الأخبار الطوال

[ولاية على بن ابى طالب ع]

بيعه على بن ابى طالب
ثم قتل [4] عثمان رضى الله عنه، فلما قتل بقي الناس ثلاثة ايام بلا امام، وكان الذى يصلى بالناس الغافقي، ثم بايع الناس عليا رضى الله عنه، فقال: ايها الناس، بايعتموني على ما بويع عليه من كان قبلي، وانما الخيار قبل ان تقع البيعه، فإذا وقعت فلا خيار، وانما على الامام الاستقامة، وعلى الرعية التسليم، وان هذه بيعه عامه، من ردها رغب عن دين الاسلام، وانها لم تكن فلته.
ثم ان عليا رضى الله عنه اظهر انه يريد السير الى العراق، وكان على الشام يومئذ معاويه بن ابى سفيان، وليها لعمر بن الخطاب سبعا، ووليها جميع ولايه عثمان
__________
[1] السلب: كل ما على الإنسان من اللباس.
[2] سنه ثلاثين من التاريخ الهجرى اى 650 م.
[3] مدينه قديمه بين نيسابور ومرو، في وسط الطريق، وهي مدينه معطشة، ليس بها ماء.
[4] وكان قتله في 18 ذي الحجه سنه 3135 مايو 655 م.

(1/140)


رضى الله عنه اثنتى عشره سنه، فواتاه الناس على السير الا ثلاثة نفر: سعد بن ابى وقاص، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، ومحمد بن مسلمه الأنصاري.
وبعث على رضى الله عنه عماله الى الأمصار، فاستعمل عثمان بن حنيف على البصره، وعماره بن حسان على الكوفه، وكانت له هجره، واستعمل عبد الله بن عباس على جميع ارض اليمن، واستعمل قيس بن سعد بن عباده على مصر، واستعمل سهل بن حنيف على الشام.
فاما سهل فانه لما انتهى الى تبوك، وهي تخوم ارض الشام استقبله خيل لمعاوية، فردوه، فانصرف الى على، فعلم على رضى الله عنه عند ذلك ان معاويه قد خالف، وان اهل الشام بايعوه.
وحضر الموسم، فاستأذن الزبير وطلحه عليا في الحج، فاذن لهما، وقد كانت عائشة أم المؤمنين خرجت قبل ذلك معتمره، وعثمان محصور، وذلك قبل مقتله بعشرين يوما، فلما قضت عمرتها اقامت، فوافاها الزبير وطلحه.
وكتب على بن ابى طالب الى معاويه اما بعد، فقد بلغك الذى كان من مصاب عثمان رضى الله عنه، واجتماع الناس على ومبايعتهم لي، فادخل في السلم او ائذن بحرب. وبعث الكتاب مع الحجاج بن غزيه الأنصاري، فلما قدم على معاويه، واوصل كتاب على اليه، فقراه، فقال: انصرف الى صاحبك، فان كتابي مع رسولي على اثرك، فانصرف الحجاج، وامر معاويه بطومارين [1] ، فوصل أحدهما بالآخر، ولفا، ولم يكتب فيهما شيئا الا بسم الله الرحمن الرحيم، وكتب على العنوان من معاويه بن ابى سفيان الى على بن ابى طالب.
ثم بعث به مع رجل من عبس، له لسان وجسارة، فقدم العبسى على على، فناوله الكتاب، ففتحه، فلم ير فيه شيئا، الا بسم الله الرحمن الرحيم، وعند على وجوه الناس.
__________
[1] الطامور والطومار: الصحيفة.

(1/141)


فقام العبسى، فقال: ايها الناس، هل فيكم احد من عبس؟ قالوا: نعم. قال: فاسمعوا منى، وافهموا عنى، انى قد خلفت بالشام خمسين الف شيخ خاضبى لحاهم بدموع اعينهم تحت قميص عثمان، رافعيه على اطراف الرماح، قد عاهدوا الله الا يشيموا [1] سيوفهم حتى يقتلوا قتلته، او تلحق ارواحهم بالله.
فقام اليه خالد بن زفر العبسى، فقال: بئس لعمر الله وافد الشام أنت، اتخوف المهاجرين والانصار بجنود اهل الشام وبكائهم على قميص عثمان، فو الله ما هو بقميص يوسف ولا بحزن يعقوب، ولئن بكوا عليه بالشام، فقد خذلوه بالعراق.
ثم ان المغيره بن شعبه دخل على على رضى الله عنه، فقال: يا امير المؤمنين، ان لك حق الصحبه، فاقر معاويه على ما هو عليه من امره الشام، وكذلك جميع عمال عثمان، حتى إذا اتتك طاعتهم وبيعتهم استبدلت حينئذ او تركت، فقال على رضى الله: انا ناظر في ذلك.
وخرج عنه المغيره ثم عاد اليه من غد، فقال: يا امير المؤمنين، انى اشرت أمس عليك براى، فلما تدبرته عرفت خطاه، والرأي ان تعاجل معاويه وسائر عمال عثمان بالعزل، لتعرف السامع المطيع من العاصي، فتكافئ كلا بجزائه ثم قام، فتلقاه ابن عباس داخلا، فقال لعلى رضى الله عنه: فيم أتاك المغيره؟
فاخبره على بما كان من مشورته بالأمس، وما اشار عليه بعد، فقال ابن عباس: اما أمس فانه نصح لك، واما اليوم فغشك.
وبلغ المغيره ذلك، فقال: صدق ابن عباس، نصحت له، فلما رد نصحى بدلت قولي، ولما خاض الناس في ذلك سار المغيره الى مكة، فأقام بها ثلاثة اشهر، ثم انصرف الى المدينة.
ثم ان عليا رضى الله عنه نادى في الناس بالتأهب للمسير الى العراق، فدخل عليه سعد بن ابى وقاص، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، ومحمد بن مسلمه،
__________
[1] شام السيف شيما: سله او اغمده وهو من الاضداد.

(1/142)


فقال لهم: قد بلغنى عنكم هناه كرهتها لكم، فقال سعد: قد كان ما بلغك، فأعطني سيفا يعرف المسلم من الكافر حتى اقاتل به معك.
وقال عبد الله بن عمر: أنشدك الله ان تحملني على ما لا اعرف.
وقال محمد بن مسلمه: ان رسول الله ص أمرني ان اقاتل بسيفي ما قوتل به المشركون، فإذا قوتل اهل الصلاة ضربت به صخر احد حتى ينكسر، وقد كسرته بالأمس. ثم خرجوا من عنده.
ثم ان اسامه بن زيد دخل، فقال: اعفنى من الخروج معك في هذا الوجه، فانى عاهدت الله الا اقاتل من يشهد ان لا اله الا الله.
وبلغ ذلك الاشتر، فدخل على على، فقال: يا امير المؤمنين، انا وان لم نكن من المهاجرين والانصار، فانا من «التابعين باحسان،» وان القوم وان كانوا اولى بما سبقونا اليه فليسوا باولى مما شركناهم فيه، وهذه بيعه عامه، الخارج منها طاعن مستعتب، فحض هؤلاء الذين يريدون التخلف عنك باللسان، فان أبوا فادبهم بالحبس فقال على: بل ادعهم ورأيهم الذى هم عليه.
ولما هم على رضى الله عنه بالمسير الى العراق، اجتمع اشراف الانصار، فاقبلوا حتى دخلوا على على، فتكلم عقبه بن عامر، وكان بدريا [1] فقال: يا امير المؤمنين ان الذى يفوتك من الصلاة في مسجد رسول الله ص، والسعى بين قبره ومنبره اعظم مما ترجو من العراق، فان كنت انما تسير لحرب الشام، فقد اقام عمر فينا، وكفاه سعد زحف القادسية، وابو موسى زحف الاهواز، وليس من هؤلاء رجل الا ومثله معك، والرجال اشباه، والأيام دول، فقال على ان الأموال والرجال بالعراق، ولأهل الشام وثبه أحب ان أكون قريبا منها. ونادى في الناس بالمسير، فخرج وخرج معه الناس.
__________
[1] ممن شهدوا غزوه بدر.

(1/143)


وقعه الجمل
[1] قالوا: ولما قضى الزبير وطلحه وعائشة حجهم تأمروا في مقتل عثمان، فقال الزبير وطلحه لعائشة: ان اطعتنا طلبنا بدم عثمان. قالت: وممن تطلبون دمه؟، قالا: انهم قوم معروفون، وانهم بطانه على ورؤساء اصحابه، فاخرجى معنا حتى ناتى البصره فيمن تبعنا من اهل الحجاز، وان اهل البصره لو قد رأوك لكانوا جميعا يدا واحده معك. فاجابتهم الى الخروج، فسارت والناس حولها يمينا وشمالا.
ولما فصل على من المدينة نحو الكوفه بلغه خبر الزبير وطلحه وعائشة، فقال لأصحابه: ان هؤلاء القوم قد خرجوا يؤمون البصره، لما دبروه بينهم، فسيروا بنا على أثرهم، لعلنا نلحقهم قبل موافاتهم، فإنهم لو قد وافوها لمال معهم جميع أهلها، قالوا: سر بنا يا امير المؤمنين. فسار حتى وافى ذا قار [2] ، فأتاه الخبر بموافاه القوم البصره، ومبايعه اهل البصره لهم الا بنى سعد، فإنهم لم يدخلوا فيما دخل فيه الناس، وقالوا لأهل البصره: لا نكون معكم ولا عليكم، وقعد عنهم أيضا كعب بن سور في اهل بيته، حتى اتته عائشة في منزله، فأجابها، وقال: اكره الا اجيب أمي، وكان كعب على قضاء البصره.
ولما انتهى الخبر الى على وجه هاشم بن عتبة بن ابى وقاص ليستنهض اهل الكوفه، ثم اردفه بابنه الحسن وبعمار بن ياسر، فساروا حتى دخلوا الكوفه، وابو موسى يومئذ بالكوفه، وهو جالس في المسجد، والناس محتوشوه [3]
__________
[1] وقعت في منتصف جمادى الآخرة سنه 36 نوفمبر 656 م.
[2] مكان قريب من البصره، اشتهر بيوم لبنى شيبان فيه، وكان ابرويز اغزاهم جيشا فظفرت بنو شيبان، وهو أول يوم انتصرت فيه العرب على العجم.
[3] احتوش القوم فلانا واحتوشوا عليه جعلوه وسطهم.

(1/144)


وهو يقول: يا اهل الكوفه، أطيعوني تكونوا جرثومة [1] من جراثيم العرب، يأوي إليكم المظلوم، ويامن فيكم الخائف، ايها الناس، ان الفتنة إذا اقبلت شبهت، وإذا ادبرت تبينت، وان هذه الفتنة الباقره [2] لا يدرى من اين تأتي، ولا من اين تؤتى، شيموا سيوفكم، وانزعوا اسنه رماحكم، واقطعوا اوتار قسيكم، والزموا قعور البيوت، ايها الناس، ان النائم في الفتنة خير من القائم، والقائم خير من الساعى.
فانتهى الحسن بن على وعمار رضى الله عنهما الى المسجد الأعظم وقد اجتمع عالم من الناس على ابى موسى، وهو يقول لهم هذا وأشباهه، فقال له الحسن: اخرج عن مسجدنا، وامض حيث شئت. ثم صعد الحسن المنبر، وعمار صعد معه، فاستنفرا الناس، فقام حجر بن عدى الكندى، وكان من افاضل اهل الكوفه فقال: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا، رحمكم الله فأجابه الناس من كل وجه: سمعا وطاعه لأمير المؤمنين، نحن خارجون على اليسر والعسر والشده والرخاء.
فلما أصبحوا من الغد خرجوا مستعدين، فاحصاهم الحسن، فكانوا تسعه آلاف وستمائه وخمسين رجلا، فوافوا عليا بذى قار قبل ان يرتحل. فلما هم بالمسير غلس الصبح، ثم امر مناديا، فنادى في الناس بالرحيل، فدنا منه الحسن، فقال: يا أبت اشرت عليك حين قتل عثمان وراح الناس إليك وغدوا، وسالوك ان تقوم بهذا الأمر الا تقبله حتى تأتيك طاعه جميع الناس في الافاق، واشرت عليك حين بلغك خروج الزبير وطلحه بعائشة الى البصره ان ترجع الى المدينة، فتقيم في بيتك، واشرت عليك حين حوصر عثمان ان تخرج من المدينة، فان قتل قتل وأنت غائب، فلم تقبل رأيي في شيء من ذلك.
__________
[1] جرثومة كل شيء اصله ومجتمعه.
[2] يعنى انها مفسده للدين ومفرقه بين الناس ومشتته أمورهم.

(1/145)


[فقال له على: اما انتظاري طاعه جميع الناس من جميع الافاق، فان البيعه لا تكون الا لمن حضر الحرمين من المهاجرين والانصار، فإذا رضوا وسلموا وجب على جميع الناس الرضا والتسليم، واما رجوعى الى بيتى والجلوس فيه، فان رجوعى لو رجعت كان غدرا بالأمة، ولم آمن ان تقع الفرقة، وتتصدع عصا هذه الامه، واما خروجى حين حوصر عثمان فكيف أمكنني ذلك؟! وقد كان الناس أحاطوا بي كما أحاطوا بعثمان، فاكفف يا بنى عما انا اعلم به منك.]
ثم سار بالناس، فلما دنا من البصره كتب الكتائب، وعقد الالويه والرايات، وجعلها سبع رايات، عقد لحمير وهمدان رايه، وولى عليهم سعيد بن قيس الهمدانى، وعقد لمذحج والأشعريين رايه، وولى عليهم زياد ابن النضر الحارثى، ثم عقد لطيئ رايه، وولى عليهم عدى بن حاتم، وعقد لقيس وعبس وذبيان رايه، وولى عليهم سعد بن مسعود الثقفى عم المختار بن ابى عبيد، وعقد لكنده وحضرموت وقضاعه ومهره رايه، وولى عليهم حجر ابن عدى الكندى، وعقد للازد وبجيله وخثعم وخزاعة رايه، وولى عليهم مخنف بن سليم الأزدي، وعقد لبكر وتغلب وافناء ربيعه رايه، وولى عليهم محدوج الذهلي، وعقد لسائر قريش والانصار وغيرهم من اهل الحجاز رايه، وولى عليهم عبد الله بن عباس، فشهد هؤلاء الجمل وصفين والنهر، وهم اسباع كذلك، وكان على الرجاله جندب بن زهير الأزدي.
ولما بلغ طلحه والزبير ورود على رضى الله عنه بالجيوش، وقد اقبل حتى نزل الخريبة [1] فعباهم طلحه والزبير، وكتباهم كتائب، وعقدا الالويه، فجعلا على الخيل محمد بن طلحه، وعلى الرجاله عبد الله بن الزبير، ودفعا اللواء الأعظم الى عبد الله بن حرام بن خويلد، ودفعا لواء الأزد الى كعب بن سور، وولياه الميمنه، ووليا قريشا وكنانه عبد الرحمن بن عتاب بن اسيد، ووليا امر
__________
[1] محله من محال البصره ينسب إليها كثيرون، وقد كانت مدينه للفرس خربت لتواتر الغارات عليها، ولما مصرت البصره ابتنيت الى جانبها.

(1/146)


الميسره عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وهو الذى قالت عائشة فيه: وددت لو قعدت في بيتى ولم اخرج في هذا الوجه لكان ذلك أحب الى من عشره اولاد، لو رزقتهن من رسول الله ص على فضل عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وعقله وزهده. ووليا على قيس مجاشع بن مسعود، وعلى تيم الرباب عمرو بن يثربى، وعلى قيس والانصار وثقيف عبد الله بن عامر بن كريز، وعلى خزاعة عبد الله بن خلف الخزاعي، وعلى قضاعه عبد الرحمن بن جابر الراسبى، وعلى مذحج الربيع بن زياد الحارثى، وعلى ربيعه عبد الله بن مالك.
قالوا: واقام على رضى الله عنه ثلاثة ايام يبعث رسله الى اهل البصره، فيدعوهم الى الرجوع الى الطاعة والدخول في الجماعه، فلم يجد عند القوم اجابه، فزحف نحوهم يوم الخميس لعشر مضين من جمادى الآخرة، وعلى ميمنته الاشتر، وعلى ميسرته عمار بن ياسر، والراية العظمى في يد ابنه محمد بن الحنفيه، ثم سار نحو القوم حتى دنا بصفوفه من صفوفهم، فواقفهم من صلاه الغداة الى صلاه الظهر، يدعوهم ويناشدهم، واهل البصره وقوف تحت رايتهم، وعائشة في هودجها امام القوم.
قالوا: وان الزبير لما علم ان عمارا مع على رضى الله عنه ارتاب بما كان فيه، [لقول رسول الله ص: الحق مع عمار، وتقتلك الفئة الباغيه.
] قالوا: ثم ان عليا دنا من صفوف اهل البصره، وارسل الى الزبير يسأله، ليدنو، فيكلمه بما يريد، واقبل الزبير حتى دنا من على رضى الله عنه، فوقفا جميعا بين الصفين حتى اختلفت اعناق فرسيهما، فقال له على: ناشدتك الله يا أبا عبد الله، هل تذكر يوما مررنا انا وأنت برسول الله ص ويدي في يدك، [فقال لك رسول الله ص: اتحبه؟، قلت: نعم، يا رسول الله، فقال لك: اما انك تقاتله، وأنت له ظالم.] ..؟، فقال الزبير: نعم، انا ذاكر له.

(1/147)


ثم انصرف على الى قومه، وقال لأصحابه: احملوا على القوم، فقد أعذرنا اليهم، فحمل بعضهم على بعض، فاقتتلوا. بالقنا والسيوف. واقبل الزبير حتى دنا من ابنه عبد الله وبيده الراية العظمى، فقال: يا بنى، انا منصرف، قال: وكيف يا أبت؟، قال: ما لي في هذا الأمر من بصيره، وقد اذكرني على امرا، قد كنت غفلت عنه، فانصرف يا بنى معى، فقال عبد الله: والله لا ارجع او يحكم الله بيننا. فتركه الزبير، ومضى نحو البصره ليتحمل منها، ويمضى نحو الحجاز. ويقال: ان طلحه لما علم بانصراف الزبير هم ان ينصرف، فعلم مروان بن الحكم ما يريده، فرماه بسهم، فوقع في ركبته، فنزف حتى مات.
واقبل الزبير حتى دخل البصره، وامر غلمانه ان يتحملوا، فيلحقوا به، وخرج من ناحيه الخريبة، فمر بالأحنف بن قيس، وهو جالس بفناء داره، وحوله قومه، وقد كانوا اعتزلوا الحرب، فقال الأحنف: هذا الزبير، ولقد انصرف لامر، فهل فيكم من يأتينا بخبره؟، فقال له عمرو بن جرموز: انا آتيك بخبره. فركب فرسه، وتقلد سيفه، ومضى في اثره، وذلك قبل صلاه الظهر، فلحقه، وقد خرج من دور البصره، فقال له: أبا عبد الله ما الذى تركت عليه القوم؟، قال الزبير: تركتهم، وبعضهم يضرب وجوه بعض بالسيف، قال: فأين تريد؟، قال: انصرف لحال بالي، فما لي في هذا الأمر من بصيره. قال عمرو بن جرموز: وانا أيضا اريد الخريبة، فسر بنا. فسارا حتى دنا وقت الصلاة، فقال الزبير: ان هذا وقت الصلاة، وانا اريد ان أقضيها، قال عمرو: وانا اريد ان أقضيها، قال الزبير: أنت منى في الامان، فهل انا منك كذلك، قال: نعم. فنزلا جميعا، وقام الزبير في الصلاة، فلما سجد حمل عليه عمرو بالسيف، فضربه حتى قتله، وأخذ درعه وسيفه وفرسه، واقبل حتى اتى عليا، وهو واقف، والناس

(1/148)


يجتلدون بالسيوف، فالقى السلاح بين يديه، فلما نظر على رضى الله عنه الى السيف، [قال: ان هذا السيف طالما فرج به صاحبه الكرب عن وجه رسول الله ص، ابشر يا قاتل ابن صفيه بالنار،] فقال عمرو: نقتل أعداءكم، وتبشروننا بالنار؟!.
قالوا: ثم ان عليا امر ابنه محمد بن الحنفيه، فقال: تقدم برايتك. وكان معه الراية العظمى، فتقدم بها وقد لاث [1] اهل البصره بعبد الله بن الزبير، وقلدوه الأمر، فتقدم محمد بالراية، فاستقبله اهل البصره بالقنا والسيوف، فوقف بالراية، فتناولها منه على رضى الله عنه، وحمل وحمل معه الناس، ثم ناولها ابنه محمدا، واشتد القتال وحميت الحرب، وانكشف الناس عن الجمل، وقتل كعب بن سور، وثبتت الأزد وضبة، فقاتلوا قتالا شديدا.
فلما راى على شده صبر اهل البصره جمع اليه حماه اصحابه، فقال: ان هؤلاء القوم قد محكوا [2] ، فاصدقوهم القتال، فخرج الاشتر وعدى بن حاتم وعمرو بن الحمق وعمار بن ياسر في عددهم من اصحابهم، فقال عمرو بن يثربى لقومه، وكانوا في ميمنه اهل البصره ان هؤلاء القوم الذين قد برزوا إليكم من اهل العراق هم قتله عثمان، فعليكم بهم، وتقدم امام قومه بنى ضبة، فقاتل قتالا شديدا، وكثرت النبل في الهودج، حتى صار كالقنفذ، وكان الجمل مجففا [3] ، والهودج مطبق بصفائح الحديد.
وصبر الفريقان بعضهم لبعض حتى كثرت القتلى وثار القتام، وطلت الالويه والرايات، وحمل على بنفسه، وقاتل حتى انثنى سيفه، وخرج فارس اهل البصره عمرو بن الأشرف، لا يخرج اليه احد من اصحاب على الا قتله، وهو يرتجز، ويقول:
__________
[1] اجتمعوا به، ولاث به يلوث كلاذ.
[2] المحك: التمادي في الغضب.
[3] اى عليه تجفاف، وهو ما يوضع على الخيل والإبل من حديد او غيره في الحرب

(1/149)


يا أمنا يا خير أم ... والام تغذو ولدها وترحم
الا ترين كم جواد ... وتختلى هامته والمعصم
فخرج اليه من اهل الكوفه الحارث بن زهير الأزدي، وكان من فرسان على، فاختلفا ضربتين، فاوهط [1] كل منهما صاحبه، فخرا جميعا صريعين، يفحصان [2] بأرجلهما حتى ماتا.
قالوا: وانكشف اهل البصره انكشافه، وانتهى الاشتر الى الجمل، وعبد الله بن الزبير آخذ بخطامه، فرمى الاشتر بنفسه على عبد الله بن الزبير، فصار تحته، فصاح عبد الله بن الزبير: اقتلوني ومالكا، فثاب الى ابن الزبير اصحابه.
فلما خاف الاشتر على نفسه قام عن عبد الله بن الزبير، وقاتل حتى خلص الى اصحابه، وقد عار فرسه، فقال لهم: ما أنجاني الا قول ابن الزبير: اقتلوني ومالكا، فلم يدر القوم من مالك، ولو قال اقتلوني والاشتر لقتلوني.
وقاتل عدى بن حاتم حتى فقئت احدى عينيه، وقاتل عمرو بن الحمق، وكان من عباد اهل الكوفه، ومعه النساك قتالا شديدا، فضرب بسيفه حتى انثنى، ثم انصرف الى أخيه رياح، فقال له رياح: يا أخي، ما احسن ما نصنع اليوم، ان كانت الغلبه لنا.
قالوا: ولما راى على لوث اهل البصره بالجمل، وانهم كلما كشفوا عنه عادوا، فلاثوا به، قال لعمار وسعيد بن قيس وقيس بن سعد بن عباده والاشتر وابن بديل ومحمد بن ابى بكر وأشباههم من حماه اصحابه: ان هؤلاء لا يزالون يقاتلون ما دام هذا الجمل نصب اعينهم، ولو قد عقر فسقط لم تثبت له ثابته، فقصدوا بذوي الجد من اصحابه قصد الجمل حتى كشفوا اهل البصره عنه، وافضى
__________
[1] الايهاط: الإثخان ضربا، او الرمى المهلك.
[2] يتمرغان في التراب كما تفحص الدجاجة لتتخذ لها أفحوصة تبيض فيها.

(1/150)


اليه رجل من مراد الكوفه، يقال له اعين بن ضبيعه، فكشف عرقوبه بالسيف، فسقط وله رغاء، فغرق في القتلى، ومال الهودج بعائشة، فقال على لمحمد بن ابى بكر: تقدم الى أختك، فدنا محمد، فادخل يده في الهودج، فنالت يده ثياب عائشة، فقالت: انا لله، من أنت، ثكلتك أمك، فقال انا اخوك محمد.
ونادى على رضى الله عنه في اصحابه: [لا تتبعوا موليا، ولا تجهزوا على جريح، ولا تنتهبوا مالا، ومن القى سلاحه فهو آمن، ومن اغلق بابه فهو آمن.
] قال: فجعلوا يمرون بالذهب والفضه في معسكرهم والمتاع، فلا يعرض له احد الا ما كان من السلاح الذى قاتلوا به، والدواب التي حاربوا عليها، فقال له بعض اصحابه: يا امير المؤمنين، كيف حل لنا قتالهم، ولم يحل لنا سبيهم وأموالهم [فقال على رضى الله عنه: ليس على الموحدين سبى، ولا يغنم من أموالهم الا ما قاتلوا به وعليه، فدعوا ما لا تعرفون، والزموا ما تؤمرون.
] قال: وامر على محمد بن ابى بكر ان ينزل عائشة فانزلها دار عبد الله بن خلف الخزاعي، وكان عبد الله فيمن قتل ذلك اليوم، فنزلت عند امراته صفيه.
وقال على رضى الله عنه لمحمد: انظر هل وصل الى أختك شيء؟ قال: أصاب ساعدها خدش سهم، دخل بين صفائح الحديد.
ودخل على رضى الله عنه البصره، فاتى مسجدها الأعظم، واجتمع الناس اليه، فصعد المنبر، فحمد الله واثنى عليه وصلى على النبي ص، ثم قال: اما بعد، فان الله ذو رحمه واسعه وعقاب اليم، فما ظنكم بي يا اهل البصره جند المرأة واتباع البهيمة؟ رغا، فقاتلتم، وعقر، فانهزمتم، اخلاقكم دقاق، وعهدكم شقاق، وماؤكم زعاق [1] ، أرضكم قريبه من الماء، بعيده من السماء،
__________
[1] ماء زعاق، مر غليظ لا يطاق شربه.

(1/151)


وايم الله ليأتين عليها زمان لا يرى منها الا شرفات مسجدها في البحر، مثل جؤجؤ [1] السفينة، انصرفوا الى منازلكم. ثم نزل، وانصرف الى معسكره، وقال لمحمد بن ابى بكر: سر مع أختك حتى توصلها الى المدينة، وعجل اللحوق بي بالكوفه، فقال: اعفنى من ذلك يا امير المؤمنين، فقال على: لا اعفيك منه، ومالك بد. فسار بها حتى أوردها المدينة.
وشخص على عن البصره، واستعمل عليها عبد الله بن عباس، فلما انتهى الى المربد [2] التفت الى البصره، [ثم قال: الحمد لله الذى أخرجني من شر البقاع ترابا، وأسرعها خرابا، وأقربها من الماء، وأبعدها من السماء.] ثم سار، فلما اشرف على الكوفه، [قال: ويحك يا كوفان، ما اطيب هواءك، واغذى تربتك، الخارج منك بذنب، والداخل إليك برحمه، لا تذهب الأيام والليالى، حتى يجيء إليك كل مؤمن، ويبغض المقام بك كل فاجر، وتعمرين، حتى ان الرجل من اهلك ليبكر الى الجمعه فلا يلحقها من بعد المسافه.
] قالوا: وكان مقدمه الكوفه يوم الاثنين لاثنتى عشره ليله خلت من رجب سنه ست وثلاثين، فقيل له: يا امير المؤمنين، اتنزل القصر؟، قال: لا حاجه لي في نزوله، لان عمر بن الخطاب رضى الله عنه كان يبغضه، ولكنى نازل الرحبه، ثم اقبل حتى دخل المسجد الأعظم، فصلى ركعتين، ثم نزل الرحبه، فقال الشنى يحرض عليا على المسير الى الشام:
قل لهذا الامام قد خبت الحرب ... وتمت بذلك النعماء
وفرغنا من حرب من نكث العهد ... وبالشام حيه صماء
تنفث السم، ما لمن نهشته ... فارمها قبل ان تعض شفاء
قالوا: وان أول جمعه صلى بالكوفه خطب، فقال: الحمد لله احمده،
__________
[1] الجؤجؤ: الصدر.
[2] المربد: فضاء وراء البيوت يرتفق به، وبه سمى مربد البصره.

(1/152)


واستعينه واستهديه، وأومن به واتوكل عليه، واعوذ بالله من الضلالة والردى، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، واشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له، واشهد ان محمدا عبده ورسوله، انتخبه لرسالته، واختصه لتبليغ امره، اكرم خلقه عليه، واحبهم اليه، فبلغ رساله ربه، ونصح لامته، وادى الذى عليه ص، اوصيكم عباد الله بتقوى الله، فان تقوى الله خير ما تواصى به عباد الله، واقربه لرضوان الله، وافضله في عواقب الأمور عند الله، وبتقوى الله أمرتم، وللإحسان خلقتم، فاحذروا من الله ما حذركم من نفسه، فانه حذر بأسا شديدا، واخشوا الله خشيه ليست بتعذير، واعملوا من غير رياء ولا سمعه، فانه من عمل لغير الله وكله الله الى ما عمل، ومن عمل مخلصا له تولاه الله، واعطاه افضل نيته، وأشفقوا من عذاب الله، فانه لم يخلقكم عبثا، ولم يترك شيئا من امركم سدى، قد سمى آثاركم، وعلم اسراركم، واحصى اعمالكم، وكتب آجالكم، فلا تغرنكم الدنيا، فإنها غراره لأهلها، والمغرور من اغتر بها، والى فناء ما هي، وان الآخرة هي دار القرار، نسأل الله منازل الشهداء، ومرافقه الأنبياء، ومعيشة السعداء، فإنما نحن به وله.
ثم وجه عماله الى البلدان، فاستعمل على المدائن وجوخى [1] كلها يزيد بن قيس الارحبى، وعلى الجبل وأصبهان محمد بن سليم، وعلى البهقباذات قرط بن كعب، وعلى كسكر وحيزها قدامه بن عجلان الأزدي، وعلى بهرسير واستانها عدى ابن الحارث، وعلى استان العالي حسان بن عبد الله البكرى، وعلى استان الزوابي سعد [2] بن مسعود الثقفى، وعلى سجستان وحيزها ربعي بن كاس، وعلى خراسان كلها خليد بن كاس.
__________
[1] كوره واسعه في سواد بغداد.
[2] في الأصل: سعيد.

(1/153)


فاما خليد بن كاس فانه لما دنا من خراسان بلغه ان اهل نيسابور خلعوا يدا من طاعه، وانه قدمت عليهم بنت لكسرى من كابل، فمالوا معها، فقاتلهم خليد، فهزمهم، وأخذ ابنه كسرى بأمان، وبعث بها الى على. فلما ادخلت عليه، قال لها: اتحبين ان ازوجك من ابنى هذا؟ يعنى الحسن، قالت: لا اتزوج أحدا على راسه احد، فان أنت احببت رضيت بك، قال: انى شيخ، وابنى هذا من فضله كذا وكذا، قالت: قد اعطيتك الجمله. فقام رجل من عظماء دهاقين العراق، يسمى نرسى، فقال: يا امير المؤمنين، قد بلغك انى من سنخ [1] المملكة، وانا قرابتها، فزوجنيها فقال: هي املك بنفسها، ثم قال لها: انطلقي حيث شئت، وانكحى من احببت، لا باس عليك.
واستعمل على الموصل، ونصيبين، ودارا، وسنجار، وآمد، وميافارقين، وهيت، وعانات، وما غلب عليها من ارض الشام الاشتر، فسار إليها، فلقيه الضحاك بن قيس الفهري، وكان عليها من قبل معاويه بن ابى سفيان، فاقتتلوا بين حران [2] والرقة [3] بموضع يقال له المرج الى وقت المساء. وبلغ ذلك معاويه، فامد الضحاك بعبد الرحمن بن خالد بن الوليد في خيل عظيمه، وبلغ ذلك الاشتر، فانصرف الى الموصل، فأقام بها يقاتل من أتاه من اجناد معاويه، ثم كانت وقعه صفين.
__________
[1] السنخ: الأصل من كل شيء.
[2] حران: مدينه قديمه فيما بين النهرين، قاعده بلاد مضر، فتحها العرب على يد عياض بن غنم سنه 639 م، وقد اشتهرت بالفلاسفه والعلماء امثال ثابت بن قره والبتانى.
[3] الرقة: قاعده ديار مضر في الجزيرة على الفرات، وعندها قطع على بن ابى طالب نهر الفرات في وقعه صفين سنه 656 م، وفيها آثار قديمه.

(1/154)


وقعه صفين
[1] قالوا: وضربت الركبان الى الشام بنعي عثمان، وتحريض معاويه على الطلب بدمه، فبينا معاويه ذات يوم جالس إذ دخل عليه رجل، فقال: السلام عليك يا امير المؤمنين، فقال معاويه: وعليك، من أنت، لله أبوك؟ فقد روعتني بتسليمك على بالخلافة قبل ان انا لها، فقال: انا الحجاج بن خزيمة بن الصمة، قال: ففيم قدمت؟، قال: قدمت قاصدا إليك بنعي عثمان، ثم أنشأ يقول:
ان بنى عمك عبد المطلب ... هم قتلوا شيخكم غير الكذب
وأنت اولى الناس بالوثب فثب ... وسر مسير المحزئل [2] المتلئب
قال: ثم انى كنت فيمن خرج مع يزيد بن اسد لنصر عثمان، فلم نلحقه، فلقيت رجلا، ومعى الحارث بن زفر، فسألناه عن الخبر، فأخبرنا بقتل عثمان، وزعم انه ممن شايع على قتله، فقتلناه، وانى اخبرك، انك تقوى بدون ما يقوى به على، لان معك قوما لا يقولون إذا سكت، ويسكتون إذا نطقت، ولا يسألون إذا امرت، ومع على قوم يقولون إذا قال، ويسألون إذا سكت، فقليلك خير من كثيره، وعلى لا يرضيه الا سخطك، ولا يرضى بالعراق دون الشام، وأنت ترضى بالشام دون العراق، فضاق معاويه بما أتاه به الحجاج بن خزيمة ذرعا، وقال:
أتاني امر فيه للناس غمة ... وفيه بكاء للعيون طويل
مصاب امير المؤمنين، وهذه ... تكاد لها صم الجبال تزول
فلله عينا من راى مثل هالك ... اصيب بلا ذحل وذاك جليل [3]
__________
[1] كان مبدأ محاربات صفين في أول صفر سنه 37 هيوليه سنه 657.
[2] المحزئل: المرتفع.
[3] الذحل: الثار.

(1/155)


تداعت عليه بالمدينة عصبة ... فريقان، منهم قاتل وخذول
دعاهم، فصموا عنه عند دعائه ... وذاك على ما في النفوس دليل
سانعى أبا عمرو بكل مثقف ... وبيض لها في الدارعين صليل
تركتك للقوم الذين تظافروا ... عليك، فماذا بعد ذاك اقول
فلست مقيما ما حييت ببلدة ... اجر بها ذيلي وأنت قتيل
واما التي فيها مودة بيننا ... فليس إليها ما حييت سبيل
سالقحها حربا عوانا ملحة ... وانى بها من عامنا لكفيل
وكتب على الى جرير بن عبد الله البجلي، وكان عامل عثمان بأرض الجبل مع زحر بن قيس الجعفى، يدعوه الى البيعه له، فبايع وأخذ بيعه من قبله، وسار حتى قدم الكوفه.
وكتب الى الاشعث بن قيس بمثل ذلك، وكان مقيما باذربيجان طول ولايه عثمان بن عفان، وكانت ولايته مما عتب الناس فيه على عثمان، لأنه ولاه عند مصاهرته اياه، وتزويج ابنه الاشعث من ابنه، ويقال ان الاشعث هو الذى افتتح عامه اذربيجان، وكان له بها اثر ونصح واجتهاد، وكان كتابه اليه مع زياد بن مرحب، فبايع لعلى، وسار حتى قدم عليه الكوفه.
وان عليا ارسل جرير بن عبد الله الى معاويه يدعوه الى الدخول في طاعته، والبيعه له، او الإيذان بالحرب، فقال الاشتر: ابعث غيره فانى لا آمن مراهنته فلم يلتفت الى قول الاشتر. فسار جرير الى معاويه بكتاب على، فقدم على معاويه، فالفاه وعنده وجوه اهل الشام، فناوله كتاب على، وقال: هذا كتاب على إليك، والى اهل الشام يدعوكم الى الدخول في طاعته، فقد اجتمع له الحرمان، والمصران، والحجازان، واليمن، والبحران، وعمان، واليمامه، ومصر، وفارس، والجبل، وخراسان، ولم يبق الا بلادكم هذه، وان سال عليها واد من اوديته غرقها.

(1/156)


وفتح معاويه الكتاب فقراه: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله على امير المؤمنين الى معاويه بن ابى سفيان، اما بعد فقد لزمك ومن قبلك من المسلمين بيعتي، وانا بالمدينة، وأنتم بالشام، لأنه بايعنى الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان رضى الله عنهم. فليس للشاهد ان يختار، ولا للغائب ان يرد، وانما الأمر في ذلك للمهاجرين والانصار، فإذا اجتمعوا على رجل مسلم، فسموه اماما، كان ذلك لله رضى، فان خرج من امرهم احد بطعن فيه او رغبه عنه رد الى ما خرج منه، فان ابى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى، و «يصله جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً،» فادخل فيما دخل فيه المهاجرون والانصار، فان أحب الأمور فيك وفيمن قبلك العافيه، فان قبلتها والا فائذن بحرب، وقد اكثرت في قتله عثمان، فادخل فيما دخل فيه الناس، ثم حاكم القوم الى، احملك وإياهم على ما في كتاب الله وسنه نبيه، فاما تلك التي تريدها، فإنما هي خدعه الصبى عن الرضاع.
فجمع معاويه اليه اشراف اهل بيته، فاستشارهم في امره، فقال اخوه عتبة بن ابى سفيان: استعن على امرك بعمرو بن العاص وكان مقيما في ضيعه له من حيز فلسطين، قد اعتزل الفتنة. فكتب اليه معاويه انه قد كان من امر على في طلحه والزبير وعائشة أم المؤمنين ما بلغك، وقد قدم علينا جرير بن عبد الله في أخذنا ببيعه على، فحبست نفسي عليك، فاقبل، اناظرك في ذلك، والسلام.
فسار ومعه ابناه عبد الله ومحمد حتى قدم على معاويه، وقد عرف حاجه معاويه اليه، فقال له معاويه: أبا عبد الله، طرقتنا في هذه الأيام ثلاثة امور، ليس فيها ورد ولا صدر، قال: وما هن؟ قال: اما أولهن، فان محمد بن ابى حذيفة كسر السجن وهرب نحو مصر فيمن كان معه من اصحابه، وهو من اعدى الناس لنا، واما الثانيه فان قيصر الروم قد جمع الجنود ليخرج إلينا فيحاربنا على الشام، واما الثالثه فان جريرا قدم رسولا لعلى بن ابى طالب يدعونا الى البيعه له او إيذان بحرب.

(1/157)


قال عمرو: اما ابن ابى حذيفة فما يغمك من خروجه من سجنه في اصحابه، فأرسل في طلبه الخيل، فان قدرت عليه قدرت، وان لم تقدر عليه لم يضرك، واما قيصر، فاكتب اليه تعلمه، انك ترد عليه جميع من في يديك من أسارى الروم، وتسأله الموادعة والمصالحه تجده سريعا الى ذلك، راضيا بالعفو منك، واما على بن ابى طالب فان المسلمين لا يساوون بينك وبينه.
قال معاويه: انه مالا على قتل عثمان، واظهر الفتنة، وفرق الجماعه.
قال عمرو: انه وان كان كذلك، فليست لك مثل سابقته وقرابته، ولكن ما لي ان شايعتك على امرك حتى تنال ما تريد؟.
قال: حكمك.
قال عمرو: اجعل لي مصر طعمه ما دامت لك ولايه.
فتلكا معاويه، وقال: يا عبد الله، لو شئت ان اخدعك خدعتك.
قال عمرو: ما مثلي يخدع.
قال له معاويه: ادن منى اسارك.
فدنا عمرو منه، فقال: هذه خدعه، هل ترى في البيت غيرى وغيرك ثم قال: يا عبد الله، اما تعلم ان مصر مثل العراق؟.
قال عمرو: غير انها انما تكون لي إذا كانت لك الدنيا، وانما تكون لك إذا غلبت عليا.
فتلكا عليه، وانصرف عمرو الى رحله، فقال عتبة لمعاوية: اما ترضى ان تشترى عمرا بمصر ان صفت لك قليتك [1] لا تغلب على الشام.
وقال معاويه: بت عندنا ليلتك هذه، فبات عتبة عنده، فلما أخذ معاويه مضجعه أنشأ عتبة:
__________
[1] القلية: مرقه تتخذ من لحوم الجزور واكبادها.

(1/158)


ايها المانع سيفا لم يهز ... انما ملت على خز وقز
انما أنت خروف ناعم ... بين ضرعين وصوف لم يجز
نالك الخير، فخذ من درة ... شخبه الاول، واترك ما عزز
واترك الحرص عليها ضنة ... واشبب النار لمقرور يكز
ان مصرا لعلى او لنا ... يغلب اليوم عليها من عجز
وسمع معاويه ذلك، فلما اصبح بعث الى عمرو، فاعطاه ما سال، وكتبا بينهما في ذلك كتابا، ثم ان معاويه استشار عمرا في امره، وقال ما ترى؟
قال عمرو: انه قد أتاك في هذه البيعه خبر اهل العراق من عند خير الناس، ولست ارى لك ان تدعو اهل الشام الى الخلافه، فان ذلك خطر عظيم حتى تتقدم قبل ذلك بالتوطين للاشراف منهم، واشراب قلوبهم اليقين، بان عليا مالا على قتل عثمان، واعلم ان راس اهل الشام شرحبيل بن السمط الكندى، فأرسل اليه ليأتيك، ثم وطن له الرجال على طريقه كله، يخبرونه بان عليا قتل عثمان، وليكونوا من اهل الرضى عنده، فإنها كلمه جامعه لك اهل الشام، وان تعلق هذه الكلمه بقلبه لم يخرجها شيء ابدا.
فدعا يزيد بن اسد، وبسر بن ابى ارطاه، وسفيان بن عمرو، ومخارق بن الحارث، وحمزه بن مالك، وحابس بن سعد، وغير هؤلاء من اهل الرضا عند شرحبيل بن السمط، فوطنهم له على طريقه، ثم كتب اليه يأمره بالقدوم عليه، فكان يلقى الرجل بعد الرجل من هؤلاء في طريقه، فيخبرونه ان عليا مالا على قتل عثمان، ثم اشربوا قلبه ذلك.
فلما دنا من دمشق امر معاويه اشراف الشام باستقباله، فاستقبلوه، وأظهروا تعظيمه، فكان كلما خلا برجل منهم القى اليه هذه الكلمه، فاقبل حتى دخل على معاويه مغضبا، فقال: ابى الناس الا ان ابن ابى طالب قتل عثمان، والله لئن بايعته لنخرجنك من الشام، فقال معاويه: ما كنت لاخالف امركم، وانما انا

(1/159)


واحد منكم. قال: فاردد هذا الرجل الى صاحبه يعنى جريرا فعلم عند ذلك معاويه ان اهل الشام مع شرحبيل، فقال لشرحبيل: ان هذا الذى تهم به لا يصلح الا يرضى العامه، فسر في مدائن الشام، فاعلمهم ما نحن عليه من الطلب بثار خليفتنا وبايعهم على النصره والمعونة.
فسار شرحبيل يستقرى مدن الشام، مدينه بعد مدينه، ويقول: ايها الناس، ان عليا قتل عثمان، وانه غضب له قوم فلقيهم، فقتلهم، وغلب على ارضهم، ولم يبق الا هذه البلاد، وهو واضع سيفه على عاتقه، وخائض به غمرات الموت حتى ياتيكم، ولا يجد أحدا اقوى على قتله من معاويه، فانهضوا ايها الناس بثار خليفتكم المظلوم. فأجابه الناس كلهم الا نفرا من اهل حمص نساكا، فإنهم قالوا نلزم بيوتنا ومساجدنا، وأنتم اعلم.
فلما ذاق معاويه اهل الشام، وعرف مبايعتهم له قال لجرير الحق بصاحبك، واعلمه انى واهل الشام لا نجيبه الى البيعه، ثم كتب اليه بابيات كعب بن جعيل:
ارى الشام تكره ملك العراق ... واهل العراق لهم كارهونا
وكل لصاحبه مبغض ... يرى كل ما كان من ذاك دينا
وقالوا على امام لنا ... فقلنا رضينا ابن هند رضينا
وقالوا نرى ان تدينوا لنا ... فقلنا لهم لا نرى ان ندينا
وكل يسر بما عنده ... يرى غث ما في يديه سمينا
وما في على لمستعتب ... مقال سوى ضمه المحدثينا
وليس براض ولا ساخط ... ولا في النهاة ولا الامرينا
ولا هو ساء ولا سره ... ولا بد من بعد ذا ان يكونا
فلما قرأ على رضى الله عنه قال للنجاشي أجب، فقال:
دعن معاوي ما لن يكونا ... فقد حقق الله ما تحذرونا
أتاكم على باهل العراق ... واهل الحجاز فما تصنعونا

(1/160)


يرون الطعان خلال العجاج ... وضرب القوانس في النقع دينا
هم هزموا الجمع جمع الزبير ... وطلحه والمعشر الناكثينا
فان يكره القوم ملك العراق ... فقدما رضينا الذى تكرهونا
فقولوا لكعب أخي وائل ... ومن جعل الغث يوما سمينا
جعلتم عليا واشياعه ... نظير ابن هند اما تستحونا
ولما رجع جرير الى على كثر قول الناس في التهمه له، واجتمع هو والاشتر عند على، فقال الاشتر: اما والله يا امير المؤمنين، لو أرسلتني فيما أرسلت فيه هذا لما ارخيت من خناق معاويه، ولم ادع له بابا يرجو فتحه الا سددته، ولا عجلته عن الفكره، قال جرير: فما يمنعك من إتيانهم؟!، قال الاشتر: الان وقد افسدتهم، والله ما احسبك أتيتهم الا لتتخذ عندهم موده، والدليل على ذلك كثره ذكرك مساعدتهم وتخويفنا بكثرة جموعهم، ولو أطاعني امير المؤمنين لحبسك واشباهك من اهل الظنه محبسا لا يخرجون منه حتى يستتب هذا الأمر. فغضب جرير مما استقبله به الاشتر، فخرج من الكوفه ليلا في اناس من اهل بيته، فلحق بقرقيسيا، وهي كوره من كور الجزيرة، فأقام بها.
وغضب على لخروجه عنه، فركب الى داره، فامر بمجلس له فاحرق، فخرج ابو زرعه بن عمرو ابن عم جرير، فقال: ان كان انسان قد اجرم فان في هذه الدار أناسا كثيرا لم يجرموا إليك جرما، وقد روعتهم، فقال على: استغفر الله. ثم خرج منها الى دار لابن عم جرير، يقال له ثوير بن عامر، وقد كان خرج معه، فشعث فيها شيئا، ثم انصرف.
قالوا: ولما فرغ على رضى الله عنه من اصحاب الجمل خافه عبيد الله بن عمر ان يقتله بالهرمزان، فخرج حتى لحق بمعاويه، فقال معاويه لعمرو: قد أحيا الله لنا ذكر عمر بن الخطاب رضى الله عنه بقدوم عبيد الله ابنه علينا. قال:

(1/161)


فاراده معاويه على ان يقوم في الناس فيلزم عليا دم عثمان، فأبى، فاستخف به معاويه، ثم ادناه بعد وقربه.
قالوا: ولما عزم اهل الشام على نصر معاويه، والقيام معه اقبل ابو مسلم الخولاني، وكان من عباد اهل الشام، حتى قدم على معاويه، فدخل عليه في اناس من العباد، فقال له: يا معاويه قد بلغنا انك تهم بمحاربه على بن ابى طالب، فكيف تناوئه [1] وليست لك سابقته؟، فقال لهم معاويه: لست ادعى انى مثله في الفضل، ولكن هل تعلمون ان عثمان قتل مظلوما؟، قالوا: نعم [2] ، قال: فليدفع لنا قتلته حتى نسلم اليه هذا الأمر.
قال ابو مسلم: فاكتب اليه هذا الأمر، حتى انطلق انا بكتابك، فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، من معاويه بن ابى سفيان الى على بن ابى طالب، سلام عليك، فانى احمد إليك الله الذى لا اله الا هو، اما بعد، فان الخليفة عثمان قتل معك في المحله، وأنت تسمع من داره الهيعة [3] ، فلا تدفع عنه بقول ولا بفعل، واقسم بالله لو قمت في امره مقاما صادقا، فنهنهت [4] عنه ما عدل بك من قبلنا من الناس أحدا، واخرى أنت بها ظنين، ايواؤك قتلته، فهم عضدك ويدك وأنصارك وبطانتك، وبلغنا انك تبتهل [5] من دمه، فان كنت صادقا فأمكنا من قتلته، نقتلهم به، ونحن اسرع الناس إليك، والا فليس لك ولا لأصحابك عندنا الا السيف، فو الله الذى لا اله غيره لنطلبن قتله عثمان في البر والبحر حتى نقتلهم او تلحق أرواحنا بالله والسلام.
فسار ابو مسلم بكتابه حتى ورد الكوفه، فدخل على على، فناوله الكتاب، فلما قراه تكلم ابو مسلم، فقال يا أبا الحسن، انك قد قمت بأمر، ووليته،
__________
[1] في الأصل: تناويه.
[2] في الأصل: بلى.
[3] الهيعة: صوت الصارخ للفزع.
[4] النهنهه: الزجر والكف.
[5] اى تتحلل.

(1/162)


وو الله ما نحب انه لغيرك ان اعطيت الحق من نفسك، ان عثمان رضى الله عنه قتل مظلوما، فادفع إلينا قتلته، وأنت أميرنا، فان خالفك احد من الناس كانت أيدينا لك ناصره، وألسنتنا لك شاهده، وكنت ذا عذر ومحجه، فقال له على: اغد على بالغداة. وامر به، فانزل، واكرم.
فلما كان من الغد دخل الى على وهو في المسجد، فإذا هو بزهاء عشره آلاف رجل، قد لبسوا السلاح، وهم ينادون: كلنا قتله عثمان، فقال ابو مسلم لعلى: انى لأرى قوما ما لك معهم امر، واحسب انه بلغهم الذى قدمت له، ففعلوا ذلك خوفا من ان تدفعهم الى.
قال على: انى ضربت انف هذا الأمر وعينه، فلم أر يستقيم دفعهم إليك ولا الى غيرك، فاجلس حتى اكتب جواب كتابك. ثم كتب:
بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله على امير المؤمنين الى معاويه بن ابى سفيان، اما بعد، فان أخا خولان قدم على بكتاب منك، تذكر فيه قطعى رحم عثمان، وتاليبى الناس عليه، وما فعلت ذلك، غير انه رحمه الله عتب الناس عليه، فمن بين قاتل وخاذل، فجلست في بيتى، واعتزلت امره، الا ان تتجنى فتجن ما بدا لك، فاما ما سالت من دفعى إليك قتلته، فانى لا ارى ذلك، لعلمي انك انما تطلب ذلك ذريعه الى ما تامل، ومرقاه الى ما ترجو، وما الطلب بدمه تريد، ولعمري لئن لم تنزع عن غيك وشقاقك لينزل بك ما ينزل بالشاق العاصي الباغى، والسلام.
وكتب الى عمرو بن العاص:
بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله على امير المؤمنين الى عمرو بن العاص، اما بعد، [فان الدنيا مشغله عن غيرها، صاحبها منهوم فيها، لا يصيب منها شيئا الا ازداد عليها حرصا، ولم يستغن بما نال عما لا يبلغ، ومن وراء ذلك فراق ما جمع،] [والسعيد من اتعظ بغيره،] فلا تحبط عملك بمجاراه معاويه في باطله، فانه سفه الحق واختار الباطل والسلام.

(1/163)


فكتب اليه عمرو بن العاص:
من عمرو بن العاص الى على بن ابى طالب، اما بعد، فان الذى فيه صلاحنا والفه ذات بيننا ان تجيب الى ما ندعوك اليه، من شورى تحملنا وإياك على الحق، ويعذرنا الناس لها بالصدق والسلام.
قالوا: ولما اجمع على على المسير الى اهل الشام، وحضرت الجمعه صعد المنبر، فحمد الله واثنى عليه، وصلى على النبي ص، ثم قال: ايها الناس، سيروا الى أعداء السنن والقرآن، سيروا الى قتله المهاجرين والانصار، سيروا الى الجفاة الطغام الذين كان اسلامهم خوفا وكرها، سيروا الى المؤلفه قلوبهم ليكفوا عن المسلمين بأسهم.
فقام اليه رجل من فزاره، يسمى اربد، فقال: اتريد ان تسير بنا الى إخواننا من اهل الشام فنقتلهم كما سرت بنا الى إخواننا من اهل البصره فقتلناهم؟
كلا، ها الله، إذا لا نفعل ذلك.
فقام الاشتر، فقال: ايها الناس، من لهذا؟ فهرب الفزارى وسعى شؤبوب [1] من الناس في اثره، فلحقوه بالكناسة [2] فضربوه بنعالهم حتى سقط، ثم وطئوه بارجلهم حتى مات، فاخبر بذلك على رضى الله عنه فقال: قتيل عميه، لا يدرى من قتله فدفع ديته الى اهله من بيت المال، وقال بعض شعراء بنى تميم:
اعوذ بربي ان منيتي ... كما مات في سوق البراذين اربد
تعاوره همدان خصف نعالهم ... إذا رفعت عنه يد وقعت يد
وقام الاشتر، فقال: يا امير المؤمنين، لا يؤيسنك من نصرتنا ما سمعت من هذا الخائن، ان جميع من ترى من الناس شيعتك، لا يرغبون بانفسهم عنك،
__________
[1] الشؤبوب: الدفعه من المطر، والمراد جماعه.
[2] اسم موضع بالكوفه.

(1/164)


ولا يحبون البقاء بعدك، فسر بنا الى اعدائك، فو الله ما ينجو من الموت من خافه، ولا يعطى البقاء من احبه، ولا يعيش بالأمل الا المغرور.
فأجابه جل الناس الى المسير، الا اصحاب عبد الله بن مسعود، وعبيده السلماني، والربيع بن خثيم في نحو من أربعمائة رجل من القراء، فقالوا: يا امير المؤمنين، قد شككنا في هذا القتال، مع معرفتنا فضلك، ولا غنى بك ولا بالمسلمين عمن يقاتل المشركين، فولنا بعض هذه الثغور لنقاتل عن اهله.
فولاهم ثغر قزوين والري، وولى عليهم الربيع بن خثيم، وعقد له لواء، وكان أول لواء عقد في الكوفه.
قالوا: وبلغ عليا ان حجر بن عدى وعمرو بن الحمق يظهران شتم معاويه، ولعن اهل الشام، فأرسل إليهما ان كفا عما يبلغني عنكما. فاتياه، فقالا: يا امير المؤمنين، السنا على الحق، وهم على الباطل؟، قال: بلى، ورب الكعبه المسدنه، قالوا: فلم تمنعنا من شتمهم ولعنهم؟، قال: [كرهت لكم ان تكونوا شتامين لعانين، ولكن قولوا: اللهم احقن دماءنا ودماءهم، واصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم، حتى يعرف الحق من جهله، ويرعوى عن الغى من لجج به.
] قالوا: ولما عزم على رضى الله عنه على الشخوص امر مناديا، فنادى بالخروج الى المعسكر بالنخيلة [1] ، فخرج الناس مستعدين، واستخلف على على الكوفه أبا مسعود الأنصاري، وهو من السبعين الذين بايعوا رسول الله ص ليله العقبه. وخرج على رضى الله عنه الى النخيله، وامامه عمار بن ياسر، فأقام بالنخيلة معسكرا، وكتب الى عماله بالقدوم عليه.
ولما انتهى كتابه الى ابن عباس ندب الناس، وخطبهم، وكان أول من تكلم الأحنف بن قيس، ثم قام خالد بن العمر السدوسي، ثم قام عمرو بن مرحوم
__________
[1] موضع بالبادية قرب الكوفه على سمت الشام.

(1/165)


العبدى، وكلهم أجاب، فخلف على البصره أبا الأسود الديلى، وسار بالناس حتى قدم على على بالنخيلة.
فلما اجتمع الى على قواصيه، وانضمت اليه اطرافه تهيأ للمسير من النخيله، ودعا زياد بن النضر وشريح بن هانئ، فعقد لكل واحد منهما على سته آلاف فارس، وقال: ليسر كل واحد منكما منفردا عن صاحبه، فان جمعتكما حرب، فأنت يا زياد الأمير، واعلما ان مقدمه القوم عيونهم، وعيون المقدمه طلائعهم، فاياكما ان تسأما عن توجيه الطلائع، ولا تسيرا بالكتائب والقبائل من لدن مسير كما الى نزولكما الا بتعبيه وحذر، وإذا نزلتم بعدو او نزل بكم، فليكن معسكركم في اشرف المواضع ليكون ذلك لكم حصنا حصينا، وإذا غشيكم الليل فحفوا عسكركم بالرماح والترسه، وليليهم الرماه، وما اقمتم فكذلك فكونوا، لئلا يصاب منكم غره، واحرسا عسكركما بأنفسكما، ولا تذوقا نوما الا غرارا ومضمضة، وليكن عندي خبركما، فانى ولا شيء الا ما شاء الله حثيث السير في اثركما، ولا تقاتلا حتى تبدا او يأتيكما امرى ان شاء الله.
فلما كان اليوم الثالث من مخرجهما قام في اصحابه خطيبا، فقال: يا ايها الناس، نحن سائرون غدا في آثار مقدمتنا، فإياكم والتخلف، فقد خلفت مالك بن حبيب اليربوعى، وجعلته على الساقه، وامرته الا يدع أحدا الا الحقه بنا فلما اصبح نادى في الناس بالرحيل، وسار، فلما انتهى الى رسوم مدينه بابل، قال لمن كان يسايره من اصحابه: ان هذه مدينه قد خسف بها مرارا، فحركوا خيلكم، وارخوا أعنتها، حتى تجوزوا موضع المدينة، لعلنا ندرك العصر خارجا منها. فحرك، وحركوا دوابهم، فخرج من حد المدينة وقد حضرت الصلاة، فنزل، فصلى بالناس، ثم ركب، وسار حتى انتهى الى دير كعب فجاوزه، واتى ساباط المدائن، فنزل فيه بالناس، وقد هيئت له فيه الأنزال.
فلما اصبح ركب وركب الناس معه، وانهم لثمانون الف رجل، او يزيدون،

(1/166)


سوى الاتباع والخدم، ثم سار حتى اتى مدينه الأنبار، فلما وافى المدائن عقد لمعقل بن قيس في ثلاثة آلاف رجل، وامره ان يسير على الموصل ونصيبين حتى يوافيه بالرقة [1] ، فسار حتى وافى حديثه الموصل، وهي إذ ذاك المصر، وانما بنى الموصل بعد ذلك مروان بن محمد.
فلما انتهى معقل إليها إذا هو بكبشين يتناطحان، ومع معقل رجل من خثعم يزجر، فجعل الخثعمى يقول: ايه، ايه، فاقبل رجلان، فاخذ كل منهما كبشا، فقاده وانطلق به. فقال الخثعمى لمعقل لا تغلبون ولا تغلبون فقال معقل: يكون خيرا، ان شاء الله.
ثم مضى حتى وافى عليا وقد نزل البليخ [2] فأقام ثلاثا، ثم امر بجسر، فعقد، وعبر الناس، ولما قطع على رضى الله عنه الفرات امر زياد بن النضر وشريح بن هانئ ان يسيرا امامه، فسارا حتى انتهيا الى مكان يدعى سور الروم لقيهما ابو الأعور السلمى في خيل عظيمه من اهل الشام، فأرسلا الى على يعلمانه ذلك.
فامر على الاشتر ان يسير إليهما، وجعله أميرا عليهما، فسار حتى وافى القوم، فاقتتلوا، وصبر بعضهم لبعض حتى جن عليهم الليل، وانسل ابو الأعور في جوف الليل حتى اتى معاويه.
واقبل معاويه بالخيل نحو صفين، وعلى مقدمته سفيان بن عمرو، وعلى ساقته بسر [3] بن ابى ارطاه العامري، فاقبل سفيان بن عمرو، ومعه ابو الأعور، حتى وافيا صفين، وهي قريه خراب من بناء الروم، منها الى الفرات غلوه [4] ، وعلى شط الفرات مما يليها غيضه [5] ملتفه، فيها نزور طولها نحو من فرسخين، وليس في ذينك الفرسخين طريق الى الفرات الا طريق واحد مفروش بالحجارة،
__________
[1] مدينه مشهوره على الفرات من الجانب الشرقى.
[2] نهر بالرقة يجتمع فيه الماء من عيون.
[3] في الأصل: بشر.
[4] الغلوة: قدر رميه بسهم وقد تستعمل في سباق الخيل.
[5] الغيضة بالفتح: الأجمة، ومجتمع الشجر في مغيض ماء.

(1/167)


وسائر ذلك خلاف وغرب ملتف لا يسلك، وجميع الغيضة نزور ووحل الا ذلك الطريق الذى يأخذ من القرية الى الفرات.
فاقبل سفيان بن عمرو وابو الأعور حتى سبقا الى موضع القرية، فنزلا هناك مع ذلك الطريق، ووافاهما معاويه بجميع الفيلق، حتى نزل معهما، وعسكر مع القرية، وامر معاويه أبا الأعور ان يقف في عشره آلاف من اهل الشام على طريق الشريعه، فيمنع من اراد السلوك الى الماء من اهل العراق.
واقبل على رضى الله عنه حتى وافى المكان، فصادف اهل الشام قد احتووا على القرية والطريق، فامر الناس، فنزلوا بالقرب من عسكر معاويه، وانطلق السقاءون والغلمان الى طريق الماء، فحال ابو الأعور بينهم وبينه.
واخبر على رضى الله عنه بذلك، فقال لصعصعة بن صوحان ايت معاويه، فقل له، انا سرنا إليكم لنعذر قبل القتال، فان قبلتم كانت العافيه أحب إلينا، وأراك قد حلت بيننا وبين الماء، فان كان اعجب إليك ان ندع ما جئنا له، ونذر الناس يقتتلون على الماء حتى يكون الغالب هو الشارب فعلنا.
فقال الوليد: امنعهم الماء كما منعوه امير المؤمنين عثمان، اقتلهم عطشا، قتلهم الله.
فقال معاويه لعمرو بن العاص: ما ترى؟.
قال: ارى ان تخلى عن الماء، فان القوم لن يعطشوا وأنت ريان.
فقال عبد الله بن ابى سرح، وكان أخا عثمان لامه: امنعهم الماء الى الليل، لعلهم ان ينصرفوا الى طرف الغيضة، فيكون انصرافهم هزيمه.
فقال صعصعة لمعاوية: ما الذى ترى؟.
قال معاويه: ارجع، فسيأتيكم رأيي. فانصرف صعصعة الى على، فاخبره بذلك.
وظل اهل العراق يومهم ذلك وليلتهم بلا ماء الا من كان ينصرف من الغلمان الى طرف الغيضة، فيمشى مقدار فرسخين، فيستقى، فغم عليا رضى الله عنه

(1/168)


امر الناس غما شديدا، وضاق بما أصابهم من العطش ذرعا، فأتاه الاشعث بن قيس فقال: يا امير المؤمنين، ايمنعنا القوم الماء وأنت فينا ومعنا سيوفنا؟ ولنى الزحف اليه، فو الله لا ارجع او اموت، ومر الاشتر فلينضم الى في خيله، فقال له على: ايت في ذلك ما رايت.
فلما اصبح زاحف أبا الأعور، فاقتتلوا، وصدقهم الاشتر والاشعث حتى نفيا أبا الأعور واصحابه عن الشريعه، وصارت في أيديهما، فقال عمرو بن العاص لمعاوية: ما ظنك بالقوم اليوم ان منعوك الماء كما منعتهم أمس؟، فقال معاويه: دع ما مضى، ما ظنك بعلى؟، قال: ظني انه لا يستحل منك ما استحللت منه، لأنه أتاك في غير امر الماء.
ثم توادع الناس، وكف بعضهم عن بعض، وامر على الا يمنع اهل الشام من الماء، فكانوا يسقون جميعا، ويختلط بعضهم ببعض، ويدخل بعضهم في معسكر بعض، فلا يعرض احد من الفريقين لصاحبه الا بخير، ورجوا ان يقع الصلح.
واقبل عبيد الله بن عمر بن الخطاب حتى استاذن على على، فاذن له، فدخل عليه، فقال له على: اقتلت الهرمزان ظلما، وقد كان اسلم على يدي عمى العباس، وفرض له ابوك في الفين، وترجو ان تسلم مني؟.
فقال له عبيد الله: الحمد لله الذى جعلك تطلبنى بدم الهرمزان، وانا اطلبك بدم امير المؤمنين عثمان.
فقال له على: ستجمعنا وإياك الحرب، فتعلم.
قال: فلم يزالوا يتراسلون شهرى ربيع [1] وجمادى الاولى، ويفزعون فيما بين ذلك، يزحف بعضهم الى بعض، فيحجز بينهم القراء والصالحون، فيفترقون من غير
__________
[1] ربيع الثانى من سنه 37 هـ اغسطس 657 م.

(1/169)


حرب حتى فزعوا في هذه الثلاثة الأشهر خمسا وثمانين فزعه، كل ذلك يحجز بينهم القراء.
فلما انقضت جمادى الاولى بات على رضى الله عنه يعبى اصحابه، ويكتب كتائبه، وبعث الى معاويه يؤذنه بحرب، فعبى معاويه أيضا اصحابه، وكتب كتائبه.
فلما أصبحوا تزاحفوا وتواقفوا تحت راياتهم في صفوفهم، ثم تحاجزوا، فلم تكن حرب، وكانوا يكرهون ان يلتقوا بجميع الفيلقين مخافه الاستئصال، غير انه يخرج الجماعه من هؤلاء الى الجماعه من أولئك، فيقتتلون بين العسكرين، فكانوا كذلك حتى اهل هلال رجب، فامسك الفريقان.
قالوا: واقبل ابو الدرداء وابو امامه الباهلى حتى دخلا على معاويه، فقالا: علام تقاتل عليا، وهو أحق بهذا الأمر منك؟.
قال: اقاتله على دم عثمان.
قالا: او هو قتله؟.
قال: آوى قتلته، فسلوه ان يسلم إلينا قتلته، وانا أول من يبايعه من اهل الشام.
فاقبلا الى على رضى الله عنه، فأخبراه بذلك. فاعتزل من عسكر على زهاء عشرين الف رجل، فصاحوا: نحن جميعا قتلنا عثمان.
فخرج ابو الدرداء وابو امامه فلحقا ببعض السواحل، ولم يشهدا شيئا من تلك الحروب.
وان معاويه بعث الى شرحبيل بن السمط، وحبيب بن مسلمه، ومعن بن يزيد ابن الاخنس، وقال: انطلقوا اليه، وسلوه ان يسلم إلينا قتله عثمان، ويتخلى مما هو فيه حتى نجعلها شورى بين المسلمين، يختارون لأنفسهم من رضوا وأحبوا.
فاقبلوا حتى دخلوا على على رضى الله عنه، فبدا حبيب بن مسلمه، فتكلم

(1/170)


بما حمله معاويه، فقال له على: وما أنت وذاك، لا أم لك، فلست هناك؟! فقام حبيب مغضبا، فقال: والله لتريني بحيث تكره، فقال شرحبيل: افلا تسلم إلينا قتله عثمان؟، قال على: انى لا استطيع ذلك، وهم زهاء عشرين الف رجل، فقاما عنه، فخرجا، قالوا: فمكث الناس كذلك الى ان انسلخ المحرم [1] .
وفي ذلك يقول حابس بن سعد الطائي، وكان صاحب لواء طيّئ مع معاويه:
فما بين المنايا غير سبع ... بقين من المحرم او ثمان
الم يعجبك انا قد هجمنا ... وإياهم على الموت العيان
اينهانا كتاب الله عنهم ... ولا ينهاهم آي القرآن
فلما انسلخ المحرم بعث على مناديا، فنادى في عسكر معاويه عند غروب الشمس: انا أمسكنا لتنصرم الأشهر الحرم، وقد تصرمت، وانا ننبذ إليكم على سواء، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ.
فبات الفريقان يكتبون الكتائب، وقد أوقدوا النيران في العسكرين، فلما أصبحوا تزاحفوا، وقد استعمل على على الخيل عمار بن ياسر، وعلى الرجاله عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي، ودفع الراية العظمى الى هاشم بن عتبة المرقال، وجعل على الميمنه الاشعث بن قيس وعلى الميسره عبد الله بن عباس، وعلى رجال الميمنه سليمان بن صرد، وعلى رجاله الميسره الحارث بن مره العبدى، وجعل في القلب مضر، وفي الميمنه ربيعه، وفي الميسره اهل اليمن، وضم قريشا وأسدا وكنانه الى عبد الله بن عباس، وضم كنده الى الاشعث، وضم بكر البصره الى الحضين [2] ابن المنذر، وضم تميم البصره الى الأحنف بن قيس، وولى امر خزاعة عمرو بن الحمق، وولى بكر الكوفه نعيم بن هبيرة، وولى سعد رباب البصره خارجه
__________
[1] من سنه 38 هـ.
[2] في الأصل: الحصين.

(1/171)


ابن قدامه، وولى بجيله رفاعة بن شداد، وولى ذهل الكوفه رويما الشيبانى، وولى حنظله البصره اعين بن ضبيعه، وجعل على قضاعه كلها عدى بن حاتم، وجعل على لهازم الكوفه عبد الله بن بديل، وعلى تميم الكوفه عمير بن عطارد، وعلى الأزد جندب بن زهير، وعلى ذهل البصره خالد بن المعمر، وعلى حنظله الكوفه شبث ابن ربعي، وعلى همدان سعد بن قيس، وعلى لهازم البصره خزيمة بن خازم، وعلى سعد رباب الكوفه أبا صرمه، واسمه الطفيل، وعلى مذحج الاشتر، وعلى عبد قيس الكوفه عبد الله بن الطفيل، وعلى عبد قيس البصره عمرو بن حنظله، وعلى قيس البصره شدادا الهلالي، وعلى اللفيف من القواصى القاسم بن حنظله الجهنى.
واستعمل معاويه على الخيل عبد الله بن عمرو بن العاص، وعلى الرجاله مسلم ابن عقبه، لعنه الله، وعلى الميمنه عبيد الله بن عمر بن الخطاب، وعلى الميسره حبيب ابن مسلمه، ودفع اللواء الأعظم الى عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، واستعمل على اهل دمشق الضحاك بن قيس، وعلى اهل حمص ذا الكلاع، وعلى اهل قنسرين زفر بن الحارث، وعلى اهل الأردن سفيان بن عمرو، وعلى اهل فلسطين مسلمه ابن خالد، وعلى رجاله دمشق بسر بن ابى ارطاه، وعلى رجاله حمص حوشبا ذا ظليم، وعلى رجاله قنسرين طريف بن حابس، وعلى رجاله الأردن عبد الرحمن القينى، وعلى رجاله فلسطين الحارث بن خالد الأزدي، وعلى قيس دمشق همام ابن قبيصة، وعلى قيس حمص هلال بن ابى هبيرة، وعلى رجاله الميمنه حابس ابن ربيعه، وعلى قضاعه دمشق حسان بن بجدل، وعلى قضاعه حمص عباد ابن يزيد، وعلى كنده دمشق عبد الله بن جون السكسكى، وعلى كنده حمص يزيد بن هبيرة، وعلى النمر بن قاسط يزيد بن اسد العجلى، وعلى حمير هانئ بن عمير، وعلى قضاعه الأردن مخارق بن الحارث، وعلى لخم فلسطين نابل ابن قيس، وعلى همدان الأردن حمزه بن مالك، وعلى غسان الأردن زيد بن الحارث،

(1/172)


وعلى اهل القواصى القعقاع بن أبرهة، وعلى الخيل كلها عمرو بن العاص، وعلى الرجاله كلها الضحاك بن قيس.
واصطف كل فريق منهم سبعه صفوف، صفين في الميمنه وصفين في الميسره، وثلاثة صفوف في القلب، فكان الفريقان اربعه عشر صفا، فوقفوا تحت راياتهم، لا ينطق احد منهم بكلمة، فخرج رجل من اهل العراق يسمى جحل بن اثال، وكان من فرسان العرب، فوقف بين صفوف اهل العراق واهل الشام، ثم نادى هل من مبارز؟ وهو متقنع بالحديد، فخرج اليه أبوه اثال، وكان من معدودى فرسان اهل الشام متقنعا بالحديد، ولم يعلم واحد منهما من صاحبه، فتطاردا، والناس قد شخصت أبصارهم، ينظرون، فطعن كل واحد منهما صاحبه، فلم يصنعا شيئا، لكمال لامتيهما [1] ، فحمل الأب على الابن، فاحتضنه حتى اشاله [2] عن سرجه، فسقط وسقط الأب عليه، فانكشفت وجوههما، فعرف كل واحد منهما صاحبه، فانصرفا الى عسكريهما، ثم تفرق الناس يومئذ، ولم يكن بينهما غير هذا.
فلما أصبحوا عادوا الى مواقفهم، كما كانوا بالأمس، فخرج عتبة بن ابى سفيان حتى وقف على فرسه بين الصفين، فدعا جعدة بن هبيرة بن ابى وهب القرشي، ليخرج اليه، فاقبل جعدة حتى دنا من عتبة، فتجاريا ما هم فيه، وتقاولا حتى اغضب جعدة عتبة، فتناوله عتبة بلسانه، فانصرفا مغضبين، وعبى كل منهما لصاحبه كتيبه، فاقتتلوا بين الصفين، واعين الناس اليهم، وباشر جعدة القتال، فانهزم عتبة، وانصرف الفريقان لم يكن بينهم يومئذ الا ذاك، فقال النجاشى يذكر ما كان بينهما:
ان شتم الكريم يا عتب خطب ... فاعلمنه من الخطوب عظيم
أمه أم هانئ، وأبوه ... من لؤي بن غالب لصميم
انه للهبيره بن ابى وهب ... ، اقرت بفضله مخزوم
__________
[1] اللامة: الدرع.
[2] رفعه.

(1/173)


وقال أيضا:
ما زلت تنظر في عطفيك أبهة ... لا يرفع الطرف منك التيه والصلف
لما رايتهم صبحا حسبتهم ... اسد العرين حمى اشبالها الغرف [1]
ناديت خيلك إذ عض السيوف بها ... عوجى الى، فما عاجوا وما وقفوا
هلا عطفت الى قتلى مصرعة ... منها السكون ومنها الأزد والصدف
قد كنت في منظر عن ذا ومستمع ... يا عتب لولا سفاه الرأي والترف
قالوا وخرج الاشعث في يوم من الأيام في خيل من ابطال اهل العراق، فخرج اليه حبيب بن مسلمه في مثل ذلك من اهل الشام، فاقتتلوا بين الصفين مليا حتى مضى جل النهار، ثم انصرفوا وقد انتصف بعضهم من بعض.
وخرج يوما آخر المرقال هاشم بن عتبة بن ابى وقاص في خيل، فخرج اليه ابو الأعور السلمى في مثل ذلك، فاقتتلوا بين الصفين جل النهار. فلم يفر احد عن احد.
وخرج يوما آخر عمار بن ياسر في خيل من اهل العراق، فخرج اليه عمرو بن العاص في ذلك، ومعه شقه سوداء على قناه، فقال الناس: هذا لواء عقده رسول الله ص، فقال على رضى الله عنه: انا مخبركم بقصة هذا اللواء: هذا لواء عقده رسول الله ص، وقال: من يأخذه بحقه؟، فقال عمرو: وما حقه يا رسول الله؟ فقال: لا تفر به من كافر، ولا تقاتل به مسلما. فقد فر به من الكافرين في حياه رسول الله ص، وقد قاتل به المسلمين اليوم. فاقتتل عمرو وعمار ذلك اليوم كله، لم يول واحد منهما صاحبه الدبر.
وخرج في يوم آخر محمد بن الحنفيه، فخرج اليه عبيد الله بن عمر في مثل عدده من اهل الشام، فقال عبيد الله لابن الحنفيه: ابرز لي فقال محمد:
__________
[1] الغرف: الشجر الكثيف الملتف، اى شجر كان.

(1/174)


نزال قال: وذاك. فنزلا جميعا عن فرسيهما، ونظر على إليهما، فحرك فرسه حتى دنا من محمد، ثم نزل، وقال لمحمد: امسك على فرسي ففعل. ومشى الى عبيد الله، فولى عنه عبيد الله، وقال: ما لي في مبارزتك من حاجه، انما اردت ابنك فقال محمد: يا أبت [1] ، لو تركتني ابارزه لرجوت ان اقتله قال: لو بارزته لرجوت ذلك، وما كنت آمنا ان يقتلك. واقتتلت خيلاهما الى انصاف النهار، ثم انصرفت، وكل غير غالب.
وخرج في يوم آخر عبد الله بن عباس في خيل من اهل العراق، فخرج اليه الوليد بن عتبة في مثلها من اهل الشام، فقال الوليد: يا ابن عباس، قطعتم أرحامكم، وقتلتم امامكم، ولم تدركوا ما املتم، فقال له ابن عباس: دع عنك الأساطير، وابرز الى، فأبى الوليد، وقاتل ابن عباس يومئذ بنفسه قتالا شديد، ثم انصرفا منتصفين.
وخرج في يوم آخر عمرو بن العاص في خيل من اهل الشام، فخرج اليه سعد بن قيس الهمدانى في مثل ذلك من اهل العراق، وعمرو يرتجز:
لا تامنن بعدها أبا حسن ... طاحنه تدقكم دق الطحن
انا نمر الحرب امرار الرسن [2]
فبدر ممن كان مع عمرو فتى من اهل الشام، يسمى حجر الشر، فدعا للبراز، فبرز اليه حجر بن عدى، فأطعنا، فطعنه حجر الشر طعنه اذراه عن فرسه، وحماه اصحابه، فانصرفا وقد جرحه السنان، فخرج اليه الحكم بن ازهر، وكان من اشراف الكوفه، فاختلفا ضربتين، فضربه حجر الشر فقتله، ثم نادى هل من مبارز؟، فبرز اليه ابن عم للحكم يسمى رفاعة بن طليق، فضربه حجر الشر فقتله، فقال على: الحمد لله الذى قتل هذا مقتل عبد الله بن بديل.
وخرج في يوم آخر عبد الله بن بديل الخزاعي، وكان من افاضل اصحاب على
__________
[1] في الأصل يا ابه.
[2] الرسن: محركه الحبل وما كان من زمام على انف.

(1/175)


في خيل من اهل العراق، فخرج اليه ابو الأعور السلمى في مثل ذلك من اهل الشام فاقتتلوا هويا [1] من النهار، فترك عبد الله اصحابه يعتركون في مجالهم، وضرب فرسه حتى احماه، ثم ارسله على اهل الشام، فشق جموعهم، لا يدنو منه احد الا ضربه بالسيف حتى انتهى الى الرابية التي كان معاويه عليها، فقام اصحاب معاويه دونه، فقال معاويه: ويحكم، ان الحديد لم يؤذن له في هذا، فعليكم بالحجارة فرث بالصخر حتى مات، فاقبل معاويه حتى وقف عليه، فقال: هذا كبش القوم هذا كما قال الشاعر:
أخو الحرب ان عضت به الحرب عضها ... وان شمرت عن ساقها الحرب شمرا
كليث عرين بات يحمى عرينه ... رمته المنايا قصدها فتقطرا
قالوا: وكان فارس معاويه الذى يبتهى به حريث مولاه، وكان يلبس بزه معاويه، ويستلئم سلاحه، ويركب فرسه، ويحمل متشبها بمعاويه، فإذا حمل قال الناس: هذا معاويه وقد كان معاويه نهاه عن على، وقال اجتنبه، وضع رمحك حيث شئت. فخلا به عمرو، وقال: ما يمنعك من مبارزه على، وأنت له كفء؟، قال: نهاني مولاى عنه، قال: وانى والله لأرجو ان بارزته ان تقتله، فتذهب بشرف ذلك. فلم يزل يزين له ذلك حتى وقع في قلب حريث.
فلما أصبحوا خرج حريث حتى قام بين الصفين، وقال: يا أبا الحسن، ابرز الى، انا حريث، فخرج اليه على، فضربه، فقتله.
وبعث على يوما من تلك الأيام الى معاويه: لم نقتل الناس بيني وبينك؟ ابرز الى، فأينا قتل صاحبه تولى الأمر. فقال معاويه لعمرو: ما ترى؟
قال: قد انصفك الرجل، فابرز اليه، فقال معاويه: اتخدعني عن نفسي، ولم ابرز اليه، ودوني عك والأشعرون. ثم قال:
__________
[1] هوى بالضم وكغنى ساعه من النهار او من الليل.

(1/176)


ما للملوك وللبراز وإنما ... حظ المبارز خطفه من باز
ووجد من ذلك على عمرو، فهجره أياما، فقال عمرو لمعاوية: انا خارج الى على غدا.
فلما أصبحوا بدر عمرو حتى وقف بين الصفين، وهو يرتجز:
شدا على شكتى لا تنكشف ... يوم لهمدان ويوم للصدف
ولتميم مثله او تنحرف ... والربعيون لهم يوم عصف
إذا مشيت مشيه العود النطف ... اطعنهم بكل خطى ثقف [1]
ثم نادى: يا أبا الحسن، اخرج الى، انا عمرو بن العاص. فخرج اليه على، فتطاعنا، فلم يصنعا شيئا، فانتضى على سيفه، فحمل عليه، فلما اراد ان يجلله رمى بنفسه عن فرسه، ورفع احدى رجليه، فبدت عورته، فصرف على وجهه، وتركه. وانصرف عمرو الى معاويه، فقال له معاويه: احمد الله وسوداء استك يا عمرو.
قالوا: وخرج عبيد الله بن عمر بن الخطاب يوما من تلك الأيام، وكان من فرسان العرب وابطالها في خيل من اهل الشام، وخرج الاشتر في مثلها، فاشتدت بينهما الحرب، فالتقى عبيد الله والاشتر، فحمل عبيد الله على الاشتر، وبدره الاشتر يطعنه، فاخطاه، واسرع الاشتر في اصحاب عبيد الله، فانصرف الفريقان، وللأشتر الفضل.
وخرج يوما آخر عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وكان من معدودى رجال معاويه، فخرج اليه عدى بن حاتم في مثلها، فاقتتلوا يومهم كله، ثم انصرفوا، وكل غير غالب.
__________
[1] الخطى الثقف: الرمح المعتدل.

(1/177)


وخرج يوما ذو الكلاع في اربعه آلاف فارس من اهل الشام قد تبايعوا على الموت، فحملوا على ربيعه، وكانوا في ميسره على، وعليهم عبد الله بن عباس، فتصدعت جموع ربيعه، فناداهم خالد بن المعمر: يا معشر ربيعه اسخطتم الله فثابوا اليه، فاشتد القتال حتى كثرت القتلى، ونادى عبيد الله بن عمر: انا الطيب ابن الطيب، فسمعه عمار، فناداه: بل أنت الخبيث ابن الطيب.
ثم حمل عبيد الله، وهو يرتجز:
انا عبيد الله ينمينى عمر ... خير قريش من مضى ومن غبر
غير رسول الله والشيخ الأغر ... أبطأ عن نصر ابن عفان مضر
والربعيون، فلا اسقوا المطر
فضرب شمر بن الريان العجلى، فقتله، وكان من فرسان ربيعه.

مقتل عبيد الله بن عمر بن الخطاب
فلما أصبحوا خرج عبيد الله فيمن كان معه بالأمس، وخرجت اليهم ربيعه، فاقتتلوا بين الصفين، وعبيد الله امامهم يضرب بسيفه، فحمل عليه حريث بن جابر الحنفي، فطعنه في لبته [1] ، فقتله، وقد اختلفوا في قتله، فقالت [2] همدان: قتله هانئ بن الخطاب، وقالت حضرموت: قتله مالك بن عمرو الحضرمى، وقالت ربيعه: حريث بن جابر الحنفي، وهو المجمع عليه، فقال كعب بن جعيل يرثيه:
الا انما تبكى العيون لفارس ... بصفين اجلت خيله وهو واقف
فاضحى عبيد الله بالقاع مسلما ... تمج دما منه والعروق النوازف
ينوء وتعلوه سبائب من دم ... كما لاح في جيب القميص الكفائف [3]
وقد ضربت حول ابن عم نبينا ... من الموت شهباء المناكب شارف [4]
__________
[1] المنحر وموضع القلادة من الصدر.
[2] في الأصل: فقال.
[3] السبائب جمع سبيبه وهي الشقه الرقيقه من الثياب، والكفائف طرر القميص التي لا اهداب لها.
[4] يعنى ان الكتيبة قد صارت مناكبها شهباء لما يعلوها من الحديد.

(1/178)


تموج ترى الرايات حمرا كأنها ... إذا صوبت للطعن طير عواكف
جزى الله قتلانا بصفين خير ما ... جزى عبادا غادرتها المواقف

مقتل ذي الكلاع
قالوا: وخرج ذو الكلاع في يوم من تلك الأيام في كتيبه من اهل الشام من عك ولخم، فخرج اليه عبد الله بن عباس في ربيعه، فالتقوا، ونادى رجل من مذحج العراق يا آل مذحج، خذموا [1] فاعترضت مذحج عكا يضربون سوقهم بالسيوف، فيبركون. فنادى ذو الكلاع.. يا آل عك، بروكا كبروك الإبل.
وحمل رجل من بكر بن وائل يسمى خندفا على ذي الكلاع، فضربه بالسيف على عاتقه، فقد الدرع، وفرى عاتقه، فخر ميتا، فلما قتل ذو الكلاع تمحكت عك، وصبروا لعض السيوف، فلم يزالوا كذلك حتى امسوا.
وكان اهل العراق واهل الشام ايام صفين إذا انصرفوا من الحرب يدخل كل فريق منهم في الفريق الآخر، فلا يعرض احد لصاحبه، وكانوا يطلبون قتلاهم، فيخرجونهم من المعركة، ويدفنونهم.
قالوا: وان عليا رضى الله عنه اشاع انه يخرج الى اهل الشام بجميع الناس، فيقاتلهم حتى يحكم الله بينه وبينهم، ففزع الناس لذلك فزعا شديدا، وقالوا: انما كنا الى اليوم تخرج الكتيبة الى مثلها، فيقتتلون بين الجمعين، فان التقينا بجميع الفيلقين فهو فناء العرب.
وقام على في الناس خطيبا، فقال: الا انكم ملاقو القوم غدا بجميع الناس، فأطيلوا الليلة القيام، وأكثروا تلاوة القرآن، وسلوا الله الصبر والعفو، والقوهم بالجد.
__________
[1] في الأصل: خدموا والصواب: خذموا اى أسرعوا في السير.

(1/179)


فقال كعب بن جعيل:
اصبحت الامه في امر عجب ... والملك مجموع غدا لمن غلب
اقول قولا صادقا غير الكذب ... ان غدا تهلك اعلام العرب
واجتمع اهل الشام الى معاويه، فعرضهم، فنادى مناديه: اين الجند المقدم؟ فخرج اهل حمص تحت راياتهم، وعليهم ابو الأعور السلمى، ثم نادى: اين اهل الأردن؟، فخرجوا تحت راياتهم، وعليهم زفر بن الحارث الكلابى، ثم نادى: اين جند الأمير؟ فجاء اهل دمشق تحت راياتهم، وعليهم الضحاك ابن قيس، فأطافوا بمعاويه، فعقد لعمرو بن العاص على جميع الناس، وساروا حتى وقفوا بإزاء اهل العراق.
وقعد معاويه على منبر ينظر منه فوق رابيه الى الفريقين إذا اقتتلوا، واقبلت عك الشام، وقد عصبوا انفسهم بالعمائم، وطرحوا بين ايديهم حجرا، وقالوا: لا نولي الدبر او يولى معنا هذا الحجر، فصفهم عمرو خمسه صفوف، ووقف امامهم يرتجز:
يا ايها الجيش الصليب الأيمان ... قوموا قياما، فاستعينوا الرحمن [1]
انى أتاني خبر فأبكان ... ان عليا قتل ابن عفان
ردوا علينا شيخنا كما كان
وأنشأ رجل من اهل الشام يقول:
تبكى الكتيبة يوم جر حديدها ... يوم الوغى جزعا على عثمانا
يسلون حق الله لا يعدونه ... وسألتم لعلى السلطانا
فاتوا ببينه بما تسلونه ... هذا البيان، فاحضروا البرهانا
ولما اصبح على رضى الله عنه غلس [2] . بصلاة الفجر، ثم امر اصحابه، فخرجوا
__________
[1] في الأصل: الرحمان.
[2] صلى الفجر في أول وقته

(1/180)


تحت راياتهم، ثم جعل يدور على رايات اهل الشام، فيقول: من هؤلاء؟ فيسمون له، حتى إذا عرفهم، وعرف مراكزهم، قال لازد الكوفه: اكفوني ازد الشام، وقال لخثعم: اكفوني خثعم، فامر كل قبيله من اهل العراق ان تكفيه أختها من اهل الشام، ثم امرهم ان يحملوا من كل ناحيه حمله رجل واحد، فحملوا، وحمل على رضى الله عنه على الجمع الذى كان فيه معاويه في اهل الحجاز من قريش والانصار وغيرهم، وكانوا زهاء اثنى عشر الف فارس، وعلى امامهم، وكبروا وكبر الناس تكبيره ارتجت لها الارض، فانتقضت صفوف اهل الشام، واختلفت راياتهم، وانتهوا الى معاويه، وهو جالس على منبره، معه عمرو بن العاص، ينظران الى الناس، فدعا بفرس ليركبه.
ثم ان اهل الشام تداعوا بعد جولتهم، وثابوا، ورجعوا على اهل العراق، وصبر القوم بعضهم لبعض الى ان حجز بينهم الليل، فقتل في ذلك اليوم اناس كثير من اعلام العرب واشرافهم، فلما أصبحوا دخل الناس بعضهم في بعض، يستخرجون قتلاهم، فيدفنونهم يومهم ذلك كله.
ثم ان عليا قام في عشيه ذلك اليوم في اصحابه، فقال: ايها الناس، اغدوا على مصافكم، وازحفوا الى عدوكم، وغضوا الابصار، واخفضوا الأصوات، وأقلوا الكلام، واثبتوا، واذكروا الله كثيرا، وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ، وَاصْبِرُوا، إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ.
وقام معاويه في اهل الشام، فقال: ايها الناس، اصبروا وصابروا، ولا تتخاذلوا ولا تتواكلوا، فإنكم على حق، ولكم حجه، وانما تقاتلون من سفك الدم الحرام، فليس له في السماء عاذر.
وقام عمرو، فقال: ايها الناس، قدموا المستلئمة وأخروا الحسر [1] ، وأعيرونا جماجمكم اليوم، فقد بلغ الحق مقطعه، وانما هو ظالم او مظلوم.
__________
[1] الحاسر خلاف الدارع، ويقال للرجاله في الحرب الحسر لأنه لا درع عليهم ولا بيض على رءوسهم.

(1/181)


فبات الفريقان طول تلك الليلة يتعبون للحرب، ثم غدوا على مصافهم، وحمل الفريقان بعضهم على بعض، وحمل حبيب بن مسلمه، وكان على ميسره معاويه، على ميمنه على رضى الله عنه، فانكشفوا وجالوا جولة، ونظر على الى ذلك، فقال لسهل بن حنيف: انهض فيمن معك من اهل الحجاز حتى تعين اهل الميمنه، فمضى سهل فيمن كان معه من اهل الحجاز نحو الميمنه، فاستقبلهم جموع اهل الشام، فكشفوه ومن معه حتى انتهوا الى على، وهو في القلب، فجال القلب وفيه على جولة، فلم يبق مع على الا اهل الحفاظ والنجده، فحث على فرسه نحو ميسرته، وهم وقوف يقاتلون من بازائهم من اهل الشام، وكانوا ربيعه.
قال زيد بن وهب: فانى لانظر الى على، وهو يمر نحو ربيعه، ومعه بنوه: الحسن والحسين ومحمد، وان النبل ليمر بين أذنيه وعاتقه، وبنوه يقونه بانفسهم، فلما دنا على من الميسره، وفيها الاشتر، وقد وقفوا في وجوه اهل الشام يجالدونهم، فناداه على، وقال: ايت هؤلاء المنهزمين، فقل: اين فراركم من الموت الذى لم تعجزوه الى الحياه التي لا تبقى لكم.
فدفع الاشتر فرسه، فعارض المنهزمين، فناداهم: ايها الناس، الى الى، انا مالك بن الحارث فلم يلتفتوا اليه، فظن انه بالاستعراف، فقال: ايها الناس انا الاشتر فثابوا اليه، فزحف بهم نحو ميسره اهل الشام. فقاتل بهم قتالا شديدا حتى انكشف اهل الشام، وعادوا الى مواقفهم الاولى.
ورتب الاشتر ميمنه على رضى الله عنه والقلب مراتبهما قبل الجولة، فلما عادوا الى مواقفهم جعل على يسير في الصفوف ويؤنبهم على ما كان من جولتهم، وذلك ما بين صلاه العصر والمغرب.
قال: ثم ان اهل الشام حملوا على تميم، وكانوا في الميمنه، فكشفوهم، فناداهم زحر 1 في الأصل: زجر. بن نهشل: يا بنى تميم، الى أين؟ قالوا: الا ترى الى ما قد غشينا؟!

(1/182)


فقال: ويحكم، افرارا واعتذارا؟! ان لم تقاتلوا على الدين، فقاتلوا على الاحساب، احملوا معى. فحمل وحملوا، فقاتل حتى قتل، وهو امامهم، وحمل الناس جميعا بعضهم على بعض، واقتتلوا حتى تكسرت الرماح وتقطعت السيوف، ثم تكادموا [1] . بالأفواه، وتحاثوا بالتراب، ثم تنادوا من كل جانب: يا معشر العرب، من للنساء والأولاد، الله الله في الحرمات.
وان عليا رضى الله عنه لينغمس في القوم، فيضرب بسيفه حتى ينثني، ثم يخرج متخضبا بالدم حتى يسوى له سيفه، ثم يرجع، فينغمس فيهم، وربيعه لا تترك جهدا في القتال معه والصبر، وغابت الشمس، وقربوا من معاويه، فقال لعمرو: ما ترى؟ قال: ان تخلى سرادقك.
فنزل معاويه عن المنبر الذى كان يكون عليه، واخلى السرادق، واقبلت ربيعه، وامامها على رضى الله عنه حتى غشوا السرادق، فقطعوه، ثم انصرفوا، وبات على تلك الليلة في ربيعه.

مقتل هاشم بن عتبة بن ابى وقاص المرقال
فلما اصبح على غادى [2] اهل الشام القتال، ودفع رايته العظمى الى هاشم بن عتبة، فقاتل بها نهاره كله، فلما كان العشى انكشف اصحابه انكشافه، وثبت هاشم في اهل الحفاظ منهم والنجده، فحمل عليهم الحارث بن المنذر التنوخي، فطعنه طعنه جائفة [3] ، فلم ينته عن القتال، ووافاه رسول على يأمره ان يقدم رايته، فقال للرسول: انظر الى ما بي فنظر الى بطنه، فرآه منشقا، فرجع الى على، فاخبره، ولم يلبث هاشم ان سقط، وجال اصحابه عنه، وتركوه بين القتلى، فلم يلبث ان مات. وحال الليل بين الناس وبين القتال.
__________
[1] عض بعضهم بعضا
[2] باكرهم.
[3] قاتله، وجافه اى صرعه، لغة في جعفه.

(1/183)


فلما اصبح على غلس [1] بالصلاة، وزحف بجموعه نحو القوم على التعبئة الاولى، ودفع الراية الى ابنه عبد الله بن هاشم بن عتبة، وتزاحف الفريقان فاقتتلوا. فروى عن القعقاع الظفري انه قال: لقد سمعت في ذلك اليوم من أصوات السيوف ما الرعد القاصف دونه وعلى رضى الله عنه واقف ينظر الى ذلك، ويقول: لا حول ولا قوه الا بالله، والله المستعان، رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ.
ثم حمل على بنفسه على اهل الشام حتى غاب فيهم، فانصرف مخضبا بالدماء، فلم يزالوا كذلك يومهم كله والليل حتى مضى ثلثه، وجرح على خمس جراحات، ثلاث في راسه واثنتان في وجهه، ثم تفرقوا وغدوا على مصافهم، وعمرو بن العاص يقدم اهل الشام، فحمل عبد الله بن جعفر ذو الجناحين في قريش والانصار في وجه عمرو فاقتتلوا، وحمل غلامان اخوان من الانصار على جموع اهل الشام حتى انتهيا الى سرادق معاويه، فقتلا على باب السرادق، ودارت رحى الحرب الى ان ذهب ثلث الليل، ثم تحاجزوا، ولما اصبح الناس اختلط بعضهم ببعض، يستخرجون قتلاهم، فيدفنونهم.
وكتب معاويه الى على: اما بعد، فانى انما اقاتلك على دم عثمان، ولم أر المداهنه في امره واسلام حقه، فان ادرك بثارى فيه فذاك، والا فالموت على الحق اجمل من الحياه على الضيم، وانما مثلي ومثل عثمان، كما قال المخارق:
فمهما تسل عن نصرتي السيد لا تجد ... لدى الحرب بيت السيد عندي مذمما
فكتب اليه على: اما بعد، فانى عارض عليك ما عرض مخارق على بنى فالج، حيث قال:
__________
[1] الغلس: ظلمه آخر الليل إذا اختلطت بضوء الصباح، والمراد انه صلى الصبح في أول وقته.

(1/184)


يا راكبا اما عرضت فبلغا ... بنى فالج حيث استقر قرارها
هلموا إلينا لا تكونوا كأنكم ... بلاقع ارض طار عنها غبارها
سليم بن منصور اناس أعزة ... وارضهم ارض كثير وبارها [1]
فكتب اليه معاويه: انا لم نزل للحرب قاده، وانما مثلي ومثلك ما قال أوس بن حجر:
إذا الحرب حلت ساحه الحى أظهرت ... عيوب رجال يعجبونك في الأمن
وللحرب اقوام يحامون دونها ... وكم قد ترى من ذي رواء ولا يغنى
ثم غدوا على الحرب، ورايه اهل الشام العظمى مع عبد الرحمن بن خالد ابن الوليد، وكان يحمل بها فلا يلقاه شيء الا هده، وكان من فرسان العرب، وكانت من اهل العراق جولة شديده، فنادى الناس الاشتر، وقالوا: اما ترى اللواء اين قد بلغ؟، فتناول الاشتر لواء اهل العراق، فتقدم به، وهو يرتجز:
انى انا الاشتر الشتر ... انى انا الأفعى العراقي الذكر [2]
فقاتل اهل الشام حتى رد اللواء، وردهم على اعقابهم، ففي ذلك يقول النجاشى:
رايت اللواء كظل العقاب ... يقحمه الشامي الاخزر [3]
دعونا له الكبش كبش العراق ... وقد خالط العسكر العسكر
فرد اللواء على عقبه ... وفاز بحظوتها الاشتر

مقتل حوشب ذي ظليم
قالوا: وأخذ الراية جندب بن زهير، فخرج اليه حوشب ذو ظليم، وكان من عظماء اهل الشام، وفرسانهم، فاخذ الراية وجعل يمضى بها قدما، وينكا
__________
[1] اى شجرها.
[2] الشتر بالتحريك انقلاب جفن العين من اعلى واسفل، او استرخاء اسفله، والاشتر لقب اشتهر به ابراهيم بن مالك بن الحارث.
[3] العقاب طائر عظيم، والخزر بالتحريك انكسار بصر العين خلقه، او ضيقها وصغرها.

(1/185)


في اهل العراق، فخرج اليه سليمان بن صرد، وكان من فرسان على، فاقتتلوا، فقتل حوشب، وجال اهل العراق جولة انتقضت صفوفهم، وانحاز اهل الحفاظ منهم مع على رضى الله عنه الى ناحيه اخرى يقاتلون، واقبل عدى بن حاتم يطلب عليا في موضعه الذى خلفه فيه، فلم يجده، فسال عنه، فدل عليه، فاقبل اليه، فقال:
يا امير المؤمنين، اما إذ كنت حيا فالأمر امم [1] ، واعلم انى ما مشيت إليك الا على أشلاء القتلى، وما ابقى هذا اليوم لنا ولا لهم عميدا.
وكان اكثر من صبر في تلك الساعة مع على وقاتل ربيعه، فقال على رضى الله عنه: يا معشر ربيعه، أنتم درعي وسيفي ثم ركب الفرس [2] الذى كان لرسول الله ص يسمى الريح وجنب بين يديه بغله رسول الله ص الشهباء، وتعمم بعمامته ص السوداء، ثم امر مناديه، فنادى: ايها الناس، من يشرى نفسه لله؟ فانتدب له الناس، وانضموا اليه، فاقبل بهم على اهل الشام حتى أزال راياتهم، وجالوا جولة قبيحه حتى دعا معاويه بفرسه ليركبها، ثم نادى مناديه في اهل الشام: الى اين ايها الناس؟ أثيبوا، فان الحرب سجال فثاب اليه الناس، وكروا على اهل العراق.
وقال معاويه لعمرو: قدم عك والاشعرين، فإنهم كانوا أول من انهزم في هذه الجولة. فأتاهم عمرو، فبلغهم قول معاويه، فقال رئيسهم مسروق العكي: انتظروني حتى آتى معاويه فأتاه، فقال: افرض لقومى في الفين الفين، ومن هلك منهم، فابن عمه مكانه، قال: ذلك لك، فانصرف الى قومه، فاعلمهم ذلك، فتقدموا، فاضطربوا هم وهمدان بالسيوف اضطرابا شديدا، فاقسمت عك لا ترجع حتى ترجع همدان، واقسمت همدان على مثل ذلك.
فقال عمرو لمعاوية: لقيت اسد أسدا، لم أر كاليوم قط.
فقال معاويه: لو ان معك حيا آخر كعك، ومع على كهمدان لكان الفناء.
__________
[1] اى يسير وهين.
[2] الفرس للذكر والأنثى من الخيل.

(1/186)


وكتب معاويه الى على:
بسم الله الرحمن الرحيم، من معاويه بن ابى سفيان الى على بن ابى طالب، اما بعد، فانى احسبك ان لو علمت وعلمنا، ان الحرب تبلغ بك وبنا ما بلغت لم نجنها على أنفسنا، فانا وان كنا قد غلبنا على عقولنا، فقد بقي لنا منها ما ينبغى ان نندم على ما مضى ونصلح ما بقي، فإنك لا ترجو من البقاء الا ما أرجو، ولا اخاف من القتل الا ما تخاف، وقد والله رقت الأجناد، وتفانى الرجال، ونحن بنو عبد مناف ليس لبعضنا على بعض فضل الا ما يستذل به العزيز، ولا يسترق به الحر، والسلام.
فكتب اليه على رضى الله عنه:
بسم الله الرحمن الرحيم، اما بعد، فقد أتاني كتابك، تذكر انك لو علمت وعلمنا ان الحرب تبلغ بك وبنا ما بلغت لم نجنها على أنفسنا، فاعلم انك وإيانا منها الى غاية لم نبلغها بعد، واما استواؤنا في الخوف والرجاء، فإنك لست امضى على الشك منى على اليقين، وليس اهل الشام باحرص على الدنيا من اهل العراق على الآخرة، واما قولك انا بنو عبد مناف، وليس لبعضنا على بعض فضل، فليس كذلك، لان اميه ليس كهاشم، ولا حربا كعبد المطلب، ولا أبا سفيان كابى طالب، ولا المهاجر كالطليق، وفي أيدينا فضل النبوه التي بها قتلنا العزيز، ودان لنا بها الذليل.
ثم ان عليا رضى الله عنه غلس بالصلاة صلاه الفجر، وزحف بجموعه نحو اهل الشام، فوقف الفريقان تحت راياتهم، وخرج الاشتر على فرس كميت ذنوب [1] . مقنعا بالحديد، وبيده الرمح، فحمل على اهل الشام، فاتبعه الناس، وكسر فيهم ثلاثة ارماح، واضطرب الناس بالسيوف وعمد الحديد، وبرز رجل من اهل الشام مقنعا بالحديد، ونادى: يا أبا الحسن، ادن منى، اكلمك فدنا منه على
__________
[1] طويل الذنب

(1/187)


حتى اختلفت اعناق فرسيهما بين الصفين، فقال: ان لك قدما في الاسلام ليس لأحد، وهجره مع رسول الله ص، وجهادا، فهل لك ان تحقن هذه الدماء، وتؤخر هذه الحرب برجوعك الى عراقك، ونرجع الى شامنا الى ان تنظر وننظر في امرنا؟.
[فقال على: يا هذا، انى قد ضربت انف هذا الأمر وعينيه، فلم اجده يسعني الا القتال او الكفر بما انزل الله على محمد، ان الله لا يرضى من اوليائه ان يعصى في الارض، وهم سكوت، لا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر، فوجدت القتال اهون من معالجة الأغلال في جهنم.
] قال: فانصرف الشامي، وهو يسترجع، ثم اقتتلوا حتى تكسرت الرماح، وتقطعت السيوف، واظلمت الارض من القتام، [1] ، وأصابهم البهر، [2] وبقي بعضهم ينظر الى بعض بهيرا. فتحاجزوا بالليل، وهو ليله الهرير. ثم أصبحوا غداه هذه الليلة، واختلط بعضهم ببعض يستخرجون قتلاهم ويدفنونهم.
ثم ان عليا قام من صبيحة ليله الهرير في الناس خطيبا، فحمد الله واثنى عليه، ثم قال: ايها الناس، انه قد بلغ بكم وبعدوكم الأمر الى ما ترون، ولم يبق من القوم الا آخر نفس، فتأهبوا رحمكم الله لمناجزه عدوكم غدا، حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وبينهم، وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ.
وبلغ ذلك معاويه، فقال لعمرو: ما ترى، فإنما هو يومنا هذا وليلتنا هذه؟، فقال عمرو: انى قد اعددت بحيلتي امرا اخرته الى هذا اليوم، فان قبلوه اختلفوا، وان ردوه تفرقوا، قال معاويه: وما هو؟ قال عمرو: تدعوهم الى كتاب الله حكما بينك وبينهم، فإنك بالغ به حاجتك. فعلم معاويه ان الأمر كما قال.
قالوا: وان الاشعث بن قيس قال لقومه، وقد اجتمعوا اليه: قد رايتم ما كان في اليوم الماضى من الحرب المبيره [3] . وانا والله ان التقينا غدا، انه لبوار العرب وضيعه الحرمات.
__________
[1] الغبار.
[2] البهر: انقطاع النفس او تتابعه من الإعياء، وهو مبهور وبهير.
[3] المسرفه في اهلاك الناس

(1/188)


قالوا: فانطلقت العيون الى معاويه بكلام الاشعث، فقال: صدق الاشعث، لئن التقينا غدا ليميلن الروم على ذراري اهل الشام، وليميلن دهاقين فارس على ذراري اهل العراق، وما يبصر هذا الأمر الا ذوو الأحلام، اربطوا المصاحف على اطراف القنا.
[1] قالوا: فربطت المصاحف، فأول ما ربط مصحف دمشق الأعظم، ربط على خمسه ارماح، يحملها خمسه رجال، ثم ربطوا سائر المصاحف، جميع ما كان معهم، وأقبلوا في الغلس، ونظر اهل العراق الى اهل الشام قد أقبلوا، وامامهم شبيه بالرايات، فلم يدروا ما هو، حتى أضاء الصبح، فنظروا، فإذا هي المصاحف.
ثم قام الفضل بن ادهم امام القلب، وشريح الجذامى امام الميمنه، وورقاء ابن المعمر امام الميسره، فنادوا: يا معشر العرب، الله. الله في نسائكم وأولادكم من فارس والروم غدا، فقد فنيتم، هذا كتاب الله بيننا وبينكم. فقال على رضى الله عنه: ما الكتاب تريدون، ولكن المكر تحاولون.
ثم اقبل ابو الأعور السلمى على برذون اشهب، وعلى راسه مصحف، وهو ينادى: يا اهل العراق، هذا كتاب الله حكما فيما بيننا وبينكم.
فلما سمع اهل العراق ذلك قام كردوس بن هانئ البكرى، فقال: يا اهل العراق، لا يهدئكم ما ترون من رفع هذه المصاحف، فإنها مكيده. ثم تكلم سفيان بن ثور النكرى، [2] ، فقال: ايها الناس، انا قد كنا بدأنا بدعاء اهل الشام الى كتاب الله، فردوا علينا، فاستحللنا قتالهم، فان رددناه عليهم حل لهم قتالنا، «ولسنا نخاف ان يحيف الله علينا ولا رسوله» .
ثم قام خالد بن المعمر، فقال لعلى: يا امير المؤمنين، ما البقاء الا فيما دعا القوم اليه ان رايته، وان لم تره فرأيك افضل. ثم تكلم الحضين بن المنذر، فقال: ايها الناس، ان لنا داعيا قد حمدنا ورده وصدره، وهو المأمون على ما فعل، فان قال: لا، قلنا: لا، وان قال: نعم، قلنا: نعم.
__________
[1] جمع قناه وهي الرمح.
[2] في الأصل: البكرى.

(1/189)


فتكلم على، وقال: عباد الله، انا احرى من أجاب الى كتاب الله، وكذلك أنتم، غير ان القوم ليس يريدون بذلك الا المكر، وقد عضتهم الحرب، والله، لقد رفعوها وما رأيهم العمل بها، وليس يسعني مع ذلك ان ادعى الى كتاب الله فأبى، وكيف وانما قاتلناهم ليدينوا بحكمه.
فقال الاشعث: يا امير المؤمنين نحن لك اليوم على ما كنا عليه لك أمس، غير ان الرأي ما رايت من اجابه القوم الى كتاب الله حكما. فاما عدى بن حاتم وعمرو بن الحمق فلم يهويا ذلك، ولم يشيروا على على به.
ولما أجاب على رضى الله عنه، قالوا له: فابعث الى الاشتر ليمسك عن الحرب ويأتيك. وكان يقاتل في ناحيه الميمنه، فقال على ليزيد بن هانئ: انطلق الى الاشتر، فمره ان يدع ما هو فيه، ويقبل، فأتاه، فابلغه، فقال: ارجع الى امير المؤمنين، فقل له ان الحرب قد اشتجرت بيني وبين اهل الناحية، فليس يجوز ان انصرف.
فانصرف يزيد الى على، فاخبره بذلك، وعلت الأصوات من ناحيه الاشتر، وثار النقع، [1] فقال القوم لعلى، والله ما نحسبك امرته الا بالقتال.
فقال: كيف امرته بذلك، ولم اساره سرا؟! ثم قال ليزيد: عد الى الاشتر، فقل له. اقبل، فان الفتنة قد وقعت. فأتاه، فاخبره بذلك.
فقال الاشتر: الرفع هذه المصاحف؟، قال: نعم. قال: اما والله لقد ظننت بها حين رفعت، انها ستوقع اختلافا وفرقه.
فاقبل الاشتر حتى انتهى اليهم، فقال: يا اهل الوهن والذل، احين علوتم القوم تنكلون لرفع هذه المصاحف؟ أمهلوني فواقا، [2] قالوا: لا ندخل معك في خطيئتك، قال: ويحكم، كيف بكم وقد قتل خياركم وبقي اراذلكم، فمتى كنتم محقين؟ احين كنتم تقاتلون أم الان حين أمسكتم؟ فما حال قتلاكم الذين
__________
[1] الغبار الساطع.
[2] الفواق بضم الفاء وبفتحها ما بين الحلبتين من الوقت، فالناقة تحلب ثم تترك سويعة يرضعها الفصيل لتدر، ثم تحلب.

(1/190)


لا ننكرون فضلهم، افي الجنه أم في النار؟. قالوا: قاتلناهم في الله، وندع قتالهم في الله. فقال: يا اصحاب الجباه السود، كنا نظن ان صلاتكم عباده وشوق الى الجنه، فنراكم قد فررتم الى الدنيا، فقبحا لكم. فسبوه، وسبهم، وضربوا وجه دابته بسياطهم، وضرب هو وجوه دوابهم بسوطه. وكان مسعر بن فدكي وابن الكواء وطبقتهم من القراء الذين صاروا بعد خوارج كانوا من أشد الناس في الإجابة الى حكم المصحف.
وان معاويه قام في اهل الشام، فقال: ايها الناس، ان الحرب قد طالت بيننا وبين هؤلاء القوم، وان كل واحد منا يظن انه على الحق وصاحبه على الباطل، وانا قد دعوناهم الى كتاب الله والحكم به، فان قبلوه، والا كنا قد أعذرنا اليهم.
ثم كتب الى على: ان أول من يحاسب على هذا القتال انا وأنت، وانا ادعوك الى حقن هذه الدماء والفة الدين واطراح الضغائن، وان يحكم بيني وبينك حكمان، أحدهما من قبلي والآخر من قبلك، ما يجدانه مكتوبا مبينا في القرآن يحكمان به، فارض بحكم القرآن ان كنت من اهله.
فكتب اليه على: دعوت الى حكم القرآن، وانى لأعلم انك ليس حكمه تحاول، وقد أجبنا القرآن الى حكمه لا إياك، ومن لم يرض بحكم القرآن فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً.
وكتب الى عمرو بن العاص: [اما بعد، فان الدنيا مشغله عن غيرها، ولم يصب صاحبها منها شيئا الا انفتح له بذلك حرص يزيده فيها رغبه، ولن يستغنى صاحبها بما نال منها عما لم ينله،] ومن وراء ذلك فراق ما جمع، فلا تحبط عملك بمجاراه معاويه على باطله، وان لم تنته لم تضر بذلك الا نفسك، والسلام.
فأجابه عمرو: اما بعد، فان الذى فيه صلاحنا والفه ما بيننا الإنابة الى الحق، وقد جعلنا القرآن حكما بيننا وبينك لنرضى بحكمه، ويعذرنا الناس عند المناجزة، والسلام.

(1/191)


فكتب اليه على: اما بعد، فان الذى اعجبك مما نازعتك نفسك اليه من طلب الدنيا منقلب عنك، فلا تطمئن إليها، فإنها غراره، ولو اعتبرت بما مضى انتفعت بما بقي، والسلام.
فكتب اليه عمرو: اما بعد، فقد انصف من جعل القرآن حكما، فاصبر يا أبا الحسن، فانا غير منيليك الا ما انا لك القرآن، والسلام.
فاجتمع قراء اهل العراق وقراء اهل الشام، فقعدوا بين الصفين، ومعهم المصحف يتدارسونه، فاجتمعوا على ان يحكموا حكمين، وانصرفوا.
فقال اهل الشام: قد رضينا بعمرو.
وقال الاشعث ومن كان معه من قراء اهل العراق: قد رضينا نحن بابى موسى.
فقال لهم على: لست أثق براى ابى موسى، ولا بحزمه، ولكن اجعل ذلك لعبد الله بن عباس.
قالوا: والله ما نفرق بينك وبين ابن عباس، وكأنك تريد ان تكون أنت الحاكم، بل اجعله رجلا هو منك ومن معاويه سواء، ليس الى احد منكما بأدنى منه الى الآخر.
قال على رضى الله عنه: فلم ترضون لأهل الشام بابن العاص، وليس كذلك؟.
قالوا: أولئك اعلم، انما علينا أنفسنا.
قال: فانى اجعل ذلك الى الاشتر.
قال الاشعث: وهل سعر هذه الحرب الا الاشتر، وهل نحن الا في حكم الاشتر؟.
قال على: وما حكمه؟.
قال: يضرب بعض وجوه بعض حتى يكون ما يريد الله.

(1/192)


قال: فقد ابيتم الا ان تجعلوا أبا موسى.
قالوا: نعم.
قال: فاصنعوا ما احببتم.
قالوا: فأرسلوا رسولا الى ابى موسى، وقد كان اعتزل الحرب، واقام بعرض [1] . من اعراض الشام، فدخل عليه مولى له، فقال: قد اصطلح الناس، قال: الحمد لله رب العالمين. قال: وقد جعلوك حكما.
قال: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ.
فاقبل ابو موسى حتى دخل عسكر على، فولوه الأمر، ورضوا به، فقبله.
فقال الأحنف بن قيس لعلى: انك قد منيت بحجر الارض، وداهيه العرب، وقد عجمت أبا موسى، فوجدته كليل الشفرة، قريب العقر، وانه لا يصلح لهذا الأمر الا رجل يدنو من صاحبه حتى يكون في كفه، ويبعد منه حتى يكون مكان النجم، فان شئت ان تجعلني حكما فافعل، والا فثانيا او ثالثا، فان قلت: انى لست من اصحاب رسول الله ص، فابعث رجلا من صحابته، واجعلنى وزيرا له ومشيرا.
فقال على: ان القوم قد أبوا ان يرضوا بغير ابى موسى، «والله بالِغُ أَمْرِهِ» .
قالوا: فقال ايمن بن خريم الأسدي من اهل الشام، وكان معتزلا للقوم:
لو كان للقوم راى يهتدون به ... بعد القضاء رموكم بابن عباس
لكن رموكم بشيخ من ذوى يمن ... لم يدر ما ضرب اخماس لأسداس
[2]
__________
[1] العرض: الجانب من كل شيء
[2] تقول العرب لمن خاتل، ضرب أخماسا لأسداس، وهو مثل، اصله ان شيخا كان في ابله ومعه اولاده رجالا يرعونها، قد طالت غربتهم عن أهلهم، فقال لهم ذات يوم: ارعوا ابلكم بربعا، فرعوا ربعا نحو طريق أهلهم، فقالوا له: لو رعيناها خمسا، فزادوا يوما قبل أهلهم، فقالوا: لو رعيناها سدسا، ففطن الشيخ لما يريدون، فقال: ما أنتم الا ضرب اخماس لأسداس، ما همتكم رعيها، انما همتكم أهلكم.

(1/193)


قالوا: وقد كان معاويه جعل لايمن بن خريم ناحيه من فلسطين على ان يبايعه، فأبى، وقال:
لست بقاتل رجلا يصلى ... على سلطان آخر من قريش
له سلطانه وعلى إثمي ... معاذ الله من سفه وطيش
ااقتل مسلما في غير حق ... فليس بنافعى ما عشت عيشي

وثيقة التحكيم
قالوا: فاجتمع اهل العراق واهل الشام وأتوا بكاتب، وقالوا: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما تقاضى عليه امير المؤمنين. فقال معاويه بئس الرجل انا ان اقررت بانه امير المؤمنين ثم اقاتله. قال عمرو بل اكتب اسمه واسم ابيه. فقال الأحنف بن قيس: يا امير المؤمنين، لا تمح اسم امره المؤمنين، فانى اخاف ان محوتها لم ترجع إليك ابدا، ولا تجبهم الى ذلك.
[فقال على: الله اكبر، سنه بسنه، اما والله لقد جرى على يدي نظير هذا يعنى القضية يوم الحديبية، [1] وامتناع قريش ان يكتب محمد رسول الله، فقال النبي ص للكاتب، اكتب محمد بن عبد الله،] فكتبوا.
هذا ما تقاضى عليه على بن ابى طالب ومعاويه بن ابى سفيان وشيعتهما فيما تراضيا به من الحكم بكتاب الله وسنه نبيه ص، قضية على على اهل العراق شاهدهم وغائبهم، وقضية معاويه على اهل الشام شاهدهم وغائبهم، انا تراضينا ان نقف عند حكم القرآن فيما يحكم من فاتحته الى خاتمته، نحيى ما أحيا، ونميت ما أمات، على ذلك تقاضيا وبه تراضيا، وان عليا وشيعته رضوا بعبد الله بن قيس ناظرا وحاكما، ورضى معاويه وشيعته بعمرو بن العاص ناظرا وحاكما، على ان عليا ومعاويه أخذا على عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص عهد الله وميثاقه، وذمته وذمة
__________
[1] قريه قريبه من مكة، سميت ببئر فيها، وقد ورد ذكرها في الحديث كثيرا.

(1/194)


رسوله ان يتخذا القرآن اماما، ولا يعدوا به الى غيره في الحكم بما وجداه فيه مسطورا، وما لم يجدا في الكتاب رداه الى سنه رسول الله الجامعه، لا يتعمدان لها خلافا، ولا يبغيان فيها بشبهه.
وأخذ عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص على على ومعاويه عهد الله وميثاقه بالرضى بما حكما به مما في كتاب الله وسنه نبيه، وليس لهما ان ينقضا ذلك، ولا يخالفاه الى غيره، وهما آمنان في حكومتهما على دمائهما وأموالهما واشعارهما وابشارهما واهاليهما وأولادهما ما لم يعدوا الحق، رضى به راض او سخطه ساخط، وان الامه انصارهما على ما قضيا به من الحق مما هو في كتاب الله، فان توفى احد الحكمين قبل انقضاء الحكومة، فلشيعته واصحابه ان يختاروا مكانه رجلا من اهل المعدلة والصلاح على ما كان عليه صاحبه من العهد والميثاق، وان مات احد الأميرين قبل انقضاء الأجل المحدد في هذه القضية فلشيعته ان يولوا مكانه رجلا يرضون عدله، وقد وقعت القضية بين الفريقين والمفاوضه، ورفع السلاح، وقد وجبت القضية على ما سمينا في هذا الكتاب من موقع الشرط على الأميرين والحكمين والفريقين، والله اقرب شهيد، وَكَفى * به شَهِيداً، * فان خالفا وتعديا فالأمة بريئة من حكمهما ولا عهد لهما ولا ذمه، والناس آمنون على انفسهم وأهاليهم وأولادهم الى انقضاء الأجل، والسلاح موضوعه والسبل آمنة، والغائب من الفريقين مثل الشاهد في الأمر، وللحكمين ان ينزلا منزلا متوسطا عدلا بين اهل العراق واهل الشام، ولا يحضرهما فيه الا من احبا عن تراض منهما، والأجل الى انقضاء شهر رمضان، فان راى الحكمان تعجيل الحكومة عجلاها، وان رايا تأخيرها الى آخر الأجل اخراها، فان هما لم يحكما بما في كتاب الله وسنه نبيه الى انقضاء الأجل، فالفريقان على امرهم الاول في الحرب، وعلى الامه عهد الله وميثاقه في هذا الأمر، وهم جميعا يد واحده على من اراد في هذا الأمر إلحادا او ظلما او خلافا.
شهد على ما في هذا الكتاب الحسن والحسين ابنا على بن ابى طالب، وعبد الله ابن عباس، وعبد الله بن جعفر بن ابى طالب، والاشعث بن قيس، والاشتر

(1/195)


ابن الحارث، وسعيد بن قيس، والحصين والطفيل ابنا الحارث بن عبد المطلب، وابو سعيد بن ربيعة الأنصاري، وعبد الله بن خباب بن الأرت، وسهل بن حنيف، وابو بشر بن عمر الأنصاري، وعوف بن الحارث بن عبد المطلب، ويزيد بن عبد الله الأسلمي، وعقبه بن عامر الجهنى، ورافع بن خديج الأنصاري، وعمرو بن الحمق الخزاعي، والنعمان بن العجلان الأنصاري، وحجر بن عدى الكندى، ويزيد بن حجيه النكرى، ومالك بن كعب الهمدانى، وربيعه بن شرحبيل، والحارث بن مالك، وحجر بن يزيد، وعلبة بن حجيه.
ومن اهل الشام: حبيب بن مسلمه الفهري، وابو الأعور السلمى، وبسر ابن ارطاه القرشي، ومعاويه بن خديج الكندى، والمخارق بن الحارث، ومسلم ابن عمرو السكسكى، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وحمزه بن مالك، وسبيع ابن يزيد الحضرمى، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعلقمه بن يزيد الكلبى، وخالد بن الحصين السكسكى، وعلقمه بن يزيد الحضرمى، ويزيد بن ابجر العبسى، ومسروق بن جبله العكي، وبسر بن يزيد الحميرى، وعبد الله بن عامر القرشي، وعتبة بن ابى سفيان، ومحمد بن ابى سفيان، ومحمد بن عمرو بن العاص، وعمار بن الأحوص الكلبى، ومسعده بن عمرو العتبى، والصباح بن جلهمة الحميرى، وعبد الرحمن بن ذي الكلاع، وثمامة بن حوشب، وعلقمه بن حكم.
وكتب يوم الأربعاء لثلاث عشره ليله بقيت من صفر سنه سبع وثلاثين.

الخلاف بعد التحكيم
وان الاشعث أخذ الكتاب فقراه على الفريقين، يمر به على كل، رايه رايه، وقبيله قبيله، فيقرؤه عليهم، فمر برايات عنزه، وكان مع على منهم اربعه آلاف رجل، فلما قراه عليهم قال اخوان منهم، اسمهما جعد ومعدان: «لا حكم إِلَّا لِلَّهِ*» ثم شدا على اهل الشام، فقاتلا حتى قتلا، وهما أول من حكم.

(1/196)


ثم مر على رايات مراد، فقراه عليهم، فقال صالح بن شقيق، وكان من افاضلهم لا حكم الا لله، وان كره المشركون، ثم مر به على رايات بنى راسب، فتنادوا لا يحكم الرجال في دين الله، ثم مر به على رايات بنى تميم، فقالوا مثل ذلك، فقال عروه بن اديه: اتحكمون في دين الله الرجال، فأين قتلانا يا اشعث؟ ثم حمل بسيفه على الاشعث، فاخطاه، وأصاب السيف عجز دابته، فانصرف الاشعث الى قومه، فمشى اليه سادات تميم، فاعتذروا اليه، فقبل وصفح.
واقبل سليمان بن صرد الى على مضروبا في وجهه بالسيف، فقال: يا امير المؤمنين، اما لو وجدت أعوانا ما كتبت هذه الصحيفة. وقام محرز بن خنيس بن ضليع الى على، فقال: يا امير المؤمنين، اما الى الرجوع عن هذا الكتاب سبيل، فو الله انى لخائف ان يورثك ذلا؟. قال على: ابعد ان كتبناه ننقضه؟ هذا لا يجوز.
ثم ان عليا ومعاويه اتفقا على ان يكون مجتمع الحكمين بدومه الجندل، وهو المنصف بين العراق والشام. ووجه على مع ابى موسى شريح بن هانئ في اربعه آلاف من خاصته، وصير عبد الله بن عباس على صلاتهم، وبعث معاويه مع عمرو بن العاص أبا الأعور السلمى في مثل ذلك من اهل الشام.
فساروا من صفين حتى وافوا دومه الجندل، وانصرف على باصحابه حتى وافى الكوفه، وانصرف معاويه باصحابه حتى وافى دمشق، ينتظر ان ما يكون من امر الحكمين.
وكان على إذا كتب الى ابن عباس في امر اجتمع اليه اصحابه، فقالوا: ما كتب إليك امير المؤمنين؟ فيكتمهم، فيقولون: لم كتمتنا؟ وانما كتب إليك في كذا وكذا، فلا يزالون يزكنون [1] حتى يقفوا على ما كتب.
__________
[1] زكن الخبر زكنا بالتحريك علمه، وقيل الزكن: التفرس والظن الذى هو كاليقين.

(1/197)


وتأتي كتب معاويه الى عمرو بن العاص، فلا يأتيه احد من اصحابه، يسأله عن شيء من امره.
قالوا: وكتب معاويه الى عبد الله بن عمر بن الخطاب، والى عبد الله بن الزبير، والى ابى الجهم بن حذيفة، والى عبد الرحمن بن عبد يغوث: اما بعد، فان الحرب قد وضعت أوزارها، وصار هذان الرجلان الى دومه الجندل، فاقدموا عليهما ان كنتم قد اعتزلتم الحرب، فلم تدخلوا فيما دخل فيه الناس، لتشهدوا ما يكون منهما، والسلام.
فلما أتاهم كتابه ساروا جميعا الى دومه الجندل، فأقاموا ينتظرون ما يكون من الرجلين، وحضر معهم سعد بن ابى وقاص، وسار المغيره بن شعبه، وكان مقيما بالطائف لم يشهد شيئا من تلك الحروب حتى اتى دومه الجندل، فأقام ينتظر ما يكون منهما، فلما طال مقامه سار من هناك حتى اتى معاويه بدمشق، فقال له معاويه: اشر على بما ترى، فقال له المغيره: لو اشرت عليك لقاتلت معك، ولكنى قد اتيتك بخبر الرجلين.
قال: وما خبرهما؟.
قال: انى خلوت بابى موسى لأبلو ما عنده، فقلت: ما تقول فيمن اعتزل عن هذا الأمر، وجلس في بيته كراهية للدماء؟، فقال: أولئك خيار الناس، خفت ظهورهم من دماء إخوانهم، وبطونهم من أموالهم.
قال: فخرجت من عنده، واتيت عمرو بن العاص، فقلت: يا أبا عبد الله، ما تقول فيمن اعتزل هذه الحروب؟، فقال: أولئك شرار الناس، لم يعرفوا حقا، ولم ينكروا باطلا. وانا احسب أبا موسى خالعا صاحبه، وجاعلها لرجل لم يشهد، واحسب هواه في عبد الله بن عمر بن الخطاب. واما عمرو بن العاص فهو صاحبك الذى عرفته، واحسب سيطلبها لنفسه او لابنه عبد الله، ولا أراه يظن انك أحق بهذا الأمر منه. فاقلق ذلك معاويه.

(1/198)


مداوله الحكمين
قالوا: ثم ان عمرو بن العاص جعل يظهر تبجيل ابى موسى واجلاله، وتقديمه في الكلام وتوقيره، ويقول: صحبت رسول الله ص قبلي، وأنت اكبر سنا منى. ثم اجتمعا ليتناظرا في الحكومة، فقال ابو موسى: يا عمرو، هل لك فيما فيه صلاح الامه ورضى الله؟.
قال: وما هو؟.
قال: نولي عبد الله بن عمر، فانه لم يدخل نفسه في شيء من هذه الحروب.
قال له عمرو: اين أنت من معاويه؟.
قال ابو موسى: ما معاويه موضعا لها، ولا يستحقها بشيء من الأمور.
قال عمرو: الست تعلم ان عثمان قتل مظلوما؟.
قال: بلى.
قال: فان معاويه ولى عثمان، وبيته بعد في قريش ما قد علمت، فان قال الناس: لم ولى الأمر وليست له سابقه؟ فان لك في ذلك عذرا، تقول: انى وجدته ولى عثمان، والله تعالى يقول: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً وهو مع هذا أخو أم حبيبه زوج النبي ص، وهو احد اصحابه.
قال ابو موسى: اتق الله يا عمرو، اما ما ذكرت من شرف معاويه، فلو كان يستوجب بالشرف الخلافه، لكان أحق الناس بها أبرهة بن الصباح، فانه من أبناء ملوك اليمن التبابعه الذين ملكوا شرق الارض وغربها، ثم اى شرف لمعاوية مع على بن ابى طالب؟، واما قولك ان معاويه ولى عثمان، فاولى منه ابنه عمرو بن عثمان، ولكن ان طاوعتنى أحيينا سنه عمر بن الخطاب وذكره بتوليتنا ابنه عبد الله الحبر [1]
__________
[1] الرجل العالم الصالح، وجمعه احبار.

(1/199)


قال عمرو: فما يمنعك من ابنى عبد الله مع فضله وصلاحه وقديم هجرته وصحبته؟.
فقال ابو موسى: ان ابنك رجل صدق، ولكنك قد غمسته في هذه الحروب غمسا، ولكن هلم نجعلها للطيب ابن الطيب عبد الله بن عمر.
قال عمرو: يا أبا موسى، انه لا يصلح لهذا الأمر الا رجل له ضرسان، يأكل بأحدهما، ويطعم بالآخر.
قال ابو موسى: ويحك يا عمرو، ان المسلمين قد اسندوا إلينا امرا بعد ان تقارعوا بالسيوف وتشاكوا بالرماح، فلا نردهم في فتنه.
قال: فما ترى؟.
قال: ارى ان نخلع هذين الرجلين، عليا ومعاويه، ثم نجعلها شورى بين المسلمين، يختارون لأنفسهم من أحبوا.
قال عمرو: فقد رضيت بذلك، وهو الرأي الذى فيه صلاح الناس.
قال: فافترقا على ذلك، واقبل ابن عباس الى ابى موسى، فخلا به، وقال: ويحك يا أبا موسى، احسب والله عمرا قد اختدعك، فان كنتما قد اتفقتما على شيء فقدمه قبلك ليتكلم، ثم تكلم بعده، فان عمرا رجل غدار، ولست آمن ان يكون قد أعطاك الرضى فيما بينك وبينه، فإذا قمت به في الناس خالفك، قال ابو موسى: قد اتفقنا على امر لا يكون لأحدنا على صاحبه فيه خلاف ان شاء الله

اعلان الحكم
فلما أصبحوا من غد خرجوا الى الناس، وهم مجتمعون في المسجد الجامع، فقال ابو موسى لعمرو:
اصعد المنبر، فتكلم.

(1/200)


فقال عمرو: ما كنت اتقدمك وأنت افضل منى فضلا، واقدم هجره وسنا.
فبدا ابو موسى، فصعد المنبر، فحمد الله واثنى عليه ثم قال:
ايها الناس، انا قد نظرنا فيما يجمع الله به الفه هذه الامه ويصلح امرها، فلم نر شيئا هو ابلغ في ذلك من خلع هذين الرجلين، على ومعاويه، وتصييرها شورى ليختار الناس لأنفسهم من راوه لها أهلا، وانى قد خلعت عليا ومعاويه، فاستقبلوا امركم، وولوا عليكم من احببتم ثم نزل.
وصعد عمرو، فحمد الله واثنى عليه، ثم قال:
ان هذا قد قال ما سمعتم، وخلع صاحبه، الا وانى قد خلعت صاحبه كما خلعه، واثبت صاحبي معاويه، فانه ولى امير المؤمنين عثمان، والطالب بدمه، وأحق الناس بمقامه.
فقال له ابو موسى: مالك، لا وفقك الله، غدرت وفجرت، وانما مثلك مثل الكلب، ان تحمل عليه يلهث او تتركه يلهث. فقال له عمرو: ومثلك كمثل الحمار يحمل أسفارا.
وحمل شريح بن هانئ على عمرو فقنعه [1] بالسوط، وحجز الناس بينهما، وكان شريح يقول: ما ندمت على شيء قط كندامتى الا أكون ضربته مكان السوط بالسيف، اتى الدهر في ذلك بما اتى.
وانسل ابو موسى، فركب راحلته، وهرب، حتى لحق بمكة، فكان ابن عباس يقول: لحى الله أبا موسى، لقد نبهته فما انتبه، وحذرته بما صار اليه فما انحاش [2] . وكان ابو موسى يقول: لقد حذرني ابن عباس غدر عمرو، فاطمأننت اليه، ولم أظن انه يؤثر شيئا على نصيحه المسلمين. 2201
__________
[1] علاه به.
[2] ما ينحاش لشيء اى ما يكترث له.

(1/201)