الدرر في اختصار المغازي والسير

غزوة حنين:
فلما بلغ هوازنَ فَتْحُ مكة جَمَعَهُمْ مالك بْن عوف النصري من بني نصر بْن معاوية، فاجتمع إليه قومه بنو نصر، وبنو جشم، وبنو سعد بْن بكر، وثقيف، وطائفة من بني هلال بْن عامر، ولم يشهدها من قيس غير هؤلاء، وغابت عن ذلك عقيل وقشير ابنا كعب بْن ربيعة بْن عامر، وبنو كلاب بْن ربيعة بْن عامر، وسائر إخوتهم، فلم يحضرهم من كعب وقشير وكلاب أحد يذكر، وحملت بنو جشم مع أنفسهم شيخهم وكبيرهم دريد بْن الصمة، وهو يومئذ شيخ كبير لا ينتفع به في غير رأيه، حملوه في هودج لضعف جسمه، وكان في ثقيف سيدان لهم في الأحلاف، أحدهما قارب بْن الأسود بْن مسعود بْن معتب، والآخر ذو الخمار سبيع بْن الحارث بْن مالك، وكانت الرياسة في جميع العسكر إلى مالك بْن عوف النصري، فَحَشَدَ مَنْ ذَكَرْنَا وساق مع الكفار أموالهم، وماشيتهم، ونساءهم، وأولادهم، وزعم أن ذلك لتحمى به نفوسهم، وتشد في القتال عن ذلك شوكتهم، ونزلوا بأوطاس، فقال لهم دريد بْن الصمة: ما لي أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، وبكاء الصغير، ويعار الشاء؟ قالوا: ساق مالك مع الناس أموالهم
وعيالهم، قَالَ: أين مالك؟ قيل هذا مالك، فسأله: لم فعلت ذلك؟ فقال مالك: ليقاتلوا عن أهليهم وأموالهم، فقال دريد: راعي ضأن والله، وهل يرد المنهزم شيء؟ إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسلاحه، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك، ثم قَالَ: ما فعلت كعب وكلاب؟ قالوا:

(1/237)


لم يشهدها منهم أحد، قَالَ دريد: غاب الحد والجد، لو كان يوم علاء ورفعة لم تغب عنه كعب وكلاب، ولوددت أنكم فعلتم ما فعلت كلاب وكعب، فمن شهدها من بني عامر؟ قالوا: عمرو بْن عامر، وعوف بْن عامر، قَالَ: ذانك الجذعان من عامر لا ينفعان ولا يضران، يا مالك، إنك لم تصنع بتقديم بيضة هوازن إلى نحور الخيل شيئا، ارفعهم إلى ممتنع بلادهم، وعليا قومهم، ثم الْقَ الصُّبَاةَ على متون الخيل، فإن كانت لك لحق بك من وراءك، وإن كانت عليك كنت قد أحرزت أهلك ومالك، فأبى ذلك مالك، وخالفت هوازن دريدا واتبعوه، فقال دريد: هذا يوم لم أشهده ولم يغب عني، يا ليتني فيها جَذَعْ أَخُبُّ فيها وَأَضَعْ، وبعث إليهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْد اللهِ بْن أبي حدرد الأسلمي عشاء، فأتى بعد أن عرف مذاهبهم، وأخبر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما شاهده منهم، فعزم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على قصدهم، واستعار من صفوان بْن أمية بْن خلف الجمحي دروعا،
قيل: مائة درع، وقيل: أربع مائة، وخرج النبي عليه السلام في اثنى عشر ألفا من المسلمين، منهم عشرة آلاف صحبوه من المدينة، وألفان من مسلمة الفتح، إلى ما انضاف إليه من الأعراب من سليم، وبني كلاب، وعبس، وذبيان، واستعمل على مكة عتاب بْن أسيد بْن أبي العيص بْن أمية، ونهض صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مقدمته مزينة، وفي الميمنة

(1/238)


بنو أسد، وفي الميسرة بنو سليم وعبس وذبيان، وفي مخرجه هذا رأى جهال الأعراب شجرة خضراء، وكان لهم في الجاهلية شجرة معروفة تسمى ذات أنواط، يخرج إليها الكفار يوما معلوما في السنة يعظمونها، فقالوا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال عليه السلام: " الله أكبر، والذي نفسي بيده كما قَالَ قوم موسى : {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} قَالَ: إنكم قوم تجهلون، لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى إنهم لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه " ثم نهض رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أتى وادي حنين، وهو واد من أودية تهامة، وكانت هوازن قد كمنت في جنبي الوادي، وذلك في غبش الصبح، فحملت على المسلمين حملة رجل واحد، فانهزم جمهور المسلمين ولم يلو أحد على أحد، وثبت مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبُو بكر، وعمر، ومن أهل بيته علي، والعباس، وأبو سفيان بْن الحارث بْن عَبْد المطلب، وابنه
جعفر، وأسامة بْن زيد، وأيمن بْن عبيد، وهو أيمن بْن أم أيمن، قتل يومئذ بحنين، والفضل بْن العباس، وقيل في موضع جعفر بْن أبي سفيان قثم بْن العباس، ولم ينهزم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا أحد من هؤلاء، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على بغلته الشهباء واسمها دُلْدُل، والعباس آخذ بحكمتها، ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يقول: " أيها الناس، إلى أين أيها الناس؟ أنا رسول الله، وأنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، وأمر العباس وكان جهير الصوت أن ينادي: يا معشر الأنصار، يا أصحاب الشجرة، وبعضهم يرويه: يا أصحاب السَّمُرَةِ، وقد قيل: إنه نادى يومئذ: يا معشر المهاجرين، كما نادى: يا معشر الأنصار، فلما سمعوا الصوت أجابوا: لبيك، لبيك، وكانت الدعوة أولا: يا للأنصار، ثم

(1/239)


خصصت بِأَخَرَةٍ: يا للخزرج، قَالَ ابن شهاب: وكانوا أصبر عند الحروب، فلما ذهبوا ليرجعوا، كان الرجل منهم لا يستطيع أن ينفذ ببعيره لكثرة الأعراب المنهزمين، فكان يأخذ درعه فيلبسها، ويأخذ سيفه ومجنه ويقتحم عن بعيره، ويخلي سبيله ويكر راجعا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حتى إذا اجتمع حواليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مائة رجل أو نحوهم استقبلوا هوازن بالضرب، واشتدت الحرب، وكثر الطعن والجلاد، فقام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ركائبه، فنظر إلى مجتلد القوم، فقال: " الآن حمي الوطيس
" وضرب عليُّ بْن أبي طالب عرقوب جمل صاحب الراية أو فرسه فصرعه، ولحق به رجل من الأنصار فاشتركا في قتله، وأخذ علي الراية، وقذف الله عز وجل في قلوب هوازن الرعب حين وصلوا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذلك أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ واجههم وواجهوه صاح بهم صيحة، ورمى في وجوههم بالحصا، فلم يملكوا أنفسهم، وفي ذلك يقول الله عز وجل : {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى} وروينا من وجوه عن بعض من أسلم من المشركين ممن شهد حنينا، قَالَ وقد سئل عن يوم حنين: لقينا المسلمين، فما لبثنا أن هزمناهم وأتبعناهم حتى وصلنا إلى رجل راكب على بغلة بيضاء، فلما رآنا زجرنا زجرة وانتهزنا، وأخذ بكفه حصا أو ترابا فرمانا به، وقال: شاهت الوجوه، شاهت الوجوه، فلم تبق عين إلا دخلها من ذلك، فما ملكنا أنفسنا أن رجعنا على أعقابنا، وما استوفى رجوع المسلمين إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا وأسرى هوازن بين يديه، وثبتت أم سليم في جملة من ثبت أول الأمر محتزمة ممسكة بعيرا لأبي طلحة، وفي يدها خنجر، وانهزمت هوازن، وملك العيال والأموال، واستحر القتل في بني مالك من ثقيف، فقتل منهم

(1/240)


خاصة يومئذ سبعون رجلا، منهم رئيساهم ذو الخمار وأخوه عثمان ابنا عَبْد اللهِ بْن ربيعة، ولم يقتل من الأحلاف إلا رجلان، لأن قارب بْن الأسود وكان سيدهم يومئذ فر بهم حين اشتد أول
القتال واستحر القتل في بني نصر بْن معاوية، وهرب مالك بْن عوف النصري في جماعة من قومه ودخل الطائف مع ثقيف، وانحازت طوائف من هوازن إلى أوطاس، وأدرك ربيعةُ بْنُ رفيع بْن أهبان السلمي من بني سليم دُرَيْدَ بْن الصمة فقتله، وقد قيل: إن قاتل دريد هو عَبْد اللهِ بْن قنيع بْن أهبان من بني سليم، وقد قيل: إن دريدا أسر يومئذ، وأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقتله لمشاهدته الحرب وموضع رأيه فيها، ولما انقضى الصدام نادى منادى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من قتل قتيلا عليه بينة فله سلبه، وبعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا عامر الأشعري، واسمه عبيد، وهو عم أبي موسى الأشعري، في طائفة من المسلمين منهم أَبُو موسى إلى من اجتمع من هوازن بأوطاس، فشد على أبي عامر أحد بني دريد بْن الصمة فقتله، قيل: رماه سلمة بْن دريد بْن الصمة بسهم فقتله، وأخذ أَبُو موسى الراية وشد على قاتل عمه فقتله، وقيل: بل رمى أبا عامر رجلان من بني جشم، وهما العلاء وأوفى ابنا الحارث، أصاب أحدهما قلبه والآخر ركبته، ثم قتلهما أَبُو موسى، وقيل: بل قتل أَبُو عامر تسعة إخوة من المشركين مبارزة، يدعو كل واحد منهم إلى الإسلام ثم يحمل عليه فيقتله، ثم حمل عليه عاشرهم فقتله، ثم أسلم ذلك العاشر بعد ذلك

(1/241)


تسمية من استشهد من المسلمين يوم حنين:
واستشهد من المسلمين يوم حنين أربعة رجال: أيمن بْن عبيد وهو أيمن بْن أم أيمن أخو أسامة بْن زيد لأمه، ويزيد بْن زمعة بْن الأسود بْن المطلب بْن أسد، جَمَحَ به فرسه فقتل، وسراقة بْن الحارث بْن عدي من بني العجلان من الأنصار، وأبو عامر الأشعري، وكانت وقعة هوازن وهي يوم حنين في أول شوال من السنة الثامنة من الهجرة، وترك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قسم الغنائم من الأموال والنساء والذراري فلم يقسمها حتى أتى الطائف

(1/242)


غزوة الطائف:
وكان منصرف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من حنين إلى الطائف، لم يرجع إلى مكة، ولا عَرَّجَ على شيء إلا غزو الطائف قبل أن يقسم غنائم حنين وقبل كل شيء، فسلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الجعرانة في طريقه إلى الطائف، ثم أخذ على قرن، وابتنى في طريقه ذلك مسجدا وصلى فيه، وأقاد في ذلك المكان بدم، وهو أول دم أقيد به في الإسلام من رجل من بني ليث قتل رجلا من هذيل فقتله به، ووجد في طريقه ذلك حصنا لمالك بْن عوف النضري فهدمه، ووجد هنالك أطما قد تَمَنَّعَ فيه رجل من ثقيف في ماله فأمر بهدمه، ولم يشهد غزوة حنين ولا الطائف عروة بْن مسعود، ولا غيلان بْن سلمة الثقفيان، كانا قد خرجا يتعلمان صناعة المنجنيق والدبابات، ثم نزل عليه السلام بقرب الطائف بواد يقال له العقيق، فتحصنت ثقيف وحاربهم المسلمون، وحصن ثقيف لا حصن مثله في حصون العرب، فأصيب من المسلمين رجال بالنبل، فزال النبي عليه السلام من
ذلك المنزل إلى موضع المسجد المعروف اليوم، فحاصرهم عليه السلام بضعا وعشرين ليلة بل بضع عشرة ليلة، وقيل عشرين يوما، وكان معه عليه السلام امرأتان من نسائه، أم سلمة إحداهما، فموضع المسجد اليوم بين منزلهما يومئذ، وتولى بنيان ذلك المسجد عمرو بْن أمية بْن وهب بْن معتب الثقفي، وأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقطع أعناب الطائف إلا قطعة عنب كانت للأسود بْن مسعود أو لابنه في ماله، وكانت تبعد عن الطائف، وسأله الكف عنها، فكف عنها،

(1/243)


وكان يجير بْن زهير بْن أبي سلمى المزني الشاعر ابْن الشاعر، شهد حنينا والطائف، وكان حسن الإسلام

تسمية من استشهد من المسلمين في حصار الطائف
واستشهد من المسلمين في حصار الطائف سعيد بْن سعيد بْن العاصي بْن أمية، وعرفطة بْن جناب الأزدي حليف لبني أمية، وعبد الله بْن أبي بكر الصديق، أصابه سهم فاستمر منه مريضا حتى مات منه في خلافة أبيه، وعبد الله بْن أبي أمية بْن المغيرة المخزومي أخو أم سلمة، وعبد الله الأكبر بْن عامر بْن ربيعة حليف بني عدي بْن كعب، والسائب بْن الحارث بْن قيس السهمي، وأخوه عَبْد اللهِ بْن الحارث بْن قيس السهمي، وجليحة بْن عَبْد اللهِ الليثي من بني سعد بْن ليث، وثابت بْن الجذع الأنصاري من بني سلمة، والحارث بْن سهل بْن أبي صعصعة الأنصاري من بني مازن بْن النجار، والمنذر بْن عَبْد اللهِ الأنصاري من بني ساعدة، ومن الأوس رقيم بْن ثابت بْن ثعلبة

(1/244)


باب في قسمة غنائم حنين وما جرى فيها
ثم انصرف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الجعرانة موضع قريب من حنين، وكان قد اسْتَأْنَى بقسمة الغنائم رجاء أن يسلموا ويرجعوا إليه، فلما قسمت الغنائم هنالك، أتاه وفد هوازن مسلمين راغبين في العطف عليهم والإحسان إليهم، فقال لهم: " قد كنت استأنيت بكم، وقد وقعت المقاسم وعندي ما ترون، فاختاروا إما ذراريكم ونساءكم، وإما أموالكم " فاختاروا العيال والذرية، وقالوا: لا نعدل بالأنساب شيئا، فقال لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا صليت الظهر فتكلموا واطلبوا حتى أكلم الناس في أمركم " فلما صلى الظهر تكلموا وقالوا: نستشفع برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على المسلمين، فقال النبي عليه السلام: " أما ما كان لي ولبني عَبْد المطلب وبني هاشم فهو لكم " وقال المهاجرون والأنصار: أما ما كان لنا فهو لرسول الله عليه السلام، وامتنع الأقرع بْن حابس وعيينة بْن حصن في قومهما أن يردوا عليهم شيئا مما وقع لهم في سهامهم، وامتنع العباس بْن مرداس السلمي، وطمع أن يساعده قومه كما ساعد الأقرع بْن حابس وعيينة قومهما، فأبت بنو سليم، وقالوا: بلى ما كان لنا فهو لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال رسول الله عليه السلام: " من ضن منكم بما في يديه فإنا نعوضه منه " فرد عليهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نساءهم وأبناءهم، وعوض من لم تطب نفسه بترك نصيبه أعواضا رضوا بها، وكان عدد
سبي هوازن ستة آلاف إنسان فيهم الشيماء أخت

(1/245)


النبي عليه السلام من الرضاعة، وهي بنت الحارث بْن عبد العزى من بني سعد بْن بكر بْن هوازن بنت حليمة السعدية، فأكرمها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأعطاها ورجعت إلى بلادها مسرورة بدينها وبما أفاء الله عليها، وقسم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأموال بين المسلمين، وأعطى المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس أو من جملة الغنيمة على مذهب من رأى أن ذلك إلى اجتهاد الإمام، وأن له أن ينفل في البدأة والرجعة حسب ما رآه بظاهر قوله الله تعالى : {قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} يحكم فيها بما أراه الله، وليس ذلك لغيره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بظاهر قوله عز وجل : {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} وللقول في تلخيص ذلك مواضعُ غير هذا

أُعْطِيَاتُ المؤلفة قلوبهم:
ولم يختلف أهل السير وغيرهم أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعطى المؤلفة قلوبهم من قريش وغيرهم، ولا ذِكْرَ للمؤلفة قلوبهم في غير آية قسم الصدقات، قالوا: أعطى قريشا مائة بعير مائة بعير، وكذلك أعطى عيينة بْن حصن والأقرع بْن حابس، قَالَ ابن إسحاق: أعطاهم يتألفهم ويتألف بهم قومهم وكانوا أشرافا، فأعطى أبا سفيان بْن حرب مائة بعير، وأعطى ابنه معاوية مائة بعير، وأعطى حكيم بْن حزام مائة بعير، وأعطى الحارث بْن هشام مائة بعير، وأعطى سهيل بْن عمرو مائة بعير، وأعطى حويطب بْن عبد العزى مائة بعير، وأعطى صفوان بْن أمية مائة
بعير، وكذلك أعطى مالك بْن عوف والعلاء بْن جارية الثقفي حليف بني زهرة، قَالَ: فهؤلاء أصحاب المئين،

(1/246)


وأعطى رجالا من قريش دون المائة، منهم مخرمة بْن نوفل الزهري، وعمير بْن وهب الجمحي، وهشام بْن عمرو العامري، لا أعرف ما أعطاهم، وأعطى سعيد بْن يربوع خمسين بعيرا، وأعطى عباس بْن مرداس السلمي أباعر قليلة فتسخطها، وقال في ذلك: وكانت نهابا تلافيتها بكرى على المهر في الأجرع وإيقاظي القوم أن يرقدوا إذا هجع الناس لم أهجع فأصبح نهبي ونهب العبيد بين عيينة والأقرع وقد كنت في الحرب ذا تدرإ فلم أعط شيئا ولم أمنع إلا أفائل أعطيتها عديد قوائمها الأربع وما كان حصن ولا حابس يفوقان شيخي في المجمع وما كنت دون امرئ منهما ومن تضع اليوم لا يرفع فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اذْهَبُوا فَاقْطَعُوا عَنِّي لِسَانَهُ " فأعطوه حتى رضي، فكان ذلك قَطْعَ لسانه، وقيل: إن عباس بْن مرداس أتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد ذلك، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنت القائل: فأصبح نهبي ونهب العبيد بين الأقرع وعيينة فقال أَبُو بكر الصديق: بين عيينة والأقرع، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هما واحد " وقال أَبُو بكر: أشهد أنك كما قَالَ الله عز وجل : {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} قَالَ أَبُو عمر: لو كان ما أعطى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المؤلفة قلوبهم من غنائم حنين من خمس
الخمس كما زعم من زعم ذلك، أو من الخمس الذي قَالَ فيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مالي من غنائمكم

(1/247)


إلا الخمس، والخمس مردود عليكم " ما شق ذلك والله أعلم على الأنصار حتى قالوا ما هو محفوظ عنهم، وقد كتبت ذلك فيما بعد، ولكنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علم من إيمانهم وكرمهم أنهم سيرضون بفعله، لأن حرصهم على ظهور الدين من حرصه رضي الله عنهم

تسمية المؤلفة قلوبهم
من بني أمية: أَبُو سفيان بْن حرب بْن أمية، وابنه معاوية، وطليق بْن سفيان بْن أمية، وخالد بْن أسيد بْن أبي العيص بْن أمية، ومن بني عَبْد الدار بْن قصي: شيبة بْن عثمان بْن أبي طلحة، وأبو السنابل بْن بعكك، وعكرمة بْن عامر بْن هاشم، ومن بني مخزوم: زهير بْن أبي أمية، والحارث بْن هشام، وأخوه خالد بْن هشام، وهشام بْن الوليد بْن المغيرة، وسفيان بْن عَبْد الأسد، والسائب بْن أبي السائب، ومن بني عدي بْن كعب: مطيع بْن الأسود، وأبو جهم بْن حذيفة، ومن بني جمح: صفوان بْن أمية بْن خلف، وأخوه أحيحة بْن أمية، وعمير بْن وهب بْن خلف، ومن بني سهم: عدي بْن قيس بْن حذافة، ومن بني عامر بْن لؤي: حويطب بْن عَبْد العزى، وهشام بْن عمرو بْن ربيعة، ومن سائر قبائل العرب من بني الديل بْن بكر بْن عَبْد مناة: نوفل بْن معاوية، ومن بني قيس، ثم من بني
عامر بْن صعصعة، ثم من بني كلاب بْن ربيعة بْن عامر: علقمة بْن علاثة بْن عوف بْن الأحوص بْن جعفر بْن كلاب، ولبيد بْن ربيعة بْن مالك بْن جعفر بْن كلاب،

(1/248)


ومن بني عامر بْن صعصعة: خالد بْن هوذة بْن ربيعة بْن عمرو بْن عامر، وأخوه حرملة بْن هوذة، ومن بني نصر بْن معاوية: مالك بْن عوف بْن سعيد بْن يربوع، ومن بني سليم بْن منصور: عباس بْن مرداس، ومن غطفان ثم من فزارة: عيينة بْن حصن، ومن بني تميم ثم من بني حنظلة: الأقرع بْن حابس، وقد ذكر في المؤلفة حكيم بْن حزام، والنضير بْن الحارث بْن علقمة بْن كلدة أخو النضر بْن الحارث المقتول ببدر صبرا، وذكر آخرون النضير بْن الحارث فيمن هاجر إلى أرض الحبشة، فإن كان منهم فمحال أن يكون من المؤلفة قلوبهم، ومن هاجر إلى أرض الحبشة فهو من المهاجرين الأولين ممن رسخ الإيمان في قلبه وقاتل دونه، ليس ممن يؤلف عليه، وعند إعطاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما أعطى المؤلفة قلوبهم ولم يعط الأنصار ولا المهاجرين قَالَ ذو الخويصرة التميمي: قد رأيت ما صنعت في هذا اليوم يا مُحَمَّد، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أجل، فكيف رأيت؟ " قَالَ: لم أرك عدلت، فغضب النبي عليه السلام، وقال: " ويحك إن لم يكن العدل مني فعند من يكون؟ " فقال عمر رضي الله عنه: دعني أضرب عنقه
يا رسول الله، فقال: " لا، دعوه، سيكون له شيعة يتعمقون في الدين حتى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرمية "

موقف بعض الأنصار:
قَالَ ابن إسحاق: وحدثني عاصم بْن عمر بْن قتادة قَالَ: لما أعطى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تلك العطايا في قريش وقبائل العرب، ولم يكن

(1/249)


في الأنصار منها شيء، وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم حتى كثرت منهم القالة، فدخل عليه سعد بْن عبادة، فقال: يا رسول الله، إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم بما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قَسَمْتَ في قومك، وأعطيت قوما من العرب عطايا عظاما، ولم يكن في هذا الحي من الأنصار منها شيء، قَالَ: " فأين أنت من ذلك يا سعد؟ " قَالَ: يا رسول الله، ما أنا إلا من قومي، قَالَ: " فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة " قَالَ: فخرج سعد فجمع من الأنصار في تلك الحظيرة، وجاء رجل من المهاجرين فتركهم فدخلوا، وجاء آخرون فردهم، فلما اجتمعوا أتاه سعد، فقال: يا رسول الله، قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار، فأتاهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قَالَ: " يا معشر الأنصار، ما قَالَةٌ بلغتني عنكم، ووجدة وجدتموها في أنفسكم؟ ألم آتكم ضلالا فهداكم الله؟ وعالة فأغناكم الله؟ وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟ قالوا:
بلى، لله ورسوله المن والفضل، ثم قَالَ: ألا تجيبونني يا معشر الأنصار؟ قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله؟ لله ورسوله المن والفضل، فقال: أما والله لو شئتم لقلتم فَصَدَقْتُمْ وَلَصُدِّقْتُمْ: أتيتنا مُكَذَّبًا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك، وطريدا فآويناك، وعائلا فواسيناك، أوجدتم يا معشر الأنصار فِي أنفسكم فِي لُعَاعَةٍ من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا ووكلتكم إلى إيمانكم؟ ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟ والذي نفس مُحَمَّد بيده لولا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار، ولو سلك الناس شعبا وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب

(1/250)


الأنصار، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار، قَالَ: فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قسما وحظا، فانصرف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتفرقوا " وروي أن قائلا قَالَ لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا رسول الله، أعطيت عيينة بْن حصن والأقرع بْن حابس وتركت جعيل بْن سراقة الضمري، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " والذي نفس مُحَمَّد بيده، لَجُعَيْلُ بْن سراقة خير من طلاع الأرض مثل الأقرع وعيينة، ولكني تألفتهما ليسلما، ووكلت جعيلا إلى إسلامه، وكان هذا القسم بالجعرانة، وروى أَبُو الزبير وغيره، عن جابر، قَالَ: بصرت عيناي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالجعرانة، وفي ثوب بلال فضة، ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقبض ويعطي الناس "

عمرة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الجعرانة:
ثم خرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معتمرا من الجعرانة إلى مكة، وأمر ببقايا الفيء، فخمس بناحية مر الظهران، فلما فرغ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من عمرته انصرف إلى المدينة، واستخلف على مكة عتاب بْن أسيد بْن أبي العيص وهو ابن نيف وعشرين سنة، ودخل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة لست بقين من ذي القعدة، وكانت وقعة الطائف في ذي القعدة المؤرخ من السنة الثامنة من الهجرة، وكانت غيبة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منذ خرج من المدينة إلى مكة فافتتحها، وأوقع بهوازن، وحارب الطائف إلى أن رجع إلى المدينة شهرين وستة عشر يوما،

(1/251)


واستعمل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مالك بْن عوف بْن سعيد بْن يربوع النصري على من أسلم من قومه من قبائل قيس، وأمره بمغاورة ثقيف، ففعل وضيق عليهم، وحسن إسلامه وإسلام المؤلفة قلوبهم حشا عيينة بْن حصن، فلم يزل مغموزا عليه، وسائر المؤلفة قلوبهم منهم الخير الفاضل المجمع على خيره كالحارث بْن هشام حكيم بْن حزام، وعكرمة بْن أبي جهل، وسهيل بْن عمرو، ومنهم دون هؤلاء، وقد فضل الله النبيين وسائر عباده المؤمنين بعضهم على بعض، وهو أعلم بهم، ثم انصرف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتفرقوا، وأقام الحج للناس عتاب بْن أسيد في تلك السنة، وهو أول أمير أقام الحج في الإسلام، وحج المشركون على مشاعرهم، وكان عتاب بْن أسيد خَيِّرًا فاضلا ورعا، وقدم
كعب بْن زهير بْن أبي سلمى على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مسلما وامتدحه، وقام على رأسه بقصيدته التي أولها: بانت سعاد فقلبي اليوم متبول، وأنشدها إلى آخرها، وذكر فيها المهاجرين فأثنى عليهم، وكان قبل ذلك حُفِظَ له هجاءٌ في النبي عليه السلام، فعاب عليه الأنصار إذ لم يذكرهم، فغدا على النبي عليه السلام بقصيدة يمدح فيها الأنصار، وقبل النبي عليه السلام إسلامه، وسمع شعره وأثابه

(1/252)