيُّونَ كَسْرَةً عَظِيمَةً مُنْكَرَةً، وَغَنِمُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ شَيْئًا كَثِيرًا جِدًّا، وَنُهِبَتْ نَصِيبِينُ مَرَّةً أُخْرَى، وَهَذِهِ سَابِعَ عَشَرَ مَرَّةً نُهِبَتْ فِي هَذِهِ السِّنِينَ، فَإِنَّا للَّه وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. وَعَادَ الْغَازِيُّ إِلَى مَيَّافَارِقِينَ وَتَفَرَّقَتِ الْخُوَارَزْمِيَّةُ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ صُحْبَةَ مُقَدَّمِهِمْ بَرَكَاتِ خَانَ، لَا بَارَكَ اللَّهُ فِيهِ، وَقَدِمَ عَلَى الشِّهَابِ غَازِيٍّ مَنْشُورٌ بِمَدِينَةِ خِلَاطَ فَتَسَلَّمَهَا وَمَا فِيهَا مِنَ الْحَوَاصِلِ. وَفِيهَا عَزَمَ الصَّالِحُ أَيُّوبُ صَاحِبُ مِصْرَ عَلَى دُخُولِ الشَّامِ فَقِيلَ لَهُ إِنَّ الْعَسَاكِرَ مُخْتَلِفَةٌ فَجَهَّزَ عَسْكَرًا إِلَيْهَا وَأَقَامَ هُوَ بمصر يدير مملكتها.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ.
الْمُسْتَنْصِرُ باللَّه
أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَالْحُرْمَةُ الْمَصُونَةُ الْجَلِيلَةُ.
خَاتُونَ بِنْتُ عِزِّ الدِّينِ مَسْعُودِ
ابْنِ مَوْدُودِ بْنِ زَنْكِيِّ بْنِ آقْسُنْقُرَ الْأَتَابَكِيَّةُ وَاقِفَةُ الْمَدْرَسَةِ الْأَتَابَكِيَّةِ بِالصَّالِحِيَّةِ، وَكَانَتْ زَوْجَةَ

(13/161)


السُّلْطَانِ الْمَلِكِ الْأَشْرَفِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَفِي لَيْلَةِ وَفَاتِهَا كَانَتْ وَقَفَتْ مَدْرَسَتَهَا وَتُرْبَتَهَا بِالْجَبَلِ قَالَهُ أَبُو شَامَةَ:
وَدُفِنَتْ بِهَا رَحِمَهَا اللَّهُ تَعَالَى وَتَقَبَّلَ مِنْهَا.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ وستمائة
فِيهَا تَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ بَيْنَ الصَّالِحِ أَيُّوبَ صَاحِبِ مِصْرَ وَبَيْنَ عَمِّهِ الصَّالِحِ إِسْمَاعِيلَ صَاحِبِ دِمَشْقَ، عَلَى أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِ وَلَدَهُ الْمُغِيثَ عُمَرَ بْنَ الصَّالِحِ أَيُّوبَ الْمُعْتَقَلَ فِي قَلْعَةِ دِمَشْقَ، وَتَسْتَقِرُّ دِمَشْقُ فِي يَدِ الصَّالِحِ إِسْمَاعِيلَ، فَوَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى ذَلِكَ، وَخُطِبَ لِلصَّالِحِ أَيُّوبَ بِدِمَشْقَ، فَخَافَ الْوَزِيرُ أَمِينُ الدَّوْلَةِ أَبُو الْحَسَنِ غَزَّالٌ الْمَسْلَمَانِيُّ، وَزِيرُ الصَّالِحِ إِسْمَاعِيلَ مِنْ غَائِلَةِ هَذَا الْأَمْرِ، فَقَالَ لِمَخْدُومِهِ: لَا تَرُدَّ هَذَا الْغُلَامَ لأبيه تَخْرُجُ الْبِلَادُ مِنْ يَدِكَ، هَذَا خَاتَمُ سُلَيْمَانَ بيدك لِلْبِلَادِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَبْطَلَ مَا كَانَ وَقَعَ مِنَ الصُّلْحِ وَرَدَّ الْغُلَامَ إِلَى الْقَلْعَةِ، وَقُطِعَتِ الْخُطْبَةُ لِلصَّالِحِ أَيُّوبَ، وَوَقَعَتِ الْوَحْشَةُ بَيْنَ الْمَلِكَيْنِ، وَأَرْسَلَ الصَّالِحُ أَيُّوبُ إِلَى الْخُوَارَزْمِيَّةِ يَسْتَحْضِرُهُمْ لِحِصَارِ دمشق ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ. 2: 156 وَكَانَتِ الْخُوَارَزْمِيَّةُ قَدْ فَتَحُوا فِي هَذِهِ السَّنَةِ بِلَادَ الرُّومِ وَأَخَذُوهَا مِنْ أَيْدِي مَلِكِهَا ابْنِ عَلَاءِ الدِّينِ، وَكَانَ قَلِيلَ الْعَقْلِ يَلْعَبُ بِالْكِلَابِ وَالسِّبَاعِ، وَيُسَلِّطُهَا عَلَى النَّاسِ، فَاتَّفَقَ أَنَّهُ عَضَّهُ سَبُعٌ فَمَاتَ فَتَغَلَّبُوا عَلَى الْبِلَادِ حِينَئِذٍ.
وَفِيهَا احْتِيطَ عَلَى أَعْوَانِ الْقَاضِي الرَّفِيعِ الْجِيلِيِّ، وَضُرِبَ بَعْضُهُمْ بِالْمَقَارِعِ، وَصُودِرُوا وَرُسِمَ عَلَى الْقَاضِي الرَّفِيعِ بِالْمَدْرَسَةِ الْمُقَدَّمِيَّةِ دَاخِلَ بَابِ الْفَرَادِيسِ، ثُمَّ أُخْرِجَ لَيْلًا وَذُهِبَ بِهِ فَسُجِنَ بِمَغَارَةِ أَفْقَهَ مِنْ نَوَاحِي الْبِقَاعِ، ثُمَّ انقطع خبره. وذكر أبو شامة أنه توفى، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّهُ أُلْقِيَ مِنْ شَاهِقٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ خُنِقَ، وَذَلِكَ كُلُّهُ بِذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ قُرِئَ مَنْشُورُ وِلَايَةِ الْقَضَاءِ بدمشق لمحى الدين بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يحيى القرشي، بالشباك الكمالي من الجامع، كَذَا قَالَ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو شَامَةَ. وَزَعَمَ السِّبْطُ أَنَّ عَزْلَهُ إِنَّمَا كَانَ فِي السَّنَةِ الْآتِيَةِ، وَذَكَرَ أَنَّ سَبَبَ هَلَاكِهِ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى الْمَلِكِ الصَّالِحِ يَقُولُ لَهُ: إِنَّهُ قَدْ أَوْرَدَ إِلَى خِزَانَتِهِ مِنَ الْأَمْوَالِ أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ. فَأَنْكَرَ الصَّالِحُ ذَلِكَ، وَرَدَّ عَلَيْهِ الْجَوَابَ أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ سِوَى أَلْفِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَأَرْسَلَ الْقَاضِي يَقُولُ فَأَنَا أُحَاقِقُ الْوَزِيرَ، وَكَانَ الصَّالِحُ لَا يُخَالِفُ الوزير، فأشار حينئذ على الصالح فعزله لِتَبْرَأَ سَاحَةُ السُّلْطَانِ مِنْ شَنَاعَاتِ النَّاسِ، فَعَزَلَهُ وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ.
وَفَوَّضَ أَمْرَ مدارسه إلى الشيخ تقى الدين ابن الصلاح فعين العادلية للكمال التفليسي، والعذراوية لمحى الدِّينِ بْنِ الزَّكِيِّ الَّذِي وَلِيَ الْقَضَاءَ بَعْدَهُ، وَالْأَمِينِيَّةَ لِابْنِ عَبْدِ الْكَافِي، وَالشَّامِيَّةَ الْبَرَّانِيَّةَ لِلتَّقِيِّ الحموي، وغيب الْقَاضِي الرَّفِيعُ وَأَسْقَطَ عَدَالَةَ شُهُودِهِ، قَالَ السِّبْطُ: أَرْسَلَهُ الْأَمِينُ مَعَ جَمَاعَةٍ عَلَى بَغْلٍ بِإِكَافٍ لِبَعْضِ النَّصَارَى إِلَى مَغَارَةِ أَفْقَهَ فِي جَبَلِ لُبْنَانَ مِنْ نَاحِيَةِ السَّاحِلِ، فَأَقَامَ بِهَا أَيَّامًا ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِ عَدْلَيْنِ مِنْ بَعْلَبَكَّ لِيَشْهَدَا عَلَيْهِ بِبَيْعِ أَمْلَاكِهِ مِنْ أَمِينِ الدَّوْلَةِ، فَذَكَرَا أنهما شاهداه وعليه

(13/162)


يخفيفة وَقَنْدُورَةٌ، وَأَنَّهُ اسْتَطْعَمَهُمَا شَيْئًا مِنِ الزَّادِ وَذَكَرَ أَنَّ لَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَمْ يَأْكُلْ شَيْئًا، فَأَطْعَمَاهُ مِنْ زُوَّادَتِهِمَا وَشَهِدَا عَلَيْهِ وَانْصَرَفَا، ثُمَّ جَاءَهُ دَاوُدُ النَّصْرَانِيُّ فَقَالَ لَهُ قُمْ فَقَدْ أُمِرْنَا بِحَمْلِكَ إِلَى بَعْلَبَكَّ، فَأَيْقَنَ بِالْهَلَاكِ حِينَئِذٍ، فقال دعوني أصلى ركعتين، فقال له قم، فقام يصلى فَأَطَالَ الصَّلَاةَ فَرَفَسَهُ النَّصْرَانِيُّ فَأَلْقَاهُ مِنْ رَأْسِ الْجَبَلِ إِلَى أَسْفَلِ الْوَادِي الَّذِي هُنَاكَ، فَمَا وَصَلَ حَتَّى تَقَطَّعَ، وَحُكِيَ أَنَّهُ تَعَلَّقَ ذَيْلُهُ بِسِنِّ الْجَبَلِ فَمَا زَالَ دَاوُدُ يَرْمِيهِ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى أَلْقَاهُ إِلَى أَسْفَلِ الْوَادِي، وَذَلِكَ عِنْدَ السقيف الْمُطِلِّ عَلَى نَهْرِ إِبْرَاهِيمَ. قَالَ السِّبْطُ: وَقَدْ كَانَ فَاسِدَ الْعَقِيدَةِ دَهْرِيًّا مُسْتَهْزِئًا بِأُمُورِ الشَّرْعِ، يخرج إلى المجلس سكرانا وَيَحْضُرُ إِلَى الْجُمُعَةِ كَذَلِكَ، وَكَانَتْ دَارُهُ كَالْحَانَاتِ. فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا باللَّه الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ قَالَ: وَأَخَذَ الْمُوَفَّقُ الْوَاسِطِيُّ أَحَدُ أُمَنَائِهِ- وَكَانَ مِنْ أَكْبَرِ الْبَلَايَا- أَخَذَ لِنَفْسِهِ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ سِتَّمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَعُوقِبَ عُقُوبَةً عَظِيمَةً حَتَّى أُخِذَتْ مِنْهُ، وَقَدْ كُسِرَتْ سَاقَاهُ وَمَاتَ تَحْتَ الضَّرْبِ، فَأُلْقِيَ فِي مَقَابِرِ الْيَهُودِ والنصارى، وأكلته الكلاب.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
الشَّيْخُ شَمْسُ الدين أبو الفتوح
أَسْعَدَ بْنِ الْمُنَجِّي التَّنُوخِيُّ الْمَعَرِّيُّ الْحَنْبَلِيُّ، قَاضِي حَرَّانَ قَدِيمًا، ثُمَّ قَدِمَ دِمَشْقَ وَدَرَّسَ بِالْمِسْمَارِيَّةِ وَتَوَلَّى خِدَمًا فِي الدَّوْلَةِ الْمُعَظَّمِيَّةِ، وَكَانَتْ لَهُ رِوَايَةٌ عَنِ ابْنِ صَابِرٍ وَالْقَاضِيَيْنِ الشَّهْرَزُورِيِّ وَابْنِ أَبِي عَصْرُونَ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي سَابِعِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
الشَّيْخُ الْحَافِظُ الصَّالِحُ
تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَزْهَرِ الصَّرِيفِينِيُّ، كَانَ يَدْرِي الْحَدِيثَ وَلَهُ بِهِ مَعْرِفَةٌ جَيِّدَةٌ، أَثْنَى عَلَيْهِ أَبُو شَامَةَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِجَامِعِ دِمَشْقَ وَدُفِنَ بِقَاسِيُونَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَاقِفُ الْكَرَوَّسِيَّةِ
مُحَمَّدُ بْنُ عَقِيلِ بْنِ كَرَوَّسَ، جَمَالُ الدِّينِ مُحْتَسِبُ دِمَشْقَ، كَانَ كَيِّسًا مُتَوَاضِعًا، تُوُفِّيَ بِدِمَشْقَ فِي شَوَّالٍ وَدُفِنَ بِدَارِهِ الَّتِي جَعَلَهَا مَدْرَسَةً، وَلَهُ دَارُ حَدِيثٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَعَفَا عَنْهُ.
الملك الجواد يونس بن ممدود
ابن الْعَادِلِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَيُّوبَ الْمَلِكُ الْجَوَادُ، وَكَانَ أَبُوهُ أَكْبَرَ أَوْلَادِ الْعَادِلِ، تَقَلَّبَتْ بِهِ الْأَحْوَالُ وَمَلَكَ دِمَشْقَ بَعْدَ عَمِّهِ الْكَامِلِ مُحَمَّدِ بْنِ الْعَادِلِ، وَكَانَ فِي نَفْسِهِ جَيِّدًا مُحِبًّا لِلصَّالِحِينَ، وَلَكِنْ كَانَ فِي بَابِهِ مَنْ يَظْلِمُ النَّاسَ وَيُنْسَبُ ذَلِكَ إِلَيْهِ، فَأَبْغَضَتْهُ الْعَامَّةُ وَسَبُّوهُ وَأَلْجَئُوهُ إِلَى أَنْ قَايَضَ بِدِمَشْقَ الْمَلِكَ الصَّالِحَ أَيُّوبَ بْنَ الْكَامِلِ إِلَى سِنْجَارَ وَحِصْنِ كَيْفَا، ثُمَّ لَمْ يَحْفَظْهُمَا بَلْ خَرَجَتَا عَنْ يَدِهِ، ثُمَّ آلَ بِهِ الْحَالُ إِلَى أَنْ سَجَنَهُ الصَّالِحُ إِسْمَاعِيلُ بِحِصْنِ عَزَّتَا، حَتَّى كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَنُقِلَ فِي شَوَّالٍ إِلَى تُرْبَةِ الْمُعَظَّمِ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ، وَكَانَ عِنْدَهُ ابْنُ يَغْمُورٍ مُعْتَقَلًا فَحَوَّلَهُ الصَّالِحُ إِسْمَاعِيلُ إِلَى قَلْعَةِ دمشق، فلما

(13/163)


مَلَكَهَا الصَّالِحُ أَيُّوبُ نَقَلَهُ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَشَنَقَهُ مَعَ الْأَمِينِ غَزَّالٍ وَزِيرِ الصَّالِحِ إِسْمَاعِيلَ، عَلَى قَلْعَةِ الْقَاهِرَةِ، جَزَاءً عَلَى صُنْعِهِمَا فِي حَقِّ الصَّالِحِ أَيُّوبَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. أَمَّا ابْنُ يَغْمُورٍ فَإِنَّهُ عَمِلَ عَلَيْهِ حَتَّى حَوَّلَ مُلْكَ دِمَشْقَ إِلَى الصَّالِحِ إِسْمَاعِيلَ، وَأَمَّا أَمِينُ الدَّوْلَةِ فَإِنَّهُ مَنَعَ الصَّالِحَ مِنْ تَسْلِيمِ وَلَدِهِ عمر إلى أبيه فانتقم منهما بهذا، وهو معذور بذلك
مسعود بن أحمد بن مسعود
ابن مازه المحاربي أَحَدُ الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ الْفُضَلَاءِ، وَلَهُ عِلْمٌ بِالتَّفْسِيرِ وَعِلْمِ الْحَدِيثِ، وَلَدَيْهِ فَضْلٌ غَزِيرٌ قَدِمَ بَغْدَادَ صحبة رسول التتار للحج، فحبس مدة سِنِينَ ثُمَّ أُفْرِجَ عَنْهُ، فَحَجَّ ثُمَّ عَادَ، فَمَاتَ بِبَغْدَادَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ يَحْيَى بْنِ الحسن
ابن الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الْبِطْرِيقِ بْنِ نَصْرِ بْنِ حَمْدُونَ بْنِ ثَابِتٍ الْأَسَدِيُّ الْحِلِّيُّ، ثُمَّ الْوَاسِطِيُّ، ثُمَّ الْبَغْدَادِيُّ، الْكَاتِبُ الشَّاعِرُ الشِّيعِيُّ، فَقِيهُ الشِّيعَةِ، أَقَامَ بِدِمَشْقَ مُدَّةً وَامْتَدَحَ كَثِيرًا مِنَ الْأُمَرَاءِ وَالْمُلُوكِ، مِنْهُمُ الْكَامِلُ صَاحِبُ مِصْرَ وَغَيْرُهُ، ثُمَّ عَادَ إِلَى بَغْدَادَ فَكَانَ يَشْغَلُ الشِّيعَةَ فِي مَذْهَبِهِمْ، وَكَانَ فَاضِلًا ذَكِيًّا جَيِّدَ النظم والنثر، لكنه مَخْذُولٌ مَحْجُوبٌ عَنِ الْحَقِّ. وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ الساعي قطعة جيدة من أشعاره الدالة على غزارة مادته في العلم والذكاء رحمه الله وعفا عنه
ثم دخلت سنة اثنتين وأربعين وستمائة
فِيهَا اسْتَوْزَرَ الْخَلِيفَةُ الْمُسْتَعْصِمُ باللَّه مُؤَيِّدَ الدِّينِ أَبَا طَالِبٍ مُحَمَّدَ بْنَ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيِّ بن محمد الْعَلْقَمِيِّ الْمَشْئُومَ عَلَى نَفْسِهِ، وَعَلَى أَهْلِ بَغْدَادَ، الّذي لَمْ يَعْصِمِ الْمُسْتَعْصِمَ فِي وِزَارَتِهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَزِيرَ صِدْقٍ وَلَا مَرْضِيَّ الطَّرِيقَةِ، فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي أَعَانَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي قَضِيَّةِ هولاكو وَجُنُودِهِ قَبَّحَهُ اللَّهُ وَإِيَّاهُمْ، وَقَدْ كَانَ ابْنُ الْعَلْقَمِيِّ قَبْلَ هَذِهِ الْوِزَارَةِ أُسْتَاذَ دَارِ الْخِلَافَةِ، فَلَمَّا مَاتَ نَصْرُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ النَّاقِدِ استوزر ابن العلقميّ وجعل مكانه في الاستادارية الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ يُوسُفُ بْنُ أَبِي الْفَرَجِ ابن الجوزي، وكان من خيار الناس، وَهُوَ وَاقِفُ الْجَوْزِيِّةِ الَّتِي بِالنَّشَّابِينَ بِدِمَشْقَ تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنْهُ. وَفِيهَا جُعِلَ الشَّيْخُ شَمْسُ الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ النَّيَّارِ مُؤَدِّبُ الْخَلِيفَةِ شَيْخَ الشُّيُوخِ بِبَغْدَادَ، وَخُلِعَ عَلَيْهِ، ووكل الخليفة عبد الوهاب ابن الْمُطَهَّرِ وَكَالَةً مُطْلَقَةً، وَخَلَعَ عَلَيْهِ. وَفِيهَا كَانَتْ وَقَعَةٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ الْخُوَارَزْمِيَّةِ الَّذِينَ كَانَ الصَّالِحُ أَيُّوبُ صَاحِبُ مِصْرَ اسْتَقْدَمَهُمْ لِيَسْتَنْجِدَ بِهِمْ عَلَى الصَّالِحِ إِسْمَاعِيلَ أَبِي الْحَسَنِ صَاحِبِ دِمَشْقَ، فَنَزَلُوا على غزة وأرسل إليهم الصالح أيوب الخلع والأموال وَالْأَقْمِشَةَ وَالْعَسَاكِرَ، فَاتَّفَقَ الصَّالِحُ إِسْمَاعِيلُ وَالنَّاصِرُ دَاوُدُ صَاحِبُ الْكَرَكِ، وَالْمَنْصُورُ صَاحِبُ حِمْصَ، مَعَ الْفِرِنْجِ وَاقْتَتَلُوا مَعَ الْخُوَارَزْمِيَّةِ قِتَالًا شَدِيدًا، فَهَزَمَتْهُمُ الْخُوَارَزْمِيَّةُ كَسْرَةً مُنْكَرَةً فَظِيعَةً، هَزَمَتِ الْفِرِنْجَ بِصُلْبَانِهَا وَرَايَاتِهَا الْعَالِيَةِ، عَلَى رُءُوسِ أَطْلَابِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَتْ كُئُوسُ الْخَمْرِ دَائِرَةً بَيْنَ الْجُيُوشِ فَنَابَتْ كُئُوسُ

(13/164)


المنون عن كئوس الزرجون، فَقُتِلَ مِنَ الْفِرِنْجِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ زِيَادَةٌ عن ثلاثين ألف، وَأَسَرُوا جَمَاعَةً مِنْ مُلُوكِهِمْ وَقُسُوسِهِمْ وَأَسَاقِفَتِهِمْ، وَخَلْقًا مِنْ أُمَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَبَعَثُوا بِالْأُسَارَى إِلَى الصَّالِحِ أَيُّوبَ بِمِصْرَ، وَكَانَ يَوْمَئِذٍ يَوْمًا مَشْهُودًا وَأَمْرًا محمودا، وللَّه الحمد. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أُمَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ قَدْ عَلِمْتُ أَنَّا لَمَّا وَقَفْنَا تَحْتَ صُلْبَانِ الْفِرِنْجِ أَنَّا لا نفلح. وغنمت الخوارزمية من الفرنج ومن كَانَ مَعَهُمْ شَيْئًا كَثِيرًا، وَأَرْسَلَ الصَّالِحُ أَيُّوبُ إِلَى دِمَشْقَ لِيُحَاصِرَهَا، فَحَصَّنَهَا الصَّالِحُ إِسْمَاعِيلُ وَخَرَّبَ مِنْ حَوْلِهَا رِبَاعًا كَثِيرَةً، وَكَسَرَ جِسْرَ بَابِ توما فسار النَّهْرَ فَتَرَاجَعَ الْمَاءُ حَتَّى صَارَ بُحَيْرَةً مِنْ بَابِ تُومَا وَبَابِ السَلَامَةِ، فَغَرِقَ جَمِيعُ مَا كَانَ بَيْنَهُمَا مِنَ الْعُمْرَانِ، وَافْتَقَرَ كَثِيرٌ مِنَ الناس، ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ. 2: 156
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
الْمَلِكُ الْمُغِيثُ عُمَرُ بْنُ الصَّالِحِ أَيُّوبَ
كَانَ الصَّالِحُ إِسْمَاعِيلُ قَدْ أَسَرَهُ وَسَجَنَهُ فِي بُرْجِ قَلْعَةِ دِمَشْقَ، حِينَ أَخَذَهَا فِي غَيْبَةِ الصَّالِحِ أَيُّوبَ.
فَاجْتَهَدَ أَبُوهُ بِكُلِّ مُمْكِنٍ فِي خَلَاصِهِ فَلَمْ يَقْدِرْ، وَعَارَضَهُ فِيهِ أَمِينُ الدَّوْلَةِ غَزَّالٌ الْمَسْلَمَانِيُّ، وَاقِفُ المدرسة الأمينية التي بِبَعْلَبَكَّ، فَلَمْ يَزَلِ الشَّابُّ مَحْبُوسًا فِي الْقَلْعَةِ مِنْ سَنَةِ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ إِلَى لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ ثَانِي عَشَرَ رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَأَصْبَحَ مَيِّتًا فِي مَحْبِسِهِ غَمًّا وَحُزْنًا، وَيُقَالُ إِنَّهُ قُتِلَ فاللَّه أَعْلَمُ.
وَكَانَ مِنْ خِيَارِ أَبْنَاءِ الْمُلُوكِ، وَأَحْسَنِهِمْ شَكْلًا، وَأَكْمَلِهِمْ عَقْلًا. وَدُفِنَ عِنْدَ جَدِّهِ الْكَامِلِ فِي تُرْبَتِهِ شَمَالِيَّ الْجَامِعِ، فَاشْتَدَّ حَنَقُ أَبِيهِ الصَّالِحِ أَيُّوبَ عَلَى صَاحِبِ دمشق.
وممن توفى فيها شَيْخُ الشُّيُوخِ بِدِمَشْقَ: تَاجُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ الله بن عمر بْنِ حَمُّوَيْهِ
أَحَدُ الْفُضَلَاءِ الْمُؤَرِّخِينَ الْمُصَنِّفِينَ، لَهُ كِتَابٌ فِي ثَمَانِي مُجَلَّدَاتٍ، ذَكَرَ فِيهِ أُصُولَ، وَلَهُ السِّيَاسَةُ الْمُلُوكِيَّةُ صَنَّفَهَا لِلْكَامِلِ مُحَمَّدٍ وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ وَحَفِظَ الْقُرْآنَ، وَكَانَ قَدْ بَلَغَ الثَّمَانِينَ، وَقِيلَ إِنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهَا، وَقَدْ سَافَرَ إِلَى بِلَادِ الْمَغْرِبِ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ، وَاتَّصَلَ بِمَرَّاكُشَ عِنْدَ مَلِكِهَا الْمَنْصُورِ يَعْقُوبَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ، فَأَقَامَ هُنَاكَ إلى سنة ستمائة، فقدم إلى ديار مِصْرَ وَوَلِيَ مَشْيَخَةَ الشُّيُوخِ بَعْدَ أَخِيهِ صَدْرِ الدِّينِ بْنِ حَمُّوَيْهِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
الْوَزِيرُ نَصْرُ الدِّينِ أَبُو الْأَزْهَرِ
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بن على بن أحمد النَّاقِدِ الْبَغْدَادِيُّ وَزِيرُ الْمُسْتَنْصِرِ ثُمَّ ابْنِهِ الْمُسْتَعْصِمِ، كَانَ مِنْ أَبْنَاءِ التُّجَّارِ، ثُمَّ تَوَصَّلَ إِلَى أَنْ وَزَرَ لِهَذَيْنِ الْخَلِيفَتَيْنِ، وَكَانَ فَاضِلًا بَارِعًا حَافِظًا لِلْقُرْآنِ كَثِيرَ التِّلَاوَةِ، نَشَأَ فِي حِشْمَةٍ بَاذِخَةٍ، ثُمَّ كَانَ فِي وَجَاهَةٍ هَائِلَةٍ، وَقَدْ أُقْعِدَ فِي آخِرِ أَمْرِهِ، وَهُوَ مَعَ هَذَا فِي غَايَةِ الِاحْتِرَامِ وَالْإِكْرَامِ، وَلَهُ أَشْعَارٌ حَسَنَةٌ أَوْرَدَ مِنْهَا ابْنُ السَّاعِي قِطْعَةً صَالِحَةً، تُوُفِّيَ في هذه السنة وقد جاوز الخمسين رحمه الله تعالى.
نقيب النقباء خطيب الْخُطَبَاءِ
وَكِيلُ الْخُلَفَاءِ أَبُو طَالِبٍ الْحُسَيْنُ بْنُ أحمد بن على بن أحمد بن معين بْنِ هِبَةِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ

(13/165)


ابن الْخَلِيفَةِ الْمُهْتَدِي باللَّه الْعَبَّاسِيِّ، كَانَ مِنْ سَادَاتِ الْعَبَّاسِيِّينَ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَخُطَبَاءِ الْمُؤْمِنِينَ، اسْتَمَرَّتْ أَحْوَالُهُ على السداد والصلاح، لم يَنْقَطِعْ قَطُّ عَنِ الْخَطَابَةِ وَلَمْ يَمْرَضْ قَطُّ حتى كانت ليلة السبت الثامن والعشرين مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، قَامَ فِي أَثْنَاءِ اللَّيْلِ لِبَعْضِ حَاجَاتِهِ فَسَقَطَ عَلَى أُمِّ رَأْسِهِ، فَسَقَطَ مِنْ فَمِهِ دَمٌ كَثِيرٌ وَسَكَتَ فَلَمْ يَنْطِقْ كَلِمَةً وَاحِدَةً يَوْمَهُ ذَلِكَ إِلَى اللَّيْلِ، فَمَاتَ وَكَانَتْ لَهُ جِنَازَةٌ حَافِلَةٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَعَفَا عَنْهُ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ.
ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين وستمائة
وَهِيَ سَنَةُ الْخُوَارَزْمِيَّةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الصَّالِحَ أَيُّوبَ بْنَ الْكَامِلِ صَاحِبَ مِصْرَ بَعَثَ الْخُوَارَزْمِيَّةَ وَمَعَهُمْ مَلِكُهُمْ بَرَكَاتُ خَانَ فِي صُحْبَةِ مُعِينِ الدِّينِ ابن الشَّيْخِ، فَأَحَاطُوا بِدِمَشْقَ يُحَاصِرُونَ عَمَّهُ الصَّالِحَ أَبَا الجيش صاحب دمشق، وحرق قَصْرُ حَجَّاجٍ، وَحِكْرُ السُّمَّاقِ، وَجَامِعُ جَرَّاحٍ خَارِجَ باب الصغير، ومساجد كثيرة، ونصب الْمَنْجَنِيقُ عِنْدَ بَابِ الصَّغِيرِ وَعِنْدَ بَابِ الْجَابِيَةِ، ونصب من داخل البلد منجنيقان أيضا، وتراءى الْفَرِيقَانِ وَأَرْسَلَ الصَّالِحُ إِسْمَاعِيلُ إِلَى الْأَمِيرِ مُعِينِ الدِّينِ بْنِ الشَّيْخِ بِسَجَّادَةٍ وَعُكَّازٍ وَإِبْرِيقٍ وَأَرْسَلَ يَقُولُ: اشْتِغَالُكَ بِهَذَا أَوْلَى مِنَ اشْتِغَالِكَ بِمُحَاصَرَةِ الْمُلُوكِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْمُعِينُ بِزَمْرٍ وَجَنْكٍ وَغُلَالَةِ حرير أحمر وأصفر، وأرسل يقول له: أَمَّا السَّجَّادَةُ فَإِنَّهَا تَصْلُحُ لِي، وَأَمَّا أَنْتَ فَهَذَا أَوْلَى بِكَ. ثُمَّ أَصْبَحَ ابْنُ الشَّيْخِ فَاشْتَدَّ الْحِصَارُ بِدِمَشْقَ، وَأَرْسَلَ الصَّالِحُ إِسْمَاعِيلُ فَأَحْرَقَ جوسق قصر وَالِدِهِ الْعَادِلِ، وَامْتَدَّ الْحَرِيقُ فِي زُقَاقِ الرُّمَّانِ إلى العقبية فأحرقت بِأَسْرِهَا، وَقُطِعَتِ الْأَنْهَارُ وَغَلَتِ الْأَسْعَارُ، وَأُخِيفَتِ الطُّرُقُ وجرى بدمشق أمور بشعة جدا، لم يتم عَلَيْهَا قَطُّ، وَامْتَدَّ الْحِصَارُ شُهُورًا مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ إِلَى جُمَادَى الْأُولَى، فَأَرْسَلَ أَمِينُ الدَّوْلَةِ يَطْلُبُ مِنِ ابْنِ الشَّيْخِ شَيْئًا مِنْ مَلَابِسِهِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ بِفَرَجِيَّةٍ وَعِمَامَةٍ وَقَمِيصٍ وَمِنْدِيلٍ، فَلَبِسَ ذَلِكَ الْأَمِينُ وَخَرَجَ إِلَى مُعِينِ الدِّينِ، فَاجْتَمَعَ بِهِ بَعْدَ الْعَشَاءِ طَوِيلًا، ثُمَّ عَادَ ثُمَّ خَرَجَ مَرَّةً أُخْرَى فَاتَّفَقَ الْحَالُ عَلَى أَنْ يَخْرُجَ الصَّالِحُ إِسْمَاعِيلُ إِلَى بَعْلَبَكَّ وَيُسَلِّمُ دِمَشْقَ إلى الصالح أيوب، فاستبشر الناس بذلك وأصبح الصالح إسماعيل خارجا إلى بعلبكّ ودخل معين الدين ابن الشَّيْخِ فَنَزَلَ فِي دَارِ أُسَامَةَ، فَوَلَّى وَعَزَلَ وَقَطَعَ وَوَصَلَ، وَفَوَّضَ قَضَاءَ الْقُضَاةِ إِلَى صَدْرِ الدِّينِ بْنِ سَنِيِّ الدَّوْلَةِ، وَعَزَلَ الْقَاضِيَ مُحْيِي الدِّينِ بْنَ الزَّكِيِّ، وَاسْتَنَابَ ابْنَ سَنِيِّ الدَّوْلَةِ التفليسي الّذي ناب لابن الزكي والفرز السنجاري، وأرسل معين الدين ابن الشيخ أمين الدولة غزال ابن الْمَسْلَمَانِيِّ وَزِيرَ الصَّالِحِ إِسْمَاعِيلَ تَحْتَ الْحَوْطَةِ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ.
وَأَمَّا الْخُوَارَزْمِيَّةُ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا حَاضِرِينَ وَقْتَ الصُّلْحِ، فَلَمَّا عَلِمُوا بِوُقُوعِ الصُّلْحِ غَضِبُوا وَسَارُوا نَحْوَ دَارَيَّا فَنَهَبُوهَا وَسَاقُوا نَحْوَ بِلَادِ الشَّرْقِ، وَكَاتَبُوا الصَّالِحَ إِسْمَاعِيلَ فَحَالَفُوهُ عَلَى الصَّالِحِ أَيُّوبَ، فَفَرِحَ بِذَلِكَ وَنَقَضَ الصُّلْحَ الَّذِي كَانَ وَقَعَ مِنْهُ، وَعَادَتِ الْخُوَارَزْمِيَّةُ فَحَاصَرُوا دِمَشْقَ، وَجَاءَ إِلَيْهِمُ الصَّالِحُ

(13/166)


إِسْمَاعِيلُ مِنْ بَعْلَبَكَّ فَضَاقَ الْحَالُ عَلَى الدَّمَاشِقَةِ، فعدمت الأموال وَغَلَتِ الْأَسْعَارُ جِدًّا، حَتَّى إِنَّهُ بَلَغَ ثَمَنُ الغرارة ألف وستمائة، وقنطار الدقيق تسعمائة، والخبز كل وقيتين إلا ربع بدرهم، ورطل اللحم بسبعة وبيعت الأملاك بالدقيق، وأكلت القطاط والكلاب والميتات والجيفات، وَتَمَاوَتَ النَّاسُ فِي الطُّرُقَاتِ وَعَجَزُوا عَنِ التَّغْسِيلِ وَالتَّكْفِينِ وَالْإِقْبَارِ، فَكَانُوا يُلْقُونَ مَوْتَاهُمْ فِي الْآبَارِ، حتى أنتنت المدينة وضجر الناس، ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ. 2: 156 وَفِي هَذِهِ الْأَيَّامِ توفى الشيخ تقى الدين ابن الصَّلَاحِ، شَيْخُ دَارِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْمَدَارِسِ، فما أخرج من باب الفرج إلا بعد جهد جهيد، ودفن بالصوفية رحمه الله قَالَ ابْنُ السِّبْطِ: وَمَعَ هَذَا كَانَتِ الْخُمُورُ دَائِرَةً وَالْفِسْقُ ظَاهِرًا، وَالْمُكُوسُ بِحَالِهَا وَذَكَرَ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أَنَّ الْأَسْعَارَ غَلَتْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ جِدًّا، وَهَلَكَ الصَّعَالِيكُ بِالطُّرُقَاتِ، كَانُوا يَسْأَلُونَ لُقْمَةً ثُمَّ صَارُوا يَسْأَلُونَ لُبَابَةً ثُمَّ تَنَازَلُوا إلى فلس يشترون به نخلة يَبُلُّونَهَا وَيَأْكُلُونَهَا، كَالدَّجَاجِ. قَالَ: وَأَنَا شَاهَدْتُ ذَلِكَ. وَذَكَرَ تَفَاصِيلَ الْأَسْعَارِ وَغَلَاءَهَا فِي الْأَطْعِمَةِ وَغَيْرِهَا، ثُمَّ زَالَ هَذَا كُلُّهُ فِي آخِرِ السَّنَةِ بعد عيد الأضحى وللَّه الحمد.
وَلَمَّا بَلَغَ الصَّالِحَ أَيُّوبَ أَنَّ الْخُوَارَزْمِيَّةَ قَدْ مَالَئُوا عَلَيْهِ وَصَالَحُوا عَمَّهُ الصَّالِحَ إِسْمَاعِيلَ، كَاتَبَ الْمَلِكَ الْمَنْصُورَ إِبْرَاهِيمَ بْنَ أَسَدِ الدِّينِ شِيرْكُوهْ صَاحِبَ حِمْصَ، فَاسْتَمَالَهُ إِلَيْهِ وَقَوِيَ جَانِبُ نَائِبِ دمشق معين الدين حسين ابن الشَّيْخِ، وَلَكِنَّهُ تُوُفِّيَ فِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السنة كما سيأتي فِي الْوَفَيَاتِ. وَلَمَّا رَجَعَ الْمَنْصُورُ صَاحِبُ حِمْصَ عَنْ مُوَالَاةِ الصَّالِحِ إِسْمَاعِيلَ شَرَعَ فِي جَمْعِ الْجُيُوشِ مِنَ الْحَلَبِيِّينَ وَالتُّرْكُمَانِ وَالْأَعْرَابِ لِاسْتِنْقَاذِ دِمَشْقَ مِنَ الْخُوَارَزْمِيَّةِ، وَحِصَارِهِمْ إِيَّاهَا، فَبَلَغَ ذَلِكَ الْخُوَارَزْمِيَّةَ فخافوا من غائلة ذلك، وَقَالُوا دِمَشْقُ مَا تَفُوتُ، وَالْمَصْلَحَةُ قِتَالُهُ عِنْدَ بلده، فساروا إلى بُحَيْرَةِ حِمْصَ، وَأَرْسَلَ النَّاصِرُ دَاوُدُ جَيْشَهُ إِلَى الصَّالِحِ إِسْمَاعِيلَ مَعَ الْخُوَارَزْمِيَّةِ، وَسَاقَ جَيْشَ دِمَشْقَ فَانْضَافُوا إِلَى صَاحِبِ حِمْصَ، وَالْتَقَوْا مَعَ الْخُوَارَزْمِيَّةِ عِنْدَ بُحَيْرَةِ حِمْصَ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا، قُتِلَ فِيهِ عَامَّةُ الْخُوَارَزْمِيَّةِ، وَقُتِلَ مَلِكُهُمْ بَرَكَاتُ خَانَ، وَجِيءَ بِرَأْسِهِ عَلَى رُمْحٍ، فَتَفَرَّقَ شَمْلُهُمْ وَتَمَزَّقُوا شَذَرَ مَذَرَ، وَسَاقَ الْمَنْصُورُ صَاحِبُ حِمْصَ إِلَى بَعْلَبَكَّ فَتَسَلَّمَهَا الصَّالِحُ أَيُّوبُ، وَجَاءَ إِلَى دِمَشْقَ فَنَزَلَ بِبُسْتَانِ سَامَةَ خِدْمَةً لِلصَّالِحِ أَيُّوبَ، ثُمَّ حَدَّثَتْهُ نَفْسُهُ بِأَخْذِهَا فَاتَّفَقَ مَرَضُهُ، فَمَاتَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي السَّنَةِ الْآتِيَةِ، وَنُقِلَ إِلَى حِمْصَ، فَكَانَتْ مُدَّةُ مُلْكِهِ بَعْدَ أَبِيهِ عَشْرَ سِنِينَ، وَقَامَ مِنْ بَعْدِهِ فِيهَا ابْنُهُ الْمَلِكُ الْأَشْرَفُ مُدَّةَ سَنَتَيْنِ، ثُمَّ أُخِذَتْ مِنْهُ عَلَى مَا سَيَأْتِي وَتَسَلَّمَ نُوَّابُ الصَّالِحِ أَيُّوبَ بَعْلَبَكَّ وَبُصْرَى، وَلَمْ يَبْقَ بِيَدِ الصَّالِحِ إِسْمَاعِيلَ بَلَدٌ يَأْوِي إِلَيْهِ وَلَا أَهْلٌ وَلَا وَلَدٌ وَلَا مَالٌ، بَلْ أُخِذَتْ جَمِيعُ أَمْوَالِهِ وَنُقِلَتْ عِيَالُهُ تَحْتَ الْحَوْطَةِ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَسَارَ هُوَ فَاسْتَجَارَ بِالْمَلِكِ النَّاصِرِ بْنِ الْعَزِيزِ بْنِ الظَّاهِرِ غَازِيٍّ صَاحِبِ حَلَبَ، فَآوَاهُ وَأَكْرَمَهُ وَاحْتَرَمَهُ، وَقَالَ

(13/167)


الْأَتَابَكُ لُؤْلُؤٌ الْحَلَبِيُّ لِابْنِ أُسْتَاذِهِ النَّاصِرِ، وَكَانَ شَابًّا صَغِيرًا: انْظُرْ إِلَى عَاقِبَةِ الظُّلْمِ. وَأَمَّا الْخُوَارَزْمِيَّةُ فَإِنَّهُمْ سَارُوا إِلَى نَاحِيَةِ الْكَرَكِ فَأَكْرَمَهُمُ النَّاصِرُ دَاوُدُ صَاحِبُهَا، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ وَصَاهَرَهُمْ وَأَنْزَلَهُمْ بِالصَّلْتِ فَأَخَذُوا مَعَهَا نَابُلُسَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمُ الصَّالِحُ أيوب جيشا مع فخر الدين ابن الشَّيْخِ فَكَسَرَهُمْ عَلَى الصَّلْتِ وَأَجْلَاهُمْ عَنْ تِلْكَ الْبِلَادِ، وَحَاصَرَ النَّاصِرَ بِالْكَرَكِ وَأَهَانَهُ غَايَةَ الْإِهَانَةِ، وَقَدِمَ الْمَلِكُ الصَّالِحُ نَجْمُ الدِّينِ أَيُّوبُ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فَدَخَلَ دِمَشْقَ فِي أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ، وَأَحْسَنَ إِلَى أَهْلِهَا، وَتَصَدَّقَ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَسَارَ إِلَى بَعْلَبَكَّ وَإِلَى بُصْرَى وَإِلَى صَرْخَدَ، فَتَسَلَّمَهَا مِنْ صَاحِبِهَا عِزِّ الدِّينِ أَيْبَكَ الْمُعَظَّمِيِّ، وَعَوَّضَهُ عَنْهَا ثُمَّ عَادَ إِلَى مِصْرَ مُؤَيَّدًا منصورا. وهذا كله في السنة الآتية.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتْ وَقْعَةٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ جَيْشِ الْخَلِيفَةِ وَبَيْنَ التَّتَارِ لَعَنَهُمُ اللَّهُ، فَكَسَرَهُمُ المسلمون كسرة عظيمة وفرقوا شملهم، وهزموا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ، فَلَمْ يَلْحَقُوهُمْ وَلَمْ يَتْبَعُوهُمْ، خَوْفًا مِنْ غَائِلَةِ مَكْرِهِمْ وَعَمَلًا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اتْرُكُوا التُّرْكَ مَا تَرَكُوكُمْ» . وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ ظَهَرَ بِبِلَادِ خُوزِسْتَانَ عَلَى شِقِّ جَبَلٍ دَاخِلِهِ مِنَ الْأَبْنِيَةِ الْغَرِيبَةِ الْعَجِيبَةِ مَا يَحَارُ فِيهِ النَّاظِرُ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ بِنَاءِ الْجِنِّ، وَأَوْرَدَ صِفَتَهُ ابْنُ الساعي في تاريخه
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ
الشيخ تقى الدين ابن الصَّلَاحِ
عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ الامام العلامة، مفتى الشام ومحدثها، الشَّهْرَزُورِيُّ ثُمَّ الدِّمَشْقِيُّ، سَمِعَ الْحَدِيثَ بِبِلَادِ الشَّرْقِ وَتَفَقَّهَ هُنَالِكَ بِالْمَوْصِلِ وَحَلَبَ وَغَيْرِهَا، وَكَانَ أَبُوهُ مُدَرِّسًا بِالْأَسَدِيَّةِ الَّتِي بِحَلَبَ، وَوَاقِفُهَا أَسَدُ الدِّينِ شيركوه ابن شاذى، وقدم هو الشَّامَ وَهُوَ فِي عِدَادِ الْفُضَلَاءِ الْكِبَارِ.
وَأَقَامَ بِالْقُدْسِ مُدَّةً وَدَرَّسَ بِالصَّلَاحِيَّةِ، ثُمَّ تَحَوَّلَ مِنْهُ إلى دمشق، ودرس بالرواحية ثُمَّ بِدَارِ الْحَدِيثِ الْأَشْرَفِيَّةِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ وَلِيَهَا مِنْ شُيُوخِ الْحَدِيثِ، وَهُوَ الَّذِي صَنَّفَ كتاب وقفها، ثم بالشامية الجوانية، وَقَدْ صَنَّفَ كُتُبًا كَثِيرَةً مُفِيدَةً فِي عُلُومِ الحديث والفقه [وله] تعاليق حَسَنَةً عَلَى الْوَسِيطِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْفَوَائِدِ الَّتِي يَرْحَلُ إِلَيْهَا. وَكَانَ دَيِّنًا زَاهِدًا وَرِعًا نَاسِكًا، على طريق السلف الصالح، كما هو طَرِيقَةُ مُتَأَخِّرِي أَكْثَرِ الْمُحَدِّثِينَ، مَعَ الْفَضِيلَةِ التَّامَّةِ فِي فُنُونٍ كَثِيرَةٍ، وَلَمْ يَزَلْ عَلَى طَرِيقَةٍ جَيِّدَةٍ حَتَّى كَانَتْ وَفَاتُهُ بِمَنْزِلِهِ فِي دَارِ الحديث الأشرفية لَيْلَةِ الْأَرْبِعَاءِ الْخَامِسَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْ سَنَةِ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِجَامِعِ دِمَشْقَ وَشَيَّعَهُ النَّاسُ إِلَى دَاخِلِ بَابِ الْفَرَجِ، وَلَمْ يُمْكِنْهُمُ الْبُرُوزُ لِظَاهِرِهِ لِحِصَارِ الْخُوَارَزْمِيَّةِ، وَمَا صَحِبَهُ إِلَى جَبَّانَةِ الصُّوفِيَّةِ إِلَّا نَحْوُ العشرة رحمه الله وتغمده برضوانه. وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ الْقَاضِي شَمْسُ الدِّينِ بْنُ خَلِّكَانَ، وَكَانَ مِنْ شُيُوخِهِ. قَالَ السِّبْطُ أَنْشَدَنِي الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ مِنْ لَفْظِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ:

(13/168)


احذر من الواوات أربعة ... فهن من الحتوف
واو الوصية والوديعة ... وَالْوَكَالَةِ وَالْوُقُوفْ
وَحَكَى ابْنُ خَلِّكَانَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أُلْهِمْتُ فِي الْمَنَامِ هَؤُلَاءِ الْكَلَمْاتِ: ادْفَعِ الْمَسْأَلَةَ مَا وَجَدْتَ التَّحَمُّلَ يُمْكِنُكَ فَإِنَّ لِكُلِّ يَوْمٍ رِزْقًا جَدِيدًا، وَالْإِلْحَاحُ فِي الطَّلَبِ يُذْهِبُ الْبَهَاءَ، وَمَا أَقْرَبَ الصَّنِيعَ مِنَ الْمَلْهُوفِ، وَرُبَّمَا كان العسر نوعا من آداب الله، وَالْحُظُوظُ مَرَاتِبُ فَلَا تَعْجَلْ عَلَى ثَمَرَةٍ قَبْلَ أَنْ تُدْرِكَ فَإِنَّكَ سَتَنَالُهَا فِي أَوَانِهَا، وَلَا تَعْجَلْ فِي حَوَائِجِكَ فَتَضِيقُ بِهَا ذَرْعًا، وَيَغْشَاكَ الْقُنُوطُ.
ابْنُ النَّجَّارِ الْحَافِظُ صَاحِبُ التَّارِيخِ
مُحَمَّدُ بْنُ مَحْمُودِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ هِبَةِ اللَّهِ بن محاسن ابن النَّجَّارِ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَغْدَادِيُّ الْحَافِظُ الْكَبِيرُ، سَمِعَ الْكَثِيرَ وَرَحَلَ شَرْقًا وَغَرْبًا، وُلِدَ سَنَةَ ثلاث وَسَبْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَشَرَعَ فِي كِتَابَةِ التَّارِيخِ وَعُمْرُهُ خمسة عشر سنة، وَالْقِرَاءَاتِ وَقَرَأَ بِنَفْسِهِ عَلَى الْمَشَايِخِ كَثِيرًا حَتَّى حَصَّلَ نَحْوًا مِنْ ثَلَاثَةِ آلَافِ شَيْخٍ، مِنْ ذَلِكَ نَحْوٌ مِنْ أَرْبَعِمِائَةِ امْرَأَةٍ، وَتَغَرَّبَ ثَمَانِيًا وعشرين سنة، ثم جاء إِلَى بَغْدَادَ وَقَدْ جَمَعَ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً، مِنْ ذَلِكَ الْقَمَرُ الْمُنِيرُ فِي الْمُسْنَدِ الْكَبِيرِ، يَذْكُرُ لكل صحابى ما روى. وكنز الأيام في معرفة السنن والأحكام، والمختلف والمؤتلف، والسابق واللاحق، والمتفق والمفترق، وكتاب الألقاب، ونهج الاصابة في معرفة الصحابة، والكافي فِي أَسْمَاءِ الرِّجَالِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يُتِمَّ أَكْثَرُهُ وَلَهُ كِتَابُ الذَّيْلِ عَلَى تَارِيخِ مَدِينَةِ السَّلَامِ، فِي سِتَّةَ عَشَرَ مُجَلَّدًا كَامِلًا، وله أخبار مكة والمدينة وبيت المقدس، وغرر الْفَوَائِدِ فِي خَمْسِ مُجَلَّدَاتٍ، وَأَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ جِدًّا سَرَدَهَا ابْنُ السَّاعِي فِي تَرْجَمَتِهِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ لَمَّا عَادَ إِلَى بَغْدَادَ عُرِضَ عَلَيْهِ الْإِقَامَةُ في المدارس فأبى وقال: معى ما أستغنى به عن ذلك فاشترى جارية وأولدها وأقام برهة ينفق مدة على نفسه من كيسه، ثُمَّ احْتَاجَ إِلَى أَنْ نَزَلَ مُحَدِّثًا فِي جَمَاعَةِ الْمُحَدِّثِينَ بِالْمَدْرَسَةِ الْمُسْتَنْصِرِيَّةِ حِينَ وُضِعَتْ، ثُمَّ مَرِضَ شَهْرَيْنِ وَأَوْصَى إِلَى ابْنِ السَّاعِي فِي أَمْرِ تَرِكَتِهِ وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ الْخَامِسَ مِنْ شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ خَمْسٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِالْمَدْرَسَةِ النِّظَامِيَّةِ، وَشَهِدَ جَنَازَتَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَكَانَ يُنَادَى حَوْلَ جَنَازَتِهِ هَذَا حَافَظُ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الَّذِي كان يَنْفِي الْكَذِبَ عَنْهُ. وَلَمْ يَتْرُكْ وَارِثًا، وَكَانَتْ تَرِكَتُهُ عِشْرِينَ دِينَارًا وَثِيَابَ بَدَنِهِ، وَأَوْصَى أَنْ يُتَصَدَّقَ بِهَا، وَوَقَفَ خِزَانَتَيْنِ مِنَ الْكُتُبِ بِالنِّظَامِيَّةِ تُسَاوِي أَلْفَ دِينَارٍ، فَأَمْضَى ذَلِكَ الْخَلِيفَةُ الْمُسْتَعْصِمُ، وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ النَّاسُ وَرَثَوْهُ بِمَرَاثٍ كَثِيرَةٍ، سَرَدَهَا ابْنُ السَّاعِي فِي آخِرِ تَرْجَمَتِهِ
الْحَافِظُ ضياء الدين المقدسي
ابن الحافظ محمد بن عبد الواحد [1] سمع الحديث الكثير وكتب كثيرا وطوف وجمع وصنف
__________
[1] بياض بجميع الأصول.

(13/169)


وَأَلَّفَ كُتُبًا مُفِيدَةً حَسَنَةً كَثِيرَةَ الْفَوَائِدِ، مِنْ ذَلِكَ كِتَابُ الْأَحْكَامِ وَلَمْ يُتِمَّهُ، وَكِتَابُ الْمُخْتَارَةِ وَفِيهِ عُلُومٌ حَسَنَةٌ حَدِيثِيَّةٌ، وَهِيَ أَجْوَدُ مِنْ مُسْتَدْرَكِ الْحَاكِمِ لَوْ كَمَلَ، وَلَهُ فَضَائِلُ الْأَعْمَالِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْكُتُبِ الْحَسَنَةِ الدَّالَّةِ عَلَى حفظه واطلاعه وتضلعه من علوم الْحَدِيثِ مَتْنًا وَإِسْنَادًا. وَكَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي غَايَةِ الْعِبَادَةِ وَالزَّهَادَةِ وَالْوَرَعِ وَالْخَيْرِ، وَقَدْ وَقَفَ كتبا كثيرة عظيمة لِخِزَانَةِ الْمَدْرَسَةِ الضِّيَائِيَّةِ الَّتِي وَقَفَهَا عَلَى أَصْحَابِهِمْ من المحدثين وَالْفُقَهَاءِ، وَقَدْ وُقِفَتْ عَلَيْهَا أَوْقَافٌ أُخَرُ كَثِيرَةٌ بَعْدَ ذَلِكَ.
الشَّيْخُ عَلَمُ الدِّينِ أَبُو الْحَسَنِ السَّخَاوِيُّ
عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ بن عبد الأحد بن عبد الغالب الهمذانيّ الْمِصْرِيُّ، ثُمَّ الدِّمَشْقِيُّ شَيْخُ الْقُرَّاءِ بِدِمَشْقَ، خَتَمَ عَلَيْهِ أُلُوفٌ مِنَ النَّاسِ، وَكَانَ قَدْ قَرَأَ عَلَى الشَّاطِبِيِّ وَشَرَحَ قَصِيدَتَهُ، وَلَهُ شَرْحُ الْمُفَصَّلِ وَلَهُ تَفَاسِيرُ وَتَصَانِيفُ كَثِيرَةٌ، وَمَدَائِحُ فِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَتِ لَهُ حَلْقَةٌ بِجَامِعِ دِمَشْقَ، وَوَلِيَ مَشْيَخَةَ الْإِقْرَاءِ بِتُرْبَةِ أُمِّ الصَّالِحِ، وَبِهَا كَانَ مَسْكَنُهُ وَبِهِ تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الْأَحَدِ ثَانِيَ عَشَرَ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَدُفِنَ بِقَاسِيُونَ. وَذَكَرَ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ أَنَّ مَوْلِدَهُ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ وَذَكَرَ مِنْ شِعْرِهِ قَوْلَهُ:
قَالُوا غَدًا نَأْتِي دِيَارَ الْحِمَى ... وَيَنْزِلُ الرَّكْبُ بِمَغْنَاهُمُ
وَكُلُّ مَنْ كَانَ مُطِيعًا لَهُمْ ... أَصْبَحَ مَسْرُورًا بِلُقْيَاهُمُ
قُلْتُ فَلِي ذَنْبٌ فَمَا حِيلَتِي ... بِأَيِّ وَجْهٍ أَتَلَقَّاهُمُ
قَالُوا أَلَيْسَ العفو من شأنهم ... لا سيما عمن ترجاهم
رَبِيعَةُ خَاتُونَ بِنْتُ أَيُّوبَ
أُخْتُ السُّلْطَانِ صَلَاحِ الدِّينِ، زَوَّجَهَا أَخُوهَا أَوَّلًا بِالْأَمِيرِ سَعْدِ الدِّينِ مسعود بن معين الدين وَتَزَوَّجَ هُوَ بِأُخْتِهِ عِصْمَةَ الدِّينِ خَاتُونَ، الَّتِي كَانَتْ زَوْجَةَ الْمَلِكِ نُورِ الدِّينِ وَاقِفَةَ الْخَاتُونِيَّةِ الجوانية، والخانقاه البرانية، ثُمَّ لَمَّا مَاتَ الْأَمِيرُ سَعْدُ الدِّينِ زَوَّجَهَا مِنَ الْمَلِكِ مُظَفَّرِ الدِّينِ صَاحِبِ إِرْبِلَ، فَأَقَامَتْ عِنْدَهُ بِإِرْبِلَ أَزْيَدَ مِنْ أَرْبَعِينَ سَنَةً حَتَّى مات، ثم قدمت دمشق فسكنت بدار الْعَقِيقِيِّ حَتَّى كَانَتْ وَفَاتُهُا فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَدْ جَاوَزَتِ الثَّمَانِينَ، وَدُفِنَتْ بِقَاسِيُونَ، وَكَانَتْ فِي خِدْمَتِهَا الشَّيْخَةُ الصَّالِحَةُ الْعَالِمَةُ أَمَةُ اللَّطِيفِ بِنْتُ النَّاصِحِ الْحَنْبَلِيِّ، وَكَانَتْ فَاضِلَةً، وَلَهَا تَصَانِيفُ، وَهِيَ التي أرشدتها إلى وقف المدرسة بسفح قاسيون على الحنابلة، ووقفت أَمَةُ اللَّطِيفِ عَلَى الْحَنَابِلَةِ مَدْرَسَةً أُخْرَى وَهِيَ الْآنَ شَرْقِيَّ الرِّبَاطِ النَّاصِرِيِّ، ثُمَّ لَمَّا مَاتَتِ الخاتون وقعت العالمة بالمصادرات وَحُبِسَتْ مُدَّةً ثُمَّ أُفْرِجَ عَنْهَا وَتَزَوَّجَهَا الْأَشْرَفُ صَاحِبُ حِمْصَ، وَسَافَرَتْ مَعَهُ إِلَى الرَّحْبَةِ وَتَلِّ راشد، ثُمَّ تُوُفِّيَتْ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ، وَوُجِدَ لَهَا بِدِمَشْقَ ذَخَائِرُ كَثِيرَةٌ وَجَوَاهِرُ ثَمِينَةٌ، تُقَارِبُ ستمائة ألف درهم، غير

(13/170)


الأملاك والأوقاف رحمها الله تعالى.
مُعِينُ الدِّينِ الْحَسَنُ بْنُ شَيْخِ الشُّيُوخِ
وَزِيرُ الصَّالِحِ نَجْمِ الدِّينِ أَيُّوبَ، أَرْسَلَهُ إِلَى دِمَشْقَ فَحَاصَرَهَا مَعَ الْخُوَارَزْمِيَّةِ أَوَّلَ مَرَّةٍ حَتَّى أَخَذَهَا مِنْ يَدِ الصَّالِحِ إِسْمَاعِيلَ، وَأَقَامَ بِهَا نَائِبًا من جهة الصالح أيوب، ثم مالأ الْخُوَارَزْمِيَّةُ مَعَ الصَّالِحِ إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ فَحَصَرُوهُ بِدِمَشْقَ، ثم كانت وفاته في العشر الآخر مِنْ رَمَضَانَ هَذِهِ السَّنَةِ، عَنْ سِتٍّ وَخَمْسِينَ سَنَةً، فَكَانَتْ مُدَّةُ وِلَايَتِهِ بِدِمَشْقَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ونصف. وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِجَامِعِ دِمَشْقَ، وَدُفِنَ بِقَاسِيُونَ إِلَى جَانِبِ أَخِيهِ عِمَادِ الدِّينِ.
وَفِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ وَاقِفِ الْقِلِيجِيَّةِ لِلْحَنَفِيَّةِ. وَهُوَ الْأَمِيرُ: سَيْفُ الدِّينِ بن قلج
وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِ الَّتِي بِمَدْرَسَتِهِ الْمَذْكُورَةِ، الَّتِي كَانَتْ سَكَنَهُ بِدَارِ فُلُوسٍ تَقَبَّلَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ.
وَخَطِيبُ الْجَبَلِ شَرَفُ الدِّينِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الشيخ أبى عمر رحمه الله. وَالسَّيْفُ أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى بْنِ الْإِمَامِ مُوَفَّقِ الدِّينِ بْنِ قُدَامَةَ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ إِمَامُ الْكَلَّاسَةِ الشَّيْخُ تَاجُ الدِّينِ أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ مُسْنِدُ وَقْتِهِ، وَشَيْخُ الْحَدِيثِ فِي زَمَانِهِ رِوَايَةً وَصَلَاحًا رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَالْمُحَدِّثَانِ الْكَبِيرَانِ الْحَافِظَانِ الْمُفِيدَانِ شَرَفُ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ الْجَوْهَرِيِّ وَتَاجُ الدِّينِ عَبْدُ الْجَلِيلِ الْأَبْهَرِيُّ.
ثُمَّ دخلت سنة أربع وأربعين وستمائة
فِيهَا كَسَرَ الْمَنْصُورُ الْخُوَارَزْمِيَّةَ عِنْدَ بُحَيْرَةِ حِمْصَ وَاسْتَقَرَّتْ يَدُ نُوَّابِ الصَّالِحِ أَيُّوبَ عَلَى دِمَشْقَ وَبَعْلَبَكَّ وَبُصْرَى، ثُمَّ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ كَسَرَ فَخْرُ الدِّينِ بْنُ الشَّيْخِ الْخُوَارَزْمِيَّةَ عَلَى الصَّلْتِ كَسْرَةً فَرَّقَ بَقِيَّةَ شَمْلِهِمْ، ثُمَّ حَاصَرَ النَّاصِرَ بِالْكَرَكِ وَرَجَعَ عَنْهُ إِلَى دِمَشْقَ. وَقَدِمَ الصَّالِحُ أَيُّوبُ إِلَى دِمَشْقَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ فَأَحْسَنَ إلى أهلها وتسلم هذه المدن المذكورة، وَانْتَزَعَ صَرْخَدَ مِنْ يَدِ عِزِّ الدِّينِ أَيْبَكَ، وَعَوَّضَهُ عَنْهَا، وَأَخَذَ الصَّلْتَ مِنَ النَّاصِرِ دَاوُدَ بن المعظم وأخذ حصن الصبية مِنَ السَّعِيدِ بْنِ الْعَزِيزِ بْنِ الْعَادِلِ، وَعَظُمَ شَأْنُهُ جِدًّا، وَزَارَ فِي رُجُوعِهِ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَتَفَقَّدَ أَحْوَالَهُ وَأَمَرَ بِإِعَادَةِ أَسْوَارِهِ أَنْ تُعَمَّرَ كَمَا كَانَتْ فِي الدَّوْلَةِ النَّاصِرِيَّةِ، فَاتِحِ الْقُدْسِ، وَأَنْ يُصْرَفَ الْخَرَاجُ وَمَا يَتَحَصَّلُ مِنْ غَلَّاتِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ عَازَ شَيْئًا صَرَفَهُ مِنْ عِنْدِهِ. وَفِيهَا قَدِمَتِ الرُّسُلُ مِنْ عِنْدِ الْبَابَا الَّذِي لِلنَّصَارَى تُخْبِرُ بِأَنَّهُ قَدْ أباح دم الأبدور مَلِكِ الْفِرِنْجِ لِتَهَاوُنِهِ فِي قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَرْسَلَ طَائِفَةً مِنْ عِنْدِهِ لِيَقْتُلُوهُ، فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَيْهِ كَانَ اسْتَعَدَّ لَهُمْ وَأَجْلَسَ مَمْلُوكًا لَهُ عَلَى السَّرِيرِ فَاعْتَقَدُوهُ الْمَلِكَ فَقَتَلُوهُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَخَذَهُمُ الأبدور فَصَلَبَهُمْ عَلَى بَابِ قَصْرِهِ بَعْدَ مَا ذَبَحَهُمْ وسلخهم وحشى جُلُودَهُمْ تِبْنًا، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ الْبَابَا أَرْسَلَ إليه جيشا كثيفا لقتاله فأوقع الله الخلف بينهم بسبب ذلك، وله الحمد والمنة.
وفيها هبت رياح عاصفة شديدة بمكة في يوم الثلاثاء من عَشَرَ رَبِيعٍ الْآخِرِ، فَأَلْقَتْ سِتَارَةَ

(13/171)


الْكَعْبَةِ الْمُشَرَّفَةِ، وَكَانَتْ قَدْ عَتُقَتْ، فَإِنَّهَا مِنْ سَنَةِ أَرْبَعِينَ لَمْ تُجَدَّدْ لِعَدَمِ الْحَجِّ فِي تِلْكَ السِّنِينَ مِنْ نَاحِيَةِ الْخَلِيفَةِ، فَمَا سَكَنَتِ الريح إلا والكعبة عريانة قد زَالَ عَنْهَا شِعَارُ السَّوَادِ، وَكَانَ هَذَا فَأْلًا عَلَى زَوَالِ دَوْلَةِ بَنِي الْعَبَّاسِ، وَمُنْذِرًا بِمَا سَيَقَعُ بَعْدَ هَذَا مِنْ كَائِنَةِ التَّتَارِ لَعَنَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى. فَاسْتَأْذَنَ نَائِبُ الْيَمَنِ عُمَرُ بْنُ سول شيخ الحرم العفيف بْنَ مَنَعَةَ فِي أَنْ يَكْسُوَ الْكَعْبَةَ، فَقَالَ لَا يَكُونُ هَذَا إِلَّا مِنْ مَالِ الْخَلِيفَةِ، ولم يكن عنده مال فافترض ثَلَاثَمِائَةِ دِينَارٍ وَاشْتَرَى ثِيَابَ قُطْنٍ وَصَبَغَهَا سَوَادًا وركب عليها طرازاتها العتيقة وكسى بِهَا الْكَعْبَةَ وَمَكَثَتِ الْكَعْبَةُ لَيْسَ عَلَيْهَا كُسْوَةٌ إِحْدَى وَعِشْرِينَ لَيْلَةً. وَفِيهَا فُتِحَتْ دَارُ الْكُتُبِ الَّتِي أَنْشَأَهَا الْوَزِيرُ مُؤَيِّدُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ أحمد العلقميّ بدار الوزارة، وكانت فِي نِهَايَةِ الْحُسْنِ، وَوُضِعَ فِيهَا مِنَ الْكُتُبِ النفيسة والنافعة شيء كثير، وامتدحها الشعراء بأبيات وقصائد حسانا وَفِي أَوَاخِرِ ذِي الْحِجَّةِ طَهَّرَ الْخَلِيفَةُ الْمُسْتَعْصِمُ باللَّه وَلَدَيْهِ الْأَمِيرَيْنِ أَبَا الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ، وَأَبَا الفضائل عبد الرحمن، وعملت ولائم فيها كل أفراح وَمَسَرَّةٌ، لَا يُسْمَعُ بِمِثْلِهَا مِنْ أَزْمَانٍ مُتَطَاوِلَةٍ، وَكَانَ ذَلِكَ وَدَاعًا لِمَسَرَّاتِ بَغْدَادَ وَأَهْلِهَا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ.
وَفِيهَا احْتَاطَ النَّاصِرُ دَاوُدُ صَاحِبُ الْكَرَكِ عَلَى الْأَمِيرِ عِمَادِ الدِّينِ دَاوُدَ بْنِ موسك بن حسكو، وكان من خيار الأمراء الأجواد، وَاصْطَفَى أَمْوَالَهُ كُلَّهَا وَسَجَنَهُ عِنْدَهُ فِي الْكَرَكِ، فشفع فيه فخر الدين ابن الشَّيْخِ لَمَّا كَانَ مُحَاصِرَهُ فِي الْكَرَكِ فَأَطْلَقَهُ، فخرجت في حلقه جراحة فَبَطَّهَا فَمَاتَ وَدُفِنَ عِنْدَ قَبْرِ جَعْفَرٍ وَالشُّهَدَاءِ بحوته رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مَلِكُ الْخُوَارَزْمِيَّةِ قَبْلًا بَرَكَاتُ خَانَ لَمَّا كُسِرَتْ أَصْحَابُهُ عِنْدَ بُحَيْرَةِ حِمْصَ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ
وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْمَلِكُ الْمَنْصُورُ
نَاصِرُ الدِّينِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمَلِكِ الْمُجَاهِدِ أَسَدِ الدِّينِ شِيرْكُوهْ صَاحِبُ حِمْصَ بِدِمَشْقَ، بَعْدَ أَنْ سَلَّمَ بَعْلَبَكَّ لِلصَّالِحِ أَيُّوبَ، وَنُقِلَ إِلَى حِمْصَ، وَكَانَ نُزُولُهُ أَوَّلًا بِبُسْتَانِ سَامَةَ، فَلَمَّا مَرِضَ حُمِلَ إِلَى الدَّهْشَةِ بُسْتَانِ الْأَشْرَفِ بِالنَّيْرَبِ فَمَاتَ فِيهِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ. الصَّائِنُ مُحَمَّدُ بن حسان
ابن رَافِعٍ الْعَامِرِيُّ الْخَطِيبُ، وَكَانَ كَثِيرَ السَّمَاعِ مُسْنِدًا، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِقَصْرِ حَجَّاجٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْفَقِيهُ الْعَلَّامَةُ مُحَمَّدُ بْنُ مَحْمُودِ بن عبد المنعم
المرامى الْحَنْبَلِيُّ وَكَانَ فَاضِلًا ذَا فُنُونٍ، أَثْنَى عَلَيْهِ أبو شامة. قال: صَحِبْتُهُ قَدِيمًا وَلَمْ يَتْرُكْ بَعْدَهُ بِدِمَشْقَ مِثْلَهُ فِي الْحَنَابِلَةِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِجَامِعِ دِمَشْقَ وَدُفِنَ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَالضِّيَاءُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الغمارى
الْمَالِكِيُّ الَّذِي وَلِيَ وَظَائِفَ الشَّيْخِ أَبِي عَمْرِو ابن الْحَاجِبِ حِينَ خَرَجَ مِنْ دِمَشْقَ سَنَةَ ثَمَانٍ

(13/172)


وَثَلَاثِينَ وَجَلَسَ فِي حَلْقَتِهِ وَدَرَّسَ مَكَانَهُ بِزَاوِيَةِ المالكية والفقيه تاج الدين إسماعيل بن جميل بِحَلَبَ، وَكَانَ فَاضِلًا دَيِّنًا سَلِيمَ الصَّدْرِ رَحِمَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ
فيها كان عود السلطان الصَّالِحِ نَجْمِ الدِّينِ أَيُّوبَ بْنِ الْكَامِلِ مِنَ الشَّامِ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَزَارَ فِي طَرِيقِهِ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَفَرَّقَ فِي أَهْلِهِ أَمْوَالًا كَثِيرَةً، وَأَمَرَ بِإِعَادَةِ سُورِهِ كَمَا كَانَ فِي أَيَّامِ عَمِّ أَبِيهِ الْمَلِكِ النَّاصِرِ فَاتِحِ الْقُدْسِ. وَنَزَّلَ الْجُيُوشَ لِحِصَارِ الْفِرِنْجِ فَفُتِحَتْ طَبَرِيَّةُ فِي عَاشِرِ صَفَرٍ وَفُتِحَتْ عَسْقَلَانُ فِي أَوَاخِرِ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَفِي رَجَبٍ عُزِلَ الْخَطِيبُ عِمَادُ الدِّينِ دَاوُدُ بن خطيب بيت الأبار عن الخطابة بجامع الأموي، وتدريس الغزالية، وولى ذلك للقاضي عِمَادُ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ الْحَرَسْتَانِيِّ شَيْخُ دَارِ الْحَدِيثِ بَعْدَ ابْنِ الصَّلَاحِ. وَفِيهَا أَرْسَلَ الصَّالِحُ أَيُّوبُ يَطْلُبُ جَمَاعَةً مِنْ أَعْيَانِ الدَّمَاشِقَةِ اتُّهِمُوا بِمُمَالَأَةِ الصَّالِحِ إِسْمَاعِيلَ، مِنْهُمُ الْقَاضِي مُحْيِي الدِّينِ بْنُ الزَّكِيِّ، وَبَنُو صَصْرَى وَابْنُ العماد الكاتب، والحليمي مَمْلُوكُ الصَّالِحِ إِسْمَاعِيلَ، وَالشِّهَابُ غَازِيٌّ وَالِي بُصْرَى، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى مِصْرَ لَمْ يَكُنْ إِلَيْهِمْ شَيْءٌ مِنَ الْعُقُوبَاتِ وَالْإِهَانَةِ، بَلْ خَلَعَ عَلَى بعضهم وتركوا باختيارهم مكرمين.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ.
الْحُسَيْنُ بْنُ الحسين بن على
ابن حمزة العلويّ الحسيني، أبو عبد الله الافساسى النَّقِيبُ قُطْبُ الدِّينِ، أَصْلُهُ مِنَ الْكُوفَةِ وَأَقَامَ بِبَغْدَادَ، وَوَلِيَ النِّقَابَةَ، ثُمَّ اعْتُقِلَ بِالْكُوفَةِ، وَكَانَ فَاضِلًا أَدِيبًا شَاعِرًا مُطَبِّقًا، أَوْرَدَ لَهُ ابْنُ الساعي أشعارا كثيرة رحمه الله.
الشلوپين النحويّ
هو عمر بن محمد بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَزْدِيُّ، أَبُو عَلِيٍّ الْأَنْدَلُسِيُّ الإشبيلي، المعروف بالشلوپين. وَهُوَ بِلُغَةِ الْأَنْدَلُسِيِّينَ الْأَبْيَضُ الْأَشْقَرُ. قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: خُتِمَ بِهِ أَئِمَّةُ النَّحْوِ، وَكَانَ فِيهِ تَغَفُّلٌ، وَذَكَرَ لَهُ شِعْرًا وَمُصَنَّفَاتٍ، مِنْهَا شَرْحُ الْجُزُولِيَّةِ وَكِتَابُ التَّوْطِئَةِ. وَأَرَّخَ وَفَاتَهُ بِهَذِهِ السَّنَةِ. وَقَدْ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَعَفَا عنه.
الشيخ على الْمَعْرُوفُ بِالْحَرِيرِيِّ
أَصْلُهُ مِنْ قَرْيَةِ بُسْرَ شَرْقِيَّ ذرع، وَأَقَامَ بِدِمَشْقَ مُدَّةً يَعْمَلُ صَنْعَةَ الْحَرِيرِ، ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ وَأَقْبَلَ يَعْمَلُ الْفَقِيرِيَّ عَلَى يَدِ الشيخ على المغربل، وَابْتَنَى لَهُ زَاوِيَةً عَلَى الشَّرَفِ الْقِبْلِيِّ، وَبَدَرَتْ مِنْهُ أَفْعَالٌ أَنْكَرَهَا عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ، كَالشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ، وَالشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابن الصَّلَاحِ، وَالشَّيْخِ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْحَاجِبِ شَيْخِ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، فَلَمَّا كَانَتِ الدَّوْلَةُ الْأَشْرَفِيَّةُ حُبِسَ فِي قَلْعَةِ عَزَّتَا مُدَّةَ سِنِينَ ثُمَّ أَطْلَقَهُ الصَّالِحُ إِسْمَاعِيلُ وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُقِيمَ بِدِمَشْقَ، فَلَزِمَ بَلَدَهُ بُسْرَ مُدَّةً حَتَّى كَانَتْ وفاته في

(13/173)


هَذِهِ السَّنَةِ، قَالَ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو شَامَةَ فِي الذَّيْلِ: وَفِي رَمَضَانَ أَيْضًا تُوُفِّيَ الشَّيْخُ عَلِيٌّ الْمَعْرُوفُ بِالْحَرِيرِيِّ الْمُقِيمُ بِقَرْيَةِ بُسْرَ فِي زَاوِيَتِهِ، وَكَانَ يَتَرَدَّدُ إِلَى دِمَشْقَ، وَتَبِعَهُ طائفة من الفقراء وهم المعروفون بأصحاب الحريري أصحاب الْمُنَافِي لِلشَّرِيعَةِ، وَبَاطِنُهُمْ شَرٌّ مِنْ ظَاهِرِهِمْ، إِلَّا مَنْ رَجَعَ إِلَى اللَّهِ مِنْهُمْ، وَكَانَ عِنْدَ هَذَا الْحَرِيرِيِّ مِنَ الِاسْتِهْزَاءِ بِأُمُورِ الشَّرِيعَةِ وَالتَّهَاوُنِ فيها مِنْ إِظْهَارِ شَعَائِرِ أَهْلِ الْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ شَيْءٌ كَثِيرٌ، وَانْفَسَدَ بِسَبَبِهِ جَمَاعَةٌ كَبِيرَةٌ مِنْ أَوْلَادِ كُبَرَاءِ دِمَشْقَ وَصَارُوا عَلَى زِيِّ أَصْحَابِهِ، وَتَبِعُوهُ بِسَبَبِ أَنَّهُ كَانَ خَلِيعَ الْعِذَارِ، يَجْمَعُ مَجْلِسُهُ الغنا الدَّائِمَ وَالرَّقْصَ وَالْمُرْدَانَ، وَتَرْكَ الْإِنْكَارِ عَلَى أَحَدٍ فيما يفعله، وترك الصلوات وكثرت النَّفَقَاتِ، فَأَضَلَّ خَلْقًا كَثِيرًا وَأَفْسَدَ جَمًّا غَفِيرًا، وَلَقَدْ أَفْتَى فِي قَتْلِهِ مِرَارًا جَمَاعَةٌ مِنْ عُلَمَاءِ الشَّرِيعَةِ، ثُمَّ أَرَاحَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ. هَذَا لَفْظُهُ بِحُرُوفِهِ.
وَاقِفُ الْعِزِّيَّةِ الْأَمِيرُ عِزُّ الدين أيبك
أستاذ دار المعظم، كان مِنَ الْعُقَلَاءِ الْأَجْوَادِ الْأَمْجَادِ، اسْتَنَابَهُ الْمُعَظَّمُ عَلَى صرخد وظهرت منه نهضة وكفاية وسداد، وَوَقَفَ الْعِزِّيَّتَيْنِ الْجَوَّانِيَّةَ وَالْبَرَّانِيَّةَ، وَلَمَّا أَخَذَ مِنْهُ الصَّالِحُ أَيُّوبُ صَرْخَدَ عَوَّضَهُ عَنْهَا وَأَقَامَ بِدِمَشْقَ ثُمَّ وُشِيَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ يُكَاتِبُ الصَّالِحَ إِسْمَاعِيلَ فَاحْتِيطَ عَلَيْهِ وَعَلَى أَمْوَالِهِ وَحَوَاصِلِهِ فَمَرِضَ وَسَقَطَ إِلَى الْأَرْضِ، وَقَالَ: هَذَا آخِرُ عَهْدِي. وَلَمْ يَتَكَلَّمْ حَتَّى مَاتَ وَدُفِنَ بِبَابِ النَّصْرِ بِمِصْرَ رحمه الله تعالى، ثُمَّ نُقِلَ إِلَى تُرْبَتِهِ الَّتِي فَوْقَ الْوَرَّاقَةِ. وَإِنَّمَا أَرَّخَ السِّبْطُ وَفَاتَهُ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ فاللَّه أَعْلَمُ.
الشِّهَابُ غَازِيُّ بْنُ الْعَادِلِ
صَاحِبُ مَيَّافَارِقِينَ وَخِلَاطَ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْبُلْدَانِ، كَانَ مِنْ عُقَلَاءِ بَنِي أَيُّوبَ وَفُضَلَائِهِمْ، وَأَهْلِ الدِّيَانَةِ مِنْهُمْ، وَمِمَّا أَنْشَدَ قَوْلُهُ:
وَمِنْ عَجَبِ الْأَيَّامِ أَنَّكَ جَالِسٌ ... عَلَى الْأَرْضِ فِي الدُّنْيَا وَأَنْتَ تَسِيرُ
فَسَيْرُكَ يَا هَذَا كَسَيْرِ سَفِينَةٍ ... بِقَوْمٍ جُلُوسٍ وَالْقُلُوعُ تَطِيرُ
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وأربعين وستمائة
فيها قدم السلطان الصالح نجم الدين مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ إِلَى دِمَشْقَ وَجَهَّزَ الْجُيُوشَ وَالْمَجَانِيقَ إِلَى حِمْصَ، لِأَنَّهُ كَانَ صَاحِبُهَا الْمَلِكُ الأشرف بن موسى بن المنصور بن أسد الدين قد قايض بها إلى تَلَّ بَاشِرٍ لِصَاحِبِ حَلَبَ النَّاصِرِ يُوسُفَ بْنِ الْعَزِيزِ، وَلَمَّا عَلِمَتِ الْحَلَبِيُّونَ بِخُرُوجِ الدَّمَاشِقَةِ بَرَزُوا أَيْضًا فِي جَحْفَلٍ عَظِيمٍ لِيَمْنَعُوا حِمْصَ مِنْهُمْ، واتفق الشيخ نجم الدين البادزاى مدرس النظامية ببغدادى فِي رِسَالَةٍ فَأَصْلَحَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَرَدَّ كُلًّا مِنَ الْفِئَتَيْنِ إِلَى مُسْتَقَرِّهَا وللَّه الْحَمْدُ. وَفِيهَا قتل مملوك تركي شاب صبي لسيده عَلَى دَفْعِهِ عَنْهُ لَمَّا أَرَادَ بِهِ مِنَ الْفَاحِشَةِ، فَصُلِبَ الْغُلَامُ مُسَمَّرًا، وَكَانَ شَابًّا حَسَنًا جِدًّا فَتَأَسَّفَ النَّاسُ لَهُ لِكَوْنِهِ صَغِيرًا وَمَظْلُومًا وَحَسَنًا، وَنَظَمُوا فِيهِ قَصَائِدَ، وَمِمَّنْ نَظَمَ فِيهِ الشيخ شهاب

(13/174)


الدِّينِ أَبُو شَامَةَ فِي الذَّيْلِ، وَقَدْ أَطَالَ قِصَّتَهُ جِدًّا. وَفِيهَا سَقَطَتْ قَنْطَرَةٌ رُومِيَّةٌ قَدِيمَةُ الْبِنَاءِ بِسُوقِ الدَّقِيقِ مِنْ دِمَشْقَ، عِنْدَ قَصْرِ أُمِّ حَكِيمٍ، فَتَهَدَّمَ بِسَبَبِهَا شَيْءٌ كَثِيرٌ مِنَ الدُّورِ وَالدَّكَاكِينِ، وَكَانَ سُقُوطُهَا نَهَارًا. وَفِي لَيْلَةِ الْأَحَدِ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ وَقَعَ حَرِيقٌ بِالْمَنَارَةِ الشَّرْقِيَّةِ فَأَحْرَقَ جَمِيعَ حَشْوِهَا، وَكَانَتْ سَلَالِمُهَا سِقَالَاتٍ مِنْ خَشَبٍ، وَهَلَكَ لِلنَّاسِ وَدَائِعُ كَثِيرَةٌ كانت فيها، وسلم الله الجامع وله الْحَمْدُ. وَقَدِمَ السُّلْطَانُ بَعْدَ أَيَّامٍ إِلَى دِمَشْقَ فَأَمَرَ بِإِعَادَتِهَا كَمَا كَانَتْ، قُلْتُ: ثُمَّ احْتَرَقَتْ وَسَقَطَتْ بِالْكُلِّيَّةِ بَعْدَ سَنَةِ أَرْبَعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ وَأُعِيدَتْ عِمَارَتُهَا أَحْسَنَ مِمَّا كَانَتْ وللَّه الْحَمْدُ. وَبَقِيَتْ حِينَئِذٍ الْمَنَارَةُ الْبَيْضَاءُ الشَّرْقِيَّةُ بِدِمَشْقَ كَمَا نَطَقَ بِهِ الْحَدِيثُ فِي نُزُولِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَيْهَا، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ وَتَقْرِيرُهُ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ثُمَّ عَادَ السُّلْطَانُ الصَّالِحُ أَيُّوبُ مَرِيضًا فِي مِحَفَّةٍ إِلَى الدِّيَارِ المصرية وهو ثقيل مدنف، شغله ما هُوَ فِيهِ عَنْ أَمْرِهِ بِقَتْلِ أَخِيهِ الْعَادِلِ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْكَامِلِ الَّذِي كَانَ صَاحِبَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ بَعْدَ أَبِيهِ، وَقَدْ كَانَ سَجَنَهُ سَنَةَ اسْتَحْوَذَ عَلَى مِصْرَ، فَلَمَّا كَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي شَوَّالِهَا أَمَرَ بِخَنْقِهِ فَخُنِقَ بِتُرْبَةِ شَمْسِ الدَّوْلَةِ، فَمَا عُمِّرَ بَعْدَهُ إِلَّا إِلَى النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ فِي أَسْوَأِ حَالٍ، وَأَشَدِّ مَرَضٍ، فَسُبْحَانَ مَنْ لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ.
وَفِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ
قَاضِي القضاة بالديار المصرية.
فضل الدِّينِ الْخُونَجِيِّ
الْحَكِيمِ الْمَنْطِقِيِّ الْبَارِعِ فِي ذَلِكَ، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ جَيِّدَ السِّيرَةِ فِي أَحْكَامِهِ قَالَ أَبُو شَامَةَ: أَثْنَى عَلَيْهِ.
غَيْرُ وَاحِدٍ.
عَلِيُّ بْنُ يَحْيَى جَمَالُ الدِّينِ أَبُو الْحَسَنِ المحرمي
كَانَ شَابًّا فَاضِلًا أَدِيبًا شَاعِرًا مَاهِرًا، صَنَّفَ كِتَابًا مُخْتَصَرًا وَجِيزًا جَامِعًا لِفُنُونٍ كَثِيرَةٍ فِي الرِّيَاضَةِ وَالْعَقْلِ وَذَمِّ الْهَوَى، وَسَمَّاهُ نَتَائِجَ الْأَفْكَارِ. قَالَ فِيهِ مِنَ الْكَلِمِ الْمُسْتَفَادَةِ الْحِكْمِيَّةِ: السُّلْطَانُ إِمَامٌ مَتْبُوعٌ، وَدِينٌ مَشْرُوعٌ، فَإِنْ ظَلَمَ جَارَتِ الْحُكَّامُ لِظُلْمِهِ، وَإِنْ عَدَلَ لَمْ يَجُرْ أَحَدٌ فِي حُكْمِهِ، مَنْ مَكَّنَهُ اللَّهُ فِي أَرْضِهِ وَبِلَادِهِ وَائْتَمَنَهُ عَلَى خَلْقِهِ وَعِبَادِهِ، وَبَسَطَ يَدَهُ وَسُلْطَانَهُ، وَرَفَعَ مَحَلَّهُ وَمَكَانَهُ، فَحَقِيقٌ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ الْأَمَانَةَ، وَيُخْلِصَ الدِّيَانَةَ، وَيُجَمِّلَ السَّرِيرَةَ، وَيُحْسِنَ السيرة، ويجعل العدل دأبه المعهود، والأجر غَرَضِهِ الْمَقْصُودَ، فَالظُّلْمُ يُزِلُّ الْقَدَمَ، وَيُزِيلُ النِّعَمَ، ويجلب الفقر، وَيُهْلِكُ الْأُمَمَ.
وَقَالَ أَيْضًا: مُعَارَضَةُ الطَّبِيبِ تُوجِبُ التعذيب، رب حيلة أنفع من قبيلة، سَمِينُ الْغَضَبِ مَهْزُولٌ، وَوَالِي الْغَدْرِ مَعْزُولٌ، قُلُوبُ الْحُكَمَاءِ تَسْتَشِفُّ الْأَسْرَارَ مِنْ لَمَحَاتِ الْأَبْصَارِ، ارْضَ مِنْ أَخِيكَ فِي وِلَايَتِهِ بِعُشْرِ مَا كُنْتَ تعهده في مَوَدَّتِهِ، التَّوَاضُعُ مِنْ مَصَائِدِ الشَّرَفِ، مَا أَحْسَنَ حُسْنَ الظَّنِّ لَوْلَا أَنَّ فِيهِ الْعَجْزَ. مَا أَقْبَحَ سُوءَ الظَّنِّ لَوْلَا أَنَّ فِيهِ الْحَزْمَ. وذكر في غضون كَلَامِهِ أَنَّ خَادِمًا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَذْنَبَ فَأَرَادَ ابْنُ عُمَرَ أَنْ يُعَاقِبَهُ عَلَى ذَنْبِهِ فَقَالَ: يَا سَيِّدِي أَمَا لَكَ ذَنْبٌ تخاف من الله فيه؟ قال بلى،

(13/175)


قال بالذي أَمْهَلَكَ لَمَّا أَمْهَلْتَنِي، ثُمَّ أَذْنَبَ الْعَبْدُ ثَانِيًا فَأَرَادَ عُقُوبَتَهُ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ فَعَفَا عَنْهُ، ثُمَّ أَذْنَبَ الثَّالِثَةَ فَعَاقَبَهُ وَهُوَ لَا يَتَكَلَّمُ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ: مَا لَكَ لم تقل مثل مَا قُلْتَ فِي الْأَوَّلَتَيْنِ؟ فَقَالَ:
يَا سَيِّدِي حَيَاءً مِنْ حِلْمِكَ مَعَ تَكْرَارِ جُرْمِي. فَبَكَى ابْنُ عُمَرَ وَقَالَ: أَنَا أَحَقُّ بِالْحَيَاءِ مِنْ رَبِّي، أَنْتَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى. وَمِنْ شعره يمدح الخليفة.
يا من إذا بخل السَّحَابُ بِمَائِهِ ... هَطَلَتْ يَدَاهُ عَلَى الْبَرِيَّةِ عَسْجَدَا
جَوَّرْتَ كِسْرَى يَا مُبَخِّلَ حَاتِمٍ ... فَغَدَتْ بَنُو الْآمَالِ نَحْوَكَ سُجَّدَا
وَقَدْ أَوْرَدَ لَهُ ابْنُ السَّاعِي أَشْعَارًا كَثِيرَةً حَسَنَةً رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
الشَّيْخُ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْحَاجِبِ
الْمَالِكِيُّ عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ يُونُسَ الروينى ثم المصري، العلامة أبو عمرو شيخ المالكية كان أبوه صاحبا لِلْأَمِيرِ عِزِّ الدِّينِ مُوسَكَ الصَّلَاحِيِّ، وَاشْتَغَلَ هُوَ بِالْعِلْمِ فَقَرَأَ الْقِرَاءَاتِ وَحَرَّرَ النَّحْوَ تَحْرِيرًا بَلِيغًا، وَتَفَقَّهَ وَسَادَ أَهْلَ عَصْرِهِ، ثُمَّ كَانَ رَأْسًا فِي عُلُومٍ كَثِيرَةٍ، مِنْهَا الْأُصُولُ وَالْفُرُوعُ وَالْعَرَبِيَّةُ وَالتَّصْرِيفُ وَالْعَرُوضُ وَالتَّفْسِيُر وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَقَدْ كَانَ استوطن دمشق في سنة سبع عشرة وستمائة، وَدَرَّسَ بِهَا لِلْمَالِكِيَّةِ بِالْجَامِعِ حَتَّى كَانَ خُرُوجُهُ بِصُحْبَةِ الشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ، فَصَارَا إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ حَتَّى كَانَتْ وَفَاةُ الشَّيْخِ أَبِي عَمْرٍو فِي هَذِهِ السَّنَةِ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، وَدُفِنَ بِالْمَقْبَرَةِ الَّتِي بين المنارة والبلد. قال الشيخ شهاب الدين أَبُو شَامَةَ: وَكَانَ مِنْ أَذْكَى الْأَئِمَّةِ قَرِيحَةً، وَكَانَ ثِقَةً حُجَّةً مُتَوَاضِعًا عَفِيفًا كَثِيرَ الْحَيَاءِ مُنْصِفًا مُحِبًّا لِلْعِلْمِ وَأَهْلِهِ، نَاشِرًا لَهُ مُحْتَمِلًا لِلْأَذَى صَبُورًا عَلَى الْبَلْوَى، قَدِمَ دِمَشْقَ مِرَارًا آخِرُهَا سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ، فَأَقَامَ بِهَا مُدَرِّسًا لِلْمَالِكِيَّةِ وَشَيْخًا لِلْمُسْتَفِيدِينَ عَلَيْهِ فِي عِلْمَيِ الْقِرَاءَاتِ وَالْعَرَبِيَّةِ، وَكَانَ رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، بَارِعًا فِي الْعُلُومِ مُتْقِنًا لِمَذْهَبِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ ابْنُ خَلِّكَانَ ثَنَاءً كَثِيرًا، وَذَكَرَ أَنَّهُ جَاءَ إِلَيْهِ فِي أَدَاءِ شَهَادَةٍ حِينَ كان نَائِبًا فِي الْحُكْمِ بِمِصْرَ وَسَأَلَهُ عَنْ مَسْأَلَةِ اعتراض الشرط على الشرط، إذا قَالَ إِنْ أَكَلْتِ إِنْ شَرِبْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، لم كان يقع الطلاق حين شربت أَوَّلًا؟ وَذَكَرَ أَنَّهُ أَجَابَ عَنْ ذَلِكَ فِي تؤدة وسكون. قلت ومختصره فِي الْفِقْهِ مِنْ أَحْسَنِ الْمُخْتَصَرَاتِ، انْتَظَمَ فِيهِ فوائد ابن شاش، ومختصره فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، اسْتَوْعَبَ فِيهِ عَامَّةَ فَوَائِدِ الْإِحْكَامِ لِسَيْفِ الدِّينِ الْآمِدِيِّ، وَقَدْ مَنَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيَّ بِحِفْظِهِ وَجَمَعْتُ كَرَارِيسَ فِي الْكَلَامِ عَلَى مَا أَوْدَعَهُ فِيهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ، وللَّه الحمد. وَلَهُ شَرْحُ الْمُفَصَّلِ وَالْأَمَالِي فِي الْعَرَبِيَّةِ وَالْمُقَدِّمَةُ الْمَشْهُورَةُ فِي النَّحْوِ، اخْتَصَرَ فِيهَا مُفَصَّلَ الزَّمَخْشَرِيِّ وَشَرَحَهَا، وَقَدْ شَرَحَهَا غَيْرُهُ أَيْضًا، وَلَهُ التَّصْرِيفُ وشرحه، وله عروض عَلَى وَزْنِ الشَّاطِبِيَّةِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ.

(13/176)