البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب
خلافة هشام بن الحكم
ابن عبد الرحمن الناصر والدولة العامرية
نسبه: تقدم في خلافة أبيه وجده. كنيته: أبو الوليد. لقبه: المؤيد
بالله. أمه: صبح البشكنشية، أم ولد، وكان سيدها الحكم يسميها بجعفر،
وكانت مغنية حظية عنده، وتوفيت في خلافة ابنها هشام. بويع له يوم
الاثنين لأربع خلون من صفر سنة 66 بعهد من أبيه، وهو ابن إحدى عشرة سنة
وثمانية أشهر؛ وخلع يوم الأربعاء لثلاث عشرة ليلة بقيت من جمادى
الآخرة، سنة 399؛ فكانت خلافته الأولى، إلى أن قامت الفتنة، ثلاثا
وثلاثين سنة وأربعة أشهر وعشرة أيام. وفي الخلافة الثانية سنتين وعشرة
أشهر؛ الجميع الذي كمل له في المؤتين ستة وثلاثون سنة وشهران وعشرة
أيام. صفته: أبيض، أشهل، أعين، خفيف العارضين، لحيته إلى الحمرة، حسن
الجسم، قصير الساقين، مائل إلى العبادة والانقباض، مقبل على تلاوة
القرآن ودرس العلوم، كثير الصدقات على أهل الستر من الضعفاء والمساكين.
(2/253)
قضاته: محمد بن السليم، ألقاه قاضيا لأبيه
فأقره على ولايته؛ ثم أبو بكر ابن زرب؛ ثم محمد بن يحيى التميمي عرف
بابن برطال، وغيرهم.
نقش خاتمه: (هشام بن الحكم، بالله يعتصم) . وتولي عقد الشهادة على
الناس في البيعة بين يديه وكيله وصاحب شرطته الوسطى والسكة والمواريث
أبو عامر محمد بن أبي عامر، بعدما كان قاضي الجماعة محمد بن إسحاق بن
السليم يأخذها على من شهد المجلس من الأعمام وأبنائهم والوزراء وطبقات
أهل الخدمة ورجالات قريش وأعلام أهل الحضرة.
فلما كان يوم السبت السادس من جلوس هشام، وهو العاشر لصفر سنة 366، قلد
الخليفة هشام حجابته وزير أبيه الأخص أبا الحسن جعفر بن عثمان المصحفي.
وفي هذا اليوم، أنهض الخليفة هشام محمد بن أبي عامر إلى خطة الوزارة،
نقله إليها عن شرطته الوسطى وأجراه رسيلا لحاجبه جعفر في تدبير دولته؛
فماده محمد شأوا، وجرى إلى غاية برز فيها دونه، سابقا في الحلية، وتخلف
جعفر عن مداه.
ومن أخبار جعفر بن عثمان المصحفي: هو أبو الحسن جعفر بن عثمان بن نصر
بن فوز بن عبد الله بن كسيلة القيسي. كان لطيف المنزلة من الحكم
المستنصر بالله، قديم الصحبة، قريب الخاصة؛ وكان أول سبب ذلك تأديب
والده عثمان بن نصر للحكم في صباه، واستخدمه في أيام والده الناصر،
واستكتبه، ورقاه إلى خطة الشرطة الوسطى والنظر في عدة من الأعمال
والكور. فلما أفضت الخلافة إلى الحكم، قلده، بعد ثلاثة أيام من خلافته،
خطة الوزارة، وأمضاه على الكتابة الخاصة؛ ثم جمع له الكتابة العليا
بالخاصة، وولي ابنيه الأعمال الكبار. وكان جعفر بن عثمان أحد شعراء
الأندلس المحسنين، المتصرفين في أنواع الشعر من المديح والأوصاف
والغزل، غاية في كل ذلك في الرقة والإبداع والحسن. وقد تقدم قوله
مرتجلا: (هنيا للإمام والأنام) وقوله مرتجلا: (تطلع البدر من حجابه)
وغير ذلك.
(2/254)
قال ابن بسام: كان جعفر بن عثمان رجلا بلغ
المنتهى، وسوغ برهة من دهره ما اشتهى، دون مجد تفرع من دوحته، ولا فخر
نشأ بين مغداه وزوجته. فسما دون سابقة، وارتقى إلى رتبة لم تكن لبينته
مطابقة؛ فلم يزل يستقل ويضطلع، وينتقل من مطلع إلى مطلع، حتى التاح في
أفق الخلافة، وارتاح إليها بعطفها كنشوان السلافة؛ وحجب الإمام، وانسكب
برأيه ذلك الغمام. فأدرك بذلك ما أدرك، ونصب لأمانيه الحبائل والشرك،
واقتنى وادخر، وأزرى بمن سواه وسخر. واستعطفه محمد بن أبي عامر، ونجمه
غابر لم يلح، وسره مكتوم لم يبح؛ فما أقبل عليه ولا عطف، ولا جنا من
روضة دنياه زهرة أمل ولا قطف؛ وأقام في تدبير الأندلس، وهو يجري من
السعد في ميدان رحب، ويكرع من العز في مشرب عذب. وكان له أدب بارع،
وخاطر إلى نظم المحاسن مسارع. فمن ذلك ما بعثه عليه إيناس دهره
وإسعاده، وقاله حين ألهته سلماه وسعاده (طويل) :
لِعَيْنِكِ في قَلبِي على عُيُونُ ... وبَيْنَ ضُلُوعِي للشُجُونِ
فُنُونُ
لَئِنْ كان جِسْمي مُخلَقاً في يَدِ ألَوَى ... فحُبُّكِ غَضٌ في
الفُؤادِ مَصُونُ
وله، وقد أصبح يوما عاكفا على حمياه، هاتفا بإجابة دنياه، مرتشفا ثغور
الأنس متنسما رياه، والملك يغازله بطرف عليل، ويبرم من أنسه كل نحيل،
والسعد قد عقد عليه أيَّ إكليلي، يصف لون مدامه، وما يعرف منها دون
ندامه؛ فقال (كامل) :
صَفْراءُ تَبْرُقُ في الزُّجاج فإِنْ سَرَتْ ... في الجسم دبَّت مِثلَ
صِّلٍ لادِغِ
عَبَثَ الزمانُ بحُسنِها فتستَّرَتْ ... عن عَيْنه ثَوْبِ نُورٍ سابِغِ
خَفِيَتْ على شُرَّابِها فكأنَّما ... يَجِدُونَ رِيِّا في إِناءِ
فارِغِ
واستمر في حجابته، ومر بين سمع الدهر وإجابته، والنفوس العلية من تناهي
حاله متغيرة، وفي تكيف سعده متحيرة. ولم يزل لنجاد تلك الخلافة معتقلا،
وفي
(2/255)
مطالعها متنقلا، إلى أن توفى الحكم؛ فانفصم
عنده المحكم، وانبرت إليه النوائب، وتسددت له الخطوب بسهام صوائب؛
واستولي عليه الكسل، وأسرعت إليه الذوابل والأسل، وتعاوره الإدبار،
وساوره من المكروه ما فيه اعتبار؛ وانتقل إلى المنصور ذلك الأمر، واختص
به كما اختص بيزيد أخوه الغمر، وأناف في تلك الخلافة كما شب قبل اليوم
عن طوقه عمرو؛ فاعتقل بتلك النجاد، واستبد به دون أولئك الأمجاد،
وانبرى إلى المصحفي بصدر كان قد أوغره، وجد سام طال ما استقصره؛ فأباده
ونكبه، وسلب جاهه وانتهبه، وأقنص من تلك الإساءة، وأغصَّ حلقه بكل
مساءة، وألهب جوانحه حزنا؛ ونهب له مدخرا ومختزنا، ودمر عليه ما كان
حاط، وأحاط به من مكروهه ما أحاط؛ فبقى سنين في مهوى النكبة، وجوى تلك
الكربة، ينقله المنصور معه في غزواته، ويعتقله بين أظفار التضييق أو في
لهواته، وهو يستعطف ويستميل، فلا يتحقق له رجاء ولا تأميل، إلى أن
تكورت شمسه، وقاضت بين أنياب المحن نفسه؛ فاغتيل في المطبق، ونفذ فيه
أمر الله وسبق.
بعض أخبار المنصور محمد بن أبي عامر في
ابتدائه
نسبه: هو أبو عامر محمد بن أبي حفص عبد الله بن محمد بن عبد الله بن
عامر بن أبي عامر محمد بن الوليد بن يزيد بن عبد الملك، الداخل إلى
الأندلس مع طارق؛ وكان له في فتحها أثر جميل؛ وكان في قومه وسيطا؛ وقد
ذكره محمد بن حسين الشاعر العالم بأخبار الأندلس في بعض أمداحه للمنصور
هذا، فقال (طويل) :
وَكُلُّ عَدُوٍّ أنت تَهْدِمُ عَرشَهُ ... وَكُلُّ فُتُوحٍ عنك
يُفْتَحُ بَابُها
وإنَّك من عبد الملِيك الذي له ... حُلَى فضتحِ قَرطَاجَنَّةٍ
وانتِهابُها
جَبَاها أبو مَروانَ جَدُّك قابضاً ... بكفٍّ تليدٌ طعْنُها وضِرابُها
فإنْ سَنَحَتْ في الشِركِ من بَعْدِ فَتحِهِ ... فُتُوحٌ فَمَصْرُوفٌ
إليك ثَوَابُها
(2/256)
وجده عبد الملك هو الذي دخل مع طارق ونزل
الجزيرة الخضراء لأول الفتح؛ فساد أهلها، وكثر عقبه فيها؛ وتكررت فيهم
النباهة والوجاهة؛ وجاور الخلفاء منهم بقرطبة جماعة أحدهم أبو عامر
محمد بن الوليد، الذي عرف آل عامر طرَّا به. وساد بعده ولده عامر،
وتقدم عند الخلفاء، وولي الأعمال، ومات بقرطبة؛ وباسمه نقش محمد السكك،
ورقم الأعلام. وكان عبد الله السكنى بأبي حفص، والد محمد المنصور، من
أهل الدين والزهد في الدنيا والقعود عن السلطان؛ سمع الحديث، وأدى
الفريضة، ومات منصرفا من حجه بمدينة إطرابلس المغرب؛ وأصهر التميميين
المعروفين بقرطبة ببني برطال؛ فنكح بريهة بنت يحيى بن زكريا؛ فولدت له
أبا عامر المنصور، وأخاه يحيى. وكانت أم عبد الله، والد المنصور، بنت
الوزير يحيى بن إسحاق، وزمر الناصر لدين الله وطبيبه.
وكان محمد هذا حسن النشأة، ظاهر النجابة، تتفرس فيه السيادة؛ سلك سبيل
القضاة في أولىته، مقتفيا آثار عمومته وخولته؛ فطلب الحديث في حداثته،
وقرأ الأدب، وقيد اللغات على أبي علي البغدادي، وعلى أبي بكر بن
القوطية؛ وقرأ الحديث على أبي بكر بن معاوية القرشي، راوية النسائي،
وغيره من رؤساء أهل المشرق؛ وبرع بروعا أدناه، مع نوازع سعد وبوادر حظ،
من الحكم المستنصر؛ فقربه وصرفه في مهم الأمانات وأصنافها؛ فاجتهد وبرز
في كل ما قلده، واضطلع بجميع ما حمله.
وكان الحكم، لشدة نظره في الحدثان، يتخيل في محمد بن أبي عامر أكثر
الصفات المجتمعة إلى النسب والبلدة. وكان يجد القائم عليهم من الجزيرة
الخضراء، أصفر الكفين. فيقول لخاصته: (ألا ترون صفرة كفيه؟) فإذا قالوا
له: (أرح نفسك منه!) يقول: (لو كانت به شجة، لكانت تكملة صفاته) . فكان
من قدر الله أن حدثت الشجة بمحمد بعد موت الحكم بضرية غالب
(2/257)
الناصري له، وبها تم الأثر فيه؛ كما أن
الحكم قد كان وقف في الأثر على البقعة التي بنيت فيها الزاهرة؛ وكانت
ملوك المروانية تتخوف ذلك، وكان ألهجهم بشأنها الخليفة الحكم؛ فنظر في
أمرها، وهي البقعة المعروفة بألش (بفتح اللام) ، وهي بغربي قرطبة؛ ووجد
انتقال الملك إليها؛ فأمر حاجبه جعفرا بالسبق إليها والشروع في بنائها
طمعا في مزية سعدها، وأن لا يخرج الأمر عن يد ولده؛ وأنفق عليها مالا
عظيما؛ فكان من غريب الأمور أن محمد بن أبي عامر تولي النظر في شأنها
مع من نظر فيها، وهو يومئذ في حال النتوة والاحتياج، ولا يعلم يومئذ
به. فسبحان من يؤتي ملكه من يشاء.
ثم رفع إلى الحكم أن البقعة بغير ذلك الموضع، وأنها بشرقي مدينة قرطبة؛
فأنفذ ثقته محمد بن نصر بن خالد للوقوف عليها، وانتهى إلى منزل أبي بدر
المسمى بألش (مضمومة اللام) ، وأصاب هنالك عجوزا مسنة وافقته على حد
الارتياد، وقالت له: (سمعنا قديما أن مدينة تبنى هنا، ويكون على هذا
البئر نزول ملكها) . فعاد إليه محمد بن نصر بالجلية؛ فلم تطل المدة حتى
بناها ابن أبي عامر، وتبوأ أرجاء ذلك البشر قرارة. وكان المنصور على
ثقة من سرعة انتقال الملك إليه، لا يشك في ذلك لأنه تمكن من مطالعة ما
كان عند الحكم؛ فوقف على الجلية.
ولم يزل الحكم يقدم محمدا ويؤثره، إلى أن ولي العهد ابنه هشام؛ فزاد
مقداره لخاصته بولي العهد ومكانه من السيدة والدته؛ فاحتاج الناس إليه
وغشوا بابه؛ فأنساهم من سلف من أصحاب السلطان سعة إشعاف، وكرم لقاء،
وسهولة حجاب، وحسن أخلاق؛ فعرض جاهه، وعمر بابه، وأتسع في بناء داره
بالرصافة، واتخذ الكتاب الجلة، واستصحب سراة الصحابة. وكانت مائدته
موضوعة لمن ينتاب داره، وهمته تترامى إلى وراء ما يناله؛ وهو في هذا
كله يغدو إلى دار جعفر بن عثمان المصحفي ويروح، ويصيح ببابه ويختص به.
(2/258)
ثم اتصلت علة الخليفة الحكم من الفالج،
وجعفر يدير سلطانه. ووقع إرجاف بموت الحكم؛ فأشار محمد بن أبي عامر على
جعفر بن عثمان باستركاب ولي العهد هشام في ذلك اليوم في الجيش، إرهابا
لأهل الخلاف؛ ففعل وركب في الناس ركبته المشهورة، ومحمد بن أبي عامر
بين يديه، قد كساه الخزَّ، ونقله إلى أكابر أهل الخدمة. وأمر ولي العهد
هشام في ذلك اليوم وهو العاشر لصفر من سنة 66 بإسقاط ضريبة الزيتون
المأخوذة في الزيت بقرطبة، وكانت إلى الناس مستكرهة؛ فسروا بذلك أعظم
سرور، ونشب شأنها إلى محمد بن أبي عامر، وأنه أشار بذلك؛ فأحبوه لذلك.
ولم تزل الهمة تحذوه، والجد بحظيه، والقضاء بساعده، والسياسة الحسنة لا
تفارقه، حتى قام بتدبير الخلافة، وأقعد من كان له فيها إنافة، وساس
الأمور أحسن سياسة، وداس الخطوب بأخشن دياسة، واستشعر اليمن كل فريق.
وأسقط جعفرا المصحفي، وعمل فيه ما أراده.
فأول غزوة فصمها من عرى المملكة عزوة الصقالبة الخدم بالقصر موضع
الخلافة؛ وكانوا أبهى حلل المملكة، وأخص عددها؛ عنى الخلفاء يجمعهم
والاستكثار منهم؛ وكانوا خاصة الناصر والحكم بعده، حتى لقد ظهرت منهم
في زمن الحكم أمور قبيحة أغضى عنها مع إيثاره العدل واطرح الجور
بالجملة. وكان يقول: (هم أمناؤنا وثقاتنا على الحرم؛ فينبغي للرعية أن
تلين لهم، وترفق في معاملتهم؛ فتسلم من معرتهم، إذ ليس يمكننا في كل
وقت الإنكار عليهم.) ولما مات الحكم، كان الصقالبة أكثر جمعا وأحد
شوكة، يظنون أن لا غالب لهم وأن الملك بأيديهم. وكانوا نيفا على الألف
محبوب؛ فحسبك بما يتبعهم؛ وكان رأسهم فائق المعروف بالنظامي، صاحب
البرد والطراز؛ ويليه صاحبه جوذر صاحب الصاغة والبيازرة؛ وإليهما كان
أمر الغلمان الفحول بخارج القصر. وكان قد جرى بين فائق وجوذر مع الحاجب
جعفر المصحفي إثر موت الحكم
(2/259)
ما أذكره: وذلك أنه لما توفى الحكم، خفى
موته على وزيره جعفر وسائر أهل المملكة لطول تردده في العلة، وتفرد
بعلم ذلك في وقته خادماه الخاصان به: فائق وجوذر؛ فاستظهرا بكتمان ذلك،
وتقدما في ضبط الدار، وخلوا للتشاور، وقد عزما على رد الأمر للمغيرة بن
الناصر، أخي مولاهما الحكم، خشية من انتثاره على ابنه هشام، لصغر سنه،
وإنكار الناس لتقديمه على أن يقر ابن أخيه هشاما على العهد بعده؛ فيمنا
على المغيرة بسوق الخلافة إليه، وبقيا لمولاهما بارتقاب كبر ولده،
ويكون الملك في أيديهما بحاله؛ وكان رأيا حسنا لو أراد الله به.
فلما اتفقا على ذلك، قال جوذر لفائق: (ينبغي أن نحضر جعفر بن عثمان
الحاجب؛ فنضرب عنقه؛ فبذلك يتم أمرنا) . فقال له فائق: (سبحان الله يا
أخي! تشير بقتل حاجب مولانا وشيخ من مشيختنا دون ذنب، ولعله لا يخالفنا
فيما نريده، مع افتتاحنا الأمر بسفك الدم.) فأرسلا في جعفر بن عثمان؛
فحضر: ونعيا إليه الحكم، وعرضا عليه ما أجمعا عليه من الرأي. فقال لهما
جعفر: (هذا، والله! أسد رأي وأوفق عمل؛ والأمر أمركما؛ وأنا وغيري فيه
تبع لكما. فاعزما على ما أردتما، واستعينا بمشورة المشيخة؛ فهي أنفى
للخلاف، وأنا أسير إلى الباب، فأضبطه بنفسي؛ وأنفذا أمركما إلى بما
شئتما.) وخرج عنهما؛ فضبط باب القصر، وتقدم في إحضار أصحاب الهاشمية
مثل زياد بن أفلح مولي الحكم، وقاسم بن محمد، ومحمد بن أبي عامر، وهشام
بن محمد بن عثمان، وأشباههم؛ واستدعى بني برزال، إذ كانوا بطانته من
سائر الجند. واستحضر سائر قواد الأجناد الأحرار؛ فاجتمع له من هذه
الطوائف ما شد ركنه وقوى أيده؛ فنعى لهم الخليفة، وعرفهم مذهب الصقالبة
في نكث بيعة هشام؛ وأقبل بثبت أصحابه، وقال لهم: (إن جبسنا الدولة على
هشام، أمنا على أنفسنا، وصارت الدنيا في أيدينا؛ وإن انتقلت إلى
المغيرة قبل أن يبلغه موت أخيه، فتمكنه الحيلة. فعمل
(2/260)
برأيهم؛ فتوافقوا فيما بينهم النهوض إلى
قتله؛ فكفوا وجبنوا؛ فبدرهم محمد بن أبي عامر وقال: (يا قوم إني أخاف
فساد أمركم، ونحن تبع لهذا الرئيس وأشار إلى جعفر، فينبغي ألا نختلف
عليه، وأنا أتحمل ذلك عنكم إن أجذبني إليه؛ فاحفضوا عليكم!) فأعجب
جعفرا والجماعة ما كان منه، وولوه شانه، وقالوا له: (أنت أحق بتولي
كبره لخاصتك بالخليفة هشام ومحللك من الدولة.) فأرسل جعفر معه طائفة من
الجند الأحرار، وثق بهم لذلك.
مقتل المغيرة بن عبد الرحمن الناصر
فركب محمد بن أبي عامر إلى المغيرة من ساعته، وركب معه بدر القائد مولي
الناصر في مائة غلام من غلمان السلطان، ووقف لهم خارج باب دار المغيرة،
وأحاط سواه من أصحاب محمد بجهاتها، واقتحم محمد عليه؛ فوجده مطمئنا على
غير استعداد؛ فنعى إليه أخاه الحكم، وعرفه بجلوس ابنه هشام في الخلافة،
وأن الوزراء خشوا خلافه، فأنفذوه لامتحان القصة. فاشتد ذعره؛ ثم استرجع
عليه، واستبشر يملك ابن أخيه، وقال: (أعلمهم أني سامع مطيع واف ببيعتي؛
فتوثقوا مني كيف شئتم!) وأقبل يستلطف ابن أبي عامر، ويناشده الله في
دمه، ويسأله المراجعة في أمره، حتى رق له محمد، وكتب إلى جعفر يصدقه
عنه ويصف له الصورة التي وجده عليها من السلامة والطمأنينة، ويستأذنه
في شأنه. فرد عليه جعفر يلومه في التأخير، ويعزم عليه في التصميم،
ويقول له: (غررتنا من نفسك؛ فانفذ لشأنك؛ أو فانصرف، نرسل سواك.) فحمى
محمد لجوابه، وعرض الرقعة على المغيرة، وجعلها بيده، وزال عن وجهه،
وأدخل عليه تلك الطبقة؛ فقتلوه خنقا في مجلسه، وعلقوا جسده في مخدع
يتصل بمجلسه، كهيئة المختنق من تلقاء نفسه، وذلك كله بمعاينة حرمه. ثم
أشاعوا أنه خنق نفسه، لما أكرهوه على الركوب لابن أخيه؛ فطاح دمه على
هذه الصورة.
(2/261)
وكان سنه يوم قتل سبعا وعشرين سنة. ثم تقدم
محمد بإخفاء ذلك، وأمرهم بدفنه في مجلسه، وأن يسدوا أبوابهم، فيأمنوا
بذلك على ولده ونعمته.
وعاد ابن أبي عامر إلى جعفر بالقصة؛ فطابت نفسه، وصير محمدا إلى جانبه،
وشكره. ووصل الحادث على المغيرة إلى جوذر وفائق؛ فدهشا، وسقط في
أيديهما. وقال جوذر لفائق: (قد نصحت لك، فلم تسمع مني!) وكان أكمل دهاء
منه. فانكفشا إلى جعفر، فأظهرا له السلامة والاستبشار بما أتاه،
والاعتذار مما رأياه، وقالا له: (إنَّ الجزع أذهلنا عما أرشدك الله
إليه. فجزاك الله عن ابن مورنا خيرا، وعن دولتنا وعن المسلمين!) فأظهر
لهما بعض القبول. وانغمس جعفر في الشغل بأمر البيعة أياما، وفي نفسه
للصقالبة ما لا تهنيه معه عيشة، وفي أنفسهم له أبرح لوعة.
وأجلس جعفر هشام بن الحكم للبيعة بالخلافة صبيحة يوم الإثنين لأربع
خلون من صفر سنة 366؛ ودعا الناس ابن أبي عامر للبيعة؛ فلم يختلف عليه
اثنان. فكان لابن أبي عامر في أخذها أثر كبير، تذاكره الناس، وعلا شأنه
ومكانه، وبعد في الناس صيته.
بعض أخبار الصقالبة مع ابن أبي عامر
وذلك أنه لما تمكنت الوحشة ما بين جعفر والصقالبة، انحرفوا عنه، وكرهوا
ولاية هشام. فأخذ جعفر حذره منهم؛ وأذكى العيون؛ وبلغه أن جوذرا وفائقا
يديران على الدولة، ويدسان في ذلك إلى بعض من في قيادتهما من وجوه
الغلمان والفحولة؛ وكان الدخول والخروج إليهما على باب الحديد؛ فأمر
الحاجب جعفر المصحفي بسده بالحجر، وصير دخول الناس على باب السدة، فحسم
شر الصقالبة، وصيرهم تحت الرقبة. ونظر جعفر في غزالة الغلمان الفحولة
عن رسم هذين الصقلبيين بمواطاة محمد بن أبي عامر؛ ودس محمدا إلى من
طلبهم
(2/262)
له؛ فتقدم عليهم محمد بن أبي عامر؛ فكان
يطأ عقبه منهم خمسمائة غلام، فاشتد بهم أرزه، وفخم أمره، وقدمهم في
الإنزال والعطاء؛ فأحبوه؛ ثم انقلب بنو برزال إلى محمد بن أبي عامر،
وصاروا في قيادته. فاعتز بالطائفتين، وقهر عدوه، وتبعه سائر الجند.
فهان أمر الصقالبة عنده.
ثم إن جوذرا الفتى استأذن السلطان في الخروج إلى داره مستعفيا من
الخدمة، وهو يظن أنه لا يجاب إلى ذلك؛ فأذن له في الخروج؛ فاشتد وعيد
أصحابه، وزاد كلامهم؛ وكان أجسرهم على ذلك دري الفتى الصغير، لما فيه
من التمرد والجهالة؛ فحرك جعفر ابن أبي عامر لإزالته والراحة منه،
وقال: (حاول عليه!) فدس إلى رعبته ببياسة، وأمرهم بالشكوى به وبعماله،
ووعدهم العدوى عليه والإراحة من جوره؛ فسارعوا إلى ذلك. ورفع الحاجب
جعفر قصته إلى السلطان، وقد أحكم ابن أبي عامر شأن التدبير عليه؛ فخرج
التوقيع بالجمع بين ذري وبينهم، والنظر في مصالحهم؛ فاستدعى دري إلى
بيت الوزارة؛ فلما أشرف على الدار، ورأى من أعد فيها، أحسن بالشر؛ فخنس
راجعا؛ فمنعه ابن أبي عامر، وقبض عليه؛ فتجاذبا؛ فبطش دري بابن أبي
عامر، وقبض على لحيته؛ فصاح محمد بن أبي عامر بمن حضر من الجند؛ فاحتشم
الأندلسيون دريا، وأسرع بنو برزال إلى إجابته؛ فتقدموا إلى دري،
فأوجعوه ضربا؛ ولحقته ضرية بصفح السيف، أزالت عقله، وحمل للوقت إلى
داره؛ فعوجل من ليلته بالقتل. وأمر في الوقت فائقا وجماعة من كبارهم
بالخروج إلى ديارهم والتزامها؛ فخرجوا إليها. وانحصدت شوكة الصقالبة
حينئذ، وفل حدهم؛ وتجرد ابن أبي عامر لطلبهم، فاستخرج منهم أموالا جمة.
وآلت حال فائق إلى أن صير إلى الجزائر الشرقية؛ فمات هنالك.
وفي خروج الصقالبة من القصر، يقول سعيد الشنتريني الشاعر (سريع) :
(2/263)
أخرِجَ من قَصرِ إمَامِ الهُدَى ... كُلُّ
فَتَى مُنْبَسِط جائِر
فَمَن رَأينا مِنهمُ قال لا ... مَسَاسِ فِعلِ الناسِ بالسامِرِ
فَخَفَّ ظَهرُ المِلَكِ المُرتَضَى ... قَد خَفَّ من ثِقلِهمُ الظاهِرِ
وسِاِلِ ماءُ العِلمِ من وَجهِهِ ... مُذْ زَالَ من جَهلِهمُ الخاثِرِ
فلازَمَ الإقرَاءَ في قصره ... مَعَ الوزيرِ الخَيِرِ الطاهِرِ
وقلد جعفر المصحفي أمر القصر والحرم، بعد إخراج هاؤلاء الفتيان، سكرا
صاحبهم؛ فسكن أنفس الصقالبة، وأجراهم على الطاعة؛ فأصغوا إليه إلى أن
استهاجهم جوذر الفتى عظيمهم عند الظهور الذي هم به.
فلما هم لابن أبي عامر تدبيره في الصقالبة، جعل يتوصل إلى تقلد جيش
المملكة، والقيام بجهاد العدو دون الجماعة؛ وكان العدو جاس بلاد
المسلمين، وطمه في انتهاز الفرصة فيهم؛ فأنف ابن أبي عامر من ذلك،
وأشار على الحاجب جعفر بتجهيز الجيش والاعتداد للجهاد، وعرض القيام به
على جميع الأكابر؛ فكلهم كع عنه إلا ابن أبي عامر؛ فإنه بادر إليه على
أن يختار من يخرج معه من الرجال، ويتجهز لغزوه بمائة ألف دينار.
فاستكثر ذلك بعض من حصر؛ فقال له محمد بن أبي عامر: (خذ ضعفها وامض!
وليحسن غناؤك!) فخام المعترض عن ذلك، وسلم الجيش والمال إلى ابن أبي
عامر؟
غزوة محمد بن أبي عامر الأولى
فخرج لثلاث خلون من رجب من سنة 366، ودخل على الثغر الجوفي. فنازل حصن
الحامة من جليقية؛ فحاصره، وأخذ ربضه، وغنم وسبى؛ وقفل بالسبي والغنائم
إلى قرطبة إلى ثلاثة وخمسين يوما. فعظم السروربه، وأخلص الجند له، لما
رأوا من كثرة جوده، وكرم عشرته، وسعة مائدته؛ فأحبوه والتقوا به؛ وكثر
إحسانه إليهم وإفضاله عليهم، إلى أن أدرك بهم سولة، وبلغ مأموله
(2/264)
ذكر نكبة الحاجب
جعفر بن عثمان
وذلك أنه، لما سمت الحال بمحمد بن أبي عامر، واستتب أمره، أعمل الحيلة
والتدبير في إسقاط جعفر بن عثمان، والانفراد بالدولة؛ فلم يجد لذلك
سببا أقوى من مظاهرة الوزير أبي تمام غالب الناصري، صاحب مدينة سالم
والثغر الأدنى، شيخ الموالي قاطبة، وفارس الأندلس يومئذ غير مدافع له؛
وكان بينه وبين الحاجب جعفر بن عثمان عداوة ومنافسة. والثاثت حال غالب
صدر دولة هشام في سنه ولايته لما ملك جعفر أمرها، وبان تقصير غالب في
مدافعة أعداء الله، وخاف أن يصل أمره إلى الخلاف والمعصية؛ فأشار ابن
أبي عامر في استصلاحه ورعى ذمامه. ولم يزل ابن أبي عامر يقوم بشأنه،
ويخدمه داخل الدار عند السيدة أم هشام وسائر الحرم، حتى تم مراده فيه
كي يستعين به على إهلاك المصحفي؛ فأنهض غالبا إلى خطة الوزارتين، وأنفذ
إليه كتاب الخليفة بذلك، وأمره بالاجتماع مع ابن أبي عامر على التدبير
على الصوائف، على أن يدير ابن أبي عامر جيش الحضرة، ويدير غالب جيش
الثغر.
غزوة ابن أبي عامر الثانية
وخرج محمد بن أبي عامر بالصائفة يوم الفطر من سنة 366؛ فاجتمع مع غالب
بمدينة مجريط. وأصل معه من التظافر على جعفر ما أصاب به النكتة من
قلبه؛ واتفقا وتوافقا. وخدم ابن أبي عامر غالبا في سفره هذا خدمة ملك
بها نفسه؛ فمال إليه غالب بكلمته. واستمرا في غزوهما، وافتتح حصن مولة،
وظهرا فيه على سبي كثير، وغنم المسلمون أوسع غنيمة. وكان أكثر الأمر
فيها لغالب؛ فتجافى عنه لابن أبي عامر. وسار معه إلى ثغره، ومنه فارقه،
بعد أن أبلغ في مواطأة محمد بن أبي عامر على عدوه جعفر بما أراده؛ وقال
غالب لابن أبي
(2/265)
عامر عند وداعه: (سيظهر لك بهذا الفتح اسم
عظيم وذكر جليل، يشغلهم السرور به عن الخوض فيما تحدثه من قصة. فإياك
أن تخرج عن الدار حتى تعزل ابن جعفر عن المدينة وتتقلدها دونه!) فاعتقد
محمد ذلك.
وخاطب غالب الخليفة هشاما بحسن مناب ابن أبي عامر في هذه الغزوة، ونسب
السعي والاجتهاد إليه، وشكره، وشدَّ عضده عند الخليفة؛ وعاد محمد ابن
أبي عامر إلى حضرة قرطبة منصرفا بالسبي والغنائم. فاستمال محمد بهذا
الفتح قلوب العامة والخاصة، وتعرفوا فيه يمن النقيبة؛ فبعد صيته، وهان
عليه أمر جعفر وغيره، وشرع في هدمه. فخرج أمر الخليفة يوم وروده بصرف
محمد بن جعفر بن عثمان عن المدينة وتقليدها ابن أبي عامر. فخرج محمد
نحو كرسيها في هذا اليوم، والخلع عليه، ولا عند جعفر علم بذلك؛ وكان
محمد بن جعفر جالسا في مجلسها في أبهة، إذ صعد ابن أبي عامر نحوه؛ فولي
محمد بن جعفر ناكصا على عقبه، وأتبع بدايته.
وملك ابن أبي عامر الباب بولاية الشرطة؛ والجيش يقوده له؛ والدار
بعناية الحرم به؛ فملك على جعفر بذلك وجوه الحيلة، وخلاه، وليس في يده
من الأمر إلا أقلخ. فضبط محمد المدينة ضبطا أنسى أهل الحضرة من سلف من
أفراد الكفاة وأولى السياسة، وقد كانوا قبله في بلاء عظيم، يتحارسون
الليل كله، ويكايدون من روعات طراقه ما لا يكابد أهل الثغور من العدو.
فكشف الله ذلك عنهم بمحمد بن أبي عامر وكفايته، وتنزهه عما كان ينسب
لابن جعفر. فسد باب الشفاعات، وقمع أهل الفسق والذعارات، حتى ارتفع
البأس، وأمن الناس، وأمنت عادية المتجرمين من حاشية السلطان؛ حتى لقد
عثر على ابن عم له يعرف بعسقلاجة؛ فاستحضره في مجلس الشرطة وجلده جلدا
مبرحا كان فيه حمامه؛ فانقمع الشرُّ في أيامه جملة. واستخلف ابن أبي
عامر على
(2/266)
المدينة ابن عمه عمرو بن عبد الله بن أبي
عامر؛ فسلك في أهل الشر سبيله، بل أربى عليه في ذلك.
وكاتب جعفر غالبا يستخلصه، ويستميله، ويخطب بنته لابنه؛ فتجددت بينهما
ألفة، وجرى عقد في المناكحة. وانكشف ذلك لابن أبي عامر؛ فكاتب غالبا
ينشده العهد، وألقى أهل الدار عليه في فسخ المصاهرة؛ فكاتبوه في ذلك؛
فانحرف إلى ابن أبي عامر، وحل عقدة جعفر في نكاحه، وأنكح ابن أبي عامر
أسماء ابنته؛ فكانت أحظى نسائه.
غزوة ابن أبي عامر الثالثة
فلما تم هذا العقد، خرج إليها؛ فدخل على طليطلة غرة صفر من سنة 367؛
فاجتمع مع صهره غالب؛ فعظمه وجرى إلى موافقته. ونهضا معا؛ فافتتحا حصن
المال وحصن زنبق، ودوخا مدينة شلمنقة وأخذا أرباضها. وقفل ابن أبي عامر
إلى قرطبة بالسبي والغنائم، وبعدد عظيم من رؤوس المشركين، إلى أربع
وثلاثين يوما من خروجه؛ فزاد له السلطان في التنوبه، وأنهضه إلى خطة
الوزارتين، سوى فيها بينه وبين غالب، ورفع راتبه إلى ثمانين دينارا في
الشهر، وهو راتب الحجابة. واستقدم السلطان غالبا لاستهداء أسماء إلى
زوجها محمد؛ فبالغ في إكرامه؛ ووقع زفاف أسماء في مشهد بعد العهد بمثله
شهرة وجلالة؛ وزفت إليه ليلة النيروز من قصر الخليفة؛ فهو الذي تولي مع
حرمه أمرها. وكانت أسماء هذه توصف بجمال بارع وأدب صالح؛ وحظيت عند ابن
أبي عامر؛ فلم يفارقها. وقلده الخليفة خطة الحجابة مع جعفر مشتركا. ثم
سخط الخليفة على جعفر بن عثمان المصحفي، وصرفه عن الحجابة يوم الاثنين
لثلاث عشرة ليلة خلت من شعبان سنة 367؛ وأمر بالقبض عليه وعلى ولده
(2/267)
وأسبابه، وعلى ابن أخيه هشام؛ وصرفوا عما
كان بأيديهم من الأعمال، وكلبوا بالأموال. فتوصل ابن أبي عامر
بمحاسبتهم إلى استصفاء أموالهم، وانتهاك حرمهم، وترديد النكبات عليهم،
حتى مزقهم كل ممزق. وسارع إلى قتل هشام ابن أخي جعفر في المطبق، إذ كان
أشد آل عثمان عداوة له؛ وأخرج إلى أهله ميتا. واستمرت النكبة على جعفر
سنين عدة، يحبس مرة ويطلق أخرى. ومما حفظ له في ابن أبي عامر، مستعطفا
له (متقارب) :
عَفَا الله عَنْكَ ألا رَحمةً ... تَجُودُ بعَفْوِكَ ان ابعَدَا
لئن جَلَّ ذَنبٌ وَلَمْ أعتَمِدهُ ... فَأنتَ أجَلُّ وأعلَى بَدَا
ألَمْ تَرَ عَبداً عَدَا طَورُه ... ومَولي عَفَا ورَشِيدا هَدَى
ومُفسِدَ أمرٍ تلافيتَه ... فَعَاد فَأصلَحَ ما أفسَدَا
أقِلني أقَالَكَ مَن لم يَزَلْ ... بَقِيكَ ويَصْرِفُ عَنكَ الرَّدَى
وكان جعفر بن عثمان في محنته أخور الناس، أرأمهم للذل، وأحبهم في
الحياة؛ انتهى به الاستحذاء لمحمد بن أبي عامر، والطمع في الحياة، أن
كتب إليه بعرض نفسه عليه لتأديب ابنيه عبد الله وعبد الملك؛ فقال ابن
أبي عامر: (أراد أن يستجهلني ويسقطني عند الناس، وقد عهدوا مني ببابه
مؤملا؛ ثم يرونه اليوم بدهليزي معلما.) ثم جد ابن أبي عامر في مكروهه،
وأدق حسابه، وأمر بإحضاره إلى مجلس الوزراء بقصر الخلافة، ليناظر بين
أيديهم فيما ادعى عليه من الخيانة؛ فتردد إلى هذا المجلس مرارا، وأقبل
آخر مرة إليه، وواثق الضاغط يزعجه، والبهر والسن قد هاضاه، وقصرا خطاه،
والموكل به يحذوه ويستحثه؛ فيقول له جعفر: (يا بني رفقا؛ فستدرك ما
تريد! ويا ليت أن الموت بيع، فأغلى الله سومه!) حتى انتهى به إلى
المجلس، والوزراء جلوس، فجلس في آخر المجلس دون أن
(2/268)
يسلم؛ فأسرع إليه الوزير محمد بن حفص بن
جابر، وكان من حزب ابن أبي عامر؛ فعنفه، واستجهله، وأنكر عليه ترك
التسليم، وجعفر معرض عنه. فلما أكثر عليه، قال له جعفر: (يا هذا جهلت
المبرة، فاستجهلت عالمها وكفرت. اليد، فقصرت بمسديها.) فاضطرب ابن جابر
من قوله، وقال: (هذا هو البهت بعينه! وأي أياديك الغراء التي مننت بها؟
أيد كذا أم يد كذا) ؛ وعدد أشياء؛ فأنكرها عليه الحاجب، وقال: (هذا لا
يعرف؛ والمعروف دفعي عن يمناك القطع، وشفاعتي فيها إلى الماضي - رحمه
الله - حين استخونك في مال كذا!) فأصر ابن جابر على الجحد؛ فقال جعفر:
(أنشد الله من له علم بما ذكرت أن يتكلم!) فقال الوزير ابن عياش: (قد
كان بعض منا ذكرته؛ وغير هذا أولى بك، يا أبا الحسن!) فقال: (أحرجني
الرجل، فقلت.) ثم أقبل الوزير محمد بن جهور على محمد بن جابر، فقال له:
(أوما علمت أنه من كان في سخط السلطان، تحامى السلام على أولىائه لأنهم
إن ردوا عليه، أسخطوا السلطان لتأمينهم من أخافه؛ وإن تركوا الرد،
أسخطوا الله، وتركوا ما أمر به؟ فكان الإمساك أولى! ومثل هذا لا يخفي
على أبي الحسن.) فخجل ابن جابر وأسفر وجه جعفر وتهلل. ثم أخذ القوم في
مناظرته على المال؛ فقال: (قد والله استنفدت ما عندي من الطارف
والتالد، ولا مطمع فيَّ في درهم، ولو قطعت إرباً إربا!) فصرف إلى محبسه
في مطبق الزهراء؛ فكان آخر العهد به.
وله، وقد أودعه المنصور المطبق، والشجون تسرع إليه وتسبق، معزيا لنفسه،
ومجتزيا في يومه بإسعاد أمسه؛ فقال (متقارب) :
أجَارِي الزمانَ على حالِهِ ... مُجَاراةَ نَفسِي لأنفْاسِهَا
إذَا نفَسٌ صاعِدٌ شَفَّهَا ... توَارَتْ به بَينَ جُرسِها
وإنْ عَكَفَتْ نَكْبَةٌ لِلزَّمانِ ... عَكَفتُ بِصَدرِي على رَأسِهَا
ومن بديع ما حفظ له في نكبته، قوله - رحمه الله - يستريح من كربته
(طويل) :
(2/269)
صَبَرْتُ عَلَى الأيَّامِ لَمْا تَوَلتِ
... وألزَمتُ نَفْسِي صَبرَهَا فَاستَمَرَّتِ
فَيَا عَجَباً للقَلبِ كيفَ اصطِبَارُهُ ... وللنفِسِ بَعدَ العِزِ
كيفَ استَذَلتِ
وما النَّفسُ إلاَّ حَيثُ يَجعَلُها الفَتَى ... فَإن طُمِعَت تَافَت
وإلاَّ تَسَلَّتِ
وَكَانَت عَلَى الأيَّامِ نَفسِي عَزيزَةً ... فَلمَّا رَأتْ صَبرِي
عَلَى الذُّلِّ ذَلَّتِ
وَقُلتُ لَهَا نَفسِ مُوتي كَرِيمةً ... فَقدْ كَانَتِ الدُّنيَا لَنَا
ثُمَّ وَلتِ
وكان من هلاكه في محبسه هذا على يقين؛ وذلك أنه لما أمر به إلى المطبق،
ودع أهله وولده ووداع الفرقة، وقال: (هذا وقت إجابة الدعوة! وأنا
أرتقبه منذ أربعين ينة!) فسئل عما ذكره؛ فقال: (رفع على فلان أيام
الناصر وسعى به إليه؛ فأشرفت على أعماله؛ فآل أمره إلى ضربه وتغير
نعمته وإطالة حبسه. فبينا أنا نائم ذات ليلة، إذ أتاني آت؛ فقال لي:
(أطلق فلانا؛ فقد أجيبت دعوته فيك؛ ولهذا أمر أنت لا بد لاقيه!)
فانتبهت مذعورا، وأحضرت الرجل، وسألته إحلالي؛ فامتنع عليَّ؛ فاستحلفته
على إعلامي بما خصني به من الدعاء؛ فقال: (نعم! دعوت الله أن يميتك في
أضيق السجون كما أعمرتنيه حقبة.) فعلمت أنه قد وجبت دعوته، وندمت حيث
لا ينفع الندم، وأطلقت الرجل؛ ولم أزل أرتقب ذلك في السجن.) فما لبث في
السجن إلا أياما، وأخرج ميتا، وأسلم إلى أهله. فقيل: قتل خنقا في البيت
المعروف ببيت البراغيت في المطبق؛ وقيل: دست إليه شربة مسمومة.
قال محمد بن إسماعيل، كاتب المنصور: (سرت مع محمد بن مسلمة إلى الزهراء
لتسليم جسد جعفر إلى أهله وولده، والحضور على إنزاله في ملحده؛ فنظرت
إليه ولا أثر فيه، وليس عليه شئ يواريه غير كساء خلق لبعض البوابين،
ستره به. فدعا له محمد بن مسلمة بغاسل؛ فغسله (والله!) على فرد باب
اقتلع من ناحية الدار، وأنا أعتبر من تصرف الأقدار؛ وخرجنا بنعشه إلى
قبره، وما معنا إلا إمام المسجد المستدعي للصلاة؛ وما تجاسر أحد على
النظر إليه.) ثم قال: (وإن لي في شأنه لخبرا ما سمع بمثله طالب وعظ،
ولا وقع في مسمع
(2/270)
ولا تصور للحظ؛ وقفت له في طريقه، أيام
نهبه وأمره، أروم أن أناوله قصة كانت به مختصة؛ فوالله ما تمكنت من
الدنو منه بحيلة، لكثافة موكبه، وكثرة من حفَّ به؛ وأخذ الناس السكك
عليه وأفواه الطرق، ينظرون إليه ويسلمون عليه، حتى ناولت قصتي بعض
كتابه الذين نصبهم جناحي موكبه لأخذ القصص؛ فانصرفت، وفي نفسي ما فيها
من الشرق بحاله والغصص، فلم تطل المدة حتى غضب عليه المنصور، واعتقله،
ونقله معه في الغزوات ذليلا وحمله. واتفق أن نزلت بجليقية في بعض
المنازل إلى جانب خبائه في ليلة نهى فيها المنصور عن وقد النيران ليخفي
على العدو أثره، ولا ينكشف له خبره؛ فرأيت - والله - ابنه عثمان يسفه
دقيقا قد خلطه نماء يقيم به أوده، ويمسك به رمقه بضعف حال، وعدم زاد
ومال، وسمعته يقول (طويل) :
تأمْلتُ صَرْفَ الحادِثاتِ فلَم أزَلْ ... أراها تُوافي عِندَ مَقَدِها
الحُرَّا
فلله أيَّام مَضَتْ لسيلها ... فإنِّيَ لا أنسَى لها أبداً ذِكرَا
تجَافَت بها عَنَّا الحوادِثُ بُرهَةً ... وأبدَتْ لنا منها الطلاقةَ
والبشْرَا
ليَالِيَ لَم يَدرِ الزَّمانُ مَكانَنَا ... وَلا نَظَرتْ منَّا
حَوَادِثُهُ الشَّزرَا
وَمَا هّذِهِ الأيَّامُ إلا سَحَائبٌ ... عَلَى كُلِّ أرضٍ تُمطرُ
الخَيْرَ والشَّرَّا
وكان مما أعين به ابن أبي عامر على جعفر بن عثمان المصحفي ميل حلية
الوزراء إليه وإيثارهم له عليه، وسعيهم في ترقيه، وأخذهم بالعصيبة فيه؛
فإنهم، وإن لم تكن لهم حمية أعرابية، فقد كانت سلفية سلطانية، يقتفى
القوم فيها آثار سلفهم، ويمنعون بها ابتذال شرفهم؛ غادروها سيرة،
وخلفوها عادة أثيرة، تشاح الخلف فيها تشاحَّ أهل الديانة، وصانوا بها
مراتبهم أعظم صيانة؛ ورأوا أن أحدا من التوابع لا يدرك فيها غاية، ولا
يلحق لها راية. فلما أحظى المستنصر بالله جعفر بن عثمان واصطنعه، ووضعه
من أثرته حيث وضعه، حسدوه وذموه، وخصوه بالمطالبة وعموه. وكان أسرع هذه
الطائفة إلى مهاودة المنصور عليه، والانحراف
(2/271)
عنه إليه، آل أبي عبدي وآل شهيد، وآل جهور،
وآل فطيس؛ وكانوا في الوقت أزمة الملك وقوام الخدمة، ومصابيح الأمة؛
فأحظوا محمد بن أبي عامر مشايعه، ولأسباب المصحفي منازعه، وشادوا
بناءه، وقادوا إلى عنصره سناءه، حتى بلغ الأمل، والتحف بمناه واشتمل.
وعند التيام هذه الأمور لابن أبي عامر، استكان جعفر بن عثمان للحادثة،
وأيقن بالنكبة، وزوال المرتبة، وكف عن اعتراض محمد وشركته في التدبير،
وانقبض الناس عن الرواح إليه والتبكير. وانثالوا على ابن أبي عامر؛ فخف
موكبه، وغار من سماء العزة كوكبه، وتوالى عليه سعي ابن أبي عامر وطلبه
حتى محاه، وهتك ظلاله وأضحاه. ومن قوله (كامل) :
لا تَأمَنَنَّ مِن الزّمانِ تَقَلُّباً ... إنَّ الزَّمانَ بأهِلهِ
يَتَقَلَّبُ
ولَقَد أراني واللبوثُ تَهَابُني ... وأخافني من بعد ذاك الثَّعَلبُ
حَسبُ الكَرِيمِ مَهَانةً ومَذَلّةً ... ألاَّ يزال إلى لَئِيمٍ
يَطْلُبُ
وكان قوله هذه الأبيات لمّا سبق إلى مجلس الوزارة للمحاسبة، وواثق
الضاغط يزعجه ويستحثه، وهو يقول له: (رفقا بي، يا واثق، فستدرك ما تحبه
وتشتهيه، وترى ما كنت ترتجيه!) وقد تقدم ذلك.
استبداد ابن أبي عامر بالملك وتغلبه عليه
لما قتل ابن أبي عامر جعفر بن عثمان، انفرد بشأنه، ورمى الغرض الأبعد
من ضبط السلطان والحجر عليه والاستبداد بالمملكة وأمور الدولة؛ جرى في
ذلك مجرى المتغلبين على سلطان بني العباس بالمشرق من أمراء الديلم، حتى
أورث ذلك عقبه. فأخذ ابن أبي عامر في تغيير سير الخلفاء المروانية في
استجرار
(2/272)
الأمر لنفسه وسبك الدولة على قالبه؛ فأداه
ذلك إلى مضادة ما كانوا عليه؛ فعوض باللبن غلظة، وبالسكون حركة،
وبالأناة بطشه، بالموادعة محاربي؛ فجعل أهل الرأي من مصادر أموره
ومواردها يقصون بخروجها عن حد الصواب وقانون التدبير لها؛ وربما فاوض
جلتهم الرأي، فيسيرون عليه من الوجه الذي عرفوه، والقانون الذي حمدوه؛
فيعدل عن ذلك إلى المذهب الذي شرعه، والطريق الذي نهجه، والخطر الذي
لايجهل اقتحامه؛ فيبهت القوم من حسن ما يقع له.
قال الفتح بن خاقان: (فرد نابه على من تقدمه، وصرفه واستخدمه؛ فإنه كان
أمضاهم سنانا، وأذكاهم جنانا، وأتمهم جلالا، وأعظمهم استقلالا. قال
أمره إلى ما آل، وأوهم العقول بذلك المآل؛ فإنه كان آية الله في إتقان
سعده، وقربه من الملك بعد بعده؛ بهر برفعه القدر، واستظهر بالأناة وسعة
الصدر، وتحرك فلاح نجم الهدو، وتملك فما حقق بأرضه لواء عدو، بعد خمول
كابد منه غصصا وشرفا، وتعذر مأمول صارد فيه سهرا وأرقا، حتى أنجز له
الموعود، وفرَّ نحسه أمام تلك السعود. فقام بتدبير الخلافة، وأقعد من
كان له فيها أنافة؛ وساس الأمور أحسن سياسة، وداس الخطوب بأخشن دياسة؛
فانتظمت له الممالك، واتضحت به المسالك؛ وانتشر الأمن في كل طريق،
واستشعر اليمن كل فريق. وملك الأندلس بضعا وعشرين حجة، لم تدحض
لسعادتها حجة، ولم تزخر لمكروه بها لجة؛ لبست فيها البهاء والإشراق،
وتنفست عن مثل أنفاس العراق. وكانت أيامه أحمد أيام، وسهام بأسه أسد
سهام. غزا شاتيا وصائفا، ومضى فيما يروم زاجرا وعائفا؛ فأوغل في تلك
الشعاب، وتغلغل حتى راع ليث الغاب، ومشى تحت ألويته صيد القبائل،
واستجرت في ظلها بيض الظبى وسمر الذوابل؛ وهو يقتضي الأرواح بغير سوم،
وينقضي الصفاح
(2/273)
على كل روم، ويتلف من لا ينساق للخلافة
وينقاد، ويختطف منهم كل كوكب وقاد، حتى استبد وانفرد، وأنس إليه من
الطاعة ما نفر وشرد. وانتظمت له الأندلس بالعدوة، واجتمعت له اجتماع
قريش في دار الندوة؛ ومع هذا، فلم يخلع اسم الحجابة، ولم يدع السمع
لخليفته والإجابة، ظاهر يخالفه الباطن، واسم تنافره مواقع الحكم
والمواطن. وأذل قبائل الأندلس بإجاوة البربر، وأخمل بهم أولائك الأعلام
الأكابر؛ فإنه قاومهم بأضدادهم، واستكثر من أعدادهم، حتى تغلبوا على
الجمهور، وسلبوا منهم الظهور، ووثبوا عليهم الوثوب المشهور، الذي أعاد
أكثر الأندلس قفرا يبابا، وملأها وحشا وذئابا، وأعراها من الأمان، برهة
من الزمان. وعلى هذه الهيئة، فهو وابنه المظفر كانا آخر سعد الأندلس،
وحد السرور بها والتأنس. وغزواته فيها شائعة الإثر، رائعة كالسيف ذي
الأثر، وحسبه وافر، ونسبه معافر. ولذا قال ينخر (طويل) :
رَمَيْتُ بَنفِسي هَوْلَ كُلِّ كَريهةٍ ... وخَاطَرت والحرُّ الكَريمُ
مُخاطرُ
وما صاحِبي إلاَّ جَنَانٌ مُشَيعٌ ... وأسمرُ خَطِيٌّ وأبيض بَاتِرُ
وإني لَزَجَّاءُ الجيوشِ إلى الوَغَى ... أسُودٌ تُلاقِيهَا أسُودٌ
خَوَادِرُ
لَسُدتّث بنفسي أهل كُلِّ سِيَادةٍ ... وكَاثَرتُ حَتَّى لَم أجِدْ
مَنْ أُكاثِرُ
وما شِدتُّ بُنياناً ولاكِنْ زِيَادةً ... على مَا بَنَى عَبدُ
المَلِيك وعامِرُ
رَفَعنا المَعَالِي بالعَوَالِي حَديثةً ... وأورَثَناها في القَديِمِ
مَعَافِرُ
وكانت أمُّه تميمية؛ فحاز الشرف من طرفيه؛ والتحف بمطرفيه. قال القسطلي
(طويل) :
تَلاَقت عَليه مِنْ تَميمٍ ويَعرُبِ ... شُموسٌ تلألا في العُلَى
وَبُدُورُ
مِنَ الحِميريينَ الذِينَ أكُفُّهُم ... سحائبُ تهمِي بالنَّدى
وبُحُورُ
وتصرف قبل ولايته في شتى الولايات، وجاء من التحدث بمنتهى أمره
(2/274)
بابات، حتى صح زجره، وجاء بصبحه فجره، يؤثر
عنه في ذلك أخبار، فيها عجب واعتبار. وكان أديبا محسنا. وعالما متفننا.
فمن ذلك قوله، يمني نفسه بملك مصر والحجاز، ويستدعي صدور تلك الأعجاز
(خفيف) :
مضنضعَ العَينَ أن تذوقَ المَنَاما ... حُبُّها أن تَرَى الصَّفَا
والمَقامَا
لي دُيونٌ بالشرق عِندَ أُناسٍ ... قَد أحلُّوا بالمشعرينِ الحَرَاما
إنْ قَضَوْها نالوا الأَمانِي وإلاَّ ... جعلوا دُونَها رقاباً وهَمَا
عَنْ قَرِيبٍ تَرَى خُيولَ هِشامٍ ... يَبْلُغُ النِيلَ خَطْوها
والشامَا
وفي سنة 368، أمر المنصور بن أبي عامر ببناء قصره المعروف بالزاهرة،
وذلك عندما استفحل أمره، واتقد جمره، وظهر استبداده، وكثر حساده، وخاف
على نفسه في الدخول إلى قصر السلطان، وخشي أن يقع في أشطان. فتوثق
لنفسه، وكشف له ما ستر عنه في أمسه، من الاعتزاز عليه؛ ورفع الاستناد
إليه؛ وسما إلى ما سمت إليه الملوك من اختراع قصر ينزل فيه، ويحله
بأهله وذويه، ويضم إليه رياسته، ويتمم به تدبيره وسياسته، ويجمع فيه
فتيانه وغلمانه. فارتاد موضع مدينته المعروفة بالزاهرة، الموصوفة
بالقصور الباهرة، وأقامها بطرف البلد على نهر قرطبة الأعظم، ونسق فيها
كل اقتدار معجز ونظم. وشرع في بنائها في هذه السنة المؤرخة، وحشد إليها
الصناع والفعلة، وجلب إليها الآلات الجليلة، وسربلها بهاء يرد العيون
كليلة؛ وتوسع في اختطافها، وتولع بانتشارها في البسيطة وانبساطها،
وبالغ في رفع أسوارها، وثابر على تسوية أنجادها وأغوارها. فاتسعت هذه
المدينة في المدَّة القريبة، وصار من الأنباء الغريبة. وبنى معظمها في
عامين.
وفي سنة 370، انتقل المنصور بن أبي عامر إليها، ونزلها بخاصته وعامته؛
فتبوأها وشحنها بجميع أسلحته، وأمواله وأمتعته، وأتخذ فيها الدواوين
والأعمال،
(2/275)
وعمل داخلها الأهراء، وأطلق بساحتها
الأرجاء. ثم أقطع ما حولها لوزرائه وكتابه، وقواده وحجابه؛ فاقتنوا
بأكنافها كبار الدور، وجليلات القصور، واتخذوا خلالها المستغلات
المفيدة، والمنازه المشيدة. وقامت بها الأسواق، وكثرت فيها الأرفاق؛
وتنافس الناس في النزول بأكنافها، والحلول بأطرافها، للدنو من صاحب
الدولة، وتناهى الغلو في البناء حوله، حتى اتصلت أرباضها بأرباض قرطبة،
وكثرت بحوزتها العمارة، واستقرت في بحبوحتها الإمارة. وأفرد الخليفة من
كل شئ إلا من الاسم الخلافي، وصير ذلك هو الرسم العافي. ورتب فيها جلوس
وزرائه، ورؤوس أمرائه، وندب إليها كل ذي خطة بخطته، ونصب على بابها
كرسي شرطته، وأجلس عليه واليا على رسم كرسي الخليفة، وفي صفة تلك
الرتبة المنيفة. وكتب إلى الأقطار بالأندلس والعدوة بأن تحمل إلى
مدينته تلك الأموال الجبايات، ويقصدها أصحاب الولايات، وينتابها طلاب
الحوائج، وحذر أن يعوج عنها إلى باب الخليفة عائج. فاقتضيت لديها
اللبانات والأوطار، وانحشد الناس إليها من جميع الأقطار. وهم لمحمد بن
أبي عامر ما أراد، وانتظم بلبة أمانيه المراد؛ وعطل قصر الخليفة من
جميعه، وصبره بمعزل من سامعه ومطيعه، وسد باب قصره عليه، وجدَّ في خبر
ألا يصل إليه، وجعل فيه ثقة من صنائعه يضبط القصر، ويبسط فيه النهى
والأمر، ويشرف منه على كل داخل، ويمنع ما يحذره من الدواخل؛ ورتب عليه
الحراس والبوابين، والسمار والمنتابين، يلازمون حراسه من فيه ليلا
ونهارا، ويراقبون حركاتهم سرا وجهارا؛ وقد حجر على الخليفة كل تدبير،
ومنعه من تملك قبيل أو دبير. وأقام الخليفة هشام مهجور الفناء، محجور
الغناء، خفي الذكر، عليل الفكر، مسدود الباب، محجوب الشخص عن الأحباب،
لا يراه خاص ولا عام، ولا يخاف له بأس ولا يرجى منه إنعام، ولا يعهد
منه إلاَّ الاسم السلطاني في السكة والدعوة، وقد نسخه وليس أبهته، وطمس
بهجته. وأغنى الناس عنه، وأزال أطماعهم منه، وصيرهم لا يعرفونه، وأمرهم
أنهم لا يذكرونه.
(2/276)
واشتد ملك محمد بن أبي عامر منذ نزل قصر
الزاهرة، وتوسع مع الأيام في تشييد أبنيتها، حتى كملت أحسن كمال، وجاءت
في نهاية الجمال، نقاوة بناء، وسعة فناء، واعتدال هواء رق أديمه،
وصقالة جو اعتل نسيمه، ونضرة بستان، وبجة للنفوس فيها افتنان. وفيها
يقول صاعد اللغوي (بسيط) :
يَا أيُّها المَلِكُ المَنصُورُ من يَمَنٍ ... والمُبتَنِى نَسَباً
غَيرَ الذي انتَسَبَا
بِغَزوةٍ في قُلوبِ الشِركِ رلتِعةٍ ... بَينَ المنايا تُنَاغى
السُّمرَ والقُضُبَا
أما تَرَى العَينَ تَجرِي فَوقَ مَرمَرِها ... زَهوا فَتُجرِي على
أحسائها الطَّرَبَا
أجرَيتَها فَطَمَا الزاهِي بجِريتَها ... كَمَا طَمَوتَ فَسُدتَّ
العُجمَ والعَرَبَا
تَخَالُ فيه جُنودَ الماءِ رافِلةً ... مُستَلئماتٍ تُربكَ الدَرعَ
والبَلَبا
تَحُفُّها من فُنُونِ الأيكِ زَاهِرةٌ ... قد أورقت فِضِّةً إذ
أثَمَرَت ذَهَبَا
بَديِعةُ المُلكِ ما يَنفَكُّ ناظِرُها ... يَتلُو على السَّمْعِ مِنها
آيةً عَجَبَا
لا يُحسِنُ الدَّهرُ أن يُنشِي لَهَا مَثَلاً ... وَلضوْ تَعَنَّتَ
فيها نَفسَهُ طَلَبَا
ودخل عليه عمرو بن أبي الحباب في بعض قصوره من المنية المعروفة
بالعامرية، والروض قد تفتحت أنواره، وتوشحت بجاده وأغواره، وتصرف فيها
الدهر متواضعا، ووقف بها السعد خاضعا؛ فقال (بسيط) :
لا يَومَ كاليومِ في أيَّامِك الأوَلِ ... بالعامِريَّةِ ذَاتِ الماء
والطّلَل
هَوَاؤُها في جميعِ الدّهْرِ مُعتضدِلٌ ... طِيباً وإن حَلٌ فَصْلٌ
غَيرُ مُعتَدِلِ
ما إن يُبالِي الذي يَحتَلُّ ساحَتَها ... بالسَعدِ ألاَّ تَحُلَّ
الشَّمْسُ بالَحمَلِ
وما زالت هذه المدينة رائقة، والسعود بلَّبتها متناسقة، تراوحها الفتوح
وتغاديها، وتجلب إليها منكسرة أعاديها، ولا تزحف منها راية إلا إلى
فتح، ولا يصدر عنها تدبير إلاَّ إلى نجح، إلى أن حان يومها العصيب،
وقبض لها من المكروه أوفر نصيب. فتولت فقيدة، وخلت من بهجتها كلَّ
عقيدة.
(2/277)
وأشاع ابن أبي عامر أنَّ السلطان فوَّض
إليه النظر في أمر الملك، وتخلَّى له عنه لعبادة ربه. وانبث ذلك في
الرعية حتى اطمأنوا إليه، مع قوة ضبطه وسرعة بطشه. فانتظم له ذلك كلُّه
وأكثر منه، بعد أن حصن قصر الخليفة في هذا الوقت بالسور الذي أدار
حوله، وعمل الخندق المطيف به من جانبيه، والأبواب الوثيقة بالأحراس
والسمار الذين وضعهم بأنقابه. ومنع الخليفة من الظهور، ووكل بأبوابه من
يمنع وصول خبر إليه أو أمر من الأمور إلا عن إذنه؛ فإن عثر على أحد من
الناس في تجاوز هذا الحد، عاجله ونكل به. والأخبار عنه في هذا المعنى
واسعة جدا، غير أن الاختصار في ذلك أن ابن أبي عامر بلغ من ذلك مبلغا
لم يبلغه قط متغلب على خليفة، لأنه احتوى على الملك كله، وصير الخليفة
قبضة في يده، حتى أنه لم يكن ينفذ له أمر في داره ولا حرمه إلا عن إذنه
وعلمه. وجعل متولي قصره من قبله من يثق به، وصيره عينا على السلطان، لا
يخفى عليه شئ من حركاته وأخباره.
ولما ترقى ابن أبي عامر إلى هذا القدر، عمل في مكروه القائد الكبير
غالب الناصري صهره، والتوطئة لأسباب هدمه. فرأى أن يبني عليه ضدا له من
أصحاب السيوف والحرابة المشهورين، لأن غالبا كان يستطيل على ابن أبي
عامر بأسباب الفروسية، ويباينه بمعاني الشجاعة، ويعلوه من هذه الجهة
التي لم يتقدم لابن أبي عامر بها معرفة. فلم يجد لذلك مثل جعفر بن عليّ
بن حمدون المعروف بابن الأندلسي شدة بأس، وربط جاش، ونباهة ذكر، وجلالة
قدر. فجد في استجلابه، وهو مقيم بالعدوة. وآل عليّ ممن أطاع الخليفة
هشاما من زناتة؛ فبعث ابن أبي عامر إليه، وتواترت كتبه إليه؛ فأسلم
العمل إلى أخيه يحيى، وعبر إلى الأندلس بجيشه؛ فنزل قصر العقاب، بعد أن
أعد له ما يصلح فيه. فاستوزره أبي عامر؛ فعظم شأنه، وأحله محل الأخ في
الثقة، وقدمه على الكفاة؛ فوجد عنده ما أحبه، وفوق ما قدره؛ فاعتدل
بالبرابرة أمره، وقوى
(2/278)
ظهره، وكانت هذه القطعة من البربر نحو
الستمائة. وما زال بعد ذلك يستدعيهم ويتضمن الإحسان إليهم، والتوسعة
عليهم، إلى أن أسرعوا إلى الأندلس، وانثالوا على ابن أبي عامر، وما
زالوا يتلاحقون، وفرسانهم يتواترون، يجئ الرجل منهم بلباس الخلق على
الأعجف، فيبدل له بلباس الخز الطرازي وغيره، ويركب الجواد العتيق،
ويسكن قصرا لم يتصور له في منامه مثله، حتى صاروا أكثر أجناد الأندلس.
ولم تزل طائفة البربر خاصة ابن أبي عامر وبطانته، وهم أظهر الجند نعمة،
وأعلاهم منزلة.
ولما علم غالب بإدناء جعفر، علم الغرض فيه؛ ففسد ما بينهما، ووقع
بينهما معارك وفتن كان الظفر فيها لابن أبي عامر على غالب. ومات، وهو
يقاتله مع النصارى؛ وكان قد استجلبهم إليه في خبر طويل. فوجد غالب
مقتولا في مجال الخيل، وابن أبي عامر كاد أن ينهزم له. فقيل إن قربوس
سرجه قتله. وقيل غير ذلك. فكان ذلك أكبر سعد ابن أبي عامر؛ ولم يبق له
بعد ذلك من يخاف منه.
ولما فرغ ابن أبي عامر من غالب، دبر الحيلة في حتف جعفر بن علي، الذي
أقامه أكبر معين في أمر غالب؛ فواكأ على قتله أبا الأحوص معن بن عبد
العزيز النجيبي فارس العرب، في طائفة من أصحابه الأندلسيين؛ فقتلوه
غيلة؛ ثم قتل ابن أبي عامر بعد ذلك أبا الأحوص، وانفرد وحده.
وفي سنة 371، تسمى ابن أبي عامر بالمنصور، ودعى له على المنابر به،
استيفاء لرسوم الملوك؛ فكانت الكتب تنفذ عنه: من الحاجب المنصور أبي
عامر محمد بن أبي عامر إلأى فلان. وأخذ الوزراء بتقبيل يده؛ ثم تابعهم
على ذلك وجوه بني أمية؛ فكان من يدخل عليه من الوزراء وغيرهم يقبلون
يده، ويمولونه عند كلامه ومخاطبته. فانقاد لذلك كبيرهم وصغيرهم؛ وإذا
بدا لأبصارهم طفل من ولده، قاموا إليه، فاستبقوا ليده تقبيلا، وعموا
أطرافه لثما. فساوى محمد بن أبي عامر الخليفة في هذه المراتب، وشاركه
في تلك المذاهب. ولم يجعل فرقا بينه
(2/279)
وبينه إلا في الاسم وحده في تصدير الكتب
عنه، حتى تنامت حاله في الجلالة، وبلغ غاية العز والقدرة.
قال حيان بن خلف: وقرأت في بعض الكتب أن محمد بن أبي عامر، لمَّا حجب
هشاما عن الناس واستبد بالأمر دونه، ظهرت فيهم بقرطبة أقوال معرضة
أفشوا بينهم فيها أبياتا فاحشة. فمن ذلك ما قيل على لسان هشام الخليفة
في شكواه لهم (وافر) :
ألَيسَ مِنَ العَجَائبِ أنَّ ... يَرَى ما قَلَّ مُمتَنِعاً عَلَيهِ
وتُمَلَك باسمِهِ الدُّنيا جَميعا ... وما من ذاك شئٌ في يَدَيِه
ومما قيل في تقديم هشام، وهو صغير لم يبلغ الحلم، وفي قاضيه ابن السليم
(سريع) :
اقتَربَ الوَعدُ وحَانَ الهَلاكْ ... وَكُلُ ما تَكرَهُهُ قَدْ أتاكْ
خَلِيفةٌ يَحضُرُ في مَكتَبٍ ... وأمُّه حُبلَى وَقَاضٍ ينَاكْ
يريد بذلك شغف أم هشام بابن أبي عامر، لأنها كانت تتهم به، وهي أوصلته
إلى حيث وصل من الحال التي لم يتمكن لأحد قبله ولا بعده مثلها؛ فسلب
هشاما ملكه وجنده وماله.
وفي سنة 372، قتل جعفر بن عليّ بن حمدون المعروف بابن الأندلسي؛ وذلك
أن المنصور عزم - بزعمه - على إكرام جعفر المذكور ليلة الأحد لثلاث
خلون من شعبان من السنة، مكرا منه، وحيلة لقتله؛ فانتخبه ساقي المجلس
بكأس؛ فقال له ابن أبي عامر: (اسقها أعز الناس عليّ) . فأمسك الساقي
حيرة لكثرة من ضم المجلس من العلية؛ فزجره ابن أبي عامر وقال: (ناولها
الوزير أبا أحمد! عليك لهنة الله!) فقام جعفر؛ فتناولها على قدمه،
واستخفه الطَّرب حتى قام يرقص؛ فلم يبق أحد بالمجلس إلا فعل كنعله،
وأميلت إليه الكؤوس
(2/280)
حتى ثقل وانصرف في جوف الليل مع بعض
غلمانه؛ فخرج إليه معن وأصحابه؛ فلم يكن فيه امتناع لما كان عليه من
السُّكر؛ فأخذته السيوف حتى برد، وحز رأسه ويده اليمنى، وحملا إلى ابن
أبي عامر سرا. فأظهر ابن أبي عامر الحزن عليه.
وفي سنة 375، جهز المنصور جيشا كثيفا، وبعثه إلى العدوة؛ فحاصر حسن ابن
قنون الشريف الحسني. وكان حاول الخروج من الدعوة المروانية؛ واجتمع
إليه خلق من أهل الغرب، وظهر أمره؛ فوصله الجيش العرمرم؛ فلم يجد ملجأ
إلا الاستسلام للأمان. فأمنه قائد الجيش، وحمله إلى قرطبة مرقبا. فلم
يمض ابن أبي عامر أمانه، وأمر بقتله ليلا في الطريق بغيا وتعديا، لأن
أمان قائده أمانه؛ فقال من شاهد قتله أن هبت عليهم ريح عاصف في تلك
الليلة التي قتل فيها غدرا ذلك الشريف، صبتهم على وجوههم، وسلبتهم
أثوابهم، واحتملت رداء حسن المقتول؛ فلم يجدوه، وأظلم عليهم الأفق حتى
خافوا على أنفسهم.
وفيها تفرق بنو إدريس في البلاد، وملك ابن أبي عامر الغرب، وأخرج منه
من كان بقي به من الأدارسة. فقيل في ذلك (كامل) :
فِيمَا أرَى عَجَبُ لمَن يَعَجَبُ ... جَلتْ مُصِيبَتُنَا وَضَاقَ
المَذهَبُ
إنّي لأُكذِبُ مُقلَتَيَّ فيما أرَى ... حتَّى أقولَ غَلِطتُّ فيما
أحسَبُ
أيكونُ حيَّا من أُميَّة وَاِحدٌ ... وَبَسُوسُ صَخْمَ المُلكِ هذَا
الأحدَبُ
تَمِشي عَسَاكِرُهُم حَوَالَيْ هَودَجٍ ... أعوادُهُ فِيهِنَّ قِردٌ
أَشهَبُ
أبَي أُمَيَّة ابن أقمار الدُّجى ... مِنكم وما لوجوهها تَتَغَيَّبُ
ثم قام بعد ذلك في الغرب على ابن أبي عامر زيري بن عطية المغراوي، ونكث
طاعته بعد الحب الشديد والولاء الأكيد؛ وطعن على ابن أبي عامر تغلبه
(2/281)
على هشام وسلبه ملكه. فأنفذ له ابن أبي
عامر واضحا الفتى في جيش كثيف؛ فقاومه بالغرب؛ ودارت بينهم حروب عظيمة.
ثم أردفه ابن أبي عامر تولده عبد الملك، وهبط ابن أبي عامر إلى الجزيرة
الخضراء، يمدهم بالقواد والأجناد، وسار عبد الملك بن أبي عامر من طنجة
إلى زيري بن عطية؛ ودارت بينهم حرب، لم يسمع بمثلها قط. ثم انهزم زيري
ومن معه، ونجا مثخنا بالجراح. وملك ابن أبي عامر بلاد الغرب إلى سنة
397.
(وكان أول من ملك سبتة من بني أمية وملك منها الغرب) عبد الرحمن
الناصر؛ وسبب ذلك أنه وجه إليها أسطولا. فلما حلت بسبتة، أعلن أهلها
بدعوته، وبادروا إلى طاعته، يوم الجمعة صدر ربيع الأول من سنة 319. ثم
تتابعت البلاد بالطاعة؛ ثم تكاثر ورود وفودها عليه وعلى الحكم ابنه؛ ثم
التاثت طاعتها على ابن أبي عامر؛ فوجه واضحا فتاه؛ فسكن في جبل أبي
حبيب عاما في الأخبية؛ ثم وجه بابنه عبد الملك إليها؛ فالتقى بزيري
وهزمه، وغدره ابن عمه الخير بن مقاتل؛ فطعنه برمح في قفاه وهرب. ومات
بعد ذلك زيري من الجرح بعدما لقي جموع صنهاجة، أصحاب إفريقية، وهزمهم.
وانصرف عبد الملك بعدما استقامت له الطاعة بالغرب؛ فوجد أباه في غزاته
بلاد البشاكشة منصرفا عنها. والتقى به بسرقسطة؛ وهي التي تسمى بغزاة
البياض، سنة 379.
وفي سنة 379، قتل المنصور بن أبي عامر عبد الرحمن بن مطرف صاحب سرقسطة
والثغر الأعلى؛ وسبب ذلك أنه، لما فكر عبد الرحمن في شأن من أتلفه ابن
أبي عامر من كبار رجال الدولة، علم أنه لم يبق غيره، وخشي أن يلحقه
بالجماعة. فسول له القدر المتاح التدبير على محمد؛ وقرب عليه مأخذه
ولده عبد الله بن المنصور.
(2/282)
ذكر تدبير عبد الرحمن بن مُطرف
مع عبد الله بن المنصور في القيام عليه
وذلك أن عبد الله بن محمد بن أبي عامر كان مقيما بسرقسطة عند عبد
الرحمن، متغير النفس على أبيه لإحظائه عبد الملك أخيه. وكان عبد الله
يرى أنه أشجع وأفهم وأرجل وأفرس من أخيه عبد الملك، وأن أباه عين
الظالم له في النسوية بعبد الملك؛ فكيف في تقديمه عليه. فكان في قلبه
على أبيه سعير نار، أذكاها عبد الرحمن بن مطرف وأضرمها. فتوطئا على
الوثوب بالمنصور في أول فرصة، على أن يقسما ملك الأندلس: فالحضرة لعبد
الله، والثغر لعبد الرحمن. وشرعا في إحكام سيل ذلك والتماس وجهه؛
وساعدهما عليه جماعة من وجوه أهل قرطبة من الجند والخدمة وغيرهم، فيهم
الوزير عبد الله بن عبد العزيز المرواني صاحب طليطلة. فانبثت أراجيف
شنيعة تحقق المنصور صحتها، ولم يشك فيها؛ فاستدعى ابنه عبد الله من
سرقسطة، واستأنف له كثيرا من التقديم والمبرة، خديعة ومغالطة؛ وصرف
المرواني عن طليطلة صرفا جميلا؛ ثم صرفه عن الوزارة بعد مديدة، وألزمه
داره. ثم خرج ابن أبي عامر غازيا إلى قشتيلة؛ فتوافت إليه أمداد
الثغور، فيهم عبد الرحمن بن مطرف ورجال سرقسطة؛ فلما صاروا بوادي
الحجارة، أطبق أهل الثغور على الشكوى بعبد الرحمن، بدسيسة من ابن أبي
عامر لهم في ذلك، حيلة منه؛ وذكروا أنه يحتبس أرزاقهم، ويحتجن لنفسه.
فصرفه المنصور عن سرقسطة منسلخ صفر من سنة 79 المذكورة، وقلدها مكانه
(ابن أخيه عبد الرحمن بن يحيى) الملقب بسماجة، إطماعا لقومه النجيبيين
في المحافظة. ولبث عبد الرحمن في العسكر مترددا إلى أن قبض عليه يوم
الثلاثاء لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول. وسخط عليه المنصور، وأمر
بحسابه؛ ثم قتل بعد ذلك بالزاهرة بين يدي المنصور.
(2/283)
واستدعى المنصور ابنه عبد الله إلى عسكره
خوف أن يحدث حدثا بأنفته؛ فوافي العسكر؛ فرفق به أبوه، وأمل استصلاحه،
وقد تباعد ذلك عليه لسقم سريرته وشدة حقده. ونازل المنصور أثناء ذلك
مدينة شنت أشتبين؛ فلما اشتغل المسلمون بالقتال، فرَّ عبد الله بن
المنصور من العسكر في ستة نفر من غلمانه؛ فلحق بعدو الله غرسية بن
قرذلند صاحب آلبة؛ فقبله وأجازه على أبيه؛ فتحرك المنصور لغزو غرسية
ومطالبته بإسلام ابنه إليه، وأقسم له أنه لا يقلع عنه حتى يمكنه من
ولده. وأصر غرسية على الامتناع من ذلك؛ فهزم المنصور غرسية، وفض جمعه،
واشتق بلد آلبة، وافتتح حصن وخشمة عبوة، أسكنه المسلمين؛ فضرع غرسية في
مسالمته على ما شار من شروطه في عبد الله وغيره؛ فعقد له المنصور على
ذلك؛ فوكل غرسية بعبد الله جماعة من العلوج؛ وحمل عبد الله وأصحابه على
البغال. وخرج سعد الخادم يستقبل عبد الله؛ فدنا من سعد وهو على بغل
فاره، مرتفع الحلية، عليه ثوب عجيب الصنعة، وهو متطلق، قوي الرجاء في
الإقالة. فقبل سعد يده، وأنسه، وهون عليه الخطب؛ ثم تخلف عنه بقرب
الوادي الجوفي، ووكل به من قتله؛ فحفَّ به الموكلون وأعلموه بموته.
ذكر مقتل عبد الله المنصور
ولما أعلموه بأن حلَّ به ما كان يحذره، أمروه بالنزول؛ فلم يمتنع لهم
وترجل، ومشى إلى السيف متطلقا؛ فظهرت منه عند الموت صرامة، عجب لها من
شاهده؛ وتقدم إليه ابن خفيف الشرطيُّ؛ فضرب عنقه صبرا عند غروب الشمس
من يوم الأربعاء لأربع عشرة ليلة خلت من جمادى الآخرة سنة 380. وأنفذ
المنصور رأس ابنه إلى الخليفة مع كتاب الفتح؛ ودفن جسده في الموضع الذي
قتل فيه. وكان سنه يوم قتل ثلاثا وعشرين سنة، وذلك في غزوته الخامسة
والأربعين. ثم إنَّ ابن أبي عامر استثقل سعدا وابن خفيف، ولم يزل
(2/284)
حاقدا عليهما، حتى قتلهما بعد الامتحان.
وأزداد ابن أبي عامر بما فعله بابنه هيبة، وملئت قلوب الناس منه ذعرا.
ومما حكى في أمر عبد الله المقتول، قال الوزير أبو عمر بن عبد العزيز:
لما قتل المنصور ابنه، ارتاع الناس لذلك، وأوحشهم فعله؛ فتكلموا في ذلك
كثيرا، ورجموا فيه الظنون، ولم يتوجه لأحد فيه سبب يقضي بقتله. ثم تحرك
المنصور إثر ذلك في بعض غزواته، فلما احتل بقلعة رباح؛ قال المخبر:
دعينا إلى الطعام، فقال من حضر على لسان واحد: أيد الله المنصور! لقد
صرت من قتله في غاية يعدم الصبر في مثلها. فما سبب ذلك؟) قال: (لا أعلم
أن أسلو عنه. فابتعتها، متجاوز النهاية في ثمنها، وجعلتها عند قريبة
لي. وكنت كل يوم أخطر عليها أتعرف استبراءها؛ فلما أحست بحبي لها،
وكلفي بها، توخت رضائي، وذكرت لي أنها قد استبرأت، وهي كاذبة في ذلك،
تريد بذلك موافقة مساري واستعجال مرادي؛ فدخلت بها، وهي لم تستبرأ؛
فكنت شاكا فيه.) وكان مولده سنة 358.
حكاية زطرزون البربري مع المنصور. - وجرت للمنصور غبَّ ذلك مع رجل من
أعيان البربر اسمه زطرزون بن نزار البرزالي نادرة؛ وذلك أنه قال يوما،
وقد بسطه في بعض المجالس: (يا مولاي لم قتلت عبد الله ابنك؟) ووصف
شجاعته وخصاله؛ فقال له المنصور: (لا يسوك ذلك! فلو لم أفعل لقتلني. ما
كان من ولدي! وبهذا اتهمت أمه وكانت أمه سوء. وقد قالوا إنَّ الأرحام
الردية تفسد الذرية) . فقال الجاهل زطرزون: (كذا يا مولاي؟ فحرام أمه
وجرم أبيه) ؛ فخجل المنصور وقال: (شقينا بهذا الملعون في حياته وبعد
موته!) وعلم ما كان عليه زطرزون من الجهالة؛ فأعرض عنه. وصارت كلمته
مأثورة في الناس مدَّة طويلة.
(2/285)
وكان المنصور آية من آيات فاطرة دهاء ومكرا
وسياسة: عدا بالمصاحفة على الصقالبة حتى قتلهم وأذلهم؛ ثم عدا بغالب
الناصري على المصاحفة حتى قتلهم وأبادهم؛ ثم عدا بجعفر بن الأندلسي على
غالب حتى قتله؛ ثم عدا بنفسه على جعفر وقتله؛ ثن أنفرد بنفسه وصار
ينادي صروف الدهر: (هل من مبارز؟) فلما لم يجده، حمل الدهر على حكمه؛
فانقاد له وساعده؛ فاستقام أمره، منفردا بمملكة لا سلف له فيها. ومن
أوضح الدلائل على سعده أنه لم ينكب قط في حرب شهدها، وما توجهت قط عليه
هزيمة، وما انصرف عن موطن إلا قاهرا غالبا، على كثرة ما زاول من
الحروب، ومارس من الأعداء، وواجه من الأمم. وإنها لخاصة ما أحسب شركه
فيها أحد من الملوك الإسلامية. ومن أعظم ما أعين به، مع قوة سعده،
وتمكن جده، سعة جوده وكثرة بذله؛ فقد كان في ذلك أعجوبة الزمان؛ وأول
ما اتكأ على أرائك الملك وارتفق، وانتشر عليه لواء السعد وخفق؛ حط
صاحبه المصحفي، وأثار له كامن حقده الخفي، حتى أصاره للهموم وخفق، وفي
غايات السجون حبيسا؛ فكتب إليه يستعطفه (بسيط) :
هَبنِي أسأتُ فأينً العَفوُ والكَرَمُ ... إذ قادَني نَحوَكَ الإذعانُ
والنَّدَمُ
يا خَيرَ مَن مُدَّت الأيدِي إليه أمَا ... تَرقِي لشيخٍ نَعَاهُ
عِندَكَ القَلَمُ
بالغتَ في السَّخطِ فأصفح صَفحَ مُقتَدِرٍ ... إنَّ المُلوكَ إذا مَا
استُرحمُوا رَحِموا
فما زاده ذلك إلا حنقا وحقدا، ولا أفادته الأبيات إلا تضرما ووقدا.
فراجعه بما أيأسه، وأراه مرمسه، وأطبق عليه محبسه، وضيق تروحه من
المحنة وتنفسه) :
الآنَ يَا جَاهِلاً زلَّت بِك القَدَمُ ... تَبغِي التَّكَرُّمَ لَمَّا
فَاتَكَ الكَرَمُ
أغرَيتَ بي مَلِكاً لَولا تَشَبُّتُهُ ... مَا جَارَ عِندَه نُطقٌ ولا
كَلِمُ
فايأس مِنَ العَيش إذ قَد صِرتَ في طَبَقٍ ... إنَّ المُلُوك إذَا مَا
اسُتنقموا نَقَموا
نَفسِي إذا سَخِطَت لَيست بِراضِيةٍ ... وَلو تَشَفَّعَ فِيكَ العُربُ
والعَجَمُ
(2/286)
وكان من أخبار المنصور الداخلة في أبواب
البر والقربة، بنيان المسجد الجامع والزيادة فيه سنة 377. وذلك أنَّه،
لما زاد الناس بقرطبة، وانجلب إليها قبائل البربر من العدوة وإفريقية،
وتناهى حالها في الجلالة، ضاقت الأرباض وغيرها، وضاق المسجد الجامع عن
حمل الناس؛ فشرع المنضور في الزيادة بشرقيه حيث يتمكن الزيادة لاتصال
الجانب الغربي بقصر الخلافة. فبدأ ابن أبي عامر هذه الزيادة على بلاطات
تمتد طولا من أول المسجد إلى آخره؛ وقصد ابن أبي عامر في هذه الزيادة
المبالغة في الإتقان والوثاقة دون الزخرفة، ولم يقصر مع هذا عن سائر
الزيادات جودة ما عدا زيادة الحكم. أول ما عمله ابن أبي عامر تطييب
نفوس أرباب الدور والمستغلات الذين اشتريت منهم للهدم لهذه الزيادة،
بإنصافهم من الثمن أو بمعاوضة. وصنع في صحته الجبَّ العظيم قدره،
الواسع فناؤه. وابن أبي عامر رتب إحراق الشمع في المسجد الجامع زيادة
للزيت؛ فتطابق بذلك النزران. وكان عدد سواري الجامع، الحاملة لسمائه
واللاصقة بمبانيه وقبابه ومناره، ما بين كبيرة وصغيرة، ألف سارية
وأربعمائة سارية وسبع عشرة سارية. وعدد ثريات الجامع، ما بين كبيرة
وصغيرة، مائتان وثمانون ثرية؛ وعدد الكؤوس سبعة آلاف كأس وأربعمائة كأس
وخمس وعشرون كأسا. وزنة مشاكي الرصاص للكؤوس عشرة أرباع أو نحوها؛ وزنة
ما يحتاج إليه من الكتَّان للفتائل في كل شهر رمضان ثلاثة أرباع
القنطار؛ وجميع ما يحتاج إليه الجامع من الزيت في السنة خمسمائة ربع أو
نحوها؛ يصرف منه في رمضان خاصة نحو نصف العدد. ومما كان يختص برمضان
المعظم ثلاثة قناطير من المشع، وثلاثة أرباع القنطار من الكتان المقصر)
، لإقامة الشمع المذكور؛ والكبيرة من الشمع توقد بجانب الإمام يكون
وزنها من خمسين إلى ستين رطلا، يحترق بعضها بطول الشهر، ويعم الحرق
لجميعها ليلة الختمة. وكان يخدم الجامع المذكور بقرطبة في دولة ابن أبي
عامر ويتصرف فيه من أئمة، ومقرئين،
(2/287)
وأمناء، ومؤذنين، وسدنة، وموقدين وغيرهم من
المتصرفين مائة وتسعة وخمسون شخصا. ويوقد من البخور ليلة الختمة أربع
أواق من العنبر الأشهب وثماني أواق من العود الرَّطب.
ومن ذلك: بنيان قنطرة على نهر قرطبة الأعظم. ابتدأ المنصور بنيانها سنة
387، وفرغ منها في النصف من سنة 89؛ وانتهت النفقة عليها إلى مائة ألف
دينار وأربعين ألف دينار؛ فعظمت بها المنفعة، وصارت صدرا في مناقبه
الجليلة. وكانت قطعة أرض لشيخ من العامة، ولم يكن للقنطرة عدول عنها؛
فأمر المنصور أمناءه بإرضائه فيها؛ فحضر الشيخ عندهم، وأخذ حذره منهم؛
فساوموه بالقطعة وعرفوه وجه الحاجة إليها، وأن المنصور لا يريد إلا
إنصافه فيها. فرماهم الشيخ بالغرض الأقصى عنده فيما ظنه ألا تخرج عنه
بأقل من عشرة دنانير ذهبا، كانت عنده أقصى الأمنية، وشرطها صحاحا.
فاغتنم الأمناء غفلته، ونقدوه الثمن، وأشهدوا عليه؛ ثم أخبروا المنصور
بخبره؛ فضحك من جهالته، وأنف من غبنه، وأمر أن يعطى عشرة أمثال ما سأل،
وتدفع له صحاحا كما قال. فقبض الشيخ مائة دينار ذهبا؛ فكاد أن يخرج عن
عقله وأن يجن عند قبضها من الفرح؛ وجاء محتفلا في شكر المنصور. وصارت
قصته خبرا سائرا.
ومن ذلك أيضا: بنيان قنطرة على نهر إستجة، وهو نهر شنيل؛ فتجشم لها
أعظم مؤنة. وسهل الطرق الوعرة والشعاب الصعبة.
ومن ذلك: إنه خط بيده مصحفا كان يحمله معه في أسفاره، يدرس فيه ويتبرك
به. ومن قوة رجائه، إنه اعتنى بجمع ما علق بوجهه من الغبار في غزواته
ومواطن جهاده؛ فكان الخدم يأخذونه عنه بالمناديل في كل منزل من منازله،
حتى اجتمع له منه صرة ضخمة عهد بتصييره في حنوطه عند موته؛ وكان يحمله
حيث ما سار مع أكفانه، توقعا لحلول منيته؛ وقد كان اتخذ الأكفان من
أطيب مكسبه من الضيعة الموروثة عن أبيه، وغزل بناته. وكان يسأل الله
تعالى أن يتوفاه في طريق الجهاد؛ فكان كذلك.
(2/288)
وكان المنصور متسما بصحة باطنه، واعترافه
بذنبه، وخوفه من ربه، وكثرة جهاده. وإذا ذُكر الله ذَكر، وإذا خوف من
عقابه ازدجر، ولم يزل متنزها عن كل ما يفتتن به الملوك سوى الخمر؛ لكنه
أقلع عنها قبل موته بسنتين. وكان عدل المنصور في الخاصة والعامة،
واطراحه المهاودة، وبسطه الحق على الأقرب فالأقرب من خاصته وحاشيته،
أمرا مضروب به المثل.
ومن عدله أنه وقف عليه رجل من العامة يوما بمجلسه؛ فناداه: (يا ناصر
الحق! إن لي مظلمة عند ذلك الوصيف الذي على رأسك!) وأشار إلى الفتى
صاحب الدرقة، وكان له فضل محل عند ابن أبي عامر؛ ثم قال: (وقد دعوته
إلى الحاكم؛ فلم يأت!) فقال المنصور: (أو عبد الرحمن بن فطيس بهذه
المنزلة من العجز والمهانة، وكنا نظنه أمضى من ذلك؟ اذكر مظلمتك، يا
هذا!) فذكر الرجل معاملة كانت جارية بينهما قطعها من غير نصف؛ فقال
المنصور: (ما أعظم بليتنا بهذه الحاشية!) ثم نظر إلى الصقلبي، وهو قد
ذهل عقله؛ فقال: (ادفع الدرقة إلى فلان، وانزل صاغرا، وساو خصمك في
مقامه حتى يرفعك الحق أو يضعك!) ففعل، ومثل بين يديه؛ ثم قال لصاحب
شرطته الخاص به: (خذ بيد هذا الظالم الفاسق، وقدمه مع خصمه إلى صاحب
المظالم لينفذ عليه حكمه بأغلظ ما يوجبه الحق من سجن أو غيره!) ففعل
ذلك، وعاد الرجل إليه شاكرا؛ فقال له المنصور: (قد انتصفت أنت؛ فاذهب
لسبيلك. وبقي انتصافي أنا ممن تهاون بمنزلتي.) فتناول الصقلبي بأنواع
من المذلة، وأبعده عن الخدمة.
ومن ذلك، قصة فتاه الكبير المعروف بالميورقى مع التاجر المغربي؛ فإنهما
تنازعا في خصومة توجهت فيها اليمين على الفتى المذكور، وهو يومئذ أكبر
خدم المنصور، وإليه أمر داره وحرمه؛ فدافع الحاكم، وظن أن جاهه يمنع من
إحلافه. فصرخ التاجر بالمنصور في طريقه إلى الجامع متظلما من الفتى؛
(2/289)
فوكل به في الوقت من حمله إلى الحاكم؛
فأنصفه منه، وسخط عليه المنصور، وقبض نعمته منه ونفاه.
ومن ذلك، قصة محمد، فصاد المنصور وخادمه وأمينه على نفسه؛ فإن المنصور
احتاجه يوما إلى القصد، وكان كثير التعهد له؛ فأنفذ رسوله إلى محمد؛
فألفاه الرسول محبوسا في سجن القاضي محمد بن زرب، لحيف ظهر منه على
امرأته، قدر أن سبيله من الخدمة يحميه من العقوبة. فلما عاد الرسول إلى
المنصور بقصته، أمر بإخراجه من السجن مع رقيب من رقباء السجن، يلزمه
إلى أن يفرغ من عمله، ثم يعيده إلى محبسه. ففعل ذلك على ما رسمه، وذهب
القاصد إلى شكوى ما ناله؛ فقطع عليه المنصور، وقال له: (يا محمد، إنه
القاضي وهو في عدله، ولو أخذني الحق، ما أطقت الامتناع منه! عد إلى
محبسك أو اعترف بالحق؛ فهو الذي يطلقك.) فانكسر الحاجم، وزال عنه ريح
العناية. وبلغت قصته للقاضي؛ فصالحه مع زوجه، وزاد القاضي شدة في
أحكامه.
ومن دهائه، قال ابن حيان: كان جالسا في بعض الليالي، وكانت ليلة شديدة
البرد والريح والمطر؛ فدعا بأحد الفرسان، وقال له (انهض إلى فجّ
طليارش، واقم فيه؛ فأوَّل خاطر يخطر عليك، سقه إليَّ.) قال: فنهض
الفارس، وبقى في الفج في البرد والريح والمطر واقفا على فرسه، إذ وقف
عليه قرب الفجر شيخ هرم على حمار له، ومعه آلة الحطب؛ فقال له الفارس:
(إلى أين تذهب، يا شيخ؟) فقال: (وراء حطب.) فقال الفارس في نفسه: (هذا
شيخ مسكين نهض إلى الجبل يسوق حطبا. فما عسى أن يريد المنصور منه؟)
قال: فتركته. فسار عنّي قليلا؛ ثم فكرت في قول المنصور، وخفت سطوته؛
فنهضت إلى الشيخ، وقت له: (ارجع إلى مولانا المنصور.) فقال: وما عسى أن
يريد المنصور من شيخ مثلي؟ سألتك بالله أن تتركني لطلب معيشتي!) فقال
له الفارس: (لا أفعل) ثم قدم به على المنصور، ومثله بين يديه، وهو
جالس، لم ينم ليلته تلك. فقال المنصور للصقالبة: (فتشوه!) ففتش؛
(2/290)
فلم يوجد عنده شئ؛ فقال: (فتشوا برذعة
حماره!) فوجدوا داخلها كتابا من نصارى كانوا قد نزعوا إلى المنصور،
يحزمون عنده إلى أصحابهم من النصارى ليقبلوا ويضربوا في إحدى النواحي
المعلومة. فلما انبلج الصبح، أمر بإخراج أولئك النصارى إلى باب
الزاهرة؛ فضربت أعناقهم، وضربت رقبة الشيخ معهم.
ومن ذلك قصة الجوهري التاجر؛ وذلك أن رجلا جوهريا من تجار المشرق قصد
المنصور من مدينة عدن بجوهر كثير، وأحجار نفيسة؛ فأخذ المنصور من ذلك
ما استحسنه، ودفع إلى الجوهري التاجر صرته، وكانت قطعة يمانية. فأخذ
التاجر في انصرافه طريق الرملة على شط النهر؛ فلما توسطها، واليوم
قائظ، وعرقه منصبٌّ، دعته نفسه إلى التبرد في النهر؛ فوضع ثيابه وتلك
الصرة على الشط؛ فمرت حداة، فاختطفت الصرَّة، تجسبها لحما، وصاعدت في
الأفق بها ذاهبة؛ فقطعت الأفق الذي تنظر إليه عين التاجر؛ فقامت
قيامته، وعلم أنه لا يقدر أن يستدفع ذلك بعدوى ولا بحيلة؛ فأسر الحزن
في نفسه، ولحقته لأجل ذلك على اضطرب فيها. وحضر الدفع إلى التجار؛ فحضر
الرجل لذلك بنفسه؛ فاستبان له ما به من المهانة والكأبة، وفقد ما كان
عنده من النشاط وشدة العارضة. فسأله المنصور عن شأنه؛ فأعلمه بقصته؛
فقال له: (هلا أتيت إلينا بحدثان وقوع الأمر؟ فكنا نستظهر على الحيلة؛
فهل هديت إلى الناحية التي أخذ الطائر إليها؟) قال: (مرَّ مشرفا على
يمت هذا الجنان الذي يلي قصرك!) يعني الرملة؛ فدعا المنصور شرطيه الخاص
به؛ فقال له: (جئني بمشيخة أهل الرملة الساعة) ؛ فمضى، وجاء بهم سريعا؛
فأمرهم بالبحث عمن غير حال الإقلاق منهم سريعا، وانتقل عن الإضافة دون
تدريج؛ فتناظروا في ذلك، ثم قالوا: (يا مولانا! ما نعلم إلا لأجل من
ضعفائنا كان يعمل هو وأولاده بأيديهم، ويتناولون السقىَ بأقدامهم عجزا
عن شراء دابة؛ فابتاع
(2/291)
اليوم دابة، واكتسى هو وولده كسوة متوسطة.
فأمر بإحضاره من الغد، وأمر التاجر بالغدو إلى الباب؛ فحضر الرجل بعينه
بين يدي المنصور؛ فاستدناه، والتاجر حاضر، وقال له: (سبب ضاع منا وسقط
إليك: ما فعلت به؟) فقال: (هو ذا يا مولاي؟) وضرب بيده إلى حجزة
سراويله، فأخرج الصرة بعينها؛ فصاح التاجر طربا، وكاد يطير فرحا؛ فقال
له المنصور: (صف لي حديثها.) قال: (نعم! بينا أنا أعمل في جناني تحت
نخلة، إذ سقطت أمامي؛ فأخذتها، وراقني منظرها؛ فقلت إن الطائر اختلسها
من قصرك لقرب الجوار؛ فاحترزت بها، ودعتني فاقتي إلى أخذ عشرة مثاقيل
عيونا كانت معها مصرورة، وقلت: أقل ما يكون في كرم مولاي أن يسمح لي
بها.) فأعجب المنصور ما كان منه، وقال التاجر: (خُذ صرَّتك، وانظرها،
واصدقني عن عددها.) ففعل وقال: (وحق رأسك، يا مولاي، ما ضاع منها شيء
سوى الدنانير التي ذكرها، وقد وهبتها له.) فقال له المنصور: (نحن أولى
بذلك منك، ولا ننقص عليك فرحتك. ولولا جمعه بين الإفرار والإنكار) ،
لكان ثوابه موفورا عليه.) ثم أمر للتاجر بعشرة دنانير عوضا من دنانيره،
وللجنان بعشرة دنانير ثوابا لتأنيه عن إفساد ما وقع بيده، وقال: (لو
بدأنا بالاعتراف قبل البحث، لأوسعناه جزاء!) قال: فأخذ التاجر في
الثناء على المنصور، وقد عاوده نشاطه، وقال: (والله لأبثن في الأقطار
عظيم ملكيك، ولأبينن أنك تملك طير عملك كما تملك انسها؛ فلا تعتصم منك
ولا تؤذي جارك!) فضجك المنصور، وقال: (اقصد في قوله! يغفر الله لك!)
فعجب الناس من تلطف المنصور في أمره، وحيلته في تفريج كربته.
وكان المنصور أشد الناس في التغير على من علم عنده شئ من الفلسفة
والجدل في الاعتقاد، والتكلم في شئ من قضايا النجوم وأدلتها،
والاستخفاف بشيء من أمور الشريعة. وأحرق ما كان في خزائن الحكم من كتب
الدَّهريَّة
(2/292)
والفلاسفة، بمحضر كبار العلماء، منهم
الأصيلي وابن ذكوان والزبيدي وغيرهم؛ واستولي على حرق جميعها بيده.
وممن أوقع به المنصور في مثل هذه المعاني المبتكرة: محمد بن أبي جمعة؛
بلغه عنه قول من الأرجاف في القطع على انقراض دولته؛ فقطع لسانه، ثم
قتله وصلبه؛ فخرست ألسن جميعهم لذلك؛ وكذلك أيضا عبد العزيز بن الخطيب
الشاعر، وكان أرفع أهل هذه الطبقة منزلة؛ وكان مقدما في أصحاب المنصور،
حتى فسد ضميره عنده، وبقى مدة يلتمس غرَّة منه، حتى قال في بعض أبيات
من شعر أفرط فيها (كامل) :
مَا شِئْتَ لاَ مَا شَاءتِ الأقْدَارُ ... فَاحُكُمْ فَأنتَ الواحِدُ
القَهارُ
فَكَأنَّمَا أنتَ النَّبيُّ مُحَمدٌ ... وَكَأنَّمَا أنصَارُكَ
الأنصَارُ
فأمر بضربه خمسمائة سوط، ونودي عليه باستخفافه؛ ثم حبسه، ونفاه بعد عن
الأندلس.
وفي سنة 381، رشح المنصور ولده عبد الملك للولاية، وقدم أخاه عبد
الرحمن للوزارة. وترك اسم الحجابة، واقتصر على التسمي بالمنصور؛ وأن
يكتب: (من المنصور أبي عامر - وفقه الله - إلى فلان.) بحذف اسم
الحجابة، ويذكر اسم ولده عبد الملك بخطة الحجابة والقيادة العليا وسائر
خطط المنصور، سلم فيها لابنه عبد الملك، وصحت له الحجابة من يومئذ.
وبعد هذا، واستبدل المنصور جند الأندلس بالبربر؛ فأقام لنفسه جندا
اختصهم باستصناعه، واسترقهم بإحسانه، نسخ بهم في المدة القريبة جند
الخليفة الحكم - رحمه الله -، كما فعله في سائر أموره.
واتفق في ذلك الوقت أن تحرك بلقين بن زيري الصنهاجي إلى المغرب في
جموعه، وأوقع بقبائل زناتة طالبا ثأر أبيه زيري؛ فهربوا أمامه كلهم إلى
سبتة، وضاقت عليهم أرض العدوة؛ فقيل لابن أبي عامر: (قد أمكنك الله
(2/293)
من اصطناع فرسان زناتة، واعتقاد المنة
عليهم. فأرسل إليهم، يأتوك سراعا؛ فيجد إحسانك إليهم مكانا!) فعمل ابن
أبي عامر على ذلك، وأنفذ كتبه إلى قبائل العدوة يستدعيهم، ويتضمن
الإحسان إليهم، والتوسعة عليهم، حتى كثروا بالأندلس؛ فحسنت أحوالهم،
وكثرت أموالهم، وما زالوا خاصته وبطانته إلى أن هلك، وانقرضت الدولة
العامرية. وقد صار بالأندلس منهم القبائل بأسرها، وكاثروهم حتى نفذ
قضاء الله عليهم بأيديهم.
وفي سنة 386، عهد المنصور أن يخص بتسويده من بين سائر الناس كافة في
المخاطبات، وأن يرفع ذلك عن سائر أهل الدولة مع الاقتصاد في مراتب
الأدعية؛ فنفذ الكتب بذلك، وجرى العمل عليه بقية حياته؛ وخوطب هذا
الوقت بالملك الكريم؛ واستبلغ في تكريمه وتعظيمه.
غزوة شنت ياقوب على سبيل الاختصار
وعند تناهي المنصور ابن أبي عامر في هذا الوقت على الاقتدار، والنصر
على الملوك الطاغية - دمرها الله -، سما إلى مدينة شنت ياقوب قاصية
غلبسية، وأعظم مشاهد النصارى الكائنة ببلاد الأندلس وما يتصل بها من
الأرض الكبيرة. وكانت كنيستها عندهم بمنزلة الكعبة عندنا؛ فيها يحلفون
وإليها يحجون من أقصى بلاد رومة وما وراءها؛ ويزعمون أن القبر المزور
فيها قبر ياقوب الحواري أحد الاثني عشر - رحمهم الله -؛ وكان أخصهم
بعيسى - عليه السلام -، وهم يسمونه أخاه للزومه إياه. وقد زعم جماعة
منهم أنه ابن يوسف النجار. وشنت ياقوب هي مدفن ياقوب؛ فهم يسمونه أخا
الرب - تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا -. وياقوب بلسانهم يعقوب؛ وكان
أسقفا ببيت المقدس؛ فجعل يستقري الأرضين داعيا لمن فيها؛ فجاز إلى
الأندلس حتى انتهى إلى هذه القاصية؛ ثم عاد
(2/294)
إلى أرض الشأم؛ فقتل بها، وله مائة وعشرون
سنة شمسية. فاحتمل أصحابه رمته، فدفنوها بهذه الكنيسة التي كانت أقصى
أثره. ولم يطمع أحد من ملوك الإسلام في قصدها، ولا الوصول إليها،
لصعوبة مدخلها وخشونة مكانها، وبعد شقتها.
فخرج المنصور إليها من قرطبة غازيا بالصائفة يوم السبت لست بقين من
جمادى الآخرة سنة 387، وهي غزوته الثامنة والأربعون. ودخل على مدينة
قورية. فلما وصل المنصور إلى مدينة غليسية، وافاه عدد عظيم من القوامس
المتكسطين بالطاعة، في رجالهم، وعلى أتم احتفالهم؛ فصاروا في عسكر
المسلمين، وركبوا في المغاورة سبيلهم. وقد كان المنصور تقدم في إنشاء
أسطول كبير في الموضع المعروف بقصر أبي دانس من ساحل غرب الأندلس،
وجهزه برجاله البحريين وصنوف المترجلين، وحملت الأقوات والأطعمة والعدد
والأسلحة، استظهارا على نفوذ العزيمة، إلى أن خرج بموضع برتقال على نهر
دويره؛ فدخل في النهر إلى المكان الذي عمل المنصور على العبور منه؛
فعقد هناك من هذا الأسطول جسرا بقرب الحصن الذي هناك. ووزع المنصور ما
كان فيه من الميرة على الجند؛ فتوسعوا في التزود منه إلى أرض العدو.
ثم نهض يريد شنت ياقوب؛ فقطع أرضين متباعدة الأقطار، وقطع بالعبور عدة
أنهار كبار وخلجان يمدها البحر الأخضر. ثم أفضى العسكر بعد ذلك إلى
بسائط جليلة من بلاد فلطارش ومباسيطة والدير وما يتصل بها؛ ثم أفضى إلى
جبل شامخ شديد الوعر، لا مسلك فيه، ولا طريق لم تهتد الأدلاء إلى سواه.
فقدم المنصور الفعلة بالحديد لتوسعه شعابه وتسهيل مسالكه؛ فقطعه العسكر
وعبروا بعده وادي منية؛ وانبسط المسلمون بعد ذلك في بسائط عريضة وأرضين
أريضة، وانتهت مغيرتهم إلى دير قسطان وبسيط بالبنوك على البحر المحيط،
وفتحوا حصن شنت بلايه، وغنموه، وعبروا سياخه إلى جزيرة من
(2/295)
البحر المحيط لجأ إليها خلق عظيم من أهل
تلك النواحي؛ فسبوا من فيها ممن لجأ إليها. وانتهى العسكر إلى جبل
مراسية المتصل من أكثر جهاته بالبحر المحيط؛ فتخللوا أقطاره، واستخرجوا
من كان فيه، وحازوا غنائمه. ثم أجاز المسلمون بعد هذا خليج لورقى في
معبرين أرشد الأدلاء إليهما؛ ثم نهر ايله؛ ثم أفضوا إلى بسائط واسعة
العمارة، كثيرة الفائدة، منها بسيط أونبة وقرجيطة ودير شنت برية. ثم
انتهوا إلى خليج ايلياء؛ وهو من مشاهد ياقوب أيضا صاحب القبر، تلو مشهد
قبره عند النصارى في الفضل، يقصد نساكهم له من قاصي بلادهم ومن بلاد
القبط والنوبة وغيرها. فغادره المسلمون قارعا. وكان النزول بعده على
مدينة شنت ياقوب البائسة، وذلك يوم الأربعاء لليلتين خلتا من شعبان؛
فوجدها المسلمون خالية من أهلها؛ فحاز المسلمون غنائمها، وهدموا
مصانعها وأسوارها وكنيستها، وعفوا آثارها. ووكل المنصور بقبر ياقوب من
يحفظه ويدفع الأذى عنه؛ وكانت مصانعها بديعة محكمة؛ فغودرت هشيما، كأن
لم تغن بالأمس، وذلك يوم الاثنين أو الثلاثاء بعده. وانتسفت بعوثه بعد
ذلك سائر البسائط، وانتهت إلى جزيرة شنت مانكش منقطع هذا الصقع على
البحر المحيط، وهي غاية لم يبلغها قبلهم مسلم، ولا وطئها لغير أهلها
قدم. فلم يكن بعدها للخيل مجال، ولا وراءها انتقال.
وانكفأ المنصور عن باب شنت ياقوب، وقد بلغ غاية لم يبلغها مسلم قبله.
فجعل في طريقه القصد على عمل برمند بن أرذون ليستقر به عائثا ومفسدا،
حتى وقع في عمل القوامس المعاهدين الذين في عسكره؛ فأمر بالكف عنها،
ومرَّ مجتازا حتى خرج إلى حصن مليقه من افتتاحه. فأجاز هناك القوامس
بجملتهم على أقدارهم، وكساهم، وكسا رجالهم، وصرفهم إلى بلادهم. وكتب
بالفتح من مليفه. وكان مبلغ من أكساه ابن أبي عامر في غزاته هذه من
ملوك الروم ولمن حسن
(2/296)
عناؤه من المسلمين ألفين ومائتين وخمسا
وثمانين شقة من صنوف الخز الطرازي، وإحدى وعشرين كساء من صوف البحر،
وكسائين عنبريين، وأحد عشر سفلاطونا، وخمس عشرة مريشات، وسبعة أنماط
ديباج، وثوبي ديباج رومي، وفروي فنك. ووافى جميع العسكر قافلا إلى
قرطبة سالما غانما، وعظمت النعمة والمنة على المسلمين. والحمد لله.
ولم يجد المنصور بشنت ياقوب إلا شيخا من الرَّهبان جالسا على القبر؛
فسأله عن مقامه؛ فقال: (أوانس يعقوب.) فأمر المنصور بالكف عنه.
قال الفتح من خاقان: وتمرس المنصور ببلاد الشرك أعظم تمرس، ومحا من
طواغيتها كل تعجرف وتغطرس؛ وغاردهم صرعى البقاع، وتركهم أذل من وتد
بقاع؛ ووالى على بلادهم الوقائع، وسدد إلى أكبادهم سهام الفجائع؛
وأغصَّ بالحمام أرواحهم، ونغص بتلك الآلام بكورهم ورواحهم. ومن أوضح
الأمور هنالك؛ وأفصح الأخبار في ذلك، أن أحد رسله كان كثير الانتياب،
لذلك الجناب؛ فسار في بعض مسيراته إلى غرسية صاحب البشكش، فصادفه في
يوم فصح؛ فوالى في إكرامه، وتناهى في بره واهتمامه؛ فكالبت مدته فلا
متنزه إلا مرَّ عليه متفرجا، ولا موضع إلا سار إليه معرجا؛ فحل في ذلك
أكثر الكنائس هنالك؛ فبينا هو يجول في ساحتها، ويجيل العين في مساحتها،
إذ عرضت له امرأة قديمة الأسر؛ قويمة على طول الكسر؛ فكلمته، وعرفته
بنفسها وأعلمته، وقالت له: (أيرضى المنصور أن ينسى بتنعمه بوسها،
ويتمتع بلبوس العافية وقد قصت لبوسها؟) وزعمت أن لها عدة من السنين
بتلك الكنيسة محبسة، وبكل ذلٍّ وصغار ملبسه، وناشدته الله في إنهاء
قصتها، وإبراء غصتها، واستحلفته بأغلظ الأيمان، وأخذت عليه في ذلك أوكد
مواثيق الرحمان. فلما وصل إلى المنصور، عرفه بما يجب تعريفه به
وإعلامه، وهو مصغ إليه حتى نمَّ كلامه. فلما فرغ، قال له المنصور: (هل
وقفت هنالك على أمر أنكرته، أم لم تقف على غير ما ذكرته؟) فأعلمه بقصة
المرأة، وما خرجت عنه إليه، وبالمواثيق التي
(2/297)
أخذت عليه؛ فعتبه ولامه، على أن لم يبدأ
بها كلامه؛ ثم أخذ في الجهاد من فوره، وعرض مَنْ مِن الأجناد في نجده
وغوره؛ وأصبح غازيا على سرجه، مباهيا مروان يوم مرجه، حتى وافى ابن
شانجه في جمعه؛ فأخذت مهابته ببصره وسمعه؛ فبادر بالكتاب إليه يتعرف ما
هي الجنية، ويحلف له بأعظم ألية، ما جنا ذنبا؛ ولا نبا عن مضجع الطاعة
جنبا. فعنف أرساله، وقال لهم: (كان قد عاهدني ألا يبقى بأرضه مأسورة
ولا مأسور، ولو حملته في حواصلها النسور؛ وقد بلغني بعد مقام فلانة
المسلمة) بتلك الكنيسة. ووالله! لا أنتهي عن أرضه حتى أكتسحها!) فأرسل
إليه المرأة في اثنتين معها، وأقسم له أنه ما أبصرهن، ولا سمع بهن،
وأعلمه أن الكنيسة التي أشار بعلمها، قد بالغ في هدمها، تحقيقا لقوله،
وتضرع له في الأخذ بطوله. فاستحيى منه، وصرف الجيوش عنه، وأوصل المرأة
إلى نفسه، وألحق توحشها بأنسه، وغير سوء حالها، وعاد بسواكب نعماه على
جذبها وإمحالها، وحملها إلى قومها، وكحلها بما كان شرد من نومها.
وحدث شعلة، قال: قلت للمنصور ليلة طال فيها سهره: (قد أفرط مولانا في
السهر، وبدنه يحتاج إلى أكثر من هذا النوم؛ وهو يعلم ما يحركه عدم
النوم من علة العصي!) فقال لي: (يا شعلة، إن الملك لا ينام إذا نامت
الرعية! ولو استوفيت نومي، لما كان في دور هذا البلد العظيم عين
نائمة!) وكان المنصور يزرع في كل سنة ألف ألف مدى من الشعير قصيلا
لدوابه الخاصة به؛ إذا قدم من كل غزوة من غزواته، لا يحل عن نفسه حتى
يدعو صاحب الخيل، فيعلمه ما مات منها وما عاش، وصاحب الأبنية، فيعلمه
بما وهي من أسواره ومبانيه وقصوره ودوره. وكان له دخالة في كل يوم اثني
عشر ألف رطل من اللحم، حاشى الصيد والطير والحيتان. وكان يصنع في كل
عام اثني عشر ألف ترس عامرية لقصري الزاهرة والزهراء. وابتنى المنصور
على
(2/298)
طريق المباهاة والضخامة مدينة الزاهرة) ذات
القصور، والمتنزهات المخترعة كذات الواديين، ومنية السرور، وأرطانية،
وغيرها من منشئاته البديعة.
قال ابن حزم: كنا مع المنصور، في يوم صقيل الجو، في الزورق، في النهر
الذي بين يدي الزاهرة، في نفر من وزرائه، ومنظر يفنن بأمامه وورائه،
ونحن على مؤانسة قد امتد طنبها، وارتشف بها لعس المسرة وشنبها، وانحشر
إليها لهو الدنيا ولعبها؛ وهو يستبدع ذلك النشيد، ويتطلع منها إلى
المزخرف والمشيد، ويصوب نظره ويصعده في قصوره المشرقة، ومصانعه
المونفة، وقد قيدت الألحاظ جمالا، وجددت في الحياة آمالا. فقال
المنصور: (وبها لك! يا زاهرة الحسن. لقد حسن مرءاك، وعبق ثراك، وراق
منظرك، وفاق مخبرك، وطاب تربك، وعذب شربك! فليت شعري من المربد الذي
يعدمك، يوهن ركنك ويهدمك، ويخلي ميدانك، ويضوي قصبك وأفنانك! فبؤسا له
إذ لا يروقه حسنك، فيكف عن تغييرك! ألا تسببه بهجة منظرك، فكيف عن محو
أثرك!) قال: فاستعظمنا ذلك منه، وأنكرنا ما صدر عنه، وظننا أن الراح
غلبت عليه، وخيلت ذلك عليه؛ فأفرط الكل مما في استنكار ما جاء به، وفاه
بأمره وسببه؛ فقال: (والله! كأنكم لا تعلمون ذلك! نعم! سيظهر عليها
عدونا في أٌقرب مدة، فيهدم هذا كله ويعدمه. وكأني بحجارتها في هذا
النهر!) فأخذنا به طريق التسكين والتهدين، وعجبنا لما ذكره من ذلك
النبأ المبين.
وعند فراغه من ابتناء الزاهرة، غزا غزوة أبعد فيها الإيغال، وغال فيها
من عظماء الروم من غال، وحل من أرضهم ما لم يطرق، وراع منهم ما لم يرع
قط ولم يفرق، وصدر صدرا أسمى به على كل حسناء عقيلة، وجلا به كل صفحة
للحسن صقيلة، ودخل قرطبة دخولا لم يعهد، وشهد له فيه يوم لم يشهد. وكان
ابن شهيد متخلفا عن هذه الغزوة لنقرس عداه عائده، وجفاه منتجعه ورائده.
(2/299)
وابن شهيد هذا أحد حجاب الناصر، وله على
ابن أبي عامر أياد محكمة الأواصر. وكان كثيرا ما يتحفه، ويصله ويلطفه.
فلما صدر المنصور من غزوته هذه، نسى متاحفته، وأغفل ملاطفته؛ فكتب إليه
(خفيف) :
أنا شيخٌ والشَّيْخُ يَهْوَى الصَّبَايَا ... يا لنَفْسِ تَقِيكَ
صَرْفَ الرَّزايَا
ورَسُولُ الإِلهِ أَسهَمَ في الفيء ... لِمَنْ لَمْ يُخِبَّ فِيهَا
المَطايَا
فاجْعَلْني (فُدَيْتَ!) أَنْكِحُ مَعْر ... وفَكَ وأبْعَثْ بها عِذَابَ
الثَّنايَا
هُوَ عُرْفٌ فإنْ تَحَوَّل صِهْراً ... كَانَ وَاللهِ آيَةً في
البَرايَا
فبعث إليه بعقيلة من عقائل الروم، يكنفها ثلاث جوار كأنهن نجوم سرار،
وكتب (خفيف) :
قَدْ بَعَثْنا بِهَا كَشَمْسِ النَّهارِ ... في ثَلاثٍ مِنَ المَهَى
أَبْكارِ
فاجتَهِدْ واتَّئِد فإنْكَ شَيْخٌ ... خَفِيَ اللَّيْلُ عن بَيَاضِ
النَّهارِ
صانَكَ اللهُ عن كَلاَلِكَ فيها ... فَمِنَ العارِ كَلَّةُ المِسْمَارِ
فافتضَّهُنَّ جميعا في ليلة واحدة، وكتب إليه (خفيف) :
قَدْ فَضَضْنا خِتَامَ ذَاكَ السِّوارِ واصطَبَغنا من النَّجِيعِ
الجارِي
ونَعَمْنا في ظِلِّ أَنْعِمِ لَيْلٍ ... وَلَهَوْنا بالبَدْر ثُمَّ
الدَّراري
وقَضَى الشَّيْخُ ما قَضَى بِحُسامٍ ... ذِي مَضَاءِ عَضْبِ الظُّبَى
بَتَّار
فاصْطَنِعْني فلَسْتُ أجْزِيكَ كُفراً ... واتَّخِذْني سَيْفاً عَلَى
الكُفَّارِ
قال حيَّان بن خلف: وجد بالمنصور عزم أزعجه الغزو بعض البروج المهمة؛
فأبرز أموالا عظيمة، وتقدم إلى الناس في البكور للزاهرة؛ فاستبقوا، وقد
طرقه في ليلته وجع حماه عن العمض؛ فلم يمنعه من إنفاذ عزيمته، وقعد
للنظر في شأنه بأعلى منسته المسماة باللؤلؤة، وقد صح على الكيِّ عزمه،
وكان أقرب أبواب الراحة منه؛ فأقبل بوجهه على من تحته، يفري الفريَّ في
شانهم؛ وقد ناول الطبيب في خلال ذلك رجليه؛ فحمل عليها عدة كيَّات، ثم
أمال
(2/300)
شفه نحوه، وأمكنه من يديه معا واحدة بعد
أخرى، وما زوى وجهه، ولا فقد نصحا له كلامه، بل كان يتناول أوامره من
وعده ووعيده بأنفذ من الإشفى، ويحملهم من وروده على الأوفى فالأوفى،
وإن نتن لحمه المكوي ليبتثُّ فيهم آخذا بخواشيمهم، وهم لا يعلمون.
وفي سنة 392، توفى المنصور ابن أبي عامر - رحمه الله - ليلة الاثنين
لثلاث بقين لرمضان المعظم، وهو ابن خمس وستين سنة وعشرة أشهر؛ كان له
من الولد الذكور يوم وفاته إثنان، وهما عبد الملك وعبد الرحمن الناصر؛
فكانت مدة قيامه بالدولة منذ تقلد الحجابة إلى أن توفى خمسا وعشرين
سنة، وأربعة وأربعين يوما. وترك من الأموال الناضة بالزاهرة أربعة
وخمسين بيتا. وكان عدد الفرسان المرتزقين بحضرته ونواحيها، الذين حارب
بهم الحروب، عشرة آلاف وخمسمائة، وأجناد الثغور قريبا من ذلك.
ولله دَرُّ القائل فيه (كامل) :
آثارُهُ تُنْبِيكَ عَنْ أخْبَارِهِ ... حَتَّى كأنَّكَ بالعُيُونِ
ترَاهُ
تَاللهِ ما مَلَكَ الجَزيرَةَ مِثْلُهُ ... حَقًّا وَلاَ قَادَ
الجُيُوشَ سِوَاهُ
وذُكرَ أنَّ هذين البيتين قد نقشا في رخامة على قبره - رحمه الله -.
وكانت عدَّة غزواته سبعا وخمسين غزوة، باشرها كلها بنفسه، وهو في
أكثرها يشكو على النقرس - عفا الله تعالى عنا وعنه! - كَمُلَ السفر
الأوَّلُ بحمد الله تعالى وحسن عونه وتوفيقه ويمنه. وصلى الله على
سيدنا محمد نبيّه وعبده.
(2/301)
|