البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب
ذكر دخول المسلمين
إلى الأندلس
وانتزاعها من أيدي الكفار
أما دخول المسلمين لها، فذكر فيه أربعة أقوال: أحدها أنَّ الأندلس، أول
من دخلها عبد الله بن نافع بن عبد القيس، وعبد الله بن الحصين
الفهريان. من جهة البحر، في زمن عثمان - رضي الله عنه - قال الطبري:
أتوها من برها وبحرها؛ ففتحها الله تعالى على المسلين هي وإفرنجة،
وازداد في سلطان المسلمين مثل إفريقية؛ ولم يزل أمر الأندلس لإفريقية،
حتى كان زمن هشام بن عبد الملك؛ فمنع البربر أرضهم، وبقى من في الأندلس
على حالهم. هذا نصه. وإنَّ ذلك كان سنة 27 من الهجرة الكريمة. وثانيها
أنَّ موسى بن نصير افتتحها عام 91. وهو قول الطَّبري أيضاً. فيظهر منه
أنه جاز بنفسه، وتولى هذه الغزوة والفتح. وثالثها أنَّ طريقاً دخلها
وفتحها في عام 91. ورابعها أن طارقا أوَّل من دخلها، سنة 91، ودخل موسى
بعده سنة 92.
فهذا الخلاف واضح في هؤلاء الأربعة مواضع: قيل إن أول من دخلها
الفهريان؛ ثمّ ابن نصير؛ ثم طريف؛ ثم طرايق؛ فظهر من هذا إن الفهريين
أثرا فيها في زمن عثمان - رضي الله عنه - وغنما من جهة البحر، وطريفا
دخلها سنة 91 مغيراً ومخربا، ونسب فعله إلى موسى بن نصير، نسبة فعل
المأمور إلى الآمر؛ فصدق عليه إضافته لموسى، فيكون قول الطبري صادقا؛
وصدَّق عليه أيضا قول الرازي بأخرى وأولى، وطارق دخلها دخول المستفتح
لها، المكافح، سنة 92، وموسى دخلها بعد ذلك متمما للفتح.
وقال عَرِيب: إن العلج يُليان، صاحب الجزيرة الخضراء، داخل موسى ابن
نصير، صاحب إفريقية، عام 91، على يد طارق بن زياد عامل موسى على طنجة
وما والاها؛ فراسل يليان موسى، يُزين عنده دخول الأندلس، ويُقرب
(2/4)
له أمرها، وقيل: بل، سار إليه بنفسه في
البحر، حتى اجتمع به في ذلك؛ فاستشار موسى الوليد بن عبد الملك، إمَّا
مراسلة (وهو الأكثر الأظهر) وإما بأن نهض بنفسه إليه؛ فأشار الوليد بأن
يختبرها بالسرايا، ولا يغرر بالمسلمين؛ فبعث موسى بن نصير عند ذلك رجلا
من البربر، يسمّى طريفا ويكنى أبا زرعة، في مائة فارس وأربعمائة راجل؛
فجاز في أربعة مراكب، حتى نزل في ساحل البحر بالأندلس، فيما يحاذي
طنجة، وهو المعروف اليوم بجزيرة طريف، سميت باسمه لنزوله هنالك؛ فأغار
منها على ما يليها إلى جهة الجزيرة الخضراء، وأصاب سبيا ومالا كثيرا،
ورجع سالما. وكانت إجازته في شهر رمضان من سنة 91.
وقد اتفق الجميع فيما يظهر على أنَّ مُتولي كبر فتح الأندلس وجله
ومعظمه طارق بن زياد. وقد اختلف في نسبه؛ فالأكثرون على أنه بربري من
نفزة، وأنه مولى لموسى بن نصير، من سبى البربر. وقال آخرون إنه فارسي.
قال صالح بن أبي صالح: هو طارق بن زياد بن عبد الله بن رفهو بن ورفجوم
بن ينزغاسن بن ولهاص بن يطوفت بن نفزاو، وكأنهم أيضا انفقوا على أنَّ
طارقا كان عاملا لموسى، قبل محاولة الأندلس، على المغرب الأقصى، وترك
عنده رهائن برابر المغرب في سنة 86 من الهجرة. وقيل أيضا إن طارقا جاز
إلى الأندلس برهائن البربر سنة 92.
قال ابن القطان: فالأكثرون يقولون: كان مستقره بطنجة، ومنهم من يقول
سجلماسة، وإن سلا وما وراءها من فاس وطنجة وسبتة كانت للنصارى؛ وكانت
طنجة ليليان منهم؛ فكان طارق إذا نائبا عن موسى بن نصير. واختلفوا
أيضاً هنا هل إنما سار إلى الأندلس عن أمر موسى، أو سار إليها لأمر
دهمه، لم يمكنه إلا إنفاذه. والقول الأول هو المشهور المتفق عليه.
(2/5)
قال الرازي عن الواقدي: إنَّ الوليد بن عبد
الملك استعمل موسى بن نصير على إفريقية، واستعمل موسى بن نصير طارق بن
زياد على طنجة. وكان يليان مجاورا له بالجزيرة الخضراء التي تلي طنجة؛
فداخله طارق حتى صار معه إلى الرضى، ووعده يليان بإدخاله الأندلس هو
وجنوده. وكان اجتمع لطارق اثنا عشر ألفا من البربر؛ فأجمع طارق على غزو
الأندلس، بعد أن أخذ إذن ابن نصير مولاه في ذلك؛ فكان يليان يحتمل
أصحاب طارق في مراكب التجار التي تختلف إلى الأندلس: ولا يشعر أهل
الأندلس بذلك، ويظنون أن المراكب تختلف بالتجار. فحمل الناس فوجا بعد
فوج إلى الأندلس. فلما لم يبق إلاَّ فوج واحد، ركب طارق ومن معه، حتى
أجاز البحر إلى أصحابه وتخلف يليان بالجزيرة الخضراء، ليكون أطيب لنفسه
ونفوس أصحابه. فنزل طارق جبلا من جبال الأندلس، يوم الاثنين لخمس خلون
من رجب سنة 92، كما تقدَّم ذكر ذلك. فسمّي ذلك الجبل باسمه إلى اليوم.
وذكر عيسى بن محمد من ولد أبي المهاجر، في كتابه السبب في دخول طارق
الأندلس، وهو أنَّ طارقا كان واليا لموسى على طنجة؛ وكان يوما جالسا،
إذ نظر إلى مراكب قد طلعت في البحر؛ فلما أرست، خرجوا إليها، فنزعوا
ارجلها، وأنزلوا أهلها؛ فقالوا: (إليكم جئنا عامدين!) وعظيمهم معهم
يقال له يليان. فقال طارق: (ما جاء بك؟) فقال له (إنَّ أبي مات. فوثب
على مملكتنا بطريق يقال له لذريق؛ فأهانني، وأذلَّني؛ وبلغني أمركم؛
فجئت إليكم أدعوكم إلى الأندلس، وأكون دليلا لكم!) فأجابه طارق إلى
ذلك، واستقر اثني عشر ألفا من البربر. فحملهم يليان في المراكب فوجا
بعد فوج، كما تقدم ذكره.
وذكر غير هؤلاء أنَّ السبب في ذلك أنَّ طنجة وسبتة والخضراء وتلك
النواحي كانت في مملكة صاحب الأندلس، على نحو ما كانت السواحل كلها
(2/6)
بالعدوة وما قرب منها الروم، يسكنونها، إذ
كان البربر يرغبون عن سكنى المدن والقرى، وإنما بغيتهم سكنى الجبال
والصحارى، إذ كانوا أصحاب إبل وسائم. وكان النصارى في صُلحهم. وكانت
السنة في الأندلس في ملوك النصارى أن يستخدموا بني بطارقتهم وكبار
رجالهم: فالرجال منهم يخدمون خارجا، والنساء جوار يخدمن داخلا. وها كذا
سنتهم إلى اليوم في الرجال خاصة، يخدمون صبيانا يتأدبون بأدبهم.
ويتعلمون سنتهم؛ فإذا أدركوا وكبروا، ألحقوا برجالهم وأهليهم. وكان ملك
الأندلس من القوطيين يسمى رذريق، قد مدَّ يده إلى ابنة يليان، وكانت
عنده؛ فاغتصبها نفسها؛ فأرسلت إلى أبيها، ودست إليه. فلما بلغه ذلك،
أحفظه، وكتمه، وارتصد به الأيام، ونصب له الغوائل، حتى كان من دخول
العرب المغرب ما كان. وأرسل رذريق إلى يليان في بزاة وطيور وغيرها،
فأرسل إليه: (لأوردن عليم طيرا لم تسمع قطُّ بمثلها) ، وهو ينوي الغدر
به؛ فحينئذ دعا طارقا إلى ما كان من جواز البحر.
واختلفت الروايات في قتال طارق أهل الأندلس. فقيل إن رذريق زحف إلى
طارق بجميع أهل القوة من أهل مملكته بنفسه، وهو على سرير ملكه على
بغلين يحملانه، وعليه تاجه وجميع الحلية التي كانت تلبسها الملوك، حتى
انتهوا إلى الجبل الذي فيه طارق. فخرج إليهم طارق بجميع أصحابه رجالة،
ليس فيهم راكب إلا القليل؛ فاقتتلوا قتالا شديدا حتى ظنوا أنه الفناء.
ثم صرف الله وجوه أعدائه؛ فانهزموا؛ وأدرك رذريق؛ فقتل في وادي الطين.
ومضى حتى دخل قرطبة. وفتح الله الأندلس على المسلمين. هكذا ذكر عيسى في
كتابه.
وذكر الواقدي أنهم اقتتلوا من حين طلعت الشمس إلى أن غربت؛ فلم تكن
قطُّ بالمغرب مقتلة أعظم منها، بقيت عظامهم في المعركة دهراً طويلا لم
تذهب.
وذكر الواقدي أيضاً، عن عبد الحميد بن جعفر، عن أبيه، قال: سمعت
(2/7)
رجلا من أهل الأندلس يحدث سعيد بن المسيب
ويذكر له قصتهم. فقال: (لم يرفع المسلمون السيف عنهم ثلاثة أيام، حتى
أوطئوهم غلبة.) ثم ارتحل المسلمون إلى قرطبة، وهي مدينة الأندلس التي
كان بها رذريق؛ وبينها وبين الساحل مسيرة خمسة أيام. وكان سلطان رذريق
إلى ازيونة ثغر الأندلس، وهي إذ ذاك أقصى مملكة الأندلس. مما يلي
إفرنجة؛ ومن أرثونة إلى قرطبة ألف ميل. وكان الذي أصابه طارق ومن معه
من السَّبي، في أوَّل فتح لهم، عشرة آلاف رأس؛ وكان سهمانهم من الذهب
والفضة لكل واحد من الرجال مائتا دينار وخمسون ديناراً.
وذكر الرازي أنه، لما بلغ رذريق خبر طارق ومن معه، ومكانهم الذي هم
فيه، بعض إليهم الجيوش جيشاً بعد جيش؛ وكان قد قوَّد على أحدهم ابن أخت
له يسمى بنج، وكان أكبر رجاله؛ فكانوا عند كل لقاء يهزمون ويقتلون؛
وقتل بنج، وهزم عسكره؛ فقوى المسلمون، وركب الرجاَّلة الخيل، وانتشروا
بناحيتهم التي جازوا بها؛ ثم زحف رذريق إليهم بجميع عساكره ورجاله وأهل
مملكته، وهو على سرير ملكه كما تقدَّم. فلما انتهى إلى الموضع الذي فيه
طارق، خرج إليه؛ فاقتتلوا على وادي لكُّه من كورة شذونة يومهم ذلك، وهو
يوم الأحد لليلتين بقيتا من رمضان، من حين بزغت الشمس إلى أن توارت
بالحجاب؛ ثمَّ أصبحوا يوم الاثنين على الحرب، حتَّى إلى المساء. وتمادت
أيامهم كذلك إلى يوم الأحد الثاني؛ فتمت ثمانية أيَّام. وقتل الله
رذريق ومن معه، وفتح للمسلمين الأندلس، ولم يعرف لرذريق موضع، ولا وجدت
له جثة، وإنما وجد له خف مفضض؛ فقالوا إنه غريق، وقالوا إنه قتل؛ والله
أعلم.
ثم تحرك طارق إلى مضيق الجزيرة؛ ثم نهض إلى مدينة إسنجة؛ فوجد فيها
فلَّ العسكر؛ فقاتلوه فتالا شديداً، حتى كثر القتل والجراح في
المسلمين؛ ثمَّ نصرهم الله، وقطع دعوة العجمة، وقذف الله الرعب في قلوب
المشركين، إذ
(2/8)
تُقحم عليهم البلاد؛ فهرب أكثرهم إلى مدينة
طليطلة، وتركوا مدائن الأندلس وراءهم قليلة الأهل.
وقدم يليان على طارق من الخضراء مشتقره؛ فقال له: (قد فتحت الأندلس؛
فخذ من أصحابي أدلاء، ففرق معهم جيوشك وسر أنت إلى مدينة طليطلة!)
ففرَّق جيوشه من إسنجة.
ذكر ما افتتح طارق بن زياد من بلاد الأندلس
سنة 92 من الهجرة
أوَّل فتوحاته جبل الفتح المسمى بجبل طارق، وذلك لما جار المسلمون
ونزلوا في المرسى، وهم عرب وبربر، حاولوا الطلوع في الجبل، وهو حجارة
حرش؛ فوطئوا الدواب بالبراذع وطلعوا عليها؛ فلما حصلوا في الجبل، بنوا
سورا على أنفسهم يسمى سور العرب. وقيل إنهم فتحوا من حينهم حصن
قرطاجنة، وكان في سفح هذا الجبل من نظر الجزيرة الخضراء. فلما بلغ ذلك
ملوك الأندلس، نفروا إلى رذريق، وكان جباراً طاغية؛ فاستقر النصرانية.
فقيل إنه بعث إلى المسلمين الجيش بعثا بعد بعث؛ فكانوا عند كل لقاء
يهزمون ويقتلون. فقوى المسلمون، وركب رجالهم، وانتشروا في البلاد. وبعد
هذا زاحفهم رذريق بنفسه. وقال آخرون بل زاحفهم لأول مرة بنفسه. ثم
اختلفوا أيضا كم أيام المزاحفة التي أعقبها الفتج وانهزم آخرها رذريق؛
فقيل: يوم كامل، وقيل: يومان، وقيل: ثلاثة، وقيل: ثمانية؛ واختلفوا هل
ظفر برأس رذريق أم لا؛ فقيل: ظفر به، وقيل: مات غريقا.
فتح قُرطُبة
بعث طارق مغيثاً، مولى عبد الملك بن مروان، من لإسنجة إلى قرطبة في
سبعمائة فارس، وهي من مدنهم العظام؛ ولم يكن معه راجل إذ كان الرجال
(2/9)
قد ركبوا. فلما بلغ مغيث شقندة وقرية
طرسيل، وهي على ثلاثة أميال من قرطبة، بعث الأدلاء كي يلقون من عنده
خبر؛ فألقوا راعي غنم، فأتوا به إلى مغيث، وهو في الغيضة؛ فسأله عن
قرطبة؛ فقال له: (انتقل. عنها عظماء أهلها، ولم يبق فيها إلاَّ بطريقها
في أربعمائة فارس من حماتهم مع ضعفاء أهلها.) ثم سأله عن حصانة سورها؛
فأخبره أنه حصين، إلا أن فيه ثغرة فوق باب الصورة، وهو باب القنطرة،
ووصف لهم الثغرة.
فلما جنَّ الليل، تحرك مغيث بمن معه، وعبروا النهر، وقابلوا السور،
وراموا التعلق به؛ فتعذر عليهم؛ فرجعوا إلى الراعي، وأتوا به معهم؛
فدلهم على الثغرة؛ فراموا التعلق بها؛ فصعب عليهم، حتى صعد رجل من
المسلمين في دروتها، ونزع مغيث عمامته، فناوله طرفها، وارتقوا بها حتى
كثروا بالسور؛ ثم جاء مغيث إلى باب القنطرة، وهي يومئذ مهدومة، وأمر
أصحابه بالحوم على أحراس السور، فكسروا الأقفال، ودخل مغيث بمن معه.
فلما بلغ الملك الذي بها دخولهم. خرج في كماة أصحابه، وهم نحو
الأربعمائة؛ فدخلوا كنيسة بغربي المدينة؛ فتحصنوا فيها؛ فحاصرهم مغيث،
وكتب إلى طارق بالفتح. وتمادى على حصار العلوج في الكنيسة المذكورة
ثلاثة أشهر. فبينا هو ذات يوم جالس إذ قيل له: (خرج العلج - يعني الملك
- هاربا وحده، وهو ينوي التحصين في جبل قرطبة، ليلحق به أصحابه!)
فأتبعه مغيث وحده دون أحد من أصحابه؛ فلما برز له وأبصره هاربا، وتحته
فرس أصفر، وهو يتبعه، خرج من طريقه؛ فأتى خندقا؛ فوثب به الفرس، وسقط
في الخندق، واندقت عنقه؛ فأقبل مغيث، والعلج جالس على ترسه مستأسرا؛
فأسره. ولم يؤسر من ملوك الأندلس غيره، لأن منهم من عقد لنفسه أمانا،
ومنهم من هرب إلى أقاصي البلاد مثل حليفية وغيرها. ورجع مغيث إلى بقية
العلوج؛ فاستنزلهم أسراً، وضربت أعناقهم صبراً؛ وسميت كنيسة الأسرى.
وأبقى العلج صاحب قرطبة، ليقدم به على أمير المؤمنين.
(2/10)
فتح مالقة
بعث إليها طارق من إسنجة جيشاً، وقوَّد عليه قائدا، وجعل معه ودليلا من
رجال يليان؛ فاستفتحها وجميع أعمال ربه. ولجأ علوجها إلى جبال ربُّه
الشامخة المنيعة.
فتح غرناطة قاعدة البيزة
بعث إليها طارق الجيش من إسنجة؛ فحاصرها حتى افتتحها
فتح مرسية
ثم تقدم هذا الجيش بعد فتح إغرناطة إلى تدمير، وهي مرسية، وإنما سميت
تُدمير باسم العلج صاحبها؛ وكان اسمها أوربولة، وهي كانت مدينتها
القديمة. فقاتل العلج تدمير المسلمين قتالا شديداً؛ وكان في قوّضة. ثم
انهزم في فحص لا يسترهم شيء؛ فوضع المسلمين فيهم السلاح حتى أفنوهم؛
ولجأ من بقى منهم إلى مدينة أربولة. وكان تدمير بصيرا بأبواب الحرب؛
فلما رأى قلة من معه من أصحابه، أمر النساء؛ فنشرن شعورهن، وأعطاهن
القصب، ووقفن على سور المدينة، ووقف معهن بقية الرجال. ثمَّ قصد بنفسه
إلى جيش المسلمين كهيئة الرسول، واستأمن؛ فأمن وانعقد له الصلح ولأهل
بلده؛ فافتتحت مدينة تدمير صلحا. فلما انعقد الصلح وتمَّ، أبرز لهم
نفسه وقال: (أنا تدمير صاحب المدينة.) ثمّ أدخلهم البلد؛ فلم يروا فيه
أحداً عنده مدفع؛ فندم المسلمون وأمضوا على ما أعطوه من الأمان؛ وكتبوا
بالفتح إلى الأمير طارق؛ وأقام بتدمير رجال من أهل العسكر، وصاروا مع
أهلها؛ وتقدّم معظم الجيش إلى طليطلة؛ فلحق بطارق، وهو عليها.
(2/11)
فتح طُليطُلة
وألقى طارق طليطلة خالية، ليس فيها إلاَّ اليهود في قوم قلة، وفرّ
علجها مع أصحابه، ولحق بمدينة خلف الجبل. وتبعهم طارق، بعد أن ضمّ
اليهود، وخلى معهم بعض رجالة وأصحابه بطليطلة؛ فسلك إلى وادي الحجارة؛
ثمّ استقبل الجبل؛ فقطعه من فج يسمى به إلى اليوم؛ فبلغ مدينة خلف
الجبل، تسمى مدينة المائدة.
ثمّ فتح مدينة المائدة؛ فوجد فيها مائدة سليمان بن داود - عليهما
السلام! وكانت من زبرجدة خضراء، حافاتها وأرجلها منها؛ وأصاب بها مالا
وحليا كثيراً؛ ثم انصرف إلى طليطلة. هكذا آثر الناس هذا كله، على أنَّ
طارقا صنعه. وقال آخرون: بل، أقام طارق حيث كانت الوقعة، وجاز إليه
موسى. وقيل: بل، وجده بقرطبة.
وفي سنة 92 من الهجرة، دخل موسى بن نصير الأندلس في رمضان، بعد دخول
طارق بسنة، ومضى غازيا فيها، مفتتحا لحصونها هذه السنة وسنة أربع وبعض
سنة خمس؛ فافتتح جميع حصونها، وهزم جميع من لقيه من أمرائها؛ فلم يلق
كيداً من أحد، ولا انهزمت له راية، حتى انتهى إلى مدينة من مدن إفرنجة،
يقال لها لوطون، وقد ملك ما سواها ودونها إلى أقصى برسلونة. فلما انتهى
إلى مدينة لوطون، ضاق المسلمون، وخافوا أن يحاط بهم؛ فكلموه في ذلك؛
فقفل بهم راجعا. قال مُؤلِف (كتاب بهجة النفس) : ورأيت في بعض كتب
العجم أن المسلمين انتهوا إلى مدينة لوطون قاعدة الإفرنج، ولم يبق لأهل
الإسلام شيء لم يتغلبوا عليه مما وراء ذلك، إلاَّ جبال قرقوشة وجبال
بنبلونة وصخرة حليقية؛ فأما الصخرة، فلم يبق فيها مع ملك حليقية سوى
ثلاثمائة رجل،
(2/12)
تلفوا بالموت والجوع والحصار؛ فلما لم يبق
منهم إلا ثلاثمائة رجل، ورأى ذلك المرتبون معهم على حصارهم، استقلوهم؛
فتركوهم؛ فلم يزالوا يزدادون حتى كانوا سبب إخراج المسلمين من حليقية،
وهي قشتيلة. وأما قرقوشة، فذكر عبد الملك ابن حبيب أنها افتتحت في زمن
هشام بن عبد الملك صلحا. وكان الافتتاح كما ذكرته في بقية سنة 92 وبعض
سنة 93 من الهجرة.
وكان السبب في جواز موسى بن نصير إلى الأندلس أنه أغرى بطارق عبده.
وذكر له ما أفاء الله عليه؛ فكتب له موسى بأقبح السبّ، وأمره ألاَّ
يتجاوز قرطبة، حتى يقدم عليه. قال ابن القطان: قيل: إنما حمله على
الجواز للأندلس تعدّى طارق ما أمره به ألاَّ يتعدَى قرطبة، على قول، أو
موضع هزيمة لذريق، على قول. وقيل أيضاً: إنما حمله على ذلك الحسد لطارق
على ما أصاب من الفتوح والغنائم. وقيل أيضاً: إنما جاز باستدعاء طارق
اياه؛ فكان جوازه في رمضان، كما تقدّم.
قال الرازي: وحدّث الواقدي عن موسى بن عليّ بن رباح، عن أبيه، قال: خرج
موسى بن نصير في عشرة آلاف من إفريقية، مغضبا على طارق، وتقدّم يريد
الأندلس؛ فدخلها ونزل الجزيرة. فقيل له: (أسلك طريق طارق!) فقال: (لا،
والله، أسلك طريقه!) فقال له الأدلاء من الأعلاج: (نحن ندلك على طريق
هي أشرف من طريقه، وعلى مدائن هي أعظم خطرا من مدائنه، لم تفتح، يفتحها
الله على يديك إن شاء الله!) فامتلأ موسى سرورا؛ فساروا به إلى مدينة
شذونة؛ فافتتحها عنوة؛ وهي أوّل فتوحاته.
فتح قَرْمُونَة
ونهض موسى مع أدلائه من شذونة إلى قرمونة؛ ولم يكن بالأندلس أحصن منها
ولا أبعد من أن تنال بحصار أو قتال. فسأل موسى عن أمرها؛ فقيل له: (لا
تؤخذ إلا باللطف والحيل!) فقدَّم إليها علوجا كانوا من أصحاب يليان
(2/13)
وغيرهم؛ فأتوهم في هيئة المنهزمين، ومعهم
السلاح؛ فأدخلوهم المدينة؛ فلما علم موسى بدخولهم، بعث الخيل إليهم
ليلا؛ ففتحوا لهم باب المدينة، وهو الباب المعروف بباب قرطبة؛ فوثبوا
على الأحراس؛ فقتلوهم. ودخل المسلمون المدينة عنوة.
فتح إشبيلية
لما فتح موسى قرمونة، تقدم إلى إشبيلية، وهي من أعظم قواعد الأندلس
شأنا، وأتقنها بنيانا، وأكثرها آثارا. وكانت دار ملك روم رومة قبل غلبة
القوطيين على الأندلس؛ فلما غلب القوطيون عليها، استوطنوا طليطلة،
وأقروا بها ملكهم؛ وبقى بمدينة إشبيلية علماء أهل رومة وكُتابهم
ورؤساؤهم. فاحتلَّ بها موسى بن نصير، وحاصرها أشهرا؛ ففتحها الله عليه،
وهرب منها علوجها إلى مدينة باجة.
فتح ماردة
وتقدم موسى إلى مدينة ماردة؛ وكانت دار ملك في سالف الأيام. وكانت فيها
آثار عجيبة، وقنطرة، وقصور، وكنائس، تفوق وصف الناظرين؛ وهي إحدى
القواعد الأربع بالأندلس التي ابتناها أكتبيان قيصر. وهي قرطبة،
وإشبيلية، وماردة، وطليطلة. فخرج أهلها إلى حربه نحو الميل منها؛
فحاربهم حتى صرفهم إلى المدينة. فلما انجلت الحرب، وكفَّ عن القتال،
طاف موسى بالمدينة؛ فرأى نقبا كان لمقاطع الصخر؛ فكمن فيه الرجال ليلا.
فلما أصبح، زحف إليهم؛ فخرجوا كخروجهم في اليوم قبله؛ فخرج عليهم
الكمين وزحف إليهم المسلمون؛ فركبوهم؛ فقتلوا أبرح قتل، ولجأ من بقى
منهم إلى المدينة؛ فحاصرهم أشهراً، حتى عمل دبابة؛ فدب المسلمون تحتها
إلى برج من أبراجها؛ فنقبوا صخرة؛ فلما نزعوها، أفضوا إلى صخرة صماء
نبت المعاول عنها ويئسوا منها؛ فبينا هم يضربون عليها، إذ استثار
العلوج عليهم؛ فاستشهد المسلمون تحت الدبابة. فسمى ذلك البرج
(2/14)
برج الشهداء، وبه يعرف إلى اليوم؛ فحميت
عند ذلك نفوس العلوج، وثابت إليهم أنفسهم. ثم خرجت إليهم رسل، وتعرضت
للصلح؛ فساروا إلى موسى؛ فرأوا رجلا أبيض الرأس واللحية؛ فكلموه بما لم
يوافقهم عليه ولم يرضه؛ فرجعوا عنه، ولم يعقدوا شيئاً؛ ثم عاودوه يوما
آخر؛ فألفوه قد حمر رأسه ولحيته بالحناء؛ فعجبوا منه، وراعهم ما رأوه؛
ولم يتم لهم أمر؛ ثم عاودوا إليه في اليوم الثالث، وذلك يوم عيد الفطر؛
فألقوه قد سود رأسه ولحيته؛ فرجعوا إلى المدينة، وقالوا لمن فيها:
(ويحكم! إنها تقاتلون أنبياء يتشببون بعد المشيب! قد عاد ملكهم حدثا
بعد أن كان شيخا!) فقالوا!: (اذهبوا إليه وأعطوه ما سألكم!) فوصلوا
إليه، وصالحوه، وانعقد أمرهم على أن جميع أموال القتلى يوم الكمين
وأموال الغائبين بجليقية وأموال الكنائس، ذلك كله للمسلمين. ثم فتحوا
له الباب من يومهم ذلك، وهو مستهل شوال من سنة 94 من الهجرة.
فتح إشبيلية ثانية
وذلك، لمّا اشتغل موسى بن نصير بحصار ماردة، ثار عجم إشبيلية، وارتدوا،
وقاموا على من كان فيها من المسلمين. وتجالب فلهم إليهم من مدينتي ليلة
وباجة؛ فقتلوا من المسلمين نحو ثمانين رجلا. وبلغ الخبر بذلك إلى موسى
بن نصير؛ فلما استتم فتح ماردة، بعض ابنه عبد العزيز بجيش إلى إشبيلية؛
فافتتحها، وقتل أهلها.
فتح لبلة
لما استتم فتح إشبيلية، تقدم عبد العزيز بن موسى بجيشه إلى لبلة؛
فافتتحها، وانصرف إلى إشبيلية؛ فدخلها أيضا.
(2/15)
ذكر اجتماع الأمير
أبي عبد الرحمن موسى بن نصير
مع مولاه طارق بن زياد على طليطلة
اتفق الأكثرون على أن التقاءهما كان على طليطلة. وذكر الطبري أنه كان
على قرطبة. وذكر الرازي أن طارقا خرج من طليطلة لما بلغه مسيره إليه،
فلقبه بمقربة من طلبيرة. وكان موسى، لما فرغ من أمر ماردة، نهض يريد
طليطلة؛ فخرج إليه طارق معظما له، ومبادرا لطاعته؛ فوبخه موسى، وغضب
عليه. وقيل إنه وضع السوط على رأسه؛ وقيل إنه ضربه أسواطا كثيرة وحلق
رأسه. ثم سار به إلى طليطلة، وقال له: (ايتني بما أصبت وبالمائدة!)
فأتاه بها، وقد اقتلع رجلا من أرجلها؛ فقال له: (أين الرجل؟) فقال له:
(هكذا وجدتها!) فأمر موسى؛ فعمل لها رجل من ذهب، وأدخلها في سفط.
واختلفت الروايات لم فعل موسى مع طارق ما فعل من السخط عليه؛ فقيل:
إنما فعل ذلك بغيا ونفاسة عليه؛ واستدلوا على ذلك بادعائه خصال طارق
وأخذ المائدة عند الخليفة. ومنهم من عذره وقال: إنما فعل ذلك به لتقدمه
دون رأيه، وهو مولاه، وعلى توغله بالمسلمين، وتغريره بهم. واتصل بهذا
في كتاب الرازي أن الوليد بعث إلى موسى رسولا؛ فأخذ بعنان دابته،
وأخرجه من الأ، دلس، ومعه طارق ومغيث. وخلف ابنه على الأندلس، وأبقى
معه وزيرا حبيب بن أبي عبدة بن عقبة بن نافع.
ولما التقى موسى بطارق، وجرى له معه ما جرى، تقدم من طليطلة إلى
سرقسطة؛ فافتتحها، وافتتح ما حولها من الحصون والمعاقل. وذكروا أن موسى
خرج من طليطلة غازيا، بفتح المدائن، حتى دانت له الأندلس. وجاءه أهل
حليقية يطلبون الصلح؛ فصالحهم. وفتح بلاد البشكنش، وأوغل في بلادهم حتى
أتى قوما كالبهائم. وغزا بلاد الإفرنج. ثم مال حتى انتهى إلى سرقسطة؛
(2/16)
فأصاب فيها ما لا يعرف قدره. وبين سرقسطة
وقرطبة مسيرة نحو شهر. وافتتح هنالك حصونا كثيرة. وكانت أساقفة الروم
تجد صفة موسى في كتبهم؛ فإذا رأوه، قالوا: (هو، والله!) فأعطوه المعقل.
ولم يهزم له جمع قط.
وقال يوسف بن هشام: انتهى موسى إلى صنم؛ فوجد في صدره مكتوبا: (يا بني
إسماعيل! فإلى هنا منتهاكم! وإن سألتم إلى ماذا ترجعون، أخبرناكم:
ترجعون إلى اختلاف ذات بينكم، حتى يضرب بعضكم رقاب بعض، وقد فعلتم.)
قال الليث: ولقد جاء رجل إلى موسى بن نصير؛ فقال له: (ابعث معي أدلك
على كنز!) فبعث معه رجالا؛ فوقف بهم على موضع؛ فقال: (اكشفوا عن هذا!)
فكشفوا؛ فإذا حوض مترع من الياقوت والجوهر والزبرجد ما لم تر عين مثله
قط؛ فلما رأوا ذلك، بهتوا وأرسلوا إلى موسى ليحضر.
ذكر ما أفاء الله على فاتحي الأندلس
من ذلك مائدة سليمان - عليه السلام! - قيل إنها كانت من ذهب وفضة
خليطين، مطوَّقة بثلاثة أطواق: طوق لؤلؤ، وطوق ياقوت، وطوق زبرجد،
وإنها حملت على بغل عظيم لا بغل أقوى منه؛ فما بلغ بها مرحلة حتى تفتحت
قوائمه؛ ومنها ياقوته ذي القرنين وجدها بماردة؛ ومنها البيتان اللتان
فتح في طليطلة، وجد في إحداهما أربعة وعشرون تاجا عدد ملوكهم، لا يدري
ما قيمة تاج منها، وعلى كل تاج اسم صاحبه ومبلغ سنه؛ وفيه وجدت
المائدة؛ وكان السبب في حصولها بطليطلة أن ملك الروم، لما زحف إلى بيت
المقدس ليقاتل بني إسرائيل، أخذ بلادهم وسبى ما فيها، ووجد فيها مكارم
الأنبياء - عليهم
(2/17)
السلام! - منها عصا آدم، والتابوت الذي فيه
بقية مما ترك آل موسى وآل هارون، وعصا موسى ونعلاه، ومائدة سليمان، وهي
من ذهب، قد كلل أعلاها وأسفلها بالدر والياقوت. فحمل جميع ذلك إلى
رومة. فلما مرّ ملك الروم بمصر، رغب إليه أهلها أن يجعلها عندهم
يتبركون بها، وقالوا له: (رومة تبعد عنا!) وكانوا قد أمدوه، وقاتلوا
معه بني إسرائيل؛ فطلبوا منه شيئاً من تلك المكارم؛ فدفع لهم المائدة؛
فحملتها الأساقفة إلى الإسكندرية. فلما غزا عمرو بن العاصي بمصر، هربوا
بها إلى مدينة إطرابلس. فلما نزل عمرو بن العاصي برقة، هربوا بها إلى
مدينة قرطاجنة. فلما دخل المسلمون طنجة، هربوا بها إلى مدينة طليطلة،
ولم يكن لهم أمتع منها؛ ولا وجدوا حيث يهربون بها بعدها.
قال أبو شبة الصدفي: لقد نظرت إلى رجلين يحملان طنفسة منسوجة بالذهب
والفضة واللؤلؤ؛ فلما ثقلت عليهما، أنزلاها؛ ثم حملا عليها الفأس؛
فقطعاها بنصفين؛ فأخذا نصفا، وتركا نصفا. فلقد رأيت الناس يمرون على
نصفها؛ فلا يلتفتون إليه اشتغالا بما في أيديهم مما هو أرفع منها.
وحدّث عبد الحميد عن أبيه، قال: قدمت الأندلس امرأة عطارة؛ فخرجت منها
خمسمائة رأس من السبي؛ فأما ما خرجت به من الذهب والفضة والجوهر
والآنية، فذلك ما لا يحاط بعلمه. قال: وقدم علينا شيخ من المدينة، جيد
التجربة واللسان؛ فجعل يحدثنا عن الأندلس؛ فقلت له: (كيف علمت هذا؟)
قال: (لأني، والله! كنت ممن اشترى بها بحبات فلفل أقل من القبضة ما
يساوي عددا) .
وأقام موسى بالأندلس سنتين وشهرا؛ ثم رجع إلى إفريقية، وتحته بغل أشهب
يسمى الكوكب. ولما انصرف عن قرطبة متوجها نحو إفريقية، حول وجهه إلى
قرطبة؛ فقال: (واها لك! يا قرطبة! ما أطيب تربتك، وأشرف بقعتك، وأعجب
أمرك! ولعنك الله بعد الثلاثمائة سنة!) ثم مضى حتى وصل الخضراء، وأمر
بالعجل؛ فحملت الذهب والفضة والجوهر والمتاع وأصناف متاع
(2/18)
الأندلس. وكان دخول موسى الأندلس سنة 92،
وهو ابن ستين سنة، وأقام واليا بإفريقية ست عشرة سنة، وقفل منها سنة
95.
أخبار الأمير أبي عبد الرحمن موسى بن نصير
رحمه الله تعالى
لما دخل موسى إفريقية، وجدها قد قحطت قحطا شديداً؛ فأمر الناس بالصيام
والخروج إلى المصلَّى، الرجال على حدة، والنساء على حدة، والصبيان على
حدة، وكذلك جميع البهائم مع أصنافها. فاجتمعوا في موضع واحد، ودعا الله
تعالى، ودعا الناس معه، وبكى، وبكوا، وبكى الصبيان والنساء، وصاحت
البقر والعجل والغنم والخرفان وأهل الذمة. فأقاموا كذلك حتى انتصف
النهار. ثم خطب الناس؛ فلم يلبث أن سقوا سقا شافيا.
وخرج موسى من إفريقية، واستخلف عليها عبد الله ابنه. وحمل موسى معه من
إفريقية من وجوه البربر مائة رجل وعشرين ملكا من ملوك الروم؛ فخرجوا
معه بأصناف ما كان في كل بلد من طرائفها وذهبها وفضتها وجوهرها
وياقوتها، ما لا يحصى ولا سمع بمثله، حتى انتهى إلى مصر؛ فلم يبق بها
شريف، ولا فقيه، ولا عظيم، إلا ودفع إلى سليمان بن عبد الملك عشرة آلاف
دينار. ثم خرج من مصر؛ فتوجه إلى فلسطين؛ فتلقاه آل روح بن زنباع
الجذامي؛ فنزل بهم؛ فنحروا خمسين جملا. ثم خرج من عندهم، وترك بعض
أصحابه وصغار ولده عندهم، وأفرغ على آل روح بن زنباع كثيرا من الكسي
والوصائف والوصفات، وغير ذلك من الأموال.
وكان موسى، قبل خروجه من المغرب، قدم عليه ولده مروان من السوس الأقصى،
وهو يجر الدنيا جرا. ولما وصل رسوله إلى أبيه، يعلمه به وبما يأتي به
من السبي، خرج إليه في وجوه الناس يتلقاه؛ فلما التقيا، قال مروان بن
موسى: (مروا لكل من يلقاني مع أبي بوصيفة وصيفة!) فلما أمر بذلك، سمع
موسى
(2/19)
صياح الناس وضجيجهم، ورأى حركاتهم؛ فقال:
(ما هذا؟) فقالوا: (ابنك مروان أمر للناس بوصيفة وصيفة!) فقال لهم:
(مروا لهم انتم بوصيف وصيف!) فانصرفوا الناس كلهم، ومع كل واحد منهم
وصيف ووصيفة.
وكان الوليد بن عبد الملك مرض مرضه الذي مات منه. وكتب إلى موسى يأمره
بشد السير إليه ليدركه قبل الموت. وكتب إليه سليمان أن يبطؤ في سيره.
فعمل موسى بكتاب الوليد، ولم يعمل بكتاب سليمان، وجدّ في شيره. فغضب
عليه سليمان، وقال: (والله! لئن ظفرت به، لأصلبنه!) وكان سبب أمر
الوليد لموسى بالعجلة ليحرم سليمان ما جاء به؛ وكان أمر سليمان له بترك
الاستعجال ليحرم الوليد وولده ما جاء به. فقدم موسى قبل موت الوليد
وأتاه بالطرائف من الدُّر والياقوت والزبرجد، والوصفاء والوصائف،
ومائدة سليمان، والتيجان المكللة لدُّر والياقوت. فاستغرب الوليد ذلك،
وأمر بمائدة سليمان؛ فكسرت، وعمد إلى أرفع ما كان فيها من الجوهر وكلّ
ما كان في التيجان وغيرها؛ فجعله في بيت المال. ثم لم يلبث أن مات
وأفضت الخلافة إلى سليمان أخيه؛ فبعث في موسى؛ فعنَّفه بلسانه، وقال:
(والله لأفلنَّ غربك! ولأفرقن جمعك! ولأصغرن من قدرك!) فقال موسى: (أما
قولك تفل من غربي وتخفض من قدري، فإن ذلك بيد الله، وإلى الله لا إليك!
وبه أستعين عليك!) فأمر به سليمان؛ فوقف في يوم صائف شديد الحر؛ وكان
موسى رجلا ضخما، بادنا، ذا نسمة؛ فوقف حتى سقط مغشيا عليه؛ فنظر شليمان
إلى عمر ابن عبد العزيز - رضي الله عنه -؛ فقال له: (يا أبا حفص! ما
أراني إلا وقد بررت في يميني وخرجت عنه!) فقال عمر: (أجل! يا أمير
المؤمنين!) فقال سليمان: (من يضمه إليه؟) فقام يزيد بن المهلب؛ فقال
(أنا يا أمير المؤمنين أضمه إليَّ!) قال: (فضمه إليك ولا تضيق عليه!)
فانصرف يزيد، وقدَّم
(2/20)
إليه دابَّة؛ فركبها موسى، وأقام عنده
أياما حتى حسن ما بينه وبين سليمان وافتدى منه موسى بمال كثير، قيل:
ألف ألف دينار، وقيل غير ذاك. ثم إن يزيد بن المهلب سهر ليلة عند موسى؛
فقال له: (يا أبا عبد الرحمن! في كم كنت تعتدُّ من مواليك وأهل بيتك؟)
فقال له موسى: (في كثير!) فقال يزيد: (يكونون ألفا؟) فقال له موسى:
(ألف وألف وألف إلى منقطع النفس!) فقال له يزيد: (كنت على ما وصفت،
وألقيت بيدك إلى التهلكة! أفلا أقمت في قرار عزّك وموضع سلطانك،
وامتنعت بما قدمت به؟ فإن أعطيت الرضى، وإلاَّ كنت على عزك وسلطانك!)
فقال له: (والله! لو أردت ذلك، لما نالوا من أطرافي طرفا! ولكنّي آثرت
الله ورسوله! ولم أر الخروج عن الطاعة والجماعة!) وذكر أنَّ سليمان قال
لموسى: (ما الذي كنت تفزع إليه عند حروبك ومباشرة عدوك؟) قال: (كنت
أفزع إلى التضرُّع والدعاء والصبر عند اللقاء!) قال: (فأيُّ الخيل
رأيتها في تلك البلاد أسبق؟) قال: (الشقر!) قال: (فأيُّ الأمم كانوا
أشد قتالا؟) قال: (هم أكثر من أن أصفهم!) قال: أخبرني عن الروم!) قال:
(أسد في حصونهم، عقبان على خيولهم، نساء في مواكبهم، إن رأوا فرصة
انتهزوها، وإن رأوا غلبة، فأوعال تذهب في الجبال، لا يرون الهزيمة
عاراً.) قال: (فأخبرني عن البربرا) قال: (هم أشبه العجم بالعرب لقاء
ونجدة وصبرا وفروسية، غير أنهم أغدر الناس، لا وفاء لهم ولا عهدا!)
قال: (فأخبرني عن الأندلس!) قال: (ملوك مترفون، وفرسان لا يخيبون.)
قال: فأخبرني عن الإفرنج!) قال: (هناك العدد والعدة، والجلد والشدة،
والبأس والنجدة!) قال: (فأخبرني كيف كانت الحرب بينك وبينهم: أكانت لك
أو عليك؟) فقال: (أما هذا، فوالله! ما هزمت لي راية قط، ولا بدد جمعي،
ولا نكب المسلمون معي، منذ اقتحمت الأربعين إلى أن بلغت الثمانين!)
فضحك سليمان، وعجب من قوله. ثم دعا سليمان بطست
(2/21)
من ذهب؛ فجعل يردد بصره فيه؛ فقال له موسى:
(إنك لتعجب من غير عجب! واله! ما أحسب أن فيه عشرة آلاف دينارّ والله!
لقد بعثت إلى أخيك الوليد بشنور من زبرجد أخضر، كان يصب فيه اللبن،
فيخضر وترى فيه الشعرة البيضاء؛ ولقد قوم بمائة ألف مثقال، وإنه لمن
أدنى ما بعثت به إليه! ولقد أصبت كذا وأصبت كذا!) وجعل يعدد ما أصاب من
الدُّر والياقوت والزبرجد، حتى بهت سليمان من قوله.
وخرج سليمان يوما يتصيد، ومعه موسى بن نصير؛ فمرَّ في منية له بذود غنم
يكون فيها نحو ألف شاة؛ فالتقت إلى موسى، وقال له: (هل كان لك مثل
هذا؟؟ فضحك موسى وقال: (والله! لقد رأيت لأدنى موالي أضعاف هذا! فقال
سليمان: (لأدنى مواليك؟) فقال: (نعم والله! نعم والله!) ورددَّها
مرارار؛ ثم قال: (وما هذا فيما أفاء الله على! لقد كانت الألف شاة تباع
بعشرة دراهم، كلُّ مائة بدرهم! ولقد كان الناس يمرون بالبقر والغنم؛
فلا يلتفتون إليها! ولقد رأيت الذود من الإبل بدينار! ولقد رأيت العلج
الفاره وامرأته وأولاده يباعون بخمسين درهما!) قال: فعجب سليمان.
ثمّ حجَّ سليمان، وخرج موسى معه؛ وكان موسى من أعلم الناس بالنجوم.
فلما احتل بالمدينة، قال لبعض إخوانه: (ليموتنَّ بعد غد رجل قد ملأ
ذكره المشرق والمغرب!) فظنَّ الرجل أنه الخليفة؛ فمات موسى في اليوم
الثاني. وصلَّى عليه مسلمة بن عبد الملك. وكان مولد موسى سنة 19، في
خلافة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. قيل إنه من لخم؛ وقيل: من بكر
بن وائل.
وقال ابن بشكوال في (كتاب الصلة) له: إنه موسى بن نصير بن عبد الرحمن
بن زيد. وقال غيره: كان نصير ولاه معاوية بن أبي سفيان على خيله؛ فلم
يقاتل معه علياّ؛ فقال له: (ما منعك من الخروج معي على عليّ؟ وبدى
عليك، ولم تكافئني عليها؟) فقال: (لم يمكني أن أشكرك بكفر من هو
(2/22)
أولى بشكري!) فقال: (ومن هو؟) فقال: (الله
- عز وجل!) قال: فأطرق معاوية مليا؛ ثم قال: (أستغفر الله!) وعفا عنه.
وقال الليث بن سعد: لما قدم موسى بن نصير إفريقية حين الفتح، أخرج ابنا
له يسمى عبد الله إلى بعض نواحيها؛ فأتاه بمائة ألف رأس من السبي،
أكثرهن وجوه كالبدور؛ ثم وجه ابنا له يسمى مروان إلى ناحية أخرى؛ فأتاه
كذلك؛ ثم خرج هو بنفسه؛ فأتى بنحو ذلك. قال الليث: فبلغ الخمس ستين
ألفا. قال: فلم يسمع بمثل سبايا موسى في الإسلام.
وفي سنة 95، كان خروج موسى من الأندلس إلى الشأم، واستخلف ابنه عبد
العزيز عليها.
ولاية عبد العزيز بن موسى بن نصير
واستخلف موسى على الأندلس ابنه عبد العزيز، وترك معه حبيب بن أبي عبدة
بن عقبة بن نافع وزيرا له، ومعينا. وأقام معهما بالأندلس من أراد
سكناها. فلما وصل موسى إلى إشبيلية، أقرَّ فيها ولده؛ فارتضاها قاعدة
ملكه؛ وتزوج بعد خروج أبيه أمَّ عاصم امرأة رذريق (واسمها أيله) وسكن
معها بإشبيلية. فلما دخل بها، قالت له: (إن الملوك، إذا لم يتوجوا، فلا
ملك لهم! فلو عملت لك مما بقى عندي من الجوهر والذهب تاجا؟ فقال لها:
(ليس ذلك في ديننا.) فقالت له: (ومن أين يعرف أهل دينك ما أنت فيه في
خلوتك؟) فلم تزل به حتى فعل. فبينما هو ذات يوم جالس معها، والتاج على
رأسه، إذ دخلت عليه امرأة كان قد تزوجها زياد بن نابغة التميمي، من
بنات ملوكهم؛ فعاينته، والتاج على رأسه. فقالت لزياد (ألا أعمل لك
تاجا؟) فقال لها: (ليس في ديننا استحلال لباسه!) فقالت له: (ودين
المسيح!
(2/23)
إنه على رأس ملككم وإمامكم!) فأعلم بذلك
زياد حبيب بن أبي عبدة ثم تحدثا بذلك حتى علمه خيار الجند؛ فلم يكن له
هم إلا كشف ذلك، حتى رأوه عيانا. فقالوا (قد تنصر!) ثم هجموا عليه،
فقتلوه. وأكثر الناس على أنَّ هذه الحكاية لا تصح، وإنما قتلوه بأمر
سليمان لهم بذلك إذ نكب والده.
وقال الواقدي: إن التي نكح بعد خروج أبيه هي ابنة رذريق؛ فجاءته من
الدنيا بما لا يوصف. فلما دخلت عليه، قالت له: (ما لي لا أرى أهل
مملكتك يعظمونك، ولا يسجدون لك، كما كان أهل مملكة أبي يفعلون له؟)
فأمر بباب، فنقب في ناحية قصره، وجعله قصيرا؛ فكان يأذن للناس منه؛
فيدخل الداخل منكسا رأسه قبالته لقصر الباب؛ وقد جعل لها مجلسا، تنظر
منه إلى الناس إذا دخلوا عليه من حيث لا يرونها. فلما رأتهم على ذلك،
ظنت أنهم يسجدون له. فقالت لعبد العزيز: (الآن قوي ملكك) وبلغ الناس ما
أراد بذلك الباب؛ فثار به حبيب بن أبي عبدة الفهري، وزياد بن عذرة
البلوي، وزياد بن نابغة التميمي، ومن معهم من الناس، فقتلوه. وقيل
أيضا: إنما قتلوه لأنه خلع طاعة سليمان بن عبد الملك، إذ بلغه قتل أخيه
وما صنع بأبيه.
قال الرازي: لما قفل موسى بن نصير، استخلف ابنه عبد العزيز على
الأندلس؛ فضبط سلطانها، وسد ثغورها، وافتتح مدائن كثيرة. وكان من خير
الولاة، إلا أن مدته لم تطل، لوثوب الجند عليه وقتلهم له، لأشياء
نقموها عليه. وكان قتله صدر رجب من سنة 97، بمدينة إشبيلية، بمسجد
رفينة. ولما دخل المحراب، قرأ فاتحة الكتاب؛ ثم قرأ سورة الواقعة؛
فعلاه من خلفه زياد ابن عذرة البلويُّ بالسيف، وهو يقول: (قد حقت عليك
يا ابن الفاعلة؟) فكانت ولايته سنة واحدة وعشرة أشهر.
وذكر أيضا أن سليمان بعث إلى الجند يأمرهم بقتله، عند سخطه على أبيه،
وأنهم، لما قتلوه، حزوا رأسه. وقدم به على سليمان حبيب بن أبي عبدة
الفهري.
(2/24)
فقيل إنه عرض الرأس على والده، وهو في
محبسه؛ فتجلد لحرّ المصيبة، وقال: (هنيئا له الشهادة؟ فتلثم، والله؟
صواما قواما؟) قال الرازي: فكانوا يعدون فعل سليمان هذا بموسى وابنه من
كبار زلاته التي لم تزل تنقم عليه. ومكث أهل الأندلس شهورا لا يجمعهم
وال، حتى اجتمعوا على أيوب بن حبيب اللخمي، ابن أخت موسى بن نصير.
ذكر ولاية أيوب بن حبيب الأندلس
ثم اجتمع أهل الأندلس على تقديم أيوب هذا، يومهم لصلاتهم؛ وكان رجلا
صالحا. وأقاموا مدة دون أمير، ونقلوا دار السلطان إلى قرطبة. فتقدم
أيوب ابن حبيب، واحتل بقصر قرطبة؛ وكان مغيث قد اختطه لنفسه. فذكر أن
موسى ابن نصير، حين أقلعه رسول الوليد، رجع في قفوله على طريق طارق
ليختبر الأندلس؛ فنزل قرطبة وقال لمغيث: (إن هذا القصر لا يصلح لك.
وإنما يصلح للعامل الذي يكون بقرطبة.) فتنحى عنه يومئذ. ونزله بعد ذلك
أيوب ابن حبيب. فكانت ولايته ستة أشهر.
ولاية الحرّ بن عبد الرحمن الثَّقفيّ
لما ولي سليمان بن عبد الملك محمد بن يزيد، مولى ابنة الحكم بن العاصي،
إفريقية، كانت الأندلس وطنجة إلى صاحب إفريقية. فوجه محمد بن يزيد
الحرّ ابن عبد الرحمن هذا عاملا على الأندلس، في أربعمائة رجل من وجوه
إفريقية. فبقى الحرُّ واليا. عليها ثلاث سنين؛ فنقل الحرُّ هذا الإمارة
من إشبيلية إلى قرطبة. وكان قدوم الحرّ الأندلس سنة 99 من الهجرة.
(2/25)
ولاية السَّمح بن مالك الخولانيّ
ثم ولى أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - السمح بن
مالك على الأندلس، وأمره أن يحمل الناس على طريق الحق، ولا يعدل بهم عن
منهج الرفيق، وأن بخمس ما غلب عليه من أرضها وعقارها، ويكتب إليه بصفة
الأندلس وأنهارها. وكان رأيه نقل المسلمين منها وإخراجهم عنها،
لانقطاعهم عن المسلمين واتصالهم بأعداء الله الكفار؛ فقيل له: (إنّ
الناس قد كثروا بها، وانتشروا في أقطارها؛ فأضرب عن ذلك) فقدم السمح
الأندلس، وامتثل ما أمره به عمر - رضي الله عنه - من القيام بالحق،
وإتباع العدل والصدق؛ فأنفرد السمح بولايتها؛ وعزلها عمر عن ولاية
إفريقية، اعتناء بأهلها، وتهمما بشأنها.
وكان المسلمون، إذ فتحوا قرطبة، وجدوا بها آثار قنطرة فوق نهرها، على
حنايا وثاق الأركان من تأسيس الأمم الدائرة، قد هدمها مدود النهر على
مرّ الأزمان. فتقدم إلى فضيلة النظر فيها عمر بن عبد العزيز - رضي الله
عنه - عندما اتصل به خبرها؛ فأمر السمح بابتنائها؛ فصنعت على أثمَّ
وأعظم مما بنى عليه جسر من حجارة سور المدينة.
وفي سنة 101، ورد كتاب أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز على السمح بن
مالك بالأندلس، يأمره ببناء القنطرة بصخر السور، وبناء السور باللبن،
ويأمره بإخراج خمس. قرطبة. فخرج من الخمس البطحاء المعروفة بالربض.
فأمر الخليفة عمر أن يتخذ بها مقبرة للمسلمين؛ فتمَّ ذلك.
وقتل السمح - رحمه الله - بطرسونة، وذلك أنه غزا الروم في سنة 102؛
فاستشهد - رحمه الله - يوم عرفة؛ فكانت ولايته سنتين وأربعة أشهر.
وقيل: ثمانية أشهر؛ وقيل: ثلاث سنين.
ولاية عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي
الأندلس
ثم ثدَّم أهل الأندلس على أنفسهم عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي هذا؛
فدخلها في شهر ذي الحجة سنة 102.
(2/26)
ولاية عنبسة بن سُحيم الكلبي
ثم ولّي يزيد بن أبي مسلم عامل إفريقية على الأندلس عنبسة بن سحيم هذا؛
فدخلها في شهر صفر. فلما قُتل يزيد بن أبي مسلم، كان على إفريقية محمد
بن يزيد، مولى الأنصار، على ما ذكره الطَّبري، بتقديم أهل إفريقية،
وإقرار يزيد بن عبد الملك إياه.
وفي سنة 103، كان العامل على إفريقية من قبل يزيد بن عبد الملك بشر بن
صفوان، أخو حنظلة؛ فأقر عنبسة على الأندلس؛ فكانت ولاية عنبسة كلها
أربع سنين وثمانية أشهر؛ وقيل غير ذلك.
وفي سنة 105، خرج عنبسة غازيا للروم بالأندلس، وأهلها يومئذ خيار،
فضلاء، أهل نية في الجهاد وحسبة في الثواب؛ فالح على الروم في القتال
والحصار، حتى صالحوه. وتوفي عنبسة في شعبان سنة 107؛ فكانت ولايته كما
ذكرنا.
ولاية يحيى بن سلمة الكلبي
وذلك أنه، لما توفي عنبسة، قدم أهل الأندلس على أنفسهم رجلا من العرب،
يقال له عذرة، إلى أن ورد بعد شهرين يحيى بن سلمة الكلبي واليا من عند
أمير المؤمنين هشام بن عبد الملك، في آخر سنة 109؛ فكانت ولايته سنتين
وستة أشهر.
ومات بشر بن صفوان بإفريقية؛ فولى هشام بن عبد الملك مكانه عبيدة ابن
أبي الأعور السلميَّ.
ولاية حذيفة بن الأحوص
ثم ولي الأندلس حذيفة بن الأحوص الأشجعي؛ وقيل: القيسي؛ ولاه عليها
عبيدة بن عبد الرحمن السلمي عامل إفريقية من قبل هشام بن عبد الملك، في
سنة 110؛ فكانت ولايته ستة أشهر.
(2/27)
ولاية عثمان بن أبي
نسعة
ثم ولى عبيدة بن عبد الرحمن بن أبي الأعور السلمي على الأندلس عثمان
ابن أبي نسعة الخثعميّ؛ فقدمها في شعبان سنة 110، وكانت ولايته خمسة
أشهر؛ وقيل: ستة أشهر؛ ثم عزل وانصرف إلى القيروان؛ فمات بها.
ولاية الهيثم بن عبيد الكناني
ثم ولي الأندلس الهيثم بن عبيد الكناني، في صدر سنة 111؛ وكانت ولايته
عشرة أشهر؛ وقيل غير ذلك؛ وهو الذي غزا منوسة. وأقام واليا عشرة أشهر،
كما ذكرنا؛ وقيل: سنة وشهرين؛ ثم توفي.
ولاية محمد بن عبد الله الأشجعي
ثم قدم أهل الأندلس على أنفسهم محمد بن عبد الله الأشجعي؛ فكانت ولايته
شهرين؛ وقيل غير ذلك.
ولاية عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي
ثانية
ثم ولي الأندلس عبد الرحمن هذا ثانية؛ فكان دخوله إليها في صفر سنة
112؛ فأقام واليا سنتين وسبعة أشهر؛ وقيل: وثمانية أشهر. واستشهد في
أرض العدو في رمضان سنة 114.
ولاية عبد الملك بن قطن
ثم ولى عبد الملك بن قطن بن نفيل بن عبد الله الفهري؛ فدخلها في شهر
رمضان المذكور الذي توفي فيه عبد الرحمن الغافقي. فألفاه قد استشهد.
وقيل: دخلها في شوال من سنة 114. وكانت ولايته سنتين؛ وقيل غير ذلك.
(2/28)
ولاية عقبة بن الحجاج السَّلولي
ثم ولي عقبة بن الحجاج السلولي في شوال سنة 116. وقالوا: في ولايته كان
عبيد الله بن الحبحاب عامل مصر وإفريقية؛ فقدم عليه عقبة بن الحجاج،
وكان مولاه؛ فأكرمه، وبرَّه، ورفع شأنه وقدره، وأنزله في مكانه، وخبره
في ولاية ما شاء من سلطانه. وكان الحجاج أبو عقبة قد أعنق الحبحاب أبا
عبيد الله؛ فولى هشام بن عبد الملك عبيد الله بن الحبحاب مصر وإفريقية
والأندلس؛ فكان له من العريش إلى طنجة إلى السوس الأقصى إلى الأندلس
وما بين ذلك؛ وكان أحد بنيه بمصر، والثاني بالسوس وطنجة، والثالث
بالأندلس؛ وكان عبيد الله بإفريقية. فلما شرف عبيد الله، وعلت منزلته،
وانتشر ذكره، وفد عليه مولاه عقبة؛ فأجلسه معه على فراشه، وأدناه من
نفسه، وقربه، حتى عظمت منزلته في الناس؛ فكان يقصده الطالبون وذوو
الحاجات، يتوسلون به إلى عبيد الله. فغص به بنو عبيد الله، وقالوا
لوالدهم: (اصرفه عنا لئلا يكسر شرفنا!) فما زاده ذلك عنده إلا تعظيما
وتكريما، وخبره في ولاية ما شاء من سلطانه؛ فاختار الأندلس؛ فولاه
عليها. وكان يجاهد المشركين في كل عام، ويفتتح المدائن. وهو الذي فتح
مدينة أربونة، وافتتح جليقية وبنبلونة، وأسكنها المسلمين. وعمت فتوحاته
جليقية كلها غير الصخرة؛ فإنه لجأ إليها ملك جليقية، وكان بها في
ثلاثمائة راجل. فما زال المسلمون يضيقون عليهم، حتى صاروا ثلاثين رجلا،
وحتى فنيت أزودتهم، ولم يتقوتوا إلا بعسل يجدونه في خروق الصخرة. وأعبى
المسلمين أمرهم؛ فتركوهم. وأقام عقبة بالأندلس بأحسن سيرة وأجملها،
وأعظم طريقة وأعدلها، إلى أن غزا أرض إفرنجة؛ فلقيته جيوش الأعداء؛
فقتل هو ومن معه ببلاط الشهداء. وذكر عنه أنه كان صاحب بأس ونجدة،
ونكاية للعدو وشدة. وكان إذا أسر الأسير، لم يقتله حتى يعرض عليه دين
الإسلام، ويفتح له عبادة الأصنام. فيذكر أنه أسلم على يديه بهذا الفعل
ألف رجل. وكانت ولايته خمسة أعوام وشهرين.
(2/29)
وقيل إن أهل الأندلس شاروا على عقبة بن
الحجاج وخدموه. قال ابن القطان: وقيل إن عقبة بن الحجاج، لما حانت
وفاته، استخلف عبد الملك بن قطن. قال: وأقام عقبة على الأندلس واليا
إلى سنة 121.
ولاية عبد الملك بن قطن الفهري ثانية
وفي سنة 122، ولي عبد الملك بن قطن ثانية، حتى كان من أمر البربر وبلج
بن بشر، ابن أخي كلثوم بن عياض عامل إفريقية، ما أذكره. قال ابن
القطان: وذلك أن هشام بن عبد الملك كان قد ندب كلثوما لقتال البربر،
وولاه إفريقية، وبعث معه ثلاثين ألف فارس: عشرة آلاف من صلب بني أمية؛
وعشرين ألفا من العرب؛ وعهد إليه في سد إفريقية وضبطها، إذ كانوا يجدون
في الروايات أن ملكهم يزول، وأن ملك بني العباس لا يجاوز الزاب.
فتوحمته بنو أمية زاب مصر، وإنما كان زاب إفريقية. فأمره بالجد في أمر
إفريقية، ليلجؤوا إليها إذا ذهب ملكهم؛ وعهد، إن حدث بكلثوم حدث، أن
يكون ابن أخيه يلج مكانه؛ فدارت بينه وبين البربر حروب عظيمة، هزموا في
بعضها كلثوما وقتلوه. وصار أمر العرب بإفريقية إلى بلج بالعهد المذكور.
ولجأ فلهم إلى سبتة، حتى ضاق عليهم الأمر ضيقا عظيما؛ فكاتب بلج
وأصحابه عبد الملك بن قطن صاحب الأندلس، وسأله إدخاله وإدخال من معه من
الجند. وذكروا له ما صروا إليه من الجهد، وأنهم قد أكلوا دوابهم. فأبى
عبد الملك من إدخالهم، ولم يأمنهم، ومطلهم بالميرة والسعن. واتفق أن
تطاولت البربر أيضا بالأندلس، وفاضحوا العرب، وظهروا على الساكنين منهم
بجليقية وغيرها؛ فقتلوهم، وطردوهم. فلما ورد فل العرب على عبد الملك بن
قطن، ورأى عادية البربر، اضطر لأجل ذلك إلى إدخال بلج وأصحابه؛
فكاتبهم، وشرط عليهم مقام سنة بالأندلس، ثم يخرجون عنها؛ فرضوا بذلك.
فأخذ منهم رهائن أنزلهم بجزيرة أم حكيم، وهي على الخضراء. ثم أدخل بلجا
وأصحابه عراة،
(2/30)
لا يواريهم إلا دوابهم، وقد بلغ بهم الجهد
غايته. وكانوا نحو عشرة آلاف من عرب الشام. فلما دخلوا، كساهم عرب
الأندلس على قدر أقدارهم؛ قرب رجل يكسو مائة رجل، وآخر عشرة، وآخر
واحدا، إلى ما بين ذلك.
فلما حلوا بالخضراء، اجتمع بهم عبد الملك بن قطن؛ وكان بشذونة جمع من
البربر، عليهم رجل زناتي؛ فبدأ عبد الملك يمقاتلتهم في وادي الفتح من
شذونة، فلم يكن العرب فيهم إلا نهضة، حتى أبادوهم، وأصابوا أمتعتهم
ودوابهم. فاكتسى أصحاب بلج، وانتعشوا، وأصابوا الغنائم. ثم نهضوا مع
عبد الملك إلى قرطبة؛ ثم ساروا بأجمعهم إلى جهة طليطلة، وقد اجتمع
هنالك معظم البربر؛ فكانت هزيمتهم العظمى هنالك بوادي سليط من حوز
طليطلة، بعد أن زحف عبد الملك وبلج إليهم بعرب الأندلس، حاشا عرب
سرقسطة وثغورها. وزحف البربر بأجمعهم، فهزمهم العرب، وقتلوا منهم في
الهزيمة آلافا.
ذكر ولاية بلج بن يسر القشيري الأندلس
قال من له عناية بالأخبار: دخل بلج الأندلس سنة 123 في ذي القعدة منها،
وملكها بعد ذلك؛ وذلك أنه، لما أباد ابن قطن البربر بالأندلس، بمن كان
معه من العرب، وبأصحاب بلج، قال لبلج وأصحابه: (اخرجوا من الأندلس على
ما شورطتم عليه!) فقال بلج: (احملنا إلى ساحل البيرة أو ساحل تدمير!)
فقال لهم عبد الملك: (ليست لنا مراكب إلا بالجزيرة!) فقالوا له: (إنما
تريد أن تردنا إلى البربر ليقتلونا في بلادهم!) فلما ألجَّ عليهم في
الخروج، نهضوا إليه؛ فأخرجوه من قصر قرطبة إلى داره بالمدينة. ودخل بلج
القصر عشية يوم الأربعاء في صدر ذي قعدة من السنة. وكان بلج، وقت جوازه
عن سبتة، قد أعطى رهائن لابن قطن، جعلهم ابن قطن بجزيرة أم حكيم؛
فضاعوا مدة الفتنة بين بلج وابن قطن، والجزيرة المذكورة دون ماء؛ فمات
رجل من غسان عطشا، وكان من الرهائن، من أشراف دمشق.
(2/31)
مقتل عبد الملك بن
قطن الفهري
لما ملك بلج الأندلس، واستولى عليها، طلب منه الجند أن يعطيهم ابن قطن
في الغسانيّ المذكور؛ فتوفق بلج؛ فألحّ الجند، وثارت اليمن كلها على
كلمة واحدة. وكان ابن قطن شيخا هرما، قد بلغ التسعين؛ وكان قد حضر يوم
الحرَّة، ومنها فرَّ إلى إفريقية؛ وكان يومئذ بداره بقرطبة؛ فأخرجه
الجند منها، كأنه فرخ نعامة من الكبر، وهم ينادونه: (أفلت من سيوفنا
يوم الحرة؛ فطلبنا بثأرنا في أكل الدواب والجلود! ثم أردت إخراجنا إلى
القتل!) ثم قتلوه، وصلبوه، وصلبوا خنزيرا عن يمينه، وكلبا عن شماله.
ثم إن أمية وقطنا ابني عبد الملك بن قطن حشدا في جهة سرقسطة. وكانا قد
هربا من قرطبة وقت إخراج أبيهما منها، وجاءا إلى بلج طالبين يثأرهما،
وهما في نيف على مائة ألف من العرب القدماء والحدث؛ فخرج إليهما بلج،
وهو في أقل من خمس عددهما؛ فاقتتلوا قتالا شديدا. ثم انهزم ابنا عبد
الملك ومن معهما هزيمة عظيمة؛ وانصرف أصحاب بلج ظافرين، وقد امتلأت
أيديهم وأنفسهم غنما ونصرا وسرورا، إلا أن يلجأ أميرهم وفيه من جراحة
أصابته في المعركة، ومات بعد أيام. وكانت مدة إمارته اثني عشر شهرا.
واختلف في ذلك. فقال أبو عمر السالمي: إن تلك المعركة انجلت عن أحد عشر
ألف قتيل، وإن عبد الرحمن بن علقمة فوق سهما إلى بلج؛ فأصاب مقتله. قال
هذا في (كتاب درر القلائد وغرر الفوائد) . وقال في (كتاب بهجة النفس) :
إن عبد الرحمن ابن علقمة المذكور قتله بالسيف، وإن ولايته ستة أشهر.
والأول أصح.
ولاية ثعلبة بن سلامة العامليّ الأندلس
وفي سنة 123، في شوال، ولي الأندلس ثعلبة بن سلامة، ولاه أهل الشام؛
وذلك أن هشام بن عبد الملك كان قد عهد أن يتولى أمر الجيش، إذ جهزه
(2/32)
من الشام، كلثوم بن عياض؛ فإن أصيب، فأين
أخيه بلج؛ فإن أصيب، فثعلبة. فأقعد أصحابه ثعلبة بن سلامة بما عهد به
هشام إليهم، وبايعوه. وثار من بقى من البربر بماردة في أيامه؛ فغزاهم،
وقتل منهم خلقا كثيرا وأسر منهم نحو الألف؛ وانصرف إلى قرطبة. فسار
بأحسن سيرة. وكانت ولايته عشرة أشهر. هذا مساق ابن القطان. ومن (درر
القلائد) : كان يبيع ذراري أهل البلد، ويحملهم أسرى، ويرهقهم من أمرهم
عسرا. فكان ثعلبة معهم على هذه الحال، إلى أن ورد أبو الخطار.
ذكر ولاية أبي الخطار
الحسام بن ضرار الكلبي الأندلس
وفي سنة 125، ركب أبو الخطار البحر من ناحية تونس في المحرم، وحل
بقرطبة؛ فألقى ثعلبة بن سلامة بالمصارة، ومعه الأسرى والسبي من عرب
قرطبة، قد اشتبك في الحبال الولد بالوالد؛ فأمر أبو الخطار باطلاقهم،
وحلهم من وثاقهم؛ وجمع الناس بعد افتراقهم، وصرفهم إلى معهود إيقافهم؛
فدانت له جماعتهم، وفرق أهل الشام على الكور، ونظر لسواهم أيضا بأحسن
النظر؛ فأنزل أهل دمشق بالبيرة، أهل الأردن برية، وأهل فلسطين بشذونة،
وأهل حمص بإشبيلية، وأهل قنسرين بجبان، وأهل مصر بباجة، وبعضهم بتدمير.
وكان إنزالهم على أموال العجم من أرض ونعم. ودخل في ذلك الوقت الصُّميل
بن حاتم - وسيأتي ذكره - وتعصب المضربون معه، وأتوا إلى قرطبة، حيث أبو
الخطار؛ فخرج إليهم دون عدة؛ فهزمه القوم، وقبضوا عليه، وأثقلوا
بالحديد رجليه. ثم إنه أفلت من كبله، ومد ما انقبض من حبله.
ومن (كتاب بهجة النفس) ، قال: (لما هزم ثعلبة البربر، سبي ذراريهم، ولم
يكن قبل بلج ولا غيره يتعرض للذرية بسباء. فأقبل إلى قرطبة بعدد من
السبي كثير، حتى نزل طرف المصارة من قرطبة، ومعه الأسرى والسبي من
(2/33)
عرب البلد والبربر، وهو يبيع السبي في
النداء، ويعبث ويبطر؛ فكان يبيع الشيوخ والأشراف ممن ينقص، لا ممن
يزيد، وكان فيهم عليُّ بن الحصين، والحارث بن أسد من أهل المدينة،
فابتدأ المنادي عليهما بعشرة دنانير؛ فلم يزل ينادي: (من ينقص؟) حتى
باع أحدهما بعتود، والآخر بكلب. فبينا هو على هذه الحال من العبث
والبغي، وقد أوقف رجالهم، وأبرزهم للقتل، وذلك يوم جمعة، إذ قدم أبو
الخطار؛ فألقاهم بهذه الحال. فأمر بإطلاقهم؛ فسمى ذلك العسكر عسكر
العافية. وكان أهل الأندلس طلبوا من صاحب إفريقية حنظلة ابن صفوان
عاملا يجمع كلمتهم، إذ كانت الكلمة مفترقة، والقتل ذريعا، ولا يأمنون
تغلب العدو عليهم؛ فأرسل إليهم أبا الخطار هذا. واجتمع على أبي الخطار
أهل الشام وعرب البلد، ودانت له الأندلس. ثم أنه أمن ابني عبد الملك بن
قطن، وأنزل أهل الشام في الكور، وتعصب لليمانية، واعتزل قيسا؛ فكان ذلك
سبب توثب الصميل بن حاتم عليه مع مضر، بعد أن ولي سنتين؛ وقيل: وتسعة
أشهر؛ وقيل: ثلاث سنين.
ذكر الصميل بن حاتم وسبب الفتنة
قال في (كتاب بهجة النفس) : كان الصميل بن حاتم هذا جده شمر قاتل
الحسين - رضي الله عنه - وهو من أهل الكوفة؛ فلما قتله، تمكن منه
المختار بن أبي عبيد؛ فقتله، وهدم داره؛ فارتحل مع ولده من الكوفة،
وصاروا بالجزيرة؛ ثم صاروا في جند قنسرين. فرأس الصميل بالأندلس، وفاق
بالنجدة والسخاء. فاغتم أبو الخطار به؛ فدخل عليه يوما، وعنده الجند؛
فأحب كسره؛ فأمر عليه؛ فشتم، ولكز؛ فخرج عنه مغضبا، وأتى داره؛ ثم بعث
إلى خيار قومه؛ فشكا إليهم ما لقى؛ فقالوا: (نحن تبع لك!) فقال: (والله
ما أحب أن أعرضكم للقضاعية ولا لليمانية! ولاكني سأتلطف، وأدعو إلب مرج
راهط، وأدعو
(2/34)
لخما وجذاما، وتقدم رجلا يكون له الاسم
ولنا الحظ.) فكتبوا إلى ثوابة بن سلامة الجذامي من أهل فلسطين؛ ثم
وفدوا عليه؛ فأجابهم، وأجابتهم لخم وجذام. فبلغ ذلك أبا الخطار؛
فغزاهم؛ فلقيه ثوابة، وأسره. وسار ثوابة حتى دخل قصر قرطبة، وأبو
الخطار معه في قيوده. ثم إنه أفلت، كما ذكرنا.
ثم ولي ثوابة سنتين. ولما ولي ثوابة سنة 128، استجاش أبو الخطار
اليمانية، ودعاهم للنصرة على المضرية؛ فاجتمع له إذ ذاك حفل وعسكر ضخم،
وأقبل إلى قرطبة؛ فخرج ثوابة بن سلامة إلى لقائه. فافترق الناس عن أبي
الخطار، ونفروا عن تلقائه. وتوفي إثر ذلك ثوابة في السنة المذكورة؛
وكانت ولايته كما ذكرنا. فلما توفي ثوابة، عادت الحرب إلى ما كانت
عليه؛ فأرادت اليمن أن تعيد أبا الخطار؛ فأبت ذلك مضر مع الصميل؛
وتشاكس الفريقان. وأقامت الأندلس أربعة أشهر من غير وال، إلا أنهم
قدموا عبد الرحمن بن كثير اللخمي للنظر في الأحكام. وصار أمر الشام
وملوكه متغير الحال؛ فقال يزيد الوليد، وصارت إليه أحوال بني مروان.
ولاية يوسف بن عبد الرحمن الفهري الأندلس
لما تفاقم الأمر، وكثر الاختلاف بين أهل الأندلس، تراضوا واتفقوا على
تولية يوسف بن عبد الرحمن الفهري، وعلى أن يدعوا ليحيى بن حريث كورة
رية؛ فتركت له طعمة. وقد كانت قضاعة اجتمعت قبل ذلك، وقدموا على أنفسهم
عبد الرحمن بن نعيم الكلبي؛ فجمع مائتي راجل وأربعين فارسا؛ فبيت القصر
بقرطبة، وقاتل الأحراس، وهجم على السجن؛ فأخرج أبا الخطار، وهرب به إلى
لبلة؛ فأقام في كلب وقبائل من حمص؛ فاكتنفوه ومنعوه، ولم يحدث شيئا حتى
اجتمع الناس على يوسف. فلما استقام له الأمر، غدر يحيى بن
(2/35)
حريث، وعزله عن كورة رية؛ فغضب ابن حريث،
وكاتب أبا الخطار حينا. فقال أبو الخطار: (أنا الأمير المخلوع! فأنا
أقوم بالأمر!) وقال ابن حريث: (بل أنا أقوم به، لأن قومي أكثر من
قومك!) فلما رأت جذام ما يدعو إليه ابن حريث، قدموه وأجابوه؛ فأصفقت
يمن الأندلس وحميرها وكندتها على تقديمه والطوع له، وانحازت مضر وربيعة
إلى يوسف بقرطبة حضرة الملك. وأقبلا حتى نزلا شقندة.
وكان الصميل مع يوسف الفهري، وهو الذي سأله الناس أن ينظر لهم في وال
يلي عليهم، لشغل أمير المؤمنين مروان بن محمد بالمشرق عنهم وبعده عنهم.
فاختار لهم يوسف بن عبد الرحمن بن حبيب بن أبي عبدة بن عقبة بن نافع
الفهري؛ وكان يومئذ بالبيرة؛ فرضيه الناس كما ذكرنا. ووقع اختلاف بعد
ذلك في أمره بين مصر واليمن؛ فانضوت اليمن إلى أبي الخطار، من جميع
البلاد والأقطار، وزحف بهم إلى يوسف الفهري بقرطبة؛ فكره يوسف الفتنة،
وخاف البغضاء والشحناء. فنزل الصميل بن حاتم بالمحلات، وشك السلاح
والآلات؛ وأقبل أبو الخطار بمن معه، ونزل موضعه؛ فالتقت بشقندة
الفئتان، وتصادمت الفرقتان؛ فلا تسمع إلا صهيلا وصليلا، ولا ترى إلا
قتيلا، حتى تكسرت الخطية وتفللت المشرقية، والتفت الساق بالساق، وانضمت
الأعناق إلى الأعناق؛ فلم يعهد حرب مثلها في المسلمين، بعد حرب الجمل
وصفين، إلى أن انهزمت اليمانية مع أبي الخطار بعد حين. وهرب أبو
الخطار، وركب ظهر الفرار؛ واستتر في رحى للصميل هنالك؛ فظفر به وقتل إذ
ذلك. فرأس الصميل بن حائم في الناس، وشهر بالنجدة والبأس؛ وصرف يوسف
الفهري إليه الأمور، وأوقف عليه الرياسة والتدبير. فكان ليوسف الاسم،
وللصميل الرسم.
مقتل أبي الخطَّار
ولما أخذ أبو الخطار، وأرادوا قتله، قال: (ليس على فوت! ولاكن دونكم
(2/36)
ابن السوداء!) يريد ابن حريث. فدل عليه،
وقتلا جميعا. وكان ابن حريث يقول: (لو أن دماء أهل الشام سقيت، لشربتها
في قدح!) فلما استخرج من تحت الرحى ليقتل، قال له أبو الخطار: (يا ابن
السوداء! هل بقى في قدحك شيء لم تشربه؟) ثم قتلا. وأتى بالأسرى؛ فقعد
لهم الصميل، وضرب أعناقهم جميعا.
ثم أتبع الله الأندلس بعد ذلك بالوباء والموت في السنة الثانية، حتى
كاد الخلق أن ينقرض منها.
وولي يوسف عن (رضى من) عامة الجند من مضر ويمن والشام؛ فصفت له الأندلس
بعد يوم شقندة، وخلصت له القلوب والأنفس. وعاد الصميل بن حاتم قائده
الأعلى، وقدحه المعلى، يقرب منه ما شاء، ويدفع عنه ما ساءه، إلى أن
تمكن بالدولة، وتملك رقاب تلك الجملة. فشرق به يوسف وقلق، وخشي من
جانبه وأرق؛ فرأى أن يبعده من مكانه، ويوليه بعض سلطانه؛ فولاه سرقسطة
وبلادها سنة 133؛ فكان فيها إلى أن قام عليه فيها الحباب بن رواحة من
بني زهرة بن كلاب؛ فحاصره مدة من سبعة أشهر. وقعد يوسف عن إغاثته،
واعتذر بشدة الأندلس في ذلك الوقت ومجاعته، رغبة في تلافه وهلاكه،
وحرصا على الراحة منه لاستحواذه واستملاكه، إلى أن اجتمع قومه بالبيرة
وجيان، وساروا إلى نصرته، وتفريج كربته.
وقيل إن الذي قام على يوسف بسرقسطة تميم بن معبد الزهري وعامر العبدري.
فغزاها يوسف في سنة 138؛ فكان عليها، إلى أن دخل عبد الرحمن الداخل إلى
الأندلس.
وفي سنة 130، كانت وقعة شقندة، واجتمع على يوسف. وكان يوم ولايته ابن
خمس وسبعين سنة؛ وملك تسع سنين. وكان قبل ولايته معتزلا في بادية، من
أهل الديانة والإظهار للخير.
(2/37)
وفي سنة 131، أمحلت الأندلس، وعم المحل، وتمادى إلى سنة 138 وذلك سنة
محل وسنة غيث. وأتصل المحل الشديد سنة أو اثنتين؛ ثم سقى الناس سنة
133، وعادت إلى بعض الصلاح.
وفي سنة 133، ثار أهل جليقية، وترددت الغارات عليها. ثم استحكم الجوع
والقحط في سنة أربع وثلاثين وسنة خمس وبعض سنة 136؛ فخرج أكثر الناس
إلى طنجة وزويلة وريف البحر في العدوة؛ وكانت إجازتهم من وادي شذونة،
وهو المعروف بوادي برباط؛ وبه سميت السنة.
تسمية من ثار على يوسف بن عبد الرحمن
الفهري بالأندلس
منهم: عبد الرحمن بن علقمة اللخمي، ثار عليه بأربونة؛ فحاربة، ولم يمكث
في حربه إلا يسيرا حتى أمكنه الله منه وثار عليه عروة بباجة؛ فوجه إليه
يوسف من هزمه وقتل أصحابه. وثار عليه تميم بن معبد سنة 136. وفي سنة
137، اجتمع تميم بن معبد وعامر بن عمرو بن وهب بسرقسطة؛ فتولى
محاربتهما الصميل بن حاتم. وفي سنة 138، خرج يوسف بنفسه إلى تميم بن
معبد وعامر ابن عمرو بسرقسطة؛ فحاصرهما؛ ثم ظفر بهما وقتلهما. وفي هذه
السنة، انقضت أيام يوسف بن عبد الرحمن الفهري. |