البداية والنهاية، ط. دار الفكر
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وستين
وستمائة
استهلت وسلطان البلاد الشامية والمصرية الظاهر بيبرس، وعلى الشام نائبة
آقوش النجيبى، وقاضى دمشق ابن خَلِّكَانَ وَالْوَزِيرُ بِهَا عِزُّ
الدِّينِ بْنُ وَدَاعَةَ، وَلَيْسَ لِلنَّاسِ خَلِيفَةٌ، وَإِنَّمَا
تَضْرِبُ السِّكَّةُ بِاسْمِ المستنصر الّذي قتل.
ذِكْرُ خِلَافَةِ الْحَاكِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ أَبِي الْعَبَّاسِ
أحمد بن الأمير أبى على القبى ابن الْأَمِيرِ عَلِيِّ بْنِ الْأَمِيرِ
أَبِي بَكْرِ بْنِ الْإِمَامِ الْمُسْتَرْشِدِ باللَّه أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ أَبِي مَنْصُورٍ الْفَضْلِ بن الامام المستظهر باللَّه
أحمد العباسي الهاشمي. لما كان ثانى المحرم وهو يوم الخميس، جلس
السلطان الظاهر والأمراء فِي الْإِيوَانِ الْكَبِيرِ بِقَلْعَةِ
الْجَبَلِ، وَجَاءَ الْخَلِيفَةُ الْحَاكِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ رَاكِبًا
حَتَّى نَزَلَ عِنْدَ الْإِيوَانِ، وَقَدْ بُسِطَ لَهُ إِلَى جَانِبِ
السُّلْطَانِ وذلك بعد ثبوت نسبه، ثم قرئ نسبه على الناس ثم أقبل عليه
الظَّاهِرُ بِيبَرْسُ فَبَايَعَهُ وَبَايَعَهُ النَّاسُ بَعْدَهُ،
وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ
ثَانِيهِ خَطَبَ الْخَلِيفَةُ بِالنَّاسِ فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ
«الْحَمْدُ للَّه الَّذِي أَقَامَ لِآلِ الْعَبَّاسِ رُكْنًا ظَهِيرًا،
وَجَعَلَ لَهُمْ مِنْ لَدُنْهُ سُلْطَانًا نَصِيرًا، أَحْمَدُهُ عَلَى
السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَأَسْتَعِينُهُ عَلَى شُكْرِ مَا أَسْبَغَ
مِنَ النَّعْمَاءِ، وَأَسْتَنْصِرُهُ عَلَى دَفْعِ الْأَعْدَاءِ،
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ
وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ نجوم الاهتداء وأئمة الافتداء، لا
سيما الأربعة، وعلى العباس كاشف غمه أبى السادة الخلفاء وَعَلَى
بَقِيَّةِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ وَالتَّابِعَيْنَ لَهُمْ
بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، أَيُّهَا النَّاسُ اعْلَمُوا أَنَّ
الْإِمَامَةَ فَرْضٌ مِنْ فُرُوضِ الْإِسْلَامِ، وَالْجِهَادُ
مَحْتُومٌ عَلَى جَمِيعِ الْأَنَامِ، وَلَا يَقُومُ عَلَمُ الْجِهَادِ
إِلَّا بِاجْتِمَاعِ كَلِمَةِ الْعِبَادِ، وَلَا سُبِيَتِ الْحُرَمُ
إِلَّا بِانْتِهَاكِ الْمَحَارِمِ، وَلَا سُفِكَتِ الدِّمَاءُ إِلَّا
بِارْتِكَابِ الْجَرَائِمِ، فَلَوْ شَاهَدْتُمْ أَعْدَاءَ الْإِسْلَامِ
لَمَّا دَخَلُوا دَارَ السَّلَامِ، وَاسْتَبَاحُوا الدِّمَاءَ
وَالْأَمْوَالَ وَقَتَلُوا الرجال والأطفال، وسبوا الصبيان والبنات،
وأيتموهم من الآباء والأمهات، وهتكوا حرم الخلافة والحريم، وعلت
الصيحات مِنْ هَوْلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ الطَّوِيلِ، فَكَمْ مِنْ شَيْخٍ
خُضِّبَتْ شَيْبَتُهُ
(13/237)
بِدِمَائِهِ، وَكَمْ مِنْ طِفْلٍ بَكَى
فَلَمْ يُرْحَمْ لبكائه، فشمروا عباد الله عَنْ سَاقِ الِاجْتِهَادِ
فِي إِحْيَاءِ فَرْضِ الْجِهَادِ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ
64: 16 وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ
وَمن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ 64: 16
فَلَمْ يَبْقَ مَعْذِرَةٌ فِي الْقُعُودِ عَنْ أَعْدَاءِ الدِّينِ،
وَالْمُحَامَاةِ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا السُّلْطَانُ الْمَلِكُ
الظَّاهِرُ السَّيِّدُ الْأَجَلُّ الْعَالِمُ الْعَادِلُ الْمُجَاهِدُ
الْمُؤَيَّدُ رُكْنُ الدُّنْيَا وَالدِّينِ، قَدْ قَامَ بِنَصْرِ
الْإِمَامَةِ عِنْدَ قِلَّةِ الْأَنْصَارِ، وَشَرَّدَ جُيُوشَ
الْكُفْرِ بَعْدَ أن جاسوا خلال الديار، وأصبحت البيعة بهمته
مُنْتَظِمَةَ الْعُقُودِ، وَالدَّوْلَةُ الْعَبَّاسِيَّةُ بِهِ
مُتَكَاثِرَةَ الْجُنُودِ، فَبَادِرُوا عِبَادَ اللَّهِ إِلَى شُكْرِ
هَذِهِ النِّعْمَةِ، وَأَخْلِصُوا نِيَّاتِكُمْ تُنْصَرُوا،
وَقَاتَلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ تَظْفَرُوا، وَلَا يُرَوِّعُكُمْ
مَا جَرَى فَالْحَرْبُ سِجَالٌ وَالْعَاقِبَةُ للمتقين، والدهر يومان
والأجر للمؤمنين، جميع اللَّهُ عَلَى الْهُدَى أَمْرَكُمْ، وَأَعَزَّ
بِالْإِيمَانِ نَصْرَكُمْ، وأستغفر الله لي وَلِسَائِرِ
الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ»
. ثُمَّ خَطَبَ الثَّانِيَةَ وَنَزَلَ فَصَلَّى، وَكَتَبَ بَيْعَتَهُ
إِلَى الْآفَاقِ لِيُخْطَبَ لَهُ وَضُرِبَتِ السِّكَّةُ بِاسْمِهِ.
قَالَ أَبُو شَامَةَ: فَخُطِبَ لَهُ بِجَامِعِ دِمَشْقَ وَسَائِرِ
الْجَوَامِعِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ سَادِسَ عَشَرَ الْمُحَرَّمِ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ. وَهَذَا الْخَلِيفَةُ هُوَ التَّاسِعُ
وَالثَّلَاثُونَ مِنْ خُلَفَاءِ بَنِي الْعَبَّاسِ، وَلَمْ يَلِ
الْخِلَافَةَ مِنْ بَنِي الْعَبَّاسِ مَنْ لَيْسَ وَالِدُهُ وَجَدُّهُ
خَلِيفَةً بَعْدَ السَّفَّاحِ وَالْمَنْصُورِ سِوَى هَذَا، فَأَمَّا
مَنْ لَيْسَ وَالِدُهُ خَلِيفَةً فَكَثِيرٌ مِنْهُمُ المستعين أحمد بن
محمد ابن الْمُعْتَصِمِ، وَالْمُعْتَضِدُ بْنُ طَلْحَةَ بْنِ
الْمُتَوَكِّلِ، وَالْقَادِرُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ الْمُقْتَدِرِ،
وَالْمُقْتَدِي بْنُ الذَّخِيرَةِ ابن الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ.
ذِكْرُ أَخْذِ الظَّاهِرِ الْكَرَكَ وإعدام صاحبها
ركب الظاهر من مصر فِي الْعَسَاكِرِ الْمَنْصُورَةِ قَاصِدًا نَاحِيَةَ
بِلَادِ الْكَرَكِ، وَاسْتَدْعَى صَاحِبَهَا الْمَلِكَ الْمُغِيثَ
عُمَرَ بْنَ الْعَادِلِ أبى بكر بن الكامل، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ
بَعْدَ جُهْدٍ أَرْسَلَهُ إِلَى مصر مُعْتَقَلًا فَكَانَ آخِرَ
الْعَهْدِ بِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَاتَبَ هُولَاكُو وَحَثَّهُ عَلَى
الْقُدُومِ إِلَى الشَّامِ مَرَّةً أُخْرَى، وَجَاءَتْهُ كُتُبُ
التَّتَارِ بِالثَّبَاتِ وَنِيَابَةِ البلاد، وأنهم قادمون عَلَيْهِ
عِشْرُونَ أَلْفًا لِفَتْحِ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَأَخْرَجَ
السُّلْطَانُ فَتَاوَى الْفُقَهَاءِ بِقَتْلِهِ وَعَرَضَ ذَلِكَ عَلَى
ابْنِ خَلِّكَانَ، وَكَانَ قَدِ اسْتَدْعَاهُ مِنْ دِمَشْقَ، وَعَلَى
جَمَاعَةٍ مِنَ الْأُمَرَاءِ، ثُمَّ سَارَ فَتَسَلَّمَ الْكَرَكَ
يَوْمَ الْجُمُعَةِ ثَالِثَ عَشَرَ جُمَادَى الْأُولَى ودخلها يومئذ في
أبهة الملك، ثم عاد إلى مصر مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا.
وَفِيهَا قَدِمَتْ رُسُلُ بَرَكَةَ خَانَ إِلَى الظَّاهِرِ يَقُولُ
لَهُ: قَدْ عَلِمْتَ مَحَبَّتِي للإسلام، وَعَلِمْتَ مَا فَعَلَ
هُولَاكُو بِالْمُسْلِمِينَ، فَارْكَبْ أَنْتَ من ناحية حتى آتيه أَنَا
مِنْ نَاحِيَةٍ حَتَّى نَصْطَلِمَهُ أَوْ نُخْرِجَهُ من البلاد وأعطيك
جَمِيعَ مَا كَانَ بِيَدِهِ مِنَ الْبِلَادِ، فَاسْتَصْوَبَ الظَّاهِرُ
هَذَا الرَّأْيَ وَشَكَرَهُ وَخَلَعَ عَلَى رُسُلِهِ وَأَكْرَمَهُمْ.
وَفِيهَا زُلْزِلَتِ الْمَوْصِلُ زَلْزَلَةً عَظِيمَةً وَتَهَدَّمَتْ
أَكْثَرُ دُورِهَا، وَفِي رَمَضَانَ جَهَّزَ الظَّاهِرُ صُنَّاعًا
وَأَخْشَابًا وَآلَاتٍ كَثِيرَةً لِعِمَارَةِ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ حَرِيقِهِ فَطِيفَ بتلك
الأخشاب والآلات
(13/238)
بمصر فرحة وتعظيما لشأنها، ثُمَّ سَارُوا
بِهَا إِلَى الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَفِي شَوَّالٍ سَارَ
الظَّاهِرُ إِلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ فَنَظَرَ فِي أَحْوَالِهَا
وَأُمُورِهَا، وَعَزَلَ قَاضِيَهَا وَخَطِيبَهَا نَاصِرَ الدِّينِ
أَحْمَدَ بْنَ الْمُنِيرِ وَوَلَّى غَيْرَهُ.
وَفِيهَا الْتَقَى بركه خان وهولاكو وَمَعَ كُلِّ وَاحِدٍ جُيُوشٌ
كَثِيرَةٌ فَاقْتَتَلُوا فَهُزِمَ الله هُولَاكُو هَزِيمَةً فَظِيعَةً
وَقُتِلَ أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ وَغَرِقَ أَكْثَرُ مَنْ بَقِيَ وَهَرَبَ
هُوَ فِي شِرْذِمَةٍ يسيرة وللَّه الحمد. ولما نظر بركه خان كَثْرَةِ
الْقَتْلَى قَالَ يَعِزُّ عَلَيَّ أَنْ يَقْتُلَ الْمَغُولُ بَعْضُهُمْ
بَعْضًا وَلَكِنْ كَيْفَ الْحِيلَةُ فِيمَنْ غير سنة جنكيزخان ثُمَّ
أَغَارَ بَرَكَةُ خَانَ عَلَى بِلَادِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ
فَصَانَعَهُ صَاحِبُهَا وَأَرْسَلَ الظَّاهِرُ هَدَايَا عَظِيمَةً
إِلَى بركه خان، وقد أقام التركي بِحَلَبَ خَلِيفَةً آخَرَ لَقَّبَهُ
بِالْحَاكِمِ، فَلَمَّا اجْتَازَ بِهِ الْمُسْتَنْصِرُ سَارَ مَعَهُ
إِلَى الْعِرَاقِ وَاتَّفَقَا على المصلحة وإنفاذ الحاكم المستنصر
لكونه أكبر منه وللَّه الحمد، ولكن خرج عليهما طَائِفَةٌ مِنَ
التَّتَارِ فَفَرَّقُوا شَمْلَهُمَا وَقَتَلُوا خَلْقًا مِمَّنْ كَانَ
مَعَهُمَا، وَعُدِمَ الْمُسْتَنْصِرُ وَهَرَبَ الْحَاكِمُ مع الأعراب.
وَقَدْ كَانَ الْمُسْتَنْصِرُ هَذَا فَتَحَ بُلْدَانًا كَثِيرَةً في
مسيره من الشام إِلَى الْعِرَاقِ، وَلَمَّا قَاتَلَهُ بَهَادُرُ عَلَى
شِحْنَةِ بَغْدَادَ كَسَرَهُ الْمُسْتَنْصِرُ وَقَتَلَ أَكْثَرَ
أَصْحَابِهِ، وَلَكِنْ خرج كمين من التتار نجدة فَهَرَبَ الْعُرْبَانُ
وَالْأَكْرَادُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ الْمُسْتَنْصِرِ وَثَبَتَ هُوَ
فِي طَائِفَةٍ مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ من الترك فقتل أكثرهم وفقد هو من
بينهم، ونجا الحاكم في طائفة، وكانت الوقعة فِي أَوَّلِ الْمُحَرَّمِ
مِنْ سَنَةِ سِتِّينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَشْبَهَ
الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ فِي تَوَغُّلِهِ فِي أَرْضِ الْعِرَاقِ مَعَ
كَثْرَةِ جنودها، وكان الأولى له أن يستقر في بلاد الشام حتى تتمهد له
الأمور ويصفو الحال، وَلَكِنْ قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ.
وَجَهَّزَ السُّلْطَانُ جَيْشًا آخَرَ مَنْ دِمَشْقَ إِلَى بِلَادِ
الْفِرِنْجِ فَأَغَارُوا وَقَتَلُوا وَسَبَوْا وَرَجَعُوا سَالِمِينَ،
وَطَلَبَتِ الفرنج منه المصالحة فَصَالَحَهُمْ مُدَّةً لِاشْتِغَالِهِ
بِحَلَبَ وَأَعْمَالِهَا، وَكَانَ قَدْ عزل في شوال قاضى مصر تاج الدين
ابْنَ بِنْتِ الْأَعَزِّ وَوَلَّى عَلَيْهَا بُرْهَانَ الدِّينِ الخضر
بن الحسين السِّنْجَارِيَّ، وَعَزَلَ قَاضِي دِمَشْقَ نَجْمَ الدِّينِ
أَبَا بكر بن صدر الدين أحمد ابن شمس الدين بْنِ هِبَةِ اللَّهِ بْنِ
سَنِيِّ الدَّوْلَةِ، وَوَلَّى عليها شَمْسَ الدِّينِ أَحْمَدَ بْنَ
مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ خَلِّكَانَ،
وَقَدْ نَابَ فِي الْحُكْمِ بِالْقَاهِرَةِ مُدَّةً طَوِيلَةً عَنْ
بَدْرِ الدين السنجاري، وأضاف إِلَيْهِ مَعَ الْقَضَاءِ نَظَرَ
الْأَوْقَافِ، وَالْجَامِعِ وَالْمَارَسْتَانَ، وتدريس سبع مدارس،
العادلية والناصرية والغدراوية وَالْفَلَكِيَّةِ وَالرُّكْنِيَّةِ
وَالْإِقْبَالِيَّةِ وَالْبَهْنَسِيَّةِ، وَقُرِئَ تَقْلِيدُهُ يَوْمَ
عَرَفَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ بِالشُّبَّاكِ
الْكَمَالِيِّ مِنْ جَامِعِ دِمَشْقَ، وَسَافَرَ الْقَاضِي
الْمَعْزُولُ مُرَسَّمًا عَلَيْهِ. وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ الشَّيْخُ
أَبُو شَامَةَ وَذَكَرَ أَنَّهُ خَانَ فِي وَدِيعَةِ ذَهَبٍ جَعَلَهَا
فُلُوسًا فاللَّه أَعْلَمُ، وَكَانَتْ مُدَّةُ وِلَايَتِهِ سَنَةً
وَأَشْهُرًا. وَفِي يَوْمِ الْعِيدِ يَوْمَ السَّبْتِ سَافَرَ السلطان
إلى مصر، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ قَدِمَ عَلَى
السُّلْطَانِ بدمشق يتهددونه ويتوعدونه، ويطلبون منه إقطاعات كثيرة،
فلم يزل السلطان يُوقِعُ بَيْنَهُمْ حَتَّى اسْتَأْصَلَ شَأْفَتَهُمْ
وَاسْتَوْلَى عَلَى بلادهم.
(13/239)
وَفِي السَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ
رَبِيعٍ الْأَوَّلِ عُمِلَ عَزَاءُ السُّلْطَانِ الْمَلِكِ النَّاصِرِ
صَلَاحِ الدِّينِ يُوسُفَ ابن الْعَزِيزِ مُحَمَّدِ بْنِ الظَّاهِرِ
غَازِي بْنِ النَّاصِرِ صَلَاحِ الدِّينِ يُوسُفَ بْنِ أَيُّوبَ بْنِ
شَادِي فَاتِحِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَكَانَ عَمِلُ هَذَا الْعَزَاءِ
بقلعة الجبل بمصر، بِأَمْرِ السُّلْطَانِ الظَّاهِرِ رُكْنِ الدِّينِ
بِيبَرْسَ، وَذَلِكَ لَمَّا بَلَغَهُمْ أَنَّ هُولَاكُو مَلِكَ
التَّتَارِ قَتَلَهُ، وقد كان في قبضته منذ مدة، فلما بلغ هولاكو أن
أصحابه قد كسروا بِعَيْنِ جَالُوتَ طَلَبَهُ إِلَى بَيْنِ يَدَيْهِ
وَقَالَ له: أنت أرسلت إلى الجيوش بمصر حتى جاءوا فاقتتلوا مَعَ
الْمَغُولِ فَكَسَرُوهُمْ ثُمَّ أَمَرَ بِقَتْلِهِ، وَيُقَالُ إِنَّهُ
اعْتَذَرَ إِلَيْهِ وَذَكَرَ لَهُ أَنَّ الْمِصْرِيِّينَ كانوا أعداءه
وبينه وبينهم شنئان، فَأَقَالَهُ وَلَكِنَّهُ انْحَطَّتْ رُتْبَتُهُ
عِنْدَهُ، وَقَدْ كَانَ مُكَرَّمًا فِي خِدْمَتِهِ، وَقَدْ وَعَدَهُ
أَنَّهُ إِذَا ملك مصر اسْتَنَابَهُ فِي الشَّامِ فَلَمَّا كَانَتْ
وَقْعَةُ حِمْصَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقُتِلَ فِيهَا أَصْحَابُ
هُولَاكُو مَعَ مُقَدَّمِهِمْ بَيْدَرَةَ غَضِبَ وَقَالَ لَهُ
أَصْحَابُكَ في الْعَزِيزِيَّةِ أُمَرَاءِ أَبْيَكَ، وَالنَّاصِرِيَّةِ
مِنْ أَصْحَابِكَ قَتَلُوا أصحابنا، ثم أمر بقتله. وذكروا في كيفية
قتله أَنَّهُ رَمَاهُ بِالنُّشَّابِ وَهُوَ وَاقِفٌ بَيْنَ يَدَيْهِ
يسأله العفو فلم يعف عنه حتى قتله وقتل أخاه شقيقه الظَّاهِرَ
عَلِيًّا، وَأَطْلَقَ وَلَدَيْهِمَا الْعَزِيزَ مُحَمَّدَ بْنَ
النَّاصِرِ وَزِبَالَةَ بْنَ الظَّاهِرِ، وَكَانَا صَغِيرَيْنِ مِنْ
أَحْسَنِ أَشْكَالِ بَنِي آدَمَ. فَأَمَّا الْعَزِيزُ فَإِنَّهُ مات
هناك في أسر التتار، وأما زبالة فإنه سار إلى مصر وكان أَحْسَنَ مَنْ
بِهَا، وَكَانَتْ أُمُّهُ أَمَّ وَلَدٍ يُقَالُ لَهَا وَجْهُ
الْقَمَرِ، فَتَزَوَّجَهَا بَعْضُ الْأُمَرَاءِ بعد أستاذها، وَيُقَالُ
إِنَّ هُولَاكُو لَمَّا أَرَادَ قَتْلَ النَّاصِرِ أمر بأربع من الشجر
متباعدات بعضها عن بعض، فَجُمِعَتْ رُءُوسُهَا بِحِبَالٍ ثُمَّ رُبِطَ
النَّاصِرُ فِي الأربعة بِأَرْبَعَتِهِ ثُمَّ أُطْلِقَتِ الْحِبَالُ
فَرَجَعَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ إِلَى مَرْكَزِهَا بِعُضْوٍ مِنْ
أَعْضَائِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَقَدْ قِيلَ إِنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي
الْخَامِسِ والعشرين من شوال في سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ، وَكَانَ
مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ بِحَلَبَ. وَلَمَّا تُوَفِّي
أَبُوهُ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ بُويِعَ بِالسَّلْطَنَةِ
بِحَلَبَ وَعُمْرُهُ سَبْعُ سِنِينَ، وَقَامَ بِتَدْبِيرِ مَمْلَكَتِهِ
جَمَاعَةٌ مِنْ مَمَالِيكِ أبيه، وَكَانَ الْأَمْرُ كُلُّهُ عَنْ
رَأْيِ جَدَّتِهِ أَمِّ خاتون بنت الْعَادِلِ أَبِي بَكْرِ بْنِ
أَيُّوبَ، فَلَمَّا تُوُفِّيَتْ فِي سَنَةِ أَرْبَعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ
اسْتَقَلَّ النَّاصِرُ بِالْمُلْكِ، وكان جيد السيرة في الرعية
مُحَبَّبًا إِلَيْهِمْ، كَثِيرَ النَّفَقَاتِ، وَلَا سِيَّمَا لَمَّا
مَلَكَ دِمَشْقَ مَعَ حَلَبَ وَأَعْمَالِهَا وَبَعْلَبَكَّ وَحَرَّانَ
وطائفة كبيرة مِنْ بِلَادِ الْجَزِيرَةِ، فَيُقَالُ إِنَّ سِمَاطَهُ
كَانَ كل يوم يشتمل أَرْبَعِمِائَةِ رَأْسِ غَنَمٍ سِوَى الدَّجَاجِ
وَالْإِوَزِّ وَأَنْوَاعِ الطير، مطبوخا بأنواع الأطعمة والقلويات غير
المشوي والمقلى، وَكَانَ مَجْمُوعُ مَا يَغْرَمُ عَلَى السِّمَاطِ فِي
كُلِّ يَوْمٍ عِشْرِينَ أَلْفًا وَعَامَّتُهُ يَخْرُجُ مِنْ يَدَيْهِ
كَمَا هُوَ كَأَنَّهُ لَمْ يُؤْكَلْ مِنْهُ شَيْءٌ، فَيُبَاعُ عَلَى
بَابِ الْقَلْعَةِ بِأَرْخَصِ الْأَثْمَانِ حتى إن كثيرا من أرباب
البيوت كانوا لَا يَطْبُخُونَ فِي بُيُوتِهِمْ شَيْئًا مِنَ الطُّرَفِ
والأطعمة بل يشترون برخص ما لا يقدرون على مثله إلا بكلفة ونفقة كثيرة،
فيشترى أحدهم بنصف درهم أو بدرهم ما لا يقدر عليه إلا بخسارة كثيرة،
ولعله لا يقدر على مثله، وكانت الأرزاق كثيرة دارة فِي زَمَانِهِ
وَأَيَّامِهِ، وَقَدْ كَانَ خَلِيعًا ظَرِيفًا حسن
(13/240)
الشَّكْلِ أَدِيبًا يَقُولُ الشِّعْرَ
الْمُتَوَسِّطَ الْقَوِيَّ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، وَقَدْ أَوْرَدَ
لَهُ الشَّيْخُ قُطْبُ الدِّينِ فِي الذَّيْلِ قِطْعَةً صَالِحَةً مِنْ
شِعْرِهِ وَهِيَ رَائِقَةٌ لَائِقَةٌ. قُتِلَ بِبِلَادِ الْمَشْرِقِ
وَدُفِنَ هُنَاكَ، وَقَدْ كَانَ أَعَدَّ لَهُ تُرْبَةً بِرِبَاطِهِ
الَّذِي بَنَاهُ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ فَلَمْ يُقَدَّرْ دَفْنُهُ بِهَا،
وَالنَّاصِرِيَّةُ الْبَرَّانِيَّةُ بِالسَّفْحِ مِنْ أَغْرَبِ
الْأَبْنِيَةِ وَأَحْسَنِهَا بُنْيَانًا مِنَ الْمُوكَدِ الْمُحْكَمِ
قِبَلِيَّ جَامِعِ الْأَفْرَمِ، وَقَدْ بُنِي بَعْدَهَا بِمُدَّةٍ
طَوِيلَةٍ، وَكَذَلِكَ النَّاصِرِيَّةُ الْجَوَّانِيَّةُ الَّتِي
بَنَاهَا دَاخِلَ بَابِ الْفَرَادِيسِ هِيَ مِنْ أَحْسَنِ
الْمَدَارِسِ، وَبَنَى الْخَانَ الْكَبِيرَ تُجَاهَ الزِّنْجَارِيِّ
وَحُوِّلَتْ إِلَيْهِ دَارُ الطَّعْمِ، وَقَدْ كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ
غَرْبِيَّ الْقَلْعَةِ فِي إِصْطَبْلِ السُّلْطَانِ اليوم رحمه
اللَّهُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الله
ابن مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ سَيِّدِ النَّاسِ أَبُو بَكْرٍ
الْيَعْمُرِيُّ الْأَنْدَلُسِيُّ الْحَافِظُ وُلِدَ سَنَةَ سَبْعٍ
وَتِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ وَسَمِعَ الْكَثِيرَ، وَحَصَّلَ كُتُبًا
عَظِيمَةً، وَصَنَّفَ أَشْيَاءَ حَسَنَةً، وَخُتِمَ بِهِ الْحُفَّاظُ
فِي تلك البلاد، توفى بمدينة تونس في سابع عشرين رجب من هذه السنة.
وممن توفى فيها أيضا
عبد الرزاق بن عبد الله
ابن أَبِي بَكْرِ بْنِ خَلَفٍ عِزُّ الدِّينِ أَبُو مُحَمَّدٍ
الرَّسْعَنِيُّ الْمُحَدِّثُ الْمُفَسِّرُ، سَمِعَ الْكَثِيرَ،
وَحَدَّثَ وكان من الفضلاء والأدباء، لَهُ مَكَانَةٌ عِنْدَ الْبَدْرِ
لُؤْلُؤٍ صَاحِبِ الْمَوْصِلِ، وكان له منزلة أيضا عِنْدَ صَاحِبِ
سِنْجَارَ، وَبِهَا تُوُفِّيَ فِي لَيْلَةِ الْجُمُعَةَ الثَّانِي
عَشَرَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ وَقَدْ جَاوَزَ السَّبْعِينَ، وَمِنْ
شِعْرِهِ:
نَعَبَ الْغُرَابُ فَدَلَّنَا بِنَعِيبِهِ ... أَنَّ الْحَبِيبَ دَنَا
أَوَانُ مَغِيبِهِ
يَا سائلي عن طيب عيشي بعدهم ... جدلى بِعَيْشٍ ثُمَّ سَلْ عَنْ
طِيبِهِ
مُحَمَّدُ بْنُ أحمد بن عنتر السلمي الدمشقيّ
محتسبها، ومن عدولها وأعيانها، وله بها أملاك وَأَوْقَافٌ، تُوفِّيَ
بِالْقَاهِرَةِ وَدُفِنَ بِالْمُقَطَّمِ.
عَلَمُ الدِّينِ أبو القاسم بن أحمد
ابن الموفق بن جعفر المرسي البورقي اللغوي النحويّ المقري، شَرَحَ
الشَّاطِبِيَّةَ شَرْحًا مُخْتَصَرًا، وَشَرَحَ الْمُفَصَّلَ فِي
عِدَّةِ مُجَلَّدَاتٍ، وَشَرَحَ الْجُزُولِيَّةَ وَقَدِ اجْتَمَعَ
بِمُصَنِّفِهَا وَسَأَلَهُ عَنْ بَعْضِ مَسَائِلِهَا، وَكَانَ ذَا
فُنُونٍ عديدة حَسَنَ الشَّكْلِ مَلِيحَ الْوَجْهِ لَهُ هَيْئَةٌ
حَسَنَةٌ وَبِزَّةٌ وَجِمَالٌ، وَقَدْ سَمِعَ الْكِنْدِيَّ وَغَيْرَهُ.
الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الدينَوَريّ
وَهُوَ بَانِي الزَّاوِيَةِ بِالصَّالِحِيَّةِ، وَكَانَ لَهُ فِيهَا
جَمَاعَةٌ مُرِيدُونَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ بِأَصْوَاتٍ حَسَنَةٍ
طَيِّبَةٍ رَحِمَهُ اللَّهُ
مَوَلِدُ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ شَيْخِ
الْإِسْلَامِ
قَالَ الشَّيْخُ شَمْسُ الدِّينِ الذَّهَبِيُّ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ
وُلِدَ شَيْخُنَا تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ
الشَّيْخِ شِهَابِ الدِّينِ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ أبى القاسم بن
تَيْمِيَّةَ الْحَرَّانِيُّ بَحَرَّانَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ عَاشِرَ
رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ سَنَةِ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَسِتِّمِائَةٍ.
(13/241)
الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ مُجِيرُ الدِّينِ
أَبُو الْهَيْجَاءِ عِيسَى بن حثير الِأَزْكُشِيُّ الْكُرْدِيُّ
الْأُمَوِيُّ، كَانَ مِنْ أَعْيَانِ الْأُمَرَاءِ وَشُجْعَانِهِمْ،
وَلَهُ يَوْمَ عَيْنِ جَالُوتَ الْيَدُ الْبَيْضَاءُ فِي كَسْرِ
التَّتَارِ، وَلَمَّا دَخَلَ الْمَلِكُ الْمُظَفَّرُ إِلَى دِمَشْقَ
بَعْدَ الْوَقْعَةِ جَعَلَهُ مَعَ الْأَمِيرِ علم الدين سنجر الحلبي
نائبا على دمشق مستشارا ومشتركا فِي الرَّأْيِ وَالْمَرَاسِيمِ
وَالتَّدْبِيرِ، وَكَانَ يَجْلِسُ مَعَهُ فِي دَارِ الْعَدْلِ وَلَهُ
الْإِقْطَاعُ الْكَامِلُ وَالرِّزْقُ الْوَاسِعُ، إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ. قَالَ أَبُو شَامَةَ: وَوَالِدُهُ الْأَمِيرُ
حُسَامُ الدِّينِ توفى في جيش الْمَلَكِ الْأَشْرَفِ بِبِلَادِ
الشَّرْقِ هُوَ وَالْأَمِيرُ عِمَادُ الدين أحمد بن المشطوب. قلت وولده
الأمير عز الدين تولى هَذِهِ الْمَدِينَةِ أَعْنِي دِمَشْقَ مُدَّةً،
وَكَانَ مَشْكُورَ السيرة وإليه ينسب درب ابن سنون بِالصَّاغَةِ
الْعَتِيقَةِ، فَيُقَالُ دَرْبُ ابْنِ أَبِي الْهَيْجَاءِ لأنه كان
يسكنه وَكَانَ يَعْمَلُ الْوِلَايَةَ فِيهِ فَعُرِفَ بِهِ، وَبَعْدَ
مَوْتِهِ بِقَلِيلٍ كَانَ فِيهِ نُزُولُنَا حِينَ قَدِمْنَا مِنْ
حُورَانَ وَأَنَا صَغِيرٌ فَخَتَمْتُ فِيهِ الْقُرْآنَ، وللَّه
الْحَمْدُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سُنَّةُ ثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وستمائة
استهلت والخليفة الحاكم بأمر الله العباسي، والسلطان الظاهر بيبرس،
ونائب دمشق الأمير جمال الدين آقوش النجيبى وقاضيه ابن خَلِّكَانَ.
وَفِيهَا فِي أَوَّلِهَا كَمَلَتِ الْمَدْرَسَةُ الظَّاهِرِيَّةُ
الَّتِي بَيْنَ الْقَصْرَيْنِ، وَرُتِّبَ لِتَدْرِيسِ الشَّافِعِيَّةِ
بِهَا الْقَاضِي تَقِيُّ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ
رَزِينٍ، وَلِتَدْرِيسِ الْحَنَفِيَّةِ مَجْدُ الدِّينِ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بن كمال الدين عمر ابن الْعَدِيمِ، وَلِمَشْيَخَةِ
الْحَدِيثِ بِهَا الشَّيْخُ شَرَفُ الدِّينِ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ بْنُ
خَلَفٍ الْحَافِظُ الدِّمْيَاطِيُّ.
وَفِيهَا عمر الظاهر بالقدس خَانًا وَوَقَفَ عَلَيْهِ أَوْقَافًا
لِلنَّازِلِينَ بِهِ مِنْ إِصْلَاحِ نِعَالِهِمْ وَأَكْلِهِمْ وَغَيْرِ
ذَلِكَ، وَبَنَى بِهِ طاحونا وفرنا.
وفيها قدمت رسل بركه خان إلى الملك الظاهر ومعهم الأشرف ابن الشهاب
غَازِي بْنِ الْعَادِلِ، وَمَعَهُمْ مِنَ الْكُتُبِ وَالْمُشَافِهَاتِ
مَا فِيهِ سُرُورٌ لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ مِمَّا حَلَّ بِهِولَاكُوَ
وَأَهْلِهِ.
وَفِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْهَا دَرَّسَ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ
أَبُو شَامَةَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن إسماعيل المقدسي بدار الحديث
الأشرفية، بعد وفاة عِمَادِ الدِّينِ بْنِ الْحَرَسْتَانِيِّ، وَحَضَرَ
عِنْدَهُ الْقَاضِي ابن خلكان وجماعة من القضاة وَالْأَعْيَانِ،
وَذَكَرَ خُطْبَةَ كِتَابِهِ الْمَبْعَثِ، وَأَوْرَدَ الْحَدِيثَ
بِسَنَدِهِ وَمَتْنِهِ وَذَكَرَ فَوَائِدَ كَثِيرَةً مُسْتَحْسَنَةً،
وَيُقَالُ إنه لم يراجع شيئا حتى ولا درسه ومثله لا يستكثر ذلك عليه
والله أعلم.
وَفِيهَا قَدِمَ نَصِيرُ الدِّينِ الطُّوسِيُّ إِلَى بَغْدَادَ من جهة
هولاكو، فَنَظَرَ فِي الْأَوْقَافِ وَأَحْوَالِ الْبَلَدِ، وَأَخَذَ
كُتُبًا كثيرة من سائر المدارس وحولها إلى رصده الَّذِي بَنَاهُ
بِمَرَاغَةَ، ثُمَّ انْحَدَرَ إِلَى وَاسِطٍ والبصرة.
(13/242)
وَفِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ
الْمَلِكِ الْأَشْرَفِ
مُوسَى بْنِ الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمَلِكِ
الْمُجَاهِدِ أَسَدِ الدِّينِ شِيرْكُوهْ بن ناصر الدين محمد بن أَسَدِ
الدِّينِ شِيرْكُوهُ الْكَبِيرِ، كَانُوا مُلُوكَ حِمْصَ كَابِرًا عَنْ
كَابِرٍ إِلَى هَذَا الْحِينِ، وَقَدْ كان من الكرماء الموصوفين،
وكبراء الدماشقة المترفين، معتنيا بالمأكل والمشرب وَالْمَلَابِسِ
وَالْمَرَاكِبِ وَقَضَاءِ الشَّهَوَاتِ وَالْمَآرِبِ وَكَثْرَةِ
التَّنَعُّمِ بالمغاني والحبائب، ثم ذهب ذلك كأن لم يكن أو كأضغاث
أحلام، أو كظل زائل، وبقيت تبعاته وعقوباته وحسابه وعاره. وَلَمَّا
تُوُفِّيَ وُجِدَتْ لَهُ حَوَاصِلُ مِنَ الْجَوَاهِرِ النفيسة والأموال
الكثيرة، وصار مُلْكُهُ إِلَى الدَّوْلَةِ الظَّاهِرِيَّةِ،
وَتُوُفِّيَ مَعَهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْأَمِيرُ حُسَامُ الدِّينِ
الْجُوكَنْدَارُ نَائِبُ حَلَبَ.
وَفِيهَا كَانَتْ كَسْرَةُ التَّتَارِ عَلَى حِمْصَ وَقُتِلَ
مُقَدَّمُهُمْ بَيْدَرَةُ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ الْحَسَنِ
الجميل.
وفيها توفى الرَّشِيدِ الْعَطَّارِ الْمُحَدِّثِ بِمِصْرَ. وَالَّذِي
حَضَرَ مَسْخَرَةَ الْمَلِكِ الْأَشْرَفِ مُوسَى بْنِ الْعَادِلِ
وَالتَّاجِرِ الْمَشْهُورِ الحاج نصر بن دس وَكَانَ مُلَازِمًا
لِلصَّلَوَاتِ بِالْجَامِعِ، وَكَانَ مِنْ ذَوِي الْيَسَارِ
وَالْخَيْرِ.
الْخَطِيبُ عِمَادُ الدِّينِ بْنُ الْحَرَسْتَانِيِّ
عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ جَمَالِ الدِّينِ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ الْحَرَسْتَانِيِّ، كَانَ خَطِيبًا بِدِمَشْقَ وَنَابَ
فِي الْحُكْمِ عَنْ أَبِيهِ فِي الدَّوْلَةِ الْأَشْرَفِيَّةِ، بَعْدَ
ابْنِ الصَّلَاحِ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ في دار الخطابة في تاسع عشرين
جمادى الاولى، وصلى عليه بالجامع وَدُفِنَ عِنْدَ أَبِيهِ
بِقَاسِيُونَ، وَكَانَتْ جِنَازَتُهُ حَافِلَةً، وقد جاوز الثمانين
بخمس سنين، وتولى بعده الخطابة والغزالية ولده مجد الدِّينِ، وَبَاشَرَ
مَشْيَخَةَ دَارِ الْحَدِيثِ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو
شَامَةَ.
مُحْيِي الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ أحمد بن محمد
ابن إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سُرَاقَةَ الْحَافِظُ
الْمُحَدِّثُ الْأَنْصَارِيُّ الشَّاطِبِيُّ أَبُو بَكْرٍ
الْمَغْرِبِيُّ، عَالِمٌ فَاضِلٌ دين أقام بحلب مدة، ثم اجتاز بدمشق
قاصدا مصر. وقد تولى دَارَ الْحَدِيثِ الْكَامِلِيَّةَ بَعْدَ زَكِيِّ
الدِّينِ عَبْدِ الْعَظِيمِ الْمُنْذِرِيِّ، وَقَدْ كَانَ لَهُ سَمَاعٌ
جَيِّدٌ بِبَغْدَادَ وَغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ، وَقَدْ جَاوَزَ
السَّبْعِينَ.
الشَّيْخُ الصَّالِحُ مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورِ بْنِ يَحْيَى الشَّيْخِ
أَبِي الْقَاسِمِ الْقَبَّارِيُّ الْإِسْكَنْدَرَانِيُّ
كَانَ مُقِيمًا بِغَيْطٍ لَهُ يَقْتَاتُ مِنْهُ وَيَعْمَلُ فِيهِ
وَيَبْدُرُهُ، ويتورع جدا ويطعم الناس من ثماره. توفى في سادس شعبان
بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ وَلَهُ خَمْسٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً، وَكَانَ
يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَيَرْدَعُ
الْوُلَاةَ عَنِ الظلم فيسمعون منه ويطيعونه لزهده، وَإِذَا جَاءَ
النَّاسُ إِلَى زِيَارَتِهِ إِنَّمَا يُكَلِّمُهُمْ مِنْ طَاقَةِ
الْمَنْزِلِ وَهُمْ رَاضُونَ مِنْهُ بِذَلِكَ، وَمِنْ غَرِيبِ مَا
حُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ بَاعَ دَابَّةً لَهُ مِنْ رَجُلٍ، فَلَمَّا
كَانَ بَعْدَ أيام جاء الرجل الّذي اشتراها فقال: يا سيدي إن الدابة
التي اشتريتها منك لَا تَأْكُلُ عِنْدِي شَيْئًا،
(13/243)
فنظر إليه الشيخ فقال له: ماذا تعانى من
الأسباب؟ فقال رقاص عند الوالي، فقال له إِنَّ دَابَّتَنَا لَا
تَأْكُلُ الْحَرَامَ، وَدَخَلَ مَنْزِلَهُ فأعطاه دراهم وَمَعَهَا
دَرَاهِمُ كَثِيرَةٌ قَدِ اخْتَلَطَتْ بِهَا فَلَا تُمَيَّزُ،
فَاشْتَرَى النَّاسُ مِنَ الرَّقَّاصِ كُلَّ دِرْهَمٍ بِثَلَاثَةٍ
لِأَجْلِ الْبَرَكَةِ، وَأَخَذَ دَابَّتَهُ، وَلَمَّا تُوُفِّيَ ترك من
الأساس ما يساوى خمسين درهما فبيع بِمَبْلَغِ عِشْرِينَ أَلْفًا.
قَالَ أَبُو شَامَةَ: وَفِي الرابع وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ
الْآخِرِ تُوُفِّيَ مُحْيِي الدِّينِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَفِيِّ
الدِّينِ
إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَرْزُوقٍ بِدَارِهِ بِدِمَشْقَ الْمُجَاوِرَةِ
لِلْمَدْرَسَةِ النُّورِيَّةِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. قُلْتُ
دَارُهُ هَذِهِ هِيَ الَّتِي جُعِلَتْ مَدْرَسَةً لِلشَّافِعِيَّةِ
وَقَفَهَا الْأَمِيرُ جَمَالُ الدِّينِ آقُوشُ النَّجِيبِيُّ الَّتِي
يُقَالُ لَهَا النَّجِيبِيَّةُ تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنْهُ. وَبِهَا
إِقَامَتُنَا جَعَلَهَا اللَّهُ دَارًا تَعْقُبُهَا دَارُ الْقَرَارِ
فِي الْفَوْزِ الْعَظِيمِ. وَقَدْ كان أبو جمال الدين النجيبى وهو صفى
الدين وزير الملك الْأَشْرَفِ، وَمَلَكَ مِنَ الذَّهَبِ سِتِّمِائَةِ
أَلْفِ دِينَارٍ خَارِجًا عَنِ الْأَمْلَاكِ وَالْأَثَاثِ
وَالْبَضَائِعِ، وَكَانَتْ وَفَاةُ أَبِيهِ بِمِصْرَ سَنَةَ تِسْعٍ
وَخَمْسِينَ، وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِ عند المقطم. قَالَ أَبُو شَامَةَ:
وَجَاءَ الْخَبَرُ مِنْ مِصْرَ بوفاة الفخر عثمان المصري المعروف بعين
غين.
وَفِي ثَامِنَ عَشَرَ ذِي الْحِجَّةِ تُوُفِّيَ الشَّمْسُ الوبّار
الْمُوصِلِيُّ، وَكَانَ قَدْ حَصَّلَ شَيْئًا مِنْ عِلْمِ الْأَدَبِ،
وَخَطَبَ بِجَامِعِ الْمِزَّةِ مُدَّةً. فَأَنْشَدَنِي لِنَفْسِهِ في
الشيب وخضابه قوله:
وَكُنْتُ وَإِيَّاهَا مُذِ اخْتَطَّ عَارِضِي ... كَرُوحَيْنِ فِي
جِسْمٍ وَمَا نَقَضَتْ عَهْدَا
فَلَمَّا أَتَانِي الشَّيْبُ يَقْطَعُ بَيْنَنَا ... تَوَهَّمْتُهُ
سَيْفًا فَأَلْبَسْتُهُ غِمْدَا
وَفِيهَا استحضر الملك هولاكو خان الزين الحافظى وهو سليمان بْنِ
عَامِرٍ الْعَقْرَبَانِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالزَّيْنِ الْحَافِظِيِّ،
وَقَالَ لَهُ قَدْ ثَبَتَ عِنْدِي خِيَانَتُكَ، وَقَدْ كَانَ هَذَا
الْمُغْتَرُّ لَمَّا قَدِمَ التَّتَارُ مَعَ هُولَاكُو دِمَشْقَ
وَغَيْرَهَا مَالَأَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَآذَاهُمْ وَدَلَّ عَلَى
عَوَرَاتِهِمْ، حَتَّى سَلَّطَهُمُ اللَّهُ عَلَيْهِ بِأَنْوَاعِ
الْعُقُوبَاتِ وَالْمَثُلَاتِ وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ
بَعْضاً 6: 129 ومن أَعَانَ ظَالِمًا سُلِّطَ عَلَيْهِ، فَإِنَّ
اللَّهَ يَنْتَقِمُ مِنَ الظَّالِمِ بِالظَّالِمِ ثُمَّ يَنْتَقِمُ
مِنَ الظَّالِمِينَ جَمِيعًا، نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ مِنَ
انْتِقَامِهِ وَغَضَبِهِ وَعِقَابِهِ وَشَرِّ عِبَادِهِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وستين وستمائة
فيها جهز السلطان الظَّاهِرُ عَسْكَرًا جَمًّا كَثِيفًا إِلَى
نَاحِيَةِ الْفُرَاتِ لِطَرْدِ التَّتَارِ النَّازِلِينَ بِالْبِيرَةِ،
فَلَمَّا سَمِعُوا بِالْعَسَاكِرِ قد أقبلت ولوا مدبرين، فَطَابَتْ
تِلْكَ النَّاحِيَةُ وَأَمِنَتْ تِلْكَ الْمُعَامَلَةُ، وَقَدْ كَانَتْ
قَبْلَ ذَلِكَ لَا تَسْكُنُ مِنْ كَثْرَةِ الفساد والخوف، فعمرت وأمنت.
وفيها خرج الملك الظاهر في عساكره فقصد بلاد الساحل لقتال الْفِرِنْجِ
فَفَتَحَ قَيْسَارِيَّةَ فِي ثَلَاثِ سَاعَاتٍ مِنْ يوم الخميس ثامن
جمادى الأولى يَوْمُ نُزُولِهِ عَلَيْهَا، وَتَسَلَّمَ قَلْعَتَهَا فِي
يَوْمِ الْخَمِيسِ الْآخَرِ خَامِسَ عَشَرَةَ فَهَدَمَهَا وَانْتَقَلَ
إِلَى غيرها، ثُمَّ جَاءَ الْخَبَرُ بِأَنَّهُ فَتَحَ مَدِينَةَ
أَرْسُوفَ وَقَتَلَ مَنْ بِهَا مِنَ
(13/244)
الْفِرِنْجِ وَجَاءَتِ الْبَرِيدِيَّةُ
بِذَلِكَ. فَدَقَّتِ الْبَشَائِرُ فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ
وَفَرِحُوا بِذَلِكَ فَرَحًا شَدِيدًا. وَفِيهَا وَرَدَ خَبَرٌ مِنْ
بِلَادِ الْمَغْرِبِ بِأَنَّهُمُ انْتَصَرُوا على الفرنج وقتلوا منهم
خمسة وأربعين ألفا، وأسروا عشرة آلاف، واسترجعوا منهم ثنتين وأربعين
بلدة منها برنس وَإِشْبِيلِيَّةُ وَقُرْطُبَةُ وَمُرْسِيَةُ، وَكَانَتِ
النُّصْرَةُ فِي يَوْمِ الخميس رابع عشر رَمَضَانَ سَنَةَ ثْنَتَيْنِ
وَسِتِّينَ.
وَفِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ شُرِعَ فِي تَبْلِيطِ بَابِ
الْبَرِيدِ مِنْ بَابِ الْجَامِعِ إِلَى الْقَنَاةِ الَّتِي عِنْدَ
الدَّرَجِ وَعَمِلَ فِي الصَّفِّ الْقِبْلِيِّ مِنْهَا بَرَكَةُ
وشاذروان. وكان في مكانها قَنَاةٌ مِنَ الْقَنَوَاتِ يَنْتَفِعُ
النَّاسُ بِهَا عِنْدَ انقطاع نهر ماناس فغيرت وعمل الشاذروان، ثم غيرت
وعمل مكانها دكاكين.
وفيها استدعى الظاهر نائبة على دمشق الأمير آقوش، فسار إليه سامعا
مطيعا، وناب عَنْهُ الْأَمِيرُ عَلَمُ الدِّينِ الْحِصْنِيُّ حَتَّى
عَادَ مكرما معزوزا.
وفيها ولى الظاهر قضاة من بقية المذاهب في مصر مستقلين بالحكم
يُوَلُّونَ مِنْ جِهَتِهِمْ فِي الْبُلْدَانِ أَيْضًا كَمَا يولى
الشافعيّ، فتولى قضاء الشافعية التاج عبد الوهاب ابن بنت الأعز،
والحنفية شمس الدين سليمان، والمالكية شَمْسُ الدِّينِ السُّبْكِيُّ،
وَالْحَنَابِلَةَ شَمْسُ الدِّينِ مُحَمَّدٌ الْمَقْدِسِيُّ، وَكَانَ
ذَلِكَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ الثَّانِيَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي
الْحِجَّةِ بِدَارِ الْعَدْلِ، وَكَانَ سَبَبَ ذلك كثرة توقف القاضي
ابْنِ بِنْتِ الْأَعَزِّ فِي أُمُورٍ تُخَالِفُ مَذْهَبَ
الشَّافِعِيِّ، وَتُوَافِقُ غَيْرَهُ مِنَ الْمَذَاهِبِ، فَأَشَارَ
الْأَمِيرُ جَمَالُ الدِّينِ أَيْدُغْدِي الْعَزِيزِيُّ عَلَى
السُّلْطَانِ بِأَنْ يولى من كل مذهب قاضيا مستقلا يحكم بمقتضى مذهبه،
فأجابه إلى ذلك، وكان يحب رأيه ومشورته، وَبَعَثَ بِأَخْشَابٍ
وَرَصَاصٍ وَآلَاتٍ كَثِيرَةٍ لِعِمَارَةِ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَرْسَلَ مِنْبَرًا فَنُصِبَ
هُنَالِكَ.
وَفِيهَا وَقَعَ حَرِيقٌ عَظِيمٌ بِبِلَادِ مِصْرَ وَاتُّهِمَ
النَّصَارَى فَعَاقَبَهُمُ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ عُقُوبَةً عَظِيمَةً.
وَفِيهَا جَاءَتِ الْأَخْبَارُ بِأَنَّ سُلْطَانَ التَّتَارِ هُولَاكُو
هَلَكَ إِلَى لَعْنَةِ اللَّهِ وَغَضَبِهِ فِي سَابِعِ رَبِيعٍ
الْآخِرِ بِمَرَضِ الصَّرَعِ بِمَدِينَةِ مَرَاغَةَ، وَدُفِنَ
بِقَلْعَةِ تَلَا وَبُنِيَتْ عَلَيْهِ قُبَّةٌ وَاجْتَمَعْتِ
التَّتَارُ عَلَى وَلَدِهِ أَبْغَا، فَقَصَدَهُ الْمَلِكُ بَرَكَةُ
خَانَ فَكَسَرَهُ وَفَرَّقَ جُمُوعَهُ، فَفَرِحَ الْمَلِكُ الظاهر
بذلك، وَعَزَمَ عَلَى جَمْعِ الْعَسَاكِرِ لِيَأْخُذَ بِلَادَ
الْعِرَاقِ فَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ ذَلِكَ لِتَفَرُّقِ الْعَسَاكِرِ
فِي الْإِقْطَاعَاتِ.
وَفِيهَا فِي ثَانِي عَشَرَ شَوَّالٍ سَلْطَنَ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ
وَلَدَهُ الْمَلِكَ السَّعِيدَ مُحَمَّدَ بَرَكَةَ خان، وَأَخَذَ لَهُ
الْبَيْعَةَ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَأَرْكَبَهُ وَمَشَى الأمراء بين يديه،
وحمل والده الظاهر الغاشية بنفسه والأمير بدر الدين بيسرى حامل الخبز،
والقاضي تاج الدين والوزير بهاء الدين ابن حنا راكبان وبين يَدَيْهِ،
وَأَعْيَانُ الْأُمَرَاءِ رُكْبَانٌ وَبَقِيَّتُهُمْ مُشَاةٌ حَتَّى
شقوا القاهرة وهم كذلك.
وفي ذي القعدة ختن الظاهر وَلَدَهُ الْمَلِكَ السَّعِيدَ الْمَذْكُورَ،
وَخَتَنَ مَعَهُ جَمَاعَةً من أولاد الأمراء وكان يوما مشهودا.
(13/245)
وفيها توفى
خَالِدُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ سَعْدٍ النَّابُلُسِيُّ
الشَّيْخُ زين الدين ابن الْحَافِظُ شَيْخُ دَارِ الْحَدِيثِ
النُّورِيَّةِ بِدِمَشْقَ، كَانَ عالما بصناعة الحديث حافظا لأسماء
الرجال، وقد اشْتَغَلَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ
النواوى وغيره، وتولى بعده مشيخة دار الحديث النورية الشيخ تاج الدين
الفزاري، كان الشَّيْخُ زَيْنُ الدِّينِ حَسَنَ الْأَخْلَاقِ فَكِهَ
النَّفْسِ كثير المزاح على طريقة المحدثين، رحل إلى بغداد واشتغل
بِهَا، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ وَكَانَ فِيهِ خَيْرٌ وَصَلَاحٌ
وَعِبَادَةٌ، وَكَانَتْ جِنَازَتُهُ حَافِلَةً وَدُفِنَ بِمَقَابِرِ
بَابِ الصغير رحمه الله.
الشَّيْخُ أَبُو الْقَاسِمِ الْحُوَّارِيُّ
هُوَ أَبُو الْقَاسِمِ يوسف ابن أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ
السَّلَامِ الْأُمَوِيُّ الشَّيْخُ الْمَشْهُورُ صَاحِبُ الزَّاوِيَةِ
بِحُوَّارَى، تُوفِّيَ بِبَلَدِهِ، وَكَانَ خَيِّرًا صَالِحًا لَهُ
أَتْبَاعٌ وَأَصْحَابٌ يُحِبُّونَهُ، وَلَهُ مريدون كثير من قرايا
حوران في الحل وَالْبَثَنِيَّةِ وَهُمْ حَنَابِلَةٌ لَا يَرَوْنَ
الضَّرْبَ بِالدُّفِّ بَلْ بِالْكَفِّ، وَهُمْ أَمْثَلُ مِنْ
غَيْرِهِمْ.
الْقَاضِي بَدْرُ الدِّينِ الْكُرْدِيُّ السِّنْجَارِيُّ
الَّذِي بَاشَرَ الْقَضَاءَ بمصر مرارا توفى بالقاهرة. قال أبو شامة:
وسيرته مَعْرُوفَةً فِي أَخْذِ الرِّشَا مِنْ قُضَاةِ الْأَطْرَافِ
والمتحاكمين إليه، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ جَوَادًا كَرِيمًا صُودِرَ
هُوَ وَأَهْلُهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ وَسِتِّمِائَةٍ
استهلت والخليفة الحاكم العباسي والسلطان الملك الظاهر وقضاة مصر
أربعة. وفيها جعل بدمشق أربعة قضاة من كل مذهب قاض كما فعل بمصر عام
أول، ونائب الشام آقوش النجيبى، وكان قاضى قضاة الشافعية ابن خلكان،
والحنفية شَمْسُ الدِّينِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عطا،
والحنابلة شمس الدين عبد الرحمن ابن الشيخ أبى عمر، والمالكية عَبْدُ
السَّلَامِ بْنُ الزَّوَاوِيِّ، وَقَدِ امْتَنَعَ مِنَ الْوِلَايَةِ
فَأُلْزِمَ بِهَا حَتَّى قَبِلَ ثُمَّ عَزَلَ نَفْسَهُ، ثُمَّ أُلْزِمَ
بِهَا فَقَبِلَ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُبَاشِرَ أَوْقَافًا وَلَا يَأْخُذَ
جَامَكِيَّةً عَلَى أحكامه، وَقَالَ: نَحْنُ فِي كِفَايَةٍ فَأُعْفِيَ
مِنْ ذَلِكَ أَيْضًا رَحِمَهُمُ اللَّهُ. وَقَدْ كَانَ هَذَا
الصَّنِيعُ الَّذِي لَمْ يُسْبَقْ إِلَى مِثْلِهِ قَدْ فُعِلَ في العام
الأول بمصر كما تقدم، واستقرت الأحوال على هذا المنوال.
وَفِيهَا كَمَلَ عِمَارَةُ الْحَوْضِ الَّذِي شَرْقِيَّ قَنَاةِ باب
البريد وعمل له شاذروان وقبة وأنابيب يجرى منها الماء إلى جانب الدرج
الشمالية.
وفيها نازل الظاهر صغد واستدعى بالمنجانيق مِنْ دِمَشْقَ وَأَحَاطَ
بِهَا وَلَمْ يَزَلْ حَتَّى افْتَتَحَهَا، وَنَزَلَ أَهْلُهَا عَلَى
حُكْمِهِ، فَتَسَلَّمَ الْبَلَدَ في يوم الجمعة ثامن عشر شوال، وقتل
المقاتلة وسبى الذرية، وقد افتتحها الملك صلاح الدين يوسف بن أيوب في
شوال أيضا في أربع وثمانين وخمسمائة، ثم استعادها الفرنج فانتزعها
الظاهر منهم قهرا فِي هَذِهِ السَّنَةِ وللَّه الْحَمْدُ، وَكَانَ
السُّلْطَانُ الظاهر فِي نَفْسِهِ مِنْهُمْ شَيْءُ
(13/246)
كَثِيرٌ، فَلَمَّا تَوَجَّهَ إِلَى
فَتْحِهَا طَلَبُوا الْأَمَانَ، فَأَجْلَسَ عَلَى سَرِيرِ مَمْلَكَتِهِ
الْأَمِيرَ سَيْفَ الدِّينِ كرمون التتري، وجاءت رسلهم فخلعوه
وَانْصَرَفُوا وَلَا يَشْعُرُونَ أَنَّ الَّذِي أَعْطَاهُمُ الْعُهُودَ
بِالْأَمَانِ إِنَّمَا هُوَ الْأَمِيرُ الَّذِي أَجْلَسَهُ عَلَى
السرير والحرب خدعة، فلما خرجت الاستنارية وَالدَّاوِيَّةُ مِنَ
الْقَلْعَةِ وَقَدْ فَعَلُوا بِالْمُسْلِمِينَ الْأَفَاعِيلَ القبيحة.
فأمكن الله منهم فأمر السلطان بضرب رقابهم عن آخرهم، وجاءت البريدية
إلى البلاد بذلك، فدقت البشائر وزينت البلاد، ثم بث السَّرَايَا
يَمِينًا وَشِمَالًا فِي بِلَادِ الْفِرِنْجِ فَاسْتَوْلَى
الْمُسْلِمُونَ عَلَى حُصُونٍ كَثِيرَةٍ تُقَارِبُ عِشْرِينَ حِصْنًا،
وَأَسَرُوا قَرِيبًا مِنْ أَلْفِ أَسِيرٍ مَا بَيْنَ امرأة وصبي،
وغنموا شيئا كثيرا.
وَفِيهَا قَدِمَ وَلَدُ الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَعْصِمِ بْنِ
الْمُسْتَنْصِرِ من الأسر واسمه على، فأكرم وأنزل بالدار الأسدية تجاه
الْعَزِيزِيَّةِ، وَقَدْ كَانَ أَسِيرًا فِي أَيْدِي التَّتَارِ،
فَلَمَّا كَسَرَهُمْ بَرَكَةُ خَانَ تَخَلَّصَ مِنْ أَيْدِيهِمْ وسار
إلى دمشق، ولما فتح السلطان صغدا أخبره بعض من كان فيها مَنْ أَسْرَى
الْمُسْلِمِينَ أَنَّ سَبَبَ أَسْرِهِمْ أَنَّ أهل قرية فأرا كَانُوا
يَأْخُذُونَهُمْ فَيَحْمِلُونَهُمْ إِلَى الْفِرِنْجِ فَيَبِيعُونَهُمْ
مِنْهُمْ، فعند ذلك ركب السلطان قاصدا فأرا فَأَوْقَعَ بِهِمْ بَأْسًا
شَدِيدًا وَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقَا كَثِيرًا، وَأَسَرَ مِنْ
أَبْنَائِهِمْ وَنِسَائِهِمْ أَخْذًا بِثَأْرِ الْمُسْلِمِينَ جَزَاهُ
اللَّهُ خَيْرًا، ثُمَّ أَرْسَلَ السُّلْطَانُ جَيْشًا هَائِلًا إِلَى
بِلَادِ سِيسَ، فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَفَتَحُوا سِيسَ
عَنْوَةً وَأَسَرُوا ابْنَ مَلِكِهَا وَقَتَلُوا أَخَاهُ وَنَهَبُوهَا،
وَقَتَلُوا أَهْلَهَا وَأَخَذُوا بِثَأْرِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ
مِنْهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا أَضَرَّ شَيْءٍ عَلَى
الْمُسْلِمِينَ زَمَنَ التَّتَارِ، لَمَّا أَخَذُوا مَدِينَةَ حَلَبَ
وَغَيْرَهَا أَسَرُوا مِنْ نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ وأطفالهم خلقا
كثيرا، ثُمَّ كَانُوا بَعْدَ ذَلِكَ يُغِيرُونَ عَلَى بِلَادِ
الْمُسْلِمِينَ فِي زَمَنِ هُولَاكُو فَكَبَتَهُ اللَّهُ وَأَهَانَهُ
على يدي أنصار الإسلام، هو وأميره كتبغا، وكان أخذ سيس يَوْمِ
الثُّلَاثَاءِ الْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ، وَجَاءَتِ الْأَخْبَارُ بِذَلِكَ إِلَى الْبِلَادِ
وَضُرَبَتِ الْبَشَائِرُ، وَفِي الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي
الحجة دخل السلطان وَبَيْنَ يَدَيْهِ ابْنُ صَاحِبِ سِيسَ وَجَمَاعَةٌ
مِنْ مُلُوكِ الْأَرْمَنِ أُسَارَى أَذِلَّاءَ صَغَرَةً،
وَالْعَسَاكِرُ صُحْبَتُهُ وكان يوما مشهودا. ثم سار إلى مصر مؤيدا
منصورا، وطلب صاحب سيس أن يفادى ولده، فقال السلطان لَا نُفَادِيهِ
إِلَّا بِأَسِيرٍ لَنَا عِنْدَ التَّتَارِ يُقَالُ لَهُ سُنْقُرَ
الْأَشْقَرَ، فَذَهَبً صَاحِبُ سِيسَ إلى ملك التتر فتذلل له وتمسكن
وخضع له، حتى أطلقه له، فلما وصل سنقر الأشقر إلى السلطان أطلق ابْنَ
صَاحِبِ سِيسَ.
وَفِيهَا عَمَّرَ الظَّاهِرُ الْجِسْرَ المشهور بين قرارا وَدَامِيَةَ،
تَوَلَّى عِمَارَتَهُ الْأَمِيرُ جَمَالُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بن بهادر
وَبَدْرُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ رِحَالٍ وَالِي نَابُلُسَ
وَالْأَغْوَارِ، وَلَمَّا تَمَّ بِنَاؤُهُ اضْطَرَبَ بَعْضُ
أَرْكَانِهِ فقلق السلطان من ذلك وَأَمَرَ بِتَأْكِيدِهِ فَلَمْ
يَسْتَطِيعُوا مِنْ قُوَّةِ جَرْىِ الْمَاءِ حِينَئِذٍ، فَاتَّفَقَ
بِإِذْنِ اللَّهِ أَنِ انْسَالَتْ عَلَى النَّهْرِ أَكَمَةٌ مِنْ
تِلْكَ النَّاحِيَةِ، فَسَكَنَ الماء بمقدار أن أَصْلَحُوا مَا
يُرِيدُونَ، ثُمَّ عَادَ الْمَاءُ كَمَا كان
(13/247)
وذلك بتيسير الله وعونه وعنايته العظيمة.
وفيها توفى من الأعيان
أَيْدُغْدِي بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
الْأَمِيرُ جَمَالُ الدِّينِ الْعَزِيزِيُّ، كَانَ مِنْ أَكَابِرِ
الْأُمَرَاءِ وَأَحْظَاهُمْ عِنْدَ الملك الظاهر، لا يكاد الظاهر
يَخْرُجُ عَنْ رَأْيِهِ، وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ عَلَيْهِ بولاية
القضاة من كل مذهب قاض على سبيل الاستقلال وكان مُتَوَاضِعًا لَا
يَلْبَسُ مُحَرَّمًا، كَرِيمًا وَقُورًا رَئِيسًا مُعَظَّمًا فِي
الدَّوْلَةِ، أَصَابَتْهُ جِرَاحَةٌ فِي حِصَارِ صغد فَلَمْ يَزَلْ
مَرِيضًا مِنْهَا حَتَّى مَاتَ لَيْلَةَ عرفة، ودفن بالرباط الناصري
بسفح قاسيون من صلاحية دمشق رحمه الله.
هولاكو خان بن تولى خان بن جنكيزخان
مَلَكِ التَّتَارِ بْنِ مَلَكِ التَّتَارِ، وَهُوَ وَالِدُ
مُلُوكِهِمْ، وَالْعَامَّةُ يَقُولُونَ هُولَاوُونَ مِثْلَ قَلَاوُونَ،
وَقَدْ كان هولاكو ملكا جبارا فاجرا كفارا لعنه الله، قتل من المسلمين
شرقا وغربا مَا لَا يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ إِلَّا الَّذِي خَلَقَهُمْ
وَسَيُجَازِيهِ عَلَى ذلك شر الجزاء، كان لَا يَتَقَيَّدُ بِدِينٍ مِنَ
الْأَدْيَانِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ زَوْجَتُهُ ظُفْرُ خَاتُونَ قَدْ
تَنَصَّرَتْ وَكَانَتْ تُفَضِّلُ النصارى على سائر الخلق، وكان هو
يَتَرَامَى عَلَى مَحَبَّةِ الْمَعْقُولَاتِ، وَلَا يَتَصَوَّرُ
مِنْهَا شيئا، وكان أهلها من أفراخ الفلاسفة لهم عنده وَجَاهَةٌ
وَمَكَانَةٌ، وَإِنَّمَا كَانَتْ هِمَّتُهُ فِي تَدْبِيرِ مَمْلَكَتِهِ
وَتَمَلُّكِ الْبِلَادِ شَيْئًا فَشَيْئًا، حَتَّى أَبَادَهُ اللَّهُ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ،
وَدُفِنَ فِي مَدِينَةِ تَلَا، لَا رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَامَ فِي
الْمُلِكِ مِنْ بَعْدِهِ ولده أبغاخان وَكَانَ أَبْغَا أَحَدَ إِخْوَةٍ
عَشَرَةٍ ذُكُورٍ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ وَهُوَ حَسَبُنَا
وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.
ثُمَّ دخلت سنة خمس وستين وستمائة
في يوم الأحد ثانى المحرم توجه الْمَلِكُ الظَّاهِرُ مِنْ دِمَشْقَ
إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَصَحِبَتْهُ الْعَسَاكِرُ
الْمَنْصُورَةُ، وَقَدِ اسْتَوْلَتِ الدَّوْلَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ
عَلَى بِلَادِ سِيسَ بِكَمَالِهَا، وَعَلَى كَثِيرٍ مِنْ مَعَاقِلَ
الْفِرِنْجِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ أَرْسَلَ الْعَسَاكِرَ
بَيْنَ يَدَيْهِ إِلَى غَزَّةَ، وَعَدَلَ هُوَ إِلَى نَاحِيَةِ
الْكَرَكِ لِيَنْظُرَ فِي أَحْوَالِهَا، فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ
بِرْكَةِ زَيْزَى تَصَيَّدَ هُنَالِكَ فَسَقَطَ عَنْ فَرَسِهِ
فَانْكَسَرَتْ فَخْذُهُ، فَأَقَامَ هُنَاكَ أَيَّامًا يَتَدَاوَى
حَتَّى أَمْكَنَهُ أَنْ يَرْكَبَ فِي الْمِحَفَّةِ، وَسَارَ إِلَى
مِصْرَ فَبَرَأَتْ رِجْلُهُ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ فَأَمْكَنَهُ
الرُّكُوبُ وَحْدَهُ عَلَى الْفَرَسِ. وَدَخَلَ الْقَاهِرَةَ فِي
أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ، وَتَجَمُّلٍ هَائِلٍ، وَقَدْ زُيِّنَتِ
الْبَلَدُ، وَاحْتَفَلَ النَّاسُ لَهُ احْتِفَالًا عَظِيمًا،
وَفَرِحُوا بِقَدُومِهِ وَعَافِيَتِهِ فَرَحًا كَثِيرًا، ثُمَّ فِي رجب
منها رجع من القاهرة إلى صغد، وَحَفَرَ خَنْدَقًا حَوْلَ قَلْعَتِهَا
وَعَمِلَ فِيهِ بِنَفْسِهِ وَأُمَرَائِهِ وَجَيْشِهِ وَأَغَارَ عَلَى
نَاحِيَةِ عَكًّا، فَقَتَلَ وَأَسَرَ وَغَنِمَ وَسَلِمَ وَضُرِبَتْ
لِذَلِكَ الْبَشَائِرُ بِدِمَشْقَ. وَفِي ثَانِي عَشَرَ رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ صَلَّى الظَّاهِرُ بالجامع الأزهر الجمعة، ولم يكن تُقَامُ
بِهِ الْجُمُعَةُ مِنْ زَمَنِ الْعُبَيْدِيِّينَ إِلَى هذا الحين، مع
أنه أول مسجد بنى بِالْقَاهِرَةِ، بِنَاهُ جَوْهَرٌ الْقَائِدُ
وَأَقَامَ فِيهِ الْجُمُعَةَ، فَلَمَّا بَنَى الْحَاكِمُ جَامِعَهُ
حَوَّلَ الْجُمُعَةَ مِنْهُ إِلَيْهِ، وَتَرَكَ الْأَزْهَرَ لَا
جُمُعَةَ فِيهِ
(13/248)
فَصَارَ فِي حُكْمِ بَقِيَّةِ الْمَسَاجِدِ
وَشَعِثَ حَالُهُ وَتَغَيَّرَتْ أَحْوَالُهُ، فَأَمَرَ السُّلْطَانُ
بِعِمَارَتِهِ وَبَيَاضِهِ وَإِقَامَةِ الجمعة وأمر بعمارة جامع
الحسينية وكمل فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَسِتِّينَ كَمَا سَيَأْتِي إِنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَفِيهَا أَمَرَ الظَّاهِرُ أَنْ لَا يَبِيتَ أَحَدٌ مِنَ
الْمُجَاوِرِينَ بِجَامِعِ دِمَشْقَ فيه وَأَمَرَ بِإِخْرَاجِ
الْخَزَائِنِ مِنْهُ، وَالْمَقَاصِيرِ الَّتِي كَانَتْ فيه، فكانت
قريبا من ثلاثمائة، وَوَجَدُوا فِيهَا قَوَارِيرَ الْبَوْلِ
وَالْفُرُشِ وَالسَّجَاجِيدِ الْكَثِيرَةِ، فَاسْتَرَاحَ النَّاسُ
وَالْجَامِعُ مِنْ ذَلِكَ وَاتَّسَعَ عَلَى المصلين.
وفيها أمر السلطان بعمارة أسوار صغد وَقَلْعَتِهَا، وَأَنْ يُكْتَبَ
عَلَيْهَا وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ
أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ 21: 105 أُولئِكَ
حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ 58: 22.
وَفِيهَا الْتَقَى أَبْغَا وَمَنْكُوتَمُرُ الَّذِي قَامَ مَقَامَ
بَرَكَةَ خَانَ فَكَسَرَهُ أَبْغَا وَغَنِمَ مِنْهُ شَيْئًا كَثِيرًا.
وَحَكَى ابْنُ خَلِّكَانَ فِيمَا نَقَلَ مِنْ خَطِّ الشَّيْخِ قُطْبِ
الدِّينِ الْيُونِينِيِّ قَالَ: بَلَغَنَا أن رجلا يدعى أبا سَلَامَةَ
[1] مِنْ نَاحِيَةِ بُصْرَى، كَانَ فِيهِ مُجُونٌ وَاسْتِهْتَارٌ،
فَذُكِرَ عِنْدَهُ السِّوَاكُ وَمَا فِيهِ مِنَ الْفَضِيلَةِ، فَقَالَ:
وَاللَّهِ لَا أَسْتَاكُ إِلَّا فِي الْمَخْرَجِ- يَعْنِي دُبُرَهُ-
فَأَخَذَ سِوَاكًا فَوَضَعَهُ فِي مَخْرَجِهِ ثُمَّ أَخْرَجَهُ،
فَمَكَثَ بَعْدَهُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ [وهو يشكو من ألم البطن والمخرج]
[2] فَوَضَعَ وَلَدًا عَلَى صِفَةِ الْجُرْذَانِ لَهُ أَرْبَعَةُ
قوائم، ورأسه كرأس السمكة، [وله أربعة أنياب بارزة، وذنب طويل مثل شبر
وأربع أصابع] [2] وَلَهُ دُبُرٌ كَدُبُرِ الْأَرْنَبِ. وَلَمَّا
وَضَعَهُ صَاحَ ذَلِكَ الْحَيَوَانُ ثَلَاثَ صَيْحَاتٍ، فَقَامَتِ
ابْنَةُ ذَلِكَ الرَّجُلِ فَرَضَخَتْ رَأْسَهُ فَمَاتَ، وَعَاشَ ذَلِكَ
الرَّجُلُ بَعْدَ وَضْعِهِ لَهُ يَوْمَيْنِ وَمَاتَ فِي الثَّالِثِ،
وَكَانَ يَقُولُ هَذَا الْحَيَوَانُ قَتَلَنِي وَقَطَّعَ أَمْعَائِي،
وَقَدْ شَاهَدَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ النَّاحِيَةِ
وَخُطَبَاءُ ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى ذلك الحيوان
حيا، ومنهم من رآه بعد موته.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ.
السُّلْطَانُ بَرَكَةُ خان بن تولى بن جنكيزخان
وَهُوَ ابْنُ عَمِّ هُولَاكُو، وَقَدْ أَسْلَمَ بَرَكَةُ خَانَ هَذَا،
وَكَانَ يُحِبُّ الْعُلَمَاءَ وَالصَّالِحِينَ وَمِنْ أكبر حسناته كسره
لهولاكو وتفريق جُنُودَهُ، وَكَانَ يُنَاصِحُ الْمَلِكَ الظَّاهِرَ
وَيُعَظِّمُهُ وَيُكْرِمُ رُسُلَهُ إِلَيْهِ، وَيُطْلِقُ لَهُمْ
شَيْئًا كَثِيرًا، وَقَدْ قَامَ فِي الْمُلْكِ بَعْدَهُ بَعْضُ أَهْلِ
بَيْتِهِ وهو منكوتمر بن طغان بن بابو بن تولى بن جنكيزخان، وَكَانَ
عَلَى طَرِيقَتِهِ وَمِنْوَالِهِ وللَّه الْحَمْدُ.
قَاضِي الْقُضَاةِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ
تَاجُ الدِّينِ عَبْدُ الْوَهَّابِ بن خلف بن بدر بن بِنْتِ الْأَعَزِّ
الشَّافِعِيُّ، كَانَ دَيِّنًا عَفِيفًا نَزِهًا لَا تَأْخُذُهُ فِي
اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، وَلَا يَقْبَلُ شَفَاعَةَ أَحَدٍ، وَجُمِعَ
لَهُ قَضَاءُ الدِّيَارِ المصرية بكمالها، والخطابة، والحسبة
__________
[1] في شذرات الذهب: قرية يقال لها دير أبى سلامة. كان بها رجل من
العربان فيه استهتار إلخ
[2] الزيادة من شذرات الذهب.
(13/249)
ومشيخة الشيوخ، ونظر الأجياش، وتدريس
الشافعيّ والصالحية وإمامة الجامع، وكان بيده خمسة عشر وَظِيفَةً،
وَبَاشَرَ الْوِزَارَةَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، وَكَانَ السلطان
يعظمه، والوزير ابن حنا يَخَافُ مِنْهُ كَثِيرًا، وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ
يَنْكُبَهُ عِنْدَ السُّلْطَانِ وَيَضَعَهُ فَلَا يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ،
وَكَانَ يَشْتَهِي أَنْ يَأْتِيَ دَارَهُ وَلَوْ عَائِدًا، فَمَرِضَ في
بعض الأحيان فجاء القاضي عائدا، فقام إلى تلقيه لوسط الدَّارِ، فَقَالَ
لَهُ الْقَاضِي: إِنَّمَا جِئْنَا لِعِيَادَتِكَ فَإِذَا أَنْتَ
سَوِيٌّ صَحِيحٌ، سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، فَرَجَعَ وَلَمْ يَجْلِسْ
عِنْدَهُ. وَكَانَ مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَسِتِّمِائَةٍ،
وَتَوَلَّى بَعْدَهُ الْقَضَاءَ تَقِيُّ الدِّينِ ابن رَزِينٍ
وَاقِفُ الْقَيْمُرِيَّةِ الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ نَاصِرُ الدِّينِ
أبو المعالي الحسين بن العزيز بْنِ أَبِي الْفَوَارِسِ الْقُيَمْرِيُّ
الْكُرْدِيُّ، كَانَ مِنْ أَعْظَمِ الْأُمَرَاءِ مَكَانَةً عِنْدَ
الْمُلُوكِ، وَهُوَ الَّذِي سَلَّمَ الشَّامَ إِلَى الْمَلِكِ
النَّاصِرِ صَاحِبِ حَلَبَ، حِينَ قُتِلَ تُورَانْ شَاهِ بْنُ
الصَّالِحِ أَيُّوبَ بِمِصْرَ، وَهُوَ وَاقِفُ الْمَدْرَسَةِ
الْقَيْمُرِيَّةِ عِنْدَ مِئْذَنَةِ فَيْرُوزَ، وَعَمِلَ عَلَى
بَابِهَا السَّاعَاتِ الَّتِي لَمْ يُسْبَقْ إِلَى مِثْلِهَا، وَلَا
عُمِلَ عَلَى شَكْلِهَا، يُقَالُ إِنَّهُ غَرِمَ عَلَيْهَا أَرْبَعِينَ
أَلْفَ دِرْهَمٍ.
الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو شَامَةَ
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ
عُثْمَانَ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبَّاسٍ أَبُو مُحَمَّدٍ وَأَبُو
القاسم المقدسي الشيخ الامام العالم الْحَافِظُ الْمُحَدِّثُ
الْفَقِيهُ الْمُؤَرِّخُ الْمَعْرُوفُ بِأَبِي شَامَةَ شَيْخُ دَارِ
الْحَدِيثِ الْأَشْرَفِيَّةِ، وَمُدَرِّسُ الرُّكْنِيَّةِ، وَصَاحِبُ
الْمُصَنَّفَاتِ الْعَدِيدَةِ الْمُفِيدَةِ، لَهُ اخْتِصَارُ تَارِيخِ
دِمَشْقَ فِي مُجَلَّدَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَلَهُ شَرْحُ الشَّاطِبِيَّةِ،
وَلَهُ الرد إلى الأمر الأول، وله في المبعث وَفِي الْإِسْرَاءِ،
وَكِتَابُ الرَّوْضَتَيْنِ فِي الدَّوْلَتَيْنِ النُّورِيَّةِ
وَالصَّلَاحِيَّةِ، وَلَهُ الذَّيْلُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَهُ غَيْرُ ذلك
من الفوائد الحسان والغرائب التي هي كَالْعِقْيَانِ. وُلِدَ لَيْلَةَ
الْجُمُعَةِ الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ سَنَةَ
تِسْعٍ وَتِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَذَكَرَ لِنَفْسِهِ تَرْجَمَةً
فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي الذَّيْلِ، وَذَكَرَ مُرَبَّاهُ
وَمَنْشَأَهُ، وَطَلَبَهُ الْعِلْمَ، وَسَمَاعَهُ الْحَدِيثَ،
وَتَفَقُّهَهُ عَلَى الْفَخْرِ بْنِ عَسَاكِرَ وَابْنِ عَبْدِ
السَّلَامِ، وَالسَّيْفِ الْآمِدِيِّ، وَالشَّيْخِ مُوَفَّقِ الدِّينِ
بْنِ قُدَامَةَ، وَمَا رُئِيَ لَهُ مِنَ الْمَنَامَاتِ الْحَسَنَةِ.
وَكَانَ ذَا فُنُونٍ كَثِيرَةٍ، أَخْبَرَنِي عَلَمُ الدِّينِ
الْبِرْزَالِيُّ الْحَافِظُ عَنِ الشَّيْخِ تَاجِ الدِّينِ
الْفَزَارِيِّ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: بَلَغَ الشَّيْخُ شِهَابُ
الدِّينِ أَبُو شَامَةَ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ، وَقَدْ كَانَ يَنْظِمُ
أشعارا في أوقات، فمنها مَا هُوَ مُسْتَحْلَى، وَمِنْهَا مَا لَا
يُسْتَحْلَى، فاللَّه يَغْفِرُ لَنَا وَلَهُ. وَبِالْجُمْلَةِ فَلَمْ
يَكُنْ فِي وَقْتِهِ مِثْلُهُ فِي نَفْسِهِ وَدِيَانَتِهِ، وَعِفَّتِهِ
وأمانته، وكانت وفاته بسبب محنة ألبوا عليه، وأرسلوا إِلَيْهِ مَنِ
اغْتَالَهُ وَهُوَ بِمَنْزِلٍ لَهُ بِطَوَاحِينِ الأشنان، وقد كان اتهم
برأي، الظَّاهِرُ بَرَاءَتُهُ مِنْهُ، وَقَدْ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ
أَهْلِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِمْ: إِنَّهُ كَانَ مَظْلُومًا، وَلَمْ
يَزَلْ يَكْتُبُ فِي التَّارِيخِ حَتَّى وَصَلَ إِلَى رَجَبٍ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ، فَذُكِرَ أَنَّهُ أُصِيبَ بِمِحْنَةٍ فِي مَنْزِلِهِ
بِطَوَاحِينِ الْأُشْنَانِ، وَكَانَ الَّذِينَ قَتَلُوهُ جَاءُوهُ
قَبْلُ فَضَرَبُوهُ لِيَمُوتَ فَلَمْ يَمُتْ، فَقِيلَ لَهُ: أَلَا
تَشْتَكِي عَلَيْهِمْ، فَلَمْ يَفْعَلْ وأنشأ يقول:
(13/250)
قُلْتُ لِمَنْ قَالَ أَلَا تَشْتَكِي ...
مَا قَدْ جَرَى فَهْوَ عَظِيمٌ جَلِيلْ
يُقَيِّضُ اللَّهُ تَعَالَى لَنَا ... مَنْ يَأْخُذُ الْحَقَّ
وَيَشْفِي الْغَلِيلْ
إِذَا تَوَكَّلْنَا عَلَيْهِ كَفَى ... فَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ
الْوَكِيلْ
وَكَأَنَّهُمْ عَادُوا إِلَيْهِ مَرَّةً ثَانِيَةً وَهُوَ فِي
الْمَنْزِلِ الْمَذْكُورِ فَقَتَلُوهُ بِالْكُلِّيَّةِ فِي لَيْلَةِ
الثُّلَاثَاءِ تاسع عشر رَمَضَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَدُفِنَ مِنْ
يَوْمِهِ بِمَقَابِرِ دَارِ الْفَرَادِيسِ، وَبَاشَرَ بَعْدَهُ
مَشْيَخَةَ دَارِ الْحَدِيثِ الْأَشْرَفِيَّةِ الشَّيْخُ مُحْيِي
الدِّينِ النَّوَوِيُّ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ مَوْلِدُ
الْحَافِظِ عَلَمِ الدِّينِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ
الْبِرْزَالِيِّ، وَقَدْ ذَيَّلَ عَلَى تَارِيخِ أَبِي شَامَةَ لِأَنَّ
مَوْلِدَهُ فِي سَنَةِ وَفَاتِهِ، فَحَذَا حَذْوَهُ وَسَلَكَ نَحْوَهُ،
وَرَتَّبَ تَرْتِيبَهُ وَهَذَّبَ تهذيبه. وهذا أيضا ممن ينشد في
ترجمته.
مَا زِلْتَ تَكْتُبُ فِي التَّارِيخِ مُجْتَهِدًا ... حَتَّى
رَأَيْتُكَ فِي التَّارِيخِ مَكْتُوبًا
وَيُنَاسِبُ أَنْ يُنْشَدَ هنا:
إذا سيد منا خلا قام سيد ... قؤول لِمَا قَالَ الْكِرَامُ فَعُولُ
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ست وستين وستمائة
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السُّنَةُ وَالْحَاكِمُ الْعَبَّاسِيُّ خَلِيفَةٌ،
وَسُلْطَانُ الْبِلَادِ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ، وَفِي أَوَّلِ جُمَادَى
الْآخِرَةِ خَرَجَ السُّلْطَانُ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ
بِالْعَسَاكِرِ الْمَنْصُورَةِ، فَنَزَلَ عَلَى مَدِينَةِ يَافَا
بَغْتَةً فَأَخَذَهَا عَنْوَةً، وَسَلَّمَ إِلَيْهِ أَهْلُهَا
قَلْعَتَهَا صُلْحًا، فَأَجْلَاهُمْ مِنْهَا إلى عكا وخرب القلعة
والمدينة وَسَارَ مِنْهَا فِي رَجَبٍ قَاصِدًا حِصْنَ الشَّقِيفِ،
وَفِي بَعْضِ الطَّرِيقِ أَخَذَ مِنْ بَعْضِ بَرِيدِيَّةِ الْفِرِنْجِ
كِتَابًا مِنْ أَهْلِ عَكَّا إِلَى أَهْلِ الشقيف يعلمونهم قدوم
السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ، وَيَأْمُرُونَهُمْ بِتَحْصِينِ الْبَلَدِ،
وَالْمُبَادَرَةِ إِلَى إِصْلَاحِ أَمَاكِنٍ يُخْشَى عَلَى الْبَلَدِ
مِنْهَا. فَفَهِمَ السُّلْطَانُ كَيْفَ يَأْخُذُ الْبَلَدَ وَعَرَفَ
مِنْ أَيْنَ تُؤْكَلُ الْكَتِفُ، وَاسْتَدْعَى مِنْ فَوْرِهِ رَجُلًا
مِنَ الْفِرِنْجِ فَأَمَرَهُ أَنْ يَكْتُبَ بَدَلَهُ كِتَابًا عَلَى
أَلْسِنَتِهِمْ إِلَى أَهْلِ الشَّقِيفِ، يُحَذِّرُ الْمَلِكَ مِنَ
الْوَزِيرِ، وَالْوَزِيرَ مِنَ الْمَلِكِ، وَيَرْمِي الْخُلْفَ بَيْنَ
الدَّوْلَةِ. فَوَصَلَ إِلَيْهِمْ فَأَوْقَعَ اللَّهُ الْخُلْفَ
بَيْنَهُمْ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ، وَجَاءَ السُّلْطَانُ
فَحَاصَرَهُمْ وَرَمَاهُمْ بِالْمَنْجَنِيقِ فَسَلَّمُوهُ الْحِصْنَ
فِي التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ وأجلاهم إلى صور، وبعث
بالأنفال إِلَى دِمَشْقَ، ثُمَّ رَكِبَ جَرِيدَةً فِيمَنْ نَشِطَ مِنَ
الْجَيْشِ فَشَنَّ الْغَارَةَ عَلَى طَرَابُلُسِ وَأَعْمَالِهَا،
فَنَهَبَ وَقَتَلَ وَأَرْعَبَ وَكَرَّ رَاجِعًا مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا،
فنزل على حصن الأكراد لمحبته فِي الْمَرْجِ، فَحَمَلَ إِلَيْهِ
أَهْلُهُ مِنَ الْفِرِنْجِ الْإِقَامَاتِ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا
وَقَالَ أَنْتُمْ قَتَلْتُمْ جُنْدِيًّا مِنْ جَيْشِي وَأُرِيدُ
دِيَتَهُ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ، ثُمَّ سَارَ فَنَزَلَ عَلَى حِمْصَ،
ثُمَّ منها إلى حماة، ثم إلى فامية ثُمَّ سَارَ مَنْزِلَةً أُخْرَى،
ثُمَّ سَارَ لَيْلًا وَتَقَدَّمَ الْعَسْكَرُ فَلَبِسُوا الْعُدَّةَ
وَسَاقَ حَتَّى أَحَاطَ بمدينة أنطاكية.
فتح أنطاكية على يدي السلطان الملك الظاهر
رحمه الله
وَهِيَ مَدِينَةٌ عَظِيمَةٌ كَثِيرَةُ الْخَيْرِ، يُقَالُ إِنَّ دَوْرَ
سُورِهَا اثْنَا عَشَرَ مِيلًا، وَعَدَدُ بُرُوجِهَا مائة وستة
(13/251)
وثلاثون برجا، وعدد شرافاتها أربعة وعشرون
ألف شرافة، كَانَ نُزُولُهُ عَلَيْهَا فِي مُسْتَهَلِّ شَهْرِ
رَمَضَانَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ أَهْلُهَا يَطْلُبُونَ مِنْهُ
الْأَمَانَ، وَشَرَطُوا شروطا له عليهم فَأَبَى أَنْ يُجِيبَهُمْ
وَرَدَّهُمْ خَائِبِينَ وَصَمَّمَ عَلَى حصارها، ففتحها يوم السبت رابع
عشر رَمَضَانَ بِحَوْلِ اللَّهِ وَقُوَّتِهِ وَتَأْيِيدِهِ وَنَصْرِهِ،
وَغَنِمَ مِنْهَا شَيْئًا كَثِيرًا، وَأَطْلَقَ لِلْأُمَرَاءِ
أَمْوَالًا جَزِيلَةً، وَوَجَدَ مِنْ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ مِنَ
الْحَلَبِيِّينَ فِيهَا خَلْقًا كَثِيرًا، كُلُّ هَذَا فِي مِقْدَارِ
أَرْبَعَةِ أيام. وقد كان الأغريس صَاحِبُهَا وَصَاحِبُ طَرَابُلُسَ،
مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ أَذِيَّةً لِلْمُسْلِمِينَ، حِينَ مَلَكَ
التَّتَارُ حَلَبَ وَفَرَّ النَّاسُ مِنْهَا، فَانْتَقَمَ اللَّهُ
سُبْحَانَهُ مِنْهُ بِمَنْ أَقَامَهُ للإسلام ناصرا وللصليب دامغا
كاسرا، وللَّه الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، وَجَاءَتِ الْبِشَارَةُ
بِذَلِكَ مَعَ الْبَرِيدِيَّةِ، فَجَاوَبَتْهَا الْبَشَائِرُ مِنَ
الْقَلْعَةِ الْمَنْصُورَةِ، وَأَرْسَلَ أَهْلُ بَغْرَاسَ حِينَ
سَمِعُوا بِقَصْدِ السُّلْطَانِ إِلَيْهِمْ يَطْلُبُونَ مِنْهُ أَنْ
يَبْعَثَ إِلَيْهِمْ مَنْ يَتَسَلَّمَهَا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ
أُسْتَاذَ دَارِهِ الْأَمِيرَ آقْسُنْقُرَ الْفَارِقَانِيَّ فِي
ثَالِثَ عَشَرَ رَمَضَانَ فَتَسَلَّمَهَا، وَتَسَلَّمُوا حُصُونًا
كَبِيرَةً وَقِلَاعًا كَثِيرَةً، وَعَادَ السُّلْطَانُ مُؤَيَّدًا
مَنْصُورًا، فَدَخَلَ دِمَشْقَ فِي السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ
رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ فِي أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ وَهَيْبَةٍ
هَائِلَةٍ، وَقَدْ زُيِّنَتْ لَهُ الْبَلَدُ وَدُقَّتْ لَهُ
الْبَشَائِرُ فَرَحًا بِنُصْرَةِ الْإِسْلَامِ عَلَى الْكَفَرَةِ
الطَّغَامِ، لكنه كان قد عزم على أخذ أراضى كَثِيرَةٍ مِنَ الْقُرَى
وَالْبَسَاتِينِ الَّتِي بِأَيْدِي مُلَّاكِهَا بِزَعْمِ أَنَّهُ قَدْ
كَانَتِ التَّتَارُ اسْتَحْوَذُوا عَلَيْهَا ثُمَّ اسْتَنْقَذَهَا
مِنْهُمْ، وَقَدْ أَفْتَاهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ من الحنفية تَفْرِيعًا
عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ إِذَا أَخَذُوا شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِ
الْمُسْلِمِينَ مَلَكُوهَا، فَإِذَا اسْتُرْجِعَتْ لَمْ ترد إلى
أصحابها، وهذه المسألة مشهورة وللناس فيها قولان (أصحهما) قول الجمهور
أنه يجب ردها إِلَى أَصْحَابِهَا لِحَدِيثِ الْعَضْبَاءِ نَاقَةِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِينَ
اسْتَرْجَعَهَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَقَدْ كَانَ أَخَذَهَا الْمُشْرِكُونَ، اسْتَدَلُّوا بِهَذَا
وَأَمْثَالِهِ عَلَى أَبِي حنيفة، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِذَا
أَخَذَ الْكُفَّارُ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ وَأَسْلَمُوا وَهِيَ فِي
أَيْدِيهِمْ اسْتَقَرَّتْ عَلَى أَمْلَاكِهِمْ، وَاسْتُدِلَّ عَلَى
ذَلِكَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «وَهَلْ تَرَكَ
لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ» وَقَدْ كَانَ اسْتَحْوَذَ عَلَى أَمْلَاكِ
الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ هَاجَرُوا وَأَسْلَمَ عَقِيلٌ وَهِيَ فِي
يَدِهِ، فَلَمْ تُنْتَزَعْ مِنْ يَدِهِ، وَأَمَّا إِذَا انْتُزِعَتْ
مِنْ أَيْدِيهِمْ قَبْلُ، فَإِنَّهَا تُرَدُّ إِلَى أَرْبَابِهَا
لِحَدِيثِ الْعَضْبَاءِ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الظَّاهِرَ عَقَدَ
مَجْلِسًا اجْتَمَعَ فِيهِ الْقُضَاةُ وَالْفُقَهَاءُ مِنْ سَائِرِ
الْمَذَاهِبِ وَتَكَلَّمُوا فِي ذَلِكَ وَصَمَّمَ السُّلْطَانُ عَلَى
ذَلِكَ اعْتِمَادًا عَلَى مَا بِيَدِهِ مِنَ الْفَتَاوَى، وَخَافَ
النَّاسُ مِنْ غَائِلَةِ ذَلِكَ فَتَوَسَّطَ الصَّاحِبُ فَخْرُ
الدِّينِ بن الوزير بهاء الدين بن احنا، وَكَانَ قَدْ دَرَّسَ
بِالشَّافِعِيِّ بَعْدَ ابْنِ بِنْتِ الْأَعَزِّ، فَقَالَ يَا خُونْدُ
أَهْلُ الْبَلَدِ يُصَالِحُونَكَ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ بِأَلْفِ أَلْفِ
دِرْهَمٍ، تُقَسَّطُ كل سنة مائتي أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَأَبَى إِلَّا
أَنْ تَكُونَ مُعَجَّلَةً بَعْدَ أَيَّامٍ، وَخَرَجَ مُتَوَجِّهًا
إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَقَدْ أَجَابَ إِلَى تَقْسِيطِهَا،
وَجَاءَتِ الْبِشَارَةُ بِذَلِكَ، وَرَسَمَ أَنْ يُعَجِّلُوا مِنْ
ذَلِكَ أَرْبَعَمِائَةِ أَلْفِ درهم، وأن تعاد إليه الْغَلَّاتُ
الَّتِي كَانُوا قَدِ احْتَاطُوا عَلَيْهَا فِي زَمَنِ الْقَسْمِ
وَالثِّمَارِ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْفَعْلَةُ مِمَّا شَعَّثَتْ
خَوَاطِرَ النَّاسِ عَلَى السُّلْطَانِ وَلَمَّا اسْتَقَرَّ أَمْرُ
أَبْغَا عَلَى التَّتَارِ أَمَرَ بِاسْتِمْرَارِ وَزِيرِهِ نَصِيرِ
الدِّينِ الطُّوسِيِّ، وَاسْتَنَابَ عَلَى بِلَادِ الرُّومِ
(13/252)
الْبَرْوَانَاهْ وَارْتَفَعَ قَدْرُهُ
عِنْدَهُ جِدًّا وَاسْتَقَلَّ بِتَدْبِيرِ تِلْكَ الْبِلَادِ وَعَظُمَ
شَأْنُهُ فِيهَا.
وَفِيهَا كَتَبَ صَاحِبُ الْيَمَنِ إِلَى الظَّاهِرِ بِالْخُضُوعِ
وَالِانْتِمَاءِ إِلَى جانبه وأن يَخْطُبُ لَهُ بِبِلَادِ الْيَمَنِ،
وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ هَدَايَا وَتُحَفًا كَثِيرَةً، فَأَرْسَلَ
إِلَيْهِ السُّلْطَانُ هَدَايَا وَخِلَعَا وَسَنْجَقًا وَتَقْلِيدًا.
وَفِيهَا رَافَعَ ضِيَاءُ الدِّينِ بْنُ الْفَقَّاعِيِّ لِلصَّاحِبِ
بَهَاءِ الدِّينِ بْنِ الْحِنَّا عِنْدَ الظَّاهِرِ وَاسْتَظْهَرَ
عَلَيْهِ ابْنُ الْحِنَّا، فَسَلَّمَهُ الظَّاهِرُ إِلَيْهِ، فَلَمْ
يَزَلْ يَضْرِبُهُ بِالْمَقَارِعِ وَيَسْتَخْلِصُ أَمْوَالَهُ إِلَى
أَنْ مَاتَ، فَيُقَالُ إِنَّهُ ضَرَبَهُ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ سَبْعَةَ
عَشَرَ أَلْفَ مِقْرَعَةٍ وَسَبْعَمِائَةٍ فاللَّه أَعْلَمُ.
وَفِيهَا عَمِلَ الْبَرْوَانَاهْ [1] عَلَى قَتْلِ الْمَلِكِ عَلَاءِ
الدِّينِ صَاحِبِ قُونِيَةَ وَأَقَامَ وَلَدَهُ غِيَاثَ الدِّينِ
مَكَانَهُ وَهُوَ ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ وَتَمَكَّنَ الْبَرْوَانَاهْ
فِي الْبِلَادِ وَالْعِبَادِ وَأَطَاعَهُ جَيْشُ الرُّومِ.
وَفِيهَا قَتَلَ الصَّاحِبُ عَلَاءُ الدِّينِ صَاحِبُ الدِّيوَانِ
بِبَغْدَادَ ابْنَ الْخُشْكَرِيِّ النُّعْمَانِيَّ الشَّاعِرَ،
وَذَلِكَ أَنَّهُ اشْتَهَرَ عَنْهُ أَشْيَاءُ عَظِيمَةٌ، مِنْهَا
أَنَّهُ يَعْتَقِدُ فَضْلَ شِعْرِهِ عَلَى الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ،
وَاتَّفَقَ أَنَّ الصَّاحِبَ انْحَدَرَ إِلَى وَاسِطٍ فَلَمَّا كَانَ
بِالنُّعْمَانِيَّةِ حَضَرَ ابْنُ الْخُشْكَرِيِّ عِنْدَهُ
وَأَنْشَدَهُ قَصِيدَةً قَدْ قَالَهَا فِيهِ، فَبَيْنَمَا هُوَ
يُنْشِدُهَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِذْ أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ
فَاسْتَنْصَتَهُ الصَّاحِبُ، فَقَالَ ابْنُ الْخُشْكَرِيِّ: يَا
مَوْلَانَا اسْمَعْ شَيْئًا جَدِيدًا، وأعرض عن شيء له سنين، فَثَبَتَ
عِنْدَ الصَّاحِبِ مَا كَانَ يُقَالُ عِنْدَهُ عَنْهُ، ثُمَّ بَاسَطَهُ
وَأَظْهَرَ أَنَّهُ لَا يُنْكِرُ عَلَيْهِ شَيْئًا مِمَّا قَالَ حَتَّى
اسْتَعْلَمَ مَا عِنْدَهُ، فَإِذَا هُوَ زِنْدِيقٌ، فَلَمَّا رَكِبَ
قَالَ لِإِنْسَانٍ مَعَهُ اسْتَفْرِدْهُ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ
وَاقْتُلْهُ، فَسَايَرَهُ ذَلِكَ الرَّجُلُ حَتَّى إِذَا انْقَطَعَ
عَنِ النَّاسِ قَالَ لِجَمَاعَةٍ مَعَهُ: أَنْزِلُوهُ عَنْ فَرَسِهِ
كَالْمُدَاعِبِ لَهُ، فَأَنْزَلُوهُ وَهُوَ يَشْتُمُهُمْ
وَيَلْعَنُهُمْ، ثُمَّ قَالَ انْزِعُوا عَنْهُ ثِيَابَهُ فَسَلَبُوهَا
وَهُوَ يُخَاصِمُهُمْ، وَيَقُولُ إِنَّكُمْ أَجْلَافٌ، وَإِنَّ هَذَا
لَعِبٌ بَارِدٌ، ثُمَّ قَالَ: اضْرِبُوا عُنُقَهُ، فَتَقَدَّمَ
إِلَيْهِ أَحَدُهُمْ فَضَرَبَهُ بِسَيْفِهِ فَأَبَانَ رَأْسَهُ،
وَفِيهَا تُوُفِّيَ
الشَّيْخُ عَفِيفُ الدِّينِ يُوسُفُ بْنُ الْبَقَّالِ
شَيْخُ رِبَاطِ الْمَرْزُبَانِيَّةِ، كَانَ صَالِحًا وَرِعًا زَاهِدًا
حَكَى عَنْ نَفْسِهِ قَالَ: كُنْتُ بِمِصْرَ فَبَلَغَنِي مَا وَقَعَ
مِنَ الْقَتْلِ الذَّرِيعِ بِبَغْدَادَ فِي فِتْنَةِ التَّتَارِ،
فَأَنْكَرْتُ فِي قَلْبِي وَقُلْتُ: يَا رَبِّ كَيْفَ هَذَا وَفِيهِمُ
الْأَطْفَالُ وَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ؟ فَرَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ
رَجُلًا وَفِي يَدِهِ كِتَابٌ فَأَخَذْتُهُ فَقَرَأْتُهُ فَإِذَا فِيهِ
هَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِيهَا الْإِنْكَارُ عَلَيَّ.
دَعِ الِاعْتِرَاضَ فَمَا الْأَمْرُ لَكْ ... وَلَا الْحُكْمُ فِي
حَرَكَاتِ الْفَلَكْ
وَلَا تَسْأَلِ اللَّهَ عَنْ فِعْلِهِ ... فَمَنْ خَاضَ لُجَّةَ بَحْرٍ
هَلَكْ
إِلَيْهِ تَصِيرُ أُمُورُ الْعِبَادِ ... دَعِ الِاعْتِرَاضَ فما أجهلك
__________
[1] كلمة فارسية معناها في الأصل الحاجب. ثم أطلق في دول الروم
السلاجقة بآسيا الصغرى على الوزير الأكبر.
(13/253)
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ
الْأَعْيَانِ الْحَافِظُ أَبُو إبراهيم إسحاق بن عبد الله
ابن عُمَرَ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ قَاضِي الْيَمَنِ، عَنْ ثَمَانٍ
وَسِتِّينَ سَنَةً، وَدُفِنَ بِالشَّرَفِ الْأَعْلَى، وَكَانَ قَدْ
تَفَرَّدَ بِرِوَايَاتٍ جَيِّدَةٍ وَانْتَفَعَ النَّاسُ بِهِ. وَفِيهَا
ولد الشيخ شرف الدين عبد الله بن تَيْمِيَّةَ أَخُو الشَّيْخِ تَقِيِّ
الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ، وَالْخَطِيبُ الْقَزْوِينِيُّ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَسِتِّينَ وستمائة
فِي صَفَرٍ مِنْهَا جَدَّدَ السُّلْطَانُ الظَّاهِرُ الْبَيْعَةَ
لِوَلَدِهِ مِنْ بَعْدِهِ الْمَلِكِ السَّعِيدِ مُحَمَّدِ بَرَكَةَ
خَانَ، وَأَحْضَرَ الْأُمَرَاءَ كُلَّهُمْ وَالْقُضَاةَ وَالْأَعْيَانَ
وَأَرْكَبَهُ وَمَشَى بَيْنَ يَدَيْهِ، وَكَتَبَ لَهُ ابْنُ لُقْمَانَ
تَقْلِيدًا هَائِلًا بِالْمُلْكِ مِنْ بَعْدِ أَبِيهِ، وَأَنْ يَحْكُمَ
عَنْهُ أَيْضًا فِي حَالِ حَيَاتِهِ، ثُمَّ رَكِبَ السُّلْطَانُ فِي
عَسَاكِرِهِ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ قَاصِدًا الشَّامَ، فَلَمَّا
دَخَلَ دِمَشْقَ جَاءَتْهُ رُسُلٌ مِنْ أَبْغَا مَلِكِ التَّتَارِ
مَعَهُمْ مُكَاتَبَاتٌ وَمُشَافَهَاتٌ، فمن جملة المشافهات: أنت مملوك
بعت بِسِيوَاسَ فَكَيْفَ يَصْلُحُ لَكَ أَنْ تُخَالِفَ مُلُوكَ
الْأَرْضِ؟ وَاعْلَمْ أَنَّكَ لَوْ صَعِدْتَ إِلَى السَّمَاءِ أَوْ
هَبَطْتَ إِلَى الْأَرْضِ مَا تَخَلَّصْتَ مِنِّي فَاعْمَلْ لِنَفْسِكَ
عَلَى مُصَالَحَةِ السُّلْطَانِ أَبْغَا. فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى
ذَلِكَ وَلَا عَدَّهُ شَيْئًا بَلْ أَجَابَ عَنْهُ أَتَمَّ جَوَابٍ،
وَقَالَ لِرُسُلِهِ: أَعْلِمُوهُ أَنِّي مِنْ وَرَائِهِ
بِالْمُطَالَبَةِ وَلَا أَزَالُ حَتَّى أَنْتَزِعَ مِنْهُ جَمِيعَ
الْبِلَادِ الَّتِي اسْتَحْوَذَ عَلَيْهَا مِنْ بِلَادِ الْخَلِيفَةِ،
وَسَائِرِ أَقْطَارِ الْأَرْضِ.
وَفِي جُمَادَى الْآخِرَةِ رَسَمَ السُّلْطَانُ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ
بِإِرَاقَةِ الْخُمُورِ وَتَبْطِيلِ الْمُفْسِدَاتِ وَالْخَوَاطِئِ
بِالْبِلَادِ كُلِّهَا، فَنُهِبَتِ الخواطئ وسلبن جميع ما كان معهن
حَتَّى يَتَزَوَّجْنَ، وَكُتِبَ إِلَى جَمِيعِ الْبِلَادِ بِذَلِكَ،
وأسقط الْمُكُوسُ الَّتِي كَانَتْ مُرَتَّبَةً عَلَى ذَلِكَ، وَعَوَّضَ
مَنْ كَانَ مُحَالًا عَلَى ذَلِكَ بِغَيْرِهَا وللَّه الْحَمْدُ
وَالْمِنَّةُ. ثُمَّ عَادَ السُّلْطَانُ بِعَسَاكِرِهِ إِلَى مِصْرَ،
فَلَمَّا كَانَ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ عِنْدَ خَرِبَةِ اللُّصُوصِ
تَعَرَّضَتْ لَهُ امْرَأَةٌ فَذَكَرَتْ لَهُ أَنَّ وَلَدَهَا دَخَلَ
مَدِينَةَ صُورَ، وَأَنَّ صَاحِبَهَا الْفِرِنْجِيَّ غَدَرَ بِهِ
وَقَتَلَهُ وَأَخَذَ مَالَهُ، فَرَكِبَ السُّلْطَانُ وَشَنَّ
الْغَارَةَ عَلَى صُورَ فَأَخَذَ مِنْهَا شَيْئًا كَثِيرًا، وَقَتَلَ
خَلْقًا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ مَلِكُهَا مَا سَبَبُ هَذَا؟ فَذَكَرَ
لَهُ غَدْرَهُ وَمَكْرَهُ بِالتُّجَّارِ ثُمَّ قَالَ السُّلْطَانُ
لِمُقَدَّمِ الْجُيُوشِ: أَوْهِمِ النَّاسَ أَنِّي مَرِيضٌ وَأَنِّي
بِالْمَحَفَّةِ وَأَحْضِرِ الْأَطِبَّاءَ وَاسْتَوْصِفْ لِي مِنْهُمْ
مَا يَصْلُحُ لِمَرِيضٍ بِهِ كَذَا وَكَذَا، وَإِذَا وَصَفُوا لَكَ
فَأَحْضِرِ الْأَشْرِبَةَ إِلَى الْمَحَفَّةِ وَأَنْتُمْ سَائِرُونَ.
ثُمَّ رَكِبَ السُّلْطَانُ على البريد وساق مسرعا فَكَشَفَ أَحْوَالَ
وَلَدِهِ وَكَيْفَ الْأَمْرُ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ بَعْدَهُ،
ثُمَّ عَادَ مُسْرِعًا إِلَى الْجَيْشِ فَجَلَسَ فِي الْمَحَفَّةِ
وَأَظْهَرُوا عَافِيَتَهُ وَتَبَاشَرُوا بِذَلِكَ. وَهَذِهِ جُرْأَةٌ
عَظِيمَةٌ، وَإِقْدَامٌ هَائِلٌ.
وَفِيهَا حَجَّ السُّلْطَانُ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ وَفِي صُحْبَتِهِ
الْأَمِيرُ بَدْرُ الدِّينِ الْخَزَنْدَارُ، وَقَاضِي الْقُضَاةِ
صَدْرُ الدِّينِ سُلَيْمَانُ الْحَنَفِيُّ، وَفَخْرُ الدِّينِ بْنُ
لُقْمَانَ، وَتَاجُ الدِّينِ بْنُ الْأَثِيرِ وَنَحْوٌ مِنْ
ثَلَاثِمِائَةِ مَمْلُوكٍ، وَأَجْنَادٍ مِنَ الخلقة الْمَنْصُورَةِ،
فَسَارَ عَلَى طَرِيقِ الْكَرَكِ وَنَظَرَ فِي أَحْوَالِهَا ثُمَّ
مِنْهَا إِلَى الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ، فَأَحْسَنَ إِلَى
أَهْلِهَا وَنَظَرَ فِي أَحْوَالِهَا، ثُمَّ مِنْهَا إِلَى مَكَّةَ
فَتَصَدَّقَ عَلَى الْمُجَاوِرِينَ ثُمَّ وَقَفَ بِعَرَفَةَ وَطَافَ
طَوَافَ
(13/254)
الْإِفَاضَةِ وَفُتِحَتْ لَهُ الْكَعْبَةُ
فَغَسَلَهَا بِمَاءِ الْوَرْدِ وَطَيَّبَهَا بِيَدِهِ، ثُمَّ وَقَفَ
بِبَابِ الْكَعْبَةِ فَتَنَاوَلَ أيدي الناس ليدخلوا الكعبة وهو بينهم،
ثُمَّ رَجَعَ فَرَمَى الْجَمَرَاتِ ثُمَّ تَعَجَّلَ النَّفْرَ فَعَادَ
عَلَى الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ فَزَارَ الْقَبْرَ الشَّرِيفَ
مَرَّةً ثَانِيَةً عَلَى سَاكِنِهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ
التَّسْلِيمِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ الطَّيِّبِينَ
الطَّاهِرِينَ وَصَحَابَتِهِ الْكِرَامِ أَجْمَعِينَ إِلَى يَوْمِ
الدِّينِ. ثُمَّ سَارَ إِلَى الْكَرَكِ فَدَخَلَهَا فِي التَّاسِعِ
وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَأَرْسَلَ الْبَشِيرَ إِلَى
دِمَشْقَ بِقُدُومِهِ سَالِمًا، فَخَرَجَ الْأَمِيرُ جَمَالُ الدِّينِ
آقُوشُ النَّجِيبِيُّ نَائِبُهَا لِيَتَلَقَّى الْبَشِيرَ فِي ثَانِي
الْمُحَرَّمِ، فَإِذَا هُوَ السُّلْطَانُ نَفْسُهُ يَسِيرُ فِي
الْمَيْدَانِ الْأَخْضَرِ، وَقَدْ سَبَقَ الْجَمِيعَ، فَتَعَجَّبَ
النَّاسُ مِنْ سُرْعَةِ سَيْرِهِ وَصَبْرِهِ وَجَلَدِهِ، ثُمَّ سَاقَ
مِنْ فَوْرِهِ حَتَّى دَخَلَ حَلَبَ فِي سَادِسِ الْمُحَرَّمِ
لِيَتَفَقَّدَ أَحْوَالَهَا، ثُمَّ عَادَ إِلَى حَمَاةَ ثُمَّ رَجَعَ
إِلَى دِمَشْقَ ثُمَّ سَارَ إِلَى مِصْرَ فَدَخَلَهَا يَوْمَ
الثُّلَاثَاءِ ثَالِثَ صَفَرٍ مِنَ السَّنَةِ الْمُقْبِلَةِ رَحِمَهُ
اللَّهُ.
وَفِي أَوَاخِرِ ذِي الْحِجَّةِ هَبَّتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ أَغْرَقَتْ
مِائَتَيْ مَرْكَبٍ فِي النِّيلِ، وَهَلَكَ فِيهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ،
وَوَقَعَ هُنَاكَ مَطَرٌ شَدِيدٌ جِدًّا، وَأَصَابَ الشَّامَ مِنْ
ذَلِكَ صاعقة أهلكت الثمار، ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
راجِعُونَ. 2: 156 وَفِيهَا أَوْقَعَ اللَّهُ تَعَالَى الْخُلْفَ
بَيْنَ التَّتَارِ مِنْ أَصْحَابِ أَبْغَا وَأَصْحَابِ ابْنِ
مَنْكُوتَمُرَ ابْنِ عَمِّهِ وَتَفَرَّقُوا وَاشْتَغَلُوا بِبَعْضِهِمْ
بَعْضًا، وللَّه الْحَمْدُ. وَفِيهَا خَرَجَ أَهْلُ حَرَّانَ مِنْهَا
وَقَدِمُوا الشَّامَ، وَكَانَ فِيهِمْ شَيْخُنَا العلامة أبو العباس
أحمد بن تَيْمِيَّةَ صُحْبَةَ أَبِيهِ وَعُمْرُهُ سِتُّ سِنِينَ،
وَأَخُوهُ زَيْنُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَشَرَفُ الدِّينِ
عَبْدُ الله، وهما أصغر منه.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
الْأَمِيرُ عِزُّ الدين أيدمر بن عبد الله
الحلبي الصَّالِحِيُّ، كَانَ مِنْ أَكَابِرِ الْأُمَرَاءِ
وَأَحْظَاهُمْ عِنْدَ الْمُلُوكِ، ثُمَّ عِنْدَ الْمَلِكِ الظَّاهِرِ،
كَانَ يَسْتَنِيبُهُ إِذَا غَابَ، فَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ السِّنَةُ
أَخَذَهُ مَعَهُ وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِقَلْعَةِ دِمَشْقَ، وَدُفِنَ
بِتُرْبَتِهِ بِالْقُرْبِ مِنَ الْيَغْمُورِيَّةِ، وَخَلَّفَ
أَمْوَالًا جَزِيلَةً، وَأَوْصَى إِلَى السُّلْطَانِ فِي أَوْلَادِهِ،
وَحَضَرَ السُّلْطَانُ عَزَاءَهُ بِجَامِعِ دِمَشْقَ.
شَرَفُ الدِّينِ أَبُو الطَّاهِرِ
مُحَمَّدُ بن الْحَافِظِ أَبِي الْخَطَّابِ عُمَرَ بْنِ دِحْيَةَ
الْمِصْرِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ عَشْرٍ وَسِتِّمِائَةٍ وَسَمِعَ أَبَاهُ
وَجَمَاعَةً، وَتَوَلَّى مَشْيَخَةَ دَارِ الْحَدِيثِ الْكَامِلِيَّةِ
مُدَّةً، وَحَدَّثَ وَكَانَ فَاضِلًا.
الْقَاضِي تَاجُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
مُحَمَّدُ بْنُ وَثَّابِ بْنِ رَافِعٍ الْبَجِيلِيُّ الْحَنَفِيُّ،
دَرَّسَ وَأَفْتَى عَنِ ابْنِ عَطَاءٍ بِدِمَشْقَ، وَمَاتَ بَعْدَ
خُرُوجِهِ مِنَ الْحَمَّامِ عَلَى مَسَاطِبِ الْحَمَّامِ فَجْأَةً
وَدُفِنَ بقَاسِيُونَ.
الطَّبِيبُ الْمَاهِرُ شَرَفُ الدِّينِ أَبُو الْحَسَنِ
عَلِيُّ بْنُ يُوسُفَ بْنِ حَيْدَرَةَ الرَّحَبِيُّ شَيْخُ
الْأَطِبَّاءِ بِدِمَشْقَ، وَمُدَرِّسُ الدَّخْوَارِيَّةِ عَنْ
وَصِيَّةِ وَاقِفِهَا بِذَلِكَ وَلَهُ التَّقْدِمَةُ فِي هَذِهِ
الصِّنَاعَةِ عَلَى أَقْرَانِهِ مِنْ أَهْلِ زَمَانِهِ، وَمِنْ
شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
(13/255)
يُسَاقُ بَنُو الدُّنْيَا إِلَى الْحَتْفِ
عَنْوَةً ... وَلَا يَشْعُرُ الْبَاقِي بِحَالَةِ مَنْ يَمْضِي
كَأَنَّهُمُ الْأَنْعَامُ في جهل بعضها ... بما ثم مِنْ سَفْكِ
الدِّمَاءِ عَلَى بَعْضِ
[الشَّيْخُ نَصِيرُ الدِّينِ
الْمُبَارَكُ بْنُ يَحْيَى بْنِ أَبِي الْحَسَنِ أبى البركات بن الصباغ
الشَّافِعِيُّ، الْعَلَّامَةُ فِي الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ، دَرَّسَ
وَأَفْتَى وَصَنَّفَ وَانْتُفِعَ بِهِ، وَعُمِّرَ ثَمَانِينَ سَنَةً،
وَكَانَتْ وفاته في حادي عشرة جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ
عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إبراهيم الكوفي المقري النَّحْوِيُّ
الْمُلَقَّبُ بِسِيبَوَيْهِ، وَكَانَ فَاضِلًا بَارِعًا فِي صِنَاعَةِ
النَّحْوِ، تُوُفِّيَ بِمَارَسْتَانِ الْقَاهِرَةِ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ عَنْ سَبْعٍ وَسِتِّينَ سَنَةً رَحِمَهُ اللَّهُ. وَمِنْ
شِعْرِهِ:
عَذَّبْتَ قَلْبِي بِهَجْرٍ مِنْكَ مُتَّصِلٍ ... يا من هواه ضمير غير
منفصل
فما زادني غير تأكيد صدك لي ... فما عدو لك مِنْ عَطْفٍ إِلَى بَدَلِ]
[1]
وَفِيهَا وُلِدَ شَيْخُنَا الْعَلَّامَةُ كَمَالُ الدِّينِ مُحَمَّدُ
بْنُ عَلِيٍّ الْأَنْصَارِيُّ بْنُ الزَّمَلْكَانِيِّ شَيْخُ
الشَّافِعِيَّةِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثمان وستين وستمائة
فِي ثَانِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا دَخَلَ السُّلْطَانُ مِنَ الْحِجَازِ
عَلَى الْهُجُنِ فَلَمْ يَرُعِ النَّاسَ إِلَّا وَهُوَ فِي
الْمَيْدَانِ الْأَخْضَرِ يَسِيرُ، فَفَرِحَ النَّاسُ بِذَلِكَ،
وَأَرَاحَ النَّاسَ مِنْ تَلَقِّيهِ بِالْهَدَايَا وَالتُّحَفِ،
وَهَذِهِ كَانَتْ عَادَتُهُ، وَقَدْ عَجِبَ النَّاسُ مِنْ سُرْعَةِ
مَسِيرِهِ وَعُلُوِّ هِمَّتِهِ، ثُمَّ سَارَ إِلَى حَلَبَ، ثُمَّ سَارَ
إِلَى مِصْرَ فَدَخَلَهَا فِي سادس الشَّهْرِ مَعَ الرَّكْبِ
الْمِصْرِيِّ، وَكَانَتْ زَوْجَتُهُ أُمُّ الْمَلِكِ السَّعِيدِ فِي
الْحِجَازِ هَذِهِ السَّنَةَ، ثُمَّ خَرَجَ فِي ثَالِثَ عَشَرَ صَفَرٍ
هُوَ وَوَلَدُهُ وَالْأُمَرَاءُ إِلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ
فَتَصَيَّدَ هُنَالِكَ، وَأَطْلَقَ لِلْأُمَرَاءِ الْأَمْوَالَ
الْكَثِيرَةَ وَالْخُلَعَ، وَرَجَعَ مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا.
وَفِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا قُتِلَ صَاحِبُ مَرَّاكُشَ أَبُو
الْعَلَاءِ إِدْرِيسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يوسف
الملقب بالواثق، قتله بنو مزين فِي حَرْبٍ كَانَتْ بَيْنَهُ
وَبَيْنَهُمْ بِالْقُرْبِ مِنْ مَرَّاكُشَ. وَفِي ثَالِثَ عَشَرَ
رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْهَا وَصَلَ السُّلْطَانُ إِلَى دِمَشْقَ فِي
طَائِفَةٍ مِنْ جَيْشِهِ، وَقَدْ لَقُوا فِي الطَّرِيقِ مَشَقَّةً
كَثِيرَةً مِنَ الْبَرْدِ وَالْوَحْلِ، فَخَيَّمَ عَلَى
الزَّنْبَقِيَّةِ وَبَلَغَهُ أَنَّ ابْنَ أُخْتِ زَيْتُونٍ خَرَجَ مِنْ
عَكَّا يَقْصِدُ جَيْشَ الْمُسْلِمِينَ، فَرَكِبَ إِلَيْهِ سَرِيعًا
فَوَجَدَهُ قَرِيبًا مِنْ عَكَّا فَدَخَلَهَا خَوْفًا مِنْهُ. وَفِي
رَجَبٍ تَسَلَّمَ نُوَّابُ السُّلْطَانِ مِصْيَافَ مِنَ
الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ، وَهَرَبَ مِنْهَا أَمِيرُهُمُ الصَّارِمُ
مُبَارَكُ بْنُ الرَّضِيِّ، فَتَحَيَّلَ عَلَيْهِ صَاحِبُ حَمَاةَ
حَتَّى أَسَرَهُ وَأَرْسَلَهُ إلى السلطان فحبسه في بعض الابرجة في
القاهرة. وفيها أرسل السلطان الدرابزينات إلى الحجرة
__________
[1] زيادة من المصرية.
(13/256)
النَّبَوِيَّةِ، وَأَمَرَ أَنْ تُقَامَ
حَوْلَ الْقَبْرِ صِيَانَةً لَهُ، وَعَمِلَ لَهَا أَبْوَابًا تُفْتَحُ
وَتُغْلَقُ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، فَرَكَّبَ ذَلِكَ
عَلَيْهَا. وَفِيهَا اسْتَفَاضَتِ الْأَخْبَارُ بِقَصْدِ الْفِرِنْجِ
بِلَادَ الشَّامِ، فَجَهَّزَ السُّلْطَانُ الْعَسَاكِرَ لِقِتَالِهِمْ،
وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مُهْتَمٌّ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ خَوْفًا
عَلَيْهَا، وَقَدْ حَصَّنَهَا وَعَمِلَ جَسُورَةً إِلَيْهَا إِنْ
دَهَمَهَا الْعَدُوُّ، وَأَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ مِنْهَا. وَفِيهَا
انْقَرَضَتْ دَوْلَةُ بَنِي عَبْدِ الْمُؤْمِنِ مِنْ بِلَادِ
الْمَغْرِبِ، وَكَانَ آخِرُهُمْ إِدْرِيسُ بْنُ عَبْدِ الله بْنِ
يُوسُفَ صَاحِبُ مَرَّاكُشَ، قَتَلَهُ بَنُو مَرِينٍ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ.
الصَّاحِبُ زَيْنُ الدين يعقوب بن عبد الرفيع
ابن زَيْدِ بْنِ مَالِكٍ الْمِصْرِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ
الزُّبَيْرِيِّ كَانَ فَاضِلًا رَئِيسًا، وَزَرَ لِلْمَلِكِ
الْمُظَفَّرِ قُطُزٍ ثُمَّ لِلظَّاهِرِ بَيْبَرْسَ فِي أَوَّلِ
دَوْلَتِهِ، ثُمَّ عزله وولى بهاء الدين ابن الْحِنَّا، فَلَزِمَ
مَنْزِلَهُ حَتَّى أَدْرَكَتْهُ مَنِيَّتُهُ فِي الرَّابِعَ عَشَرَ
مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَلَهُ نَظْمٌ جَيِّدٌ.
الشَّيْخُ مُوَفَّقُ الدِّينِ
أَحْمَدُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنُ خَلِيفَةَ الْخَزْرَجِيُّ الطَّبِيبُ،
الْمَعْرُوفُ بِابْنِ أَبِي أُصَيْبِعَةَ، لَهُ تَارِيخُ الْأَطِبَّاءِ
فِي عَشْرِ مُجَلَّدَاتٍ لِطَافٍ، وَهُوَ وَقْفٌ بِمَشْهَدِ ابْنِ
عُرْوَةَ بِالْأُمَوِيِّ، تُوُفِّيَ بِصَرْخَدَ وَقَدْ جَاوَزَ
التسعين.
الشَّيْخُ زَيْنُ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الدَّائِمِ
ابن نِعْمَةَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ
أَحْمَدَ بْنِ بُكَيْرٍ، أَبُو الْعَبَّاسِ الْمَقْدِسِيُّ
النَّابُلُسِيُّ، تَفَرَّدَ بِالرِّوَايَةِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ
الْمَشَايِخِ، وُلِدَ سَنَةَ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ،
وَقَدْ سَمِعَ وَرَحَلَ إِلَى بُلْدَانٍ شَتَّى، وَكَانَ فَاضِلًا
يَكْتُبُ سَرِيعًا، حَكَى الشَّيْخُ عَلَمُ الدِّينِ أَنَّهُ كَتَبَ
مُخْتَصَرَ الْخِرَقِيِّ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَخَطُّهُ حَسَنٌ
قوى، وَقَدْ كَتَبَ تَارِيخَ ابْنِ عَسَاكِرَ مَرَّتَيْنِ،
وَاخْتَصَرَهُ لِنَفْسِهِ أَيْضًا، وَأُضِرَّ فِي آخِرِ عُمْرِهِ
أَرْبَعَ سِنِينَ، وَلَهُ شِعْرٌ أَوْرَدَ مِنْهُ قُطْبُ الدِّينِ فِي
تَذْيِيلِهِ، تُوُفِّيَ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ وَبِهِ دُفِنَ فِي
بُكْرَةِ الثُّلَاثَاءِ عَاشِرِ رَجَبٍ، وَقَدْ جَاوَزَ التسعين رحمه
الله.
القاضي محيي الدين ابن الزَّكِيِّ
أَبُو الْفَضْلِ يَحْيَى بْنُ قَاضِي الْقُضَاةِ بهاء الدِّينِ أَبِي
الْمَعَالِي مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ
عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ العزيز بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنُ
عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
القاسم بن الوليد ابن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ
بْنِ عفان القرشي الأموي بن الزَّكِيِّ، تَوَلَّى قَضَاءَ دِمَشْقَ
غَيْرَ مَرَّةٍ، وَكَذَلِكَ آبَاؤُهُ مِنْ قَبْلِهِ، كُلٌّ قَدْ
وَلِيَهَا، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ حَنْبَلٍ وَابْنِ طَبَرْزَدَ
وَالْكِنْدِيِّ وَابْنِ الْحَرَسْتَانِيِّ وَجَمَاعَةٍ، وَحَدَّثَ
وَدَرَّسَ فِي مَدَارِسَ كثيرة، وقد ولى قضاء الشام في
الْهَلَاوُونِيَّةِ [1] فَلَمْ يُحْمَدْ عَلَى مَا ذَكَرَهُ أَبُو
شَامَةَ، تُوُفِّيَ بِمِصْرَ فِي الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ رَجَبٍ،
وَدُفِنَ بِالْمُقَطَّمِ وَقَدْ جَاوَزَ السَّبْعِينَ. وَلَهُ
__________
[1] في شذرات الذهب: ولاه هولاكو قضاء الشام.
(13/257)
شِعْرٌ جَيِّدٌ قَوِيٌّ، وَحَكَى الشَّيْخُ
قُطْبُ الدِّينِ في ذلك بعد ما نسبه كما ذكرنا عن والده الْقَاضِي
بَهَاءِ الدِّينِ أَنَّهُ كَانَ يَذْهَبُ إِلَى تَفْضِيلِ عَلِيٍّ
عَلَى عُثْمَانَ مُوَافَقَةً لِشَيْخِهِ مُحْيِي الدين ابن عَرَبِيٍّ،
وَلِمَنَامٍ رَآهُ بِجَامِعِ دِمَشْقَ مُعْرِضًا عَنْهُ بِسَبَبِ مَا
كَانَ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ إِلَيْهِ فِي أَيَّامِ صِفِّينَ،
فَأَصْبَحَ فَنَظَمَ فِي ذَلِكَ قَصِيدَةً يَذْكُرُ فِيهَا مَيْلَهُ
إِلَى عَلِيٍّ، وَإِنْ كان هو أموى:
أَدِينُ بِمَا دَانَ الْوَصِيُّ وَلَا أَرَى ... سِوَاهُ وَإِنْ
كَانَتْ أُمَيَّةُ مَحْتِدِي
وَلَوْ شَهِدَتْ صِفِّينَ خيلى لاعذرت ... وشاء بَنِي حَرْبٍ هُنَالِكَ
مَشْهَدِي
لَكُنْتُ أَسُنُّ الْبِيضَ عنهم تراضيا ... وَأَمْنَعُهُمْ نَيْلَ
الْخِلَافَةِ بِالْيَدِ
وَمِنْ شِعْرِهِ:
قَالُوا مَا فِي جِلَّقٍ نُزْهَةٌ ... تُسْلِيكَ عَمَّنْ أَنْتَ به
مغرا
يَا عَاذِلِي دُونَكَ فِي لَحْظِهِ ... سَهْمًا وَقَدْ عَارَضَهُ
سَطْرَا
الصَّاحِبُ فَخْرُ الدِّينِ
مُحَمَّدُ بْنُ الصَّاحِبُ بَهَاءُ الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ
بْنِ سُلَيْمِ بْنِ الْحِنَّا الْمِصْرِيُّ، كَانَ وَزِيرَ
الصُّحْبَةِ، وَقَدْ كَانَ فَاضِلًا، بَنَى رِبَاطًا بِالْقَرَافَةِ
الْكُبْرَى، وَدَرَّسَ بِمَدْرَسَةِ وَالِدِهِ بِمِصْرَ،
وَبِالشَّافِعِيِّ بَعْدَ ابْنِ بنت الأعز توفى بشعبان وَدُفِنَ
بِسَفْحِ الْمُقَطَّمِ، وَفَوَّضَ السُّلْطَانُ وِزَارَةَ الصُّحْبَةِ
لولده تَاجِ الدِّينِ.
الشَّيْخُ أَبُو نَصْرِ بْنُ أَبِي الحسن
ابن الْخَرَّازِ الصُّوفِيُّ الْبَغْدَادِيُّ الشَّاعِرُ، لَهُ
دِيوَانٌ حَسَنٌ، وَكَانَ جَمِيلَ الْمُعَاشَرَةِ حَسَنَ
الْمُذَاكَرَةِ، دَخَلَ عَلَيْهِ بعض أصحابه فلم يقم له فأنشده
قَوْلَهُ:
نَهَضَ الْقَلْبُ حِينَ أَقْبَلْتَ ... إِجْلَالًا لِمَا فِيهِ مِنْ
صَحِيحِ الْوِدَادِ
وَنُهُوضُ الْقُلُوبِ بِالْوُدِّ أَوْلَى ... مِنْ نُهُوضِ
الْأَجْسَادِ لِلْأَجْسَادِ
ثُمَّ دَخَلَتْ سنة تسع وستين وستمائة
فِي مُسْتَهَلِّ صَفَرٍ مِنْهَا رَكِبَ السُّلْطَانُ مِنَ الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ فِي طَائِفَةٍ مِنَ الْعَسْكَرِ إِلَى عَسْقَلَانَ
فَهَدَمَ مَا بَقِيَ مِنْ سُورِهَا مِمَّا كَانَ أُهْمِلَ فِي
الدَّوْلَةِ الصَّلَاحِيَّةِ، وَوَجَدَ فِيمَا هَدَمَ كُوزَيْنِ
فِيهِمَا أَلْفَا دِينَارٍ فَفَرَّقَهُمَا عَلَى الْأُمَرَاءِ.
وَجَاءَتْهُ الْبِشَارَةُ وَهُوَ هُنَالِكَ بِأَنَّ مَنْكُوتَمُرَ
كَسَرَ جَيْشَ أَبْغَا فَفَرِحَ بِذَلِكَ، ثُمَّ عَادَ إِلَى
الْقَاهِرَةِ. وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ بَلَغَ السُّلْطَانَ أَنَّ
أَهْلَ عَكَّا ضَرَبُوا رِقَابَ مَنْ فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ أَسْرَى
الْمُسْلِمِينَ صَبْرًا بِظَاهِرِ عَكَّا، فَأَمَرَ بِمَنْ كَانَ فِي
يَدِهِ مِنْ أَسْرَى أَهْلِ عَكَّا فَضُرِبَتْ رِقَابُهُمْ فِي
صَبِيحَةٍ وَاحِدَةٍ، وكانوا قريبا من مائتي أَسِيرٍ. وَفِيهَا كَمَلَ
جَامِعُ الْمَنْشِيَّةِ [1] وَأُقِيمَتْ فِيهِ الْجُمُعَةُ فِي
الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ. وَفِيهَا جَرَتْ
حُرُوبٌ يَطُولُ ذِكْرُهَا بَيْنَ أَهْلِ تونس والفرنج، ثم تصالحوا بعد
ذلك
__________
[1] كذا في المصرية. وفي التركية المزة.
(13/258)
على الهدنة ووضع الحرب، بعد ما قتل من
الفريقين خلق لَا يُحْصَوْنَ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ ثَامِنِ رَجَبٍ دخل الظاهر دِمَشْقَ وَفِي
صُحْبَتِهِ وَلَدُهُ الْمَلِكُ السَّعِيدُ وَابْنُ الْحِنَّا
الْوَزِيرُ وَجُمْهُورُ الْجَيْشِ ثُمَّ خَرَجُوا مُتَفَرِّقِينَ
وَتَوَاعَدُوا أَنْ يَلْتَقُوا بِالسَّاحِلِ لِيَشُنُّوا الْغَارَةَ
عَلَى جبلة واللاذقية ومرقب وعرقا وَمَا هُنَالِكَ مِنَ الْبِلَادِ،
فَلَمَّا اجْتَمَعُوا فَتَحُوا صافينا وَالْمِجْدَلَ، ثُمَّ سَارُوا
فَنَزَلُوا عَلَى حِصْنِ الْأَكْرَادِ يوم الثلاثاء تاسع عشر رجب، وله
ثلاثة أسوار، فنصبوا المنجنيقات ففتحها قسرا يَوْمَ نِصْفِ شَعْبَانَ،
فَدَخَلَ الْجَيْشُ، وَكَانَ الَّذِي يُحَاصِرُهُ وَلَدُ السُّلْطَانِ
الْمَلِكُ السَّعِيدُ، فَأَطْلَقَ السُّلْطَانُ أَهْلَهُ وَمَنَّ
عَلَيْهِمْ وَأَجْلَاهُمْ إِلَى طَرَابُلُسَ، وَتَسَلَّمَ الْقَلْعَةَ
بَعْدَ عَشْرَةِ أَيَّامٍ مِنَ الْفَتْحِ، فَأَجْلَى أَهْلَهَا أَيْضًا
وَجَعَلَ كَنِيسَةَ الْبَلَدِ جَامِعًا، وَأَقَامَ فِيهِ الْجُمُعَةَ،
وَوَلَّى فِيهَا نَائِبًا وَقَاضِيًا وَأَمَرَ بعمارة البلد، وبعث صاحب
طرسوس بِمَفَاتِيحِ بَلَدِهِ يَطْلُبُ مِنْهُ الصُّلْحَ عَلَى أَنْ
يَكُونَ نِصْفُ مُغَلِّ بِلَادِهِ لِلسُّلْطَانِ، وَأَنْ يَكُونَ لَهُ
بِهَا نَائِبًا فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ صَاحِبُ
الْمَرْقَبِ فَصَالَحَهُ أَيْضًا عَلَى الْمُنَاصَفَةِ وَوَضْعِ
الْحَرْبِ عَشْرَ سِنِينَ. وَبَلَغَ السُّلْطَانَ وَهُوَ مُخَيِّمٌ
عَلَى حِصْنِ الْأَكْرَادِ أَنَّ صَاحِبَ جَزِيرَةِ قبرص قَدْ رَكِبَ
بِجَيْشِهِ إِلَى عَكَّا لِيَنْصُرَ أَهْلَهَا خَوْفًا مِنَ
السُّلْطَانِ، فَأَرَادَ السُّلْطَانُ أَنْ يَغْتَنِمَ هذه الفرصة فبعث
جيشا كثيفا في اثنى عشرة شيني ليأخذوا جزيرة قبرص فِي غَيْبَةِ
صَاحِبِهَا عَنْهَا، فَسَارَتِ الْمَرَاكِبُ مُسْرِعَةً فَلَمَّا
قَارَبَتِ الْمَدِينَةَ جَاءَتْهَا رِيحٌ قَاصِفٌ فَصَدَمَ بعضها بعضا
فانكسر فيها أربعة عشر مركبا باذن الله فَغَرِقَ خَلْقٌ وَأَسَرَ
الْفِرِنْجُ مِنَ الصُّنَّاعِ وَالرِّجَالِ قريبا من ألف وثمانمائة
إنسان، ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156. ثُمَّ
سَارَ السُّلْطَانُ فَنَصَبَ الْمَجَانِيقَ عَلَى حِصْنِ عَكَّا
فَسَأَلَهُ أَهْلُهَا الأمان على أن يخليهم فَأَجَابَهُمْ إِلَى
ذَلِكَ، وَدَخَلَ الْبَلَدَ يَوْمَ عِيدِ الْفِطْرِ فَتَسَلَّمَهُ،
وَكَانَ الْحِصْنُ شَدِيدَ الضَّرَرِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ
وَادٍ بَيْنَ جَبَلَيْنِ، ثُمَّ سَارَ السُّلْطَانُ نَحْوَ طَرَابُلُسَ
فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ صَاحِبُهَا يَقُولُ: مَا مُرَادُ السُّلْطَانِ فِي
هَذِهِ الْأَرْضِ؟ فَقَالَ جِئْتُ لِأَرْعَى زُرُوعَكُمْ وَأُخَرِّبَ
بِلَادَكُمْ، ثُمَّ أَعُودَ إِلَى حِصَارِكُمْ فِي الْعَامِ الْآتِي.
فَأَرْسَلَ يَسْتَعْطِفُهُ وَيَطْلُبُ مِنْهُ الْمُصَالَحَةَ وَوَضْعَ
الْحَرْبِ بَيْنَهُمْ عَشْرَ سِنِينَ فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ،
وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْإِسْمَاعِيلِيَّةُ يَسْتَعْطِفُونَهُ عَلَى
وَالِدِهِمْ، وَكَانَ مَسْجُونًا بِالْقَاهِرَةِ، فَقَالَ: سَلِّمُوا
إِلَيَّ الْعُلَّيْقَةَ وَانْزِلُوا فَخُذُوا إِقْطَاعَاتٍ
بِالْقَاهِرَةِ، وَتَسَلَّمُوا أَبَاكُمْ. فَلَمَّا نَزَلُوا أَمَرَ
بِحَبْسِهِمْ بِالْقَاهِرَةِ وَاسْتَنَابَ بِحِصْنِ الْعُلَّيْقَةِ.
وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ الثَّانِي عَشَرَ مِنْ شَوَّالٍ جَاءَ سَيْلٌ
عَظِيمٌ إِلَى دِمَشْقَ فَأَتْلَفَ شَيْئًا كَثِيرًا، وَغَرِقَ
بِسَبَبِهِ نَاسٌ كَثِيرٌ، لَا سِيَّمَا الْحُجَّاجُ مِنَ الرُّومِ
الَّذِينَ كَانُوا نُزُولًا بَيْنَ النَّهْرَيْنِ، أَخَذَهُمُ
السَّيْلُ وَجِمَالَهُمْ وَأَحْمَالَهُمْ، فَهَلَكُوا وَغُلِّقَتْ
أَبْوَابُ الْبَلَدِ، وَدَخَلَ الْمَاءُ إلى البلد من مراقى السُّورِ،
وَمِنْ بَابِ الْفَرَادِيسِ فَغَرَّقَ خَانَ ابْنِ الْمُقَدَّمِ
وَأَتْلَفَ شَيْئًا كَثِيرًا، وَكَانَ ذَلِكَ فِي زمن الصيف في
أَيَّامَ الْمِشْمِشِ، وَدَخَلَ السُّلْطَانُ إِلَى دِمَشْقَ يَوْمَ
الْأَرْبِعَاءِ خَامِسَ عَشَرَ شَوَّالٍ فَعَزَلَ الْقَاضِي ابْنَ
خَلِّكَانَ، وَكَانَ لَهُ فِي الْقَضَاءِ
(13/259)
عَشْرُ سِنِينَ، وَوَلَّى الْقَاضِي عِزَّ
الدِّينِ بْنَ الصَّائِغِ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَكَانَ تَقْلِيدُهُ
قَدْ كُتِبَ بِظَاهِرِ طَرَابُلُسَ بِسِفَارَةِ الْوَزِيرِ ابْنِ
الْحِنَّا، فَسَارَ ابْنُ خَلِّكَانَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ إِلَى
مِصْرَ. وفي ثانى عشر شوال دخل حصن الْكُرْدِيُّ شَيْخُ السُّلْطَانِ
الْمَلِكِ الظَّاهِرِ وَأَصْحَابُهُ إِلَى كَنِيسَةِ الْيَهُودِ
فَصَلَّوْا فِيهَا وَأَزَالُوا مَا فِيهَا مِنْ شَعَائِرِ الْيَهُودِ،
وَمَدُّوا فِيهَا سِمَاطًا وَعَمِلُوا سَمَاعًا، وَبَقَوْا عَلَى
ذَلِكَ أَيَّامًا، ثُمَّ أُعِيدَتْ إِلَى الْيَهُودِ، ثُمَّ خَرَجَ
السُّلْطَانُ إِلَى السَّوَاحِلِ فَافْتَتَحَ بَعْضَهَا وَأَشْرَفَ
عَلَى عَكَّا وَتَأَمَّلَهَا ثُمَّ سار إلى الديار المصرية، وكان مقدار
غَرِمَهُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ وَفِي الْغَزَوَاتِ قَرِيبًا مِنْ
ثَمَانِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَأَخْلَفَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ، وكان
وُصُولُهُ إِلَى الْقَاهِرَةِ يَوْمَ الْخَمِيسِ ثَالِثَ عَشَرَ ذِي
الْحِجَّةِ. وَفِي الْيَوْمِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ وُصُولِهِ
أَمْسَكَ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الْأُمَرَاءِ مِنْهُمُ الْحَلَبِيُّ
وَغَيْرُهُ بَلَغَهُ أَنَّهُمْ أَرَادُوا مَسْكَهُ عَلَى الشَّقِيفِ.
وَفِي الْيَوْمِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ أَمَرَ
بِإِرَاقَةِ الْخُمُورِ مِنْ سَائِرِ بِلَادِهِ وَتَهَدَّدَ مَنْ
يَعْصِرُهَا أَوْ يَعْتَصِرُهَا بِالْقَتْلِ، وَأَسْقَطَ ضَمَانَ
ذَلِكَ، وَكَانَ ذَلِكَ بِالْقَاهِرَةِ وَحْدَهَا كُلُّ يَوْمٍ
ضَمَانُهُ أَلْفُ دِينَارٍ، ثُمَّ سَارَتِ الْبُرُدُ بِذَلِكَ إِلَى
الْآفَاقِ. وَفِيهَا قَبَضَ السُّلْطَانُ عَلَى الْعَزِيزِ بْنِ
الْمُغِيثِ صَاحِبِ الْكَرَكِ، وَعَلَى جَمَاعَةٍ من أصحابه كانوا
عزموا على سلطنته.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ.
الْمَلِكُ تَقِيُّ الدِّينِ عَبَّاسُ بْنُ الْمَلِكِ الْعَادِلِ
أَبِي بَكْرِ بْنِ أَيُّوبَ بْنِ شَادِي، وَهُوَ آخِرُ مَنْ بَقِيَ
مِنْ أَوْلَادِ الْعَادِلِ، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنَ
الْكِنْدِيِّ وَابْنِ الْحَرَسْتَانِيِّ، وَكَانَ مُحْتَرَمًا عِنْدَ
الْمُلُوكِ لَا يُرْفَعُ عَلَيْهِ أَحَدٌ فِي الْمَجَالِسِ
وَالْمَوَاكِبِ، وَكَانَ لَيِّنَ الْأَخْلَاقِ حَسَنَ الْعِشْرَةِ، لَا
تَمَلُّ مُجَالَسَتَهُ. تُوُفِّيَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الثَّانِي
وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ بِدَرْبِ الرَّيْحَانِ،
وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ.
قَاضِي الْقُضَاةِ شَرَفُ الدِّينِ أَبُو حَفْصٍ
عُمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحِ بْنِ عِيسَى السُّبْكِيُّ
الْمَالِكِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ خَمْسٍ وثمانين وخمسمائة، وسمع الحديث
وتفقه وأفتى بالصلاحية، وَوَلِيَ حِسْبَةَ الْقَاهِرَةِ ثُمَّ وَلِيَ
الْقَضَاءَ سَنَةَ ثلاث وَسِتِّينَ، لَمَّا وَلَّوْا مِنْ كُلِّ
مَذْهَبٍ قَاضِيًا، وَقَدِ امْتَنَعَ أَشَدَّ الِامْتِنَاعِ ثُمَّ
أَجَابَ بَعْدَ إكراه بشرط أَنْ لَا يَأْخُذَ عَلَى الْقَضَاءِ
جَامَكِيَّةَ، وَكَانَ مَشْهُورًا بِالْعِلْمِ وَالدِّينِ، رَوَى
عَنْهُ الْقَاضِي بَدْرُ الدين ابن جَمَاعَةَ وَغَيْرُهُ. تُوُفِّيَ
لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ.
الطَّوَاشِيُّ شُجَاعُ الدِّينِ مُرْشِدٌ الْمُظَفَّرِيُّ الْحَمَوِيُّ
كَانَ شُجَاعًا بَطَلًا مِنَ الْأَبْطَالِ الشُّجْعَانِ، وَكَانَ له
رأى سديد، كان أُسْتَاذُهُ لَا يُخَالِفُهُ، وَكَذَلِكَ الْمَلِكُ
الظَّاهِرُ، تُوُفِّيَ بِحَمَاةَ وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِ بِالْقُرْبِ
مِنْ مَدْرَسَتِهِ بِحَمَاةَ.
(13/260)
ابْنُ سَبْعِينَ: عَبْدُ الْحَقِّ بْنُ
إِبْرَاهِيمَ بْنِ محمد
ابن نَصْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بن قُطْبُ
الدِّينِ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَقْدِسِيُّ الرُّقُوطِيُّ، نِسْبَةً
إِلَى رُقُوطَةَ بَلْدَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْ مُرْسِيَةَ، وُلِدَ سَنَةَ
أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَاشْتَغَلَ بِعِلْمِ الْأَوَائِلِ
وَالْفَلْسَفَةِ، فَتَوَلَّدَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ نَوْعٌ مِنَ الإلحاد،
وصنف فيه، وكان يعرف السيميا، وكان يُلَبِّسُ بِذَلِكَ عَلَى
الْأَغْبِيَاءِ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَالْأَغْنِيَاءِ، وَيَزْعُمُ
أَنَّهُ حَالٌ مِنْ أَحْوَالِ الْقَوْمِ، وَلَهُ من المصنفات كتاب
البدو، وَكِتَابُ الْهُوَ، وَقَدْ أَقَامَ بِمَكَّةَ وَاسْتَحْوَذَ
عَلَى عقل صاحبها ابن سمى، وَجَاوَرَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ بِغَارِ
حِرَاءَ يَرْتَجِي فِيمَا يُنْقَلُ عَنْهُ أَنْ يَأْتِيَهُ فِيهِ
وَحْيٌ كَمَا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
بِنَاءً عَلَى مَا يَعْتَقِدُهُ مِنَ الْعَقِيدَةِ الْفَاسِدَةِ مِنْ
أَنَّ النُّبُوَّةَ مُكْتَسَبَةٌ، وَأَنَّهَا فَيْضٌ يَفِيضُ عَلَى
الْعَقْلِ إِذَا صَفَا، فَمَا حَصَلَ لَهُ إِلَّا الْخِزْيُ فِي
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، إِنْ كَانَ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ كَانَ
إِذَا رَأَى الطَّائِفِينَ حَوْلَ الْبَيْتِ يَقُولُ عَنْهُمْ:
كَأَنَّهُمُ الْحَمِيرُ حَوْلَ الْمَدَارِ، وَإِنَّهُمْ لَوْ طَافُوا
بِهِ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ طَوَافِهِمْ بِالْبَيْتِ، فاللَّه يَحْكُمُ
فِيهِ وَفِي أَمْثَالِهِ. وَقَدْ نُقِلَتْ عَنْهُ عَظَائِمُ مِنَ
الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، تُوُفِّيَ فِي الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ
مِنْ شَوَّالٍ بِمَكَّةَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ من الهجرة
اسْتَهَلَّتْ وَخَلِيفَةُ الْوَقْتِ الْحَاكِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ أَبُو
الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ الْعَبَّاسِيُّ، وَسُلْطَانُ الْإِسْلَامِ
الْمَلِكُ الظَّاهِرُ. وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنَ
الْمُحَرَّمِ ركب السلطان إلى البحر لالتقاء الشَّوَانِي الَّتِي
عُمِلَتْ عِوَضًا عَمَّا غَرِقَ بِجَزِيرَةِ قبرص، وهي أربعون شينيا،
فَرَكِبَ فِي شِينِيٍّ مِنْهَا وَمَعَهُ الْأَمِيرُ بَدْرُ الدين،
فَمَالَتْ بِهِمْ فَسَقَطَ الْخَزَنْدَارُ فِي الْبَحْرِ فَغَاصَ فِي
الْمَاءِ فَأَلْقَى إِنْسَانٌ نَفْسَهُ وَرَاءَهُ فَأَخَذَ بِشَعْرِهِ
وَأَنْقَذَهُ مِنَ الْغَرَقِ، فَخَلَعَ السُّلْطَانُ عَلَى ذَلِكَ
الرَّجُلِ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ. وَفِي أَوَاخِرِ الْمُحَرَّمِ رَكِبَ
السُّلْطَانُ فِي نَفَرٍ يَسِيرٍ مِنَ الْخَاصِّكِيَّةِ،
وَالْأُمَرَاءِ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ حَتَّى قَدِمَ
الْكَرَكَ، وَاسْتَصْحَبَ نَائِبَهَا مَعَهُ إِلَى دِمَشْقَ،
فَدَخَلَهَا فِي ثَانِي عَشَرَ صَفَرٍ، وَمَعَهُ الْأَمِيرُ عِزُّ
الدِّينِ أَيْدَمُرُ نَائِبُ الْكَرَكِ، فَوَلَّاهُ نِيَابَةَ دِمَشْقَ
وَعَزَلَ عَنْهَا جَمَالَ الدِّينِ آقُوشَ النَّجِيبِيَّ فِي رَابِعَ
عَشَرَ صَفَرٍ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى حَمَاةَ وَعَادَ بَعْدَ عَشَرَةِ
أَيَّامٍ. وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ وَصَلَتِ الجفال مِنْ حَلَبَ
وَحَمَاةَ وَحِمْصَ إِلَى دِمَشْقَ بِسَبَبِ الْخَوْفِ مِنَ
التَّتَارِ، وَجَفَلَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ دِمَشْقَ. وَفِي
رَبِيعٍ الْآخِرِ وَصَلَتِ الْعَسَاكِرُ الْمِصْرِيَّةُ إِلَى حَضْرَةِ
السُّلْطَانِ إِلَى دِمَشْقَ فَسَارَ بِهِمْ مِنْهَا فِي سَابِعِ
الشَّهْرِ، فَاجْتَازَ بِحَمَاةَ وَاسْتَصْحَبَ مَلِكَهَا
الْمَنْصُورَ، ثُمَّ سَارَ إِلَى حَلَبَ فَخَيَّمَ بِالْمَيْدَانِ
الْأَخْضَرِ بِهَا، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ عَسَاكِرَ الرُّومِ
جَمَعُوا نَحْوًا مِنْ عَشْرَةِ آلَافِ فَارِسٍ وَبَعَثُوا طَائِفَةً
مِنْهُمْ فَأَغَارُوا عَلَى عين تاب، ووصلوا إلى نسطون وَوَقَعُوا
عَلَى طَائِفَةٍ مِنَ التُّرْكُمَانِ بَيْنَ حَارِمٍ وَأَنْطَاكِيَّةَ
فَاسْتَأْصَلُوهُمْ فَلَمَّا سَمِعَ التَّتَارُ بِوُصُولِ السُّلْطَانِ
ومعه العساكر المنصورة ارتدوا على أعقابهم راجعين، وَكَانَ بَلَغَهُ
أَنَّ الْفِرِنْجَ أَغَارُوا عَلَى بِلَادِ قَاقُونَ [1] وَنَهَبُوا
طَائِفَةً مِنَ التُّرْكُمَانِ، فَقَبَضَ عَلَى الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ
هُنَاكَ حَيْثُ لَمْ يَهْتَمُّوا بِحِفْظِ البلاد وعادوا إلى الديار
المصرية.
__________
[1] حصن بفلسطين، قرب الرملة.
(13/261)
وَفِي ثَالِثِ شَعْبَانَ أَمْسَكَ
السُّلْطَانُ قَاضِي الْحَنَابِلَةِ بمصر شمس الدين أحمد بْنَ
الْعِمَادِ الْمَقْدِسِيَّ، وَأَخَذَ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْوَدَائِعِ
فَأَخَذَ زَكَاتَهَا وَرَدَّ بَعْضَهَا إِلَى أَرْبَابِهَا،
وَاعْتَقَلَهُ إِلَى شَعْبَانَ مِنْ سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ،
وَكَانَ الَّذِي وَشَى بِهِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ حَرَّانَ يُقَالُ لَهُ
شَبِيبٌ، ثُمَّ تَبَيَّنَ لِلسُّلْطَانِ نَزَاهَةُ الْقَاضِي
وَبَرَاءَتُهُ فَأَعَادَهُ إِلَى مَنْصِبِهِ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ
وَسَبْعِينَ، وَجَاءَ السُّلْطَانُ فِي شَعْبَانَ إِلَى أَرَاضِي
عَكَّا فَأَغَارَ عَلَيْهَا فَسَأَلَهُ صَاحِبُهَا المهادنة فأجابه إلى
ذلك فهادنه عشرة سِنِينَ وَعَشْرَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرَةَ أَيَّامٍ
وَعَشْرَةَ سَاعَاتٍ، وَعَادَ إِلَى دِمَشْقَ فَقُرِئَ بِدَارِ
السَّعَادَةِ كِتَابُ الصُّلْحِ، وَاسْتَمَرَّ الْحَالُ عَلَى ذَلِكَ
ثُمَّ عَادَ السُّلْطَانُ إِلَى بِلَادِ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ فَأَخَذَ
عَامَّتَهَا. قَالَ قُطْبُ الدِّينِ: وَفِي جُمَادَى الْآخِرَةِ
وُلِدَتْ زَرَافَةٌ بِقَلْعَةِ الْجَبَلِ، وَأُرْضِعَتْ مِنْ بَقَرَةٍ.
قَالَ وَهَذَا شيء لم يعهد مثله.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ
الشَّيْخُ كَمَالُ الدِّينِ
سَلَّارُ بْنُ حَسَنِ بْنِ عُمَرَ بْنِ سَعِيدٍ الْإِرْبِلِيُّ
الشَّافِعِيُّ، أَحَدُ مَشَايِخِ الْمَذْهَبِ، وَقَدِ اشْتَغَلَ
عَلَيْهِ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ النَّوَوِيُّ، وَقَدِ اخْتَصَرَ
الْبَحْرَ لِلرُّويَانِيِّ فِي مُجَلَّدَاتٍ عَدِيدَةٍ هِيَ عِنْدِي
بِخَطِّ يَدِهِ وَكَانَتِ الْفُتْيَا تَدُورُ عَلَيْهِ بِدِمَشْقَ،
تُوُفِّيَ فِي عشر السبعين، ودفن بباب الصغير، وكان مفيدا بالبادرائية
مِنْ أَيَّامِ الْوَاقِفِ، لَمْ يَطْلُبْ زِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ إِلَى
أَنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
وَجِيهُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طالب
ابن سويد التكريتي التاجر الكبير بين التجار بن سويد ذُو الْأَمْوَالِ
الْكَثِيرَةِ، وَكَانَ مُعَظَّمًا عِنْدَ الدَّوْلَةِ، وَلَا سِيَّمَا
عِنْدَ الْمَلِكِ الظَّاهِرِ، كَانَ يُجِلُّهُ وَيُكْرِمُهُ لِأَنَّهُ
كَانَ قَدْ أَسْدَى إِلَيْهِ جَمِيلًا فِي حَالِ إِمْرَتِهِ قَبْلَ
أَنْ يَلِيَ السَّلْطَنَةَ، وَدُفِنَ بِرِبَاطِهِ وَتُرْبَتِهِ
بِالْقُرْبِ مِنَ الرِّبَاطِ النَّاصِرِيِّ بِقَاسِيُونَ، وَكَانَتْ
كُتُبُ الْخَلِيفَةِ تَرِدُ إِلَيْهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَكَانَتْ
مُكَاتَبَاتُهُ مَقْبُولَةً عِنْدَ جَمِيعِ الْمُلُوكِ، حَتَّى مُلُوكِ
الْفِرِنْجِ فِي السَّوَاحِلِ. وَفِي أيام التتار في أيام هولاكو،
وَكَانَ كَثِيرَ الصَّدَقَاتِ وَالْبِرِّ.
نَجْمُ الدِّينِ يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ
اللُّبُودِيِّ
واقف اللبودية التي عند حمام الفلك المبرر عَلَى الْأَطِبَّاءِ،
وَلَدَيْهِ فَضِيلَةٌ بِمَعْرِفَةِ الطِّبِّ، وَقَدْ وَلِيَ نَظَرَ
الدَّوَاوِينِ بِدِمَشْقَ، وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِ عِنْدَ
اللُّبُودِيَّةِ.
الشَّيْخُ عَلِيٌّ الْبَكَّاءُ
صَاحِبُ الزَّاوِيَةِ بِالْقُرْبِ مِنْ بَلَدِ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ
السَّلَامُ، كَانَ مَشْهُورًا بِالصَّلَاحِ وَالْعِبَادَةِ
وَالْإِطْعَامِ لِمَنِ اجْتَازَ بِهِ مِنَ الْمَارَّةِ وَالزُّوَّارِ،
وَكَانَ الْمَلِكُ الْمَنْصُورُ قَلَاوُونُ يُثْنِي عليه ويقول: اجتمعت
بِهِ وَهُوَ أَمِيرٌ وَأَنَّهُ كَاشَفَهُ فِي أَشْيَاءَ وَقَعَتْ
جَمِيعُهَا، وَمِنْ جُمْلَتِهَا أَنَّهُ سَيَمْلِكُ. نَقَلَ ذَلِكَ
قُطْبُ الدِّينِ الْيُونِينِيُّ، وَذَكَرَ أَنَّ سَبَبَ بُكَائِهِ
الْكَثِيرِ أَنَّهُ صَحِبَ رَجُلًا كَانَتْ لَهُ أَحْوَالٌ
وَكَرَامَاتٌ، وَأَنَّهُ خَرَجَ مَعَهُ مِنْ بَغْدَادَ
(13/262)
فَانْتَهَوْا فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ إِلَى
بَلْدَةٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَ بَغْدَادَ مَسِيرَةُ سَنَةٍ، وَأَنَّ
ذَلِكَ الرَّجُلَ قَالَ لَهُ إِنِّي سَأَمُوتُ فِي الْوَقْتِ
الْفُلَانِيِّ، فأشهدني في ذلك الوقت في البلد الفلاني. قَالَ:
فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْوَقْتُ حَضَرْتُ عِنْدَهُ وَهُوَ فِي
السِّيَاقِ، وَقَدِ اسْتَدَارَ إِلَى جِهَةِ الشَّرْقِ فَحَوَّلْتُهُ
إِلَى الْقِبْلَةِ فَاسْتَدَارَ إِلَى الشَّرْقِ فَحَوَّلْتُهُ أَيْضًا
فَفَتَحَ عَيْنَيْهِ وَقَالَ: لَا تَتْعَبْ فَإِنِّي لَا أَمُوتُ
إِلَّا عَلَى هَذِهِ الْجِهَةِ، وَجَعَلَ يَتَكَلَّمُ بِكَلَامِ
الرُّهْبَانِ حَتَّى مَاتَ فَحَمَلْنَاهُ فَجِئْنَا بِهِ إِلَى دَيْرٍ
هُنَاكَ فَوَجَدْنَاهُمْ فِي حُزْنٍ عَظِيمٍ، فَقُلْنَا لَهُمْ: مَا
شَأْنُكُمْ؟ فَقَالُوا كَانَ عِنْدَنَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ابْنُ مِائَةِ
سَنَةٍ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمَ مَاتَ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَقُلْنَا
لهم: خذوا هذا بدله وسلمونا صَاحِبَنَا، قَالَ فَوَلَّيْنَاهُ
فَغَسَّلْنَاهُ وَكَفَّنَّاهُ وَصَلَّيْنَا عَلَيْهِ ودفناه مع
المسلمين، وولواهم ذَلِكَ الرَّجُلَ فَدَفَنُوهُ فِي مَقْبَرَةِ
النَّصَارَى، نَسْأَلُ الله حُسْنَ الْخَاتِمَةِ. مَاتَ الشَّيْخُ
عَلِيٌّ فِي رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وسبعين وستمائة
فِي خَامِسِ الْمُحَرَّمِ وَصَلَ الظَّاهِرُ دِمَشْقَ مِنْ بِلَادِ
السَّوَاحِلِ الَّتِي فَتَحَهَا وَقَدْ مَهَّدَهَا، وَرَكِبَ فِي
أَوَاخِرِ الْمُحَرَّمِ إِلَى الْقَاهِرَةِ فَأَقَامَ بِهَا سَنَةً
ثُمَّ عَادَ فَدَخَلَ دِمَشْقَ فِي رَابِعِ صَفَرٍ، وَفِي الْمُحَرَّمِ
مِنْهَا وَصَلَ صَاحِبُ النُّوبَةِ إِلَى عَيْذَابَ فَنَهَبَ
تُجَّارَهَا وَقَتَلَ خَلْقًا مِنْ أَهْلِهَا، مِنْهُمُ الْوَالِي
وَالْقَاضِي، فَسَارَ إِلَيْهِ الْأَمِيرُ عَلَاءُ الدِّينِ
أَيْدُغْدِي الْخَزَنْدَارُ فَقَتَلَ خَلْقًا مِنْ بِلَادِهِ وَنَهَبَ
وَحَرَّقَ وَهَدَمَ وَدَوَّخَ الْبِلَادَ، وَأَخَذَ بِالثَّأْرِ وللَّه
الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ تُوُفِّيَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ
مُحَمَّدُ بْنُ مُظَفَّرِ الدِّينِ عُثْمَانَ بْنِ نَاصِرِ الدِّينِ
مَنْكُورَسُ صَاحِبُ صِهْيَوْنَ، وَدُفِنَ فِي تُرْبَةِ وَالِدِهِ فِي
عَشْرِ السَّبْعِينَ، وَكَانَ لَهُ فِي مُلْكِ صِهْيَوْنَ وَبَرْزَيَهْ
إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً، وَتَسَلَّمَهَا بَعْدَهُ وَلَدُهُ سَابِقُ
الدِّينِ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْمَلِكِ الظَّاهِرِ يَسْتَأْذِنُهُ فِي
الحضور فأذن له، فلما حضر أقطعه خيزا وَبَعَثَ إِلَى الْبَلَدَيْنِ
نُوَّابًا مِنْ جِهَتِهِ.
وَفِي خامس جمادى الآخرة وَصَلَ السُّلْطَانُ بِعَسْكَرِهِ إِلَى
الْفُرَاتِ لِأَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ طَائِفَةً مِنَ التَّتَارِ
هُنَالِكَ فَخَاضَ إِلَيْهِمُ الْفُرَاتَ بِنَفْسِهِ وَجُنْدِهِ،
وَقَتَلَ مِنْ أُولَئِكَ مَقْتَلَةً كَبِيرَةً وَخَلْقًا كَثِيرًا،
وَكَانَ أَوَّلُ مَنِ اقْتَحَمَ الْفُرَاتَ يَوْمَئِذٍ الْأَمِيرُ
سَيْفُ الدِّينِ قَلَاوُونُ وَبَدْرُ الدِّينِ بَيْسَرِيُّ
وَتَبِعَهُمَا السُّلْطَانُ، ثُمَّ فَعَلَ بِالتَّتَارِ مَا فَعَلَ،
ثُمَّ سَاقَ إِلَى نَاحِيَةِ الْبِيرَةِ وَقَدْ كَانَتْ مُحَاصَرَةً
بِطَائِفَةٍ مِنَ التَّتَارِ أُخْرَى، فَلَمَّا سَمِعُوا بِقُدُومِهِ
هَرَبُوا وَتَرَكُوا أَمْوَالَهُمْ وَأَثْقَالَهُمْ، وَدَخَلَ
السُّلْطَانُ إِلَى الْبِيرَةِ فِي أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ وَفَرَّقَ فِي
أَهْلِهَا أَمْوَالًا كَثِيرَةً، ثُمَّ عَادَ إِلَى دِمَشْقَ فِي
ثَالِثِ جُمَادَى الْآخِرَةِ وَمَعَهُ الْأَسْرَى. وَخَرَجَ مِنْهَا
فِي سَابِعِهِ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَخَرَجَ وَلَدُهُ
الْمَلِكُ السَّعِيدُ لِتَلَقِّيهِ وَدَخَلَا إِلَى الْقَاهِرَةِ،
وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا. وَمِمَّا قَالَهُ الْقَاضِي شِهَابُ
الدِّينِ مَحْمُودٌ الْكَاتِبُ، وَأَوْلَادُهُ يُقَالُ لَهُمْ بَنُو
الشِّهَابِ مَحْمُودٍ، فِي خَوْضِ السُّلْطَانِ الْفُرَاتَ
بِالْجَيْشِ:
سِرْ حَيْثُ شِئْتَ لَكَ الْمُهَيْمِنُ جَارُ ... وَاحْكُمْ فَطَوْعُ
مُرَادِكَ الْأَقْدَارُ
(13/263)
لَمْ يَبْقَ لِلدِّينِ الَّذِي
أَظْهَرْتَهُ ... يَا رُكْنَهُ عِنْدَ الْأَعَادِي ثَارُ
لَمَّا تَرَاقَصَتِ الرُّءُوسُ تَحَرَّكَتْ ... من مطربات قسيك الأوتار
خضت الفرات بعسكر أفضى به ... موج الفرات كما أتى الْآثَارُ
حَمَلَتْكَ أَمْوَاجُ الْفُرَاتِ وَمَنْ رَأَى ... بَحْرًا سِوَاكَ
تُقِلُّهُ الْأَنْهَارُ
وَتَقَطَّعَتْ فَرَقًا وَلَمْ يَكُ طَوْدَهَا ... إِذْ ذَاكَ إِلَّا
جَيْشُكَ الْجَرَّارُ
وَقَالَ بَعْضُ مَنْ شَاهَدَ ذَلِكَ:
وَلَمَّا تَرَاءَيْنَا الْفُرَاتَ بخيلنا ... سكرناه منا بالقنا
والصوارم
ولجنا فأوقف التَّيَّارَ عَنْ جَرَيَانِهِ ... إِلَى حِيِنِ عُدْنَا
بِالْغِنَى وَالْغَنَائِمِ
وَقَالَ آخَرٌ وَلَا بَأْسَ بِهِ:
الْمَلِكُ الظَّاهِرُ سُلْطَانُنَا ... نَفْدِيهِ بِالْأَمْوَالِ
وَالْأَهْلِ
اقْتَحَمَ الْمَاءَ لِيُطْفِي بِهِ ... حَرَارَةَ الْقَلْبِ مِنَ
الْمُغْلِ
وَفِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ ثَالِثِ رَجَبٍ خَلَعَ عَلَى جَمِيعِ
الْأُمَرَاءِ مِنْ حَاشِيَتِهِ وَمُقَدَّمِي الْحَلْقَةِ وَأَرْبَابِ
الدَّوْلَةِ وَأَعْطَى كُلَّ إِنْسَانٍ مَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ
الْخَيْلِ وَالذَّهَبِ وَالْحَوَائِصِ، وَكَانَ مَبْلَغُ مَا أَنْفَقَ
بِذَلِكَ نَحْوَ ثَلَاثِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ. وَفِي شَعْبَانَ
أَرْسَلَ السُّلْطَانُ إِلَى مَنْكُوتَمُرَ هَدَايَا عَظِيمَةً، وَفِي
يَوْمِ الِاثْنَيْنِ ثَانِي عَشَرَ شَوَّالٍ اسْتَدْعَى السُّلْطَانُ
شيخه الشيخ خضر الْكُرْدِيَّ إِلَى بَيْنِ يَدَيْهِ إِلَى الْقَلْعَةِ
وَحُوقِقَ على أشياء كَثِيرَةٍ ارْتَكَبَهَا، فَأَمَرَ السُّلْطَانُ
عِنْدَ ذَلِكَ بِاعْتِقَالِهِ وحبسه، ثم أمر بِاغْتِيَالِهِ وَكَانَ
آخِرَ الْعَهْدِ بِهِ. وَفِي ذِي الْقَعْدَةِ سَلَّمَتِ
الْإِسْمَاعِيلِيَّةُ مَا كَانَ بَقِيَ بِأَيْدِيهِمْ من الحصون وهي
الكهف والقدموس والمنطقة، وَعُوِّضُوا عَنْ ذَلِكَ بِإِقْطَاعَاتٍ،
وَلَمْ يَبْقَ بِالشَّامِ شَيْءٌ لَهُمْ مِنَ الْقِلَاعِ، وَاسْتَنَابَ
السُّلْطَانُ فِيهَا. وَفِيهَا أَمَرَ السُّلْطَانُ بِعِمَارَةِ
جُسُورَةٍ فِي السَّوَاحِلِ، وَغَرِمَ عَلَيْهَا مَالًا كَثِيرًا،
وَحَصَلَ لِلنَّاسِ بِذَلِكَ رفق كبير.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
الشَّيْخُ تَاجُ الدين أبو المظفر محمد بن أحمد
ابن حَمْزَةَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ هِبَةِ اللَّهِ بْنِ الحوى، التغلبي
الدِّمَشْقِيُّ، كَانَ مِنْ أَعْيَانِ أَهْلِ دِمَشْقَ، وَلِيَ نظر
الأيتام والحبسة، ثُمَّ وِكَالَةَ بَيْتِ الْمَالِ، وَسَمِعَ
الْكَثِيرَ وَخَرَّجَ له ابن بليان مشيخة قرأها عليه الشيخ شرف الدين
الغرارى بِالْجَامِعِ، فَسَمِعَهَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَعْيَانِ
وَالْفُضَلَاءِ رَحِمَهُ اللَّهُ.
الْخَطِيبُ فَخْرُ الدِّينِ أَبُو مُحَمَّدٍ
عَبْدُ الْقَاهِرِ بْنُ عَبْدِ الْغَنِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أبى
القاسم بن محمد بن تَيْمِيَّةَ الْحَرَّانِيُّ الْخَطِيبُ بِهَا،
وَبَيْتُهُ مَعْرُوفٌ بِالْعِلْمِ والخطابة والرئاسة، وَدُفِنَ
بِمَقْبَرَةِ الصُّوفِيَّةِ وَقَدْ قَارَبَ السِّتِّينَ رَحِمَهُ الله.
وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ جَدِّهِ فَخْرِ الدِّينِ صَاحِبِ
دِيوَانِ الْخُطَبِ الْمَشْهُورَةِ، تُوُفِّيَ بِخَانْقَاهِ الْقَصْرِ
ظاهر دمشق.
(13/264)
الشَّيْخُ خَضِرُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ
الْمِهْرَانِيُّ الْعَدَوِيُّ
شَيْخُ الْمَلِكِ الظَّاهِرِ بَيْبَرْسَ، كَانَ حَظِيًّا عِنْدَهُ
مُكْرَمًا لَدَيْهِ، لَهُ عِنْدَهُ الْمَكَانَةُ الرَّفِيعَةُ، كَانَ
السُّلْطَانُ يَنْزِلُ بِنَفْسِهِ إِلَى زَاوِيَتِهِ الَّتِي بَنَاهَا
لَهُ فِي الْحُسَيْنِيَّةِ، فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ مَرَّةً أَوْ
مَرَّتَيْنِ، وَبَنَى لَهُ عِنْدَهَا جَامِعًا يَخْطُبُ فِيهِ
لِلْجُمُعَةِ، وَكَانَ يُعْطِيهِ مَالًا كَثِيرًا، وَيُطْلِقُ لَهُ مَا
أَرَادَ، وَوَقَفَ عَلَى زَاوِيَتِهِ شَيْئًا كَثِيرًا جِدًّا، وَكَانَ
مُعَظَّمًا عِنْدَ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ بِسَبَبِ حُبِّ السُّلْطَانِ
وَتَعْظِيمِهِ لَهُ، وَكَانَ يُمَازِحُهُ إِذَا جَلَسَ عِنْدَهُ،
وَكَانَ فِيهِ خَيْرٌ وَدِينٌ وَصَلَاحٌ، وَقَدْ كَاشَفَ السُّلْطَانَ
بِأَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ، وَقَدْ دَخَلَ مَرَّةً كَنِيسَةَ الْقُمَامَةِ
بِالْمَقْدِسِ فَذَبَحَ قِسِّيسَهَا بِيَدِهِ، وَوَهَبَ مَا فِيهَا
لِأَصْحَابِهِ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ بِالْكَنِيسَةِ الَّتِي
بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ وَهِيَ مَنْ أَعْظَمِ كَنَائِسِهِمْ، نَهَبَهَا
وَحَوَّلَهَا مَسْجِدًا وَمَدْرَسَةً أَنْفَقَ عَلَيْهَا أَمْوَالًا
كَثِيرَةً مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَسَمَّاهَا الْمَدْرَسَةَ
الْخَضْرَاءَ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ بِكَنِيسَةِ الْيَهُودِ بِدِمَشْقَ،
دَخَلَهَا وَنَهَبَ مَا فِيهَا مِنَ الْآلَاتِ وَالْأَمْتِعَةِ،
وَمَدَّ فِيهَا سِمَاطًا، وَاتَّخَذَهَا مَسْجِدًا مُدَّةً ثُمَّ
سَعَوْا إِلَيْهِ فِي رَدِّهَا إِلَيْهِمْ وَإِبْقَائِهَا عَلَيْهِمْ،
ثُمَّ اتَّفَقَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَنَّهُ وَقَعَتْ مِنْهُ
أَشْيَاءُ أُنْكِرَتْ عَلَيْهِ وَحُوقِقَ عَلَيْهَا عِنْدَ
السُّلْطَانِ الْمَلِكِ الظَّاهِرِ فَظَهَرَ لَهُ مِنْهُ مَا أَوْجَبَ
سِجْنَهُ، ثُمَّ أَمَرَ بِإِعْدَامِهِ وَهَلَاكِهِ [1] وَكَانَتْ
وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ بِزَاوِيَتِهِ سَامَحَهُ
اللَّهُ، وَقَدْ كَانَ السُّلْطَانُ يُحِبُّهُ مَحَبَّةً عَظِيمَةً
حَتَّى إِنَّهُ سَمَّى بَعْضَ أَوْلَادِهِ خَضِرًا مُوَافَقَةً
لِاسْمِهِ، وَإِلَيْهِ تُنْسَبُ الْقُبَّةُ الَّتِي عَلَى الْجَبَلِ
غَرْبِيَّ الرَّبْوَةِ الَّتِي يُقَالُ لَهَا قُبَّةُ الشَّيْخِ
خَضِرٍ.
مُصَنِّفُ التَّعْجِيزِ
الْعَلَّامَةُ تَاجُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
يُونُسَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ أَبُو الْقَاسِمِ
الْمَوْصِلِيُّ، مِنْ بَيْتِ الفقه والرئاسة وَالتَّدْرِيسِ، وُلِدَ
سَنَةَ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَسَمِعَ واشتغل وحصل
وصنف واختصر الوجيز من كِتَابِهِ التَّعْجِيزِ، وَاخْتَصَرَ
الْمَحْصُولَ، وَلَهُ طَرِيقَةٌ فِي الخلاف أخذها عن ركن الدين
الطاووسيّ، وَكَانَ جَدُّهُ عِمَادُ الدِّينِ بْنُ يُونُسَ شَيْخَ
الْمَذْهَبِ فِي وَقْتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سنة اثنتين وسبعين وستمائة
فِي صَفَرٍ مِنْهَا قَدِمَ الظَّاهِرُ إِلَى دِمَشْقَ وَقَدْ بَلَغَهُ
أَنَّ أَبْغَا وَصَلَ إِلَى بَغْدَادَ فَتَصَيَّدَ بِتِلْكَ
النَّاحِيَةِ، فَأَرْسَلَ إِلَى الْعَسَاكِرِ الْمِصْرِيَّةِ أَنْ
يَتَأَهَّبُوا لِلْحُضُورِ، وَاسْتَعَدَّ السُّلْطَانُ لِذَلِكَ. وَفِي
جمادى الآخرة أحضر ملك الكرخ لبين يَدَيْهِ بِدِمَشْقَ، وَكَانَ قَدْ
جَاءَ مُتَنَكِّرًا لِزِيَارَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَظَهَرَ عَلَيْهِ
فَحُمِلَ إِلَى بَيْنِ يَدَيْهِ فَسَجَنَهُ بِالْقَلْعَةِ. وَفِيهَا
كَمَلَ بِنَاءُ جَامِعِ دَيْرِ الطِّينِ ظَاهِرَ الْقَاهِرَةِ،
وَصُلِّيَ فِيهِ الْجُمُعَةُ. وَفِيهَا سَارَ السُّلْطَانُ إِلَى
الْقَاهِرَةِ فَدَخَلَهَا فِي سَابِعِ رَجَبٍ. وَفِي أَوَاخِرِ
رَمَضَانَ دَخَلَ الْمَلِكُ السعيد ابن الظَّاهِرِ إِلَى دِمَشْقَ فِي
طَائِفَةٍ مِنَ الْجَيْشِ، فَأَقَامَ بِهَا شَهْرًا ثُمَّ عَادَ. وَفِي
يَوْمِ عيد الفطر ختن السلطان ولده خضرا
__________
[1] في شذرات الذهب: أنه حبسه في القلعة وأجرى عليه المآكل المفتخرة
حتى مات في محرم سنة 676 وكذلك في النجوم الزاهرة. وفيها أن حبسه كان
في شوال سنة 671
(13/265)
الَّذِي سَمَّاهُ بِاسْمِ شَيْخِهِ،
وَخُتِنَ مَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَوْلَادِ الْأُمَرَاءِ، وَكَانَ
وَقْتًا هَائِلًا. وَفِيهَا فَوَّضَ مَلِكُ التَّتَارِ إِلَى عَلَاءِ
الدِّينِ صَاحِبِ الديوان ببغداد النظر في تُسْتَرَ وَأَعْمَالِهَا،
فَسَارَ إِلَيْهَا لِيَتَصَفَّحَ أَحْوَالَهَا فَوَجَدَ بِهَا شَابًّا
مِنْ أَوْلَادِ التُّجَّارِ يُقَالُ لَهُ «لِي» قَدْ قَرَأَ الْقُرْآنَ
وَشَيْئًا مِنَ الْفِقْهِ والإشارات لِابْنِ سِينَا، وَنَظَرَ فِي
النُّجُومِ، ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، وَصَدَّقَهُ
عَلَى ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ جَهَلَةِ تِلْكَ النَّاحِيَةِ، وَقَدْ
أَسْقَطَ لَهُمْ مِنَ الْفَرَائِضِ صَلَاةَ الْعَصْرِ وَعِشَاءَ
الْآخِرَةِ، فَاسْتَحْضَرَهُ وَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ فَرَآهُ ذَكِيًّا،
إِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ عَنْ قَصْدٍ، فَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ بَيْنَ
يَدَيْهِ جَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا، وَأَمَرَ الْعَوَامَّ فنهبوا أمتعته
وأمتعة العوام ممن كان اتبعه.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ.
مُؤَيِّدُ الدِّينِ أبو المعالي الصدر الرئيس
أسعد بن غالب المظفري ابن الْوَزِيرِ مُؤَيِّدِ الدِّينِ أَسْعَدَ بْنِ
حَمْزَةَ بْنِ أسعد بن على بن محمد التميمي ابن الْقَلَانِسِيِّ،
جَاوَزَ التِّسْعِينَ وَكَانَ رَئِيسًا كَبِيرًا وَاسِعَ النعمة، لا
يغفل أن يُبَاشِرُ شَيْئًا مِنَ الْوَظَائِفِ وَقَدْ أَلْزَمُوهُ
بَعْدَ ابن سويد بمباشرة مصالح السلطان فباشرها بلاجامكية، وَكَانَتْ
وَفَاتُهُ بِبُسْتَانِهِ، وَدُفِنَ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ يَوْمَ
الثُّلَاثَاءِ ثَالِثَ عَشَرَ الْمُحَرَّمِ. وَالِدُ الصَّدْرِ عِزِّ
الدِّينِ حَمْزَةَ رَئِيسُ الْبَلَدَيْنِ دِمَشْقَ وَالْقَاهِرَةِ،
وَجَدُّهُمْ مُؤَيِّدُ الدِّينِ أَسْعَدُ بْنُ حَمْزَةَ الْكَبِيرُ
كَانَ وَزِيرًا لِلْمَلِكِ الْأَفْضَلِ عَلِيِّ بْنِ النَّاصِرِ
فَاتِحِ الْقُدْسِ، كَانَ رَئِيسًا فَاضِلًا لَهُ كِتَابُ الْوَصِيَّةِ
فِي الْأَخْلَاقِ الْمَرْضِيَّةِ وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَكَانَتْ لَهُ يَدٌ
جَيِّدَةٌ فِي النَّظْمِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
يَا رَبِّ جُدْ لِي إِذَا مَا ضَمَّنِي جَدَثِي ... بِرَحْمَةٍ مِنْكَ
تُنْجِينِي مِنَ النَّارِ
أَحْسِنْ جِوَارِي إِذَا أَمْسَيْتُ جَارَكَ فِي ... لَحْدِي فَإِنَّكَ
قد أوصيت بالجار
وأما والد حمزة بن أسعد بن علي بن محمد التَّمِيمِيُّ فَهُوَ
الْعَمِيدُ، وَكَانَ يَكْتُبُ جَيِّدًا وَصَنَّفَ تَارِيخًا فِيمَا
بَعْدَ سَنَةِ أَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ إِلَى سنة وفاته في خمس
وخمسمائة.
الأمير الكبير فارس الدين أقطاى
المستعربي أتابك الديار الْمِصْرِيَّةِ، كَانَ أَوَّلًا مَمْلُوكًا
لِابْنِ يُمْنٍ، ثُمَّ صَارَ مَمْلُوكًا لِلصَّالِحِ أَيُّوبَ
فَأَمَّرَهُ، ثُمَّ عَظُمَ شَأْنُهُ فِي دَوْلَةِ الْمُظَفَّرِ وَصَارَ
أَتَابِكَ الْعَسَاكِرِ، فلما قتل امتدت أطماع الْأُمَرَاءِ إِلَى
الْمَمْلَكَةِ فَبَايَعَ أَقَطَايُ الْمَلِكَ الظَّاهِرَ فَتَبِعَهُ
الْجَيْشُ عَلَى ذَلِكَ، وَكَانَ الظَّاهِرُ يَعْرِفُهَا لَهُ وَلَا
يَنْسَاهَا، ثُمَّ قَبْلَ وَفَاتِهِ بِقَلِيلٍ انْهَضَمَ عِنْدَ
الظَّاهِرِ، وَمَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بالقاهرة.
الشيخ عبد الله بن غانم
ابن عَلِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَسَاكِرَ بْنِ الْحُسَيْنِ
الْمَقْدِسِيُّ، لَهُ زَاوِيَةٌ بِنَابُلُسَ، وَلَهُ أَشْعَارٌ
رَائِقَةٌ، وَكَلَامٌ قَوِيٌّ فِي عِلْمِ التَّصَوُّفِ، وَقَدْ طَوَّلَ
الْيُونِينِيُّ تَرْجَمَتَهُ وَأَوْرَدَ مِنْ أَشْعَارِهِ شَيْئًا
كَثِيرًا.
(13/266)
قَاضِي الْقُضَاةِ كَمَالُ الدِّينِ
أَبُو الْفَتْحِ عُمَرُ بْنُ بُنْدَارِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَلِيٍّ
التَّفْلِيسِيُّ الشَّافِعِيُّ، وُلِدَ بِتَفْلِيسَ سَنَةَ إِحْدَى
وَسِتِّمِائَةٍ، وَكَانَ فَاضِلًا أُصُولِيًّا مُنَاظِرًا، وَلِيَ
نِيَابَةَ الْحُكْمِ مُدَّةً ثم استقل بالقضاء في دولة هلاوون- هولاكو-
وكان عفيفا نزها لم يرد مَنْصِبًا وَلَا تَدْرِيسًا مَعَ كَثْرَةِ
عِيَالِهِ وَقِلَّةِ مَالِهِ، وَلَمَّا انْقَضَتْ أَيَّامُهُمْ
تَغَضَّبَ عَلَيْهِ بَعْضُ النَّاسِ ثُمَّ أُلْزِمَ بِالْمَسِيرِ إِلَى
الْقَاهِرَةِ، فَأَقَامَ بِهَا يُفِيدُ النَّاسَ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ
فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ
بِالْقَرَافَةِ الصُّغْرَى.
إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ شَاكِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
التَّنُوخِيُّ، وَتَنُوخُ مِنْ قُضَاعَةَ، كَانَ صَدْرًا كَبِيرًا،
وَكَتَبَ الْإِنْشَاءَ لِلنَّاصِرِ دَاوُدَ بْنِ الْمُعَظَّمِ،
وَتَوَلَّى نَظَرَ الْمَارَسْتَانِ النُّورِيِّ وَغَيْرِهِ، وَكَانَ
مَشْكُورَ السِّيرَةِ، وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَقَدْ
جَاوَزَ الثَّمَانِينَ، وَمِنْ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
خَابَ رَجَاءُ امْرِئٍ لَهُ أَمَلٌ ... بِغَيْرِ رَبِّ السَّمَاءِ قَدْ
وَصَلَهْ
أَيَبْتَغِي غَيْرَهُ أَخُو ثِقَةٍ ... وَهْوَ بِبَطْنِ الْأَحْشَاءِ
قَدْ كَفَلَهْ
وَلَهُ أَيْضًا:
خَرِسَ اللِّسَانُ وَكَلَّ عَنْ أَوْصَافِكُمْ ... مَاذَا يَقُولُ
وَأَنْتُمُ مَا أَنْتُمُ
الْأَمْرُ أَعْظَمُ مِنْ مَقَالَةِ قَائِلٍ ... قد تاه عقل أَنْ
يُعَبِّرَ عَنْكُمُ
الْعَجْزُ وَالتَّقْصِيرُ وَصْفِي دَائِمًا ... والبر والإحسان يعرف
منكم
ابن مالك صاحب الألفية
الشيخ جمال الدين محمد بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكٍ أَبُو عَبْدِ
الله الطائي الحيانى النَّحْوِيُّ، صَاحِبُ التَّصَانِيفِ
الْمَشْهُورَةِ الْمُفِيدَةِ، مِنْهَا الْكَافِيَةُ الشافية وشرحها،
والتسهيل وشرحه، والألفية الَّتِي شَرَحَهَا وَلَدُهُ بَدْرُ الدِّينِ
شَرْحًا مُفِيدًا. ولد بحيان سَنَةَ سِتِّمِائَةٍ وَأَقَامَ بِحَلَبَ
مُدَّةً، ثُمَّ بِدِمَشْقَ. وَكَانَ كَثِيرَ الِاجْتِمَاعِ بِابْنِ
خَلِّكَانَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَرَوَى عَنْهُ
الْقَاضِي بَدْرُ الدِّينِ بْنُ جَمَاعَةَ، وَأَجَازَ لِشَيْخِنَا
عَلَمِ الدِّينِ الْبِرْزَالِيِّ. تُوُفِّيَ ابْنُ مَالِكٍ بِدِمَشْقَ
لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ ثَانِي عَشَرَ رَمَضَانَ، وَدُفِنَ بِتُرْبَةِ
الْقَاضِي عِزِّ الدِّينِ بْنِ الصَّائِغِ بِقَاسِيُونَ.
النَّصِيرُ الطُّوسِيُّ
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الطُّوسِيُّ، كَانَ يُقَالُ لَهُ
الْمَوْلَى نَصِيرُ الدِّينِ، وَيُقَالُ الْخَوَاجَا نَصِيرُ الدِّينِ،
اشْتَغَلَ فِي شَبِيبَتِهِ وَحَصَّلَ عِلْمَ الْأَوَائِلِ جَيِّدًا،
وَصَنَّفَ فِي ذَلِكَ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ، وَشَرَحَ الْإِشَارَاتِ
لِابْنِ سِينَا، وَوَزَرَ لِأَصْحَابِ قِلَاعِ الْأَلَمُوتِ مِنَ
الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ، ثُمَّ وَزَرَ لِهُولَاكُو، وَكَانَ مَعَهُ فِي
وَاقِعَةِ بَغْدَادَ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ أشار على
هولاكو خان بقتل الْخَلِيفَةَ فاللَّه أَعْلَمُ، وَعِنْدِي أَنَّ هَذَا
لَا يصدر
(13/267)
من عاقل ولا فاضل. وَقَدْ ذَكَرَهُ بَعْضُ
الْبَغَادِدَةِ فَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: كَانَ عَاقِلًا فَاضِلًا
كَرِيمَ الْأَخْلَاقِ وَدُفِنَ فِي مَشْهَدِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ فِي
سِرْدَابٍ كَانَ قَدْ أُعِدَّ لِلْخَلِيفَةِ النَّاصِرِ لِدِينِ
اللَّهِ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ قَدْ بَنَى الرَّصَدَ بِمَرَاغَةَ،
وَرَتَّبَ فِيهِ الْحُكَمَاءَ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ
وَالْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ وَالْأَطِبَّاءِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ
أَنْوَاعِ الْفُضَلَاءِ، وَبَنَى لَهُ فِيهِ قُبَّةً عَظِيمَةً،
وَجَعَلَ فِيهِ كُتُبًا كَثِيرَةً جدا، توفى في بغداد فِي ثَانِي
عَشَرَ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَلَهُ خَمْسٌ
وَسَبْعُونَ سَنَةً، وَلَهُ شِعْرٌ جَيِّدٌ قَوِيٌّ وَأَصْلُ
اشْتِغَالِهِ عَلَى الْمُعِينِ سَالِمِ بن بدار بْنِ عَلِيٍّ
الْمِصْرِيِّ الْمُعْتَزِلِيِّ الْمُتَشَيِّعِ، فَنَزَعَ فِيهِ عروق
كثيرة منه، حتى أفسد اعتقاده.
الشيخ سالم البرقي
صَاحِبُ الرِّبَاطِ بِالْقَرَافَةِ الصُّغْرَى، كَانَ صَالِحًا
مُتَعَبِّدًا يُقْصَدُ لِلزِّيَارَةِ وَالتَّبَرُّكِ بِدُعَائِهِ،
وَلَهُ الْيَوْمَ أَصْحَابٌ مَعْرُوفُونَ عَلَى طَرِيقِهِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وسبعين وستمائة
فِيهَا اطَّلَعَ السُّلْطَانُ عَلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ أَمِيرًا
مِنْهُمْ قَجْقَارُ الْحَمَوِيُّ، وَقَدْ كَانُوا كَاتَبُوا التَّتَرَ
يَدْعُونَهُمْ إِلَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّهُمْ مَعَهُمْ
عَلَى السُّلْطَانِ، فَأُخِذُوا فَأَقَرُّوا بِذَلِكَ، وَجَاءَتْ
كُتُبُهُمْ مَعَ البريدية وكان آخِرَ الْعَهْدِ بِهِمْ. وَفِيهَا
أَقْبَلَ السُّلْطَانُ بِالْعَسَاكِرِ فدخل بلاد سِيسَ يَوْمَ
الِاثْنَيْنِ الْحَادِيَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ، فَقَتَلُوا
خَلْقًا لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ وَغَنِمُوا شَيْئًا كَثِيرًا
مِنَ الْأَبْقَارِ وَالْأَغْنَامِ وَالْأَثْقَالِ وَالدَّوَابِّ
والأنعام، فبيع ذلك بِأَرْخَصِ ثَمَنٍ، ثُمَّ عَادَ فَدَخَلَ دِمَشْقَ
مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا فِي شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ فَأَقَامَ بِهَا حتى
دخلت السَّنَةُ. وَفِيهَا ثَارَ عَلَى أَهْلِ الْمَوْصِلِ رَمْلٌ
حَتَّى عَمَّ الْأُفُقَ وَخَرَجُوا مِنْ دُورِهِمْ يَبْتَهِلُونَ إِلَى
اللَّهِ حَتَّى كَشَفَ ذَلِكَ عَنْهُمْ، وَاللَّهُ تعالى أعلم.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
ابْنُ عَطَاءٍ الْحَنَفِيُّ
قَاضِي الْقُضَاةِ شَمْسُ الدِّينِ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ الشَّيْخِ شَرَفِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ عَطَاءِ بْنِ حَسَنِ
بْنِ عَطَاءِ بْنِ جبير بن جابر بن وهيب الأذرعي الحنفي، وُلِدَ سَنَةَ
خَمْسٍ وَتِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، سَمِعَ الْحَدِيثَ وَتَفَقَّهَ
عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَنَابَ فِي الْحُكْمِ عَنِ
الشَّافِعِيِّ مُدَّةً، ثُمَّ اسْتَقَلَّ بِقَضَاءِ الحنفية أول ما ولى
الْقُضَاةُ مِنَ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ، وَلَمَّا وَقَعَتِ
الْحَوْطَةُ عَلَى أَمْلَاكِ النَّاسِ أَرَادَ السُّلْطَانُ مِنْهُ
أَنْ يَحْكُمَ بِهَا بِمُقْتَضَى مَذْهَبِهِ، فَغَضِبَ مِنْ ذَلِكَ
فقال: هذه أملاك بيد أصحابها، وَمَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ
يَتَعَرَّضَ لَهَا ثُمَّ نَهَضَ مِنَ الْمَجْلِسِ فَذَهَبَ، فَغَضِبَ
السُّلْطَانُ مِنْ ذَلِكَ غَضَبًا شَدِيدًا، ثُمَّ سَكَنَ غَضَبُهُ
فَكَانَ يُثْنِي عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَيَمْدَحُهُ، وَيَقُولُ: لَا
تثبتوا كتبا إلا عنه. كَانَ ابْنُ عَطَاءٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ
الْأَخْيَارِ كَثِيرَ التَّوَاضُعِ قَلِيلَ الرَّغْبَةِ فِي
الدُّنْيَا، رَوَى عَنْهُ ابْنُ جَمَاعَةَ وَأَجَازَ لِلْبِرْزَالِيِّ.
تُوُفِّيَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ تَاسِعَ جُمَادَى الْأُولَى، وَدُفِنَ
بِالْقُرْبِ مِنَ الْمُعَظَّمِيَّةِ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى.
(13/268)
بيمند بن بيمند بن
بيمند
ابرنس طرابلس الفرنجى، كان جده نائبا لبنت صيحل الَّذِي تَمَلَّكَ
طَرَابُلُسَ مِنَ ابْنِ عَمَّارٍ فِي حُدُودِ الْخَمْسِمِائَةِ،
وَكَانَتْ يَتِيمَةً تَسْكُنُ بَعْضَ جَزَائِرِ الْبَحْرِ، فَتَغَلَّبَ
هَذَا عَلَى الْبَلَدِ لِبُعْدِهَا عَنْهُ، ثُمَّ اسْتَقَلَّ بِهَا
وَلَدُهُ ثُمَّ حَفِيدُهُ هَذَا، وَكَانَ شَكِلًا مَلِيحًا. قَالَ
قُطْبُ الدِّينِ الْيُونِينِيُّ: رأيته في بعلبكّ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ
وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ حِينَ جَاءَ مسلما على كتبغانوين، وَرَامَ
أَنْ يَطْلُبَ مِنْهُ بَعْلَبَكَّ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى
الْمُسْلِمِينَ. وَلَمَّا تُوُفِّيَ دُفِنَ فِي كَنِيسَةِ طَرَابُلُسَ،
وَلَمَّا فَتَحَهَا الْمُسْلِمُونَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ
وَسِتِّمِائَةٍ نَبَشَ النَّاسُ قَبْرَهُ وَأَخْرَجُوهُ مِنْهُ
وَأَلْقَوْا عِظَامَهُ عَلَى الْمَزَابِلِ لِلْكِلَابِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سنة أربع وسبعين وستمائة
لما كان يوم الخميس ثامن جمادى الأولى نَزَلَ التَّتَارُ عَلَى
الْبِيرَةِ فِي ثَلَاثِينَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ، خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا
مِنَ الْمَغُولِ، وَخَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا مِنَ الرُّومِ،
وَالْمُقَدَّمُ عَلَى الْجَمِيعِ البرواناه بأمر أبغا ملك التتار
وَمَعَهُمْ جَيْشُ الْمَوْصِلِ وَجَيْشُ مَارِدِينَ وَالْأَكْرَادُ،
وَنَصَبُوا عَلَيْهَا ثَلَاثَةً وَعِشْرِينَ مَنْجَنِيقًا، فَخَرَجَ
أَهْلُ الْبِيرَةِ فِي اللَّيْلِ فَكَبَسُوا عَسْكَرَ التَّتَارِ
وَأَحْرَقُوا الْمَنْجَنِيقَاتِ وَنَهَبُوا شَيْئًا كَثِيرًا،
وَرَجَعُوا إِلَى بُيُوتِهِمْ سَالِمِينَ، فَأَقَامَ عَلَيْهَا
الْجَيْشُ مُدَّةً إِلَى تَاسِعَ عَشَرَ الشَّهْرِ الْمَذْكُورِ، ثُمَّ
رَجَعُوا عَنْهَا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ
الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ، وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً. 33: 25
وَلَمَّا بَلَغَ السُّلْطَانَ نُزُولُ التتار عَلَى الْبِيرَةِ
أَنْفَقَ فِي الْجَيْشِ سِتَّمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، ثُمَّ رَكِبَ
سَرِيعًا وَفِي صُحْبَتِهِ وَلَدُهُ السَّعِيدُ، فَلَمَّا كَانَ فِي
أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ بَلَغَهُ رحيل التتار عَنْهَا فَعَادَ إِلَى
دِمَشْقَ، ثُمَّ رَكِبَ فِي رَجَبٍ إِلَى الْقَاهِرَةِ فَدَخَلَهَا فِي
ثَامِنَ عَشَرَ فَوَجَدَ بِهَا خَمْسَةً وَعِشْرِينَ رَسُولًا مِنْ
جِهَةِ مُلُوكِ الْأَرْضِ يَنْتَظِرُونَهُ فَتَلَقَّوْهُ وَحَدَّثُوهُ
وَقَبَّلُوا الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَدَخَلَ الْقَلْعَةَ فِي
أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ. وَلَمَّا عَادَ الْبَرْوَانَاهْ إِلَى بِلَادِ
الرُّومِ حَلَّفَ الْأُمَرَاءَ الْكِبَارَ مِنْهُمْ شَرَفُ الدِّينِ
مَسْعُودٌ وَضِيَاءُ الدين محمود ابنا الخطيريّ، وأمين الدين ميكائيل،
وحسام الدين ميجار، وَوَلَدُهُ بَهَاءُ الدِّينِ، عَلَى أَنْ يَكُونُوا
مِنْ جِهَةِ السُّلْطَانِ الْمَلِكِ الظَّاهِرِ وَيُنَابِذُوا أَبْغَا،
فَحَلَفُوا لَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَكَتَبَ إِلَى الظَّاهِرِ بِذَلِكَ،
وَأَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِ جَيْشًا وَيَحْمِلَ لَهُ مَا كَانَ
يَحْمِلُهُ إِلَى التَّتَارِ، وَيَكُونَ غِيَاثُ الدِّينِ كنجرى عَلَى
مَا هُوَ عَلَيْهِ، يَجْلِسُ عَلَى تَخْتِ مَمْلَكَةِ الرُّومِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَسْقَى أَهْلُ بغداد ثلاثة أيام فَلَمْ
يُسْقَوْا. وَفِيهَا فِي رَمَضَانَ مِنْهَا وُجِدَ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ
فِي نَهَارِ رَمَضَانَ عَلَى فَاحِشَةِ الزِّنَا، فَأَمَرَ عَلَاءُ
الدِّينِ صَاحِبُ الدِّيوَانِ بِرَجْمِهِمَا فَرُجِمَا، وَلَمْ
يُرْجَمْ بِبَغْدَادَ قَبْلَهُمَا قَطُّ أَحَدٌ مُنْذُ بُنِيَتْ.
وَهَذَا غَرِيبٌ جِدًّا. وَفِيهَا اسْتَسْقَى أَهْلُ دِمَشْقَ أَيْضًا
مَرَّتَيْنِ. فِي أَوَاخِرِ رَجَبٍ وأوائل شعبان- وكان ذلك في آخر
كَانُونَ الثَّانِي- فَلَمْ يُسْقَوْا أَيْضًا. وَفِيهَا أَرْسَلَ
السُّلْطَانُ جَيْشًا إِلَى دُنْقُلَةَ فَكَسَرَ جَيْشَ السُّودَانِ
وَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا وَأَسَرُوا شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ السودان
(13/269)
بحيث بيع الرقيق الرأس منها بثلاثة دراهم،
ورهب ملكهم داوداه إِلَى صَاحِبِ النُّوبَةِ فَأَرْسَلَهُ إِلَى
الْمَلِكِ الظَّاهِرِ مُحْتَاطًا عَلَيْهِ، وَقَرَّرَ الْمَلِكُ
الظَّاهِرُ عَلَى أَهْلِ دُنْقُلَةَ جِزْيَةً تُحْمَلُ إِلَيْهِ فِي
كُلِّ سَنَةٍ. كُلُّ ذَلِكَ كَانَ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ.
وَفِيهَا عُقِدَ عَقْدُ الْمَلِكِ السَّعِيدِ بْنِ الظَّاهِرِ عَلَى
بِنْتِ الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ قَلَاوُونَ الْأَلْفِيِّ، فِي
الْإِيوَانِ بِحَضْرَةِ السُّلْطَانِ وَالدَّوْلَةِ عَلَى صداق خمسة
آلاف دينار، تعجل مِنْهَا أَلْفَا دِينَارٍ، وَكَانَ الَّذِي كَتَبَهُ
وَقَرَأَهُ مُحْيِي الدِّينِ بْنُ عَبْدِ الظَّاهِرِ، فَأُعْطِيَ
مِائَةَ دِينَارٍ، وَخُلِعَ عَلَيْهِ. ثُمَّ رَكِبَ السُّلْطَانُ
مُسْرِعًا فَوَصَلَ إِلَى حِصْنِ الْكَرَكِ فَجَمَعَ الْقَيْمُرِيَّةَ
الَّذِينَ بِهِ فَإِذَا هُمْ سِتُّمِائَةِ نَفَرٍ، فَأَمَرَ
بِشَنْقِهِمْ فَشُفِعَ فِيهِمْ عِنْدَهُ فَأَطْلَقَهُمْ وَأَجْلَاهُمْ
مِنْهُ إِلَى مِصْرَ، وَكَانَ قَدْ بَلَغَهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ
يُرِيدُونَ قَتْلَ مِنْ فِيهِ وَيُقِيمُوا مَلِكًا عَلَيْهِمْ،
وَسَلَّمَ الْحِصْنِ إِلَى الطَّوَاشِيِّ شَمْسِ الدِّينِ رِضْوَانَ
السُّهَيْلِيِّ، ثُمَّ عَادَ فِي بَقِيَّةِ الشَّهْرِ إِلَى دِمَشْقَ
فَدَخَلَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ ثَامِنَ عَشَرَ الشَّهْرِ. وَفِيهَا
كانت زلزلة بأخلاط واتصلت ببلاد بكر.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
الشَّيْخُ الْإِمَامُ العلامة
الأديب تَاجُ الدِّينِ أَبُو الثَّنَاءِ مَحْمُودُ بْنُ عَابِدِ بْنِ
الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ التَّمِيمِيُّ الصَّرْخَدِيُّ
الْحَنَفِيُّ، كَانَ مَشْهُورًا بِالْفِقْهِ وَالْأَدَبِ، وَالْعِفَّةِ
وَالصَّلَاحِ، وَنَزَاهَةِ النَّفْسِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ. وُلِدَ
سَنَةَ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ
وَرَوَى، وَدُفِنَ بِمَقَابِرِ الصُّوفِيَّةِ فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ
مِنْهَا، وَلَهُ سِتٌّ وَتِسْعُونَ سَنَةً رَحِمَهُ اللَّهُ.
الشَّيْخُ الْإِمَامُ عماد الدين عبد العزيز بن محمد
ابن عبد القادر بن عبد الله بْنِ خَلِيلِ بْنِ مَقْلَدٍ
الْأَنْصَارِيُّ الدِّمَشْقِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الصَّائِغِ،
كَانَ مُدَرِّسًا بِالْعَذْرَاوِيَّةِ وَشَاهِدًا بِالْخِزَانَةِ
بِالْقَلْعَةِ يَعْرِفُ الْحِسَابَ جَيِّدًا، وَلَهُ سَمَاعٌ
وَرِوَايَةٌ، وَدُفِنَ بِقَاسِيُونَ
ابْنُ السَّاعِي الْمُؤَرِّخُ
تَاجُ الدِّينِ بْنُ الْمُحْتَسِبِ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ السَّاعِي
الْبَغْدَادِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ وَسَمِعَ
الْحَدِيثَ وَاعْتَنَى بِالتَّارِيخِ، وَجَمَعَ وَصَنَّفَ، وَلَمْ
يَكُنْ بِالْحَافِظِ وَلَا الضَّابِطِ الْمُتْقِنِ. وَقَدْ أَوْصَى
إِلَيْهِ ابْنُ النَّجَّارِ حِينَ تُوُفِّيَ، وَلَهُ تَارِيخٌ كَبِيرٌ
عِنْدِي أَكْثَرُهُ، وَمُصَنَّفَاتٌ أُخَرُ مُفِيدَةٌ، وَآخِرُ مَا
صَنَّفَ كِتَابٌ فِي الزُّهَّادِ، كَتَبَ فِي حَاشِيَتِهِ زَكِيُّ
الدِّينِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَبِيبٍ الْكَاتِبُ:
مَا زَالَ تَاجُ الدين طول المدى ... من عمره يعتق فِي السَّيْرِ
فِي طَلَبِ الْعِلْمِ وَتَدْوِينِهِ ... وَفِعْلُهُ نَفْعُ بِلَا
ضَيْرِ
عَلَا عَلِيٌّ بِتَصَانِيفِهِ ... وَهَذِهِ خاتمة الخير
(13/270)
ثم دخلت سنة خمس
وسبعين وستمائة
فِي ثَالِثَ عَشَرَ الْمُحَرَّمِ مِنْهَا دَخَلَ السُّلْطَانُ إِلَى
دِمَشْقَ وَسَبَقَ الْعَسَاكِرَ إِلَى بِلَادِ حَلَبَ، فَلَمَّا
تَوَافَتْ إِلَيْهِ أَرْسَلَ بَيْنَ يَدَيْهِ الْأَمِيرَ بَدْرَ
الدِّينِ الْأَتَابِكِيَّ بِأَلْفِ فَارِسٍ إِلَى الْبُلُسْتَيْنِ،
فَصَادَفَ بِهَا جَمَاعَةً مِنْ عَسْكَرِ الرُّومِ فَرَكِبُوا إِلَيْهِ
وَحَمَلُوا إِلَيْهِ الْإِقَامَاتِ، وَطَلَبَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ أَنْ
يَدْخُلُوا بِلَادَ الْإِسْلَامِ فَأَذِنَ لَهُمْ، فَدَخَلَ طَائِفَةٌ
مِنْهُمْ بَيْجَارُ وَابْنُ الْخَطِيرِ، فَرَسَمَ لَهُمْ أَنْ
يَدْخُلُوا الْقَاهِرَةَ فَتَلَقَّاهُمُ الْمَلِكُ السَّعِيدُ، ثُمَّ
عَادَ السُّلْطَانُ مِنْ حَلَبَ إِلَى الْقَاهِرَةِ فَدَخَلَهَا فِي
ثَانِي عَشَرَ رَبِيعٍ الْآخِرِ.
وَفِي خَامِسِ جُمَادَى الْأُولَى عَمِلَ السُّلْطَانُ عُرْسَ وَلَدِهِ
الْمَلِكِ السَّعِيدِ عَلَى بِنْتِ قَلَاوُونَ، وَاحْتَفَلَ
السُّلْطَانُ بِهِ احْتِفَالًا عَظِيمًا، وَرَكِبَ الْجَيْشُ فِي
الْمَيْدَانِ خَمْسَةَ أَيَّامٍ يَلْعَبُونَ وَيَتَطَارَدُونَ،
وَيَحْمِلُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، ثُمَّ خَلَعَ عَلَى الْأُمَرَاءِ
وَأَرْبَابِ الْمَنَاصِبِ، وَكَانَ مبلغ ما خلع ألف وَثَلَاثِمِائَةِ
خِلْعَةٍ بِمِصْرَ، وَجَاءَتْ مَرَاسِيمُهُ إِلَى الشَّامِ بِالْخِلَعِ
عَلَى أَهْلِهَا، وَمَدَّ السُّلْطَانُ سِمَاطًا عَظِيمًا حضره الخاص
والعام، والشارد والوارد، وحبس فِيهِ رُسُلُ التَّتَارِ وَرُسُلُ
الْفِرِنْجِ وَعَلَيْهِمْ كُلِّهِمُ الْخِلَعُ الْهَائِلَةُ، وَكَانَ
وَقْتًا مَشْهُودًا، وَحَمَلَ صَاحِبُ حَمَاةَ هَدَايَا عَظِيمَةً
وَرَكِبَ إِلَى مِصْرَ لِلتَّهْنِئَةِ. وَفِي حَادِي عَشَرَ شَوَّالٍ
طِيفَ بِالْمَحْمَلِ وَبِكُسْوَةِ الْكَعْبَةِ الْمُشَرَّفَةِ
بِالْقَاهِرَةِ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا.
وَقْعَةُ الْبُلُسْتَيْنِ وَفَتْحُ قَيْسَارِيَّةَ
رَكِبَ السُّلْطَانُ مِنْ مِصْرَ فِي الْعَسَاكِرِ فَدَخَلَ دِمَشْقَ
فِي سَابِعَ عَشَرَ شَوَّالٍ، فَأَقَامَ بِهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ،
ثُمَّ سَارَ حَتَّى دَخَلَ حَلَبَ فِي مُسْتَهَلِّ ذِي الْقَعْدَةِ،
فَأَقَامَ بِهَا يَوْمًا وَرَسَمَ لِنَائِبِ حَلَبَ أَنْ يقيم بعسكر
حلب على الفرات لحفظ المنائر، وَسَارَ السُّلْطَانُ فَقَطَعَ
الدَّرْبَنْدَ فِي نِصْفِ يَوْمٍ، وَوَقَعَ سُنْقُرُ الْأَشْقَرُ فِي
أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَغُولِ فَهَزَمَهُمْ
يَوْمَ الْخَمِيسِ تَاسِعَ ذِي الْقَعْدَةِ وَصَعِدَ الْعَسْكَرُ عَلَى
الْجِبَالِ فَأَشْرَفُوا عَلَى وَطْأَةِ الْبُلُسْتَيْنِ فَرَأَوُا
التَّتَارَ قَدْ رَتَّبُوا عَسْكَرَهُمْ وَكَانُوا أَحَدَ عَشَرَ
أَلْفَ مُقَاتِلٍ، وَعَزَلُوا عَنْهُمْ عَسْكَرَ الرُّومِ خَوْفًا مِنْ
مُخَامَرَتِهِمْ، فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ حَمَلَتْ مَيْسَرَةُ
التَّتَارِ فَصَدَمَتْ سَنَاجِقَ السُّلْطَانِ، وَدَخَلَتْ طَائِفَةٌ
مِنْهُمْ بَيْنَهُمْ فَشَقُّوهَا، وَسَاقَتْ إِلَى الْمَيْمَنَةِ،
فَلَمَّا رَأَى السُّلْطَانُ ذَلِكَ أَرْدَفَ الْمُسْلِمِينَ
بِنَفْسِهِ وَمَنْ مَعَهُ، ثُمَّ لَاحَتْ مِنْهُ الْتِفَاتَةٌ فَرَأَى
الْمَيْسَرَةَ قَدْ كَادَتْ أَنْ تَتَحَطَّمَ فَأَمَرَ جَمَاعَةً مِنَ
الْأُمَرَاءِ بِإِرْدَافِهَا، ثُمَّ حَمَلَ الْعَسْكَرُ جَمِيعُهُ
حَمْلَةً وَاحِدَةً عَلَى التَّتَارِ فَتَرَجَّلُوا إِلَى الْأَرْضِ
عَنْ آخِرِهِمْ، وَقَاتَلُوا الْمُسْلِمِينَ قِتَالًا شَدِيدًا،
وَصَبَرَ الْمُسْلِمُونَ صَبْرًا عَظِيمًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ
نَصْرَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَأَحَاطَتْ بِالتَّتَارِ الْعَسَاكِرُ
مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَقُتِلَ
مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَيْضًا جَمَاعَةٌ، وَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَنْ
قُتِلَ مِنْ سَادَاتِ الْمُسْلِمِينَ الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ ضِيَاءُ
الدِّينِ ابْنُ الْخَطِيرِ، وَسَيْفُ الدِّينِ قَيْمَازٌ، وسيف الدين
بنجو الجاشنكير، وعز الدين أيبك الثقفي، وَأُسِرَ جَمَاعَةٌ مِنْ
أُمَرَاءِ الْمَغُولِ، وَمِنْ أُمَرَاءِ
(13/271)
ومن أمراء الروم، وهرب الرواناه فَنَجَا
بِنَفْسِهِ، وَدَخَلَ قَيْسَارِيَّةَ فِي بُكْرَةِ الْأَحَدِ ثَانِي
عَشَرَ ذِي الْقَعْدَةِ، وَأَعْلَمَ أُمَرَاءُ الرُّومِ مَلِكَهُمْ
بِكَسْرَةِ التَّتَارِ عَلَى الْبُلُسْتَيْنِ، وَأَشَارَ عَلَيْهِمْ
بِالْهَزِيمَةِ فَانْهَزَمُوا مِنْهَا وَأَخْلَوْهَا، فَدَخَلَهَا
الْمَلِكُ الظَّاهِرُ وصلى بها الجمعة سابع ذِي الْقَعْدَةِ، وَخُطِبَ
لَهُ بِهَا، ثُمَّ كَرَّ راجعا مؤيدا منصورا. وسارت الْبَشَائِرُ إِلَى
الْبُلْدَانِ فَفَرِحَ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَئِذٍ بِنَصْرِ الله.
وَلَمَّا بَلَغَ خَبَرُ هَذِهِ الْوَقْعَةِ أَبْغَا جَاءَ حَتَّى
وَقَفَ بِنَفْسِهِ وَجَيْشِهِ، وَشَاهَدَ مَكَانَ الْمَعْرَكَةِ وَمَنْ
فِيهَا مِنْ قَتْلَى الْمَغُولِ، فَغَاظَهُ ذَلِكَ وأعظمه وحنق على
الرواناه إِذْ لَمْ يُعْلِمْهُ بِجَلِيَّةِ الْحَالِ، وَكَانَ يَظُنُّ
أَمْرَ الْمَلِكِ الظَّاهِرِ دُونَ هَذَا كُلِّهِ، وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ
عَلَى أَهْلِ قَيْسَارِيَّةَ وَأَهْلِ تِلْكَ النَّاحِيَةِ، فَقَتَلَ
مِنْهُمْ قَرِيبًا مِنْ مِائَتَيْ أَلْفٍ، وَقِيلَ قَتَلَ مِنْهُمْ
خَمْسَمِائَةِ أَلْفٍ مِنْ قَيْسَارِيَّةَ وَأَرْزَنِ الرُّومِ،
وَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَنْ قُتِلَ الْقَاضِي جلال الدين حبيب، ف إِنَّا
لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ. 2: 156
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ.
الشَّيْخُ أَبُو الفضل ابن الشَّيْخِ عُبَيْدِ بْنِ عَبْدِ الْخَالِقِ
الدِّمَشْقِيُّ
وَدُفِنَ بالقرب من الشيخ أرسلان. قَالَ الشَّيْخُ عَلَمُ الدِّينِ:
وَكَانَ يَذْكُرُ أَنَّ مَوْلِدَهُ كَانَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ
وَخَمْسِمِائَةٍ
الطَّوَاشِيُّ يمن الحبشي
شيخ الخدم بالحرم الشريف، كَانَ دَيِّنًا عَاقِلًا عَدْلًا صَادِقَ
اللَّهْجَةِ، مَاتَ فِي عَشْرِ السَّبْعِينَ رَحِمَهُ اللَّهُ
[الشَّيْخُ الْمُحَدِّثُ شَمْسُ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ
الْمَوْصِلِيُّ، ثُمَّ الدِّمَشْقِيُّ الصُّوفِيُّ، سَمِعَ الْكَثِيرَ
وَكَتَبَ الْكُتُبَ الْكِبَارَ بِخَطٍّ رَفِيعٍ جَيِّدٍ وَاضِحٍ،
جَاوَزَ السَّبْعِينَ] [1] وَدُفِنَ بِبَابِ الْفَرَادِيسِ.
الشَّاعِرُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو الْمَكَارِمِ
مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ بَرَكَةَ بْنِ سَالِمِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الشَّيْبَانِيُّ التلعفري، صاحب ديوان الشعر، جاوز
الثمانين، مات بِحَمَاةَ، وَكَانَ الشُّعَرَاءُ مُقِرِّينَ لَهُ
مُعْتَرِفِينَ بِفَضْلِهِ وَتَقَدُّمِهِ فِي هَذَا الْفَنِّ.
وَمِنْ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
لِسَانِي طَرِيٌّ مِنْكَ يَا غَايَةَ الْمُنَى ... وَمِنْ وَلَهِي
أَنِّي خَطِيبٌ وَشَاعِرٌ
فَهَذَا لِمَعْنَى حُسْنِ وجهك ناظم ... وهذا لدمعى في تجنيك ناشر
القاضي شمس الدين
علي بن محمود بن عَلِيِّ بْنِ عَاصِمٍ الشَّهْرُزُورِيُّ
الدِّمَشْقِيُّ، مُدَرِّسُ الْقَيْمُرِيَّةِ بِشَرْطِ وَاقِفِهَا لَهُ
وَلِذُرِّيَّتِهِ [مِنْ بَعْدِهِ التَّدْرِيسَ مَنْ تَأَهَّلَ
مِنْهُمْ، فَدَرَّسَ بِهَا إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ،
وَدَرَّسَ بَعْدَهُ وَلَدُهُ
__________
[1] زيادة من نسخة أخرى بتركيا ومن النسخة المصرية أيضا.
(13/272)
صَلَاحُ الدِّينِ، ثُمَّ ابْنُ ابْنِهِ
بَعْدَ ابْنِ جَمَاعَةَ، وَطَالَتْ مُدَّةُ حَفِيدِهِ. وَقَدْ وَلِيَ
شَمْسُ الدِّينِ عَلَى نِيَابَةِ ابْنِ خَلِّكَانَ فِي الْوِلَايَةِ
الْأُولَى، وَكَانَ فَقِيهًا جَيِّدًا نَقَّالًا لِلْمَذْهَبِ،
رَحِمَهُ الله] [1] وقد سافر مع ابن العديم لبغداد فَسَمِعَ بِهَا
وَدُفِنَ بِمَقَابِرِ الصُّوفِيَّةِ بِالْقُرْبِ مِنَ ابْنِ
الصَّلَاحِ.
الشَّيْخُ الصَّالِحُ الْعَالِمُ الزَّاهِدُ
أَبُو إسحاق إبراهيم بن سعد الله بن جماعة بْنِ عَلِيِّ بْنِ جَمَاعَةَ
بْنِ حَازِمِ بْنِ سنجر الْكِنَانِيُّ الْحَمَوِيُّ لَهُ مَعْرِفَةٌ
بِالْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ، وُلِدَ سَنَةَ سِتٍّ وَتِسْعِينَ بِحَمَاةَ،
وَتُوُفِّيَ بِالْقُدْسِ الشَّرِيفِ ودفن بماملّا، وسمع من الفخر ابن
عَسَاكِرَ، وَرَوَى عَنْهُ وَلَدُهُ قَاضِي الْقُضَاةِ بَدْرُ الدين
ابن جَمَاعَةَ.
الشَّيْخُ الصَّالِحُ جَنْدَلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَنِينِيُّ
كَانَتْ لَهُ عِبَادَةٌ وَزَهَادَةٌ وَأَعْمَالٌ صَالِحَةٌ، وَكَانَ
الناس يترددون إلى زيارته بِمَنِينَ، وَكَانَ يَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ
كَثِيرٍ لَا يَفْهَمُهُ أَحَدُ مِنَ الْحَاضِرِينَ، بِأَلْفَاظٍ
غَرِيبَةٍ، وَحَكَى عَنْهُ الشَّيْخُ تَاجُ الدِّينِ أَنَّهُ سَمِعَهُ
يَقُولُ: مَا تَقَرَّبَ أَحَدٌ إِلَى اللَّهِ بِمِثْلِ الذُّلِّ لَهُ
وَالتَّضَرُّعِ إِلَيْهِ، وَسَمِعَهُ يَقُولُ: الْمُوَلَّهُ مَنْفِيٌّ
مِنْ طَرِيقِ اللَّهِ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ وَاصِلٌ وَلَوْ عَلِمَ
أَنَّهُ مَنْفِيٌّ رَجَعَ عَمَّا هُوَ فِيهِ، لِأَنَّ طَرِيقَ
الْقَوْمِ مَنْ أَهْلِ السُّلُوكِ لَا يَثْبُتُ عَلَيْهَا إِلَّا ذَوُو
الْعُقُولِ الثَّابِتَةِ. وَكَانَ يَقُولُ: السَّمَاعُ وَظِيفَةُ
أَهْلِ الْبَطَالَةِ. قَالَ الشَّيْخُ تَاجُ الدِّينِ: وَكَانَ
الشَّيْخُ جُنْدُلٌ مِنْ أَهْلِ الطَّرِيقِ وَعُلَمَاءِ التَّحْقِيقِ.
قَالَ: وَأَخْبَرَنِي فِي سَنَةِ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَسِتِّمِائَةٍ
أَنَّهُ قَدْ بَلَغَ مِنَ الْعُمُرِ خمسا وتسعين سنة. قلت: على هذا
فيكون قَدْ جَاوَزَ الْمِائَةَ، لِأَنَّهُ تُوُفِّيَ فِي رَمَضَانَ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ فِي زَاوِيَتِهِ الْمَشْهُورَةِ بقرية
منين، وتردد الناس لقبره يصلون عليه من دمشق وأعمالها أياما كثيرة رحمه
الله.
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ
الْحَافِظُ بدر الدين أبو عبد الله بن النويرة السُّلَمِيُّ
الْحَنَفِيُّ، اشْتَغَلَ عَلَى الصَّدْرِ سُلَيْمَانَ وَابْنِ عَطَاءٍ
وَفِي النَّحْوِ عَلَى ابْنِ مَالِكٍ، وَحَصَّلَ وَبَرَعَ وَنَظَمَ
وَنَثَرَ، وَدَرَّسَ فِي الشِّبْلِيَّةِ وَالْقَصَّاعِينَ، وَطُلِبَ
لِنِيَابَةِ الْقَضَاءِ فَامْتَنَعَ، وَكَتَبَ الْكِتَابَةَ
الْمَنْسُوبَةَ. رَآهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ فِي الْمَنَامِ بَعْدَ
وَفَاتِهِ فقال: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟ فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
مَا كَانَ لِي مِنْ شَافِعٍ عِنْدَهُ ... غَيْرُ اعْتِقَادِي أنه واحد
وكانت وفاته في جمادى الآخرة وَدُفِنَ بِظَاهِرِ دِمَشْقَ رَحِمَهُ
اللَّهُ.
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ مَنْصُورٍ
شَمْسُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَرَّانِيُّ الْحَنْبَلِيُّ
تِلْمِيذُ الشَّيْخِ مَجْدِ الدين ابن تيمية، وهو أول من
__________
[1] زيادة من نسخة تركية
(13/273)
حَكَمَ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ نِيَابَةً
عَنِ الْقَاضِي تَاجِ الدِّينِ ابْنِ بِنْتِ الْأَعَزِّ، ثُمَّ ولى شمس
الدين ابن الشَّيْخِ الْعِمَادِ الْقَضَاءَ مُسْتَقِلًّا فَاسْتَنَابَ
بِهِ، ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ وَرَجَعَ إِلَى الشَّامِ يَشْتَغِلُ
وَيُفْتِي إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ وَقَدْ نَيَّفَ عَلَى السِّتِّينِ
رَحِمَهُ اللَّهُ. |