الأخبار الطوال

ولايه محمد المعتصم
فلما مات هو على نهر البذندون جمع اخوه ابو اسحق محمد بن هرون المعتصم بالله اليه وجوه القواد والأجناد، فدعاهم الى بيعته، فبايعوه.
فسار من طرسوس حتى وافى مدينه السلام، فدخلها، وخلع العباس بن المأمون عنها، وغلبه عليها، وبايعه الناس بها.
وكان قدومه بغداد مستهل شهر رمضان سنه ثمان عشره ومائتين، فأقام بها سنتين، ثم مر باتراكه الى سر من راى فابتناها، واتخذها دارا ومعسكرا.
__________
[1] في الأصل نهر البدندون والصحيح ما ذكر، وهو نهر سمى باسم البلد بذندون، وهي قريه قريبه من طرسوس.
[2] الموافقة سنه 209 م.

(1/401)


وكانت في خلافته فتوحات لم تكن لأحد من الخلفاء الذين مضوا مثلها قبله.
فمنها فتح بابك، واسره وقتله اياه، وصلبه، ومنها مازيار صاحب قلعه طبرستان، فانه تحصن في القلاع والجبال، فما زال به حتى اخذه، فقتله، وصلبه الى جنب بابك، ومنها جعفر الكردى، وقد كان اخرب البلاد وسبى الذراري، فوجه الخيول في طلبه، ولم يزل به حتى اخذه وقتله، وصلبه الى جنب بابك ومازيار، ومن ذلك فتح عموريه وهي القسطنطينية الصغرى، والاخرى فتحها الله على يديه.
وكان ابتداء امر بابك، انه تحرك في آخر ايام المأمون وقد اختلف الناس في نسبه ومذهبه، والذى صح عندنا، وثبت، انه كان من ولد مطهر بن فاطمه بنت ابى مسلم، هذه التي ينتسب إليها الفاطمية من الخرمية، لا الى فاطمه بنت رسول الله ص، فنشأ بابك، والحبل مضطرب، والفتن متصله، فاستفتح امره بقتل من حوله بالبذ [1] ، واخراب تلك الأمصار والقرى التي حواليه، لتصفو له البلاد، ويصعب مطلبه، وتشتد المئونة في التوصل اليه، واشتدت شوكته، واستفحل امره.
وقد كان المأمون وجه اليه حين اتصل به خبره عبد الله بن طاهر بن الحسين في جيش عظيم.
فسار اليه، ونزل في طريقه الدينور [2] ، في ظاهرها، في مكان يعرف الى يومنا هذا بقصر عبد الله بن طاهر، وهو كرم مشهور، ومكان مذكور.
ثم سار منها حتى وافى البذ، وقد عظم امر بابك، وتهيبه الناس، فحاربوه، فلم يقدروا عليه، ففض جمعهم، وقتل صناديدهم.
__________
[1] البذ: كوره بين ايران واذربيجان.
[2] بلدا بي حنيفه مؤلف الكتاب، وإليها ينسب.

(1/402)


وكان ممن قتل في تلك الوقعه محمد بن حميد الطوسى.
وهو الذى رثاه ابو تمام بقصيدته التي يقول فيها:
كان بنى نبهان يوم وفاته ... نجوم سماء خر من بينها البدر
وفيها يقول:
فاثبت في مستنقع الموت رجله ... وقال لها من تحت اخمصك الحشر
فلما افضى الأمر الى ابى اسحق المعتصم بالله لم تكن همته غيره، فأعد له الأموال والرجال، واخرج مولاه الافشين حيدر بن كاوس، فسار الافشين بالعساكر والجيوش حتى وافى برزند [1] ، فأقام بها حتى طاب الزمان، وانحسرت الثلوج عن الطرقات، ثم قدم خليفته يوباره [2] وجعفر بن دينار، وهو المعروف بجعفر الخياط في جمع كثير من الفرسان الى الموضع الذى كان فيه معسكرا، وامرهما ان يحفرا خندقا حصينا، فسارا حتى نزلا هناك، واحتفرا الخندق.
فلما فرغا من حفر الخندق استخلف الافشين ببرزند المرزبان، مولى المعتصم في جماعه من القواد، وسار هو حتى نزل الخندق، ووجه يوباره، وجعفر الخياط في جمع كثيف الى راس نهر كبير، وامرهما بحفر خندق آخر هناك فسارا حتى احتفراه.
فلما فرغا وافاهما الافشين، ثم خلف في موضعه محمد بن خالد بخاراخذاه، وشخص الى درود [3] ، في خمسه آلاف فارس والفى راجل، ومعه الف رجل من الفعله حتى نزل درود، واحتفر بها خندقا عظيما وبنى عليها سورا شاهقا، فكان بابك واصحابه يقفون على جبال شاهقة، فيشرفون منها على العسكر، ويولولون.
ثم ركب الافشين يوم الثلاثاء لثلاث بقين من شعبان في تعبئة، وحمل المجانيق، وامر بابك آذين ان يحصن تلا مشرفا على المدينة، ومعه ثلاثة آلاف رجل، وقد كان احتفر حوله الابار ليمنع الخيل منهم.
فانصرف الافشين يوما الى خندقه، ثم غدا عليه يوم الجمعه في غره شهر رمضان،
__________
[1] بلد من بلاد أرمينية.
[2] في الأصل يوناره.
[3] كذا في الأصل، والصواب دروذ، مكان في ثغر اذربيجان.

(1/403)


فنصب المجانيق والعرادات [1] على المدينة، واحدقت القواد والرؤساء.
واقبل بابك في انجاد اصحابه، وعباهم، فقاتله [2] القواد قتالا شديدا الى العصر، ثم انصرفوا، وقد نكوا في اصحابه. واقام الافشين سته ايام، ثم ناهضه يوم الخميس لسبع ليال خلون من شهر رمضان، واستعد له بابك، فوضع على البذ عجلا عظيما ليرسله الى اصحاب الافشين.
ثم ارسل بابك رجلا يقال له موسى الأقطع الى الافشين، يسأله ان يخرج اليه ليشافهه بما نفسه، فان صار الى مراده والا حاربه، فأجابه الافشين الى ذلك، فخرج بابك حتى صار بالقرب من الافشين في موضع بينهما واد.
فلما راى الافشين كفر له، فبسطه الافشين، واعلمه ما في الطاعة من السلامة في الدنيا والآخرة، فلم يقبل ذلك.
فانصرف الى موضعه، وامر اصحابه بالحرب، فتسرعوا الى ذلك، ودهدهوا [3] العجل الذى كانوا اعدوه، فانكسر العجل، وثاب اصحاب الافشين، فدفعوهم الى راس الجبل.
وقد كان يوباره وجعفر الخياط وقفا بحذاء عبد الله أخي بابك، فحملا، وحمل عليهم القواد من جميع النواحي، فقتلوهم قتلا ذريعا، وانهزموا حتى دخلوا المدينة، فدخلوا خلفهم في طلبهم، وصارت الحرب في ميدان وسط المدينة.
وكانت حربا لم ير مثلها شده، وقتلوا في الدور والبساتين، وهرب عبد الله أخو بابك.
فلما راى بابك ان العساكر قد احدقت به، والمذاهب قد ضاقت عليه، وان اصحابه قد قتلوا وفلوا توجه الى أرمينية، وسار حتى عبر نهر الرس متوجها الى الروم.
فلما عبر نهر الرس قصد نحوه سهل بن سنباط صاحب الناحية، وقد كان
__________
[1] جمع عراده وهي آله للحرب اصغر من المنجنيق.
[2] في الأصل فقاتلوه القواد.
[3] دهده: دحرج.

(1/404)


الافشين كتب الى اصحاب تلك النواحي، والى الأكراد بإرمينية، والبطارقه بأخذ الطرق عليه.
فوافاه سهل بن سنباط، وقد كان بابك غير لباسه، وبدل زيه، وشد الخرق على رجليه، وركب بغله باكاف [1] ، فاوقع به سهل بن سنباط، فأخذه أسيرا.
ووجه به الى الافشين، فاستوثق منه الافشين، وكتب الى المعتصم بالفتح، واستاذنه في القدوم عليه، فاذن له، فسار حتى قدم عليه، ومعه بابك واخوه، فكان من قتل المعتصم لبابك وقطع يديه ورجليه وصلبه ما هو مشهور.
قالوا: ولما قدم الافشين ومعه بابك اجلسه المعتصم على سرير امامه، وعقد التاج على راسه.
وفي ذلك يقول اسحق بن خلف الشاعر في قصيدته التي مدح فيها المعتصم بالله:
ما غبت عن حرب تحرق نارها ... بالبذ كنت هنا وأنت هناكا
عزت بافشين حسامك أمة ... والدين ممتسك به استمساكا
لما أتاك ببابك توجته ... وأحق من اضحى له تاجاكا
ثم ان احمد بن ابى داود وجد على الافشين لكلام بلغه عنه، فاشار على المعتصم ان يجعل الجيش نصفين نصفا مع الافشين، ونصفا مع اشناس، ففعل المعتصم ذلك.
فوجد الافشين منه، وطال حزنه، واشتد حقده.
فقال احمد بن ابى داود للمعتصم: يا امير المؤمنين ان أبا جعفر المنصور استشار انصح الناس عنده في امر ابى مسلم، فكان من جوابه ان قال يا امير المؤمنين ان الله تعالى يقول لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا فقال له المنصور:
حسبك، ثم قتل أبا مسلم.
__________
[1] الاكاف: بردعه الحمار.

(1/405)


فقال له المعتصم: أنت أيضا حسبك يا أبا عبد الله، ثم وجه الى الافشين، فقتله.
وزعموا، انهم كشفوا عنه فوجدوه غير مختون.
ومات المعتصم بالله يوم الخميس لإحدى عشره ليله بقيت من شهر ربيع الاول سنه سبع وعشرين ومائتين [1] ، وصلى عليه ابو عبد الله احمد بن ابى داود، وكان المعتصم اوصى اليه بالصلاة عليه، وكانت ولايته ثماني سنين وثمانية اشهر وسبعه عشر يوما، وكان قد بلغ من السن تسعا وثلاثين سنه.
وهذا آخر كتاب الاخبار الطوال على ما جمعه ابو حنيفه احمد بن داود الدينورى رحمه الله تعالى ورضى عنه.
__________
[1] الموافق 9 يناير 842 م.

(1/406)