الأخبار الطوال
توليه محمد الامين
فاتت الخلافه محمدا الامين ببغداد، يوم الخميس للنصف من جمادى الآخرة،
ونعاه للناس يوم الجمعه، ودعاهم الى تجديد البيعه، فبايعوا.
ووصل الخبر بوفاه الرشيد الى المأمون، وهو بمدينه مرو، يوم الجمعه
لثمان خلون من الشهر، فركب الى المسجد الأعظم، ونودى في الجنود وسائر
الوجوه، فاجتمعوا، وصعد المنبر، فحمد الله واثنى عليه، وصلى على النبي
وآله، ثم قال:
__________
[1] مدينه بالقرب من نيسابور، بها آثار اسلاميه جليله، وكان بها دار
حميد قحطبه.
[2] الموافق 27 مارس سنه 808 م.
(1/392)
ايها الناس، احسن الله عزاءنا وعزاءكم في
الخليفة الماضى، صلوات الله عليه، وبارك لنا ولكم في خليفتكم الحادث،
مد الله في عمره.
ثم خنقته العبرة، فمسح عينه بسواده.
ثم قال:
يا اهل خراسان، جددوا البيعه لامامكم الامين.
فبايعه الناس جميعا.
ولما أتت الخلافه محمدا، وبايعه الناس دخل عليه الشعراء، وفيهم الحسن
ابن هانئ [1] ، فانشدوه، وقام الحسن في آخرهم، فانشده قوله:
الا دارها بالماء حتى تلينها ... فلن تكرم الصهباء حتى تهينها
وحمراء قبل المزج صفراء بعده ... كان شعاع الشمس يلقاك دونها
كان يواقيتا رواكد حولها ... وزرق سنانير تدير عيونها [2]
لقد جلل الله الكرامه أمه ... يكون امير المؤمنين امينها
حميت حماها بالقنابل والقنا ... ووفرت دنياها عليها ودينها
يراك بنو المنصور اولاهم بها ... وان أظهروا غير الذى يكتمونها
فوصلهم جميعا، وفضله.
ثم ان محمد الامين دعا اسماعيل بن صبيح كاتب السر، فقال:
ما الذى ترى يا ابن صبيح؟
قال: ارى دوله مباركه، وخلافه مستقيمه، وامرا مقبلا، فتمم الله ذلك
لأمير المؤمنين بافضله واجزله.
__________
[1] وهو المشهور بابى نواس.
[2] السنانير جمع سنور وهو القط.
(1/393)
قال له محمد: انى لم أبغك قاصا، انما اردت
منك الرأي.
قال اسماعيل: ان راى امير المؤمنين ان يوضح لي الأمر لأشير عليه بمبلغ
رأيي ونصحى فعل.
قال: انى قد رايت ان اعزل أخي عبد الله من خراسان، واستعمل عليها موسى
ابن امير المؤمنين.
قال اسماعيل: اعيذك بالله يا امير المؤمنين ان تنقض ما اسسه الرشيد،
ومهده، وشيد أركانه.
قال محمد: ان الرشيد موه عليه في امر عبد الله بالزخرفه، ويحك يا بن
صبيح، ان عبد الملك بن مروان كان احزم رايا منك، حيث قال: لا يجتمع
فحلان في هجمة الا قتل أحدهما صاحبه.
قال اسماعيل: اما إذ كان هذا رأيك، فلا تجاهره، بل اكتب اليه، واعلمه
حاجتك اليه بالحضرة، ليعينك على ما قلدك الله من امر عباده وبلاده،
فإذا قدم عليك، وفرقت بينه وبين جنوده كسرت حده، وظفرت به، وصار رهنا
في يديك، فائت في امره ما اردت.
قال محمد: اجدت يا ابن صبيح، واصبت، هذا لعمري الرأي.
ثم كتب اليه يعلمه ان الذى قلده الله من امر الخلافه والسياسة قد
اثقله، ويسأله ان يقدم عليه ليعينه على أموره، ويشير عليه بما فيه
مصلحته، فان ذلك اعود على امير المؤمنين من مقامه بخراسان، واعمر
للبلاد، وادر للفيء، واكبت للعدو، وآمن للبيضه.
ثم وجه الكتاب مع العباس بن موسى، ومحمد بن عيسى، وصالح صاحب المصلى.
فساروا نحو خراسان، فاستقبلهم طاهر بن الحسين مقبلا من عند المأمون على
ولايه الري، حتى انتهوا الى المأمون وهو بمدينه مرو، فدخلوا عليه،
وأوصلوا الكتاب اليه، وتكلموا.
(1/394)
فذكروا حاجه امير المؤمنين الامين اليه،
وما يرجو في قربه من بسط المملكة، والقوه على العدو، فابلغوا في
مقالتهم.
وامر المأمون بانزالهم واكرامهم.
ولما جن عليه الليل بعث الى الفضل بن سهل، وكان اخص وزرائه عنده،
واوثقهم في نفسه، وقد كان جرب منه وثاقه راى وفضل حزم، فلما أتاه خلا
به، واقراه كتاب محمد، واخبره بما تكلم به الوفد من امر التحضيض على
المسير الى أخيه ومعاونته على امره.
قال الفضل: ما يريد بك خيرا، وما ارى لك الا الامتناع عليه.
قال المأمون: فكيف يمكنني الامتناع عليه، والرجال والأموال معه، والناس
مع المال؟
قال الفضل: أجلني ليلتي هذه لآتيك غدا بما ارى.
قال له المأمون: امض في حفظ الله.
فانصرف الفضل بن سهل الى منزله، وكان منجما، فنظر ليلته كلها في حسابه
ونجومه، وكان بها ماهرا.
فلما اصبح غدا على المأمون، فاخبره انه يظهر على محمد ويغلبه، ويستولى
على الأمر.
فلما قال له ذلك، بعث الى الوفد، فاحسن صلاتهم وجوائزهم، وسألهم ان
يحسنوا امره عند الامين، ويبسطوا من عذره.
وكتب معهم اليه:
اما بعد، فان الامام الرشيد ولانى هذه الارض على حين كلب من عدوها،
ووهى من سدها، وضعف من جنودها، ومتى اخللت بها، او زلت عنها لم آمن
انتقاض الأمور فيها، وغلبه اعدائها عليها، بما يصل ضرره الى امير
المؤمنين حيث هو، فراى امير المؤمنين في ان لا ينقض ما أبرمه الامام
الرشيد.
وسار القوم بالكتاب حتى وافوا به الامين، وأوصلوا الكتاب اليه.
(1/395)
فلما قراه جمع القواد اليه، فقال لهم:
انى قد رايت صرف أخي عبد الله عن خراسان، وتصييره معى ليعاوننى، فلا
غنى بي عنه، فما ترون؟
فاسكت القوم.
فتكلم خازم بن خزيمة، فقال: يا امير المؤمنين، لا تحمل قوادك وجنودك
على الغدر فيغدروا بك، ولا يرون منك نقض العهد فينقضوا عهدك.
قال محمد: ولكن شيخ هذه الدولة على بن عيسى بن ماهان لا يرى ما رايت،
بل يرى ان يكون عبد الله معى ليؤازرنى ويحمل عنى ثقل ما انا فيه بصدده.
ثم قال لعلى بن عيسى: انى قد رايت ان تسير بالجيوش الى خراسان، فتلى
امرها من تحت يدي موسى بن امير المؤمنين، فانتخب من الجنود والجيوش على
عينك.
ثم امر بديوان الجند، فدفع اليه، فانتخب ستين الف رجل من ابطال الجنود
وفرسانهم، ووضع لهم العطاء، وفرق فيهم السلاح، وامره بالمسير.
فخرج بالجيوش، وركب معه محمد، فجعل يوصيه، ويقول: اكرم من هناك من قواد
خراسان، وضع عن اهل خراسان نصف الخراج، ولا تبق على احد يشهر عليك
سيفا، او يرمى عسكرك بسهم، ولا تدع عبد الله يقيم الا ثلاثا من يوم تصل
اليه، حتى تشخصه الى ما قبلي.
وقد كانت زبيده تقدمت الى على بن عيسى، وكان أتاها مودعا، فقالت له:
ان محمدا، وان كان ابنى وثمره فؤادى، فان لعبد الله من قلبي نصيبا
وافرا من المحبه، وانا التي ربيته، وانا احنو عليه، فإياك ان يبدأه منك
مكروه، او تسير امامه، بل سر إذا سرت معه من ورائه، وان دعاك فلبه، ولا
تركب حتى يركب قبلك، وخذ بركابه إذا ركب، واظهر له الإجلال والاكرام.
ثم دفعت اليه قيدا من فضه وقالت:
ان استعصى عليك في الشخوص فقيده بهذا القيد.
وان محمد انصرف عنه بعد ان اوعز اليه، واوصاه بكل ما اراد.
(1/396)
وسار على بن عيسى بن ماهان حتى صار الى
حلوان، فاستقبله عير مقبلة من الري، فسألهم عن خبر طاهر، فاخبروه انه
يستعد للحرب، فقال: وما طاهر؟ ومن طاهر؟ ليس بينه وبين أخلاء الري الا
ان يبلغه انى جاوزت عتبة همذان.
ثم سار حتى خلف عتبة همذان وراءه، فاستقبله عير اخرى، فسألهم عن الخبر.
فقالوا: ان طاهرا قد وضع العطاء لأصحابه، وفرق فيهم السلاح، واستعد
للحرب.
فقال: في كم هو؟
فقالوا: في زهاء عشره آلاف رجل.
فاقبل الحسن بن على بن عيسى على ابيه فقال:
يا أبت، ان طاهرا لو اراد الهرب لم يقم بالري يوما واحدا.
فقال: يا بنى، انما تستعد الرجال لاقرانها، وان طاهرا ليس عندي من
الرجال الذين يستعدون لمثلي، ويستعد له مثلي.
وذكروا ان مشايخ بغداد قالوا: لم نر جيشا كان اظهر سلاحا، ولا اكمل
عده، ولا افره خيلا، ولا انبل رجالا من جيش على بن عيسى يوم خرج، انما
كانوا نخبا.
وان طاهر بن الحسين جمع اليه رؤساء اصحابه فاستشارهم في امره، فأشاروا
عليه، ان يتحصن بمدينه الري، ويحارب القوم من فوق السور الى ان يأتيه
مدد من المأمون.
فقال لهم: ويحكم، انى ابصر بالحرب منكم، انى متى تحصنت استضعفت نفسي،
ومال اهل المدينة اليه لقوته، وصاروا أشد على من عدوى، لخوفهم من على
ابن عيسى، ولعله ان يستميل بعض من معى بالاطماع، والرأي ان الف الخيل
بالخيل، والرجال بالرجال، والنصر من عند الله.
ثم نادى في جنوده بالخروج عن المدينة، وان يعسكروا بموضع يقال له
القلوصه.
فلما خرجوا عمد اهل الري الى أبواب مدينتهم، فاغلقوها.
(1/397)
فقال طاهر لأصحابه: يا قوم، اشتغلوا بمن
امامكم، ولا تلتفتوا الى من وراءكم، واعلموا انه لا وزر لكم ولا ملجأ
الا سيوفكم ورماحكم، فاجعلوها حصونكم.
واقبل على بن عيسى نحو القلوصه، فتواقف العسكران للحرب، والتقوا،
فصدقهم اصحاب طاهر الحمله.
فانتقضت تعبئة على بن عيسى، وكانت منهم جولة شديده، فناداهم على ابن
عيسى، وقال:
ايها الناس، ثوبوا، واحملوا معى.
فرماه رجل من اصحاب طاهر، فاثبته، وبعد ان دنا منه، وتمكن رماه بنشابه
وقعت في صدره، فنفذت الدرع والسلاح حتى افضت الى جوفه، وخر مغشيا عليه
ميتا.
واستوت الهزيمة باصحابه.
فما زال اصحاب طاهر يقتلونهم، وهم مولون حتى حال الليل بينهم، وغنموا
ما كان في معسكرهم من السلاح والأموال.
وبلغ ذلك محمدا، فعقد لعبد الرحمن الابناوى في ثلاثين الف رجل من
الأبناء، وتقدم اليهم، الا يغتروا كاغترار على بن عيسى، ولا يتهاونوا
كتهاونه.
فسار عبد الرحمن حتى وافى همذان.
وبلغ ذلك طاهرا، فتقدم، وسار نحوه، فالتقوا جميعا، فاقتتلوا شيئا من
قتال، فلم يكن لأصحاب عبد الرحمن ثبات، فانهزم، واتبعه اصحابه، فدخلوا
مدينه همذان، فتحصنوا فيها شهرا حتى نفد ما كان معهم من الزاد.
قال: فطلب عبد الرحمن الابناوى الامان له ولجميع اصحابه، فاعطاه طاهر
ذلك.
ففتح أبواب المدينة، ودخل الفريقان بعضهم في بعض.
وسار طاهر حتى هبط العقبه، فعسكر بناحيه اسداباذ [1]
__________
[1] مدينه بهمذان الى ناحيه العراق.
(1/398)
ففكر عبد الرحمن، وقال:
كيف اعتذر الى امير المؤمنين؟
فعبا اصحابه.
فلما طلع الفجر زحف باصحابه الى طاهر، وهو غار، فوضع فيهم السيوف،
فوقفت طائفه من اصحاب طاهر رجاله، يذبون عن اصحابهم حتى ركبوا،
واستعدوا، ثم حملوا على عبد الرحمن واصحابه، فأكثروا فيهم القتل.
فلما راى ذلك عبد الرحمن ترجل في حماه اصحابه فقاتلوا حتى قتل عبد
الرحمن، وقتلوا معه.
وبلغ ذلك محمدا، فسقط في يده، وبرز جنوده، فعقد لعبد الله الحرشي، في
خمسه آلاف رجل، وليحيى بن على بن عيسى، في مثل ذلك، فسارا حتى وافيا
قرميسين [1] .
وبلغ طاهرا ذلك، فسار نحوهما، فانهزما من غير قتال حتى رجعا الى حلوان،
فأقاما هناك.
فزحف طاهر نحو حلوان، فانهزما حتى لحقا ببغداد، واقام طاهر بحلوان حتى
وافاه هرثمة بن اعين من عند المأمون، في ثلاثين الف رجل من جنود
خراسان، فاخذ طاهر من حلوان نحو البصره والاهواز.
وتقدم هرثمة الى بغداد، فلم تقم لمحمد قائمه حتى قتل، وكان من امره ما
كان.
وان طاهر بن الحسين صعد من البصره، وتقدم هرثمة حتى احدقا ببغداد،
واحاطا بمحمد الامين، ونصبا المنجنيق على داره حتى ضاق محمد بذلك ذرعا.
وكان هرثمة بن اعين يحب صلاح حال محمد، والإبقاء على حشاشه نفسه، فأرسل
__________
[1] بلد قرب الدينور بين همذان وحلوان على جاده العراق.
(1/399)
اليه محمد يسأله القيام بامره، واصلاح ما بينه وبين المأمون، على ان
يخلع نفسه عن الخلافه، ويسلم الأمر لأخيه.
فكتب اليه هرثمة: قد كان ينبغى لك ان تدعو الى ذلك قبل تفاقم الأمر،
فاما الان فقد بلغ السيل الزبى، وشغل الحلى اهله ان يعار [1] ، ومع ذلك
فانى مجتهد في اصلاح امرك، فصر الى ليلا، لأكتب بصوره امرك الى امير
المؤمنين، وآخذ لك عهدا وثيقا، ولست آلو جهدا ولا اجتهادا في كل ما عاد
بصلاح حالك، وقربك الى امير المؤمنين.
فلما سمع ذلك محمدا استشار نصحاءه ووزراءه، فأشاروا بذلك عليه، وطمعوا
في بقاء مهجته.
فلما جنه الليل ركب في جماعه من خاصته وثقاته وجواريه، يريد العبور الى
هرثمة.
فأحس طاهر بن الحسين بالمراسله التي جرت بينهما والموافقة التي اتفقا
عليها.
فلما اقبل محمد، وركب بمن معه الماء شد عليه طاهر، فأخذه ومن معه، ثم
دعا به في منزله، فاحتز راسه، وانفذه من ساعته الى المأمون.
واقبل المأمون حتى دخل مدينه السلام، وصفت له المملكة واستوسقت له
الأمور.
وكان قتل محمد الامين ليله الأحد لخمس خلون من المحرم، سنه ثمان وتسعين
ومائه [2] ، وقتل، وله ثمان وعشرون سنه، وكانت ولايته اربع سنين
وثمانية اشهر. |