فتوح الشام

ذكر فتوح مصر
بسم الله الرحمن الرحيم وهو حسبي قال زياد بن عامر قال شام بن عبد الله العنبري حدثنا سالم مولي عروة بن نعيم اليشكري قال لما فتح عمرو بن العاص قيسارية صلحا كان لعمر في الخلافة أربعة أعوام وستة اشهر وبلغ الخبر إلى أهل الرملة وعكاء وبلقاء وعسقلان وصيدا وغزة ونابلس وطبرية فأتي كبراؤهم إلى أبي عبيدة وأصلحوا أمرهم معه على مال لا يحصى وكذلك أهل بيروت وجبلة واللاذقية وأنفذ ابو عبيدة لعمرو بن العاص أن يسير إلى مصر بأمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه وملك المسلمون اقاصي البلاد ببركة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وعظم وكرم قال: وسكنها العرب وتفرقوا في البلاد والمدن ودانت لهم العباد وكل يوم يزدادون فلم يبق في الشام وأعمالها مركز من مراكز الروم إلا أخذ المسلمون وتوالدوا وتناسلوا وكثروا ببركة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
يقال محمد بن اسحق الاموي رحمه الله تعالى قال: حدثنا يونس بن عبد الاعلى قراءة عليه بالخضراء بمدينة عسقلان قال أخبرنا الليث بن سعد قال: حدثنا نوفل بن عامر قال أخبرني يحيى بن ساكن المدني قراءة عليه يوم الجمعة ونحن عند منبر يونس بن متى قال لما فتح الله ساحل الشام على المسلمين في سنة تسع عشرة من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم كتبوا بذلك إلى أمير جيوش المسلمين أبي عبيدة عامر بن الجراح بسم الله الرحمن الرحيم من عمرو ابن العاص إلى أمين الامة أما بعد فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو وأصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وإن الله جل وعلا قد فتح ما كان قد بقي من الساحل وأخذنا قيسارية صلحا وهرب منها فلسطين بن هرقل بأمواله وعياله ونحن بها ننتظر أمرك والسلام وكتب أيضا يزيد بن أبي سفيان بما تم ليوقنا في صور وإن الله قد عضد الدين ووصل الكتابان إلى أبي عبيدة وقد رحل من حلب يريد طبرية فوصل إليه الخبر وهو نازل على الزراعة فلما قرأ الكتابين تهلل وجهه فرحا وضج المسلمون بالتهليل والتكبير وكتب من وقته وساعته إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يبشره بما فتح الله على المسلمين وبما فعله يوقنا ووجه الكتاب مع عرفجة بن مازن فركب ناقته وسار حتى وصل المدينة قال عرفجة بن مازن وعلي من ديباج الروم قباء

(2/32)


فاخر وعلى رأسي مطرف خز مذهب قال فلما أتيت المدينة ودخلتها يوم الجمعة أول ليلة من شهر رمضان قبل مغيب الشمس وعمر رضي الله عنه قد أتى يريد المسجد فلما أبركت ناقتي وعقلتها وجئته لأسلم عليه نظر الي شزرا وقال من الرجل قلت عرفجة بن مازن فقال: يا ابن مازن أما كان لك برسول الله اسوة حسنة وإن هذه ثياب الجبارين ومن جعل الله لهم الدنيا جنة وهذا الديباج حرام على الرجال منا ولا يصلح إلا للنساء وهذا الذي عليك تصدق به على فقراء المدينة أما والله لقد دخلت يوما على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نائم على سرير مرمل بشريط وليس بين جلده وبين الشريط شيء وقد أثر الشريط في نعومة جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رايت ذلك بكيت.
فقال لي: "يا عمر ما الذي ابكاك" فقلت يا رسول الله أن كسرى وقيصر يعيشان في ملك الدنيا وأنت رسول الله بهذه المثابة.
فقال: يا عمر أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة قال عرفجة فسلمت إليه الكتاب فلما قرأه تهللت أسارير وجهه قال عرفجة ثم نزلت على خالتي عفراء بنت أبي أيوب الانصاري وبت عندها ليلتي فلما أصبحت لم اقدر أن أقابل عمر بذلك الزي فأعطيت الثوب والعمامة لخالتي فباعتهما وتصدقت بثمنهما على فقاء المدينة قال: وسرت إلى عمر وعلى ثوب من كرابيس الشام كان تحت ثيابي فلما رآني تبسم في وجهي وقال: يا ابن مازن ما فعلت بديباجتك قلت يا أمير المؤمنين باعتها خالتي وتصدقت بثمنها على المسلمين فقرأ عمر: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} [البقرة: 197] ثم إنه كتب إلى أبي عبيدة يقول بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر ابن الخطاب إلى أبي عبيدة عامر بن الجراح أما بعد فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو وأصلي علي نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وقد فرحت بما فتح الله على المسلمين وما وعدنا به رسول الله من كنوز قيصر وسيفتح علينا من كنوز كسرى والحمد لله على ذلك كثيرا وقد بلغني أن بادية الاعراب قد استلذوا الدنيا وزينتها وقد نصبت لهم شباك محبتها وقد تمسكوا بذيل غرورها ونسوا نعيم الجنة وقصورها ورفلوا في ثياب الديباج والخز وأكلوا الحلواء وخبز الحنطة لهاهم ذلك عن الآخرة وقد بلغني يا ابن الجراح أنهم قد تهاونوا بالصلاة ونسوا المفترضات فجرد عليهم عتاق الخيل ذوات الهمم وأغلظ عليهم ولا تكن لهم حاملا فيطمعوا فيك ومن أخل منهم بشيء مما فرض عليهم فأقم فيهم حدود الله وأعلم بأنك راع مسئول عن رعيته قال الله عز وجل: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج: 41] وقد قال فيك رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبو عبيدة أمين هذه الأمة" فأعط الامانة حقها ومن ترك صلاته فأضربه عليها ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثنا ونحدثه فإذا حضرت الصلاة فكأنه لم

(2/33)


يعرفنا ولم نعرفه اشتغالا بالصلاة وبعظمة الله وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال أن الله عز وجل يقول أن بيوتي في الأرض المساجد وإن زواري فيها عمارها بالعبادة فطوبى لعبد تطهر في بيته ثم زارني فحق على المزور أن يكرم زائره وقال صلى الله عليه وسلم: "جميع المفترضات افترضها الله علي في الأرض إلا الصلاة فإن الله افترضها علي في السماء" وإذ قرأت كتابي هذا فأمر عمرو بن العاص أن يتوجه إلى مصر بعسكره ويقدمهم عامر بن ربيعة العامري ومشايخ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يفضي بهم عند مشورته وأنفذ من قدرت عليه إلى أرض ربيعة وديار الجد بن صالح والله أسأل أن يكون لكم عونا ومعينا والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وسلم الكتاب إلى عرفجة بن مازن وأمر له بنفقة من بيت المال.
قال عرفجة فأخذت الكتاب وسرت به على طريق تيماء فلقيت عند بيت لحم ركبا من أهل وادي القرى فسألتهم عن أبي عبيدة فأخبروني أنه على غباغب وهو طالب طبرية قال عرفجة أطلب الغور والجولان وأقصد طبرية قال فالتقيت بأبي عبيدة على الأردن فسلمت عليه وناولته كتاب عمر رضي الله عنه فما قرأه جمع المسلمين وقرأه عليهم فلما فرغ قال: ما من رجل ترك الصلاة أو أخل بشيء مما افترضه الله عليه إلا جلدته ومن الغد أتى خالد بن الوليد من طرابلس فقرأ عليه الكتاب وأنفذه إلى عمرو بن العاص أرسل يحثه على المسير إلى أرض مصر فلما وصل الكتاب إلى عمرو أخذ على نفسه بالمسير وسار معه يزيد بن أبي سفيان وعامر بن ربيعة العامري وجماعة من الصحابة وسار معه يوقنا في أربعة آلاف من أصحابه وقد وهبوا أنفسهم لله ورسوله فسار عمرو على البيداء من وراء العريش قال: وكانت أرض مصر وريفها عامرة بالديور والصوامع وكان دير الزجاج في مملكة القبط وكان ملكهم يومئذ المقوقس ابن راعيل وكان هذا الملك من أهل الرأي والتدبير والفضل والحكمة وكان تلميذ الحكيم أعاشادمون وهو الذي لما غلبت الحيات على أرض مصر واخربتها صنع لها جلجلا وكان أن حركه سمع صوته من مقدار ميل قال فتخرج الحيات من حجرتها فمن هربت نجت ومن وقعت هلكت وكان المقوقس من أعلم أهل زمانه وكانت القبط معه في عيشة مرضية وكان يتوقع ظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان حكيم ذلك الزمان بمصر يقال له عطماوس: وهو الذي صنع دواليب الريح ورحى الهواء وكان عمر في الأجيال واطلع على مكنون الحكم والأسرار وعرف عمل صنعة الاكسير وعمل الذهب والفضة والجوهر والحركات المتحركة من نفسها بهبوب الريح وأجناس الأهوية في أجسامها وكان يجد في عمله أن الله يبعث نبيا من أرض تهامة ينشر دينه وتعلو كلمته وتملك أصحابه البلاد فعمل في أيام راعيل أبي

(2/34)


المقوقس هيكلا عظيما على أعمدة من نحاس بمكان يعرف بعين شمس وجعل عليه أشخاصا مجوفة وجعل وجهها إلى جهة مصر وكتب عليها بالقبطية إذا دارت هذه الأشخاص إلى جهة الحجاز فقد قرب ملك العرب قال فبينما المقوقس راكب في بعض الأيام للصيد وقت هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد انتهى سيره إلى عين شمس إذ هو سمع أصواتا من الأشخاص قد علت ثم إنها حولت وجهها نحو الحجاز فأيقن بتلف ملكه وزواله فعاد من ركوبه وهو قلق ودخل قصر الشمع وجلس على سريره وجمع القسوس والرهبان وكبراء القبط وقال لهم: يا أهل دين النصرانية اعلموا أن زمانكم قد مضى وهذا النبي المبعوث لا شك فيه وهو آخر الأنبياء ولا نبي بعده وقد بعث بالرعب ولا بد لرجل من أصحابه أن يملك ما تحت سريري هذا فانظروا إلى ملككم وأصلحوا ذات بينكم وارفقوا برعيتكم ولا تجوروا في حكمكم وأمنوا ضعفاءكم وإياكم واتباع الظلم فإن الظلم وبيل ومرتعه وخيم وأعطوا الحق من أنفسكم ولا يستطل قويكم على ضعيفكم وما دامت الدنيا لأحد من قبلكم حتى تدوم لكم وكما ملكتموها ممن كان قبلكم كذلك يأخذها منكم من كان بعدكم فاصلحوا نياتكم فيما بينكم وبين خالقكم فإن فعلتم ذلك رجوت لكم النصر على أعدائكم ومن يريدكم وإن اتبعتم أهواءكم تبين هلاككم.
قال: حدثنا ابن اسحق عن عبد الملك عن أبيه عن حسان بن كعب عن عبد الواحد بن عوف عن موسى بن عمران عن حميد الطويل عن أبي اسحق الراوي المغازي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة وبايعه الأوس والخزرج كتب إلى ملوك الأرض وفي الجملة كتابا إلى المقوقس ملك مصر وكان الذي كتب الكتاب إليه أبو بكر الصديق رضي الله عنه ونسخةى الكتاب بسم الله الرحمن الرحيم من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صاحب مصر أما بعد فإن الله أرسلني رسولا وأنزل علي كتابا قرآنا مبينا وأمرني بالانذار والاعذار ومقاتلة الكفار حتى يدينوا بديني ويدخل الناس فيه وقد دعوتك إلى الاقرار بوحدانية الله تعالى فإن أنت فعلت سعدت وإن أنت أبيت شقيت والسلام ثم طوى الكتاب وختمه بخاتمه قال أنس بن مالك فاستخرجه رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصبعه وكان فصه عليه ثلاثة أسطر السطر الأول محمد السطر الثاني رسول السطر الثالث الله ولا نقش أحد على خاتمه كنقشه قال سمرة بن عوف قلت لحميد الطويل أكان لخاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم فص أم لا قال: لا أدري قال: وسأل رجل جابر بن عبد الله الأنصاري فقال له: في أي يد كان يتختم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال في يده اليمنى ويقول: "اليمنى أحق بالزينة من الشمال" وفص الخاتم في يمينه وقال عبد الله بن عباس رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتختم في يمينه ثم حوله إلى يساره.

(2/35)


حدثنا أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتختم في يساره وحدثنا جعفر بن محمد عن أبيه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي والحسن والحسين رضي الله عنهم جميعا يتختمون في اليسار.
قال الراوي: فلما طبع الكتاب بخاتمه قال: "أيها الناس أيكم ينطلق بكتابي هذا إلى صاحب مصر وأجره على الله" قال فوثب إليه حاطب بن أبي بلتعة القرشي وقال أنا يا رسول الله فقال له: "بارك الله فيك يا حاطب" قال فأخذت الكتاب من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم وودعته واصحابه وسرت إلى منزلي وشددت راحلتي وودعت أهلي واستقمت على الطريق إلى نحو مصر فلما بعدت عن المدينة بثلاثة ايام أشرفت على ماء لبني بدر فأردت أن أورد ناقتي الماء وإذا على الماء رجلان ومعهما ناقتان ومعهما رجل آخر راكب على جواد أدهم فلما رأيتهم وقفت وإذا بالفارس أتى الي وقال لي: من أين أقبلت وأين تريد فقلت يا هذا لا تسأل عما لا يعنيك فتقع فيما يحزنك ويخزيك أنا رجل عابر سبيل وسالك طريق فقال: ما إياك أردنا ولا نحوك قصدنا نحن قوم لنا دم وثأر عند محمد بن عبد الله وقد جئت أنا وهذان الرجلان وتحالفنا على أن ندهمه على غفلة فلعلنا نجد منه غرة فنقتله قال حاطب والله لقد أمكنني الله منهم فلأجعلن جهادي فيهم ولو بالخديعة فقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الحرب خدعة" .
فبينما أنا أخاطب الفارس وإذا بالراكبين قد وصلا الي وقالا لي بغلظة وفظاظة ويحك لعلك من أصحاب محمد فقلت لهما لقد كاد أن يتبدل لكما الطريق عن سبيل التحقيق وإني رجل مثلكما أطلب ما تطلبون وأنا قاصد يثرب وقد عولت علي صحبتكم لأكون معكم ولكن سمعت في طريقي هذا ممن أثق به أن محمدا أنفذ رسولا من أصحابه إلى مصر بكتاب فلعله في هذا الوادي فإن وقعنا به قتلناه فقال صاحب الفرس أنا أسير معك ثم إنه تقدم أمامي وتركنا صاحبيه واقفين ينتظران قال حاطب فلما بعدت به عن أصحابه وغبنا عنهما قلت ما اسمك قال اسمي سلاب بن عاصم الهمداني قلت يا سلاب اعلم أنه لا يقدر أن يدخل على يثرب إلا من كان له جنان وقلب وغدر ومكر لأن بها سادات الأرض وأبطالها مثل عمر وعلي ولكن كيف سيفك قال سيفي ماض قلت أرني إياه فاستله من غمده وسلمه الي فأخذت السيف من يده وهززته وقلت سيف ماض ثم قلت:
سيوف حداد يالؤي بن غالب
...
مواض ولكن أين للسيف ضارب
فقال: ما معنا هذا الكلام قلت يا ابن عاصم أن سيفك هذا من ضرب قوم عاد من ولد شداد وما ملكت العرب سيفا مثله ولا أمضى من هذا السيف ولكن وجب علي أكرامك وأريد التقرب اليك بحيلة أعلمك إياها تقتل بها عدوك فقال بذمة العرب

(2/36)


افعل ذلك فقال حاطب إذا كنت في مقام حرب وقتال وخصمك بين يديك وتريد قتله فهز هذا السيف حتى يهتز هكذا وتلتئم مضاربه واضرب عدوك بحرفه فإنه أسرع للقتل والقطع وملت بالسيف على عنقه وإذا برأسه طائر عن بدنه فنزلت إليه وأمسكت الجواد لئلا ينفلت فينذر أصحابه وتركته مربوطا إلى شجرة وأسرعت إلى صاحبيه وإذا هما ينتظراننا فلما رأياني أقبل أحدهما الي فقال: ما وراءك وأين سلاب فقلت أبشر بأخذ الثأر وكشف العار واعلم بأننا وجدنا رجلين من أصحاب محمد وهما نائمان وقد وجهني سلاب بأن يمضي أحدكما حتى نتمكن منهما ويقف أحدكما ههنا فإن هذا الوادي ما خلا ساعة من اصحاب محمد فقال: نعم الرأي الذي قد اشرت به وسار معي فلما غيبته عن صاحبه قلت ما اسمك قال عبد اللات قلت كن رجلا وإياك والخوف فإنك إذا رأيتنا وقد هجمنا على الرجلين فاستيقظ فقال: لا بد أن أفعل ذلك فقلت له إني أرى غبرة ولا شك أن تحتها قوما ممن صبأ إلى دين محمد فجعل يتأمل كأنه الواله الحيران فعاجلته بضربة على غفلة فرميت رأسه عن بدنه وعدت إلى الثالث فلما رآني وحدي تيقن بالشر فقارعني وقارعته وصدمني وصدمته إلا أن الله أعانني عليه فقتلته وأخذت الراحلتين والفرس وأسلابهما ووضعت الجميع عند رجل من أصحابي وكان رفيقا لي من زمن الجاهلية وهو من عبد شمس ثم توجهت أريد مصر ولم أزل إلى أن أتيتها فلما وصلت إلى باب الملك قالوا: من اين جئت قلت أنا رسول إلى ملككم فقالوا: من عند من قلت من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما سمعوا بذلك أحاطوا بي وأوصلوني إلى قصر الشمع بعد أن استأذنوا لي وأوقفوني على باب الملك فأمرهم باحضاري بين يديه فعقلت راحلتي وسرت معهم عند المقوقس وإذا هو في قبة كثر الجوهر في حافتها ولمع الياقوت من أركانها والحجاب بين يديه فأومأت بتحية الإسلام فقال حاجبه يا أخا العرب أين رسالتك قال فأخرجت الكتاب فأخذه الملك من يدي بيده قال فباسه ووضعه على عينيه وقال مرحبا بكتاب النبي العربي ثم قرأه وزيره الباكلمين فقال له: اقرأه جهرا فإنه من عند رجل كريم فقرأه الوزير إلى أن أتى إلى آخره فقال الملك لخادمه الكبير هات السفط الذي عندك فأتى به ففتحه واستخرج نمطا ففتح ذلك النمط وإذا فيه صفة آدم وجميع الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين وفي آخره صفة محمد صلى الله عليه وسلم فقال لي: صف صاحبك حتى كأنني أراه قال حاطب ومن يقدر أن يصف عضوا من أعضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا بد من ذلك قال فوقفت بعدما كنت جالسا وقلت أن صاحبي وسيم قسيم معتدل القامة بعيد الهامة بين كتفيه شامة وله علامة كالقمر إذا برز صاحب خشوع وديانه وعفة وصيانة صادق اللهجة واضح البهجة اشم العرنين واضح الجبين سهل الخدين رقيق الشفتين براق الثنايا بعينيه دعج وبحاجبيه زجج.

(2/37)


وصدره يترجرج وبطنه كطي الثوب المدبج له لسان فصيح ونسب صحيح وخلق مليح قال: والملك ينظر في النمط فلما فرغت قال: صدقت يا عربي هكذا صفته فبينما هو يخاطبني إذ نصبت الموائد وأحضروا الطعام فأمرني أن أتقدم فامتنعت فتبسم وقال قد علمت ما أحل لكم وحرم عليكم ولم أقدم لك إلا لحم الطير فقلت إني لا آكل في هذه الصحاف الذهب والفضة فإن الله قد وعدنا بها في الجنة قال فبذلوا طعامي في صحاف فخار فاكلت فقال: أي طعام أحب إلى صاحبك فقلت الدباء يعني القرع فإذا كان عندنا شيء منه آثرناه على غيره فقال ففي أي شيء يشرب الماء فقلت في قعب من خشب قال: أيحب الهدية قلت نعم فإنه قال صلى الله عليه وسلم: "لو دعيت إلى كراع لأجبت ولو أهدى الي ذراع لقبلت" قال: أيأكل الصدقة قلت لا بل يقبل الهدية ويأبى الصدقة وقد رأيته إذا أتى بهدية لا يأكل منها حتى يأكل صاحبها فقال الملك ايكتحل قلت نعم في عينه اليمنى ثلاثا وفي اليسرى اثنتين وقال من شاء اكتحل اكثر من ذلك أو أقل وكحله الأثمد وينظر في المرآة ويرجل شعره ويستاك فقال المقوقس إذا ركب ما الذي يحمل على رأسه فقلت راية سوداء ولواء ابيض وعلى اللواء مكتوب لا إله إلا الله محمد رسول الله فقال إله كرسي يجلس عليه أو قبة قلت نعم له قبة حمراء تسع نحو الأربعين قال فما الذي يحب من الخيل قلت الأشقر الأرتم الأغر المحجل في الساق وقد تركت عنده فرسا يقال لها المرعد قال فلما سمع كلامي انتخب من خيله فرسا من أفخر خيول مصر الموصوفة وأمر به فأسرج وألجم فأعده هدية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فرسه المأمون وأرسل معه حمارا ي قال له: عفير وبغلة يقال لها دلدل وجارية اسمها بريرة وكانت سوداء وجارية بيضاء من أجمل بنات القبط اسمها مارية وغلام اسمه محبوب وطيب وعود وند ومسك وعمائم وقباطي وأمر وزيره أن يكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا يقول فيه باسمك اللهم من المقوقس إلى محمد أما بعد فقد وصل الي كتابك وفهمته وأنت تقول أن الله أرسلك رسولا وفضلك تفضيلا وأنزل عليك قرآنا مبينا فكشفنا يا محمد خبرك فوجدناك أقرب داع إلى الله وأصدق من تكلم بالصدق ولولا أنثى ملكت ملكا عظيما لكنت أول من آمن بك لعلمي إنك خاتم النبيين وامام المرسلين والسلام عليك ورحمة الله وبركاته مني إلى يوم الدين قال: وسلم الكتاب والهدية الي وقبلني بين عيني وقال بالله عليك قبل بين عيني محمد عني هكذا ثم بعث معي من يوصلني إلى بلاد العرب والى مأمني قال فوجدنا قافلة من بلاد الشام وهي تريد المدينة فصحبتها إلى أن وردت المدينة فأتيت المسجد وأنخت ناقتي ودخلت وسلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنشأت أقول:
أنعم صباحا يا وسيلة أحمد
...
نرجو النجاة غدا بيوم الموقف

(2/38)


إني مضيت إلى الذي أرسلتني
...
أطوي المهامه كالمجد المعنف
حتى رأيت بمصر صاحب ملكهم
...
فبدا إلي بمثل قول المنصف
فقرا كتابك حين فك ختامه
...
فأطل يرعد كاهتزاز المرهف
قال البطارقة الذين تجمعوا
...
ماذا يروعك من كتاب مشرف
قال اسكتوا يا ويلكم وتيقنوا
...
هذا كتاب من نبي المصحف
قالوا: وهمت فقال لست بواهم
...
إني قرأت بيان لفظ الأحرف
وبكل سطر من كتاب محمد
...
خط يلوح لناظر متوقف
هذا الكتاب كتابه لك جامعا
...
يا خير مأمول بحبك نكتفي
قال الراوي: ورجعنا إلى الفتوح قال: حدثني أحمد بن عبيد عن عبد الله بن عمر السلمي عن محمد الزهري عن عبد الله بن زيد الهذلي عن أبي اسحق الأموي وهو المعتمد عليه في فتوح مصر وأرض ربيعة والفرس.
حدثنا عمر بن حفص ولم ينفرد بهذه الرواية سواه وكان أصحاب السير قد اشتغلوا بوقائع العراق وفتوحه وما تجدد من سعد بن أبي وقاص وبني كسرى أنوشروان وتركوا فتوح الشام وأرض مصر فيما بعد وكان قد ارتحل عنهم فتركوه لأجل الزيادة والنقصان فيه وإنما انفرد ابن اسحق لأنه انفرد عن مشايخ ثقات قد وثق بهم من آل مخزوم اجتمع بهم في الرملة بعد الفتوح أحدهم نوفل بن ساجع المخزومي وكان عمه خالد بن الوليد وكان من المعمرين شهد تبوك مع النبي صلى الله عليه وسلم وشهد بعدها الحديبية وشهد يوم اليمامة ومسيلمة وكان مع عمرو بن العاص بأرض مصر في جميع فتوحها والثاني فهد بن عاصم بن عمرو بن سهل بن عمرو المخزومي وغيرهما من الثقات ممن شهد فتوح أرض مصر والوقائع كلها قالوا: جميعا ومنهم من قال أن عمرو بن العاص لما انفصل من ساحل الشام وكتب الله سلامة المسلمين وسار متوجها يريد أرض مصر فلما كان بمكان ي قال له: رفح قال له يوقنا: يا عمرو أنت تريد أن تدهم مصر على حين غفلة من أهلها وأنا ممن يمكني ذلك لأن ثواب الله أجل غنيمة فإن قلبي ملوث بحب الدنيا وإني كنت ممن أشرك بالله سواه وأنا أجتهد في الخلاص وأقاتل من كنت انصره على الكفر وعباده الصلبان والسجود للصور من دون الله وقد أخذت الإسلام بنية وقبول لأنه الحق وأريد أن أتقدم إلى أرض مصر فلعلي أجد لكم بالحيلة سبيلا فقال عمرو وفقك الله وأعانك وحفظك وصانك قال: فسار يوقنا ليلا من رفح يطلب الفرماء ولم يقرب من العريش ولا القاربا وكلها حصون عامرة وقد سكنها أقوام من العرب المختلطة وكانوا يؤدون المال إلى الملك المقوقس بن راعيل وسنذكر فتوحها فيما بعد إن شاء الله

(2/39)


تعالى قال: وإن يوقنا اشرف على الفرماء وكان بها وال من قبل المقوقس اسمه الرندبان والفرماء على جانب بحيرة تنيس من الشرق فرأى يوقنا خياما منصوبة وقبابا مضروبة فلما رأوا يوقنا وقع الصائح فركب من كان هناك وكانت الأخبار ترد عليهم كل وقت بما صنع الصحابة فلما بلغهم أن قيسارية فتحت اغتموا لذلك لأنه كان فلسطين بن هرقل قد تزوج بابنة المقوقس ارمانوسة وكان قد جهزها أبوها وأرسلها مع غلمانها وأموالها إلى بلبيس ثم إنها وجهت حاجبها تميلاطوس إلى الفرماء في ألفى فارس لحفظ ذلك المكان.

(2/40)


الاستعداد
حدثنا ابن اسحق أخبرنا موسى بن محمد بن ابراهيم بن الحرث التيمي عن أسامة ابن زيد بن أسلم قال ابن اسحق: حدثني رجل من القبط رأيته وقد دخل في دين الإسلام فقربت إليه وسألته فاخبرني أنه من قبط مصر من جند المقوقس فقلت له كيف كان من أمركم لما سمعتم بقدوم المسلمين من الشام وكسر جيوش هرقل قال لما بلغنا ذلك بعث المقوقس رسله إلى جميع اطراف بلاده مما يلي الشام بأن لا يتركوا أحدا من الروم ولا غيرهم يدخل أرض مصر كل ذلك لئلا يتحدثوا بما صنع المسلمون بجنود هرقل فيدخل الرعب في قلوب قومه فلأجل ذلك أنه لما دخل يوقنا أرض مصر لم يعلم به أحد فلما ركبوا إلى لقائه ورأوا حشمه وعسكره وكانوا بزي الروم سالوه عن مكانه وكان قد أخبر في طريقه من حصن كيفا وأعلموه بابتعاد فلسطين عن زوجته أرمانوسة وإن اباها قد جهزها وهي على مدينة بلبيس فقال يوقنا ومتى تزوجها قالوا: تزوجها والمسلمون على حصن حلب.
فقال لهم: انه قد ركب في البحر وترك قيسارية وقد أرسلني حتى آخذها في المراكب من دمياط ومضى يوقنا يقول أنا قد جئت رسولا من الملك فلسطين إلى الملك المقوقس حتى يرسل معي ابنته إلى زوجها فلما سمعوا كلامه قالوا: أن الملكة في بلبيس وقد أنفذها إليه وما منعها من المسير إلا خوف العرب وهروب فلسطين من قيسارية فسار يوقنا حتى قرب من بلبيس فنزل هناك وسار حاجبها اليها وعرفها بما قاله يوقنا فقالت علي به فأتى إليه الحاجب وأمره بالمسير فركب وركب اصحابه وهم بأحسن زي وأتوا إلى عسكر أرمانوسة وإذا به عسكر كبير أكثر من عشرة آلاف قال فترجل يوقنا وترجل قومه ووقفوا على باب قصرها واستأذنوا عليها فأذنت لهم بالدخول فلما وقفوا بين يديها خضعوا لها فأمرت لهم بكراسي فوضعت لهم فأمرتهم بالجلوس فجلسوا ووقفت الحجاب والمماليك والخدم فقالت الملكة أرمانوسة له من غير ترجمان كم لكم عن الملك فقال شهر فقالت أكان رحل من المراكب أم قبل رحيله فقال

(2/40)


يوقنا: بل قبل رحيله وحين ركب منهزما ولما وصلت إلى غزة بلغني أنه سار وقد قال لي في السر بيني وبينه لا طاقة لنا بقتال هؤلاء العرب فإن أبي هرقل ترك أنطاكية وذهب وقد قاتلهم بجميع جنوده واستنصر عليهم بجيمع دين النصرانية وأنفذ إليهم ماهان الأرمني إلى اليرموك في ألف ألف فهزموه وقتلوه وإني اريد أن آخذ خزائني وأطلب القسطنطينية ثم إنه وجهني اليك أيتها الملكة لتركبي في المركب إليه.
قال فلما سمعت ذلك أطرقت برأسها إلى الأرض ثم رفعت رأسها وقالت إني لا أقدر أن أصنع شيئا إلا بأمر الملك أبي وإني مرسلة إليه قال فقام يوقنا وصقع لها ودعا ثم خرج من عندها فوجد غلمانه قد ضربوا خيامه فنزل بها وارسلت إليه العلوفة والضيافة قال ابن اسحن الأموي رضي الله عنه ولقد بلغني انه لما جن الليل أتت اليها الجواسيس وأعلموها بفتح قيسارية ومدائن الساحل جميعها وبتوجه عمرو بن العاص إلى مصر وبحديث يوقنا صاحب حلب وحذروها منه وعرفوها بجميع الأخبار مفصلة وإنه هو الذي فتح طرابلس وصور وجبلة قال فلما سمعت ذلك دخل في قلبها الرعب وعلمت انه محتال فطلبت حاجبها وقالت له: مر العسكر بلبس السلاح وإن يكونوا مستيقظين فقد جرى من الأمر كذا وكذا ثم إنها أوقفت مماليكها وغلمانها وقالت لهم إذا دخل هذا الرجل وخواصه فاقبضوا عليهم فإذا نحن ملكناهم انخذل عسكر المسلمين فلما رتبت هذا أرسلت تطلب يوقنا فذهب حاجبها إليه و قال له: أيها البطريق الكبير أن الملكة تطلبك لتوصيك بما تقوله لأبيها فقال له: السمع والطاعة ها أنا راكب وأصحابي فذهب القاصد فقال يوقنا لأصحابه اعلموا أن الملكة شعرت بنا والقوم قد عولوا على قتلنا فإن حصلنا في أيديهم قتلونا لا محالة وتضرب بنا الأمثال لمن يأتي بعدنا فموتوا كراما ولا تلقوا بأييديكم إلى القتل بايدي الكفار وكونوا نصرة لدين الإسلام وما عسى نرجو من هذه الدنيا الغدارة التي ما صفت لأحد إلا وغيرته بالكدر فاعمروا دار البقاء وجاهدوا في سبيل الله حق جهاده فلعلكم ترضونه بذلك قال فأخذ القوم على أنفسهم وأشتدوا وركبوا وتوكلوا على الله في جميع أمورهم.
حدثنا ابن اسحق قال لقد بلغني أن الملكة أقامت تنتظر قدومهم لتقبض عليهم فاستبطأتهم فبعثت رسولا ثانيا تستحثهم فقال له يوقنا: ارجع إلى صاحبتك وقل لها ما جرت بذلك عادة الملوك يبعثون يطلبون الرسل إلا لأمر يحدث وقد كنت عندها فما الذي تريده نصف الليل مني فعاد الرسول وأخبرها بما قاله فركبت من وقتها وتقدمها حاجبها وأمرت الجيش كله أن يركب ودارت بيوقنا وأصحابه ولم تحدث بشيء إلى الصباح فأقبل صاحب الملكة إليهم وقال: ما حملكم أن تركتم دين آبائكم وهجرتم دين المسيح وأمه وقد جئتم تحتالون علينا إلا وإن المسيح قد غضب عليكم فقال يوقنا:

(2/41)


إن المسيح عبد من عبيد الله لا يقدر على شيء لانه مأمور مكلف وقد أنطقه الله بذلك وهو في المهد فقال: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} [مريم: 30] وقال: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً*وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً} [مريم:33] ومن يؤمر بالصلاة والزكاة ويموت فليس باله إنما هو عبد الله مكلف بالعبادة مثل واحد منا وإن الله لا يتشبه بأحد منا وإن الله لا يشبهه شيء ولا يتشبه بأحد ولقد أضلكم من صدكم عن ذلك وزاغ بكم عن طريق الحق بقوله على الله والمسيح ولقد كنا مثلكم نسجد للصلبان ونعظم القربان ونسجد للصور ونجعل مع الله الها آخر إلى أن تبين لنا دين محمد صلى الله عليه وسلم فشفانا بعد العمى وشرح صدورنا للهدى ودين الإسلام هو الدين الواضح وكنا نقول مثل قولكم أن المسيح ابن الله وإن ابراهيم واسحق كانا نصرانيين فكذبنا الله بقوله في كتابه: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران:67] وقال سبحانه: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85] وها نحن قد جئناكم لنجاهدكم اما أن تقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله واما الجزية واما القتال قال فلما سمع الحاجب كلامه قال لقومه دونكم وهؤلاء فقد جاءوا يريدون قتلكم وأخذ أموالكم وأولادكم وحريمكم قال فحملوا على يوقنا وأصحابه وعمل السيف بينهم بقية يومهم فلما كان من الغد ركبوا وداروا بهم وتصايحت عليهم القبط ودارت بهم الخيل والرجال فبلى يوقنا ومن معه بما لا طاقة لهم به وقتل منهم جماعة وقتلوا هم من القبط خلقا كثيرا ولكنهم صبروا لأمر الله وقالوا: والله لا نسلم أنفسنا أو نموت كلنا فقد حصل لنا ما كنا نطلب من رضا ربنا قال ابن اسحق.
حدثنا سيف بن شريح عن يونس بن زيد عن عبد الله بن عمر بن حفص عن عبد الله بن الحرث قال لما أخرت الجواسيس أرمانوسة بقصة يوقنا أنفذت كتابا إلى ابيها المقوقس تعلمه بذلك وإنها مغلوبة معهم وإن العرب متوجهون مع رجل يقال له عمرو بن العاص: وأنا منتظرة جوابك قال فلما وصل الكتاب إليه دعا أرباب دولته وقال لهم: قد تم من الأمر علي كذا وكذا فما تشيرون به علي قالوا: أيها الملك نرى لك من الأمر أن تنفذ جيشا إلى الملكة ينصرها على عدوها وتنفذ إلى جلباب ملك البرية تستنصر به على هؤلاء العرب وتنفذ إلى مازع بن قيس ملك البجاوة ينفذ لك جيشا وتنفذ إلى من بالاسكندرية يأتون والى من بالصعيد يأتون فإذا اجتمعت اليك هذه الأمم فالق بهم العرب ولا تأمن لهم فيطمعوا فيك فقال: يا أهل دين النصرانية اعلموا أن الملك محتاج إلى سياسة ومن ملك عقله ملك رأيه ومن ملك رأيه أمن من حوادث دهره وليست الغلبة بالكثرة وإنما هي بحسن التدبير والله لقد كان قيصر أكثر مني جندا وأوسع بلادا وأعظم عدة وقد جمع من بلاد الروم إلى اليونانية ومن اقاليمه ومن القسطنطينية ومن

(2/42)


سائر البلاد وبلاد الاندلس واستنصر بنا وبغيرنا فما أغنى عنه جمعه شيئا ولا قدر أن يرد القضاء والقدر عنه واعلموا أن العقل اساس الآدمي المخاطب المكلف المفضل به على سائر ما خلق على الأرض فمن ملك أمره ومن لم يجد منه حظا كان بجهله ارضيا ولن تنال الحكمة إلا بالعقل.
قال الحكيم ماسوسي: أن الحكمة مرقى جليل وطالبها نبيل وتاركها ذليل لانها غذاء الارواح وقوت القلوب واعلموا أني لست أتكلم إلا بالصدق وأنتم تعلمون أن محمدا في ايامه بعث الينا يدعونا إلى دينه فاستدليت على صدق قوله بكتابه وما ظهر من معجزاته وقد سمعتم أنه لما بعث ما سمع أحد بذكره إلا وخاف منه وقد سمعتم أن القمر انشق له والذراع المسموم كلمه وقال: يا رسول الله أني مسموم فلا تأكلني وقد كلمه الضب والحجر والشجر والمدر وعرج به إلى السماء وركب أوج الماء وأول من تغلب عليه قومه وحاربه عشيرته حين أنكروا قوله وفعله فنصر عليهم وقهرهم وقد تبين لهم الحق فاتبعوه ونصروه وهم هؤلاء الذين فتحوا الشام وما أنكرت من أمرهم شيئا فإنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون حدود الله التي أمر بها وما في كتابهم شيء إلا وفي الانجيل مثله وقد اضلكم بولس وأغواكم حين غر بكم وبدل شرعكم وسماكم باسم لا يليق بكم وكيف وقد عاد بكم من الطريق الواضح وأحل لكم جيمع ما حرم عليكم من قبل وهذا هو عين المحال وداعية العمى أن تتعدوا ما قال نبيكم وكيف نبغي لروح الله عيسى بن مريم أن يكلمكم بما لم يرسله الله اليكم ثم أن بولص قال لكم انه أحل لكم الخنزير وشرب الخمر وارتكاب المعاصي ما ظهر منها وما بظن فاطعتم أمره وصدقتم قوله وحاشا المسيح أن يفعل ذلك وما كان أحد من الانبياء إلا على ما جاء به محمد وهؤلاء الحكماء الأولون ما منهم إلا من يتكلم بوحدانية الله تعالى وهذا الحكيم دمونا الذي صنع في براري اخيم ارصادا وجعلها مثلا للامم الآتية وذكر فيها من يأتي من الامم والاجيال إلى آخر الزمان وصور الحكماء منفردة به والنسر يعقد رأس الحمل والنسر يقيم في كل برج ثلاثة آلاف سنة كما قدر بالمقدار الحكيمي وكأن قدر صور صورة وكتب على رأسها بقلم اليونانية أربعة اسطر الاول من خاف الوعيد سلم مما يريد الثاني من خاف ما بين يديه صان دموعه بما في يديه الثالث أن كنت تريد الجزيل فلا تنم ولا تقيل الرابع بادر قبل نزول ما تحاذر فمن كان هذا كلامهم فكيف صنع سواهم وهذه فريضة هؤلاء القوم المحمديين قال فأطرقوا برؤوسهم إلى الأرض غيظا على الملك قال: وما تلكم المقوقس بهذا الكلام حتى أوقف عنده من مماليكه الف غلام فوق رأسه بالسيف لانه كان قد سمع ما جرى لقيصر وهرقل مع بطارقته لما جمعهم ونصحهم فوثبوا عليه وارادوا قتله أما المقوقس فإنه استوثق بمماليكه حتى لا يطمع فيه قال فلما تكلم بذلك قال له وزيره: أيها الملك رأيك

(2/43)


راجح وأنا أول من يؤمن بما تقول فقال للوزير اكتب إلى ابنتي كتابا تأمرها فيه أن تتلطف بالقوم وتعطيهم الامان وتنفذهم الينا حتى نخلع عليهم وتطيب قلوبهم ويكونوا معنا يقاتلون من يريد قتالنا وما أراد بذلك إلا أن يسلم مثل يوقنا وأصحابه إذ هم على الحق قال فكتب الوزير إلى الملكة كتابا بما قاله أبوها فلما وصل الكتاب اليها وقرىء عليها أمرت أصحابها أن يرجعوا عن قتل يوقنا ومن معه فرجعوا وأرسلت إلى يوقنا تعلمه بكتاب أبيها وأرسلت إليه الكتاب فلما قرأه قال لرسولها امض اليها حتى استخبر الله تعالى في ذلك.
فقال يوقنا لاصحابه أن الله قد كشف حجاب الغفلة عن قلب هذا الملك وقد ظهر له ما ظهر لنا من الحق فما الذي ترون من الرأي قالوا: نحن نسمع من رأيك فقال دعوني هذه الليلة قال فلما جن عليه الليل قام يصلي وأمر أصحابه أن لا ينزلوا عن خيولهم مخافة من غدر القوم فبينما هو يصلي وإذا بشخص قد دخل عليه فارتاع منه ثم تأمله فإذا هو عمر بن أمية الضمري ساعي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآه يوقنا فرح وكان قد رآه مرارا فقال له: مرحبا يا عمرو من أين فقال أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بعثني إلى عمرو بن العاص لأحثه على المسير إلى مصر فوجدته قد وصل وها هو منك قريب وقد أرسلني اليك لأعرفه خبرك فأخبره بما وقع له و قال له: امض يا عمرو ودعه يعجل بالمجيء يعيننا على هؤلاء القوم وحدثه بجميع ما جرى علينا فرجع عمرو مسرعا إلى عمرو بن العاص واعلمه بقصة يوقنا قال فترك عمرو بن العاص الاثقال ومعها من يحفظها وركب وسار بجرائد الخيل وترك مع الاثقال عامر بن ربيعة العامري فما كان قبل طلوع الفجر إلا وهو عند يوقنا فدار بالقوم فلما أحس بهم يوقنا كبر هو ومن معه ورفع الجميع أصواتهم بالتهليل والتكبير ووضعوا السيف في القبط فما طلعت الشمس إلا وقد قتل من القبط أكثر من ألف وأسر منهم خلق كثير وولى الباقي منهزمين وأخذت ارمانوسة ابنة الملك وجميع ما معها من الاموال والرجال والجواري والغلمان.
فقال عمرو بن العاص لاصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل يزيد بن أبي سفيان وهاشم بن سعيد الطائي والقعقاع بن عمرو التميمي وخالد بن سعيد وعبد الله بن جعفر الطيار وصفوان وأمثالهم أن الله سبحانه وتعالى قد قال: {هَلْ جَزَاءُ الْأِحْسَانِ إِلَّا الْأِحْسَانُ} [الرحمن:60] إلا الاحسان وهذا الملك قد علمتم أنه كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث هدية ونحن أحق بمن كافأ عن نبيه صلى الله عليه وسلم هديته وكان يقبل الهدية ويشكر عليها وقد رأيت أن ننفذ إلى المقوقس ابنته وما أخذنا معها ونحن نتبع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سمعته يقول: "ارحموا عزيز قوم ذل وغني قوم افتقر" فاستصوبوا رأيه فبعث بها مكرمة مع جميع ما معها مع قيس بن سعد رضي الله عنه.

(2/44)


ذكر فتح مدينة مصر
قال بن اسحق الاموي رضي الله عنه لما ورد المهزمون على الملك وأخبروه بما تم عليهم وعلى ابنته ضاق صدره وبقي متفكرا فيما يصنع وليس له نية في القتال مع الصحابة فبينما هو متفكر إذ جاءه البشير بقدوم بنته وما معها فخف عنه بعض ما كان يجده فلما دخل عليه قيس رفع مجلسه فوق الملوك والحجاب وأرباب دولته وكانوا قد اجتمعوا يهنئونه بابنته فلما حضر قيس بن سعد ساله الملك عن أشياء لعل اصحابه أن تلين قلوبهم إلى الإسلام فقال: يا اخا العرب اخبرني عن صاحبكم ما الذي كان يركب من الخيل قال الاشقر الارتم المحجل في الساق وكان اسمه المترجل فقال لقد بلغنا أنه كان لا يركب إلا الجمال فقال قيس أن الله أكرم الابل وشرفها قال لها كوني فكانت وأخرج ناقة من الصخر وخص بها العرب من دون غيرهم من بني آدم وكان يركبها لكونها قد جعلها الله مباركة تقنع بما تجد وتصبر على الحمل الثقيل والسير الشديد وتصبر عن الماء اياما وقد ذكرها ربنا في قوله في كتابه العزيز فقال: {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج: 27] وقال: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [الحج: 36] .
ولما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزواته غزوة بدر كان معه مائة ناضح من الأبل وكان معه فرسان يركب أحدهما المقداد بن الاسود الكندي ويركب الاخر مصعب بن عمير وانا لقينا قريشا في عددها وعديدها فهربوا ببركة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان اصحابه يتعاقبون في الطريق وكان عليه الصلاة والسلام وعلي بن أبي طالب ومرثد بن أبي مرثد حليف حمزة بن عبد المطلب وغيرهم يتعاقبون شامخا وكان أيها الملك يركب الحمار الذي أهديته إليه ويردف وراءه معاذ بن جبل وعلى الحمار ركاب من ليف وخطامه ليف واعلم يا ملك القبط أنه كان يخصف نعله ويرقع ثوبه ويقول: "من رغب عن سنتي فليس مني" وكان قميصه من القطن قصير الطول والكمين ليس له ازرار ولقد أهدى إليه ذويزن حلة اشتراها له قومه بثلاثة وثلاثين بعيرا فلبسها رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة واحدة وأهدى له جبة من الشام فلبسها حتى تخرقت وخفين فلبسهما حتى تخرقا وكان له رداء طوله أربعة أذرع وعرضه ذراعات ونصف وكان له ثوب خز يلبسه للوفد إذا قدموا عليه وكان افصح الناس إذا تكلم بكلمة يرددها ثلاثا وكلما راى قوما سلم عليهم ورأيته كلما تحدث تبسم في حديثه وكان إذا اجتمع إليه اصحابه واراد أن ينهض قال سبحانك اللهم وبحمدك اشهد أن لا إله إلا انت استغفرك واتوب اليك قلنا يا رسول الله أن هذه الكلمات اتخذتهن عادة قال امرني بهن جبريل واخرجت لنا زوجته لما قبض كساء وازارا غليظين وقالت قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فوق هذين.

(2/45)


فقال المقوقس هذه والله أخلاق الانبياء فطوبى لمن اتبعه فإن أمته هي الامة الموصوفة في الانجيل فقال بعض من حضر أيها الملك ما تكون أمة عند الله افضل من هذه الامة وهم نحن فغضب الملك من قوله وقال: وبأي شيء أنتم أفضل عند الله أبأكلكم الحرام وارتكابكم الآثام وصنعكم المنكرات وتجنبكم الحسنات وظلمكم في الرعية وميلكم إلى الدنيا أين أنتم من قوم عبر عليهم الاسكندر فرآهم ليس بينهم قاض ولا حاكم ولا أمير قائم عليهم ولا فيهم من يختص بالغنى دون أخيه بل هم سواء في كل ما هم فيه أكلهم وشربهم واحد غير متناف ولامتضاد وملبسهم غير متناف ولا متباعد فتعجب الاسكندر منهم وسأل الأكابر منهم عما رآه من أحوالهم فقالوا: أيها الملك انا وجدنا جمجمة وعليها مكتوب يا ابن آدم ما خلقت إلا من التراب وقد خلوت بما قدمت اما صالحا فيسرك واما طالحا فيضرك فتندم حيث لا ينفعك الندم ولم يكن لك إلى الدنيا مرجع فطوبى للكيس العاقل الذي ليس ببليد ولا غافل يتزود إلى ما إليه يصير ولا يلقي الاتكال على التقصير فبادر إلى الخير قبل الموت واغتنم حياتك قبل الفوت وكأنك بالحي وقد هلك وترك كل ما ملك فلما قرأنا هذا اعتبرنا أيها الملك بهذه الموعظة البالغة ولبسنا أثوابها السابغة فقال: ما بال مساجدكم شاسعة نائية وقبوركم دانية فقالوا: أما مساجدنا فبعيدة ليكثر الاجر بكثرة الخطا وقبورنا قريبة لنذكر الموت فننتهي عن الخطأ فقال مالي أرى أبوابكم بغير غلاق قالوا: لأننا ما فينا خائن ولا سرق فقال: ما لي لا أرى فيكم أميرا ولا حاكما فقالوا: لاننا ما فينا معتد ولا ظالم.
فقال: ما لي لا أرى فيكم معسرا ولا فقيرا قالوا: لأن رزق الله فينا الكبير والصغير ثم إنهم أخرجوا له جمجمتين عظيمتين فقالوا: أيها الملك هذه جمجمة رجل عادل سالم وهذه جمجمة رجل ظالم وكلاهما صار إلى هذا المصير ولم يغن عنهما الجمع والتدبير أما العادل فمسرور ريان وأما الظالم فنادم حيران فاز المتقي وخسر الشقي فاختر ما تراه قبل الحين أيها الملك لأنك قد ملكت النواصي ونفذ أمرك في الداني والقاصي واستخلفك الله في الأرض وأمرك بالقيام بالنفل والفرض فتذكر مرجعك ورمسك واعمل لنفسك واعلم أنه لا ينفعك جدك إذا قبضت روحك واشتمل عليك لحدك فاترك أوامر الشيطان ودواعيه وخذ بأوامر الرحمن ونواهيه ولا يغرنك النعيم فتبوء بالاثم العظيم اذكر أيها الملك ما فعل الشيطان بأبيك حين نصب له مكيدته وأدار عليه حيلته فنصب له فخ العداوة وغره فيه بحبة البر فقال قيس أيها الملك أتدري من أولئك قال: لا قال هم قوم مؤمنون قال الله عنهم في كتابه: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف:181] وقد رآهم نبينا صلى الله عليه وسلم ليلة عرج به فلما عاد أخبر أصحابه بهم قالوا: يا رسول الله أهم قوم مؤمنون بما أنزل عليك فأراد أن.

(2/46)


يعلمهم أن أمة محمد أفضل منهم فأنزل الله: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف:181] فقال المقوقس لقيس بن سعد يا أخا العرب ارجع إلى أصحابك وأخبرهم بما سمعت وبما رايت وانظر فيما يستقر عندكم وبينكم فقال قيس أيها الملك لا بد لنا منكم ولا ينجيكم منا إلا الإسلام أو أداء الجزية أو القتال فقال المقوقس أنا اعرض ذلك عليهم واعلم أنهم لا يجيبون لأن قلوبهم قاسية من أكل الحرام.
حدثنا ابن اسحق رضي الله عنه حدثنا عبد الله بن سهل عن عدى بن حاطب عن سليمان ابن يحيى قال أن الملك المقوقس كان من عادته أنه في شهر رمضان لا يخرج إلى رعيته ولا يظهر لأحد من أرباب دولته ولا أحد منهم يعلم ما كان يصنع وكانت مخاطبته لقيس بن سعد في أواخر شعبان سنة عشرين من الهجرة فخرج قيس من عنده ومضى إلى عمرو بن العاص وحدثه بما كان منه قال ابن اسحق: وكان ولي عهد الملك ولده اسطوليس وكان جبارا عنيدا وإنه لما سمع ما تحدث به أبوه رأى ميله إلى الإسلام وعلم انه لا يقاتلهم وربما أسلم وسلم إليهم ملكه صبر إلى أن دخل أبوه إلى خلوته التي اعتاد أن يدخلها ويختلي فيها كل سنة فجمع أرباب الدولة في الخفية لئلا يدري به أحد فيعلم أباه وقال لهم: اعلموا أنكم قد ملكتم هذا الملك وإن أبي يريد أن يسلمه إلى العرب لانني فهمت من كلامه ذلك فقالوا: أيها الملك أنت تعلم أن هذا الأمر مرجعه اليك وأنت ولي عهده فاعمل أمرا يعود صلاحه عليك وعلينا قال فطلب صاحب شراب ابيه وأعطاه ألف دينار ووعده بكل جميل وأعطاه سما و قال له: ضعه في شرابه قال ففعل الساقي ما أمر به وسقي الملك فمات فأتى الساقي إلى أرسطوليس وأعلمه أن أباه قد مات فذهب إليه ودفنه في الخفية وقتل الساقي وجلس على سرير الملك كأنه نائب عن أبيه إذا غاب كعادته في كل عام ولم يعلم أحد بموته هذا ما كان منه وأما عمرو بن العاص فإنه ارتحل من بلبيس ونزل على قليوب وبعث إلى أهل البلاد والقرى وطيب خواطرهم وقال لهم: لا يرحل أحد من بلده ونحن نقنع بما توصلونه الينا من الطعام والعلوفة فاجابوا إلى ذلك وارتحل من قليوب ونزل على بحر الحصى فارتجت بنزولهم اليها ووقع التشويش فيهم وعلا الضجيج وأغلقوا الدروب والدكاكين ووقف أهل كل درب على دربهم بالسلاح ليحموا حريمهم قال: وأما عمرو بن العاص فإنه أمر أهل اليمن ومن معه من العربان أن يحدقوا بالبلد وإن أهل البلاد أقبلت إليهم بالعلوفة والطعام والخيرات وهم يردون عليهم من كل فج.
ثم أن عمرو أراد أن يرسل إلى صاحب مصر رسولا وكان عنده غلام له من أهل الرملة وكان اسمه وردان وكان يعرف سائر الألسن فقال له عمرو: يا وردان إني اريد أن أرسلك إلى هؤلاء القبط فإنك تعرف بلسانهم ولا تظهر لهم إنك تعرفه فقال: سمعا.

(2/47)


وطاعة فقال اريد أن أكتب معك كتابا وهم أن يكتب وإذا برسول أرسطوليس قد أقبل وقال: يا معاشر العرب أن ولي عهد الملك يريد منكم أن تبعثوا له رجلا منكم ليخاطبه بما في نفسه فلعل الله أن يصلح ذات بينكم فقال عمرو ليزيد بن أبي سفيان ولهاشم الطائي ولعبد الله بن جعفر الطيار وللنعمان بن المنذر ولسعيد بن وائل اعلموا أني قد ضربت على ملوك الروم ولست أرى من يتكلم مثلي وما يسير إلى هؤلاء إلا أنا فإني اريد أن ارد القوم وأنظر حالهم وما هم فيه من القوة وإن لا يخفى علي شيء من أمرهم فقالوا: يا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قوى الله عزمك وما عندنا إلا النصيحة للدين والنظر في مصالح المسلمين فافعل ما أردت تعان فقال لشرحبيل قد قلدتك أمور المسلمين فكن مكاني حتى أمضي إلى القوم وآتيكم بما فيه فقال له شرحبيل: الله يوفقك ويسددك.
قال فلبس عمرو ثوبا من كرابيس الشام وتحته جبة صوف وتقلد بسيفه وركب جواده وسار ومعه غلامه وردان وسار الثلاثة إلى قصر الشمع وإذا هم بالمواكب مصطفة والعساكر واقفة وهم بالدروع والجواشن والعدد وقد أظهروا ما أمكنهم من القوة فلما وصلوا إلى قصر الملك أخبروا ارسطوليس أن رسولك أتى بواحد من العرب فأمرهم باحضاره فدخل عمرو راكبا وهو متقلد بسيفه فاراد الحجاب أن ينزلوه عن جواده فابى وإن يأخذوا سيفه فأبى وقال: ما كنت بالذي أنزل عن حصاني ولا أسلم سيفي فإن أذن صاحبكم أن أدخل على حالتي والا رجعت من حيث أتيت فاننا قوم قد اعزنا الله بالإيمان ونصرنا بالإسلام فما لنا أن ننزل لأهل الشرك والطغيان وأنتم طلبتمونا ونحن لم نطلبكم فأعلموا الملك بما قاله فقال أرسطوليس دعوه يدخل كيف شاء فخرجوا إليه وقالوا له: ادخل كيف اردت فدخل عمرو وهو راكب حتى وصل إلى قبة الملك ورأى السريرية والحجاب وقوفا والبطارقة وهم في زينة عظيمة فلما رأى عمرو ذلك تبسم وقرأ: {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الشورى:36] قال: وكان قصر الملك قد بناه الريان بن الوليد بن أرسلاووس وهو الذي استخلف يوسف على مصر بعد العزيز ثم خرب وأقام خرابا خمسمائة سنة وما بقي إلا اثره فلما بعث عيسى وانتشرت دعوته ورفعه الله إليه وافترقت أمته فرقا وادعوا فيه ما ادعوا من الالهية وتقول الكذب ولي مصر رجاليس بن مقراطيس فبنى ذلك القصر الخراب وهو في وسط قصر الشمع وإنما سمي قصر الشمع لانه لا يخلو من شمع الملوك فلما بناه أحضر الحكماء الذين كانوا قد بنوا في برية الحميم وكان المقدم عليهم قربانس فقال لهم: إني قد قرأت كثيرا من الكتب التي أنزلت على الانبياء من الله وقرأت صحف موسى ورايت أن الله يبعث نبيا قوله حق ودينه صدق واخلاقه طاهرة وشريعته ظاهرة وقد بشر به المسيح فما تقولون فيه فقال قربانس الحكيم أن الذي قرأته هو الصحيح قال فثم من يخالف ذلك.

(2/48)


قالوا: نعم قال الحكيم أريد أن أصنع تمثالا من الحكمة ونجعله بيتا للعبادة ونجعل على هيكلها تماثيل يكون وجوهها مما يلي التمثال باعلى قصرك فإذا جاء وقت مبعث هذا النبي يحول كل تمثال وجهه عن صاحبه وأما الذي يجعل على الكنيسة فإنه عند مبعث النبي العربي يقع على وجهه ويكون موضع عبادة القوم واقامة شرعهم قال فأخذوا في عمل الحكمة واقاموا التماثيل على ما ذكرنا فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم حول كل شخص وجهه عن صاحبه وسقط الذي كان على سطح الكنيسة وهو الجامع اليوم وأما التمثال العالي فبقي على حاله بأعلى القصر فلما دخل عمرو بجواده سمعوا من التمثال صوتا عظيما ثم إنه سقط على وجهه فارتاع له الملك وأرباب دولته وصكوا وجوههم ودخل الرعب في قلوبهم وقالوا بلسانهم: ما وقع هذا التماثل إلا عند دخول هذا العربي وما جرى هذا إلا لأمر عظيم ولا شك أنه هو الذي يقلع دولتنا ويأخذ ملكنا فأمروا عمرا أن ينزل عن جواده فنزل وترجل وجلس حيث انتهى به المجلس وأمسك عنان جواده بيده ويده اليسرى على مقبض سيفه ونظر إلى زينتهم وزخرفة قصرهم فقرأ.
: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ، وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ، وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 33, 35] ثم قال اعلموا أن الدينا دار زوال وفناء والآخرة هي دار البقاء أما سمعتم ما كان من نبيكم عيسى وزهده وورعه كان لباسه الشعر ووساده الحجر وسراجه القمر وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم: "إن الله اوحى إلى عيسى أن نح على نفسك في الفلوات وعاتبها في الفلوات وسارع إلى الصلوات واستعمل الحسنات وتجنب السيئات وابك على نفسك بكاء من ودع الأهل والاولاد وأصبح وحيدا في البلاد وكن يقظان إذا نامت العيون خوفا من الأمر الذي لا بد أن يكون" فإذا كان روح الله وكلمته خوف بهذا التخويف فكيف يكون المكلف الضعيف وأول من تكلم في المهد قال إني عبد الله فإذا كان أقر لله بالعبودية فلم تنسبون إليه الربوبية تعالى الله ما اتخذ صاحبة ولا ولدا ولا أشرك في حكمه أحدا جل عن الصاحبة والاولاد والشركاء والاضداد لا صاحبه له ولا ولد ولا شريك له ولا وزير ليس لأوليته ابتداء ولا لآخريته انتهاء ولا يحويه مكان ليس بجسم فيمس ولا بجوهر فيحس لا يوصف بالسكون والحركات ولا بالحلول والكيفيات ولا تحتوي عليه الكميات ولا المنافع ولا المضرات ثم إنه قرأ: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً، لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً، وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم: 93, 95] فقال له الوزير: أصح عندكم معاشر العرب أن المسيح تكلم في المهد قال: نعم قالوا له: فهذه فضيلة قد انفرد بها عن جميع الأنبياء فقال عمرو قد تكلم في المهد أطفال منهم صاحب يوسف وصاحب جريج وصاحب الأخدود وغيرهم.

(2/49)


فقالوا: يا عربي أتكلم نبيكم بغير العربية قال: لا قال الله في كتابه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [ابراهيم: 4] قالوا: أبعث الله منكم أنبياء غير نبيكم قال: نعم قالوا: من قال صالح وشعيب ولوط وهود قال فلما سمعوا كلام عمرو وفصاحته وجوابه الحاضر قالوا بالقبطية للملك: أن هذا العربي فصيح اللسان جريء الجنان ولا شك أنه المقدم على قومه وصاحب الجيش فلو قبضت عليه لانهزم أصحابه عنا قال: وغلام عمرو وردان يسمع ذلك فقال الملك انه لا يجوز لنا أن نغدر برسول لا سيما ونحن استدعيناه الينا فقال وردان بلسان آخر: ما قالوه ففهم عمرو كلامه.
ثم أن الملك قال: يا أخا العرب ما الذي تريدون منا وما قصدنا أحد إلا ورجع بالخيبة وانا قد كاتبنا النوبة والبجاوة وكأنكم بهم قد وصلوا الينا فقال عمرو اننا لا نخاف من كثرة الجيوش والأمم وإن الله قد وعدنا النصر وإن يورثنا الأرض ونحن ندعوكم إلى خصلة من ثلاث اما الإسلام واما الجزية واما القتال فقالوا: انا لا نبرم أمرا إلا بمشورة الملك المقوقس وقد دخل خلوته ولكن يا أخا العرب ما نظن أن في اصحابك من هو أقوى منك جنانا ولا افصح منك لسانا فقال عمرو أنا ألكن لسانا ممن في صحابي ومنهم من لو تكلم لعلمت أني أقاس به فقال الملك هذا من المحال أن يكون فيهم مثلك فقال أن أحب الملك أن آتيه بعشرة منهم من يسمع خطابهم فقال الملك ارسل فاطلبهم فقال عمرو لا يأتون برسالة وإنما أن أراد الملك مضيت وأتيت بهم فقال الملك لوزرائه إذا حضروا قبضنا عليهم والأحد عشر أحسن من الواحد ووردان يفهم ذلك ثم أن الملك قال لعمرو امض ولا تبطىء علي فوثب عمرو قائما وركب جواده فقال الملك بالقبطية لاقتلنهم أجمعين فلما خرج من مصر قال له وردان: ما قاله الملك فلما وصل إلى الجيش أقبلت الصحابة وسلموا عليه وهم يقولون والله يا عمرو لقد ساءت بك الظنون فأقبل يحدثهم بما وقع له معهم وبما قالوه وبما قاله وردان فحمدوا الله على سلامته وكان أقبل الليل فلما أصبح صلى عمرو بالناس صلاة الفجر وأمرهم بالتأهب للقتال وإذا برسول الملك قد أقبل و قال له: أن الملك ينتظرك أنت والعشرة فقال عمرو أن الغدر يهلك أصحابه وأهله وإن على الباغي تدور الدوائر يا ويلكم ينفذ صاحبكم يطلب منا رسولا فلما أتيته أراد أن يقض علي وقال كذا وكذا فأنت يا ويلك ما الذي يمنعني عنك إذا أردت قتلك ولسنا نحن ممن يخون ويغدر ارجع إليه وقل له إني فهمت ما قاله وما بقي بيننا وبينه إلا الحرب قال ابن اسحق: رحمه الله ورضي عنه هكذا وقع له مع القبط وكان عمرو إذا ذكر ذلك يقول لا والذي نجاني من القبط قال: وعاد الرسول وأخبر الملك بما قاله عمرو فعند ذلك قال أريد أن أدبر حيلة أدهمهم بها فقال الوزير اعلم أيها الملك أن القوم.

(2/50)


متيقظون لأنفسهم لا يكاد أحد أن يصل إليهم بحيلة ولكن بلغني أن القوم لهم يوم في الجمعة يعظمونه كتعظيمنا يوم الاحد وهو عندهم يوم عظيم وأرى لهم من الرأي أن تكمن لهم كمينا مما يلي الجبل المقطم فإذا دخلوا في صلاتهم يأتي إليهم الكمين ويضع فيهم السيف قال فأجابه الملك إلى ذلك وأقاموا ينتظرون ليلة الجمعة قال: وأما عمرو فإنه ارسل يوقنا إلى القرى التي صالحوها ليأتيه منها بما يأكلونه ويعلفون به خيلهم قال فركب يوقنا إلى القرى التي صالحوها وسار في عسكره وبني عمه إلى ما يأتي به ومضى نحو الجرف وكان معهم جواسيس الملك في عسكرهم فاتوا إلى الملك وأخبروه بما جرى من المسلمين فعندها دعا بابن عمه ماسيوس وهو المقدم على جيوش مصر و قال له: اختر من جيوشنا أربعة آلاف وأمض بهم وأكمن وراء عسكر المسلمين من جهة الجبل وإياك أن يظهر عليكم أحد وليكن لكم ديدبان فإذا دخل القوم في صلاتهم فاحملوا عليهم وضعوا فيهم السيف قال ففعل ماسيوس ما أمره به الملك ومضى في الليل من نحو مغارة السودان ولم يعلم بهم أحد فلما كان وقت صلاة الجمعة أتاهم الديدبان وأعلمهم أنهم دخلوا في الصلاة وكانوا قد أخذوا بغالا ودواب وحملوها برا وشعيرا وكان قد قال لهم: إذا أردتم أن تحملوا عليهم فقدموا الحمول أمامكم فإنهم يأمنون ويحسبون أنها هي التي مضى صاحبهم يأتي بها قال ففعلوا ذلك.
حدثنا ابن اسحق حدثنا عمارة بن وهب عن سعيد بن عامر سليمان بن ناقد عن عروة عن جابر عن محمد بن اسحق قال هكذا دبر عليهم القبط وكان بين القوم وبينهم نصف ميل وليس عند المسلمين خبر ما صنع المشركون وكان سعيد بن نوفل العدوي يقول لعمرو أيها الأمير ما الذي يمسكنا عن قتال هؤلاء القبط فيقول والله ما تأخري جزع وإنما قد علمتم قصد هذا الملك المقوقس وما عليه من الدين والعقل وهو مقر بنبوة نبينا وقد دخل إلى خلوته التي سنها لنفسه في هذا الشهر المعظم وقد بقي منه خمسة أيام ويظهر ونبعث إليه رسولا ونرى ما يكون جوابه فإما الصلح واما القتال قال فبينما هم يتحادثون في ذلك إذ أتاهم رسول من عند أرسطوليس بن المقوقس وقال لهم: معاشر العرب أن ولي عهد الملك يسلم عليكم ويقول لكم أني لا أقدر أن أحدث أمرا حتى يخرج الملك من خلوته وقد بقي له خمسة ايام وهو يدبر في رعيته بما يشاء فقال له عمرو: قد علمنا ذلك ولولا الملك وما نعلم منه أنه يحب نبينا وإنه مؤمن به ما أمهلناكم طرفة عين فمضى الرسول قال ابن اسحق: وما بعث هذا اللعين هذا الرسول إلا ليطمئن المسلمون وليقضي الله أمرا كان مفعولا وإذا جاء القدر لا ينفع الحذر وإذا أراد الله أمرا هيأ أسبابه.

(2/51)


قال الراوي: فكان المسلمون قد أطمأنت قلوبهم بذلك الخبر وقربت الصلاة فقام عمرو وخطبهم خطبة بليغة حذر فيها وأنذر فلما فرغ اقيمت الصلاة وأقاموا موإليهم يرقبون مخافة العدو أن يكبسهم في صلاتهم قال صابر بن قيس ونحن لا نرى أحدا من أهل مصر لا فارسا ولا راجلا قال فاصطففنا خلف عمرو للصلاة وليس بينا لنا عدو نخافه فلما أحرمنا وقرأ عمرو ركعنا وأومأنا للسجود إذ أشرفت الدواب والبغال وعلى ظهورها الأحمال والعسكر من ورائها وهم أهل الكمين الذي أكمنه أعداء الله وهم على عدد أصحابنا الذين مع يوقنا فلما رآهم موالينا ظنوا أنهم اصحابنا وقد أقبلوا بالعلوفة فرفعوا أصواتهم بالفرح وقالوا: جاء يوقنا وأصحابه ولم يكلمهم العدو حتى أتونا ونحن في الصلاة ووضعوا السيف فينا ونحن ساجدون السجدة الأخيرة ونحن بين يدي الله تعالى قال: وإذا بالسيوف تقرقع في لحومهم وما أحد منهم قام من سجوده وكان القتل في آخر صف من المصلين والصف الذي يليه وهم من اليمين ومن بجيلة ومن وادي القرى ومن الطائف ومن وادي نخلة ثم قال ابن عتبة وكنت قد شهدت وقائع الشام وحضرموت واليرموك فوالله ما قتل منا في وقعة من الوقائع مثل ما قتل منا يوم بحر الحصى في أرض مصر بالحيلة التي دبرها عدو الله علينا وقال: والله ما منا من انحرف عن صلاته ولا حول وجهه عن ربه وقد أيقنا بالهلاك عن آخرنا حتى أشرف علينا يوقنا باصحابه فلما نظروا ما حل بالمسلمين صاحوا ورموا ما على رؤوسهم من العمائم وقال يوقنا لبني عمه والله من قصر منكم عن عدوه فالله يطالبه به يوم القيامة وما أرى إلا أن الاعداء قد غدروا وكبسوا المسلمين فدوروا من حولهم وضعوا السيوف فيهم واحذروا أن ينفلت منهم أحدا فحملوا وأطبقوا على القبط فدفعوهم عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يزل القتال بينهم حتى فرغ عمرو من الصلاة ومن معه وثاروا ثوران الاسد وركب عمرو ومعاذ وسعيد بن زيد وجميع الصحابة وحملوا في العدو وطحنوهم طحنا قال جابر بن أوس وحلنا بينهم وبين الوصول إلى مصر فوالله ما نجا منهم أحدا وبقوا كأنهم طيور وقعت عليهم شبكة صياد فلما وضعت الحرب أوزارها هنأ المسلمون بعضهم بعضا بالسلامة وشكروا الله على ما أولاهم من نصره واثنوا على يوقنا خبرا وافتقدوا قتلاهم فكانوا أربعمائة وستة وثلاثين قد ختم الله لهم بالشهادة قال: واتصل الخبر إلى أرسطوليس بقتل ابن عمه ومن معه وانهم لم ينج منهم أحد فصعب عليه ذلك وأيقن بهلاكه فدعا ببطارقته وأرباب دولته وشاورهم في أمره فقالوا: أيها الملك أنت تعلم بأن الدنيا ما دامت لأحد ممن كان قبلك حتى تدوم لك وما زالت الملوك تنكسر وتعود وما أنت بأكثر ممن انهزم من ملوك الأرض وقد سمعنا أن داونوس بن اردين بن هرمز بن كنعان بن يزحور الفارسي هزمه الاسكندر الرومي سبعين مرة فاخرج إلى لقاء القوم واضرب معهم مصاف ولا تيأس وهؤلاء القسوس والرهبان والشمامسة والمطران والبترك.

(2/52)


يدعون لك بالنصر قال فعول على لقاء المسلمين وفتح خزائن أبيه وأنفق على الجند وأعطاهم السلاح وطلب شباب مصر وأمرهم بالخروج وبعث يستنجد بملك النوبة وملك البجاوة وأقام مدة ينتظر قدومهم.
قال: حدثنا محمد بن اسحق القرشي عن عقبة بن صفوان عن عبد الرحمن بن جبير عن أبيه قال لما كان من أمر المسلمين ما ذكرنا مما قد قدره الله عليهم من كبسة عدوهم كتب بذلك عمرو بن العاص الىعمر بن الخطاب رضي الله عنه بسم الله الرحمن الرحيم من عمرو ابن العاص إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب سلام عليك وإني أحمدج الله اليك وأصلي على نبيه أما بعد فقد وصلت إلى مصر سالما وجرى لنا على بلدة بلبيس مع ابنة المقوقس كذا وكذا ونصرنا الله عليهم ورحلنا إلى بحر الحصى وقد كنا صالحنا قوما من أهل قرى بلاد مصر ببلاد يقال لها الجرف حتى يعينونا بالعلوفة والميرة ويجلبوا الينا الطعام وإني أرسلت عبد الله يوقنا ليشتري لنا منهم طعاما ومضى في خيله وسرت بنفسي رسولا إلى مخاطبة القوم فهموا بالقبض علي ونجاني الله منهم وانهم أكمنوا لنا كمينا من الليل واشغلونا برسول والكمين كان من الليل فلما استوت صفوفنا للصلاة كبسوا علينا ونحن في الصلاة فلم نشعر حتى بذلوا فينا السيف وقتلوا منا اربعمائة وستة وثلاثين رجلا والاعيان منهم ستون ختم الله لهم بالشهادة ونحن الآن في بحر متلاطم أمواجه من كثرة القوم والعساكر فانجدنا يا أمير المؤمنين وأدركنا بعسكر ليعيننا على عدونا والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وختم الكتاب واعطاه عبد الله بن قرط فسار من ساعته وجد في السير إلى أن وصل المدينة فقدمها في العشر الاوسط من شوال سنة اثنين وعشرين من الهجرة فأناخ مطيته بباب المسجد ودخل فرأى عمر بن الخطاب عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ابن قرط فدفعت الكتاب إليه فنظر الي وقال عبد الله قلت نعم قال من أين أتيت قلت من مصر من عند عمرو بن العاص قال مرحبا بك يا ابن قرط ثم فك الكتاب وقرأه وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ثم قال من ترك الحزم وراء ظهره تباعدت عنه فسيحات الخطأ ووالله ما علمت عميرا إلا حازم الرأي مليح التدبير ضابط الأمر حسن السياسة ولكن إذا نزل القضاء عمي البصر ثم إنه كتب كتابا إلى أبي عبيدة وذكر له ما جرى لعمرو بن العاص بمصر وأمره أن ينفذ إليه جيشا عرمرما وانفذ الكتاب مع سالم مولى أبي عبيدة قال عبد الله بن قرط فاقمت في المدينة يومين واستأذنته في المسير فزودني من بيت المال وكتب الىعمرو يقول بسم الله الرحمن الرحيم من عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص أما بعد فإني أحمد لاله الذي لا إله إلا هو وأصلي وأسلم على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وقد بلغني ما جرى لكم بمصر من غدر عدوكم كما سبق في أم الكتاب وكان يجب عليك يا بن العاص أن لا تطمئن إلى عدوك ولا تسمع منه حيلة وما كنت أعرفك إلا حسن الرأي والتدبير.

(2/53)


ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا فاستعمل النشاط في أمرك ولا تامن لعدوك واستعمل الحذر فإن الامام ما يكون إلا على حذر والله يعيننا وإياك على طاعته وقد أنفذت إلى أبي عبيدة أن يرسل اليكم جيشا والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وختمه وسلمه لعبد الله ابن قرط قال فأخذته وسرت وأنا أجد السير حتى أتيت مصر ودفعت الكتاب لعمرو بن العاص فقرأه على المسلمين ففرحوا بذلك وأقاموا ينتظرون اخوانهم.

(2/54)


كبسة الجيش.
حدثني ابن اسحق حدثني سهل بن عبد ربه عن موسى عبد الرزاق قال لما كبس ابن المقوقس جيش المسلمين ورجعت دائرة السوء عليه وقتلوا عن آخرهم وبلغه الخبر بكى على ابن عمه وحلف بما يعتقده من دينه انه لا بد له أن يأخذ بثأرهم ثم إنه أمر أرباب دولته أن يجتمعوا بالكنيسة المعلقة في داخل قصر الشمع فاجتمعوا فجلس على سرير عند المذبح وقام فيهم خطيبا فقال: يا أهل دين النصرانية وبني ماء المعمودية اعلموا أن ملككم عقيم وبلدكم عظيم وهذه بلاد الفراعنة ممن كان قبلكم وقد ملكها عدة ملوك ممن احتوى على الاقاليم وملكها مثل الملك المعظم من آل حمير ومثل مستفان والبستق والملحان وهو يأتي هذه الاهرام ونمرود ابن كنعان ولقمان بن عاد وذي القرنين الملك العظيم وانقضى ملكهم منها ورجع إلى سبأ وأرضها وحضرموت وقصر عمان ثم تولى هذه الأرض القبط من آبائكم وأجدادكم اطسليس وبلينوس والريان بن الوليد وهو الذي استخلص يوسف لنفسه والوليد وهو المكنى بفرعون وبعدهم طبلهاوس ثم جدي راعيل ثم أبي المقوقس وجميع ملوك الأرض تحسدنا على ملك مصر وهؤلاء العرب الطماعة وليس في العرب أطمع منهم فإني أراكم قد كسلتم وفشلتم عن لقائهم فطمعوا فيكم وفي ملككم كما طمعوا في ملك الشام وانتزعوه من أيدي القياصرة فقاتلوا عن أموالكم وحريمكم وأولادكم وأما أنا فواحد منكم وأعلموا أن الملك المقوقس قد أمرني بلقاء هؤلاء العرب وقال انه لا يظهر إليهم حتى أرى ما يظهر من قومي وأرباب دولتي فما تقولون وما الذي اجتمع عليه رأيكم فقالوا: أيها الملك إنما نحن عبيد هذه الدولة وغلمانها فإنها قد استعبدت رقابنا بنعمتها واحسانها ونحن نقاتل لمحبتها فإما أن نرزق النصر من المسيح واما أن نموت فنستريح قال فشكر قولهم وخلع على أكابرهم وقال لهم: اخرجوا واضربوا خيامكم ظاهر البلد مع القوم وطاولوهم بالمبادرة إلى أن يأتي الينا نجدة من ملك النوبة والبجاوة فأجابوا إلى ذلك وأمروا غلمانهم بأن يضربوا الخيام خارج البلد فضربوها مما يلي النور والرصد.
قال ابن اسحق: وفي ليلتهم تلك جاءتهم الأخبار بأنه وقع بين ملك النوبة وملك البجاوة حرب وإنه ما يجيبكم منهم أحد وأخرجوا للملك ارمطوليس سرادقا معظما وسط.

(2/54)


جيش القبط قال: وأخذ المسلمون على أنفسهم واقبلوا يخرصون بعضهم ويحرسون قومهم بالنوبة فكان عمرو في أول الليل يطوف حول العسكر ومعاذ إذا انتصف الليل ويزيد بن أبي سفيان في آخر الليل والنور على عسكرهم والإيمان لائح عليهم وأصواتهم مرتفعة بالقرآن وبذكر الله وبالصلاة على نبيه صلى الله عليه وسلم قال ابن اسحق: فلما وصل كتاب عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة وقرأه على المسلمين قال لخالد بن الوليد يا أبا سليمان ما ترى من الرأي فقال إذا كان أمير المؤمنين أمرك أن تنجد عمرو بن العاص فانجده فقال أبو عبيدة أن الطريق إلى مصر بعيد وإن أنا ارسلت جيشا كبيرا خفت عليه من بعد الطريق ومن المشقة فقال خالد: كم جهدك أن ترسل قال أربعة آلاف فارس فقال خالد: أن الله كفاك ذلك قال: وكيف ذلك يا أبا سليمان قال أن عزمت على ما ذكرت فابعث أربعة من المسلمين فهم مقام أربعة آلاف فارس فقال أبو عبيدة من الأربعة قال خالد: أنا أحد الأربعة والمقداد بن الاسود وعمار بن ياسر ومالك بن الحرث فلما سمع أبو عبيدة ذلك تهلل وجهه وقال: يا أبا سليمان أفعل ما تراه فدعاهم خالد وأعلمهم بما عزم عليه فقالوا: سمعا وطاعة فقال خذوا أنفسكم فنحن نسير هذه الليلة قال فلما صلى أبو عبيدة بالناس صلاة المغرب قدم الثلاثة إلى قبة خالد فركبوا وودعوا أبا عبيدة والمسلمين وأخذوا معهم دليلا يدلهم على الطريق إلى وادي موسى والشوبك وأخذوا معهم ما يحتاجون إليه وساروا يريدون مصر فما زالوا يجدون إلى أن قربوا من عقبة ايلة وإذا هم بخيل ومطايا تزيد على الف فارس فأسرعوا إليهم فإذا هم من ثقيف وطي ومرداس قد وجههم عمر بن الخطاب إلى مصر مع رفاعة بن قيس وبشار بن عون قال فلما رأوهم سلموا عليهم ورحبوا بهم واستبشروا بالنصر لما رأوا خالد وعمارا والمقداد ومالكا وارتفعت أصواتهم بالتهليل والتكبير وساروا بأجمعهم.
قال: حدثنا يوسف بن يحيى عن دارم عن منصور بن ثابت قال كنت في جملة الوفد الذي وجهه عمر رضي الله عنه مع رفاعه وبشار والتقينا بخالد بن الوليد وأصحابه عند عقبة أيلة وسرنا معهم حتى وصلنا أرض مصر وقربنا وبقي بيننا وبينها يومان فبينما نحن نسير في بعض الليالي وكانت ليلة مظلمة لا يكاد الرجل أن يرى من شدة الظلام إذ سمعنا حسا بالبعد منا فوقفنا فقال خالد: أيكم يأتينا يا فتيان العرب بخبر هؤلاء الذين في هذا الجيش قال نصر بن ثابت وكنت راكبا فقفزت من ظهر الراحلة وسعيت على قدمي وأخفيت حسي إلى أن تبين لي جيش كثير فتحققت أمرهم فإذا هم جيش من العرب المتنصرة وهم يزيدون على ثلاثة آلاف وهم ركبان المطايا والخيل فقلت والله لاعدت إلى أصحابي إلا بالخبر اليقين قال فاتبعت أثرهم لأسمع ما يقولون وما يتحدثون فمشيت معهم قليلا فاسمعهم يقولون أذل الصليب أعداءنا فإنا قد أصابنا التعب ولحقنا.

(2/55)


الجهد ومن وقت خروجنا من مدين لم نجد أحد ومصر قد قربنا منها فانزلوا لنأخذ راحة ونريح مطايانا ونعلق على خيلنا وإذا بمقدمهم يقول وحق المسيح ما بغيتنا إلا في الخلع والأموال من ملك مصر ولكن إذ عولتم على الراحة فانزلوا قال فنزل القوم على ماء يعرف بالغدير واقبلوا يجمعون الشيح ويصنعون لهم الزاد وعلقوا على خيولهم وتركوا ابلهم ترعى قال نصر بن ثابت فعلمت أن القوم من متنصرة العرب فتركتهم وأتيت إلى أصحابي وحدثتهم بذلك فحمدوا الله كثيرا واثنوا عليه وقالوا لخالد: ما الذي ترى فقال أرى أن تركبوا خيلكم الآن وتستعدوا للحرب ونسير إليهم ونكبسهم فإنهم قد أتوا لنصرة صاحب مصر وما أتوه إلا بمكاتبة لهم يستنجد بهم على أصحابنا قال فلبسوا سلاحهم وركبوا الخيل وتركوا موإليهم مع المطايا والرجال وساروا خيلا ورجالا إلى أن قربوا من نيران القوم فصبروا حتى خمدت وناموا فتسللوا عليهم كتسلل القطاة فقال خالد: دوروا بالقوم ولا تدعوا أحد منهم ينفلت من ايديكم فيثير عليكم عدوكم قال فداروا بهم كدوران البياض بسواد الحدق وأعلنوا بالتهليل والتكبير ووضعوا فيهم السيف فما استيقظ أعداء الله إلا والسيف يعمل فيهم ووقعت الدهشة في القوم وهم في أثر النوم فقتل بعضهم بعضا ووقف ابن قيس ومعه جماعة على البعد منهم وبشار ورفقته وكل من انهزم أخذوه فلما أصبحنا راينا القتلى منهم ألفا وأسرنا منهم ألفا فعرضوهم على خالد فقال: حدثوني من أين جئتم والى أين مقصدكم.
فقالوا: أنا قوم من المتنصرة العرب وكلنا كنا أصحاب الشام فلما هزمتم الملك هرقل رحلنا من أرض الشام ونزلنا أرض مدين ونحن على خوف منكم وكاتبنا صاحب مصر وهو المقوقس لعله أن يأذن لنا أن نكون من أصحابه ونكون له عونا عليكم فلما أجابنا إلى ذلك بعثنا الخيل العربية إلى ولي عهده وصاحب الأمر من بعده فلما كان في هذه الايام جاءتنا خلعة ورسالة بالدخول إلى مصر فرحلنا إليهم فوقعتم بنا فلما سمع خالد منهم ذلك قال من حفر لمسلم قليبا أوقعه الله فيه قريبا ثم عرض عليهم الإسلام فابوا فأمر بقتلهم فقتلناهم عن آخرهم وقسمنا رحالهم وما كان معهم ووجدنا معهم الخلع التي وجهها إليهم ابن المقوقس ففرقها خالد على المسلمين وفيها خلعة سنية وكانت لمقدم القوم فأعطاها رفاعة وساروا حتى قربوا من الجبل المقطم فرأوا جيش القبط فأرسل خالد رجلا من قبله وهو نصر بن ثابت و قال له: امض إلى هذا الملك وقل له أن العرب أصحاب مدين قد أتوا لنصرتك قال فمضى الرجل إلى أن وصل إلى عسكر القبط فأخذه الحرس وقالوا له: من أنت قال أنا مبشر الملك بقدوم العرب المتنصرة إلى نصرته قال ابن اسحق: فأخذوا نصر بن ثابت وأتوا به إلى سرادق الملك قال فلما وقفت بين يديه ناداني الحجاب أن اسجد للملك ففعلت وأنا أسجد لله تعالى حتى لا ينكروا علي وكان قد صح عندهم أنه من امتنع من السجود فهو مسلم قال فلما رفعت.

(2/56)


رأسي قال لي الوزير: يا أخا العرب أوصل أصحابك إلى نصرة الملك فقلت نعم وها هم في دير الجبل المقطم قال فلما سمع الملك ذلك أمر من حجابه اناسا أن يمضوا إلى لقائهم وسرت في جملتهم وأخذوا معهم الجنائب وأظهروا زي الفراعنة وخلع على نصر بن ثابت عوض بشارته وساروا إلى لقاء المتنصرة.
قال: حدثنا عسكر بن حسان بن رفاعة بن وس عن موسى بن عون عن جده نعيم بن مرة قال كنت فيمن وجه عمر بن الخطاب من أهل نخلة وكان خالد يحبني ويقربني لأن أبي كان يسافر له ببضاعة إلى سوق بصرى قال فلما رأى خالد أصحاب الملك قد أتوا قال لي خالد: يا ابن مرة أريد أن أوصيك فقلت بماذا قال اعلم أن العدو قد أرسل يلاقينا وهو يظن أننا من متنصرة العرب ولا شك أن عمرو بن العاص ومن معه تجفل قلوبهم منا وأريد أن تنزل عن فرسك وتكمن خلف هذه الحجارة فإذا خلا لك الطريق فانسل نحو عسكر المسلمين وحدثهم بأمرنا وما قد عزمنا عليه من غدر القوم فإن عمر لا يطمئن لغيرك وأقرئه سلامي وقل له يكن على أهبة فإذا سمع تكبيرنا يأمر أصحابه أن يرفعوا أصواتهم بالتهليل والتكبير فإن ذلك مما يزيد في رعب أعدائنا فقال: نعم قال: وفعلت كما أمرني خالد ونزلت عن فرسي وأسلمتها لغلامي دارم ومضيت نحو الجبل وكمنت بين الأحجار.
قال الراوي: وإن خالد أمر أصحابه بلبس الخلع التي أرسلها لهم ابن المقوقس فلبسوها فوق دروعهم ولبس رفاعة بن قيس وبشار بن عون أحسنها وغير خالد زيه والمقداد وعمار ومالك الاشتر قال فلما وصل مقدم جيش القبط قال خالد لرفاعة وبشار: ترجلوا له واصقعوا بين يديه وصلبوا على وجوهكم فليس عليكم في ذلك حرج واحلفوا بالمسيح والسيدة مريم وإياكم والغلط بأن تذكروا محمدا صلى الله عليه وسلم فيظن القوم بنا واجعلوا الجهاد نصب أعينكم وتوكلوا على الله في جميع أموركم قال ففعلوا ما قال لهم خالد: وترجلوا عند رسول القبط وصقعوا.
قال: حدثنا نصر بن عبد الله عن عامر بن هبار قال: يا عم اعلم أن الله إذا أراد أمرا هيأ أسبابه وذلك أننا لما أشرفنا على اول ديار مصر نزلنا على دير يقال له دير مرقص: وكان ديرا عامرا بالرهبان فلما نزلنا عليه أشرف علينا أهله وقالوا: من أنتم قلنا نحن من أصحاب الملك هرقل ملك الشام وقد جئنا لنصرة صاحبكم فإنه قد أرسل الينا يستنفرنا لأجل هؤلاء العرب قال ففرحوا بنا ودعوا لنا وكان كبيرهم والمقدم عليهم في دينهم شيخا كبيرا وكان من قسوس الشام وكان من أعلم القوم بدينهم وأعرف الناس بآل غسان وكانت الضيحا قد أقطعها هرقل للملك جبلة ابن الأيهم وكان قد جعل على جبايتها ولد هذا القس وكان اسمه نونلس وإن المسلمين لما فتحوا بعلبك وحمص هرب هذا.

(2/57)


القس بأمواله وأولاده إلى طرابلس وركب البحر في مركب وتوصل إلى مصر وبلغ خبره المقوقس فأحضره وسأله عن حاله فحدثه بأمره فخلع عليه وجعله قيما في الكنيسة المعلقة التي في قصر الشمع وصار من أصحاب سكناه في دير مرقص ولا يدخل مصر إلا في أمر مهم فلما نزل عمرو بمن معه عليهم وقتل ابن المقوقس اباه احتاج إلى رأي البترك فارسل إليه وأنزله في الكنيسة وولي البترك مكان هذا القس نونلس بن لوقا فكان في الدير فلما نزل خالد بن الوليد ومن معه على الدير قال عامر بن المبارك الثعلبي فأشرف علينا وتأملنا وكان أعرف الناس بخالد ابن الوليد لانه رآه في مواطن كثيرة من الشام وكان صاحب حمص قد أرسله رسولا إلى أبي عبيدة ليصالحوهم قال فجعل يتفقدهم وينظر في وجوههم ثم قال: وحق المسيح ما أنتم من آل غسان وما أنتم إلا من عرب الحجاز وقد جئتم لتحتالوا علينا فإني رأيت أمامكم الذي فتح الشام وقتل ملوكها وسوف أكاتب الملك بقصتكم ليقبض عليكم فقالوا: ما عندنا خبر من الذي تقوله وقد خيل لك ذلك أما علمت أن المسلمين ما خلوا لنا حالا وقد نهبونا وأصبحنا بالذل بعد العز والفقر بعد الغنى وقد كتب الينا ملك مصر بأن نجيء إليه فأرسل الينا بالخلع وطيب قلوبنا قال عامر فضحك اللعين من قولي وقال لي: أن آل غسان أكثرهم يعرف بكلام الروم وحق ديني ما أنتم منهم وقد صح قولي إنكم مسلمون فقلنا له يا ويلك لو كنا من الذين تقول عنهم ما كنا نأتيكم بالنهار وكنا نكمن ونسير في الليل حتى نصل إلى أصحابنا وأنك استحقرت المسيح إذ جعلتنا من أصحاب محمد فقد وقعت في ذنب عظيم ثم اننا بالقرب منهم فقال أصحابه يا أبانا ليس هؤلاء القوم ممن ذكرت فلوا كانوا مسلمين ما جسروا أن يدخلوا أرض مصر في ضوء النهار ولا يقربوا العمران فقال: وحق ديني أنا أعرف الناس بهم وانهم مسلمون بلا شك فامتنعوا منهم ولا تخرجوا لهم طعاما ولا ماء وسأنفذ خبرا للملك بذلك فيكون منهم على حذر قال عامر بن هبار وكان من لطف الله بنا أن الرهبان الذين بالدير لما سمعوا كلامه قال بعضهم لبعض يجب علينا أن نأخذ لنا منهم صلحا فنكون آمنين من غائلتهم ولا نبرح من ديرنا هذا فقال أكبرهم أن أنتم فعلتم ذلك فاننا لا نعلم من ينصر من الفريقين أصحابنا أم العرب فإن كان النصر لأصحابنا خفنا من هذا القس أن يعلم بنا الملك أننا صالحنا المسلمين بغير أمره فإنه يقتلنا وإن هذا اللعين تعلمون أنه على غير مذهبنا وهو في كل يوم يكفرنا لانه نسطوري ونحن يعقوبية فإن أنتم أردتم صلح هؤلاء العرب فدونكم وهذا القس فاقبضوا عليه وسلموه لهم وخذوا منهم أمانا قال ففعلوا ذلك وقبضوا عليه وأشرفوا علينا وقالوا لنا بحق ما تعتقدون من دينكم أنتم من أصحاب محمد أم لا فانا قد قبضنا على هذا اللعين ونريد أن نسلمه لكم وإنكم تعطوننا أمانا فأنا قوم لا نعرف حربا ولا قتالا فقال لهم مالك الاشتر: يا هؤلاء اما ما زعمتم من صلحنا فانا نصالحكم وما كان أمرنا بالذي يخفى ولا.

(2/58)


نرضى بالكذب فإنه أشنع شيء عندنا ولا سيما أن الإسلام يمنعنا من استعماله ولو أن السيف على رأس أحدنا إذا سئل عن دينه أجاب به وتكلم بوحدانية الله تعالى ونحن من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ولكم الأمان وهذا أمان الله ورسوله.
قال فلما سمع الرهبان من مالك ذلك نزلوا وفتحوا الباب وسلموا لنا القس فقال له خالد: يا عدو الله أردت أمرا وأراد الله خلافه ثم إنه عرض عليه الإسلام فأبى وقال أنا هربت منكم من الشام ثم أوقعني المسيح في أيديكم وما أظن إلا أن المسيح مسلم فافعل ما أردت فضربوا عنقه قال عامر بن هبار وخرج الينا أهل الدير بأجمعهم ومعهم الطعام والعلوفة فأكلنا وأقمنا عندهم إلى الليل فقال شيخهم الذي اشار عليهم بقبض القس الرومي لخالد أيها السيد إني قد تفرست فيك الشجاعة فبالله من أنت من أصحاب محمد فقال: أنا خالد بن الوليد المخزومي فقال: أنت وحق ديني الذي فتحت بلاد الشام وأذللت ملوكها وبطارقها وإن صفتك عندي ثم إنه دخل الدير وأتى ومعه سفط ففتحه وإذا فيه بين أوراقه ورقة وفيها صفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وزيه وصورته وصورة أبي عبيدة وصورة خالد بن الوليد والسيف في يده مشهور قال: ما زلت أسمع أخبارك كلها فلم عزلك عمر بن الخطاب وولى غيرك فقال خالد: أعلم أن عمر هو الامام وهو الخليفة ومهما أمرنا فلا نخالفه فإن الله أمرنا بذلك في كتابه فقال تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] فطاعته فرض علينا لانه يحكم بالعدل ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وانا قد وجهنا إليه خمس الغنائم من الفتوح كلها من الأموال فما ازداد في الدنيا إلا زهدا ولا آثر الدنيا على الآخرة بل مجلسه على التراب ولباسه المرقعة ويمشي في سوق المدينة متواضعا راجلا فالتواضع لباسه والتقوى أساسه والذكر شعاره والعدل في الرعية دثاره وما زال يعطف على اليتيم ويرفق بالأرملة والمسكين ويرفد أبناء السبيل فظ في دين الله غليظ على أعداء الله قائم بشعائر الله لا يستحي من الحق ولا يداهن الخلق فقال القس أكانت له الهيبة على عهد نبيكم قال خالد: نعم سمعت سعد بن أبي وقاص يقول استأذن يوما عمر فأذن له فدخل ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك فقال عمر أضحك الله سنك يا رسول الله قال: "عجبت من هؤلاء اللواتي كن عندي فلما سمعن صوتك ابتدرن الحجاب" فقال عمر أنت أحق أن يهبنك وقال لهن يا عدوات أنفسكن أتهبنني ولا تهبن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلن نعم أنت فظ غليظ دون رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكا فجا إلا سلك فجا غيره" قال فلما سمع القس ذلك قال بركة نبيكم عادت على امامكم وعليكم فقال خالد: وما يمنعك من الدخول في دينننا فقال حتى يشاء صاحب هذه الخضراء ثم قال لخالد أريد أن أعطيكم من صلبان هذا الدير حتى تكمل حيلتكم قال: وأخرج لهم.

(2/59)


صلبانا كثيرة فأخذها خالد ودفعها لرفاعة بن قيس وبشار بن عون وتزيوا بزي الذين قتلوهم من آل غسان وارتحل خالد بعد ما وكل بالدير عشرة من أهل وادي القرى لئلا يخرج أحد بأخبارهم ويقربوا للملك بذلك قال: وعدنا إلى سياق الحديث فلما أشرف أصحاب ابن المقوقس عليهم راوهم وقد لبسوا خلع الملك وعلقوا الصلبان وشدوا الزنانير ورفعوا صليبا من فضة كان قد أخرجه لهم القس فلما صقعوا للحجاب ركبوا وساروا حتى وصلوا إلى سرادق الملك فترجلوا وقد أخذوا لهم اذنا فأذن لهم فدخلوا ودخل أولهم رفاعة وبشار ومن معه وخدموا الملك وسجدوا له ولم يدخل خالد ومن معه ووقفوا مع بقية العرب خارج السرادق وإن الملك لما رآهم قال لهم: يا معاشر العرب أنتم تعلمون محبتنا لكم وتقريبنا لكم وقد طلبتم أن تكونوا لنا عونا على هؤلاء العرب فإن نصحتم لنا في دولتنا شاركناكم في مملكتنا وقاسمناكم في ملكنا ونعمتنا فقال له رفاعة: أبشر أيها الملك سوف ترى ما نبذله في محبتك يوم الحرب قال فخلع عليه وخرج من عنده وأمرلهم بخيام تضرب في عسكرهم.
قال: حدثنا عامر بن أوس عن جرير بن صاعد عن نوفل بن غانم عن سهل بن مسروق قال لما قدم الجيش الذي وجه عمر بن الخطاب مع رفاعة وبشار وكان من أمرهم ما ذكرناه ونظر إليهم عمرو بن العاص ومن معه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اقبلوا ينظرون إليهم والى زيهم فقال معاذ لعمرو ما هؤلاء من المتنصرة وإن نفسي تأبى ذلك فقال عمرو والله يا أبا عبد الرحمن لقد نظرت بنور الله وانني نظرت فيهم واحدا واحدا ورأيتهم بزي وادي القرى وزي الطائف فقال شرحبيل بن حسنة وأنا نظرت أعجب من ذلك أني رأيت خالد بن الوليد في جملتهم ولاحت لي عمامته وقلنسوته وثيابه التي كانت عليه يوم دخول طرابلس فقال يزيد بن أبي سفيان أنا والله رأيت مالكا الاشتر النخعي وعرفته بطول قامته وركبته على فرسه ثم قالوا: لا بد أن ينكشف لنا خبرهم على جليته فهم في الحديث إذ قد اتاهم نعيم بن مرة فلما رأوه تهللت وجوههم فرحا وسرورا فلما وصل إليهم وسلم عليهم وحدثهم بالحديث كله سجدوا لله شكرا وقال بعضهم لبعض ايقظوا هممكم وكونوا على يقظة من أمركم فإذا سمعتم التكبير في عسكر العدو فبادروا إليهم قال ابن اسحق: ولله في خلقه تدبير وذلك أنه لما جن الليل جمع أرسطوليس بن المقوقس أرباب دولته وقال لهم: قد ضاق صدري من هؤلاء العرب وقال لهم: قد غلا السعر عندنا لأن أهل البلاد قد أجلت من خوفهم وإن خيلهم تضرب إلى الريف من هذا الجانب والى الصعيد من هذا الجانب والنوبة والبجاوة ما يأتينا منهما أحد للفتنة التي هي بينهم والرأي عندي أن نحارب هؤلاء العرب صبيحة عيدهم قالوا: أيها الملك هذا هو الرأي فقال أخرجوا السلاح وفرقوه على من ليس معه سلاح هذا ما جرى عنده وليس عنده خبر بما جرى في قصره بعد.

(2/60)


نتائج المعركة
قال ابن اسحق: وكان من حسن تدبير الله تعالى لعباده المؤمنين انه كان للمقوقس أخ شقيق واسمه ارجانوس وكانا متحابين وكان المقومس لا يقطع أمرا دونه وكانا إذا ركبا لا يفترقان وإذا جلسا يجلسان معا على السرير وكان المقوقس قد دخل في خلوته التي ذكرنا وكان أخوه من محبته قد رتب هناك من يعرفه لما يخرج من خلوته فلما كان في هذه النوبة استبطأه فأتى إلى ابن أخيه فرآه على السرير فقال له: ما فعل الملك فقال: انه في خلوته إلى الآن وقد رأى أن طالعه ضعيف مع هؤلاء العرب وقد أمرني أن أكون مكانه حتى يرى ما يريد من قتالهم أو صلحهم قال فكتم ارجانوس الأمر في نفسه وعلم أن أخاه قد قتل وكان ارجانوس ممن يعتقد نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ويعلم أن دعوته تطوف المشرق والمغرب وإن الملوك تضمحل في أيام أصحابه وسينزلون على البلاد فترك أرجانوس الأمر موقوفا ولم يبد ما في نفسه لآحد فلما خرج ابن أخيه مع العسكر جمع ارجانوس الذين تركهم ابن أخيه لحفظ البلد في قصر الشمع وقال لهم: اعلموا أن العقل هو عمدة قوى ابن آدم لأن الله قد خصه به دون سائر المخلوقات وإن أخي قد قتله ولده لا محالة وقد كان محبا لكم ومشفقا عليكم واعلموا أن هؤلاء العرب قد كان قدامهم من ملكه أعظم من ملككم وما ثبت بين ايديهم وليس بين دولتكم وبين أن تزول وتضمحل إلا أن يلتقي هذان الجيشان وإن ظفر بكم هؤلاء العرب قتلوكم ونهبوكم وسكنوا في مساكنكم وأيتموا أولادكم فقالوا: أيها الملك فما يكون عندك من الرأي وما تفعل قال إني أرى من الرأي أن تستيقظوا لأنفسكم وتغلقوا أبواب هذا القصر ولا تدعوا أحدا يدخل عليكم من جند الملك ولا هو نفسه فإنهم لا يقدرون أن يقاتلوكم والعرب من ورائهم وإنه يعدي إلى الجانب الغربي ويمضي الي اسكندرية ونعقد لنا صلحا مع هؤلاء العرب على أنفسنا وأولادنا وحريمنا ونسلم لهم بعد ذلك فمن أراد يتبعهم ومن أراد يعطيهم الجزية قال فاستصوبوا رأيه واعلموا أنه نطق بالحق كان أرجانوس له في سرايته ألف مملوك قال فاحتوى على قصر الملك وأخذ الخزائن والأموال وغلق أبواب قصر الشمع وفعل ما فعل وليس عند ابن أخيه خبر إلى أن ذهب من الليل نصفه أو أكثر فجاء إليه بعض خدمه وأخبره بما فعل عمه فأيقن بتلفه وخروج ملك مصر منه قال فبينما هو في حيرة في أمره إذ كبر خالد بن الوليد ومن معه في وسط عسكره فسمع عمرو وأصحابه التكبير فكبروا ووقعت الخذلة على الكفار وحملت فيهم المسلمون ووضعوا فيهم السيوف فلما نظر أرسطوليس إلى ما نزل به والكبسة التي وقعت بعسكره لم يكن له دأب إلا أن ركب وأحدقت به مماليك أبيه وأرباب دولته وطلبوا الهزيمة وقصدوا البحر وعدوا الجانب الغربي وطلبوا اسكندرية فحازوا على مدينة مريوط وفيها الموبذان الساقي ومعه ثلاث آلاف من عسكره فلما صاح الصائح في مصر بأن الملك انهزم وما ثبت.

(2/61)


أحد من عسكر القبط وولوا والسيف يعمل فيهم وغرق منهم في البحر خلق كثير ونصر الله المسلمين وانهزموا.
قال ابن اسحق: حدثني من أثق به أنه قتل في تلك الليلة من عسكر القبط خمسة آلاف وغنم المسلمون أثقالهم وما كان فيها من الأموال فلما أقبل الصباح اجتمع خالد بالمسلمين وسلم بعضهم على بعض وهنوهم بالسلامة ودخلوا مصر وملكوا دورها وأحاطوا بقصر الشمع فأشرف عليهم أرجانوس بن راعيل أخو المقوقس وقال لهم: يا فتيان العرب اعلموا أن الله قد أمدكم بالنصر وقد فعلت في حقكم كذا وكذا ولولا حيلتي على ابن اخي لما انهزم منكم وقد ظفرتم الآن ونحن نسلم اليكم على شرط أنكم لا تتعرضون لنا ولا تمدون أيديكم لنا بسوء ومن أراد منا أن يبقى على دينه يؤدي الجزية ومن أراد أن يتبعكم يتبعكم فقال له معاذ بن جبل: قد نصرنا الله على الكفار بصدق نياتنا وصلح أعمالنا واتباعنا للحق وانا ما قلنا قولا إلا وفيناه ولا استعملنا الغدر ولا المكر وأنتم لكم الأمان على أنفسكم وأموالكم وحريمكم وأولادكم ومن بقي منكم على دينه فلن نكرهه ومن اتبع ديننا فله ما لنا وعليه ما علينا فلما سمع أرجانوس ذلك نزل إليهم بالمفاتيح فأمنوه وأمنوا من كان معه في القصر وجمعوا أكابر مصر ومشايخها وقالوا: لهم أن الله قد نصرنا عليكم وقد انهزم ملككم منا وأنتم الآن في قبضتنا وقد صرتم مماليكنا ومن أسلم منكم قبلناه ومن أبي استعبدناه فقالوا: أيها الملك ما هكذا بلغنا عنكم قال: وما الذي بلغكم عنا قالوا: سمعنا عنكم أن الله قد أسكن الرحمة في قلوبكم وأنتم تعفون عمن ظلمكم وتحسنون إلى من أساء اليكم وأنت تعلم أننا قوم محكوم علينا ولو كان الأمر الينا لاتبعناكم فارفقوا بنا وانظروا في أحوالنا فقال عمرو لأصحابه وللأمراء ما ترون من الرأي في أمر هؤلاء القوم.
فقال شرحبيل ابن حسنة اصنع ما أمر الله به من العدل فيهم وأحسن إليهم وطيب خواطرهم فاننا إذا قصدنا غير هذه المدينة وسمع أيها الأمير عنك أهل المدينة الأخرى بما فعلته مع أهل مصر يسلمون بغير منازعة ولا حرب فقال معاذ بن جبل وخالد بن الوليد والمقداد وعمار ومالك وربيعة ويزيد القول الذي قاله كاتب وحي رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المعمول به فقال عمرو لأهل مصر قد أمناكم على أنفسكم وأولادكم وحريمكم منه منا عليكم وقد وضعت عنكم جزية هذه السنة وفي السنة الآتية نأخذ منكم الجزية من كل محتلم أربعة دنانير ومن أسلم منكم قبلناه قال فلما سمع أرجانوس ابن راعيل كلام عمرو قال لقد أنصفت وإن الله بهذا نصركم وقد وقفت الآن على صحة دينكم وأنا أشهد أن الله وحده لا شريك له وإن محمدا عبده ورسوله واشهدوا على أن كل ما تركه أخي من الأموال والأصول والثياب والمتاع هو هبة مني اليكم بما فعلتم مع أهل بلدي.

(2/62)


قال: فلما نظر أهل مصر إلى أرجانوس وقد أسلم دخل أكثرهم في الإسلام وعمد عمرو إلى الكنيسة وعملها جامعا وهو المعروف به إلى يومنا هذا وجمع الأموال التي أخذها من وراء القبط المنهزمين ومن منازلهم وما كان في قصر الملك وأخرج الخمس وأعطى كل ذي حق حقه ثم كتب كتابا إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عليه وبعث الخمس والكتاب مع علم بن سارية وسلم المال والكتاب له وسير معه مائة فارس وأمره بالمسير إلى المدينة فاستلم الخمس وسار حتى قدم المدينة وسلم المال والكتاب لعمر بن الخطاب رضي الله عنه فلما قرأه سجد لله شكرا وأمر بالمال إلى بيت المال فقال علم بن سارية يا أمير المؤمنين أن عمرا يسلم عليك ويقول لك أن القبط كانوا استسنوا سنة في نيلهم في كل سنة وذلك أنهم كانوا إذا أبطأ عليهم الوفاء في النيل يأخذون جارية من أحسن الجواري ويزينونها بأحسن زينة ويرمونها في البحر فيأتي الماء ويفي النيل وقد قرب ميقات ذلك ولا يفعل عمرو شيئا إلا باذنك قال فكتب عمر بن الخطاب بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى نيل مصر أما بعد فإن كنت مخلوقا لا تملك ضرا ولا نفعا وأنت تجري من قبل نفسك وبأمرك فانقطع ولا حاجة لنا بك وإن كنت تجري بحول الله وقوته فاجر كما كنت والسلام وأمره أن يدفعه لعمرو بن العاص يرميه فيه وقت الحاجة إليه ثم إنه كتب بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فالسلام عليك وانى أحمد الله اليك وأصلي على نبيه وإذا وصل اليك كتابي فأطلب أعداء الله حيث كانوا وإياك أن تلين جانبك لهم وانظر في أحوال الرعية واعدل فيهم ما استطعت وأطلب العفو بالعفو عن الناس وأجر الناس على عوائدهم وقوانينهم وقرر لهم واجبا في دواوينهم وأعل رسوم العافية بالعدل فإنما هي أيام تمضي ومدة تنقضي فإما ذكر جميل واما خزي طويل ثم إنه سلم الكتاب إلى علم بن سارية فسار هو ومن معه إلى أن قدموا مصر وسلم الكتاب إلى عمرو فأما كتابه فقرأه على المسلمين وأما كتاب النيل فإنهم قد كانوا عدوا ليالي الوفاء وتوقف النيل عن الوفاء وقد يئس الناس من الوفاء في تلك السنة فمضى عمرو إلى النيل وخاطبه ورمى فيه كتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال فلما رماه فيه هاج البحر وزاد فوق الحد ببركة عمر بن الخطاب وانقطعت عن أهل مصر تلك السنة السيئة ببركة عمر رضي الله عنه.
حدثنا محمد بن يحيى بن سالم عن عدي بن يحيى بن عوف قال لما بلغنا أن عمرو افتح مصر وأتى إلى الكنيسة المعظمة عندهم وجد في مذبحها بيتا مغلقا وإذا فيه صورة من الفضة وأمام الصورة شخص آخر وفي يده أعلام وهي على صفة الصورة التي وجدها النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة لما فتح مكة فدعا عمرو بالقسوس وقال لهم: ما هذه الصورة قالوا له: هذه صورة إبراهيم وأبيه آزر فتبسم عمرو وقال: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ

(2/63)


يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران:67] فقال معاذ بن جبل لما قدمت من اليمن سمعت أبا هريرة يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول.
"يلقي ابراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجهه قترة فيقول له ابراهيم ألم أقل لك لا تعصني فيقول آزر اليوم لا أعصيك فيقول ابراهيم يا رب إنك وعدتني أن لا تخزني يوم يبعثون فأي خزي أخزى من هذا فيقول الله حرمت الجنة على الكافرين ثم يقول له يا ابراهيم انظر إلى ما تحت قدميك فينظر إلى الريح وقد أخذت اباه فتلقيه في النار" قال ثم أمر عمرو بالصورتين فكسرتا وعبر عسكر المسلمون إلى الجانب الغربي وقد تقدم خالد فترجل إلى نحو الاسكندرية وتقدم على مقدمته عبد الله يوقنا وسار يوما وليلة هو وبنو عمه وهم بزي الروم.

(2/64)