فتوح الشام
معركة حول دمشق
وكان خالد في المقدمة وأبو عبيده يمشي مع الأموال والأغنام والجمال إذ
نظر رجل من أصحابه وهو يتأمل الغبرة من ورائهم فسأله أبو عبيدة عن ذلك
فقال أظنها غبرة القوم فقال أبو عبيدة: أن أهل الشام قد طمعوا فينا
وهذا العدو قاصد إلينا قال فما استتم كلامه حتى بدت الخيل كأنها السيل
وبولص في أوائلهم فلما نظر إلى أبي عبيدة قصده ومعه الفرسان وأخوه بطرس
قصد الحريم والماس فاقتطعوا منها قطعة فلما احتوى عليها رجع بها بطرس
نحو دمشق فلما بعد جلس هناك لنظر ما يكون من أمر أخيه وأما أبو عبيدة
فإنه لما نظر إلى ما فاجأه من الروم قال: والله لقد كان الصواب مع خالد
لما قال دعني في الساقة فلم أدعه وانه قد وصل إليه بولص وقصده
والأعلام.
(1/45)
والصلبان على
رأسه مشتبكة والنساء يولولن والصبيان يصيحون والألف من المسلمين قد
اشتغلوا بالقتال وقد قصد عدو الله بولص أبا عبيدة واشتد بينهم الحرب
ووقع القتال من أصحابه والروم وارتفعت الغبرة عليهم وهم في كر وفر على
أرض سحورا قال: وقد بلى أبو عبيدة بالقتال وصبر صبر الكرام قال سهيل بن
صباح وكان تحتي الجواد محجل من خيل اليمن شهدت عليه اليمامة فقومت
السنان وأطلقت العنان فخرج كأنه الريح العاصف فما كان غير بعيد حتى
لحقت بخالد بن الوليد والمسلمين فأقبلت إليهم صارخا وقلت: أيها الأمير
أدرك الأموال والحريم فقال خالد: ما وراءك يا ابن الصباح فقلت: أيها
الأمير الحق أبا عبيدة والحريم فإن نفير دمشق قد لحق بهم وقد اقتطعوا
قطعة من النسوان والولدان وقد بلى أبو عبيدة بما لا طاقة لنا به قال
فلما سمع خالد ذلك الكلام من سهل بن صباح قال أنا لله وأنا إليه راجعون
قد قلت لأبي عبيدة: دعني أكون على الساقة فما طاوعني ليقضي الله أمرا
كان مفعولا ثم أمر رافع بن عميرة على ألف من الخيل وقال له: كن في
المقدمة وأمر عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق على ألفين وقال له: ادرك
العدو وسار خالد في أثره ببقية الجيش.
قال فبينما أبو عبيدة في القتال مع بولص لعنه الله إذ تلاحقت به جيوش
المسلمين وحملوا على اعداء الله وداروا بهم من كل مكان فعند ذلك تنكست
الصلبان وأيقن الروم بالهوان وتقدم الأمير ضرار بن الأزور كأنه شعلة
نار وقصد نحو بولص فلما رآه عدو الله تبلبل خاطره ووقعت الرعدة في
فرائصه وقال لأبي عبيدة: يا عربي وحق دينك إلا ما قلت لهذا الشيطان:
يبعد عني وكان بولص قد سمع به ورآه من سور دمشق وما صنع بعسكر كلوس
عزازير وسمع بفعاله في بيت لهيا فلما رآه مقبلا إليه عرفه فقال لأبي
عبيدة: قل لهذا الشيطان: لا يقربني فسمعه ضرار رضي الله عنه فقال له:
أنا شيطان أن قصرت عن طلبك ثم إنه فاجأه وطعنه فلما رأى بولص أن الطعنة
واصلة إليه رمى نفسه عن جواده وطلب الهرب نحو أصحابه فسار ضرار في طلبه
وقال له: أين تروح من الشيطان وهو في طلبك ولحقه وهم أن يعلوه بسيفه
فقال بولص يا بدوي ابق علي ففي بقائي بقاء أولادكم وأموالكم قال فلما
سمع ضرار قوله أمسك عن قتله وأخذه أسير هذا والمسلمون قد قتلوا من
الروم مقتلة عظيمة.
قال حدثني أسلم بن مالك اليربوعي عن أبي رفاعة بن قيس قال كنت يوم وقعة
سحورا مع المسلمين وكنت في خيل عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله
عنه قال فدرنا بالروم من كل جانب وبذلنا اسيافنا في القوم وكانوا ستة
كتائب في كل كتيبة ألف فارس قال رفاعة بن قيس فوالله لقد حملنا يوم فتح
دمشق وانه ما رجع منهم فوق المائة ووجه خبر لضرار أن خولة مع النسوان
المأسورات فعظم ذلك عليه وأقبل.
(1/46)
على خالد
وأعلمه بذلك فقال له خالد: لا تجزع فقد أسرنا منهم خلقا كثيرا وقد أسرت
أنت بولص صاحبهم وسوف نخلص من اسر من حريمنا ولا بد لنا من دمشق في
طلبهم ثم أمر خالد أن يسيروا بالناس على مهل حتى ننظر ما يكون من أمر
حريمنا ثم إنه سار في ألف فارس جريدة وبعث العسكر كله إلى أبي عبيدة
مخافة أن يلحقهم وردان بجيوشه فسار القوم وتوجه خالد بمن معه في طلب
المأسورات وقد قدم أمامه رافع بن عميرة الطائي وميسرة بن مسروق العبسي
وضرار بن الأزور.
قال حدثني سعيد بن عمر عن سنان بن عامر اليربوعي قال سمعت حبيب بن مصعب
يقول: لما اقتطعوا من ذكرنا من نساء العرب سار بهم بطرس أخو بولص إلى
أن نزل بهم إلى النهر الذي ذكرناه ثم قال بطرس أنا لا أبرح من ههنا حتى
انظر ما يكون من أمر أخي ثم إنه عرض عليه النساء المأسورات فلم يعجبه
منهن إلا خولة بنت الأزور أخت ضرار قال بطرس هذه لي وأنا لها لا
يعارضني فيها أحد فقال له أصحابه: هي لك وانت لها قال: وكل من سبق إلى
واحدة يقول: هي لي حتى قسموا الغنيمة على ذلك ووقفوا ينتظرون ما يكون
من أمر بولص وأصحابه وكان في النساء عجائز من حمير وتبع من نسل
العمالقة والتبابعة وكن قد اعتدن ركوب الخيل فقالت لهن خولة بنت
الأزور: يا بنات حمير بقية تبع أترضين بأنفسكن علوج الروم ويكون
أولادكن عبيدا لاهل الشرك فأين شجاعتكن وبراعتكن التي نتحدث بها عنكن
فيأحياء العرب ومحاضر الحضر ولا أراكن إلا بمعزل عن ذلك وإني أرى القتل
عليكن أهون من هذه المصائب وما نزل بكم من خدمة الروم الكلاب.
فقالت عفرة بنت غفار الحميرية: صدقت ووالله يا بنت الأزور نحن في
الشجاعة كما ذكرت وفي البراعة كما وصفت لنا المشاهد العظام والمواقف
الجسام ووالله لقد اعتدنا ركوب الخيل وهجوم الليل غير أن السيف يحسن
فعله في مثل هذا الوقت وإنما دهمنا العدو على حين غفلة وما نحن إلا
كالغنم فقالت خولة: يا بنات التبابعة والعمالقة خذوا أعمدة الخيام
وأوتاد الأطناب ونحمل بها على هؤلاء اللئام فلعل الله ينصرنا عليهم أو
نستريح من معرة العرب فقالت عفرة بنت غفار: والله ما دعوت إلا ما هوأحب
إلينا مما ذكرت ثم تناولت كل واحدة عمودا من أعمدة الخيام وصحن صيحة
واحدة وألقت خولة على عاتقها عمود الخيمة وسعت من ورائها عفرة وأم أبان
بنت عتبة وسلمة بنت زراع ولبنى بنت حازم ومزروعة بنت عملوق وسلمة بنت
النعمان ومثل هؤلاء رضي الله عنهن فقالت لهن خولة: لا ينفك بعضكن عن
بعض وكن كالحلقة الدائرة ولا تتفرقن فتملكن فيقع بكن التشتيت وحطمن
رماح القوم واكسرن سيوفهن قال فهجمت خولة امامهن فأول ما ضربت رجلا من
القوم على هامته بالعمود فتجندل.
(1/47)
صريعا والتفت
الروم ينظرون ما الخبر فإذا هم بالنسوة وقد أقبلن والعمد بأيديهن فصاح
بطريق يا ويلكن ما هذا فقالت عفرة: هذه فعالنا فلنضربن بالقوم بهذه
الأعمدة ولا بد من قطع اعماركم وانصرام أجالكم يا أهل الكفر قال فجاء
بطرس وقال تفرقوا عن النسوة ولا تبذلوا فيهن السيوف ولاأحد منكم يقتل
واحدة منهن وخذوهن اسارى ومن وقع منكم بصاحبتي فلا ينلها بمكروه فتفرق
القوم عليهن وحدقوا بهن من كل جانب وراموا الوصول إليهن فلم يجدوا إلى
ذلك سبيلا ولم تزل النساء لا يدنوا إليهن أحد من الروم إلا ضربن قوائم
فرسه فإذا تنكس عن جواده بادرت النساء بالأعمدة فيقتلنه ويأخذن سلاحه.
قال الواقدي: ولقد بلغني أن النسوة قتلن ثلاثين فارسا من الروم فلما
نظر بطرس إلى ذلك غضب غضبا شديدا وترجل وترجلت أصحابه نحو النساء
والنساء يحرض بعضهن بعضا ويقلن متن كراما ولا تمتن لئاما وأظهر بطرس
رأسه وتلهفه عندما نظر إلى فعلهن ونظر إلى خولة بنت الأزور وهي تجول
كالاسد وتقول:
نحن بنات تبع وحمير
...
وضربنا في القوم ليس ينكر
لاننا في الحرب نار تسعر
...
اليوم تسقون العذاب الأكبر
قال فلما سمع بطرس ذلك من قولها ورأى حسنها وجمالها قال لها: يا عربية
اقصري عن فعالك فاني مكرمك بكل ما يسرك أما ترضين أن أكون أنا مولاك
وأنا الذي تهابني أهل النصرانية ولي ضياع ورساتيق وأموال ومواشي ومنزلة
عند الملك هرقل وجميع ما أنا فيه مردود إليك أما ترضين أن تكوني سيدة
أهل دمشق فلا تقتلي نفسك فقالت له: يا ملعون ويا ابن ألف ملعون والله
لئن ظفرت بك لاقطعن رأسك والله ما أرضى بك أن ترعى لي الإبل فكيف ارضاك
أن تكون لي كفؤا قال فلما سمع كلامها حرض أصحابه على القتال وقال أترون
عارا أكبر من هذا في بلاد الشام أن النسوة غلبنكم فاتقوا غضب الملك قال
فافترق القوم وحملوا حملة عظيمة وصبر النساء لهم صبر الكرام فبينما هم
على ذلك إذ أقبل خالد بن الوليد رضي الله عنه ومن معه من المسلمين
ونظروا إلى الغبار وبريق السيوف فقال لأصحابه: من يأتيني بخبر القوم
فقال رافع بن عميرة الطائي أنا آتيك به قال ثم أطلق جواده حتى أشرف على
النسوة وهن يقاتلن قتال الموت قال فرجع وأخبر خالدا بما رأى فقال خالد:
لا أعحب من ذلك انهن من بنات العمالقة ونسل التبابعة وما بينهن وبين
تبع إلا قرن واحد وتبع بن بكر بن حسان الذي ذكر رسول الله صلى الله
عليه وسلم قبل ظهوره وشهد له بالرسالة قبل أن يبعث وقال:
شهدت بأحمد إنه رسول
...
من الله بارىء كل النسم
(1/48)
وأمته سميت في
الزبور
...
بأمة أحمد خير الأمم
فلو مد عمري إلى عصره
...
لكنت وزيرا له وابن عم
(1/49)
بطولة النساء
قال الواقدي: قال خالد: لا تعجب يا رافع واعلم أن هؤلاء النسوة لهن
الحروب المذكورات والمواقف المشهورات وأن يكن فعلهن ما ذكرت فلقد سدن
على نساء العرب إلى آخر الأبد وأزلن عنهن العار فتهللت وجوه الناس فرحا
ووثب ضرار بن الأزور عندما سمع كلام رافع فقال خالد: مهلا يا ضرار ولا
تعجل فإنه من تأنى نال ما تمنى أيها الأمير لا صبر لي عن نصرة بنت أبي
وامي فقال خالد: قد قرب الفرج انشاءالله تعال ثم أن خالدا وثب ووثب
أصحابه وقال معاضر الناس إذا وصلتم إلى القوم فتفرقوا عليهم وأحدقوا
بهم فعسى أن يخلص حريمنا فقالوا: حبا وكرامة ثم تقدم خالد قال فبينما
القوم في قتال شديد مع النسوة إذا أشرفت عليهم المواكب والكتائب
والأعلام والرايات فصاحت خولة يا بنات التبابعة قد جاءكم الفرج ورب
الكعبة ونظر بطرس إلى الكتائب المحمدية وقد اشرفت فخفق فؤاده وارتعدت
فرائضه وأقبل القوم ينظر بعضهم بعضا قال فصاح بطرس يا معاشر النسوة أن
الشفقة والرحمة قد دخلت في قلبي لأن لنا أخوات وبنات وأمهات وقد وهبتكن
للصليب فإذا قدم رجالكن فأخبرنهم بذلك ثم عطف يريد الهرب إذ نظر إلى
فارسين قد خرجا من قلب العسكرأحدهما قد تكمى في سلاحه والآخر عاري
الجسد وقد أطلقا عنانهما كأنهما أسدان وكانا خالدا وضرارا فلما رأت
خولة أخاها قالت له: إلى أين يا أبن أقبل فصاح بها بطرس انطلقي إلى
أخيك فقد وهبتك له ثم ولى يطلب الهرب فقالت له خولة: وهي تهزأ به ليس
هذا من شيم الكرام تظهر لنا المحبة والقرب ثم تظهر الساعة الجفاء
والتباعد وخطت نحوه فقال قد زال عني ما كنت أجد من محبتك فقالت له
خولة: لا بد لي منك على كل حال ثم اسرعت إليه وقد قصده ضرار فقال له
بطرس: خذ أختك عني فهي مباركة عليك وهي هدية مني إليك فقال له الأمير
ضرار: قد قبلت هديتك وشكرتها وإني لا أجد لك على ذلك إلا سنان رمحي فخذ
هذه مني إليك ثم حمل عليه ضرار وهو يقول: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ
بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء:
86] ثم همهم إليه بالطعنة ووصلت إليه خولة فضربت قوائم فرسه فكبا به
الجواد ووقع عدو الله إلى الأرض فأدركه ضرار قبل سقوطه وطعنه في خاصرته
فأطلع السنان من الجانب الآخر فتجندل صريعا إلى الأرض فصاح به خالد لله
درك يا ضرار هذه طعنة لا يخيب طاعنها.
ثم حملوا في أعراض القوم وجميع المسلمين معهم فما كانت إلا جولة جائل
حتى.
(1/49)
قتل من الروم
ثلاثة آلاف رجل قال حامد بن عامر اليربوعي لقد عددت لضرار بن الأزور في
ذلك اليوم ثلاثين قتيلا وقتلت خولة خمس وعفراء بنت غفار الحميرية أربعة
وقال: وانهزم بقية القوم ولم يزالوا في أدبارهم والمسلمون على أثرهم
إلى أن وصلوا إلى دمشق فلم يخرج إليهم أحد بل زاد فزعهم واشتد الأمر
عليهم ورجع المسملون وجمعوا الغنائم والخيل والسلاح والأموال ثم قال
خالد: الحقوا بأبي عبيدة لئلا يكون وردان وجيوشه قد لحقوا به فسار ضرار
والقوم وقل جعل ضرار رأس البطريق على سنان رمحه يزل القوم سائرين إلى
أن لحقوا بأبي عبيدة في مرج الصفر وقد تخلف أبو عبيدة حتى اشرف
المسلمون عليه فكبر وكبر خالد بن الوليد رضي الله عنه ومعه المسلمون
فلما اجتمع الناس سلم بعضهم على بعض ورأوا المأسورات وقد خلصن وأخبر
خالد أبا عبيدة بما فعلت خولة وعفرة وغيرهن من الصحابة فاستبشر بنصر
الله وعلموا أن الشام لهم ثم دعا خالد ببولص فقال له: أسلم وإلا فعلت
بك كما فعلت بأخيك فقال له: وما الذي صنعت بأخي قال قتلته وهذه رأسه
ورماها ضرار قدامه فلما رأى أخيه بكى وقال له: لا بقاء لي بعد ه حيا
فألحقوني به قال فقام إليه المسيب بن يحيى الفزاري رضي الله عنه فضرب
عنقه بأمر خالد ثم رحل القوم.
قال الواقدي: حدثنا سعيد بن مالك قال لما بعث خالد الكتب إلى شرحبيل بن
حسنة كاتب وحي رسول الله صلى الله عليه وسلم والى يزيد بن أبي سفيان
والى عمرو بن العاص قرأ كل واحد من الأمراء كتابه قال فساروا بأجمعهم
إلى اجنادين لعون أخوانهم وجاءوا بعددهم وعديدهم قال سفينة مولى رسول
الله صلى الله عليه وسلم كنت في خيل معاذ بن جبل فلما أشرفنا بأجمعنا
على اجنادين كنا كلنا على سيارة واحدة في يوم واحد وذلك في شهر صفر سنة
20 من الهجرة وتبادر المسلمون يسلم بعضهم على بعض قال: ورأينا جيوش
الروم في عدد لا يحصى فلما أشرفنا عليهم أظهروا لنا زينتهم وعددهم
واصطفوا مواكب وكتائب ومدوا صفوفهم فكانوا ستين صفا في كل صف ألف فارس
قال الضحاك بن عروة والله لقد دخلنا العراق ورأينا جنود كسرى فما رأينا
أكثر من جنود الروم ولا أكثر من عددهم وسلاحهم قال فنزلنا بإزائهم قال
فلما كان من الغد بادرت الروم نحونا قال الضحاك فلما رأيناهم وقد ركبوا
أخذنا على أنفسنا وتأهبنا وأن خالد ركب وجعل يتخلل الصفوف ويقول:
اعلموا إنكم لستم ترون للروم جيشا مثل هذا اليوم فإن هزمهم الله على
أيديكم فما يقوم لهم بعدها قائمة أبدا فأصدقوا في الجهاد وعليكم بنصر
دينكم وإياكم أن تولوا الأدبار فيعقبكم ذلك دخول النار وأقرنوا المواكب
ومكنوا المضارب ولا تحملوا حتى آمركم بالحملة وأيقظوا هممكم.
(1/50)
قال الواقدي:
ولقد بلغني ممن أثق به أن وردان لما رأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم قد اجتمعوا وعولوا على حربهم جمع إليه الملوك والبطارقة وقال لهم:
يا بني الأصفر اعلموا أن الملك يعول عليكم وإذا إنكسرتم لا تقوم لكم
بعدها قائمة أبدا وتملك العرب بلادكم وتسبي حريمكم فعليكم بالصبر ولتكن
حملتكم واحدة ولا تتفرقوا واعلموا أن كل ثلاثة منا بواحد منهم
واستعينوا بالصليب ينصركم فهذا ما كان من هؤلاء وأما خالد رضي الله عنه
فإنه مشى على أصحابه وقال معاشر المسلمين من فيكم يحذر لنا القوم
وينذرهم فقال ضرار بن الأزور أنا أيها الأمير فقال خالد: أنت لها والله
ولكن يا ضرار إذا أشرفت على القوم فإياك أن تحمل نفسك ما لا تطيق وأن
تغرر بنفسك وتحمل على القوم فما أمرك الله بذلك فقد قال الله تعالى:
{وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} قال فأطلق ضرار
عنان جواده حتى اشرف على جيش الروم فرأى أثاثهم وخيامهم وشعاع البيض
والطوارق والرايات كأجنحة الطيور قال: وكان وردان ينظر نحو جيش
المسلمين إذ نظر إلى ضرار وهو مشرف على القوم فقال للبطارقة إني أرى
فارسا قد أقبل ولست اشك إنه طليعة للقوم فأيكم يأتيني به فانتدب من
القوم ثلاثين فارسا طلبوا ضرارا فلما نظر إليهم ضرار ولى من بين ايديهم
فتبعوه وظنوا إنه قد انهزم وإنما أراد بذلك أن يبعدهم عن أصحابهم فلما
بعدوا علم إنه تمكن منهم فلوى رأس جواده إليهم وصوب السنان عليهم فأول
ما طعن فارسا من القوم أرداه وثنى على الآخر فأعدمه الحياة وصال فيهم
صولة الاسد على الغنم ودخل رعبه في قلوبهم فولوا منهزمين فتبعهم وهو
يصرع منهم فارسا بعد فارس إلى أن صرع منهم تسعة عشر فارسا.
فلما رأوا ذلك وقرب هو من جيوش الروم لوى راجعا إلى خالد ومعه اسلابهم
وخيولهم وأعلمه بما كان فقال له خالد: ألم اقل لك لا تغرر بنفسك ولا
تحمل عليهم فقال أن القوم طلبوني فخفت أن يراني الله منهزما فجاهدت
باخلاص ولا جرم أن الله ينصرنا عليهم والله لولا خوفي من ملامك لاحملن
على الجميع واعلم أن القوم غنيمة لنا قال فرتب خالد عسكره ميمنة وميسرة
وقلبا وجناحين فجعل في القلب معاذ بن جبل وفي الميمنة عبد الرحمن بن
أبي بكر الصديق وفي الميسرة سعيد بن عامر وفي الجناح الايسر شرحبيل بن
حسنة وفي الساقة يزيد بن أبي سفيان في أربعة آلاف فارس حول الحريم
والبنات والأولاد ثم التفت إلى النسوة وهن عفراء بنت غفار الحميرية وأم
أبان ابنة عتبه وكانت عروسا قد تزوج بها في هذا اليوم ابان بن سعيد ابن
العاص والخضاب في يدها والعطر في رأسها وخولة بنت الأزور ومزروعة بنت
عملوق وسلمة بنت زارع وغيرهن من النسوة ممن عرفن الشجاعة والبراعة.
(1/51)
نصيحة خالد
فقال لهن خالد يا بنات العمالقة وبقية التبابعة قد فعلتن فعلا أرضيتن
به الله تعالى والمسلمين وقد بقي لكن الذكر الجميل وهذه أبواب الجنة قد
فتحت لكن وابواب النار قد أغلقت عنكن وفتحت لاعدائكن واعلمن إني أثق
بكن فإن حملت طائفة من الروم عليكن فقاتلن عن أنفسكن وأن رايتن أحدا من
المسلمين قد ولى هاربا فدونكن وإياه بالأعمدة وارمين بولده وقلن له اين
تولى عن أهلك ومالك وولدك وحريمك فانكن ترضين بذلك الله تعالى فقالت
عفراء بنت غفار: أيها الأمير والله لا يفرحنا إلا أن نموت أمامك
فلنضربن وجوه الروم ولنقاتلن إلى أن لا تبقى لنا عين تطرف والله
مانبالي إذا رمينا الروم كله قال فجزاهن خيرا ثم عاد إلى الصفوف فجعل
يطوف بينهم بفرسه ويحرض الناس على القتال وهو ينادي برفيع صوته يا
معاشر المسلمين انصروا الله ينصركم وقاتلوا في سبيل الله واحتسبوا
نفوسكم في سبيل الله ولا تحملوا حتى آمركم بالحملة ولتكن السهام إذا
خرجت من اكباد القسى كأنها من قوس واحدة فإذا تلاصقت السهام رشقا
كالجراد لم يخل أن يكون منها سهم صائب: {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا
وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:
200] واعلموا إنكم لم تلقوا بعد هذا عدوا مثله وأن هذه الفئة جملتهم
وأبطالهم وملوكهم فجردوا السيوف وأوتروا القسى وفوقوا السهام ثم أن
خالدا أقبل ووقف في القلب مع عمرو بن العاص وعبد الله بن عمر قيس بن
هبيرة ورافع بن عميرة وذى الكلاع الحميري وربيعة بن عامر ونظائرهم قال
فلما نظر ودان إلى جيش المسلمين قد زحف زحفوا وكانوا ملء تلك الأرض في
الطول والعرض من كثرتهم فترامى الجمعان وتلاقى الفريقان وقد اظهر أعداء
الله الصلبان والأعلام ورفع المسلمون اصواتهم بالتهليل والتكبير
والصلاة والسلام على البشير النذير.
فلما قرب القوم بعضهم من بعض خرج من علوج الروم شيخ كبير وعليه قلنسوة
سوداء فلما قرب من المسلمين نادى بلسان عربي أيكم المقدم فليخاطبني
وليخرج الي وعليه أمان قال فخرج إليه خالد بن الوليد فقال له القس: أنت
أمير القوم فقال خالد: كذلك يزعمون ما دمت على طاعة الله وسنة رسوله
وأن أنا غيرت أو بدلت فلا امارة لي عليهم ولا طاعة قال القس بهذا نصرتم
علينا ثم قال اعلم إنك توسطت بلادا ما جسر ملك من الملوك أن يتعرض لها
ولا يدخلها وأن الفرس دخلوها ورجعوا خائبين وأن التبابعة أتوها وأفنوا
أنفسهم عليها وما بلغوا ما أرادوا ولكنكم أنتم نصرتم علينا وأن النصر
لا يدوم لكم وصاحبي وردان قد اشفق عليكم وقد بعثني إليكم وقال إنه يعطي
كل واحد منكم دينار وثوبا وعمامة ولك أنت مائة دينار ومائة ثوب ومائة
عمامة وارحل عنا بجيشكم فإن جيشنا على عدد الذر ولا تظن أن هؤلاء مثل
من لقيت.
(1/52)
من جموعنا فإن
الملك ما انفذ في هذا الجيش إلا عظماء البطارقة والاساقفة قال خالد:
والله ما نرجع إلا باحدى ثلاث خصال أما أن تدخلوا في ديننا أو تؤدوا
الجزية أو القتال وأما ما ذكرت من إنكم عدد الذر فإن الله تعالى قد
وعدنا النصر على لسان محمد صلى الله عليه وسلم وأنزل ذلك في كتابه
العزيز وأما ما ذكرت من أن صاحبكم يعطي كل واحد منا دينارا وعمامة
وثوبا فعن قريب أن شاء الله نرى ثيابكم وبلادكم وعمائمكم كل ذلك في
ملكنا وبأيدينا فقال الراهب إني راجع إلى صاحبي أخبره بجوابك ثم لوى
راجعا وأخبر وردان بما كان من جواب خالد فقال وردان: أيظن أننا مثل من
لقيه من قبل وإنما هؤلاء لحقهم الطمع إذ تقاصرنا عن قتالهم والملك قد
أرسل إليهم أكابر البطارقة وما بيننا وبينهم إلا جولة الجائل ثم نتركهم
صرعى ثم رتب أصحابه وزحف وقدم أمامه الرجالة صفا أمام القوم والخيالة
وبأيديهم المزازيق والقسي قال فصاح معاذ بن جبل معاشر الناس أن الجنة
قد زخرفت لكم والنار قد فتحت لاعدائكم والملائكة عليكم قد اقبلت والحور
العين قد تزينت للقائكم فابشروا بالجنة السرمدية ثم قرأ: {إِنَّ
اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أنفسهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ
بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111] بارك الله فيكم الحملة فقال
خالد: مهلا يا معاذ حتى اوصي الناس ومشي في الصفوف ورتبها وقال اعلموا
أن هؤلاء أضعافكم فطاولوهم إلى وقت العصر فإنها ساعة نرزق فيها النصر
وإياكم أن تولوا الأدبار فيراكم الله منهزمين ازحفوا على بركة الله
تعالى.
فلما تقارب الجمعان رمت الأروام سهامهم رمية واحدة قال فقتلوا رجالا
وجرحوا أناسا وخالد قد منع الناس من الحملة فقال لضرار بن الأزور وما
لنا والوقوف والحق سبحانه وتعالى قد تجلى علينا والله ما يظن أعداء
الله إلا أننا قد فشلنا عنهم وجزعنا فأمرنا بالحملة حتى نحمل معك قال
فأنت لها يا ضرار فخرج ضرار بن الأزور وقال: والله ما من شيء اشهى إلى
قلبي من ذلك ثم حمل ضرار وقد تدرع بدرع كان لبطرس أخي بولص وألقى الزرد
على وجهه وركب جواده وكان عليه يؤمئذ جبتان من جلود الفيلة كان قد
أخذهما أيضا من بطرس وقد أخفى نفسه عن الروم بلباسه ذلك وقد اطلق عنانه
وقوم سنانه وحمل في صفوف الروم فرشقوه بالسهام فلم يصل إليه منهم أذى
وهو يخترق صفوفهم فما كان قدر ساعة حتى قتل من الروم عشرين فارسا
ومثلها رجالة قال عنان بن عوف النجبي كنت ممن يعد قتلى ضرار بن الأزور
وكنت كلما قتل فارسا من الروم أعده فكان جملة قتل ضرار في حملته هذه
فرسانا ورجالا ثلاثين فارسا.
قال عمر بن سالم هكذا حدثني نوفل بن زياد ثم إنه رمى البيضة عن رأسه
والزرد عن وجهه ونادى بأعلى صوته أنا الموت الأصفر أنا ضرار بن الأزور
أنا.
(1/53)
صاحبكم أنا
قاتل همدان بن وردان أنا البلاء المسلط عليكم وعلى من أشرك بالرحمن قال
فلما سمعت الروم كلامه عرفوه وتقهقروا إلى ورائهم قال فطمع فيهم وحمل
على أثرهم فعند ذلك انطبقت عليه الروم فقال وردان: من هذا البدوي
فقالوا: أيها الملك هذا الذي بقى طول عمره عاري الجسد ومرة برمح ومرة
بنبل فلما سمع ذلك وبذكر ضرار بن الأزور تنفس الصعداء وقال هذا قاتل
ولدي ولقد اشتهيت من يأخذ منه بثأري وله مني ما يريد قال فبرز إليه
بطريق وكان صاحب طبرية وقال لوردان أنا أخذ لك بالثأر ثم لوى عنانه
وحمل على ضرار فجالا أكثر من ساعة ثم طعنه ضرار طعنة صادقة خرق بها كبد
عدو الله فتجندل صريعا فقال وردان لهم: ما أتى به ولو اتى به عينا ما
صدقته فإن هذا لا تطيق الانس أن تقاتله وأنا أرى لهذا غيري ثم ترجل
وغير لامته وألقى عليه درعا وجعل على رأسه التاج وركب جوادا من الخيول
العربية وهم أن يخرج إلى ضرار بن الأزور فتقدم إليه بطريق اسمه اصطفان
وهو صاحب عمان قال وباس ركاب وردان قال: أيها السيد أن أخذ بثأرك من
هذا الذميم أو أسرته لك أتزوجني ابنتك فقال له وردان: هي لك وأشهد عليه
من حضر من ملوك الشام فلما سمع اصطفان بذلك خرج كأنه شعلة نار وحمل على
ضرار وقال له: ويلك قد نزل بك ما لا قدرة لك به قال فلم يدر ضرار ما
يقول: غير إنه أخذ ححذره منه وقد أخرج اصطفان صليبا من الذهب وجعله في
عنقه في سلسلة من الفضة وجعل يقبله ويرفعه على رأسه فعلم ضرار إنه
يستنصر به عليه فقال ضرار رضي الله عنه أن كنت تستنصر علي به فأنا
أستنصر بالقريب المجيب الذي هو ممن دعاه قريب ثم حمل عليه وأرى الناس
أبوابا من الحرب حتى ضج الناس من قتالهما فصاح خالد يا بان الأزور ما
هذا التكاسل والتغافل والجنة قد فتحت لك والنار قد فتحت لاعدائك وإياك
الكسل فإن الله عز وجل يعينك قال: فأيقظ ضرار نفسه وانقض من سرجه وحمل
على خصمه وتصايحت الروم بصاحبها تشجعه وكلاهما في ضرب عظيم وقد حميت
الشمس وتعب الجوادان فأشار البطريق إلى ضرار أن ترجل حتى نتقابل فهم
ضرار أن يترجل شفقة على الجواد وإذا بصفوف الروم قد خرجت ورجل يقود
جنيبا امامهم وكان ذلك غلام البطريق فلما نظر إليه ضرار صاح في جواده
وقال له: اجلد معي ساعة وإلا شكوتك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال فحمحم الجواد وشمر اجنحته جريا واستقبل ضرار غلام البطريق بطعنة
فقتله واخذ الجنيب فركبه واطلق جواده نحو عساكر المسلمين فتناولوه وعاد
ضرار نحو البطريق فلما رآه اقبل إليه بعد ما قتل غلامه وركب جواده ايقن
عدو الله بالهلاك وعلم إنه أن ولى قتله بلا محالة وأن وقف اهلكه فلما
نظر ضرار إلى عدو الله علم ما عنده فهجم عليه إذ نظر إلى الروم وقد خرج
منهم دوس وذلك أن وردان لما نظر إلى.
(1/54)
صاحبه وقد اشرف
على الموت علم إنه أن لم يدركه هلك فقال لقومه يا قوم أن هذا الشيطان
قد أكل من كبدي قطعة وإذا لم أقتله قتلت نفسي ولا بد لي من الخروج إليه
قال فخرج في عشرة من البطارقة وهم مدرعون وفي ارجلهم أخفاف من الحديد
وسواعد من الحديد وبأيديهم اعمدة من الحديد ووردان قد لبس لامته وعلى
رأسه تاج عظيم فخرجوا ووردان أمامهم كأنه شعلة نار ونظر أصطفان إلى من
خرج فصرخ بضرار فلم يلتفت إلى من خرج إليه إلا إنه تأهب فبينما هم كذلك
إذ نظر خالد إلى القوم وخروجهم ونظر إلى التاج وهو يلمع على رأس صاحبهم
فقال أن التاج لا يكون إلا على رأس الملك ولا شك إنه صاحب القوم قد خرج
إلى صاحبنا فما الذي يقعدنا عن نصرته ثم قال لأصحابه: لا يخرج إلا عشرة
حتى نساوي القوم فخرج خالد في عشرة أصحابه وأطلقوا الأعنة وقوموا
الاسنة قال: ووصل الروم إلى ضرار فاستقبلهم بقلب اقوى من الحجر الجلمود
قال فناداه خالد ابشر يا ضرار فقد اسعدك الجبار ولا تجزع من الكفار
فقال ضرار رضي الله عنه ما اقرب النصر من الله وجاء خالد ومن معه
والتقت الرجال بالرجال وانفرد كل واحد بصاحبه وطلب خالد وردان ولم يبرح
ضرار عن خصمه اصطفان وقد كل ساعة وارتعدت فرائصه عندما نظر إلى خالد
ومن معه فنظر يمينا وشمالا ليطلب الهرب فعلم ضرار منه ذلك فهجم عليه
بسنانه فلما أيقن بالموت القى نفسه إلى الأرض وولى هاربا فبادر إليه
ضرار والقى نفسه عن جواده وطلب عدو الله حتى لحقه وتقابضا على وجه
الأرض وكان عدو الله كالصخر الجلمود وكان ضرار نحيف الجسم غير أن الله
تعالى اعطاه قوة الإيمان فلما طال بهم العراك ضرب بيده إلى مراق بطنه
وقلعه من الأرض بحيله وجلد به الأرض فصاح عدو الله وجعل يستنجد بوردان
وقال بالرومية أيها السيد انجدني مما أنا فيه فقد هلكت فصاح وردان يا
ويلك ومن ينقذني أنا من هؤلاء السباع الكاسرة فسمع خالد ذلك فطمع فيه
وحمل على وردان وهم ضرار بخصمه ونظر إليهما الفريقان وأقبل صاحب رسول
الله صلى الله عليه وسلم ضرار فلم يمهل خصمه دون حتى برك على صدره
وذبحه مثل البعير وكل واحد مشتغل عن نصرة صاحبه قال فأخذ ضرار رأس عدو
الله وهو ملطخ بالدماء وركب جواده وحملت الروم على المسلمين ونادى سعيد
بن زيد يا معشر الناس اذكروا الوقوف بين يدي الله الملك الجبار فإياكم
أن تولوا الأدبار فتستوجبوا دخول النار يا أهل الإيمان يا حملة القرآن
اصبروا قال فزاد الناس بقوله نشاطا وتزاحم الفريقان قال: وجاء وقت
العصر فافترقوا وقد قتل من الروم ثلاثة آلاف وعشرة من ملوكهم ومنهم
رومان صاحب الأميرة ودمر صاحب نوى وكوكب صاحب ارض البلقاء ولاوى بن حنا
صاحب غزة قال ثم افترق القوم ورجع وردان إلى مكانه وقد امتلأ قلبه رعبا
مما ظهر له من المسلمين من شدة صبرهم وقتالهم فجمع البطارقة وقال لهم:
يا أهل دين النصرانية ما.
(1/55)
تقولون في
هؤلاء العرب فاني اراهم غالبين علينا وقد رأيت اسيافهم قاطعة وخيلهم
صابرة وسواعدكم بليدة وأن القوم أطوع منكم لربكم وما خذلتم إلا بالظلم
والجور والغدر وما مرادي منكم إلا أن تتوبوا إلى ربكم فإن فعلتم ذلك
رجوت لكم النصر من عدوكم وأن لم تفعلوا ذلك فائذنوا بحرب من المسيح
وبهلاك أنفسكم فإن الله عاقبكم اشد عقوبة إذ سلط عليكم اقواما لا نفكر
بهم ولا نعدهم لأن أكثرهم جياع وعبيد وعراة ومساكين أخرجهم إلينا قحط
الحجاز وجوعه وشدة الضرر والبلاء والان قد أكلوا من خبز بلادنا وفواكه
أرضنا وأكلوا العسل والتين والعنب وأعظم ذلك سبي نسائكم وأموالكم.
قال الواقدي: فلما سمع القوم ذلك بكوا وقالوا: نقتل عن آخرنا ولا يصل
إلينا هؤلاء القوم وأنا نرى أن نقاتلهم بالرماح قال فلما سمع وردان ذلك
منهم صاح بالبطارقة وقال لهم: ما عندكم من الرأي فقال رجل منهم يا
وردان اعلم إنك قد بليت بقوم لا تقوم لقتالهم وقد رأيت الواحد منهم
يحمل على عسكرنا ولا يبالي منأحد ولا يرجع حتى يقتل منهم وقد قال لهم
نبيهم: أن من قتل منكم صار إلى الجنة ومن قتل من الروم صار إلى النار
والموت والحياة عندهم سواء وما أرى لكم من القوم مطمعا إلا أن نتحيل
على صاحبهم فنقتله فإن قتلتموه ينهزم القوم وإنك لا تصل إليه إلا بحيلة
توقعه فيها فقال وردان واي حيلة ندخل بها على القوم والحيل والخداع
والمكر منهم.
فقال له البطريق: أنا أقول لك شيئا أن صنعته وصلت به إلى أمير العرب من
حيث لا يصل إليك شيء ولا اذى وذلك إنك تنتخب عشرة من الفرسان من ذوي
الشدة والبأس ويكمنون في مكمن من جهة العسكر قبل خروجك إليه وبعد ذلك
تخرج إليه وتشاغله بالحديث ثم اهجم عليه وأخرج قومك يبادرون من المكمن
ويقطعونه اربا اربا وتستريح منه وبعد ذلك تتفرق أصحابه ولا يجتمع منهم
أحد قال فلما سمع وردان ذلك من البطريق فرح فرحا عظيما وقال: ما هذا
إلا رأي سديد فنعم ما اشرت به وقد أصبت فيما ذكرت غير أن هذا الأمر
يعمل في جنح الليل ولا يأتي الصباح إلا وقد فرغنا مما نريد ثم أن وردان
دعا برجل من العرب المتنصرة اسمه داود وكان في سكنه وقال له: يا داود
أنا أعلم إنك فصيح اللسان وإني أريد أن تخرج إلى هؤلاء العرب وتسألهم
أن يقطعوا الحرب بيننا وبينهم وقل لهم لا يخرجون لنا بكرة النهار حتى
أخرج بنفسي إليهم منفردا عن قومي ولعلنا نصطلح مع العرب فقال داود ويحك
وتخالف أمر الملك هرقل فيما أمرك به من الحرب وتصطلح أنت والعرب فإن
الملك ينسبك إلى الجزع والفزع وما كنت بالذي أخاطب العرب في ذلك أبدا
فيبلغ الملك إني كنت السبب في ذلك فيقتلني فقال له وردان: يا ويلك إنما
دبرت حيلة على أمير العرب حتى أصل إليه بها فأقتله.
(1/56)
وتتفرق هؤلاء
العرب عنا ثم إنه حدثه بما عزم عليه من المكر بخالد بن الوليد فقال
لوردان أن الباغي مخذول في كل فعل فالق الجمع بالجمع واترك ما عزمت
عليه فقال وردان: وقد غضب ويلك أنت تعاندني فيما أمرتك به دع عنك
المحاججة فقال حبا وكرامة ثم إنه مضى وقال في نفسه أن وردان قد عزم أن
يلحق بولده ثم اقبل حتى إنه وقف قريبا من المسلمين ونادى برفيع صوته
وقال: يا معاشر العرب حسبكم من القتل وسفك الدماء فإن الله تعالى
يسألكم عن سفكها وأريد أن يخرج الي أمير العرب حتى أخاطبه بما ارسلت به
قال فما استتم كلامه حتى خرج إليه خالد رضي الله عنه وهو كأنه شعلة
نار.
فلما نظر إليه داود النصراني قال له: يا عربي على رسلك فما خرجت أحارب
ولا أنا من رجال الحرب وما أنا إلا رسول فلما سمع خالد مقالته قرب منه
وقال اذكر مسألتك واستعمل الصدق تنج فمن صدق نجا ومن كذب هلك فقال صدقت
يا عربي أن أميرنا وردان كاره سفك الدماء وقد رأى شدتكم ولا يريد حربكم
وقد نظر إلى من قتل من جماعته فكره أن يحاربكم وقد رأى أن يدفع لكم
مالا ويحقن به دماء الناس لكن بشرط أن يكون بينك وبينه كتاب وتشهد عليك
كبراء قومك إنك لا تتعرض له ولا لاحد من أصحابه ولا لحصن من حصونه فإن
فعلت ذلك وثق بقولك وهو يسألك أن تقطع الحرب بقية يومك فإذا اصبحت
فاخرج بنفسك ولا يكن معك أحد ويخرج هو أيضا منفردا فننظر ما تتفقان
عليه عسى أن تحقنا دماء الناس بيننا وبينكم قال فلما سمع خالد ما نطق
به داود قال له: إن كان ما أخبر به صاحبكم يريد به حيلة أو مكيدة فنحن
والله جرثومة الخداع وما مثلنا يأتي بحيلة ولا بخديعة فإن كان ذلك
ضميره واعتقاده فما هو إلا قرب أجله وانقطاع عمره وهلاك جموعكم
والانفصال بيننا وبينكم وأن كان ذلك حقا من قوله فلست اصالحه إلا إذا
أدى الجزية عن جماعته وأما المال فلست براغب فيه إلا على ما ذكرته لكم
وعن قريب نأخذ أموالكم ونملك بلادكم فقال داود وقد عظم عليه كلام خالد
ما يكون الأمر إلا كما ذكرت فإذا توافقتم كان الانفصال بيننا وها أنا
راجع فأذكر له ما ذكرت ثم لوى راجعا وقد امتلأ قلبه رعبا من خالد وفزع
منه فزعا شديدا ثم قال في نفسه صدق والله أمير العرب وأنا اعلم والله
أن وردان أول مقتول ونحن من بعده وما لي إلا أن أصدق أمير العرب وأخذ
لي ولاهلي منه أمانا ثم رجع إلى خالد وقال له: يا أمير إني قد أضمرت
على سر وأريد أن أبديه لك لاني أعلم أن البلاد لكم أن وردان قد نوى على
شيء فقال خالد: وما هو فقال خذ لنفسك الحذر وكن مستيقظا فإنه قد اضمر
لك كيدا ثم أخبره بالقصة من أولها إلى اخرها ثم قال لخالد أريد منك
الأمان لي ولاهلي فقال خالد: الأمان لك ولاهلك ولاولادك أن أنت لم تخبر
القوم ولم تغدر قال داود لو أردت أن أغدر لما حدثتك فقال خالد:
(1/57)
وأين كمين
القوم قال عند كثيب عن يمين عسكرهم ثم إنه خلاه ورجع وأعلم وردان ففرح
وقال: الآن ارجو أن يظفرني الصليب بهم ثم إنه دعا بعشرة من الأبطال
وقال لهم: امضوا رجالة وأكمنوا وأمرهم أن يفعلوا ما دبروه وأما خالد
فإنه رجع فلقيه امين الأمة أبو عبيدة فرآه ضاحكا فقال: يا أبا سليمان
اضحك الله سنك ما الخبر فحدثه بما جرى فقال أبو عبيدة: على ماذا عزمت
قال عزمت أن أخرج إلى القوم وحدي فقال: يا أبا سليمان لعمرك إنك لكفء
ولكن ما أمرك الله أن تلقي بنفسك إلى التهلكة والله تعالى يقول:
{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ
الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:
60] وقد أعد لك عشرة وهو حادي عشر وما آمن عليك من اللعين ولكن اندب له
رجالة كما ندب لك رجالة ويكمنون قريبا من القوم فإذا صرخ اللعين بقومه
فاصرخ أنت بقومك ونكون نحن متأهبين على خيولنا فإذا فرغت من عدو الله
حملنا جميعا ونرجوا من الله النصر ثم قال: والمسلمون هم رافع بن عميره
الطائي ومعاذ بن جبل وضرار بن الأزور وسعيد بن زيد وقيس بن هبيرة
وميسرة بن مسروق العبسي وعدي بن حاتم حتى استتم العشرة واخبرهم خالد
بما قد عزم عليه الروم من الحيلة والمكيدة التي قد دبرها وردان وقال
أخرجوا رجالة بحيث لا يدري بكمأحد حتى إنكم تأتون الكثيب الذي عن يمين
العسكر فاكمنوا هناك فإذا صرخت بكم فبادروا وانفروا للقوم كل واحد
لواحد واتركوني لعدو الله فانني أن شاء الله تعالى كفء له فقال ضرار
أيها الأمير أخاف أن يكثر عليك الجمع الكثير فلا نأمن أن يصلوا بشرهم
إليك وقد كنت ادبر لك حيلة اننا نسير من وقتنا هذا إلى مكمن القوم فإذا
وجدناهم رقودا قتلناهم وفرغنا منهم قبل الصباح ونكمن نحن في مواضعهم
فإذا خلوت أنت بعدو الله خرجنا عليكم بغير مقالة.
فقال خالد: افعل يا أبا الأزور ما ذكرت أن وجدت إلى ذلك سبيلا وخذ معك
هؤلاء الذين ندبتهم وانت الأمير عليهم وارجو أن الله يبلغك ما تطلبه
وخرج هو وأصحابه في جنح الليل رجالة وبأيديهم اسلحتهم وودعوا الناس
وكان وقت خروجهم قد مضى ثلث الليل ثم سار ضرار حتى وصل الكثيب فأوقف
أصحابه وقال على رسلكم حتى استخبر لكم خبر القوم فلما اشرف عليهم من
بعيد سمع غطيطهم وهم نيام سكرى غرقوا في النوم لما نالهم من التعب
والنصب وقد أمنوا من أحد ينظرهم فقال ضرار في نفسه: أن أنا دنوت من
القوم لاقتلهم خشيت أن يوقظ بعضهم بعضا قال فرجع إلى أصحابه وقال لهم:
ابشروا فقد أتاكم الله بما تريدون وأذهب عنكم ما تحذرون فجردوا سيوفكم
وسيروا إلى القوم فاقتلوهم كيف شئتم ثم تقدم ضرار امامهم وهم في أثره
إلى أن وصل بهم إليهم فوجدوهم نياما كل واحد منهم سلاحه عند رأسه
فانفرد كل واحد منهم بواحد فلم يلبثوا إلا وقد فرغوا منهم عن اخرهم
وأخذ كل واحد سلاح غريمه وأخذوا.
(1/58)
كل ما معهم من
الزاد وغيره فقال لهم: ضرارا أبشروا فإن هذا أول النصر أن شاء الله
تعالى وأقبلوا بقيلة ليلتهم يصلون ويدعون الله أن ينصرهم على عدوهم ولم
يزل كل واحد منهم في مصلاه إلى أن اضاء الفجر فصلوا صلاة الفجر فلما
فرغوا من الصلاة لبس كل واحد ثياب غريمه ولباسه وغيبوا القتلى مخافة أن
يرسل إليهم وردان خبرا.
(1/59)
|